كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

فثبّت زرارة بنُ أعيَنَ قولَ أبي السَّرِيِّ في العنقاء وزادنا تثبيت الكِبريت الأحمر ولا أعلمُ في الأرض قوماً يُثَبِّتون العنقاءَ على الحقيقة غيرَهم .
الكركدن قال : والذي يثبت الكركَدَّن أن داود النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الزّبور حتّى سمّاه .
وقد ذكره صاحب المنطق في كتاب الحيوان إلاّ أنه سمَّاه بالْحِمار الهنديّ وجعل له قرناً واحداً )
في وسْط جبهته وكذلك أجمع عليه أهلُ الهند كبيرُهم وصغيرُهم .
وإنما صار الشكُّ يعرِضُ في أمْرِهِ من قِبَل أنّ الأنثى منها تكون نَزُوراً وأيام حَمْلها ليست بأقل من أيام حمل الفيلة فلذلك قلَّ عددُ هذا الجنس .
وتزعم الهندُ أنّ الكركدَّن إذا كانت ببلاد لم يَرْعَ شيءٌ من الحيوان شيئاً من أكناف تلك البلاد حتى يكونَ بينه وبينها مائةُ فرسَخٍ من جميع جهات الأرض هيبةً له وخضوعاً له وهرباً منه .
وقد قالوا في ولَدها وهو في بطنها قولاً لولا أنّه ظاهرٌ على ألسِنَة الهند لكان أكثرُ النّاس بل كثيرٌ من العلماء يُدْخلونه في باب الخرافة

وذلك أنهم يزعمون أنَّ أيامَ حَمْلها إذا كادت أن تتم وإذا نضجت وسُحِبتْ وجرّت وجرى وقت الولادة فربما أخرجَ الولدُ رأسَه من ظَبْيتها فأكل من أطراف الشجر فإذا شبع أدخَلَ رأسَه حتَّى إذا تمّت أيامُه وضاق به مكانَه وأنكرتْه الرَّحِم وضعَتْه مُطِيقاً قويّاً على الكسب والحُضْر والدفع عن نفسه بل لا يَعْرِضُ له شيءٌ من الحيوان والسِّباع . (

ولد الفيل
وقد زعم صاحبُ المنطق أنّ ولد الفيل يخرُج من بطن أمّه نابت الأسنان لطول لبثه في بطنها .
وهذا جائزٌ في ولد الفيل غيرُ مُنكر لأن جماعةَ نساءٍ معروفاتِ الآباء والأبناء قد ولدْنَ أولادَهنَّ ولهم أسنانٌ نابتة كالذي روَوْا في شأن مالك بن أنس ومحمد بن عَجْلان وغيرهما أعاجيب الولادة وقد زعم ناسٌ من أهل البصرة أنَّ خاقانَ بنَ عبد اللّه بن الأهتم استوفى في بطن أُمِّه ثلاثةَ عشر شهراً وقد مُدِح بذلك وهُجِيَ وليس

هذا بالمستنكر وإنْ كنت لم أَرَ قطُّ قابلةً تُقرّ بشيء من هذا الباب وكذلك الأطبّاء وقد روَوْه كما علمت ولكنَّ العجبَ كلَّ العجَب ما ذكروا من إخراج ولَد الكركدَّنِ رأسَه واعتلافَه ثم إدخاله رأسَه بعد الشِّبع والبِطْنة ولا بدَّ أكرمك اللّه لِمَا أكَلَ مِنْ نَجْوٍ فإن كان بقي ذلك الولدُ يأكل ولا يرُوث فهذا عجبٌ وإن كان يروث في جَوْفها فهذا أعجب .
وإنما جعلناه يروثُ حيثُ سمَّوه حماراً وهذا ممّا ينبغي لنا أن نذكرَه في خصال الحمير إذا بلغْنا ذلك الباب .
ولا أُقِرُّ أنّ الولدَ يُخرج رأسه من فرج أمِّه حتى يأكل شبعه ثمَّ يدخل رأسَه من فَرْج أمِّه )
ولستُ أراه مُحالاً ولا ممتنعاً في القُدرة ولا ممتنعاً في الطبيعة وأرى جَوازَه مَوْهُوماً غيرَ مستحيل إلاّ أنَّ قلبي ليس يقبلُه وليس في كونه ظُلْمٌ ولا عَبَثٌ ولا خطأ ولا تقصير في شيء من الصفات المحمودة ولم نجد القرآنَ يُنكره ولا الإجماعَ يدفعُه واللّه هو القادر دون خَلْقه ولست أبتُّ بإنكاره وإن كان قلبي شديدَ الميل إلى ردِّه وهذا ممّا لا يعلمه النَّاسُ بالقياس ولا يعرفونه إلاّ بالعيان الظاهر والخبر المتظاهر .

عجيبة الدساس
وليس الخبر عنهُ مثلَ الخبرِ عن الدَّسَّاس التي تَلِدُ ولا تَبيض وإنما أنكر ذلك ناسٌ لأنَّ الدَّسّاس ليس بأشرف كالخُفَّاش بل هو من الممسوح كسائر الطير وكاللواتي يبضْن من ذوات الأربع من المائيَّات والأرضيَّات .
عجائب الدلفين واللُّخم والكوسج وليس الخبر عن الكركدَّن أيضاً كالخبر عن الدُّلْفين أنَّها تَلِد وعن اللُّخْم مثل ذلك وأنَّ الكَوسج يتولَّد من بين اللَّخْم وسمكةٍ أخرى وهذا كلُّه غيْرُ مستحيل إلاّ أنِّي لا أجعلُ الشيءَ الجائزَ كونُه كالشيء الذي تثبِّته الأدلَّة ويخرِجه البرهان من باب الإنكار والواجبُ في مثل هذا الوقفُ وإن كان القلبُ إلى نقض ذلك أمْيَل .
والمَيْل أيضاً يكون في طبقات وكذلك الظن قد يكون داخلاً في باب الإيجاب وربَّما قصَّر عن ذلك شيئاً .


زعم ولادة السمك وقد زعم ناسٌ من أهل العلم أنَّ السَّمَكَ كلَّه يلِد وأنهم إنما سمَّوْا ذلك الحَبَّ بيضاً على التشبيه والتمثيل لأنّه لا قشر له هناك ولا مُحّ ولا بَياضَ ولا غِرْقِئَ وأنّ السمكةَ لا تخرج أبداً إلاَّ فارغةَ الْبَطْنِ أو محشوَّة ولم نر الحَبَّ الذي بقرب مَبالها أعظمَ ولم نَرها ألقَتْ إحدى تلك الطّوامير وبقّت الأخرى وإنما غلط في ذلك ناسٌ من قِبَل ضيق السبيل والمَسْلَكَ فظنوا أنّ خرق المبال يضيق عن عِظم ذلك الجسم العظيم المجتمع من الحبِّ الصغار قالوا : فإنما تُخرج تلك الطواميرَ واحداً فواحداً وأوّلاً فأولاً .
عجائب الولادة وما ذلك بأعجبَ ولا أضيق من حياء الناقة والسَّقبُ والحائلُ يخرجان منه خروجاً سَلِساً إذا أذن اللّه بذلك وكذلك المرأة وولدها والفِيلةُ والجاموسة والرَّمَكةُ والحِجْر والأتان والشاة في )
ذلك كلِّه مثلُ السمكة .
وقالوا : لا بُدَّ للبيض من حَضْن ومتى حَضَنَت السمَكةُ بيضَها لا تلتفت إلى بيضها وفراخها .


زعم العوام في الكركدن والعوامُّ تضرِبُ المثلَ في الشدّة والقوَّة بالكركدَّن وتزعم أنه ربما شطحَ الفيل فرفعه بقرنه الواتِد في وسْط جَبْهته فلا يشعرُ بمكانه ولا يحسّ به حتّى ينقطع على الأيَّام .
وهذا القولُ بالخرافة أشبَه .
مزاعم في ضروب من الحيوان وأعجبُ من القول في ولد الكركدَّن ما يخبرنا به ناسٌ من أهل النظر والطبّ وقراءة الكتب وذلك أنّهم يزعمون أنّ النمرة لا تَضَعُ ولدَها أبداً إلاّ وهو متطوِّق بأفعى وأنها تعيش وتنهش إلاّ أنها لا تقتل ولو كنتُ أجسُر في كتبي على تكذيب العلماء وَدَرَّاسِي الكتب لبدأت بصاحب هذا الخبر .
وليس هذا عندي كزعمهم أنّ الأفعى تلد وتبيض لأنَّ تأويل ذلك أنَّ الأفعى تتعضَّلُ ببيضها فإِذا طرَّقتْ بالبيض تلوّت فحطمَتْه في جَوفها ثم ترمي بتلك القشور والخَرَاشِيّ أَوّلاً فأولاً كما لا بدّ لكلِّ ذات حملٍ أن تُلْقِيَ مشيمتَها .


ويزعُم كثيرٌ من الأعراب أنّ الكَمْأَة تتعفَّن ويتخلّق منها أفاعي فهذا الخبرُ وإن كنت لا أتسَرَّعُ إلى ردِّه فإنِّي على أصحابه أَلْيَن كَنفاً .
قرن الكركدن وأمَّا قَرْن الكَرْكَدَّن فخبَّرَني من رآه ممَّن أثِقُ بعقْله وأسكن إلى خَبَره أنَّ غِلظَ أصله وسَعة جسمه يكونُ نحواً من شِبرين وليس طولُه على قدْرِ ثِخَنه وهو محدَّد الرأس شديدُ الملاسة ملموم الأجزاء مُدْمج ذو لدونةٍ وعُلوكة في صلابة لا يمتنع عليه شيءٌ ويُجهز مِنْ عِندنا بالبصرة إلى الصين لأنَّه يقع إلينا قبلهم فإذا قطعُوه ظهرت في مقاطعه صُوَرٌ عجيبة وفيه خصال غير ذلك لها يطلب .
وقد كنا نزعُم أنّ الهواء للعقاب والماء للتمساح والغياض للأسَد حتى زعم أصحابُنا أنَّ في نيل مصر خُيولاً تأكل التماسيح أكلاً ذريعاً

وتقوى عليها قوة ظاهرة وتغتصِبُها أنفسَها فلا تمتنع عليها وعارَضوا مَن أنكر خيلَ الماء بخنازير الماء وبكلابِ الماء وبدُخّس الماء . )
إنقاذ بعض حيوان البحر للغريق ولم أجدْهم يشكُّون أن بعضَ الحيوان الذي يكون في البحر ممّا ليس بسمك وهو يعايش السمك وقد ذهبَ عنِّي اسمُه أنَّه متى أبصر غريقاً عَرض له وصار تحت بَطنه وصَدْره فلا يزال كالحامل له والمُزْجي والمعين حتى يقذفَ به إلى حزيرة أو ساحلٍ أو جبل .
وأصنافُ سمَك البحر وأجناسُ ما يعايش سمكَ البحر لا تكون في أوساط اللُّجج وفي تلك الأهوَاز العِظام مثل لجَّة سقُوطْرَا وهركند وصنجى وكذلكَ أهلُ البحرِ إذا عاينُوا نباتاً أو طيراً أيقَنُوا بقرب الأرض إلاَّ أنّ ذلك القريب قد سمِّيَ بعيداً فلذلك سَلِم ذلك الغريقُ بمعونة ذلك الحيوان .
مسالمة الأسد للببر ومعاداته للنمر فأمّا الأسَد والبَبْر فَمُتسالمان وأما الأسد والنمر فَمُتَعَاديان والظَّفَر بينهما سِجال والنَّمر وإن كان ينتصف من الأسد فإنّ قُوَّتَه على سائر

الحيوان دون قوَّته على الأسد وبدنه في ذلك أحملُ لوَقْع السِّلاح ولا يعرِضُ له البَبْر وقد أيقنا أنَّهما ليسا من بابته فلا يعرض لهما لسلامة ناحيته وقلة شرِّه وهما لا يعرضان له لما يعرفان من أنفسهما من العَجْز عنه وأمَّا البهائم الثلاث اللواتي ذكَرْناها فإنَّها فوق الأسد والنمر .
والبَبْر هنديٌّ أيضاً مثل الفيل وأمَّا الكركدَّن فلا يقوم له سبعٌ ولا بهيمة ولا يطمع فيه ولا يَرومُ ذلك منه .
مبارزة الجاموس للأسد وأمّا الجاموس والأسَد فخبَّرني محمد بن عبد الملك أنّ أمير المؤمنِين المعتصمَ باللّه أبرَزَ للأسد جاموسَيْن فغلبَاه ثم أبرز له جاموسةً ومعها ولدُها فغلبته وحمَتْ ولدَها منه وحَصّنته ثم أبرز له جاموساً وحْدَه فواثَبَه ثم أدبر عنه .
هذا وفي طبع الأسد الجرأة عليه لأنّه يعدّ الجاموسَ من طعامه والجاموسُ يعرف نفسَه بذلك فمع الأسد من الجُرأة عليه على حَسب ذلك

ومع الجاموس من الخوف على قَدْر ذلك وفي معرفة الأسد أنّ له في فمه من السِّلاح ما ليس لشيء سواه وفي معرفة الجاموس بعدم ذلك السِّلاح منه فمعه من الجرأة عليه بمقدار ما مع الجاموس من التهيُّب له فيعلم أنّه قد أعطي في كفِّه ومخالبه من السلاح ما ليس لشيء سواه ويعلم الأسَد والجاموسُ جميعاً أنّه ليس في فم )
الجاموس ويده وظِلْفه من السِّلاح قليلٌ ولا كثير فمع الأسد من الجَراءة عليه ومع الجاموس من الخوف منه على حَسب ذلك ويَعلمُ الأسدُ أنّ بدنَه يَمُوج في إهابه وأنّ له مِن القوَّة على الوثوب والضَّبْر والحُضْر والطَّلَب والهرَب ما ليس في الجاموس بل ليس ذلك عند الفَهْد في وثوبه ولا عند السِّمْع في سرعة مَرِّه ولا عند الأرنب في صَعْدَاء ولا هَبُوط ولا يبلُغُه نَقَزان الظَّبي إذا جَمَعَ جراميزهُ ولا ركْضُ الخيلِ العِتاق إذا أُجيد إضمارُها والجاموسُ يعرف كلَّ ذلك منه .
ومع الجاموس من النُّكوص عنه بقَدْر ما مع الأسد من الإقدام عليه ويعلم أنّه ليس له إلاّ قرنُه وأنّ قرنَه ليس في حدّة قُرون بقَر الوحْش فضلاً عن حِدّة أطراف مخالب الأسَد وأنيابه

وأن قرنه مُبْتَذَلٌ لا يصان عن شيءٍ ومخالب الأسد في أكمام وصِوان .
وإذا قوي الجاموسُ مع هذه الأسباب المجبِّنة على الأسد مع تلك الأسباب المشجِّعَة حتى يقتله أو يعرِّدَ عنه كان قد تقدَّمَه تقدُّماً فاحشاً وقد علاه عُلوّاً ظاهراً فلذلك قدَّمنا الجاموسَ وهو بهيمة وقدَّمنا رؤساء البهائم على رؤساء السباع هذا سِوى ما فيها من المرافق والمنافع والْمَعاون .
والجاموس أجْزَعُ خلْق اللّه مِن عَضِّ جِرجسةٍ وبعوضةٍ وأشدُّهُ هرباً مِنْهُما إلى الماء وهو يمشي إلى الأسد رَخِيَّ البال رابط الجأش ثابت الجنان فأمَّا الفيلُ فلم يولّد الناسُ عليه وعلى

مغالبة الفيل للأسد
والهندُ أصحابُ البُبور والفُيول كما أنَّ النُّوبة أصحابُ الزَّرافات دونَ غيرهم من الأُمم وأهلُ غانةَ إنما صار لباسُهم جلودَ النمور لكثرة النمور بها إلا أنَّها على حالٍ موجودةٍ في كثيرٍ من البُلدان .
وقد ذكَرُوا بأجمعهم قُوّةَ الفِيل الوحشيِّ على الأَسد وقالوا في الفِيَلة الأَهليَّة إذا لقِيتْ عندنا بالعِراق الأُسْد وجمعنا بينهما قالوا : أما واحدة فإنّ ذُكور الفِيَلة لا تكاد تعيشُ عندكم وأنيابُها التي هي أكبَرُ سلاحِها لا تنبُت في بلادكم ولا تعظُم ولا تزيدُ على ما كانت عليه ما أقامت في أرضكم وهي أيضاً لا تتناتج عندكم وذلك من شدّة مُخالَفة البلدة لِطبائعها ونقضها لقواها وإنما أسْرَعَ إليها الموتُ عندكم للذي يعتريها من الآفات والأعراض في دُوركم فاجتمعت عليها خصال أوّل ذلك أنها مع الوحش وفي صميم بلادها أجرأ وأقوى وأشهَمُ نفساً وأمضى فلمّا اصطَدْناها بالْحِيَل وصيَّرْناها مقصورة أهليَّة بعد أن كانت وحشيَّةً وفي غير غذائها لأنّها كانت تشرب إذا احتاجت وتأكل إذا احتاجت وتأخذ من ذلك على مقادير ما تعرف من مَوقعِ الحاجة فلما صارت

إلى قيام العبيد عليها والأجَراء بشأنها والوكلاء بما يصلحها دخل ذلك من النقض والخوَر والخطأ والتقصير على حسب ما تَجِدُ في سائر الأشياء ثم لم نَرْض بذلك حتَّى نقلناها من تلك البلدة على إنكارها لتلك اللدة فصيَّرْناها إلى الضدِّ بعد أن كانت في الخلاف .
وقد علمنا أنَّ سبيلَها سبيلُ سائر الحيوان فإنّ الإبلَ تموت ببلاد الروم وتَهلكُ وتسوءُ حالُها والعقارب تموت في مدينة حِمْص والتماسيح تموت إن نُقلت إلى دِجلة والفرات والنَّاس يصيبهم الجَلاءُ فيموتون ويتهافتون وقد علمنا أنَّ الزِّنج إذا أُخرجوا من بلادهم فما يحصل بالبصرة عندنا منهم إلاَّ اليسير وكذلك لو نقلوا إليكم بزر الفُلفُل والسَّاج والصَّندل والعُود وجميعَ تلك الأهضام فما امتناعُ نباتِ العاج ببلادكم إلاّ كامتناع نباتِ الآبنوس وإن كان ينبت في حيوان والآخر في أرض .
فلا يفتخرنَّ مفتخر في الأسد في هذه البلدة إذا قاوم الفيل والأسد هاهنا في بلاده وفي الموضع الذي تتوفّر أموره عليه لأنَّ أُسْد العراق هي الغاية وأقواها أُسْد السّواد ثم أُسْد الكوفة ولأنّ الفِيَلَة عندكم أيضاً

تَرَى عندَكم السَّنانير وقد جَعَل اللّهُ في طَبْع الفيل الهربَ من السِّنَّور )
والوَحشةَ منه كما أنَّ بعضَ شجعانِكم يمشي إلى الأسد ويقبض على الثُّعبان ولا يستطيع النَّظَرَ إلى الفأر والجرذان حتى يهرُب منها كلَّ الهرب ويعتريه من النّفضة واصفرار اللّوْن ما لا خوف عبد اللّه بن خازم من الجرذ وذكر عليّ بن محمد السميري قال : بينما عبد اللّه بن خازم السُّلَميّ عند عبيد اللّه بن زياد إذ أُدْخِلَ على عبد اللّه جرذ أبيض ليُعجَّبَ منه فأقبل عبيدُ اللّه على عبد اللّه فقال : هل رأيتَ يا أبا صالحٍ أعجَب من هذا الجرذ قط وإذا عبد اللّه قد تضاءَل حتى صار كأنه فرخ واصفَرَّ حتى صار كأنَّه جرادة ذَكَرٌ فقال عبيد اللّه : أبو صالحٍ يَعصِي الرَّحمن ويتهاوَن بالشيطان ويقبض على الثعبان ويمشي إلى الأسد ويَلقَى الرِّماح بوجهه وقد اعتراه من جُرَذ ما ترون أشهَدُ أنَّ اللّه على كلِّ شيءٍ قدير .

خوف الفيل من السنور
وإذا عاين الفِيلُ الأسدَ رأى فيه شَبَه السّنّور فيظنُّ أنه سنّور عظيمُ فلا يبلغ منه مقدارَ تلك المناسبة وذلك الشّبه ومقدارَ ذلك الظنّ ما يبلغ رؤيةُ السِّنَّور نفسهِ وليس هربُه منه مِن جهةِ أنّه طعامٌ له وأنّه إن ساوَرَه خافه على نفسه وإن كان في المعنى يرجع إلى أنّه طعامٌ لصغار السِّباع وكبارها وهَلْ قتل أسدٌ قطُّ فيلاً ومتى أكله وإنَّه مع ذلك لرُبَّما رَكَله الرَّكْلة فإمّا أنْ يقتُلَه وإمَّا أنْ يذهبَ عنه هارباً في الأرض وإمَّا أن يُجْلِيَهُ .
وأيّة حُجَّة على الفيل في أن يرى سنوراً فينفر منه فالأسدُ يُشار إليه بِشُعلةٍ من نار أو يُضرَب له بالطَّسْتِ فيهربُ منه فإنما هذا كنحو تفزُّع الفَرَس من كلِّ شيءٍ يراه في الماء وهو عطشانُ فيأباه .
ويزعم ناسٌ من أصحاب الخيل أنّ الفَرَس ليس يضرب بيديه في الماءِ الصافي ليثوِّره لأنَّ الماء الكدرَ أحبُّ إليه وما هو إلا كالثَّور الذي يحبُّ الصافي ويختاره ولكنه إذا وقف على الماء الصافي رأى فيه ظِلّه وظلّ غيرِه من الأشخاص فيفزعه ذلك فلمعرفته بأنَّ الماء الكدرَ لا تتصوَّر فيه الصُّوَر يضرِب بيديه هذا قول هؤلاء وأمَّا صاحبُ

المنطق وغيرهُ ممَّن يدَّعي معرفةَ شأنِ الحيوان فإنّه يزعُم أنَّ الفرسَ بالماء الكدِر أشدُّ عُجْباً منه بالماء الصافي كما أنَّ الإبلَ لا يُعجِبها الماءُ إلاَّ أنْ يكونَ غليظاً وذلك هو الماءُ النَّمير عندهم وإنَّما تصلُح الإبل عندَهم على الماء الذي تصلُح عليه الخيل . )
تداوي الحبشة والنوبة بأضراس خيل الماء وأعفاجها ويزعُم مَنَ أقام ببلاد السُّودان أنَّ الذين يسكُنون شاطئ النيل من الحبشة والنُّوبة أنهم يشربون الماء الكدر ويأكلون السَّمك النِّيء فيعتريهم طحالٌ شديد فإذا شدُّوا على بطونهم ضِرْساً من أضراس خَيل الماء وجدْوه صالحاً لبعض ما يعرض من ذلك ويزعمون أن أعفاج هذا الفرس دفاع صاحب الأسد وقال بعض من يَنْصُرُ الأسَد : إن الأُسْدَ في الهند أضعَفُ بل هي ضعيفةٌ جدّاً والفيل في بلادهم أقوى والوحشي منها أجرأ والمغتلم لا يقوم له إلا الكركدَّن وإنه ليهجُم عليه فيحجم عنه حتى

تذهب عنه سَكْرة الغُلْمة فيرجعُ إلى معرفةِ حال الكركدَّن فلا يَطور طوَارَه ولا يحلُّ بأَدانِي أرضه .
وأما الفيل فإذا كان غيرَ هائجٍ والأسدُ في غير أيَّام هِيَاجِه ثم يكونُ الأسَدُ عِراقيّاً ويكونُ سَوادِيّاً ويكون من أجَمَة أبْزيقيا فإنَّ الفيلَ لا يقوم له . (

قول صاحب الفيل
وقال صاحب الفيل : الفيل لا يُعاينُ أسداً أبْزيقيّاً حتى تفسَخَه البلْدة وتَهدِمَهُ الوحشة ويُمرضه الغِذاء ويُفسده الماء وهو لا يصل إلى ذلك المكان حتى يجمع بينه وبين ذلك الأسد وحتى يَسْمَع تجاوُبَ السَّنانير وتَضَاغيها وهو أسمَعُ من قُراد فيغِبّ ذلك في صدره وتتزايد تلك الوَحشةُ في نفسه فمتى رأى أسداً قائماً فربَّما دعَته الوحشة منه والبغض المجعُول فيه إلى الصُّدُود والذَّهاب

عنه فيظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ ذهابَه هرَب وأنّ صدودَه جُبْن وإنَّما هو من الوَحشة منه والكَراهة لمنظَرَتِه وربَّما اضطرَّهُ الأسدُ بخُرْقه حتى يُنقَضَ حِلمُه ويُغلَب وقارُه فيخبطُه خَبطةً لا يُفلح بعدها أبداً .
فخر صاحب فرس الماء قال صاحبُ الفَرَس : زعمتم أنَّ الأسدَ في الأرض كالعقاب في الهواء وكالتمساح في الماء وأنَّ تمساحاً وأَسداً اعتلجا على شريعةٍ فقتَلَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبه وكأنَّ التمساح ضرب الأسد بذنبه في الشريعة وضغمَ الأسدُ رأْسَه فماتا جميعاً .
قال : والفَرسُ المائيُّ بالنِّيل يقتُلُ التَّماسيحَ ويقهرُها ويأكلها ولا يُساجلُها الحرب ولا تقَعُ بينهما مغالَبةٌ ومجاذَبة وتكون الأيام بينهما دُوَلاً فهذه فضيلةٌ ظاهرة على الأَسد وشرفُ فَرس الماء )
راجعٌ إلى فرس الأَرض فإنْ كان فرسُ الأرض لا يقوى على الأَسَد ولا على النَّمر ولا على البَبْر فإن ابنَ عمِّه وشكلَه في الجنْسِ قد قوِيَ على التِّمساح وهو رئيسُ سُكان الماء .
قالوا : أَمَّا واحدة فإن التمساح ليس برئيسِ سُكان الماء إلا أَن تَريد بعضَ سكان الأَودية والأَنهار والخُلجان والبُحَيْرات في بعض

المياه العذبة والكوسج واللُّخْم والسَّرَطان والدُّلْفين وضَرُوبٌ من السباع مما يعايشَ السَّمك ليس التمساح من بابه وعلى أن التمساح إنما يأكله ذلك الفرسُ وهو في الماء وليس للتمساح في جوف الماء كبيرُ عملٍ إلا أن يحتمل شيئاً بذنبه ويحتجنَه إليه ويدخله الماء وربَّما خرج إلى الأرض للسِّفاد ولحضْن البيض فلا يكونُ على ظهر الأرض شيءٌ أذلُّ منه وذلُّه على ظهر الأرض شبيهٌ بذُلِّ الأسَد في وسط الماء الغَمْر ولَعمري أَنْ لو عَرَض له هذا الفرسُ في الشرائع فغلبه لقد كان ذلك من مفاخره فلذلك لم تُذْكَر الخيل في باب الغلبة والقتال والمساجلة والانتصاف من الأعداء .
والفرَس قد يُقاتل الفرسَ في المُرُوج إذا أراد أن يحمِيَ الحُجور كما يحمِي العيرُ العانة ويقاتل دونها كلَّ عيرٍ يريد مشاركتَه فيها وهذا شيءٌ يعرض لجميع الفُحولة في زمن الهيج .
وقد يصاوِلُ الجملُ الجملَ فربَّما قتلَ أحدُهما صاحبَه ولكنَّ هذه الفَحولَةَ لا تعرِض لشيءٍ من الحيوان في غير هذا الباب .


وإن أرادَ الفرسَ أسدٌ فليس عنده من إحراز نفسه وقَتْل عدوِّه ما عند الجاموس فإنْ فضَلَه الجاموسُ بقرنيه فإن السِّلاح الذي في فَم الفَرس لو استعمله لكان سِلاحاً ولو استدْبَرَ الأسدَ فركله ورَمَحه وعَضّه بفيه لكان ذلك ممَّا يدفع عنه ويحمي لحمَه .
وليس للجاموس في أظلافه وفي يديه ورجليه وفي فمه سلاح فقد دلّت الحالُ على أنّ مدارَ الأمر إنَّما هو في شَجاعة القلب .
وفي هذا القياس أنّ الصَّقْر إنَّما يواثِبُ الكُرْكيَّ لمكان سلاحه دون شجاعة القلب التي يقوى بها وسأقرّب ذلك عندك ببعض ما تعرِفه لا نَشكّ أنّ الهرّ أقوى من الهرَّة في كلِّ الحالات حتى إذا سفِدها فحدثَتْ بينهما بغضاء ومطالبة حدثت للهرَّة شجاعةٌ وللهرِّ ضَعف فصارت الهرَّةُ في هذه الحال أقوى منه وصار الهرُّ أضعف ولولا أنَّه يُمعِن في الهرب غايةَ الإمعان ثمَّ لحقته لقطَّعته وهو مستخْذٍ .
ومثل ذلك أنَّ الجُرذ يُخْصَى ويرمى به في أنابِير التّجّار

وفي الأقرِحَة والبيادر فلا يدَعُ جُرذاً )
ضخْماً قد أعيا الهرّ وابن عِرْس إلاَّ قَتَلَه وإنْ كان أعظمَ منه وأشدّ .
والخَصيُّ من كلِّ شيءٍ أضعَفُ قوَّةً من الفَحْل إلاّ الجرذ فإنه إذا خُصي أحدث له الخصاء شجاعةً وجَراءة وأحدثَتْ له الشَّجَاعة قوَّة وأحدث علم الجرذان بحال الخصاء لها جُبْناً وأحدَثَ الجُبنُ لها ضعْفاً .
والرَّجُلُ الشّدِيدُ الأسر قد يَفْزَعُ فتنحلُّ قُوَاهُ ويسترخي عصبُه حتّى يضربه الصبيُّ والذِّئبُ القويُّ من ذئاب الخمر يكون معه الذئبُ الضعيف من ذئاب البراري فيصيب القويَّ خدشٌ يسيرٌ فحينَ يَشمّ ذلك الذئبُ الضعيف رائحةَ الدَّم وثب عليه فيعتري ذلك القويّ عند ذلك من الضّعف بمقدار ما يعتري الضعِيفَ من القُوَّة حتى يأكله كيف شاء .


والأسَد الذي يعتريه الضَّعف في الماء الغَمْر حتّى يركبَ ظهرَه الصبيُّ ثم يقبضَ على أذنيه فيُغطه وقد يفعل به ذلك غِلمان السَّوَادِ وشاطئ الفرات إذا احتملت المدودُ الأسْدَ لا تملك من أنفُسها شيئاً وهو مع ذلك يشدُّ على العسكر حتى يفرقه فَرْقَ الشَّعر ويطويه طيَّ السِّجِل ويهارِشُ النمرَ عامّة يومه لا يقتلُ أحدُهما صاحبَه وإنْ كان الجمل الهائجُ باركاً أتاه فضرب جنبَه ليثنِيَ إليه عنقَه كأَنه يريد عضّهُ فيضربُ بيساره إلى مشْفره فيجذبه جذبةً يفصل بها بين دَأَيات عنُقه وإن ألفاه قائماً وثب وثبة فإذا هو في ذروة سنامه فعند ذلك يصرِّفه كيف شاء ويتلعَّب به كيف أحبّ .
ونحن لا نشكُّ أنّ للفَرس تحتَ الفارس غَناءً في الحرب لا يُشْبهه غَناء ولذلك فُضِّل في القَسْم وإنما ذلك بتصرِيف راكِبه له وقتالِه عليه فأمَّا هو نفسهُ فإنه إذ كان أوفَرَ سلاحاً من الجاموسِ

وخام عن قِرنه واستسلم لعدوِّه فإنّه من هاهنا لا يقدم على غيره ولم يكن اللّه ليجعلَ انحصارَ جميع أقسام الخير في شخصٍ واحد ولكن لمَّا أن كان الفَرَس عليه تقاتل الأنبياءُ وأتْباع الأنبياء ملوكَ الكفَّار وأتْباعَ مُلوك الكُفار حتّى يقمَع اللّه الباطلَ ويُظْهِر الحقّ فلذلك قدَّمناه على جميع البهائم والسِّباع وإنما نُقَدِّمه على الوجه الذي قدَّمه اللّه فيه .
الرد على صاحب فرس الماء واعترضَ على أصحاب فرَس الماء معترِضون فقالوا : الفرسُ لا يكون إلاّ بهيمة والبهائم لا تصيد ( والخيلُ في إطعامها اللّحمَ ضرَرْ ** نُطْعمُها اللّحمَ إذا عَزّ الشَّجَرْ ) في كلمته التي يقول فيها : )
اللّهُ من آياته هذا القمرْ وقد تُعلَف في تلك الحالاتِ اللّحمَ اليابس وهسيسَ السّمك فأمّا الهسيس فلخُيول أهل الأسياف خاصّة .


الرد على صاحب فرس الماء قيل لهؤلاء المعترضين على فَرَس الماء : وقد يكون في الخلْق المشترك وغير المشترك ما يأكلُ اللَّحمَ والحَبّ فالمشترك مثلُ الإنسانِ الذي يأكل الحيوان والنبات وهذا العصفور من الخلق المشترك لأنّه يأكل الحبّ ويصطاد النمل الطّيار والأرضة فيأكلُها ويأكل اللّحم والدَّجاجُ تأْكل اللَّحمَ والدِّيدان وتحسُو الدَّمَ وتلقُط الحبّ والغراب لا يَدَعُ شيئاً إلاَّ أكله .
وما خرج من حدِّ المشترك وهو كنحو الذِّئب والضَّبع وكنحو الشَّاهين والصَّقر فإنّ هذه وأشباهَها لا تعرفُ إلا اللَّحم والحمامُ وضروبٌ من الطيرِ لا تعرِف إلاَّ الحبَّ والنَّبات والمشتركُ أجمَعُ مما هو غير مشترك .
والسّمكة تأكل الطِّين والنّبات وتأكل الجيف التي تصيب في الماء وتُصاد بضروبٍ من الحيوان والجِرّيُّ يأكل الجرذانَ ويصيدُها وهو آكلُ لها من السّنانير

والحيّات والكلابِ السَّلوقية ويأكلُ الجِرِّيُّ جميعَ جِيفِ الموتى والسَّمك يأكل السّمكَ ويأكلُ من كلّ حَبّ ونبات يسقط في الماء .
وإن استفهَمَ مستفهِمٌ أو اعترض معترضٌ فقال : وكيف يأكل الجِرِّيُّ الجرذان والجرذانُ أرضيَّةٌ بيوتيَّة والجِرّيُّ مائي قيل له : يخبِّرنا جميعُ مَن يبيتُ في السُّفُن وفي المشارع في فيض البَصرة عندنا أنّ جرذان الأنابير تخرُج أرسالاً باللّيل كأنّها بناتُ عِرْس والجرِّيُّ قد كَمَنَ لهنَّ وهو فاتحٌ فاه فإذا دنا الجُرذُ من الماء فعبَّ فيه التهمه ليس دون ذلك شيء بشَجْر فمٍ واسع يَدخُل في مثله الضبُّ الهرم وإنما يضَع بخطمه على الشَّريعة .
وسنذكر شيئاً من الطُّرَف والحِكم والأشعار إذْ كُنَّا قد ذَكرْنا من الكلام في الحيوان صدراً صالحاً وأبواباً جامعةً ثم نعود في ذكر الفيل إنْ شاء اللّه واللّهُ الموفّق .
شيء من الطرف والحكم والأشعار قال الشّاعر : ( ونحنُ أناسٌ لا حجازَ بأرْضِنا ** معَ الغَيْثِ ما نُلْقَى ومَن هو غالبُ )

( وإن قصُرَت أسيافُنا كان وصلُها ** خُطانا إلى أعدائنا فنضاربُ ) ) ( ترى كلّ قومٍ ينظرون إليهمُ ** وتقصُر عمَّا يبلغون الذَّوائبُ ) ( لكلِّ أناسٍ سُلَّمٌ يُرْتَقَى به ** وليس إلينا في السَّلاليمِ مطلعُ ) ( ومنزلُنا الأعلَى حجازٌ لمن به ** وكلُّ حجازٍ إن هبطناهُ بلقَعُ ) ( وينفِر منا كلُّ وحشٍ وينتمِي ** إلى وَحْشِنا وحشُ البِلاد فيَرْبعُ ) وقال حسَّان بن ثابت : ( ونَدْمانِ صِدقٍ تقطر الخيرَ كَفُّه ** إذَا راح فَضْفاضَ العشيَّاتِ خِضْرما ) ( وصلتُ به كفِّي وخالَطَ شِيمَتي ** ولم أكُ عِضّاً في الندامى مُلوّما ) ( لنا حاضرٌ فَعمٌ وبادٍ كأنّه ** شماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وتكرُّما ) ( ولدْنا بني العَنْقاء وابْنَيْ محرِّقٍ ** فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما ) ( لنا الجفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى ** وأسيافُنا يقطرْنَ من نجدةٍ دَما ) وقال أعرابيٌّ غزليّ : ( بنفسي وأهلي مَن إذا عَرَضُوا له ** بِبَعض الأذَى لم يَدْرِ كيف يُجيبُ ) ( ولم يعتذِرْ عُذْرَ البريء ولم تَزَلْ ** به سَكْتةٌ حتّى يُقَالُ مُريبُ ) وقال أعرابيٌّ من هُذيل : ( رَعاكِ ضمانُ اللّهِ يا أمَّ مالكٍ ** وللّهُ أن يَسْقِيكِ أولَى وأوسَعُ )

قطعة من أشعار الاتعاظ قال الشاعر : ( عليك مِنَ امْرِكَ ما تستطيع ** وما ليس يُغْنِيك عنه فَذَرْ ) ( وللصَّمْتُ أجْمَلُ في حِينِهِ ** مِنَ القَوْلِ في خَطَلٍ أوْ هَذَرْ ) ( وكم غائبٍ كَانَ يَخشَى الرَّدَى ** فعادَ وَأوْدَى الذي في الحضَرْ ) ( وبينا الفَتى يُعجبُ النَّاظري ** نَ مال إلى عِطْفِه فانقعَرْ ) ( وبعضُ الحوادث إن يُبْقِهِ ** فإنَّ الفَنَا شأنُهُ وَالكِبَرْ ) ( وكم من أخي نجدة ماهرٍ ** تعلَّقَه الدَّهْرُ حتى عَثَرْ ) ( وكم من أخي عثرة مُقْتِرٍ ** تأتَّى لهُ الدَّهرُ حَتى انجَبَرْ ) وقال علقمة بن عبدة : ) ( وكلُّ قوْمٍ وإن عَزُّوا وإنْ كَثُرُوا ** عَرِيفُهُمْ بأَثافي الشَّرِ مرجومُ ) ( والحمدُ لا يُشْتَرَى إلا لهُ ثمنٌ ** ممَّا يَضِنُّ به الأقوامُ معلومُ ) ( والجهلُ مَنْقَصَةٌ شَيْنٌ لصاحبِهِ ** والحِلْمُ آوِنَةً في النَّاس مَعْدُومُ ) ( وكلُّ حِصْنٍ وإنْ طالَتْ سلامَتُه ** على دعائمه لا بدَّ مَهدومُ ) ( وَمُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الْغُنمِ مُطْعَمُهُ ** أنَّى تَوَجَّهَ والمحرومُ مَحْرُومُ ) وقال عديُّ بن زيد العباديّ وهو أحدُ من قد حُمِل عَلَى شعره الحَمْلُ الكثير ولأهل الحِيرة بشعره عنايةٌ وقال أبو زيدٍ النحويّ : لَو تمنَّيت أنْ أقولَ الشِّعر ما قلتُ إلا شعرَ عديِّ بن زَيد :

( كَفَى زاجراً للمرء أيَّامُ عمرهِ ** تروح له بالواعظاتِ وتغتدي ) ( فنفسَك فاحفَظْها من الغيِّ والرَّدَى ** متى تُغْوِها تُغْوِ الذي بك يَقتَدِي ) ( فإنْ كانتِ النَّعماءُ عندَك لامرئ ** فمثلاً بهَا فاجْزِ المُطالب أو زِدِ ) ( عن المرْء لا تَسألْ وأبصِرْ قرينَه ** فإنَّ القرين بالمقارَِنِ مُقتدِي ) ( ستُدرِك مِن ذي الجَهْل حقَّك كله ** بحلمك في رِفْق وَلَمَّا تَشَدَّدِ ) ( وظُلم ذوِي القرْبَى أَشدَّ عداوةً ** على المرء من وَقْع الحُسام المهنَّدِ ) ( وفي كثرة الأيدي عن الظُّلمِ زاجرٌ ** إذا خَطرَتْ أيدي الرِّجال بمشهَدِ ) قال المهلب بن أبي صُفرة : عجبْت لمن يشتري المماليك بمالِهِ كيف لا يشتري الأحرارَ بمعروفه .
وقال عبد اللّه بنُ جعفرٍ لرجلٍ يُوصِيه : عليك بصُحبةِ مَنْ إنْ صحِبْتَهُ زَانَك وإنْ تركتَه شانَكَ إن سألتَه أعطاك وإن تركتَه ابتداك إنْ رأى منك سيِّئة سدَّها وإن رأى حسنةً عدّها وإن وَعَدَك لم يُجْرِضْك وإن ألجِئْتَ إليه لم يرفُضْك .
وسأل يزيدَ بنَ المهلَّب رجلٌ من أصحابه حاجةً وذَكَرَ له خَلّة فقال : أوجِّهُ بها إليك ثمَّ حَمَلَ إليه خمسين ألفَ درهم ثم كتب إليه : قد وجَّهتُ إليك بخمسينَ ألفَ دِرهم لم أذكُرْها تمنُّناً ولم أدَعْ ذكرها تجبُّراً ولم أقْطَعْ بها لك رَجاء ولم أُرِدْ بها منك جزاء .


وقيل ليزيد : ما أحسَنُ ما مُدِحتَ به قال : قول زياد الأعجم : ( فتًى زَادهُ السُّلطان في الحمد رَغبةً ** إذا غَيَّرَ السلطانُ كلَّ خليلِ ) شبيهٌ بقول الآخر : ( فتًى زادهُ عِزُّ المَهابةِ ذِلَّةً ** وكلّ عزيزٍ عندَه متواضعُ ) )
وقال الآخر وهو يدخل في باب الشكر : ( شوقي إليك يا أبا العبّاس ** طيَّرَ ما أبْلَيْتَني نُعاسِي ) ( إنّي لمعروفك غير ناس ** والشُّكرُ قِدْماً في خيار النَّاسِ ) أبيات لبعض الشعراء العميان أنشدني ابنُ الأعرابيِّ لرجلٍ من بني قُريع يَرْثي عينَه ويذكر طبيباً : ( لقد طُفتُ شرقيّ البلادِ وَغَرْبَها ** فأعْيا عَليَّ الطبُّ والمتطَبِّبُ ) ( يقولون إسماعيلُ نَقَّابُ أعيُنٍ ** وما خير عَيْنٍ بعد ثَقْبٍ بمثقبِ ) ( ولكنَّه أيّامَ أنْظُرُ طيِّبٌ ** بعينَيْ قُطاميٍّ علا فوقَ مَرْقبِ ) ( كأنَّ ابنَ حَجلٍ مدَّ فضلُ جناحه ** على ماء إنسانيهما ماءَ طُحلبِ ) وقال الخُرَيميّ : ( كفى حزَناً أن لا أزورَ أحبّتي ** من القرْب إلاّ بالتَّكَلُّفِ والجهدِ )

( وأنِّي إذا حُيِّيت ناجيتُ قائدِي ** ليَعدِلَني قبل الإجابة في الردِّ ) ( إذا ما أفاضُوا في الحديث تقاصَرَتْ ** بيَ النَّفْسُ حتى ما أحِيرَ وما أُبْدِي ) ( كأَني غريبٌ بينهم لستُ منهمُ ** فإنْ لم يحولوا عن وفاءٍ ولا عَهدِ ) ( أقاسي خطوباً لا يقوم بثِقْلها ** من الناسِ إلا كلُّ ذِي مِرَّةٍ جَلْدِ ) باب في الحاجة قال ابنُ الأعرابيّ : قيل للأحنف : أتيناك في حاجةٍ لا تَرْزَؤُك ولا تنكؤك فقال : ليس مِثلي يُؤْتى في حاجةٍ لا تَرْزأ ولا تَنكأ .
وقال أعرابيٌّ لرجل : إني لم أصُنْ وجْهي عن الطَّلب إليك فصُنْ وجهَك عن رَدِّي وأنزِلْني مِنْ كرمك بحيثُ وَجْهي مِنْ رجائك .
وقال أبو عقيل بن دُرُسْت : لم يقْضِ ذِمامَ التَّأميل ولم يَقُم بحُرمة الرَّجاء إلاّ مَن أعطاها حقَّها ووفّاها حظَّها وعرَف قدْرَها وكيف يستبقي النِّعمة فيها وكيف الشُّكرُ على أداء حقِّها بالبِشْر عند المسألة وقلّةِ التَّضجُّر عند المعاودة وتوكيد الضَّمان عند العِدَةِ وانتهازِ الفرصة عند القُدرة ويكونُ النُّجح المعجل أحبَّ إليه من عُذْر المَصْدَق وحتّى يرى أنَّ حقّك عليه في بذْل وجهك إليه أكثرُ من حقّه عليك في تحقيق

أملك فيه ثم إيجاب سترها فإنَّ سَتْرَها هو )
المخبر عنها والدالُّ عليها والزَّائد في قدرها والمتوَلِّي لنَشرها .
وقال الشاعر : ( فإنَّ إحياءَها إماتتُها ** وإنَّ مَنّاً بِهَا يكدِّرُها ) باب في الوعد والوفاء به والخلف له قال عمرو بن الحارث : كنتُ متى شئتُ أن أجِدَ صفةَ من يَعِد ويُنجز وجدتُه فقد أعياني من يعدُ ولا ينجز .
وقال أبو إسحاق النَّظام : كنَّا نلهو بالأماني ونَطيب أنفساً بالمواعيد فَذَهَبَ مَنْ يَعِدُ وقطعَتْنا الهمومُ عن فضُول الأماني .
وقال الشاعر : ( قد بَلوناك بحمد اللّه إن أغنى البلاءُ ** فإِذا جُلُّ مواعيدِكَ والجَحدُ سواءُ )

وذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال : إذا أَوْعَدَ صدق وإذا وَعَدَ كذب ويغضَبُ قبل أن يُشتم ويجزِم قبلَ أن يَعْلَم .
وقال عبدُ اللّه بنُ قيس الرقيَّات : ( اخْتَرْتُ عبدَ العزيزِ مرتغِبا ** واللّهُ لِلمرْءِ خَيرُ مَنْ قَسَمَا ) ( مِن البهاليل مِنْ أميَّةَ يَزْ ** دادُ إذا ما مَدَحْتَه كرَما ) ( جاءت به حُرّةٌ مهذّبةٌ ** كلبيّةٌ كان بيتُها دِعَما ) ( هُنَّ العَرَانينُ من قضاعةَ أَمْ ** ثالُ بنيهنَّ تمنع الذِّمما ) ( تُكِنُّهُ خِرْقةُ الدِّرَفْس من الشَّم ** سِ كلَيْثٍ يُفرِّج الأَجما ) ( يقُوتُ شِبْلَين في مَغارِهما ** قد ناهَزَا للفِطام أو فُطِما ) ( لم يأتِ يومٌ إلا وعندَهُما ** لحمُ رجال أو يَوْلَغان دَما ) ( فذاك أشبَهْتَهُ ابنَ ليْلَى ول ** كنَّ ابنَ ليلَى يفوقُه شيما )

( مَنْ يَهَبُ البُخْتَ والولائد كال ** غِزْلانِ والخيلَ تعلك اللجُما ) ( يُنكر لا إنّ لا لمنكَرَةٌ ** مِنْ فيه إلاّ مُحَالِفاً نَعَما ) وقال زيادَة بن زيد : ( فلم يجعلِ اللّهُ الأُمورَ إذا اغتدت ** عليك رِتاجاً لا يُرامُ مُضبَّبا ) ) ( كفاك الغِنى يوماً إذا ما تقلَّبتْ ** به صَيرفيّاتُ الأمور تقلبا ) ( وإني لمزْوَرٌّ قليلٌ تقلُّبي ** لوجِه امرئٍ يوماً إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ ليوم الشَّرِّ وَيْكَ تعرُّضي ** فإنْ حَلَّ يوماً قلتُ للشَّرِّ مَرْحَبا ) ( مَلَكْنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ** وكان لنا حقًّا على الناس تُرْتُبَا ) وقال هُدْبة العُذْرِيّ : ( فأُب بي إلى خيرٍ فقد فاتني الصِّبا ** وصِيحَ بريْعان الشَّباب فنُفِّرا ) ( أمُورٌ وألوانٌ وحالٌ تقلَّبتْ ** بنا وزمانٌ عُرْفُه قد تنكّرا ) ( أُصِبْنا بما لو أنّ سَلْمى أصابَهُ ** لَسُهِّلَ من أركانه ما توعَّرا )

( فإن ننجُ من أهوالِ ما خاف قومُنا ** علينا فإنّ اللّهَ ما شاء يَسَّرَا ) ( وإنْ غالَنا دهرٌ فقد غال قبلنَا ** ملوكَ بني نَصْرٍ وكِسرى وقَيْصَرَا ) ( وذي نَيربٍ قد عابَني لينالَني ** فأعيا مَداهُ عن مَدَايَ فقَصَّرا ) ( فإن يكُ دَهرٌ نالني فأصابَني ** برَيْبٍ فإنْ تُشْوِي الحوادثُ مَعْشَرا ) ( فلست إذا الضَّرَّاءُ نابَتْ بجُبَّأ ** ولا جَزِعٍ إنْ كان دَهرٌ تغيَّرَا ) وكان هُدبةُ هذا من شياطين عُذْرة وهذا شعرهُ كما ترى وقد أُمِرَ بضرب عنقه وشَدّ خِناقه وقليلاً ما ترى مثلَ هذا الشّعر عند مثل هذه الحال وإنَّ امرأً مجتمعَ القلب صحيحَ الفكر كثير الرين عَضْبَ اللّسان في مثل هذه الحال لَنَاهِيكَ به مطلقاً غير موثق وادِعاً غير خائف ونعوذ باللّه من امتحان الأخيار .
وهو القَائلُ في تلك الحال : ( فلا تعذليني لا أرى الدهر معتباً ** إذا ما مضى يومٌ ولا اللوم مرجعا ) ( ولكن أرى أن الفتى عرضة الردى ** ولاقي المنايا مصعدا ومفرعا )

( وإن التقى خير المتاع وإنما ** نصيب الفتى من ماله ما تمتعا ) ( فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ** أغم القفا والوجه ليس بأنزعا ) ( ضروبا للحييه على عظم زوره ** إذا القوم هشوا للفعال تقنعا ) ( وأخرى إذا ما زار بيتك زائرٌ ** زيالك يوماً كان كالدهر أجمعا ) ( سأذكر من نفسي خلائق جمةً ** ومجداً قديماً طالما قد ترفعا ) ) ( فلم أر مثلي كاوياً لدوائه ** ولا قاطعاً عرقاً سنونا وأخدعا ) ( وما كنت ممن أرث الشر بينهم ** ولا حين جد الشر ممن تخشعا ) وما قرأتُ في الشِّعر كشعر عبد يغوث بن صَلاءةَ الحارثيّ وطرفة بن العَبْد وهدبة هذا فإنّ شِعرَهم في الخوفِ لا يقصِّر عن شِعرهم في الأمْن وهذا قليلٌ جدّاً .


من أشعار الأعراب أنشدني ابنُ الأعرابيِّ في معنى قوله : كمخْض الماءِ ليس له إنَاء وما كان مثلي يعتريكَ رجاؤُه ولكن أساءَتْ هِمّةٌ مِن فتى مَحْضِ ( وإنّي وإشرافي إليك بهمَّتي ** لكالمرْتجي زُبداً من الماء بالمخضِ ) وقال الآخر في مثل قول عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة : ( فلولا اتّقاءُ اللّه قلتُ مقالة ** تسِير مع الرُّكبان أبْرَدُها يَغْلِي ) ( ابنْ لي فكنْ مِثْلِي أوَ ابْتغ صاحباً ** كمثلكَ إني مُبْتغٍ صاحباً مِثلي ) ( ولا يلبثُ الأصحابُ أن يتفرَّقُوا ** إذا لم يؤلَّف رُوح شكلٍ إلى شكلِ ) فقال : ( لكلِّ امرئ شكلٌ يقرُّ بعينه ** وقُرَّةُ عينِ الفَسْل أن يتبع الفَسْلا ) ( وتعرف في جُودِ امرئ جُودَ خالِه ** ويَنذُلُ أنْ تلقَى أخَا أمِّهِ نَذْلا )

( أبلغ بني ثعَلٍ عنِّي مُغَلغَلةً ** فقدْ أنَى لكَ مِنْ نِيءٍ بإنْضَاجِ ) ( أمَّا النهارَ ففي قَيْدٍ وسِلسلةٍ ** واللّيْلَ فِي جوفِ منحُوتٍ من السَّاجِ ) وقال بعضُ اللصوص : ( أقَيْدٌ وَحَبْسٌ واغْترَابٌ وفرقةٌ ** وهَجْرُ حبيبٍ إنَّ ذَا لَعظيمُ ) ( وإن امرأً دَامت مَواثِيقُ وَدِّهِ ** عَلَى عُشْرِ ما بي إنَّه لَكريمُ ) ومن المراثي المستحسَنة قولُ حارثة بن بدر الغُدانيّ يرثي زياداً ابنَ أبيه : ( أبَا المغيرةِ والدُّنيا مغيِّرةٌ ** وإنّ مَن غَرّت الدُّنيا لَمَغْرُورُ ) ( قد كانَ عِندَك للمعروف مَعرِفةٌ ** وكان عندك للنَّكراء تنكيرُ ) ( وكنتَ تُؤْتَى فتُؤْتي الخيرَ من سعةٍ ** إن كان قبرُك أمْسَى وهو مهجورُ ) ) ( صلَّى الإلهُ على قبرٍ بِمَحْنِيةٍ ** دُونَ الثّويّة يسفي فوقَهُ المُورُ ) وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( وما حسَبُ الأقوامِ إلا فِعالهم ** ورُبَّ حسيب الأصلِ غيرُ حَسيبِ )

وقال الآخر في مثله : ( ليس الكريمُ بمَنْ يدنِّسُ عِرضَه ** وَيَرَى مُرْوءتَه تكون بمنْ مضَى ) وقال عبد اللّه بن معُاويةَ بنِ عبد اللّه بن جعفر : ( لَسْنا وإنْ كرُمَتْ أوائِلنُا ** يوماً على الأحسابِ نَتَّكِلُ ) ( نَبْني كما كانت أوائلُنا ** تَبْني ونَفْعَلُ مِثْل ما فَعَلوا ) وقال عُمر بنُ الخطّاب : كفى بالمرء عيباً أن تكون فيه خَلةٌ من ثلاث : أن يبدو له مِن أخيه ما يخفى عليه من نفسه أو يَعيبَ شيئاً ثم يأتيَ مثله أو يؤذِيَ جليسَه فيما لا يعنيه .
ووصف أعرابيٌّ رجُلاً فقال : آخَذُ النَّاسِ بما به أمَرَ وأتْرَكُهم لما عنه زَجَر .
من هجا امرأته قدِم أعرابيٌّ فحلَفَ بطلاقِ امرأتَيه على شيء فحنث ثم هربَ فقال : ( لو يعلم الغرَماء منزلَتَيْهما ** ما خوَّفوني بالطّلاقِ العاجلِ ) ( قد مَلَّتا وَمَلِلْتُ من وجْهَيهما ** عجفاءُ مرضِعةٌ وأُخرَى حاملُ ) وقال الأقرع بن مُعاذ القُشَيريّ : ( لَعمرُك إنّ المسّ من أمِّ خالدٍ ** إليَّ وإنْ ضاجَعْتُها لَبغيضُ ) ( إذا بُزَّ عنها ثوبُها فكأنما ** على الثّوب نملٌ عاذمٌ وبَعوضُ )

وقال أعرابيٌّ يتألّهُ لامرأته وما الأعرابُ وهذا المذهبُ ولكن كذا وقَعَ واللّه أعلمُ بكثيرٍ من ( لولا مخافةُ ربِّي أنْ يُعاقِبَني ** وأنَّها عِدَّةٌ تُقْضَى وأوتارُ ) ( لقد جعلْتُ مكانَ الطّوقِ ذا شُطَبٍ ** وتُبْتُ بعدُ فإنّ اللّه غفَّارُ ) وقال بعض المولَّدين : ( تجهَّزي للطَّلاقِ وانصرِفي ** ذاكِ جَزَاءُ الجوامِحِ الشُّمُسِ ) ( للَيْلَتي حين بِتُّ طالقةً ** ألذُّ عِنْدِي مِنْ لَيلةَ العُرُسِ ) وأنشدني ابنُ الأعرابيِّ لأعرابي : ) ( قد قرنوني بعجوز جحمرش ** ناتية الناب كزوم قنفرش ) ( كأنما دلاها على الفرش ** من آخر الليل كلاب تهترش ) ( وجلدها من حكها القمل برش ** كأن طي بطنها كرش ) ( فقماء في حضن الضجيع تهتمش ** تخشخش الضب دنا للمحترش ) وقال رجلٌ من بني نُميرٍ لامرأته وكانت حضَرية : ( لَعمرِي لأَعرابيّةٌ بدويةٌ ** تظلُّ بِرَوْقَيْ بَيتها الرِّيحُ تخفقُ ) ( أحبُّ إلينا من ضِنَاكٍ ضِفِنَّةٍ ** إذا رُفعَت عنها المراويحُ تعرقُ ) ( كبِطّيخةِ البُسْتان ظاهرُ جِلدها ** صحيحٌ ويبدُو داؤها حين تُفْتَقُ ) ( أنْبِئْتُ أنَّ فتاةً كنتُ أخطبُها ** عُرقوبُها مِثلُ شَهر الصَّوم في الطولِ )

وأنشدني محمد بن يسير في امرأته أو في غيرها : ( سقط : بيت الشعر ) ( أنبئن أن فتاة كنت أخطبها ** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ) ( أسنانُها مائةٌ أو زِدْن واحدةً ** كأنّها حين يبدو وَجْهُها غُولُ ) وإنما أكتب لك من كلّ بابٍ طَرَفاً لأنّ إخراجَك مِن بابٍ إلى باب أبقى لنشاطك ولو كتبتُه بكمالِه لكان أكملَ وأنبل ولكن أخافُ التَّطْويل وأنتَ جديرٌ أن تعرف بالجملةِ التّفصيلَ والآخر بالأوّل . مَن هجتْه زوجته قالت عصيمة الحنظليّة : ( كأنّ الدّارَ حين تكونُ فيها ** علينا حُفْرَةٌ مُلِئَتْ دُخانا ) ( فليتَك في سَفين بني عِبادٍ ** فتصبِحَ لا نَرَاك ولا تَرانا ) ( فلو أنّ البُدور قَبِلْنَ يوماً ** لقد أعطيتُها مائةً هِجانا ) وقالت امرأةٌ من بني ضبة لزوجها : ( تراهُ أهْوَجَ ملعوناً خليقتُه ** يمشي على مِثْل معوَجِّ العراجينِ ) ( وما دعوتُ عليه قطُّ ألعنُه ** إلاّ وآخَرُ يَتْلُوهُ بآمِينِ ) ( فليتَه كان أرضُ الرُّوم مَنْزلَه ** وأنَّني قبلَه صُيِّرتُ بالصِّينِ )

( لعمرك ما إنْ أبو وائل ** إذا ذُكِرَ القومُ بالطائلِ ) ( فيا ليتني لم أكنْ عِرْسَه ** وعُوجِلْتُ بالحدَث العاجلِ ) وقالت امرأةٌ من بني زياد الحارثي : ) ( فلا تأمُرُوني بالتزوُّج إنّني ** أريد كرامَ النَّاس أو أتبتَّلُ ) ( أريد فتًى لا يملأُ الهَوْلُ صدرَه ** يُريحُ عليه حلمُه حين يجهلُ ) ( كمثل الفتَى الجعْدِ الطَّويل إذا غَدا ** كعالية الرُّمح الطويل أوَ اطوَلُ ) وقالت امرأةٌ من باهلة : ( أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُه ** كأنَّ به كلُّ فاحشةٍ وَقْرَا ) ( سليمُ دَوَاعِي الصَّدْرِ لا باسطٌ أذًى ** ولا مانع خيراً ولا قائلٌ هُجْرا ) ( كَمثل الفتى الذُّهْليِّ تحسِبُ وجهَه ** إذا ما بدا في ظلمةٍ طالعاً بَدْرا ) وقال لبيد بن ربيعة : ( إنما يحفطُ التقَى الأبرارُ ** وإلى اللّه يستقرُّ القَرَارُ ) ( وإلى اللّه تُرْجَعُونَ وعِنْدَ ** اللّه وِرْدُ الأمورِ والإصدارُ ) ( إنْ يَكنْ في الحياة خيرٌ فقد أُن ** ظِرتُ لو كان ينفع الإنظارُ ) وأنشدني الأصمعيُّ قال : أنشدني رجلٌ ولم يُسمِّهِ : ( إذا ما بَدا عمرٌ و بدَتْ منه صورةٌ ** تدلُّ على مكنونِهِ يُقْبِلُ ) ( بياضُ خُراسانٍ ولُكْنَةُ فارسٍ ** وَجُثَّةُ رُوميٍّ وشَعرٌ مُفَلْفَلُ ) ( لقد ألَّفَتْ أعضاءَُ عمرٍ و عصِابةٌ ** يدُلُّ عليها آخِر القَوْمِ أوَّلُ )

وقالت أخت ذي الرُّمّة ترثيه : ( تعزَّيت عن أوفَى بغَيلانَ بعدَه ** عَزاءً وجفنُ العَين مَلآن متْرَعُ ) ( ولَمْ تنْسِني أوفَى المصيباتُ بَعْدهُ ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوجَعُ ) وذو الرُّمَّة القائل : إذا قلت كأنَّ فلم أجِدْ مخْرجاً فقطَعَ اللّهُ لِسَاني .
وأنشد : ( لا أتَّقي حَسَكَ الضَّغائنِ بالرُّقى ** فِعْلَ الذَّليلِ ولو بَقِيتُ وحِيدا ) ( لكن أعِدُّ لها ضغائنَ مِثلها ** حتَّى أُدوايَ بالحُقود حُقودا ) ( كالخمرِ خَيْرُ دوائها منها بها ** تَشْفي السَّقيمَ وتُبْرِئُ المنجودا ) فأخذ الحِكَميُّ هذا فقال : ( وكأْس شرِبْتُ على لذَّةٍ ** وأخرَى تداوَيْتُ منها بها ) ) ( إنَّ أياديك عندي غيرُ واحدةٍ ** جَلَّت عن الوَصْف والإحصاء والعددِ ) ( وليس منها يدٌ إلاَّ وأنْتَ بها ** مُستوجِبُ الشُّكرِ منِّي آخِرَ الأبدِ ) وقال الآخر : ( سأشكُرُ ما أبْقانيَ اللّهُ خالِداً ** كشكْري ولا يَدْرِي عليَّ بن ثابتِ ) ( حمَلْتُ عليه مُثْقِلاً فأطاقَهُ ** وحَمَّلَني مِن شكرِه فوقَ طاقَتي ) ورأى رجلٌ من النبيط الحجَّاج بعد موته في منامه فقال : يا حجَّاج

إلامَ صيَّرك ربُّك فقال : وماذا عليك يا ابن الزَّانية فقال : ما سِلمْنا مِن قَولك مَيْتاً ولا مِن فِعْلكَ حَيّاً .
وقال الأشهب رجلٌ من أهل الكوفة يهجو نُوح بن دَرَّّاج : ( إنّ القيامة فيما أحسَبُ اقتربتْ ** إذ صار حاكمنَا نوحُ بنُ درَّاجِ ) ( لو كان حَيًّا لَهُ الحجَّاجُ ما سَلِمَتْ ** صَحيحةً يدهُ من نَقْش حَجَّاجِ ) وكان الحجَّاج يَشِمُ أيديَ النَّبَط علامةً يُعْرَفون بها .
وقال رجلٌ من طيّئ لرجلٍ من فَزارة وكان الرجل يتوعّده : ( فإن كان هذا يا فزار تجلباً ** لنخشى فما نرتاع للجلباب ) ( أألآن لما أن علا الشيب مفرقي ** وصارت نيوب العود مختلفات ) ( ألست فزارياً تبين لؤمه ** إذ قام بين الأنف والسبلات ) ( ترى الخيل تستحي إذا ما ركبتم ** عليها حياء البدن الخفرات ) وقال أبو عبيدة : ما ينبغي أن يكون في الدُّنيا مثل النظَّام : سألتُه وهو صبيّ عن عَيب الزُّجاج فقال : سريع الكَسْرِ بطيء الجبر .
ومَدَحوا النَّخلةَ عِندَه فقال : صعبةُ المرَتقى بعيدةُ المَهْوَى خشِنة المسّ قليلة الظلّ .
وذكر النظّام الخليلَ بن أحمدَ فقالَ : توحَّدَ به العُجْبُ فأهلكَه وصَوَّر له الاستبدادُ صوابَ رأيه فتعاطى ما لا يحسنُه ورامَ ما لا يناله وفتنَتْه دوائرُه التي لا يحتاجة إليها غيره .


وكان أبو إسحاق إذا ذكر الوهمَ لم يشكَّ في جُنونه وفي اختلاط عقله وهكذا كان الخليلُ وإن كان قد أحسَنَ في شيء .
وكان النطَّام كثيراً ما ينشد : ( فلو كنت أرضَى لا أبالكَ بالذي ** به الخامل الجثَّامُ في الخفْض قانعُ ) ) ( قُصِرْتُ علَى أدْنى الهموم وأصبحَتْ ** عَلَيّ وعندي للرِّجال صنائعُ ) وقال المَرِيسيُّ لأبي الهُذيل بحضرة المأمون بعد كلامٍ جرى : كيف ترى هذه السِّهام قال : ليِّنة كالزُّبد حُلوة كالشَّهد فكيفَ ترى سهامَنا قال : ما أحسستُ بها قال : لأنَّها صادفَتْ وأُنشِدَ أبو الهذيل : ( فإذا توهَّمَ أنْ يَراها ناظرٌ ** ترَكَ التَّوهّمُ وجْهَها مَكلُوما ) فقال : هذِهِ تُناكُ بأيرٍ من خاطر وأنشدني أبو الهذيل بعد أن أنشد هذا البيت : ( اسجُدْ لقِرد السَّوء في زمانِهِ ** ولا تُسَائِلْ عن خَبيءِ شأنِهِ ) وقال آخر : ( كم من كريم ضعْضَع الدَّهرُ حالَهُ ** وكم مِنْ لئيمٍ أصبَحَ اليومَ صاعِدا ) ( وقد قال في الأمثال في النَّاسِ واعظٌ ** بتجربةٍ أهْدَى النَّصيحةَ جاهِدا )

( إذا دولةٌ للقِرد جاءت فكُنْ لهُ ** وذلك من حُسن المداراة ساجدا ) ( بذاك تداريِه ويُوشِكُ بعَدَها ** تَراه إلى تُبَّانِهِ الرَّثِّ عائدا ) وأنشدني الأصمَعيُّ في معنى قول الفرزدقِ : بهِ لا بظبيٍ بالصَّريمةِ أعفرا لرجل من بني القَين : ( أقول لصالحٍ لما دهته ** بنات الدهر ويحك ما دهاكا ) ( أتيتك زائراً فرجعت صفراً ** كذاك تكون أوبة من أتاكا ) ( أحب لك السلامة يا ابن أمي ** وإن كنت امرأ بخلت يداكا ) ( حفاظاً للعشيرة لا بعرفٍ ** فإن العرف من به سواكا ) وقال الفرزدق : ( ألا خبِّرُوني أيُّها الناس إنَّني ** سألتُ ومن يَسْأَلْ عن العِلم يَعْلَمِ ) ( سؤالَ امرئٍ لم يُغْفِل العلمَ صدرُه ** وما العالم الواعي الأحاديثِ كالعَمي ) وقال أيضاً : ( ألم تعلموا يا آل طَوْعةَ أنما ** تَهيجُ جَليلاِت الأمور دقيقُها ) ) ( سَأُثْني على سعدٍ بما قد عَلِمْتِهِ ** وخير أحاديث الرِّجال صدوقُها )

قال أبو عثمان : ومما أكتب لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسُر عليها إلا كلُّ وَقَاحٍ أخبارُ بعضِ العلماء وبعض من يؤلِّف الكُتب ويقرؤها ويدارس أهل العبر ويتحفَّظها .
زعموا أنَّ الضبع تكون عاماً ذكراً وعاماً أنثى وسمعت هذا من جماعةٍ منهم ممَّنْ لا أستجيز تسميته .
قال الفضل بن إسحاق : أنا رأيتُ العَفْص والبَلُّوط في غصن واحد .
قال : ومن العفْص ما يكونُ مثلَ الأُكَر وقد خبَّرني بذلك غيرُه وهو يشبه تحوُّل الأنثى ذكراً والذَّكرِ أنثى .
وقد ذكرت العربُ في أشعارها الضِّباعَ والذِّئابَ والسِّمعَ والعِسبار وجميعَ الوحوش والحشرات وهم أخْبَرُ الخلق بشأن الضَّبع فكيف تركَتْ ما هو أعجبُ وأطرَفُ .
وقد ذكرت العلماء الضِّباعَ في مواضعَ من الفُتْيا لم نرَ أحداً ذكَرَ ذلك وأولئك بأعيانهم هم الذين زعموا أن النمر الأنثى تضع في مشيمةٍ واحدةٍ جرواً وفي عنقه أفعى قد تطوَّقَتْ به وإذا لم يأتِنا في تحقيق

هذه الأخبارِ شعرٌ شائع أو خبرٌ مستفيض لم نلتفتْ لِفْتَه وقد أقرَرْنا أن للسَّقَنْقُور أيرَين وكذلك الحِرْذَون والضبّ حين وجَدْناه ظاهراً على ألسنة الشُّعراء وحكاية الأطِبَّاء .
خرطوم الفيل والخرطوم للفيل هو أنفه ويقومُ مقام يده ومقام عنقه والخَرْق الذي هُوَ فيه لا ينفذ وإنما هو وعاءٌ إذا ملأه الفيل من طعام أو ماء أولجه في فيه لأنّه قصير العُنق لا ينال ماء ولا مرعى وإنما صار ولدُ البُخْتِيِّ من البُختِيّة جَزُور لحمٍ لقصَر عنُقه ولعجْزه عن تناوُل الماء والمرعَى .
خرطوم البعوضة وللبعوضة خرطومٌ وهي تُشَبَّه بالفيل إلاَّ أنَّ خرطومها أجوفُ فإذا طَعَنَ به في جوف الإنسان وللذبابة خرطومٌ تخرِجُه إذا أرادَتٍ الدَّم وتُدْخِلُه إذا رَوِيَتْْ فأمَّا

مَنْ سَمَّى خطمَ الخنزيرِ والكلبِ والذَّئبِ خرطوماً فإنما ذلك على التشبيه وكذلك يقولون لكلِّ طويل الخطم قصير اللَّحييْنِ .
وقد يقال للخَطْم خرطوم على قوله : سَنَسِمُهُ عَلى الْخُرْطُومِ .
وأنشدنا ابنُ الأعرابي لفتًى من بني عامر : ( ولا أقومُ على شيخي فأشتُمُه ** ولا أمرُّ على تلك الخراطيمِ ) جعل سادةَ عشيرته في النَّادي والمجالس كالخراطيم والمقاديم والهوادي وعلى ذلك قالوا : بنو فلانٍ أنفُ بني فلانٍ ورؤوسُهم وخَراطيمُهم ومعنى العامريِّ الذي ذهب إليه في شعره كأنَّه عظّم المشيخَة أن يمرّ بهم وقد قال الشاعر : هم الأنفُ المقدَّم والسَّنامُ والفِيلُ والبَبْرُ والطَّاوس والبَبْغا والدّجاج السِّنديُّ والكركَدَّن مما خص اللّه به الهندَ وقد عدَّد ذلك مطيعُ بن إياس حين خاطب جاريةً له كانت تسمى رُوقَة فقال : ( روق أي روق كيف فيك أقول ** سادسنا دوني وأرمائيل )

( وبعيدٌ من بينه حيثما كا ** ن وبين الحبيب قندابيل ) ( ببلاد بها تبيض الطواوي ** س وفيها يزاوج الزندبيل ) ( وبها الببغاء والصفر والعو ** د له في ذرى الأراك مقيل ) ( والخموع العرجاء والأيل الأق ** رن والليث في الغياض النسول ) وقال أبو الأصلع الهنديُّ يفخر بالهِند وما أخرجت بلاد الهند : ( لقد يعذلني صحبي ** وما ذلك بالأمثل ) ) ( وفي مدحتي الهند ** وسهم الهند في المقتل ) ( وفيه الساج والعاج ** وفيه الفيل والدغفل ) ( وإن التوتيا فيه ** كمثل الجبل الأطول ) ( وفيه الدار صيني ** وفيه ينبت الفلفل ) والمتشابه عندهم من الحيوان الفيل والخنزير والبعوضة والجاموس وقال رؤبة : ( ليث يَدُقّ الأسَدَ الهَمُوسَا ** والأَقْهََبيْنِ الفيلَ والجاموسا )

هجاء أبي الطروق لامرأته ولما هجا أبو الطّروق الضبِّيُّ امرأتَه وكان اسمها شَغْفَر بالقُبح والشناعة فقال : ( جاموسة وفيلةٌ وخَنزرُ ** وكلُّهنَّ في الجمال شَغْفرُ ) ( كأنّ الذي يَبْدُو لنا من لِثامِها ** جَحافلُ عَيرٍ أو مشافر فِيلِ ) (

شعر في الفيل
والفيل يوصف بالفَقَم ولذلك قال الأعرابيّ : ( قد قادني أصحبي المعمم ** ولم أكن أخدع فيما أعلم ) ( إذا صفق الباب العريض الأعظم ** وأدنى الفيل لنا وترجموا ) ( وقيل إن الفيل فيلٌ مرجم ** خبعثنٌ قد تم منه المحزم )

( أجرد أعلى الجسم منه أصحم ** يجر أرحاءً ثقالاً تحطم ) ( ما تحتها من قرضها وتهشم ** وحنكٌ حين يمد أفقم ) ( ومشفرٌ حين يمد سرطم ** يرده في الجوف حين يطعم ) ( لو كان عندي سببٌ أو سلم ** نجيت نفسي جاهداً لا أظلم ) وقال آخر : ( مَنْ يركبِ الفيلَ فهذا الفيلُ ** إنّ الذي يركَبُهُ محمولُ ) ( على تهاويلَ لها تهويلُ ** كالطَّودِ إلاَّ أنّهُ يجولُ ) وقال عمارة بن عقيل يضرب المثل بقوَّة الفيل : ( إذا أتانا أميرٌ لم يقلْ لهمُ ** هَيْداً وجالتْ بنا منه الأحابِيلُ )

( وعَضَّ مجهودنا الأقصَى وحَمَّله ** مِنَ المظالم ما لا يحمِلُ الفِيلُ ) )
وقال أبو دَهْبَلٍ يمدح أبا الفيل الأشعريّ : ( إنّ أبا الفيل لا تحصى فضائله ** قد عَمَّ بالعُرْفِ كلَّ العُجْمِ والعَربِ ) ونظر ابن شهلة المدينيّ إلى خُرطوم الفيل وإلى غُرموله فقال : ( ولم أرَ خُرطومَينِ في جسمِ واحدٍ ** قد اعتدَلاَ في مَشْرَبٍ ومَبالِ ) فقد غلِط لأنّ الفيلَ لا يشرَبُ بخرطومه ولكن به يُوصِلُ الماءَ إلى فمه فشبَّه غُرموله بالخرطوم وغُرموله يشبَّه بالجعْبة والقنْديل والبَرْبخ .
وقال المخبَّل في تعظيم شأن الفيل : ( أتهزأ منِّي أمُّ عمرة أنْ رأت ** نهاراً وليلاً بَلَّياني فأسْرَعَا ) ( فإن أكُ لاقيتُ الدَّهارِيسَ منهما ** فقد أفْنيا النُّعْمان قبلي وتُبَّعا ) ( ولا يلبثُ الدَّهرُ المفرِّق بَيْنَهُ ** على الفيل حتى يستدير فيُصْرَعا ) وقال مروان بن محمد وهو أبو الشَّمَقْمَق وحدّثني صديقٌ لي قال سألتُ أبا الشَّمقمقِ عن اسمه

( يا قوم إنَّي رأيتُ الفِيلَ بعدَكُم ** فبارَكَ اللّه لي في رُؤْيةِ الفيلِ ) ( رأيت بيتاً له شيءٌُ يحرّكه ** فكدتُ أصنعُ شيئاً في السراويلِ ) وقالت دودة لأمِّها : ( يا أمِّ إنّي رأيتُ الفِيلَ مِن كَثَبٍ ** لا بارَك اللّهُ لي في رؤية الفيلِ ) ( لمّا بصُرْت بأير الفِيل أذْهَلني ** عن الحميرِ وعن تلك الأباطيلِ ) (

خطبة بدوي فيها ذكر الفيل
وقال الأصمعي : جَنَى قومٌ من أهل اليمامة جناية فأرسل إليهم السُّلطانُ جنداً من بُخاريّةِ ابن زياد فقام رجلٌ من أهل البادية يُذمِّرُ أصحابَه فقال : يا معشَر العرب ويا بني المحصنات قاتِلُوا عَن أحسابكم ونِسائكم واللّه لَئنْ ظَهَرَ هؤلاء القومُ عليكم لا يَدَعُون بها لِينَةً حَمْراءَ ولا نخلةً خضراءَ إلاّ وضعُوها بالأرض ولا أغرُّكم مِن نُشّابٍ معهم في جِعاب كأنَّها أيور الفِيَلة يَنزِعُونَ في قسِيٍّ كأنَّها العَتَلُ

تئط إحداهُنّ أطِيطَ الزُّرنُوق يَمْغَطُُ أحدُهم فيها حتى يتفرّق شعرُ إبطَيْه ثم يُرْسِل نُشَّابةً كأنها رِشاءٌ منقطع فما بينَ أحَدِكم وبين أن تفضخ عينه أو يُصدَع قلبُه منزلةٌ .
قال : فخلَعَ قلوبَهم فطارُوا رُعْباً .
قالوا : الفِيَلة ضربانِ : فيلٌ وزندبيل وقد اختلفوا في أشعارهم وأخبارهم فبعضهم يقول كالبُخْت والعراب والجواميسِ والبقَر والبَراذين والخيل والفأر والجِرذان والذّرّ والنمل وبعضهم يقول : إنما ذهبوا إلى الذَّكَرِ والأُنثى .
قال خالدٌ ُ القَنَّاص وفي قصيدته تلك المزَاوَجةِ والمخمَّسة التي ذكر فيها الصَّيد فأطنَبَ فيها فقال حينَ صار إلى ذِكْر الفيل : ( ذاك الذي مِشفَرُهُ طويلُ ** وهو من الأَفيال زَنْدَبيلُ )

فذهب إلى العِظَم وقال الذَّكْواني : وفيلة كالطّوْدِ زندبيل وقال الآخر : مِن بين فِيلاتِ وزَنْدَبِيلِ فجعل الزَّنْدَبِيل هو الذكر وقال أبو اليقظان سحيمُ بنُ حفص : إنَّ الزَّنْدَبيلَ هو الأنثى فلم يقِفُوا مِن ذا على شيءٍ .
الجنّ والحن وبعض النّاس يقْسِم الجنَّ على قِسْمين فيقول : هم جِنّ وحِنّ ويجعل التي بالحاء أضعفَها وأما أبِيتُ أهْوِي في شَياطينَ تُرِنّ مختلفٍ نَجْرَاهُمُ جِنٌّ وحِنّ ففرق هذا بين الجنسين .
الناس والنسناس )

الناس والنسناس
وسمع بعضُ الجهَّال قولَ الحسن : ذهبَ النَّاسُ وَبَقِيتُ في النِّسناس فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ فجعَلَ النَّسناس جنساً على حِدَة وسمع آخرون هم أجهلُ من هؤلاء قولَ الكميت : نَسناسهم والنَّسانسا فزعموا أنّهمْ ثلاثةُ أجناسٍ : ناس ونَسْناس ونَسانِسُ هذا سوى القول في الشِّق وواق واق وذوال باي وفي العُدَار وفي أولاد السَّعالِي من الناس وفي غير ذلك مما ذكرناه في موضعه من ذكر الجنّ والإنس .
وقد علم أهلُ العقلِ أنّ النّسناس إنما وقَعَ على السِّفْلة والأوغاد والغَوْغاء كما سمَّوا الغوغاء الجراد إذا ألقى البيض وسخُف وخفّ وَطار . (

هياج الفيل
قال : وإذا اغْتَلمَ الفيلُ قَتَلَ الفِيَلَة والفيَّالين وكلََّ مَن لَقِيَه من سائر النَّاس ولم يقمْ له شيءٌ حتى لا يكونُ لسُوَّاسِه هَمٌّ إلاّ الهرَبُ وإلاّ الاحتيالُ لأنفسهم .


وتزعُم الفرُس أنّ فيلاً من فِيَلة كِسرى اغتلمَ فأقبَلَ نحو النَّاس فلم يقمْ له شيءٌ حتى دنا من مَجلس كِسرى فأقَشَعَ عنه جُندُه وأسلمتهُ صنائعهُ وقصد إلى كسرى ولم يبقَ معه إلاّ رجلٌ واحدٌ من فرسانِه كان أخصَّهم به حالاً وأرفعَهم مكاناً فلمّا رأى قُرْبَه من الملك شَدَّ عليه بِطَبْرَزِينٍ كان في يده فضرَبَ به جبهتَه ضربةً غابَ لها جميعُ الحديدة في جبهته فصدفَ عنها وارتدع وأبَى كِسرَى أن يزُولَ من مكانه فلمَّا أيقَنَ بالسَّلامة قال لذلك الرجل : ما أنا بما وَهَبَ اللّه لي من الحياةِ على يدك بأشدَّ سروراً منِّي بالذي رأيت من هذا الجلَد والوفاء والصَّبْر في رجل من صنائعي وحين لم تخطئْ فِرَاسَتي ولم يَفِلْ رأيي فهل رأيت أحداً قطُّ أشدَّ َّمنك قال : نعم قال : فحدِّثْني عنه قال : على أن تؤمِّنني فأمّنه فحدَّث عنبِْهرام جُوبين بحديثٍ شقَّ على الملك وكرِهَه إذ كان عدُوُّه على تلك الصّفة .


قال : إذا اغتَلمَ الفِيلُ وصَالَ وغَضبَ وخَمط خلاَّهُ الفيَّالون والرٍّ وَّاضُ فربًَّما عاد وحشيًّا . ( أهليُّ الفيلة ووحشيُّها ) والفيلة من الأجناس التي يكون فيها الأهليُّ والوحشيُّ كالسّنانير والظِّباء والحمير وما أشْبَهَ ذلك وأنشد الكِرمانيّ لشاعر المُولْتانِ قولَه : فكنتُ في طلبي مِنْ عندِه فرَجاً كراكب الفيل وَحْشِيّاً ومُغْتَلَمَا وهذه القصيدة هي التي يقول فيها : قد كنت صَعَّدْتُ عن بُغْبُورُ مغترِباً حتى لقيت بها حِلْفَ النَّدَى حَكَما ( قرَْمٌ كأنَّ ضياءَ الشَّمْس سُنَّتُه ** لو نَاطقَ الشَّمْس ألقَتْ نحوَه الكَلِما )

خصال كسرى وتقول الفُرْس : أُعْطِيَ كسرى أبْرَوِيزَ ثمان عشْرَةَ خَصْلةً لم يُعطها ملكٌ قطّ ولا يعطاها أحدٌ أبداً من ذلك أنّه اجتمَعَ له تِسْعُمائة وخمسون فيلاً وهذا شيءٌ لم يجتمعْ عندَ ملِك قطّ ومن ذلك أنّه أنْزَى الذُّكورة على الإناث وأنَّ فيلةً منها وضعَتْ عنده وهي لا تتلاقح بالعراق فكانت أوَّل فِيلةٍ بالعراق وآخر فيلةٍ تضع .
قالو : ولقي رُسْتَمُ الآزَريّ المسلمين يوم القادسيّة ومعه من الفيلة عشرون ومائة فيل وكنّ من بقايا فِيَلة كِسرى أبرويز .
قالوا : ومن خصاله أنّ النَّاس لم يَرَوْا قط أمَدَّ قامةً ولا أتمّ ألواحاً ولا أبرَعَ جمالاً منه فلما مات فرسُهُ الشَّبْدِيز كان لا يحمله إلاَّ فيلٌ من فِيَلته وكان يجمع وطاءةَ ظَهْر الفِيل وثَباتَ قوائمه ولِينَ مشيته وبُعْدَ خَطوه وكان ألطفَها بدَناً وأعدلها جسماً .

( أكثَر خلفاء المسلمين فيلة ) قالوا : ولم يجتمع لأحد من ملوك المسلمين مِن الفيَلة ما اجتمع عندَ أمير المؤمنين المنصور اجتمع عنده أربعون فيلاً فيها عشرون فحلاً . (

شرف الفيل
قالوا : والفِيل أشرَفُ مراكب الملوك وأكثرُها تصرُّفاً ولذلك سأل وَهْرَز الأسْوارُ عن صاحب الحبشة حين صافَّهم في الحرب فقيل له : ها هو ذاكَ على الفيل فقال : لا أرميه وهو على مركب الملوك ثم سأل عنه فقيل له : قد نزل عنه ورَكِبَ الفرَس قال : لا أرميه وهو على مركب الحُمَاةِ قيل : قد نزلَ عنه وركب الحمار قال : قد نزل عن مَرْكبِه لحمارٍ فدعَا بعِصابةٍ رَفَع بها حاجِبَيْه وكان قد أسنَّ حتى سقط جاجباه على عينيه ثم رماه فقتَله .
ذكاء الفيل
وكان سهلُ بنُ هارونَ يتعجَّبُ مِنْ نَظَر الفيلِ إلى الإنسان وإلى كلّ شيء يمرّ به وهو الذي ( ولمَّا رأيتُ الفيلَ ينظُرُ قاصداً ** ظننْتُ بأنّ الفيلَ يلزمُه الفرضُ )

قال أبو عثمان : وقد رأيتُ أنا في عَين الفِيل من صحّة الفَهْم والتأمُّلِ إذا نظَر بها وما شبهت نظرَه إلى الإنسان إلاّ بنظرِ ملكٍ عظيم الكِبْر راجح الحِلم وإذا أرْدتَ أن ترَى من الفيل ما يُضحِك وترَاهُ في أسخَف حالاته وأجهِلهِ فألق إليه جوزةً فإنَّه يريد أن يأخذ بطَرَف خُرطومِه فإذا دنا منها تنفَّسَ فإذا تنفَّس طارت الجَوزة من بين يديه ثم يدنو ثانيةً ليأخذَها فيتنفسُ أخرى فتبعد عنه فلا يزال ذلك دأبَه . (

فضله في الحرب
قالوا : ويفضُل الفيلُ الفرسَ في الحرب أنّ الفيل يحمِي الجماعة كلهم ويقاتل ويَرمي ويزجّ بالمزاريق وله من الهول ما ليس للفرسِ وهو أحسن مطاوعةً ولا يُعْرَفُ بجماح ولا طِماحٍ ولا حِران .
والخيولُ العِتاقُ ربَّما قتلَت الفُرسانَ بالحِران مَرَّةً وبالإقدام مَرَّة وبسُوء الطّاعة وشدّة الجزع وربّما شبَّ الفرسُ بفارسه حتى يلقِيَه بين الحوافر والسُّيوف للسَّهم يصيبه والحجرِ يقع به وما يشبه ظهرُ الفرسِ مِن ظهره وظهرُ الفيل منظرةٌ من المناظر ومَسْلَحَةٌ من المسالح .

عمر الفيل
وفي الفِيَلة عجبٌ آخرُ وذلك أنَّ قصَر الأعمارِ مقرونٌ بالإبل والبراذين وبكلِّ خَلقٍ عظيم وكلُّ شيء يعايشُ النَّاسَ في دُورهم وقُراهم ومَنازلهم فالناس أطولُ أعماراً منها كالجمل والفَرَس والبرذَوْن والبغل والحِمار والثّوْر والشَّاة والكلْب والدَّجاج وكلِّ صغيرٍ وكبيرٍ إلا الفيل فإنّه أطولُ عمراً .
والفيلُ أعظم من جميع الحيوان جسماً وأكثرُ أكلاً وهو يعيشُ مائة السنة ومائتي السَّنة .
وزعم صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان أنّه قد ظهَرَ فيلٌ عاش أربعمائةِ سنة فالفيل في هذا الوجه يشارك الضِّباب والحيَّات والنُّسُور وإذا كان كذلك فهو فوقَ الوَرَشان وعَيْر العانة وهو من المعمَّرين وفوق المعمَّرين وهو مع ذلك أعظم الحيوان بدناً وأطولُها عمراً . (

الأسد والفيل
وقال بعض من يستفهم ويحب التَّعلمَ : ما بال الأسد إذا رأى الفيلَ عَلِم أنَّه طعام له وإذا رأى النَّمر والبَبْر لم يكونا عنده كذلك وكيف وهو

أعظمُ وأَضخَم وأشْنَع وأهول فإن كانَ الأسدُ إنما اجترأ عليه لأنّه من لحمٍ ودمٍ واللّحْمُ طعامُه والدَّم شرابُه فالببر والنَّمر من لحمٍ ودم وهما أقلُّ من هؤلاء وأقمأ جسماً .
قال القوم : ومَتَى قَدّرَ الأسدُ في الفيل أنه إذا قاتله غلبه وإذا غلبه قتَله وإذا قتلَه أَكلَه وقد نَجِدُ الببْرَ فوقَ الأسد وهو لا يعْرِض له والأسد فوق الكلب وهو يشتهي لحمه ويشتهي لحم الفهد بأكثر ممّا يشتهي لحمَ الضّبع والذئب وليست علَّته المواثبة التي ذهبتم إليها .
معرفة الحيوان فأمَّا عِلْم جميعِ الحيوان بمواضع ما يُعيشها فَمنْ علّم البعوضة أنّ مِن وراء ظاهرِ جلد الجاموس دَماً وإنّ ذلك الدمَ غذاءٌ لها وأنّها مَتَى طعَنتْ في ذلك الجلدِ الغليظ الشَّثْن الشديد الصُّلبِ أن خرطومَها ينفذ فيه على غير مُعاناة .
ولو أن رجلاً منَّا طعنَ جلدَه بشوكةٍ لانكسرت الشَّوكةُ قبل أن تصل إلى موضع الدم وهذا بابٌ يُدْرَك بالحسِّ وبالطبع وبالشبه وبالخِلْقة والذي سخّر لخرطوم البَعوضِة جلدَ الجاموس هو الذي سخَّر الصخرةَ لذنَب الجرادة وهو الذي سخَّر قمقُمَ النُّحاس لإبرة العقرب .

علة عدم تلاقح الفيلة بالعراق
وقال بعض خصماء الهند : لو كانت الفِيَلة لا تتلاقَحُ عندنا بالعِراق لأنها هنديَّة لتغيّر الهواءِ والأرض فعَقَر ذلك أرحامَها وأعْقَمَ أصلابها لكان ينبغي للطواويس أن لا تتزاوج عندنا ولا تبيض ولا تُفرخَ ونحن قد نَصيد البلابِل والدباسيّ والوراشين والفواخت والقمارى والقَبَجَ والدُّرَّاج فلا تتسافَدُ عندنا في البيوت وهي من أطيار بساتيننا وضياعنا ولا تتلاقَحُ إذا اصطَدْناها كرارزة بل لا تصوِّت ولا تغنِّي ولا تَنُوح وتبقى عندَنا وحشيّةً كمِدةً ما عاشت فإن أخذْناها فراخاً زاوَجتَ وعَشَّشت وباضت وفرّخت فلعلَّكم أن تكونوا لو أهديتم إلينا أولادَها صغاراً فنشأت عندنا وذهب عنها وحشة الخلاء وجدَتْ أُنسَ الأهليّ فإنَّ الوحشة هي التي أكْمَدَتْها ونقضَتْ قوّتَها وأفنت شهْوَتَها .
وفاء الشفنين
وقد نجِد الشِّفْنينَ الذَّكر تهلِكُ أنثاه فلا يُزاوِج غيرَها أبداً في بلادها كان ذلك أو في غير بلادها ونحن لو جِئْنا بالأُسد والذِّئاب والنُّمور والبُبُور فأقامَتْ عِندنا الدَّهرَ الطَّويل لم تتلاقح قصة الذئب والأعرابي وقد أصاب أعرابيٌّ جروَ ذئبٍ فرّباه ورجَا حراستَه وأن يألفَه فيكونَ خيراً له من الكلب فلما قوِيَ وثب على شاةٍ له فأكلها فقال الأعرابي : ( أكلْتَ شُوَيْهَتي ورَبِيتَ فينا ** فما أدراك أنَّ أباكَ ذيبُ ) وقد تتسافد عندنا حمير الوحش وقد تلاقحتْ عندَ بعض الملوك .
تلاقح الظباء في البيوت وكان جعفُر بنُ سليمانَ أحضَرَ على مائدته بالبَصرة يوم زارَهُ الرّشيدُ ألبانَ الظِّباء وزُبْدَها وسِلاها ولبَأها فاستطاب الرشيدُ جميعَ طعومِها

فسأل عن ذلك وغمَزَ جعفرٌ بعضَ الغِلمان فأطَلقَ عن الظّباء ومَعَها خشْفانُها وعليها شُمُلها حتى مَرّتْ في عَرْصةٍ تُجاهَ عينِ الرَّشيد فلما رآها على تلك الحال وهي مقرَّطة مخضّبة استخفَّه الفرح والتعجُّب حتى قال : ما هذه الألبان وما هذه السُّمْنان واللِّبأ والرَّائب والزُّبد الذي بينَ أيدينا قال : مِن حَلَبِ هذه الظّباء أُلِّفَتْ وهي خشْفانٌ فتلاقحتْ وتلاحقت .
استنتاج الذئاب والأسد بالعراق )
ولو أطلقوا الذِّئابَ والأُسْد في مرْوجِ العراق وأقاموا لها حاجاتها لتسافدَتْ وتلاقحت فلعلَّهم لو تقدَّموا في اصطناع أولاد الفِيَلة واقتنائها صغاراً أن تأنس حتى تتسافد وتتلاقح وقد زعمتم أنَّ كسرى أبرويز استنْتج دَغْفلاً واحداً .


احتجاج الهندي قال الهندي : تكفِينا هذه الحُجَّة وهي بيننا وبينكم أوَ ليس قد جَهد في ذلك جميعُ الملوك من جميع الأمم في قديم الدهر فلم يستنتجوا إلا واحداً وعلى أنَّ هذه الأحاديثَ من أحاديث الفُرْس وهم أصحاب نَفْجٍ وتزيد ولا سيَّما في كلِّ شيء مما يدخل في باب العصبيَّة ويزيد في أقدار الأكاسرة وإن كانوا كذلك فهم أظنَّاء والمتهم لا شهادة له ولكن هل رأيتم قطُّ هندياً أقرَّ بذلك أو هل أقرَّت بقايا سائر الأمم للفرسِ بهذا الأمر للفيلِ المعروفِ بهذا الاسم .
استطراد لغوي ويقال رجل فيلٌ إذا كان في رأيهِ فِيَالة والفِيالة الخطأ والفساد وهم يسمُّون الرَّجل بفيل منهم فيلٌ مولى زياد ويكنون بأبي الفيل منهم أبو الفِيل الأشعريّ الذي امتدحه أبو دَهْبَل .
وقال : الرَّاجز غَيْلان

يقال له راكبُ الفِيل : ومنهم عَنْبَسة الفيل وكذلك يقال لابنه مَعدان وله حديث وقال الفرزدق : ( لقد كان في مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ ** لعَنْبسةَ الرّاوي عليَّ القصائدا ) وقال الأصمعيّ : إذا كان الرجلُ نبيلاً جباناً قِيلَ هذا فِيلٌ وأنشد : ( يقولون للفِيلِ الجبان كأنّه ** أَزَبُّ خَصِيٌّ نَفَّرَتْهُ القَعاقِعُ ) وقال سلمة بن عَيَّاش : قال لي رؤبة : ما كنتُ أُحِبُّ أَنْ أرَى في رأيك فيالة .
ويقول الرَّجل ُ لصاحبه : لم يَفِلْ رأيُك وهو رأيٌ فائل ورجلٌ فِيل وبالكوفة بابُ الفيل ودار ( لَعمْرُ أبيكَ ما حمّامُ كِسرَى ** على الثلثينِ من حمَّام فيلِ ) وقال الجارود بن أبي سبرة : ( وما إرْقاصُنا خَلْفَ المَوَالي ** كسنَّتنا على عهد الرّسولِ ) وأبو الفيل محمد بن إبراهيم الرافقي كان فارس أهل العراق .
وفِيلُويه السّقطي هو الذي كان يُجري لأمّه كلَّ أضْحى درهماً فحدثتني امرأة قالت قلتُ لأمّ فِيلُويَهْ : أو ما كان يجري فِيلويَه في كلِّ أضْحَى إلا درهماً قالت : إي واللّه وربَّما أدخل أضْحى )
في أَضحى .

مثالب الفيل
وقال بعضُ من يخالف الهند : الفيل لا يُنْتَفع بلحمه ولا بلبَنه ولا بسمْنِه ولا يزبده ولا بشَعره ولا بوبَره ولا بصوفه عظيم المؤُونة في النفقَة شديد التَّشزُّن على الرُّوَّاض وإن اغتلم لم تفِ جميعُ منافعه في جميع دهرِهِ بمضرَّة ساعة واحدة وهو مرتفعٌ في الثمن وإن أخطؤوا في تدبير مَطَمِه وَمَشربه وتعلُّمه وتلقنه هلَكَ سريعاً ولا يتصرَّف كتصرُّف الدّوابّ ولا يُركب في الحوائج والأسواق وفي الجنائز والزِّيارات ولو أنّ إنساناً عادَ مريضاً أو اتَّبع جنازة على فيل لصارَ شهرةً
رؤيا الفيل
وسئِل ابن سِيرينَ عن رجلٍ رأى فيما يَرَى النَّائم كأنه راكبٌ على فيل فقال : أَمرٌ جسيمٌ لا منفعة له .
قالوا : وقال رجلٌ للحجَّاج بن يوسف : رأيت في المنام رجلاً مِن عُمَّالك قدَّمَ فيلاً فضربَ عُنقَه فقال : إن صدقَتْ رؤْياك هلك دَاهَر بن بصبهرى .
حكم أكل لحمه
وسئل الشَّعبيُّ عن أكل لحمِ الفيل فقال : ليس هو من بهيمة الأنعام .
خرطوم الفيل
وخرطومُه الذي هو سلاحُه والذي به يبطِشُ وبه يعيش مِنْ مَقاتلِه .
وقال زَهْرة بن جُؤيَّة يوم القادسية : أمَّا لهذه الدابة مقتل قالوا : بلَى خُرطومه فشدَّ عليهم حتى خالَطهم ودنا من الفيل فحمَلَ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه فضَرَبَ خرطومَه فبَرَك وأدبر القوم .
بعض صفة الفيل
قال : والفيل أفقَمُ قصير العنق مقلوبُ اللسان مشوَّه الخَلْق فاحش القُبْح ولم يفْلِحْ ذو أربعٍ قطُّ قصير العُنق في طلبٍ ولا هرب ولولا أنّ مسلوخَ النَّور يجول في إهابه ولولا سعته وغَبَبُه لما خَطَا

مع قصَر عنقه ولذلك قال الأعرابي : ومن جَعَل الأوْقَص كالأعْنق والمطبّق كالضابع وقال الشَّاعر في غَبَبِ الثَّور وهو إسحاق بن حسان الخرَيميّ : ( وأغلبَ فضفاض جلد اللَّبَانِ ** يُدافع غَبْغَبَه بالوظِيفِ ) وليس يُؤتى البَعيرُ في حُضره مع طول عنقه إلاَّ من ضِيق جلْده والفيلُ ضئيل الصَّوت وذلك من أشدِّ عيوبه والفيل إذا بلغَ في الغلمة أشدَّ المبالغ أشبَهَ الجملَ في ترْك الماءِ والعَلف حتى تنضمّ أيْطلاه ويتورَّم رأسه وقد وصف الرّاجزُ الجملَ الهائج فقال : ( سامٍ كأنّ رأسَه فيه وَرَمْ ** إذْ ضَمَّ إطْليْهِ هَياجٌ وقَطَمْ ) وآضَ بعد البُدْنِ ذَا لحمٍ زِيَمْ

ولو لم يكنْ في الفِيَلة من العيب إلا أن عِدةَ أيام حملها كعمر بعض البهائم لكان ذلك عيباً وقد ترك أهلُ المدينة غِراسَ العَجْوة لمَّا كانت لا تطعِمُ إلاّ بعد أربعين سنة . (

قدرته على حمل الأثقال
قال : وليس شيءٌ يحمل من عدد الأرطال ما يحمل الفِيلُ لأنّ الذي يفضُل فيما بين حِمْل الفيل وحِمْل البُخْتيّ أكثرُ مِن قَدرِ ما يفضل بين جسم الفيل على جسم البُخْتي .
وقد قال الأعرابيُّ الذي أُدخل على كِسرى ليعْجب من جفائه وجهله حين قال له : أيُّ شيء أبعَدُ صوتاً قال : الجمل قال : فأيُّ شيءٍ أطيَبُ لحماً قال : الجمل قال : فأيُّ شيء أنهض بالحِمْل قال : الجمل قال كسرى : كيف يكون الجملُ أبعَدَ صوتاً ونحن نسمَعُ صوتَ الكُركيِّ من كذا وكذا ميلاً قال الأعرابي : ضَعِ الكرْكيَّ في مكان الجمل وضَعِ الجملَ في مكان الكُركيّ حتى يُعرفَ أيُّهما أبعَدُ صوتاً قال : وكيف يكون لحمُ الجملِ أطيبَ من لحم البطّ والدّجاج والفِراخ

والدُّرَّاج والنَّوَاهِض والجِداء قال الأعرابيّ : يُطبَخ لحمُ الدَّجاج بماء ومِلح ويُطبخ لحم الجملِ بماء وملح حتى يُعرَف فَضْل ما بين اللّحمَين قال كِسرى : فكيف تزعُم أنّ الجملَ أحْمَلُ للثِّقْل من الفيل والفيلُ يحمل كذا وكذا رطلاً قال الأعرابيّ : ليبركِ الفِيلُ ويَبركِ الجمل وليُحمَل على الفيل حِمْل الْجمل فإنْ نهض به فهو أحمَلُ للأثقال .
قال القوم : ليس في استطاعة الْجمال النهوضَ بالأحمال ما يوجب لها فضيلةً على حَمْل ما هو أثقل ولعمري إنَّ للجمل بِلينِ أرساغه وطُول عنقِه لفضيلةً في النُّهوض بعد البروك فأمَّا نفس الثقل فالذي بَينهما أكثر من أن يقع بينهما الخيار . (

مناقب الفيل
فأمَّا باب الحَمدِ فقد حُدِّثنا عن شَرِيكٍ عن جَابر الجُعْفي قال : رأيت الشعبيَّ خارجاً فقلت له : إلى أَينَ قال : أَنظُرُ إلى الفيل .
قال : وسألتُ أبا عبيدةَ فقلتُ : ما لونُ الفيل قال : جَوْن .
ما يحث به الفيل
ومن أعاجيب الفيل أن سَوطه الذي به يُحَثُّ ويصَرَّف مِحجَنُ حديدٍ طرفُه في جبهته والطَّرَف الآخَر في يد راكبه فإِذا راد منه شيئاً غمَزَ تلك الحديدة في لحمه على قَدْر إرادته لوجوهِ التصرُّف .
قصة الفيل
وقد ذكر ذلك أبو قيس بن الأسلت في الجاهليَّة وهذا الشِّعر حجَّة في صَرْفِ اللّه الفيلَ والطَّيرَ الأبابيل وصدِّ أبي يَكسوم عن البيت وسنذكر من ذلك طرفاً إن شاء اللّه تعالى قال أبو قيس : ( ومِن صُنْعِه يومُ فِيل الحُبو ** شِ إذْ كلّما بَعثُوه رَزَمْ ) ( محاجِنُهم تحتَ أقرابهِ ** وقد كَلَمُوا أنفه فانْخَرَمْ ) ( فأرسَلَ من فوقهم حاصِباً ** يلفُّهم مثلَ لَفِّ القَزَمْ )

وقال أيضاً صَيْفيُّ بنُ عامر وهو أبو قيس بن الأسلت وهو رجلٌ يمان من أهل يثْرب وليس بمكيّ ولا تَهامٍ ولا قُرَشِيّ ولا حَليفِ قرشيّ وهو جاهليّ : ( قوموا فصلوا ربكم وتعوذوا ** بأركان هذا البيت بين الأخاشب ) ( فعندكم منه بلاءٌ مصدقٌ ** غداة أبي يكسوم هادي الكتائب ) ( فلما أجازوا بطن نعمان ردهم ** جنود الإله بين سافٍ وحاصبٍ ) ( فولوا سراعاً نادمين ولم يوب ** إلى أهله ملحبش غير عصائب ) ويدلُّ على صحَّة هذا الخبرِ قول طُفيل الغَنَوِيّ وهو جاهليّ وهذه الأشعارُ صحيحةٌ معروفةٌ لا يرتاب بها أحدٌ من الرُّواة وإنما قال ذلك طُفيلٌ لأنَّ غَنِيّاً كانت تنزل تِهامة فأخرجتها كِنانةُ فيمن أخرجَتْ فهو قوله : ( تَرْعَى مَذَانِبَ وَسْمِيٍّ أطاعَ له ** بالجِزْعِ حيثُ عَصَى أصحابَه الفِيلُ )

قال أبو الصَّلت واسمه ربيعة وهو أبو أميَّة بن أبي الصَّلت وهو ثَقَفِيّ طائفيّ وهو جاهليٌّ )
وثقيفٌ يومئذ أضداد بالبلدة وبالمال وبالحدائق والجِنان ولهم اللاتُ والغَبْغَب وبيتٌ له سَدَنة يضاهِئُون بذلك قريشاً فقال مع اجتماع هذه الأسباب التي توجب الحسدَ والمنافسة : ( حَبسَ الفِيلَ بالمغمَّس حَتَّى ** ظَلَّ يَحْبُو كأنَّه مَعْقورُ ) ( واضعاً حَلْقَةَ الجِرَانِ كما قُطِّ ** رَ صخرٌ من كَبْكَبٍ محدُورُ ) وقال بعضهم لأبْرَهَةَ الأشرم : ( أينَ المفرُّ والإله الطالبْ ** والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب ) وقال عبد المطَّلب يوم الفيل وهو على حِراء : ( لاهُمّ إنَّ المرءَ يم ** نَعُ رَحْلَه فامْنَعْ حِلالَكْ )

( لا يغلبَنَّ صليبُهُمْ ** وَمِحَالُهُمْ أَبَداً مِحالَكْ ) ( إنْ كنتَ تاركَهُمْ وَقِبْ ** لَتَنا فأمْرٌ ما بَدَا لَكْ ) وقال نُفَيْل بن حَبيب الخثعميّ وهو جاهليٌّ شهِدَ الفيلَ وصُنْعَ اللّهِ في ذلك اليوم : ( ألاَ رُدِّي جِمالَكِ يا رُدَيْنَا ** نَعِمْنَاكُم مع الإصْباحِ عَيْنَا ) ( فإنَّكِ لو رأيتِ وَلَنْ ترَيْهِ ** لدى جنْبِ المحصَّبِ ما رأَيْنَا ) ( أكلُّ الناس يَسْأَلَ عن نُفيل ** كأنّ عَلَيَّ للحُبْشَانِ دَيْنَا ) ( حَمِدْتُ اللّهَ أَنْ عاينْتُ طيراً ** وحَصْبَ حجارة تُلْقَى علينا ) وقال المغيرة بنُ عبدِ اللّه المخروميّ : مُحْتَبَسٌ تزهَقُ فيه الأنفُسْ قال اللّه تبارك وتعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ ربُّكَ بِأَصْحَاب الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكَولٍ وأنزل هذه السورةَ وقريشٌ يومئذٍ مُجْلبون في الردِّ على النبي صلى الله عليه وسلم وما شيءٌ

أحبّ إليهم مِن أن يَرَوْا له سَقطةً أو عَثْرَةً أو كِذْبة أو بعضَ ما يتعلَّق به مثلُهم فلولا أنّه كان أذكَرَهُم أمراً لا يتدافعونه ولا يستطيع العدوُّ إنكارَه لِلذي يُرى من إطباق الجميع عليه لوجدوا أكبرَ المقال فهذا بابٌ يكثُر الكلام فيه وقد أَتينا عليه في كتاب الحُجَّة .
وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ مثل قوله : أَلَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وقال : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وهذا كلُّه ليس من رؤية )
العين لنا .
استطراد لغوي وباب آخَرُ من هذا وهو قوله : وَتَرَاهُمْ يَنْظرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ويقول الرجُل : رأيتُ الرجلَ قال كذا وكذا وسمعتُ اللّه قال كذا وفلانٌ يرى السّيف وفلان يرَى رأيَ أبي حنيفة وقد رأيت عَقْلَهُ حسناً وقال ابن مُقبل :

وإذا قابل الجبلُ الجبلَ فهو يراهُ إذْ قام منه مقام الناظر الذي ينظر إليه .
وتقول العرب : دارُ فلانٍ تَنْظر إلى دار فلان ودُورُ بني فلان تتناظر .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : أنا بريءُ من كلّ مسلمٍ مع مشرك قيل : ولم يا رسول اللّه قال : لا تتراءى ناراهما .
ويقولون : إذا استقمت تلقاءَ وجهك فنظَرَ إليك الجبلُ فَخُذْ عن يمينك وقال الكميت : ( وفي ضِبْنِ حِقفٍ يَرَى حِقْفَهُ ** خَطافِ وسَرْحَةُ والأحْدَلُ ) (

جسامة الفيل
قال أبو عثمان : خرجتُ يومَ عيدٍ فلما صِرت بعيساباذ إذَا أنا بتَلٍّ مُجَلَّلٍ بقطوع ومقطَّعات وإذا رِجالٌ جلوسٌ عليهم أسلحَتُهم

فسألتُ بعضَ مَن يشهَدُ العِيد فقلتُ : ما بال هذه المَسْلَحةِ في هذا المكان وقد أحاطَ النّاس بذلك التَّلِّ فقال لي : هذا الفيلُ فقصدتُ نحوَه وما لي هَمٌّ إلاّ النّظرُ إلى أذنيه فرجعتُ عنه بعد طول تأمُّل وأنا أتوهّم عامَّة أعضائه بل جميعَ أعضائه إلاّ أذنَيه وما كانت لي في ذلك عِلَّةٌ إلاَّ شَغْلَ قلبي بكلِّ شيءٍ هجمتُ عليه منه وكلُّه كان شاغلاً لي عن أذنه التي إليها كان قَصْدي فذاكرتُ في ذلك سَهل بنَ هارون فذكر لي أنَّه ابتُلِيَ بمثلها ( أتيتُ الفيل محتسِباً بقَصْدي ** لأُبصِرَ أُذنَه وَيطولَ فِكْرِي ) ( فلم أرَ أذْنَه ورأيتُ خَلْقاً ** يقرِّب بين نِسياني وذِكرِي ) أعجب الأشياء قال : وقال رجلٌ مرَّة : أخزى اللّه الفيل فما أقبحه فقال بكر بن عبد اللّه المزَنيّ : لا تشتم شيئاً جعله اللّه آيةً في الجاهليّة وإرهاصاً للنبوَّة .
وقال سعدان الأعمَى النحوي : قلتُ للأصمعيّ : أيُّ شيءٍ رأيت أعجبُ قال : الفيل .


وقيل لابن الجهم : أيُّ أمورِ الدنيا أعجب قالَ : الشمّ . )
وقيل لإبراهيم النظّام : أيُّ أمور الدُّنيا أعجب قال : الرُّوح .
وقيل لأبي عقيل بن دُرُسْت : أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب قال : النَّوْم واليقَظة .
وقيل لأبي شمر : أيُّ أمورِ الدُّنيا أعجب قال : النِّسْيان والذِّكر .
وقيل لسلم الخلاَّل : أيُّ أمور الدُّنيا أعجب قال : النار .
وقيل لبَطْلَيْمُوس : أيُّ أمور الدنيا أعجب قال : بَدَنُ الفلك وقال مرَّة أخرى : الضِّياء .
وقيل لأبي عليٍّ عمرُ بن فائدٍ الأُسْواريّ : أيّ شيءٍ ممّا رأيت أعجب قال : الآجال والأرزاق وكان إبراهيم بن سيَّارٍ النَّظامُ شديدَ التعجُّب من الفيل .


قول الخضر في بعض الدواب أبو عقيل السّوّاق عن مُقاتل بن سليمان قال : قال مُوسى للخضر : أي الدوابِّ أحبُّ إليك وأَيُّها أبغَض قال : أُحِبُّ الفرسَ والحمارَ والبعيرَ لأنّها من مراكب الأنبياء وأُبغِض الفيل والجاموسُ والثَّور .
فأمّا البعير فمركب هُودٍ وصالحٍ وشعيب والنبيِّين عليهم السلام وأما الفرَس فمركب أُولِي العزْم من الرُّسل وكلِّ من أمرَهُ اللّه بحمل السِّلاح وقتالِ الكفَّار وأمّا الحِمار فمركب عيسى بنِ مَريم وعُزَير وبَلعَم وكيف لا أحبُّ شيئاً أحياه اللّه بعدَ موته قبل الحشْر .
قال : ولمّا نظر الفضلُ بن عيسى الرَّقاشيُّ إلى سَلْم بن قُتيبة على حمارٍ يريد المسجد قال : قِعْدة نَبِيٍّ وبِذْلة جَبّار .
وأبغض الفيل لأنَّه أبو الخنزير وأبغض الثَّور لأنّه يشبه الجاموس وأبغض الجاموسَ لأنّه يشبه الفيل .
وأنشدني في هذا المعنى جَعفرٌ ابنُ أختِ واصل في منزل الفضل بن عاصم الباخَرزيّ :

( ما أبغض الخضر فيلاً منذ كان ولا ** أحب عيراً وذا كم غاية الكذب ) ( وكيف يبغض شيئاً فيه معتبرٌ ** وكان في الفلك فراجاً من الكرب ) ( ولو تتوجَ فينا واحدٌ فرأى ** زيّ الملوكِ لقد أوفى على الركبِ ) ( يغضى ويركعُ تعظيماً لهيبته ** وليس يعدِ له النشوانُ في الطربِ ) ( وليس يجذل إلا كلُّ ذي فخرٍ ** حرٍ ومنبته من خالص الذهبِ ) ( مثل الزنوج فإنّ الله فضَّلهم ** بالجود والتًّطويل في الخطب ) )
قال : أنشدنيها يونس لابن رباح الشارزنجيّ فمدَحَ الفيل كما ترى بالطَّرب والحِكاية وأنّه قد أُدِّب وعُلِّم السجودَ للملوك . (

سجود الفيل للملك
وزعموا أنّ أَوَّلَ شيءٍ يؤدّبونَه بهِ السجُودُ للملك قالوا : خرج كِسرى أبرويز ذات يومٍ لبعض الأعياد وقد صَفّوا له ألفَ

فيل وقد أحدق به وبها ثلاثونَ ألفَ فارِس فلما بصُرَتْ به الفِيَلةُ سجدتْ له فما رفَعَتْ رأسَها حتى جُذِبَت بالمحاجن وراطَنَها الفيَّالون .
وقد شهد ذلك المشهد جميعُ أصناف الدوابِّ : الخيلُ فما دونها وليس فيها شيءٌ يفصِل بين الملوكِ والرعيَّة فلما رأى ذلك كسرى قال : ليت أنّ الفيلَ كان فارسيّاً ولم يكن هنديّاً انظُروا إليها وإلى سائر الدوابّ وفضِّلوها بقدر ما ترَون من فَهْمها وأدبها .
وأما ما ذَكَرَ بهِ الزِّنجَ من طول الخُطب فكذلك همْ في بلادهم وعند نوائبهم ولكنَّ معانيهم لا ترتفع عن أقدار الدوابِّ إلاّ بما لا يذكر . (

ما قيل في تعظيم شأن الفيل
وأنشدوا في تعظيم شأن الفيل وصحة نظره وجَودة تحديقه وتأمُّله وسكونِ طرْفه والشّعر لبعض المتكلّمين : ( إذا ما رأيت الفيل ينظر قاصداً ** ظننت بأنّ الفيلَ يلزمُه الفَرْضُ ) وقد قيل إن الشِّعر لسهل بن هارون .


مثَل النون والضب وقال عبد الأعلى القاصّ : يقال في المثل : إنّ النون قال للضبّ حينَ رأى إنساناً في الأرض : إني قد رأيتُ عجباً قال : وما هو قال : رأيتُ خَلْقاً يمشي على رجليه ويتناول الطعام بيديه فَيُهْوِي به إلى فيه قال : إنْ كان ما تقولُ حَقاً فإنّه سيُخرجُني من قعر البحر ويُنزِلُك من وَكْرك من رأس الجبل . (

تناول الفيل والقرد طعامه
والفيل أعجَبُ منه لأنَّ يده أنفُه وأيدي البهائمِ والسِّباع على حال عاملة شيئاً والقِردُ يأكل بيديه وَيَنْقِي الجَوزة ويتفلَّى ويَفْلِي أُنثاه وليس شيءٌ يكرَع بأنفه ويُوصِلُ الطعامَ إلى فيه بأنفه غير الفيل .
إطعام الدب ولدها والدب الأنثى تُقيم أولادَها تحت شَجرةِ الجوز ثم تصعَد الشّجرة فتجمَع الجوز في كفِّها ثم تضرب باليمنى على اليسرى فتحطم ذلك الجوز فترمي به إلى أولادها فلا تزال كذلك حتى إذا شبعْنَ نزلَتْ .


وربّما قطع الدّبُّ من الشجرة الغُصْن العَبْل الضّخمَ الذي لا يقطعه صاحب الفأس إلاّ بالجهد الشديد ثم يشدّ به على الفارس قابضاً عليه في موضع مقبض العصا فلا يصيبُ شيئاً إلاّ هَتَكه . (

قلة تصرف يدي الفيل
قال صاحب المنطق : ليس شيءٌ من ذوات الأربع إلاّ وتصرُّف يديهِ في الجهات أقلُّ من تصَرُّف يَدَي الفيل .
وقال أبو عثمان : ويوصف جِلدُ الفيل وجلدُ الجاموس بالقوَّة قال جميل : ( إذا ما علَتْ نَشْزاً تمدُّ زِمامَها ** كما امتدّ نِهيُ الأصْلَفِ المترقرقِ ) ( وما يبتغِي مِنِّي العُداةُ تفاقدوا ** ومِن جِلدِ جاموسٍ سمين مطرَّقِ ) ( وأبيضَ مِن ماءِ الحديدِ اصطفيتُه ** له بعد إخلاص الضريبة رَوْنَقُ )

شعر فيه ذكر الفيل وقال كعبُ بن زهير في اعتذارِهِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( لقد أقومُ مقاماً لو يقوم به ** أَرى وأسمعُ ما لوْ يَسْمَعُ الفيلُ ) ( لظَلَّ يُرعَدُ إلاّ أن يكون له ** مِنْ الرَّسولِ بأمر اللّه تنويلُ ) وذكر أمية بن أبي الصلت سفينةَ نوح فقال : ( تصرخ الطَّيرُ والبريَّة فيها ** مَعْ قويِّ السِّباعِ والأفيالِ ) ( حينَ فيها من كلِّ ما عاشَ زوجٌ ** بين ظَهرَيْ غواربٍ كالجبالِ ) )
وقال أميَّة أيضاً : ( خَلَقَ النَّحْل مُعْصِرَاتٍ تَرَاها ** تَعْصِف اليابسات والمخْضُورا ) ( والتماسيحِ والثيَاتِل والأيِّ ** لَ شَتَّى والرِّيمَ واليعفورا )

( وأسوداً عوادِياً وفيولاً ** وسِباعاً والنّمرَ والخِنزيرا ) (

طيب عرق الفيل
وتزعم الهند أنّ جبهة الفيل في بعض الزمان تَعرق عرَقاً غليظاً غيرَ سائل يكون أطيبَ رائحة من المِسْك وهذا شيءٌ يعتريه كلَّ عامٍ وموضعُ ذلك الينبوعِ في جَبْهته .
فأرة المسك والإبل والنّاسُ يجِدُون رِيحَ المسك في بيوتهم في بعض الأحايين وهي ريح فارةٍ يقال لها فارة المِسْك والذي يكون في ناحية خراسان الذي له فأر المسك ليسَ بالفأر وهو بالخِشْف حين تضَعُه الظّبيةُ أشبَه .
وتقول العرب في فارةِ الإبلِ صادرةً : إنَّ أرَجَ ذلك العرقِ أطيبُ من المسك الأذْفَر في ذلك الزمان وفي ذلك الوقت من اللّيل والنهار .
قال الراعي : ( لها فارةٌ ذَفْرَاءُ كلَّ عشِيَّةٍ ** كمَا فَتَقَ الكافورَ بالمسكِ فاتقُهْ ) قال الأصمعيّ قلت لأبي مهدية أو قيل لأبي مهدية : كيف تقول لا طِيب إلا المسك قال : فأين أنت من البان قال : فقيل له :

فقل : لا طيب إلا المسك والبان قال : فأين أنت عن أدهانٍ بحَجْر قالوا له : فقل : لا طيبَ إلاَّ المسك والبانُ وأدهانٌ بحَجْر قال : فأين أنتم عن فارة الإبل صادرة .
قالوا : وربّما وجَدَ النّاسُ في بيوتهم الجُرذَ يضرب إلى السَّوَاد يجدونَ من بدَنه إذا عَدا إلى جُحْره رائحةً تشبه رائحةَ المسك وبعضُ النّاس يزعم أنّ هذا الجنسَ هو الذي يَخْبأ الدَّنانير والدراهمَ والحُليّ كما يصنع العَقْعق والغُرَابُ .
وهذا الجرذُ غير فارة المسك التي تكون بخُراسان وتلك بالخِشْف الصَّغير أشبه وإنما يأخذون سُرَّتَه وهي ملأى من دمٍ عَبيط . (

الآية في الفيل
قالوا : وقد جعل اللّه الفيلَ من أكبر الآيات وأعظمِ البُرْهانات للبيت الحرام ولِقبْلة الإسلام وتأسيساً لنبوَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه ولما أجْرَى من ذلك على يَدَي جدِّه عبد المطلب حين غدَت الحبشةُ لِتهدمَ البيتَ الحرام وتُذِلَّ العرب فلم يذكر اللّهُ منهم ملِكاً ولا سُوقةً باسمٍ ولا نَسب ولا لقب وذكرَ الفيلَ باسمه المعروف وأضاف السورةَ التي ذكر فيها الفيل إلى الفيل وجعل فيه من الآية أنهم

كانوا إذا قصَدُوا به نحوَ البيت تَعَاصَى وبَرَك وإذا خلَّوه وسَوْمَه صَدَّ عنه وصَدَف وفي أضعاف ذلك التقَمَ أذنَه نُفيل بن حَبِيب وقال : ابرُكْ محمود وكان ذلك اسمَه .
الطعن في قصة الفيل وقد طعن في ذلك ناسٌ فقالوا : قد يستقيم أن ينصرف عنه وَيحْرِدَ دونَه كلّ ذلك بتصريف اللّه له وكيف يجوز أن يَفْهَمَ كلامَ العرب ويعرفَ معنى قول نُفيل فإن قلتم : قد يفهم الفيل عن الفَيّال جميعَ الأدب والتقويم وجميعَ ما يريد منه عند الحَطِّ والرَّحيل والمُقام والمسير قلنا : قد يَفهم بالهنديّة كما يعرف الكلبُ اسمَه ويعرفُ قولَهم اخسَأ وقد يعرِف السّنّورُ اسمَه ويعرف الدُّعاءَ والزَّجْر وكذلك الطِّفلُ والمجنون وكذلك الحمارُ والفرس إذا كنَّ قد عُوِّدْن تلك الإشارة وسماعَ تلك الألفاظ فأمّا الفيل وهو هنديٌّ جلبَه إلى تلك البلْدة حبشيٌّ فخرجَ من عُجْمة إلى عجمة كيف يفهمُ مع ذلك لسانَ العرب وسِرار نُفَيل بن حَبيب بالعربيّة

قلنا : قد يستقيم أن يكون قال له كلاماً بالهنديّة كان قد تعوَّدَ سَماعه من الفيّالين فيكونَ ترجمتُه بالعربيّة هذا الكلامَ الذي حكَوْه وقد يكون الذي أنطَقَ الذِّئبَ لأُهبانَ بنِ أوس وجعل عود المنبر يحنّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوِّر لوهم الفيل إرادة نُفَيل بن حبيب وقد يستقيم مع لَقَن الفيل وذكَائه وحكايته ومُؤاتاته أن يعرف ذلك كلَّه وأكثرَ منه لطول مُقامِه في أرض الحبَشة واليمن وليس يبعُد أن يكون بأرض الحبشة جماعةٌ كثيرةٌ من العرب من وافد وباغٍ وتاجر وغيرِ ذلك من الأصناف فيسمع ذلك منهم الفيلُ فيعرفه وليس هذا المقدار بمستنكَرٍ من الفيل مع الذي قد أجمَعُوا عليه من فَهم الفيل ومَعرفته .
وكان منكه المتطبّب الهنديّ صحيح الإسلام وكان إسلامَه بعد المناظرة والاستقصاء والتثبُّت قالوا : فسمع مَرَّةً من رجل وهو يقرأ : أَفلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِل كَيْفَ خُلِقَتْ وسمع )
بعضَ الجهال يقول : فكيف لو رأى الفيل فعذلَه قَوم فقال منكه : لا تَعْذلُوه فإنَّه لا شكَّ أنَّ خَلْقَ الفيل أعجَبُ فقيل له : فكيف لم يضرب به اللّه تعالى المثلَ دونَ البعير فقال أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظام فقلت له : ليس الفيلُ بأعجبَ من البعير واجعَلْه يعجِّب من البعير وهو

إنما خاطب العرب وهم الحجةُ على جميع أهل اللغات ثم تصير تلك المخاطبةُ لجميع الأمم بعد الترجمة على ألسنة هؤلاء العرب الذين بهم بَدَأت المخاطبة لجميع الأمم وكيف يجوز أن يعجِّب جماعةَ الأمم من شيءٍ لم يروْه قطّ ولا كانَ على ظهرها يوم نزلَتْ هذه السورة رجلٌ واحد كان قد شهد الفيلَ والحبشة وعلى أنَّ الفيلَ وافَى مكَّةَ وما بها أحدٌ إلاّ عبدُ المطلب في نفير من بقيَّة النَّاس ولا كانوا حيث يتأمّلون الفيل .
وقد قال ناسٌ : كان النَّاسُ رَجلين رجلٌ قد سمِع بهذا الخبر من رِجالات قريش الذين يجترُّون إلى أنفسهم بذلك التَّعظيم كما كانت السَّدنةُ تكذِب للأوثان والأصنام والأنصاب لتجترَّ بذلك المنافع ورجلٌ لم يكن عندَه علمٌ بأنّ هذا الخبرَ باطل فلم يتقدَّم على إنكار ذلك الخبر وجميعُ قريش تثبِّته .
قيل لهم : إنَّ مكَّة لم تَزَل دارَ خُزاعة وبقايا جُرهم وبقايا

الأمم البائدة وكانت كنانة منها النَّسَأة وكانت مرّ بن أدّ مِنْ رَهْطِ صُوفة والرَّبِيط منها أصحاب المزدلفة وإليهم كانت السِّدانة وكانت عَدْوان وأبو سيّارة عَمِيلة بن أعزَل تدفع بالنّاس وقد كان بين خزاعة وبقايا جرهم ما كان حتى انتزعوا البيت منهم وقد كان بين ثقيف وقُريش لقُرب الدار والمصاهرة والتَّشابه في الثروة والمشاكَلة في المجاورة تحاسدٌ وتنافر وقد كان هنالك فيهم المولى والحُلفاء والقطّان والنازِلة ومَن يحجُّ في كلِّ عام وكان البيت مَزُوراً على وجْه الدهر يأتونه رجالاً ورُكباناً وعلى كل ضامرٍ يأتينَ من كلِّ فجٍّ عميق وبشِقِّ الأنفس كما قال اللّه تعالى : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وكانوا بقرب سُوق عُكاظ وذي المجاز وهما سوقان معروفانِ وما زالتا قائمين حتى جاء الإسلام فلا يجوز أن يكون السَّالب والمسلوب والمفتخر به والمفتخَر عليه والحاسد والمحسود والمتديِّن به والمنكر له مع

اختلاف الطبائع وكَثْرة العلل يُجْمِعُون كلهم على قَبول هذه الآية والمحلُّون من العرب ممَّن كان لا يرى للحَرَم ولا للشَّهر الحرام حُرمةً : طيِّئٌ كلها وخثعمٌ كلُّها وكثيرٌ من أحياء قُضاعة ويَشْكُرَ والحارثِ بن كعب وهؤلاء كلُّهم أعداءٌ في الدِّين والنَّسَب هذا مع ما كان في العرب من النّصارى الذين يخالفون دِينَ مُشركي العرب كلَّ الخلاف كتغلبَ وشيبانَ )
وعبدِ القيس وقضاعةَ وغَسَّان وسَليح والعِباد وتَنوخَ وعاملةَ ولخمٍ وجُذَامَ وكثيرٍ من بَلحارث بن كعب وهم خُلَطاء وأعْداء يُغاوِرون ويَسْبُون ويُسْبَى منهم وفيهم الثُّؤُور والأوتار والطوائل وهي العربُ وألسنتُها الحِداد وأشعارُها التي إنما هي مَياسم وَهِمَمُها البعيدة وطلبُها للطّوائل وذمُّها لكلّ دقيقٍ وجليل من الحسَن والقبيح في الأشعار

والأرجاز والأسجاع والمزدَوِج والمنثور فهل سمْعنا بأحد من جميع هؤلاء الذين ذكرْنا أنكَرَ شأنَ الفيل أو عَرَضَ فيه بحرف واحد . (

كلام الفيل والذئب
ورَزِينٌ العَروضيُّ وهو أبو زهير لم أر قطُّ أطيبَ منه احتجاجاً ولا أطيب عبارة قال في شعرٍ له يهجو ولدَعقبةَ بنِ جعفر فكان في احتجاجه عليهم وتقريعِه لهم أن قال : ( تِهتُمْ علينا بأن الذِّئبَ كلّمكمْ ** فقد لعمري أبُوكُم كَلَّمَ الذِّيبا ) ( هذا السُّنَيديُّ لا أصلٌ ولا طرف ** يكلّم الفِيلَ تصعيداً وتَصويبا ) ولو كان ولد أُهبان بن أوسٍ ادَّعَوا أنّ أباهم كلم الذئب كانوا مجانين وإنما ادَّعوا أنّ الذئبَ كلّمَ أباهم وأنّه ذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّه صَدَّقه .
والفيلُ ليس يكلِّم السنديّ ولم يدَّعِ ذلك السنديّ قطُّ وربَّما كان السِّندِيُّ هو المكلّم له والفيل هو الفَهِمَ عنه

فذهب رَزين العَرُوضيُّ من الغَلَط في كل مذهب .
ما يكلَّم من ضروب الحيوان والنَّاس قد يكلّمون الطيرَ والبهائم والكلابَ والسَّنانير والمَرَاكب وكلَّ ما كان تحتَهم من أصناف الحيوان التي قد خوِّلوها وسُخِّرَتْ لهم وربَّما رأيتَ القرَّادَ يكلّم القِرد بكلِّ ضرب من الكلام ويُطيعه القِرد في جميع ذلك وكذلك ربَّما رأيتَه يلقِّن الببغاء ضروباً من الكلام والبَبْغاء تحكيه وإنّ في غراب البَيْنِ لَعَجَباً وكذلك كلامهم للدب والكلب والشاة المكّيَّة وهذه الأصنافِ التي تَلْقَن وَتَحْكِي .
تكليم الأنبياء للحيوان وقد رَوَى الناسُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلام السِّباع والإبل ضروباً ولم يذهبوا إلى أنها نطقَتْ بحروفٍ مقطّعة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون اللّه أوحَى إليه بحاجاتها وإمَّا أن تكون فِراسته وحِسّه وتثبُّتُه في الأمور مع ما يُحْضِرُهُ اللّه من التوفيق بَيَّنَ له )
معانيَها وجلاَّها له واستدلَّ بظاهر على باطنٍ وبهيئة وحركةٍ على

موضع الحاجة وإمَّا أن يكون اللّه ألهمه ذلك إلهاماً .
وأمَّا جِهةَ سليمان بن داود صلى اللّه على نبينا وعليه في المعرفة بمنطق الطير ومَنطِق كلِّ شيء فلا ينبغي أن يكون ذلك إلاّ أن يقوم منها في الفهم عنها مَقامَ بعضِها من بعض إذا كان اللّه قد خصَّه بهذا الاسم وأبانَه بهذه الدَّلالة وأعلام الرُّسُل لا يكثُر عددُها ولا تَعظم أقدارها على أقدار فضائل الأنبياء لأن أكثر الأنبياء فوقَ سليمان بن داود وأدنى ذلك أنّ داود فَوْقه لأن الحكم في الوارث والمورِّث والخليفة والذي استخلفه أن يكون الموروثُ أعلى والمستخلِف أرفَعَ كذلك ظاهر هذا الحكم حتى يخصّ ذلك برهانٌ حادث .
وإنما تكثر العلامات وتعظُم على قدْر طبائع أهل الزمان وعلى قدر الأسباب التي تتَّفق وتتهيَّأ لقومٍ دون قوم وهو أن يكونوا جبابرةً عُتاةً أو أغبياءَ مَنقوصين أو علماءَ معاندين أو فلاسفةً محتالين أو قوماً قد شملهم من العادات السيِّئة وتراكمَ على قلوبهم من الإلف للأمور المرْدية مع طول لبثِ ذلك في قلوبهم أو تكون نِحْلتهم وملتهم ودَعوتهم تحتمل من الأسْباب والاحتيالات أكثَرَ ممَّا يحتملُ غيرها من ذلك فإنّ من الكفر ما يكون عند المسألة والجواب أسرَع انتشاراً وأظهرَ انتقاضاً ومنه ما يكون أمْتَنَ

شيئاً وإن كانَ مصيرُ الجميع إلى الانتقاض وإلى الفساد ومنه شيء يحتاج من المعالجة إلى أكثَرَ وأطولَ وإنما يتفاضَلُ العلماءُ عند هذه الحال وقد يكون أن ينقدح في قلوب الناس عداواتٌ وأضغانٌ سَببها التَّحاسُد الذي يقع بين الجيران والمتفقين في الصِّناعة وربما كانت العداوةُ من جهة العصبيَّة فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال فإذا أبغض شيئاً أبغضَ أهلَه وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ وإذا أبغض تلك الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام إذ كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السَّلف والقدوة .
أثر الغُلمة في الجسم والعمر وتزعم الهندُ أنّ شِدّةَ غلْمة الفيل وطولَ أيَّامه فيها وهجرانَه الطَّعامَ والشرَابَ وبقيَّة تلك الطبيعة وعملَ ذلك العرقِ السَّاري هو الذي يمنع الفيل أن يصير في جسمه مَرَّتَين لأنّ ذلك مِن أمتن أسباب الهُزَال وإذا تقادَمَ ذلك في بدن وغَبَّ فيه عمِل في العظْم والعصَب

بعْدَ الشَّحم واللَّحم وإذا كان رفعُ الصوت والصِّياحُ وكثرةُ الكلام والغضبُ والحدّة إنما صار يورثُ الهُزال )
لأنّ البدن يسخُن عن ذلك و إذا شاعَت فيه الحرارة أحرقَتْ وأكلَتْ وشربت ولذلك صار الخَصيُّ من الدُّيوكِ والأنعامِ أسمَنَ .
وزعَمُوا أنَّه ليس فيما يعايش الناس من أصناف الحيوان أقصرُ عمراً من العصفور ولا أطْوَلُ عمراً من البغل وللأمور أسبابٌ فليس يقع الظنُّ إلاّ على قلّة سِفاد البغل وكثرة سفاد العُصفور .
قالوا : ونجد العمرَ الطَّويلَ أمراً خاصاً في الرُّهبان فنظنّ أيضاً أنّ تركها الجِماعَ من أسباب ذلك .
قالوا : وإذا اغتلم الذكرُ من الحيوان فهو أخبَث ما يكون لحماً وإذا كثُر سِفادُه تضاعَفَ فيه ذلك وصار لحمه أيبَسَ ودمُه أقلَّ .
قال الشاعر : ( أُحِبُّ أنْ أصطادَ ضَبّاً سَحْبَلاَ ** أو جُرَذاً يرعى رَبيعاً أرْمَلاَ ) فجعله أرْمَلَ لا زوجةَ له ليكون أسمَنَ له لأنَّ كثرةَ السفاد مما يورث الهزال ولا يكثر سفاده إلاّ من شدَّة غلْمته .


وهجا أعرابيٌّ صاحبه حين أكل لحمَ سَوْءٍ غَثٍّ فقال : ( أكلته من غَرَثٍ ومن قَرَمْ ** كالوَرَلِ السافد يَغْنَى بالنَّسَمْ ) لأنّ لَحْمَ الورلِ لا يشبه لحم الضبّ وهم لا يرغبون في أكله لأنه عَضِلٌ مَسِيخٌ ولأنهم كثيراً ما يجدون في جوفه الحيَّاتِ والأفاعي وله ذنبٌ سمينٌ وذلك عامٌّ في الأذناب وإنْ رأيتَها في العين كأنها عضَل فإذا كان لحمُها كذلك ثم كان في زمن هيجه وسفاده كان شرّاً له .
وللورَل في السِّفاد ما يجوز به حَدّ الجملِ والخنزير .
قال : والنسم هو النَّسيم في هذا المكان .
وقالت أمُّ فَرْوَة القرنية : ( نفى نَسَمُ الرِّيح القَذَى عن مُتونِه ** فما إنْ به عيبٌ تراه لشاربِ ) وأنا أعلمُ أني لو فسَّرْتُ لك معانيَ هذه الأشعار وغريبَها لكان أتمَّ للكتاب وأنفَعَ لمن قرأ هذه الأبواب ولكني أعرف مَلالَة الناس للكتاب إذا طال قال الشاعر يهجو من قَرَاه لحمَ كلب :

( فجاءَ بخِرْشَاوَيْ شَعيرٍ عليهما ** كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقدَ سافِدِ ) )
فلم يرضَ أنْ جعله كلباً حتى جعله سافداً فأمَا ابنُ الأعرابيِّ فزعم أنّه إنما عَنَى تيساً وقد أبطَلَ وعلى أنَّ المعنى فيهما سواء .
أثر الخصاء في اللحم قالوا : وإنما صار الخصيُّ من كلّ جنسٍ أسمنَ لأنّه لا يَسْفَد ولا يَهيج .
السقنقور قالوا : والسقنقور إنما ينفَعُ أكلَه إذا اصطادوه في أيام هَيْجه وسِفاده لأنَّ العاجز عن النِّساء يتعالج بأكل لحمه فصار لحمُ الهائج أهْيَج له .


أبو نواس والحرامِي أقبل أبو نواسٍ ومعه الحرَامِيّ الكاتب وكان أطْيَبَ الخَلْق وقد كانا قبل ذلك قد نظرا إلى الفيلة فأبصرا غُرمولَ فيل منها وعلم الحَرَاميّ أنّ غُرمولَ الفيلِ يُوصَفَ بالجَعْبة فوصف لنا غرمولَه وأنشدنا فيه شعراً لنفسه : ( كأنّه لمَّا بَدَا للسَّفْدِ ** جَعْبةُ تُرْكيٍّ عليها لِبْدُ ) قلنا له : أقْوَيْتَ واجتلبتَ ذِكر اللِّبد عن غير حاجة قال : فإني قد قلتُ غيرَ هذا قلنا : فأنشِدْنا فقال : ( كأنه لمَّا دنا للشدِّ ** شمعةُ قَيلٍ لُفِّفَتْ في لِبْدِ ) قلنا : فلا نرى لك بُدّاً من اللِّبد على حال قال : قال أبو نواس : فإني أقولُ عنك بيتين قال : فهاتِهما فقال : ( كأنه لما دَنَا للوثْبَه ** أُيورُ أعيارٍ جمعن ضَرْبَهْ )

قال الحَرَامي لأبي نواس : هَبهُما لي على أن لا تدَّعيهما فعسى أن أنتحِلَهما قلت له : وما ترجُو من هذا الضَّرب من الأشعار قال : قد رأيتُ غُرمولَه فما عُذْري عند الفيل إنْ لم أقُلْ فيه شيئاً . ( فهم الفيلِ الهنديةَ ) وحدَّثني صديقٌ لي قال : رأيتُ الفيَّالينَ على ظهر فيلٍ من هذه الفِيَلة وأقبل صبيٌّ يريد السِّنديّ الرّاكب فكلَّمَ الفيلَ بالهنديَّة فوقف ثم كلَّمه فمدّ يدَه رافِعَها في الهواء حتى رَكِبَها الغلامُ ثم رفع يَدَه حتى مدَّ السنديُّ يدَه فأخذ بيد الصبيِّ .
أخلاف الحيوان وأطْباؤه وللبقر والجواميس أربعةُ أخْلافٍ في مُؤخّر بُطونها وللشاة خِلفان وللناقة أربعة في مؤخّر البطن وللمرأة والرّجُل والفِيل ثديانِ في الصدر وثَدْيُ الفيل يصغُر جدّاً إذا قرنته إلى بدنه وللسّنّور ثمانيةُ أطْباءٍ وكذلك الكلْبةُ في جميع بطونهما والخنزيرة كثيرةُ الأطْباء وللفَهدةِ

في بطنها أربعةُ أطْباء وللَّبؤة طبْيانِ لا يصغُران عن مقدار بَدَنِها والبقرة والأتان والرَّمَكة والحِجْر في ذلك سواءٌ إلاّ أنها من الحافرِ أطْباء ومن الظّلْف أخلاف والسِّباعُ في ذلك والحافرُ سواءٌ . (

عضو الفيل
وقال صاحبُ المنطق : غُرمول الفِيل يصغُر عن مقدار بَدَنِه وخُصيتُه لاحقةٌ بكُلْيته لا تُرَى ولذلك يكونُ سريع السِّفاد .
وزعم الهنديُّ صاحبُ كتاب الباه أنَّ أعظمَ الأُيور أيْرُ الفِيل وأصغرها أير الظَّبي .
الفيل في كتاب الحيوان
وما أعجَبَ ما قَرأتُ في كتاب الحيوان لصاحب المنطق وجدتُه قد ذكر رأس الفيل وقِصَر عنقه ولم يذكر انقلابَ لسانه وذلك أعجَبُ ما فيه ولم يذكر في كم يَضَعُ ولا مقدار وزن أعظم الأنياب وكيف يخرج من بطن أمِّه نابت الأسنان .
خصائص الفيلة
والفِيَلةُ لا تلِد التؤام قال : وهي تفِذُّ وتُفْرِد قال : وقال بعضُ العلماء : لا يقال أفذّت ولا أفرَدَت إلاّ لما يجوز أن يُتْئم .
قال : وأمراضُها أقلُّ من أمراضِ غيرها إلاّ أنّ النَّفْخَ والرِّياحَ يعرِضُ لها كثيراً ويُؤْذيها أذًى شديداً وعامَّةُ أمراضِها من ذلك حتى ربَّما مَنَعها البولُ وغير ذلك قال : وإذا أكلت التُّراب ضَرَّها ذلك ولا سيَّما إذا أكثرَتْ منه فعاودَتْه .
قال : وربَّما ابتلعت منه الحجارة قال : وإذا أصابَها استطلاقٌ سُقيَت الماءَ الحارَّ وعُلِفَت الحشيشَ المعْسول وإذا أتْعَبُوها اعتراها السَّهَر فتعالجَ عند ذلك بأن تُدْلَكَ أكتافُها بزيتٍ وماءٍ حار قال : وبعضها يشرب الزَّيت شُرْباً ذَريعاً .
تذليل الفيل قال : وإذا تصعَّب الفيل وكانَ في حِِدْثان ما اقتطعُوه من الوحْش فإنهم يُنْزُون عليه فِيلاً مثلَه ويحتالون له في ذلك فما أكثرَ ما يَجِدُونه بعد ذلك قد لاَنَ .
قال : وهو مادامَ راكبُه عليه فهو ألينُ من كلِّ ذي أربع وأحسَنُ طاعة ولكن لبعضها صعوبةٌ عند نزُوله عنه فإِذا شدُّوا مقاديمَ قوائمها بالحبال شَدّاً قويّاً لانَتْ .


قال : وهي على صعوبتها تأنَسُ سريعاً وتَلقَنُ سريعاً فأوَّلُ ما يعلَّم السُّجودُ للملك فإذا عَرَفَه فكلما رآه سجَدَ له .
صدق حس الفيل فأمَّا صِدْقُ الحسّ فهو يفوقُ في ذلك جميعَ الحيوان وهو والجمل سواءٌ إذا علّما لأنّ الأنثى إذا لَقِحت لم يعاوِدَاها للضِّراب فهذه فضيلةٌ مذكورة في حسِّ الجمل وقد شاركهُ الفيلُ فيها وبايَنه في خصالٍ أخر .
وإناثُ الفِيَلة وذكورُها متقاربة في السنّ وكذلك النِّساء والرِّجال وهو بحريّ الطّباع ونَشَأ في الدَّفاء وهو أجردُ الجلد فلذلك يشتدُّ جزعه منَ البرْد فإنْ كان أجْرَدَ الجلدِ فما قولهم في أحاديثهم : طلبوا من الملك الفيلَ الأبيضَ والفِيل الأبقَع وجاء فلانٌ على الفيل الأسود .
حقد الفيل قال : وأخبَرَني رجلٌ من البَحْرِيِّين لم أر فيهم أقْصَدَ ولاَ أسدّ ولا أقلَّ تكلُّفاً منه قال : لم أجدْهم يشكُّون أنَّ فيَّالاً ضربَ فِيلاً فأوجَعَه فألحَّ عليه وأنَّهم عندَ ذلك نَهَوْه وخوّفوه وقالوا : لا تَنمْ حيثُ

ينالك فإنه من الحيوان الذي يحقِد ويُطالِب ولمَّا أراد ذلك السائسُ القائلةَ شدَّه إلى أصل شجرةٍ وأحكم وَثاقَه ثم تنحّى عنه بمقدارِ ذراعٍ ونام ولذلك السائس جُمَّة قال : فتناولَ الفيلُ بخُرطومه غصناً كان مطروحاً فوطِئ على طَرَفه حتى تشعَّث ثم أخَذَه بخرطومه فوضع ذلك الطَّرَف على جُمَّة الهندي ثم لواها بخُرْطومه فلما ظنَّ أنها قد تشبّكت به وانعقَدت جذبَ العود جَذبةً فإذا الهنديُّ تحت قوائمه فخبطه خبطة كانت نَفْسُه فيها .
فإِنْ كان الحديثُ حقّاً في أصل مخرَجِه فكفاك بالفيل معرفةً ومكيدةً وإنْ كان باطلاً فإنهم لم يَنْحَلُوا الفيلَ هذِه النِّحْلة دونَ غيره من الدوابّ إلاّ وفيه عندهم ما يحتمل ذلك ويليق به .
طيب عرق الفيل قال : والعرَق الذي يسيل من جَبْهته في زمنِ من الزَّمان يضارِع المِسْكَ في طيبه ولا يعرِض له وهو في غير بلاده . 4 (

أثر المدن في روائح الأشياء
وقد علمنا أنّ لرائحة الطِّيب فضيلةً إذا كان بالمدينة وأنّ الناسَ إذا وجَدُوا ريح النَّوى المنقَعِ بالعِراق هَرَبوا منه وأشراف أهل المدينة

ينتابُون المواضِعَ التي يكون فيها ذلك التماساً لِطيب تلك الرائحة .
ويزعم تُجَّار التُّبَّتِ ممن قد دخَل الصِّين والزَّابِج وقلَّب تلك الجزائر ونقّب في البلاد أنّ كلَّ من أقام بقصبة تُبَّت اعتراه سُرورٌ لا يدري ما سببُه ولا يزال مبتسماً ضاحكاً من غير عجَب حتى يخرجَ منها .
ويزعمون أنّ شِيرازَ من بين قُرى فارس لها فغمَةٌ طيّبة ومَن مَشَى واختلف في طُرقات مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم وجَدَ منها عَرْفاً طيِّباً وَبَنّةً عجيبَة لا تخفَى على أحدٍ ولا يستطيع أنْ يسمِّيَها .
ولو أدخلتَ كلَّ غالية وكلَّ عطر من المعجونات وغير المعجونات قَصبة الأهواز أو قصبة أنطاكِية لوجدتَه قد تغيَّر وفَسد إذا أقام فيها الشَّهرين والثَّلاثة . )
وأجمَعَ أهلُ البَحْرين أنَّ لهمْ تمراً يسمى النَّابجِيّ وأنّ مَن

فَضَخَه وجَعلَه نبيذاً ثمّ شربه وعليه ثوبٌ أبيض صبغَهُ عرقه حتى كأنه ثوب أتحَميٌّ .
استعمال الفيلة وزعم لي بعضُ البحريِّين أنها بالهند تكون نَقَّالةً وعوامِلَ كعوامل البقر والإبل والنَّقالة التي تكون في الكَلاَّءِ والسُّوق وأنها تذلّ لذلك وتُسامِح وتُطاوع وأنّ لها غلاَّتٍ من هذا الوجه .
وزعم لي أنَّ أحَد هذه الفِيَلَةِ التي رأيناها بسُرّ من رأى أنّه كان لقَصَّارٍ بأرض سَنْدان يحملُ عليه الثِّيابَ إلى الموضع الذي يغسلها فيه ولا أعلَمُه إلا الفيلَ الذي بعثَ به ماهانُ أو زكريا بن عطية .
العاج قالوا : وعظامُ الفيل كلها عاجٌ إلاّ أنّ جوهَرَ النَّاب أثمنُ وأكرم وأكثَرُ ما تَرى من العاج الذي في القِباب والحِجال والفُلك والمَدَاهن إنما هو من عظام الفيل يعرَفُ ذلك بالرَّزانة والملاسة .


والعاجُ مَتْجر كبير ويتصرّف في وجوهٍ كثيرة ولولا قَدْرَهُ لما فخر الأحنفُ بن قيس فيما فخر به على أهل الكوفة حيث قال : نحن أكثرُ منكم عاجاً وساجاً وديباجاً وخراجاً ويقال إنّه من كلام خالد بن صفوان ويقال إنه من كلام أبي بكر الهذلي .
وإذا خفق بأذنه الفيلُ فأصاب ذُباباً أو يعسوباً أو زنبوراً لم يفْلحْ والفرسُ الكريم تقَعُ الذُّبابة على مُوقَيْ عينيه فيَصْفِق بأَحَدِ جفنَيه فتخرُّ الذُّبابة ميّتة

وقال ابن مُقْبل : ( كأنّ اصطفاقَ مَأْقيَيْهِ بِطرْفِه ** صِفاقُ أديمٍ بالأديمِ يُقابِلهْ ) ويصيح الحمار فتصعق منه الذبابة فتموت قال العَبْشَمِيّ : ( مِنَ الحمير صَعِقاً ذِبَّانُهُ ** بكلِّ مَيْثاءَ كتغريد المغَنّ ) وقال عُقبة بن مكدَّم التّغلبي : ( وتَرَى طَرْفَها حديداً بعيداً ** أعْوَجيّاً يطنُّ رأسَ الذُّبابِ ) وقال ابن مُقبل : ( ترى النُّعَرَات الخُضْرَ تحتَ لَبَانِهِ ** فرَادَى وشَتَّى أصعقَتْهَا صواهله ) وأنشد في غير هذا الباب : ( وإنِّي لقاضٍ بين شيبانَ وائل ** وَيَشْكُرَ إنِّي بالقضاء بصيرُ ) ) ( وجدنا بني شيبانَ خُرطوم وائل ** ويَشْكُرُ خنزيرٌ أدَنُّ قصيرُ ) وليس هذا موضع هذين البيتين وأنشد : ( أمسى المَضَاءُ ورهطُهُ في غِبطةٍ ** ليسُوا كما كان المَضَاءُ يقولُ ) قول زياد في بناء داره أبو الحسن قال : قال زياد ودخلَ دارَه وكان بناها له فيلٌ موْلاهُ فلم يرضَ بناءَها فقال : ادعُوا لي فيلاً فلم يجِدُوه فقال : ليتَها في بطن فيل وفيلٌ في البحر . (

قصة فيل مولى زياد
وكان فيلٌ مولى زيادٍ شديدَ اللُّكْنة وأهدى بعضُهم إلى زيادٍ حمارَ وحش فقال فيل : أصلح اللّه الأمير قد أهدَوْا لنا همارَ وَهْش

فقال : أيَّ شيءٍ تقول ويْلكَ قال : أهْدَوْا لنا أيراً يريد عيراً فقال زياد : الأوَّل أمثل . (

العيثوم
وكان أبو مالكٍ يقول : العيثُوم الفيلُ الأنثى وذهب إلى قول الشاعر : وطِئَتْ عليك بخُفِّها العيثومُ ويدلّ قولُ علقمةَ بن عَبْدَة على أنّ العيثومَ من صفات الفيل العظيم الضَّخْم وقال : ( تَتْبعُ جُوناً إذا ما هيِّجَتْ زَجَلَتْ ** كأَنّ دُفّاً عَلَى العَلياءِ مَهزُومُ ) ( إذا تزغَّمَ من حافاتها رُبَعٌ ** حَنَّت شعاميمُ من أوساطها كُومُ )

ضرب المثل ببعد ما بين الجنسين وقد أكثروا في ضرب المثل ببُعدِ ما بين الجِنْسين وقال عبد الرحمن بن الحكم : ( أتغضَبُ أن يقالَ أبوك عَفٌّ ** وتَرْضَى أنْ يقال أبوك زَانِي ) ( وأشهدُ أنْ رحمك من زيادٍ ** كرحم الفيلِ من ولد الأتانِ ) فجعل معاويةَ من نسل الفيل لشرفه وجعل زياداً من نسل الحمار لضَعَتِه ولعمري لقد باعد لأنّ الغنم وإن كانت من النعَم من ذوات الجِرّة والكروش فإنّ ما بين الغنم والإبل بعيد .
وكذلك قول الكميت : ( وما خِلتُ الضَّبابَ معطَّفاتٍ ** على الحيتان من شَبَهِ الحُسُولِ ) قال : فهذا أبْعَد وأبعد لأنه وإن ذهب إلى أنّ ولدَ نزارٍ عربٌ فهم في معنى الضِّباب وساكني )
الصَّحارَى وأولئك عَجَم فجعلهم كالسَّمك

الذي يعيش في الماء ألا ترى أنّ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ بن يزيد بن معاوية لمّا قتلَتْه ضبَّةُ دسَّت في استه سَمَكة .
قال جرير : ( ما بين تيم وإسماعيلَ مِن نَسبٍ ** إلاّ قرابةُ بَيْنِ الزِّنْجِ والرُّوم ) فقال قطرب : الصَّقالبة أبعد قيل له : إنّ جريراً لا يفْصِلْ بين الصَّقالبة والرُّوم .
وتقول العرب : لا يكون ذاك حتى يجمع بين الأروَى والنَّعام لأنّ الأرْوَى جبليَّة والنّعامَ سُهْلية وقد قال الكميت : ( يؤلِّف بين ضِفْدِعَة وضَبٍّ ** ويعجبُ أنْ نبرّ بني أبينا ) وهذا هو معناه الأوَّل وأبعَدُ من هذا قولُ الشاعر : حَتّى يؤلّف بين الثَّلجِ والنَّارِ

قصة الجارية وأمها وقال أبو الحسن المدائني : قال أبو دهمان الغلاّبي عن الوقّاصي قال وحدثني بذلك الغَيْدَاقيّ عن الوقّاصي قال : قالت جارية لأمّها ليلة زَفافها : يا أُمَّهْ إن كان أيرُ زوجي مثلَ أير الفيل كيف أحتال حتى أنتفع به قال : فقالت الأم : أي بُنَيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمي فذكرتْ أنّها سألتْ عنها أمَّها فقالت : لا يجوز إلا أن يجعلَكِ اللّهُ مثلَ امرأةِ الفيل قال : فسكتَتْ حولاً ثم قالتْ لأمّها يا أمَّه فإنِّي إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَني مثلَ امرأةِ الفيل أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : يا بُنَيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمَّها فقالت : لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّهُ جميعَ نساءِ الرِّجال مثلَ نساءِ الفيلة قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت : فإن سألتُ

ربّي أن يَجْعَلَ نساءَ جميعِ الرِّجالِ مثلَ نساء الفيلة أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : يا بُنَيَّة قد سألتُ عن مثل هذه أمِّي فذكرت أنها سألَتْ أمَّها عنها فقالت : لا يجوز ذلك إلا أن يجعلَ اللّه جميعَ رجال النساء مثلَ رجالِ نساء الفيلة قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت فإنْ سألتُ ربِّي أنْ يجعلَ جميعَ رجالِ النساء مثلَ جميع رجالِ نساء الفِيَلة أتطمعين أن يَفْعَل ذلك قال : يا بُنيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنَّها قد سألَتْ أمَّها عنها وأنّها قالت : يا بُنَيّة إنّ اللّه إنْ جعلَ جميع النّاسِ فيلةً لم تجد امرأةُ الفيل مع عِظَمِ بدنها من اللّذة إلا مثلَ ما تجدين أنتِ اليومَ مع زوجك من اللذَّة ثم تذهب عنك لذّةُ الشَّمِّ والتَّقبيل والضمّ والتقليب )
والعِطْر والصِّبْغ والحَلْي والمِشطة والعِتاب والتفدية وجميع ما لكِ اليومَ قال : فسكتَت حَولاً ثم قالت : يا أمَّهْ إنْ سألتُ ربِّي أن يجعلَ أير الفِيل أعظمَ أتطمعينَ أن يفعلَ ذلك قالت الأمّ : أيْ بُنيَّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكرَتْ أنها سألَتْ عنها أمّها وأنها قالت : أيْ بُنيَّة إنّ اللّه إنْ جعَل أير الفيل أعظمَ جعل حِرَ امرأةِ الفيل أوسَع وأعظمَ فيعودُ الأمرُ كلُّه إلى الأمر الأول قال : فسكتَتْ عنها حولاً ثم قالت : يا أمّه فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعل أَير الفيل أشدَّ غلْمة فيصير عددُ أكوامه أكثرَ أتطمَعين أن يفعل ذلك قالت : أي بُنَية قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكَرَتْ أنها سألَتْ أمَّها عنها وأنها قالت : أيْ بُنَية سَلِي اللّهَ أن يجعل زوجَك أشدَّ غُلْمةً مما هو عليه ولكن لا تسأليه ذلك حتى تسأليه أن يزيدك في غلمتك قالت : يا أُمَّه فإن سألْتُ ربِّي أن يجعَلَه في غُلْمة

التيس أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : أَيْ بُنيَّة قد سألتُ عن مثل هذه المسألة أُمِّي فذكرَتْ أنها سألت عنها أُمَّها وأنها قالت : لا يجوز أن يجعلَه في غُلمة التَّيس حتى يجعلَه تَيساً قالت : يا أُمّه فإنْ سألتُ ربِّي أن يجعله تيساً أتطمعين في ذلك قالت : أي بُنَيَّة إنه لا يجعله تيساً حتى يجعلَك عَنْزاً قال : أيْ أُمَّه فإنْ سألتُه أن يجعله تيساً ويجعلني عنزاً أتطمعين أن يفعلَ ذلك قالت : أيْ بنيّة قد سألتُ عن هذه المسألة أمِّي فذكَرتْ أنها زارَتْ أُمَّها لتسألها عن هذه المسألة فوجَدتْها في آخِر يومٍ من الدُّنيا وأوَّلِ يومٍ من الآخرة وما أشكُّ أن يَوْمي قد دنا .
فلم تلبَثِ الأمُّ إلا أياماً حتى ماتت . (

باب الظلف
وهي الظِّباء وهي مَعْزٌ والمعزُ أَجناسٌ والبقرُ الوحشيُّ ذاتُ أظلافٍ وهي بالمعْز أشبَهُ منها بالبقر الأهليّ وهي في ذلك تسمَّى نعاجاً وليس بينها وبين الظِّباء وإن كانت ذواتِ جرّةٍ وكرُوشٍ وقُرونٍ وأظلافٍ تَسافدٌ ولا تلاقح وهي تُشْبهها في الشعَر وفي عَدَم السّنام .


ومن الظِّلْف الوَعِل والثَّيتَل والتَّامور والأيّل جبَليات كلُّها لا أدري كيفَ التَّسافد والتلاقح منها .
ومن الظّلف الخنازيرُ وهي بلا كَرِشٍ ولا جِرّة ولا قَرْنٍ وليس بينهما موافقةٌ إلا في الظّلف وفي الخنازير ما ليس ظِلفُه بمنشقٍّ فذاك هو المخالفُ بالنَّاب وبعدم هذه الأشياءِ كلِّها وتُشاكُل المعْزَ والبقرةَ والظباءَ بالشَّعَر وقِصَر الذَّنب وتُخالف البقر والجواميسَ في طول الذَّنب وفي عدد أيّام الحَمْل .
ومن الظلف الضأنُ والمَعْز وقد يكون بينهما تسافدٌ وتلاقح إلا أنها تُلقيه مَلِيطاً قبل أن يُشْعِر وذلك أقلُّ من القليل .
ومن الظلف البقر الأهليُّ والجواميس وهي أهليةٌ أبداً وهي موافقةٌ للضأن في القرن وفي عدم النَّاب وفي الجرَّة والكَرِش وتخالف الضأنَ في الصُّوف والسنام وتوافق المعز في الشعر وتخالف في السنام وتخالف جميع َ الغنم في الحَمْل لأن الغنمَ تضع لخمسة أشهر والبقر تضَعُ كما تضعُ المرأةُ في تسعة أشهر وليس تُشْبه المرأة في غير ذلك إلا ما يذكرون من الغَبَب ونُتُوِّ الكاهل فإنهما ربما كانا في بعض النساء وأكثر ذلك في نساء الدّهاقين .

في الزرافة
قالوا : والزَرافة تكون في أرض النُّوبة فقط قالوا : وهي تسمَّى بالفارسية أُشتُرْكَاوْ بلنك كأنه قال : بعير بقرة نمر لأنّ كاوْ هو البقرة وأُشتُر هو الجَمل وبلنك هو النَّمر .
فزعموا أنّ الزرافةَ ولدُ النمرة من الجمل فلو زعمتم أَنَّ الْجملَ يكوم الضَّبُعَ ويكوم بعض ما له ظِلفٌ ما كان إلا كذلك والمسافدةُ في أجناس المِخلب والخفِّ والحافر أعمُّ فلو جعلوا الفحلَ هو النمر والأنثى هي الناقة كان ذلك أقرَبُ في الوهم .
وليس كلُّ ذكرٍ يكومُ أنثَى يُلقِحُها وقد يكومُ الإنسانُ الدابَّةَ بشهوةٍ منهما جميعاً ولا يكون تَلاقُح كما اتّفقا في المسافدة وإنّ الرّاعيَ يكومُ الغنمَ وغيرَ الغنم .
وانظرْ كم مِنْ ضَرْبٍ ادَّعَوْا ممّا لا يُعرَف : فواحدة أنّ بهيمةً

ذكراً اشتَهى سبعاً أنثى وهو من قالوا : نمورُهم عِظامٌ وإبلُهم لِطاف وقد تتّسِع أرحامُ القِلاص العربيَّة لفوالج كِرْمان فتجيء بهذه الجَمَّازات ولولا أنه فسَّرَ لجازَ أن يكونَ النَّمِرُ يكومُ النَّاقةَ فتتَّسع أرحامُها لذلك .
قالوا : وفي أعالي بلاد النُّوبة تجتمع سباعٌ ووحوشٌ ودوابٌّ كثيرة في حَمَارَّةِ القَيظ إلى شرَائعِ المياه فتتسافَدُ هناك فيَلْقَح منها ما يَلْقَح ويمتنعَ ما يمتنع فيجيءُ من ذلك خلقٌ كثيرٌ مختلفُ الصُّورة والشكل والقَدْر منها الزَّرَافة .
وللزّرافةُ خَطْمُ الجَمل والجِلد للنَّمِر والأظلاف والقرن للأَيِّل والذَّنَب للظَّبْي والأسنان للبقَر فإِنْ كانت أمُّها ناقة فقد كامَها نمِرٌ وظبْيٌ وأيِّل في تلك الشرائع وهذا القولُ يدلُّ على جَهْلٍ شديد .
والزّرافة طويلةُ الرِّجْلين منحنية إلى مآخيرها وليس لرجلَيْها ركبتان وإنما الرُّكبتانِ ليديها وكذلك البهائم كلُّها وعَسَاهُ إنما أرادَ

الثفِنات والإنسانُ ركْبتاه في رجليه .
ويقولون : أُشْتُرْ مُرْك للنَّعامة على التَّشبيه بالبعير والطّائر يريدون تشابُهَ الخلق لا على الولادة .
ويقولون للجاموس كاوماش على أن الجاموس يُشْبه الكبشَ والثّوْر لا على الولادة لأنّ كاو بقرة وماش اسمٌ للضأن .
وقال آخر : تضع أمُّ الزَّرافة ولدَها من بعض السِّباع ولا يشعرُ النَّاسُ بذلك الذَّكر قالوا : كاوماش على شَبَه الجواميس بالضّأن لأنَّ البقرَ والضأنَ لا يقع بينهما تلاقحٌ والتّفليس الذي في الزَّرافة لا يُشْبه الذي في النَّمر وهو بالبَبْر أشبَه وما النمرُ بأحقَّ به من هذا الوجه من الفَهْد . ) (

تسافد الأجناس المختلفة
وقد يمكن أن تُسْمِحَ الضَّبعُ للذّئب والذِّئبة للذِّيخ والكلبةُ للذِّئبِ وكذلكَ الثعلبُ والهرَّةُ وكذلِكَ الطَّيْرُ وأجْناس الحمامِ كالوَرْدَانيِّ

والوَرَشان والحمام وكالشِّهريّ من بين الحِجْر والبِرْذَوْن والرَّمَكة والفَرَس والبغلِ من بين الرَّمَكة والحمار .
فأمَّا بُروك الْجمل على النَّمرة والْجملُ لا بدَّ أنْ تكون طَرُوقتُه باركةً فكيف تبركُ النّمرة للجمل والسِّباع إنما تتسافد وتتلاقح قائمةً وكذلك الظِّلف والحافر والمِخْلَب والخُفّ والإنسانُ والتِّمْساح يتبطّنان الأنثى والطيرُ كلُّه إنما يتسافَدُ ويتلاقح بالأستاه من خلف وهي قائمة . (

شواذ السفاد
وعموا أنَّ الغرابَ يُزَاقُّ والحُمَّرُ والقَبَج ربّما ألقحا الإناث إذا كانا على عُلاَوَة الرِّيح ولا تكونُ الولادةُ إلاّ في موضع إلقاء النُّطفة والشيءِ الذي يلقح منه .
وأمَّا السَّمكةُ فقد عايَن قومٌ مُعارضَةَ الذكر للأُنْثَى فإذا سَبَح الذكَرُ إلى جنب الأنثى عَقَفَ ذنَبَه وعقفَتْ ذَنَبها فيلتقي المبالان فتكونُ الولادة من حيث يكون التلقيح لا يجوزُ غير ذلك .
والذين يزعمون أن الحجَلةَ تلقَحُ من الحجَل إذا كانَتْ في سُفَالة

الرِّيح من شيءٍ ينفصل من الذّكر فإنما شبَّهوا الحجَل بالنَّخْل فإن النخلةَ ربما لقِحَتْ من ريح كافورِ الفُحَّالِ إذا كانت تحتَ الرِّيح . (

المخايرة بين ذوات القرون والجم
قال : وسئل الشَّرْقيّ عن مخايرةِ ما بين ذوات القرون والجُمّ فقال : الإبل والخيل من الخفّ والحافر والبرثُن والمِخْلب والقدَم التي هي للإنسان قال : فمن خصال ذي القرن أنَّ منه وإليه ينسب ذو القرنين الملكُ المذكورُ في القرآن ويزعم بعضُهم أنه الإسكَنْدَر وقال أميَّة بن أبي الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثَوْرٌ تحتَ رجل يمينهِ ** والنَّسْرُ للأُخْرى ولَيْثٌ مُرْصَد ) استطراد لغوي وَيقالُ ضَرَبَه على قَرْنه وقَرْنٌ من دم كما يقال قرنٌ من عَرَقٍ والقَرْن : أمَّة بعد أمَّة والقَرْنُ : شيءٌ يصيب فُروج النساء يُشْبِه العَفَلة .

ذوات القرون
والفيل من ذوات القرون وفي الحيَّات والأفاعِي ما لها قرون وإنما ذلك الذي تسمع أنه قرن إنما هو شيءٌ يقولونه على التَّشبيه لأنّه من جنس الجِلْد والغضروف ولو كان من جنس القُرون لكانت الحيّة صلبةَ الرأس والحية أضعفُ خَلق اللّه رأساً ورأسُه هو مَقْتلُه لأن كلَّ شيءٍ له قرنٌ فرأسُه أصْلَب وسلاحَه أتمّ والقَرْنُ سلاحٌ عَتِيدٌ غير مُجْتَلَبٍ ولا مصنُوع وهو لذَوات القُرون في الرؤوس وللكرْكدَّن قرنٌ في جبهته والجاموس أوثق بقَرْنِه من الأسد بمخْلبه ونابه .
وتقول المجوس : يجيء بَشُوتَن على بقرةٍ ذاتِ قُرون .
وظهرت الآية في شأن داودَ وطالوتَ في القَرْن وشَبُّورُ اليَهود من قَرْن .
والبُوق في الحُروب مُذ كانت الحَرْب إنما كان قرناً .


وبُوق الرَّحَى قرنٌ والأيّل يَنْصُل قَرنُه في كلّ عامٍ وكان سِنان رُمح الفارس في الجاهليَّة رَوقَ ثَور . (

ما يسمى بروق
ويسمَّى الرَّجلُ بِرَوق والرَّوْق كالشيء يعاقب الشيء وقال بشّار في التَّعَاقُب : أعَقَبَتْه الجَنُوبُ رَوْقاً من الأزْيَبِ ( دَانَ له الرَّوقانِ من وائلٍ ** وَقَبْلَهُ دَانَتْ له حِمْيَرُ ) الرَّوْقانِ : بكرٌ وتَغْلِب . 4
استطراد لغوي
ويقال قَرْنُ الضُّحى وقَرْنُ الشّمس وقُرون الشَّعَر وقرْنُ الكَلأ وقرون السُّنْبل وأطرافُ عذوق النّخْل وأطاف عروق الحَلْفاء وإبرةُ العقرب كلُّها قُرون .
علاقة القرون واللحى بالذكور
والأجناس التي تكون لها القرون تكونَ قُرونُها في الذُّكور منها وقد يكون الفحلُ أجمَّ كما أن اللِّحَى عامٌّ في الرِّجال وقد يكون فيهم السِّناط .
أنواع القرون وقد تَتَشعَّبُ قرونُ الظباء إذا أسنَّتْ .
وقرونُ الظِّباء وبقَرِ الوحْش شِدادٌ جدّاً وإنما تعتمد الأوعالُ في الوُثوب وفي القذْف بأنفسها مِن أعالي الجبال على القُرون والأغلب على القُرون أن تكون اثنَيْن اثنَين وقد يكون لبعض الغنم قرون عِدّة .
والجواميسُ تمنَعُ أنفسَها وأولادَها من الأسْد بالقُرون وبقَر الوحش تمنَع أنفسَها وأولادَها من كِلاب القُنَّاص ومن السِّباع التي تُطيف بها بالقُرون قال الطّرِمَّاح : ( أكَلَ السَّبْعُ طَلاَها فما ** تَسْألُ الأشباحَ غَيرَ انهزَامْ )

قصة في سفاد الخنزير وقال ابن النُّوشَجانيّ : أقبلت من خراسان في بعض طُرُق الجِبال فرأيتُ أكثرَ من مِيلَين متّصلينِ في مواضعَ كثيرةٍ من الأرض أثر سِتِّ أرجل فقلت في نفسي : ما أعرف دابّة لها ستُّ أرجُل فاضطرَّني الأمر إلى أنْ سألتُ المُكارِيَ فزَعَم أنَّ الخنزيرَ الذّكرَ في زمان الهَيْج يركب الخنزيرة وهي ترتُع أو تذهَبُ نحوَ مَبيتِها فلا يَقْطعُ سفادَه أميالاً ويداه على ظَهْرها ورجلاهُ خَلْف رجليها فَمنْ رأى تلك الآثار رأى ستّ أرجل لا يدري كيفَ ذلك . )
ما يعرف بطول السفاد قال : فالخنزير في ذلك على شَبِيهٍ بحال الذباب الذكر إذا سقط على ظهر الأنثى في طول السِّفاد .
وإنّ الجملَ في ذلك لعجيب الشّأن فأمَّا العدد فالعصفور ويُحكَى أنَّ للورَل في ذلك ما ليس لشيءٍ يعني في القوة وأنشد أبو عبيدةَ :

( سقط : بيتين الشعر ) ( في عظم أير الفيل في رهز الفرس ** وطول عبس جمل إذا دحس ) (

فرس الماء
قال عَمْرُو بنُ سعيد : فرس الماء يأكل التمساح قال : ويكون في النِّيل خُيول وفي تلك البحور يعني تلك الخُلْجان مثلُ خيول البرّ وهي تأكل التماسيح أكلاً شديداً وليس للتماسيح في وسط الماءِ سلطان شديد إلاّ على ما احتمَلَه بذنَبه من الشَّريعة .
قال : وفرس الماء يؤْذِن بطلوع النِّيل بأثر وطْء حافرِه فحيث وجدَ أهلُ مِصرَ أثرَ تلك الأرجل عرَفُوا أنّ ماء النيل سينتَهي في طلوعه إلى ذلك المكان .
وهذا الفَرَس ربَّما رعَى الزُّرُوع وليس يبدأُ إذا رَعَى في أدْنَى الزَّرْع إليه ولكنّه يحزُرُ منه قدْرَ ما يأكل فيبدَأُ بأكله من

أقصاه فيرعى مُقْبِلاً إلى النِّيل وربَّما شرب هذا الفرس من الماء بعد المَرْعَى ثم قاءَه في المكان الذي رَعى فيه فينبت أيضاً .
والطَّير عندنا يأكلُ التُّوت ويَذرُِقه فينبت من ذَرْقه شجَر التُّوت .
قالوا : وإذا أصابُوا من هذه الخيل فِلْواً صغيراً ربّوه مع نسائهم وصبيانهم في البيوت ولم يزِدْ على هذا الكلام شيئاً .
قال : وفي سنّ من أسنانه شفاءٌ من وجع المَعِدة .
قال : والنُّوبةُ وناسٌ من الحبَشة يأكلون الحيتان نِيَّةً بغير نار ويشربون الماءَ العكر فيمرَضُون فإذا علَّقوا سنّ هذا الفرس أفاقوا قال : وأعفاج هذا الفرس تُبرئ من الجنون والصَّرْع الذي يعترِي مع الأهلَّة .
قال : وكذلك لحومُ بنات عِرْسٍ صالحة لِمَنْ به هذه العِلّة .

صيد الذئب للإنسان
قال : وإنما يكونُ الإنسان من مصايد الذِّئب إذا لقيه والأرض ثَلْجاء فإنّه عند ذلك يحْفِش وجْهَ الأرض ويجمعُه ويضرب وجهَ الرجل فارساً كان أو راجلاً قال : ودُقاق الثَّلج وغُباره إذا صَكَّ وجهَ الفارس سَدِرَ واستَرْخَى وتحيَّرَ بَصَرُه فإذا رأى ما قد حلَّ به فرَّبما بَعَج بطنَ الدَّابَّة وربما عضَّها فيقبضُ على الفارس فيصرعُه ولا حَرَاك به فيأكله كيف شاء وإلاّ أن يكون الفارس مجرباً ماهراً فيشدُّ عليه عند ذلك بالسِّلاح وهو في ذلك يَسيرُ ويقطعُ المفازةَ ولا يدعَه حينئذٍ يتمكَّن من النفر عليه .
تعليم الذئب وتأليفه
وزَعَم عبويه أنّ الخصيّ العبدي الفقيه من أهل هَمَدان السودانيّ الجَبَلّي وهو رجل من العرب قد ولدته حليمةُ ظئرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو من بني سعد بن بكر فزعَم أنَّ السُّوداني أشبَهُ خلْق اللّه بجارحةٍ وأحكمُهمْ بتدبير ذئبٍ وكلبٍ وَأسدٍ ونَمر وتعليم وتثقيف وأنّه

بلَغَ مِن حذقه ورِفقه أنّه ضَرّى ذئباً وعلَّمه حتى اصطاد له الظِّباء والثّعالبَ وغيرَ ذلك من الوحوش وأنّ هذا الذئبَ بعينه سَرَّحَه فرجَع إليه من ثلاثين فرسخاً وذكر أنّ هذا الذئبَ اليومَ بالعسكر وحدّثني بهذا الحديث في الأيام التي قام بها أميرُ المؤمنين المتوكِّلُ على اللّه وذكر أنَّه ضَرَّى أسداً حتى ألِف وصار أهليّاً صَيُوداً حتى اصطادَ الحميرَ والبقرَ وعِظامَ الوحش صيداً ذريعاً إلا أنَّ الأسَد بعد هذا كله وثَب على ولدٍ له فأكلَه فقتَلهُ السوداني .
والذي عندنا في الذِّئب أنه يألف ولو أخذَ إنسانٌ جرواً صغيراً من جرائه ثمَّ ربَّاه لما نَزعَ إلا وحشيّاً غَدُوراً مُفْسداً ولذلك قال الأعرابي : ( أكلْتَ شُوَيَهتي ونَشأْت فينا ** فمن أنباك أنَّ أباكَ ذيبُ ) فالذي حكى عبويه من شأن هذا الذِّئب والأسد من غريب الغريب . (

مصارعة كلبة لثعلب
وأخبرني عبويه صاحب ياسر الخادم قال : أرسلتُ كلبة لي فحاصرَتْ ثعلباً فواللّه إنْ زالا
من خصائص الكبار والفلاسفة
قال : وإذا أسنَّ القرشيُّ رَحَل إلى الحجاز .
وقال : ما احتنَك رجلٌ قطُّ إلا أحبَّ الخلوة وقالوا : ما فكَّر فيلسوفٌ قط إلا رأى الغُربةَ أجمَعَ )
لهمِّه وأجوَدَ لخواطره .

( قول بكر المزني في الأرَضة ) قال : وشتم رجلٌ الأرَضَة فقال بكر بن عبد اللّه المُزَني : مَهْ فهي التي أكلَتْ جميع الصَّحِيفةِ التي تعاقَدَ المشركون فيها على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلا ذكرَ رسول اللّه وبها تبيَّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا في العذاب المهين وبها تكشَّف أمرُها عند العوّام بعد الفتنة العظيمة عندهم وكان على الخاصّة من ذلك أعظم المحن . (

طول ذماء الضب
وخبّرَني رجلٌ من بني هاشمٍ كان منهوماً بالصَّيدِ لَهِجاً به أنَّه ضَرَب وَسَط ضَبٍّ بالسَّيفِ فقطعه نِصْفَين فتحرَّك كلُّ واحدٍ منهما على حِيالِه ساعةً من نهار ثمَّ سَكَنا .
الورل والضب
وحكَى أنّ الورلَ يقتل الضبّ على معنى الصائد والطالب وأن الضبّ يقاتل على معنى المُحْرَج وأنّه هارَشَ بين الورَل والحيَّة فوجد الورَلَ يقتُل الحيّة ويأكلها ويقتل الضبّ ولا يأكله ولكن حُسُوله .
علة عدم قتل الأعراب للورل والقنفذ
وزعم أنّه وجَدَ مشايخَ الأعرابِ لا يقتلون وَرَلاً ولا قنفُذاً ولا يدَعُون أحداً يصطادهما لأنهما يقتُلان الأفاعيَ ويُريحانِ الناسَ منها . نوادر من الشعر والخبر وأنشد أبو عبيدة لأبي ذؤيب : ( وسَوَّدَ ماءُ المَرْدِ فاهاً فلَونُه ** كلَوْنِ النَّؤُورِ وهي بيضاءُ سَارُها ) وأنشد شبيهاً به للنابغة : ( يَتَحَلَّبُ اليعضيد من أشداقها ** صفراً مَناخرُها من الجرجار ) وأنشد شبيهاً بذلك لإبراهيم بن هَرْمة : ( كأنَّها إذْ خُضِبت حِنّاً وَدَمْ ** والحُرض والعسن والهَرْم العُصُمْ ) ( تُعلَّمُ الأكلَ أولادُ الظباءِ بها ** فما يحسُّ بها سِيدٌ ولا أسَدُ ) وأنشد :

( ذكرتُكِ ذِكْرةً فاصطدت ظبياً ** وكُنْتُ إذا ذكرتُكِ لا أخِيبُ ) ( منحتُكم المودَّة مِن فؤادِي ** وما لي في مودَّتكم نصيبُ ) وقال ابن مُقبل : ( وكم من عَدُوٍّ قد شققنا قميصَهُ ** بأسمَرَ عَسَّالٍ إذا هُزَّ عاملُهْ ) وقال أيضاً : ( ولم أصطبِحْ صهباءَ صافيةَ القَذى ** بأكْدَرَ من ماء اللِّهابة والعَجْبِ ) ( ولم أسْرِ في قومٍ كرامٍ أعِزَّةٍ ** غَطارفةٍ شُمِّ العَرانِين من كلْبِ ) اللِّهابة والعَجْب : ماءان من مياه كلب موصفانِ بالعُذوبة وهي في ذلك كَدِرة وأنشد ابن مَزْرُوع لعديِّ بن غُطيفٍ الكلبيّ وكان جاهليّاً : ( أهلكَنا اللّيلُ والنهارُ مَعا ** والدَّهر يَعدُو عَلَى الفَتَى جَذَعا ) ( والشَّمْسُ في رأسِ فُلْكِةٍ نُصِبَتْ ** رَفَّعها في السماءِ مَن رَفَعا ) ( أمرٌ بِليطِ السماءِ مُكْتَتمٌ ** والنَّاسُ في الأرض فُرِّقوا شِيَعا )

( سقط : بيت الشعر ) ( كما سطا بالآرام عاد وبالحج ** ر وأركى لتتبع تبعا ) ( فليس مما أصابني عجب ** إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا ) ( فليس ممّا أصابني عجب ** إن كنتَ شَيباً أنكرتُ أو صَلعَا ) قال : هو عاد بن عُوص بن إرم وسَطَا بالحِجْر أي بأهل الحِجْر وأرْكَى أي أخَّر والإركاء : التأخير .
وقال كعبُ بنُ زهير : ) ( فَعْمٌ ٍ مُقلَّدُها عَبْلٌ ٍ مقيَّدُها ** في خَلْقِها عن بَنات الفَحْل تَفضِيلُ ) ( حَرْفٍ ٌ أخوها أبوها من مُهَجَّنةٍ ** وعمُّها خالُها قَوداءُ شِمْليلُ ) وكما قال ذو الرّمّة : أخوها أبوها والضَّوَى لا يضيرُها

وقال سالم بن دارة : ( حَدَوْتُ بهم حتّى كأنّ رِقابَهُمْ ** من السَّير في الظّلماء خيطان خَرْوَعِ ) وقال بعض المحدَثين : ( وقد شَرِبُوا حتى كأنّ رقابَهُمْ ** من اللِّين لم تُخلق لهنَّ عظامُ ) وقال آخر : ( كأنّ هامَهُمُ والنَّوْمُ واضِعُها ** على المناكِبِ لم تُعْمَدْ بأعناقِ ) ( وفي اللَّزَباتِ إذا ما السِّنُو ** نَ أُلْقِيَ مِن بَرْكها كلكلُ ) ( لعامٍ يقولُ له المُؤْلِفُو ** نَ هذا المُقِيمُ لنا المُرْحِلُ ) وقال أيضاً : ( الطّيِّبُو تُرْبِ المَغَار ** سِ والمنابتِ والمكَاسِرْ ) ( والساحبون اللاحفُو ** ن الأرضَ هُدّابَ المآزِرْ )

( أنتمْ معادِنُ للخلاف ** ة كابراً مِن بَعْدِ كابرْ ) ( بالتِّسْعة المتتابعي ** ن خلائفاً وبخير عاشِرْ ) وقال أيضاً : ( ولا يكن قوله إلا لرائدها ** أعشَبْتَ فانزِلْ إلى معْشَوْشِبِ العُشْبِ ) ذهب إلى قوله : ( مُسْتَأْسدٌ ذِبَّانُه في غَيطلِ ** يقُلْنَ للرَّائد أعشَبْتَ انزِل ) ولكن انظُرْ كَم بين الدِّيباجتَين وفي الأوَّل ذَهَبَ إلى قول الأعشى : ( إذا الحَبَرَاتُ تَلوَّتْ بهِمْ ** وجرُّوا أسافِلِ هُدّابِها ) قال : كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً كالحمام ولقد كان الرّجل منهم قال : وهذا يخالف قول عمرَ رضي اللّه عنه حين قيل له : إنّ فلاناً لا يعرف الشَّرّ قال : ذلك )
أجْدَرُ أن يقَعَ فيه .
وقال النابغة الذبياني : ( ولا يحسَبونَ الخيرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ** ولا يحسبون الشَّرَّ ضربةَ لازبِ )

وقال الآخر : ولا تعذِراني في الإساءة إنّه شِرَارُ الرجال مَنْ يسيء فيُعذَرُ وقالت امرأة ترثي عُمَير بنَ مَعْبَد بن زُرارة : ( أَعيْنُ ألا فابكي عُميرَ بن مَعبدِ ** وكان ضروباً باليدينِ وباليدِ ) تقول : بالسَّيف وبالقداح لأنّ القداح تُضرَبُ باليدين جميعاً وقال ابن مقبل : ( وللفؤاد وجيب عند أبهَرِهِ ** لَدْمَ الوليدِ وراءَ الغيبِ بالحجَرِ ) وقال ابن أحمر : وفؤادهُ زَجلٌ كعزَفِ الهُدْهُدِ وكان حسّان يقول لقائده إذا شهد طعاماً : أطعامُ يدٍ أم طعام يدين طعام يدين : الشِّواءُ وما أشبه ذلك وطعام اليد : الثرائد وما أشبَهَها .
وقال بعض السَّلاطين لغلامٍ من غِلمانه وبين يديه أسيرٌ : اضربْ

قال : بيدٍ أو يدين قال : بيد فضرَبه بالسِّياط قال : اذهبْ فأنتَ حُرّ وزوّجَه وأعطاه مالاً .
وسارَّ رجلاً من الملوك بعضُ السُّعاة بابنٍ له ذكر أنّه بموضع كذا وكذا يشرب الخمر مع أصحاب له فبعثَ غلاماً له يتعرّف حالَه في الشراب فلمّا رجع وجَدَ عنده ناساً فكرِه التفسير فقال له : مَهْيَمْ قال : كان نَقْلُه جُبْناً قال : أنت حُرّ لأنّ مُعاقِري الخمرِ يتنقلون بالجبن لأسبابٍ كثيرة .
وكان فرجٌْ الحجَّام مملوك جعفر بن سليمان إذا حَجَمه أو أخذَ من شَعرِه لم يتكلَّم ولم يتحرّك ولم يأخذ في شيء من الفضول فقال جعفر ذاتَ يومٍ : واللّه لأمتحننّه فإن كان الذي هو فيه من عَقْلٍ لايَنْتُهُ وإن كان كالطَّبيعة والخِلقْة لأحمدَنّ اللّه على ذلك فقال له يوماً : ما اسمك يا غلام قال : فرَج قال : وماكُنْيتُك قال : لا أكتني بَحضْرَة الأمير قال : فهل تحتجِم قال نعم قال : مَتَى قال : عند هيجه قال : وهل تعرفُ وقتَ الهيج قال : في أكثر ذلك قال : فأيَّ شيءٍ تأكلُ على الحجامة قٍ ال : أما في الصيَّفِ فسِكْباجةٌ محمَّضَة

عذبة وأمَّا في الشتاء فديجيراجة خاِثرةٌ حُلوة فأعتقه وزَوَّجه ووهَبَ له مالاً . )
وكان قاطعَ الشهادة ولم يكنْ أحدٌ من مواليه يطمع أن يُشهدَه إلاّ على شيء لا يختلف فيه الفقهاء وهو الذي ذكره أبو فِرْعون فقال : وكان أهل المربد يقولون : لا نرى الإنصاف إلا في حانوتِ فرجٍ الحجَّام لأنّه كان لا يلتفت إلى مَن أعطاه الكثيرَ دونَ من أعطاه القليل ويقدِّم الأوّل ثم الثاني ثم الثالث أبداً حتى يأتي على آخرهم على ذلك يأتيه من يأتيه فكان المؤخَّر لا يغضَب ولا يشكُو .
وقال ابن مَقْروم الضّبي :

( وإذا تُعلَّل بالسِّياط جِيادُنا ** أعطاكَ نائِلَهُ ولم يتعلّلِ ) ( فدعَوْا نَزَالِ فكنتُ أوّل نازل ** وعَلامَ أركَبُهُ إذا لم أنْزلِ ) ( ولقد أفَدْتُ المال مِن جَمْع امرئٍ ** وظَلفْتُ نفسي عن لئيم المأكلِ ) ( ودخلتُ أبنيةَ الملوكِ عليهمُ ** ولَشَرُّ قولِ المرءِ ما لم يفعَلِ ) ( وشهدتُ مَعْرَكةَ الفُيولِ وحَولها ** أبناءُ فارسَ بَيْضُها كالأعْبَلِ ) ( متَسرْبِلي حَلَقِ الحدِيدِ كأنّّهُمْ ** جُرْبٌ مُقارِفَةُ عَنِيَّةُ مُهمِلِ ) )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11