الكتاب : الفاضل
المؤلف : المبرد

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستفتح
الحمد لله الذي افتتح بالحمد كتابه، وألهمه عباده، وجعله مستزيداً لهم من فضله، وذريعةً إلى ما قرّب منه وأزلف، و صلى الله على محمد نبيّه وخاتم رسله، وصفوته من خلقِه، وخيرته من عباده، صلاةً تُزلفه لديه، وتُحظيه عنده، وسلم تسليماً.
إن الله عز وجل خلق خلقه لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عنا حرمه، ووعدهم رحمته، وحذرهم عقابه، فكان أحسنهم طاعةً له، وأشدهم تقرباً منه، وأبعدهم مما حرمه ونهى عنه العلماء، وذوو العقل والفضل من خلقه؛ فإنه يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يعاقب العاقل بما لا يعاقب به الجاهل " . ففضّل الله جل اسمه ذكر العالِم في زمانه على سائر نظرائه من خلقه، وجعله قدوة لأهل عصره، وذكراً لمن يبقى بعده.
من ذلك ما يُروى أن الأحنف بن قيس رأى الناس بالبصرة يقصدون الحسن البصري في أمورهم، ويسألونه عن أحوال دينهم؛ فقال: كادت العلماء أن يكونوا أرباباً؛ وكل عزٍّ لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير.
ويروى من غير وجه: سمعنا أن زيد بن ثابت أتى عبد الله بن عباس فتلقّاه عبدُ الله، وأخذ بركاب بغلته حتى نزل عنها، فلامه زيد على ما فعله، فقال: كذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه أن نفعل بعلمائنا. فقال له زيد: ادنُ مني، فدنا منه، فقبّل يده ثم قال: كذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه أن نفعل بأهل بيته.
وإنما سلك زيد في ذلك ما يُروى أن رسول الله صلى الله عليه قال: " لا يحلّ لأحد أن يقبّل يد أحدٍ إلا يدَ عالم أو يد رجل من أهل بيتي " . ويروى أنه قال: " إذا كان يوم القيامة قيل للعابد قم فادخل الجنة، ويقال للعالم: قم فاشفع " . وقال عليه السلام: " فضل العلم خيرٌ من فضل العمل " ؟ وقال الله جلّ ثناؤه: " إنما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماءُ " . فجعل - عزّ اسمه - العالمين بحدوده هم الخائفين من عقابه، وأولياءه وأهل طاعته.
ثم أفضل العلم ما عُمل به؛ وانتُفع بثمرته، فإنه يقال: إن أبعدَهم من الله عالمٌ لا يُنتفع بعلمه. وقال بعض الحكماء: فلانٌ أحوجُ إلى كذا من علم إلى عمل، ومن قولٍ إلى فعل، ومن قدرة إلى عفو؛ وعلى ذلك قول الشاعر:
لا خيرَ في القولِ إلاّ الفعل يتبعُه ... والفعلُ للقولِ ما أتبعتَه أَدَمُ
وقال سلمان: إنك لن تكون عالماً حتى تكون به متعلِّماً، ولن تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً.
ولكن الله - جل ذكره - لم يُؤت عباده من العلم إلا قليلاً، فمن لم يكن نصيبه في ذلك القليل كالمحتوي على أكثره، ولم يكن أغلب الخصال عليه عقله، وأشرف ما يعتقده عليه تقواه لم يعدّ فاضلاً. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " قيمة كل امرئ ما يُحسن " .
وللعالِم سقطات، وللمتقي هفوات. وكان ابن عمر يقول: إذا ترك العالم قولَ لا أدري أصيبت مَقاتله.
وقال علي رحمة الله عليه: يا بردَها على الكبد من عالم يقول: لا أدري.
وأحسن ما رُوي في جبلّة الإنسان التي جُبل عليها كلامٌ يروى عن علي رحمة الله عليه؛ يشبّه بكلام الأنبياء عليهم السلام، يصدق ذلك ما روي عنه أنه مسح يده على بطنه، وقال: كُنَيْف ملئ علماً؛ أما والله لو طُرحت لي وسادة لقضيتُ لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم، ولأهل القرآن بقرآنهم. وكان رسول الله صلى الله عليه يقول: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " . وكان كلامه في فطرة الإنسان كلامَ من قد عرف ذلك من نفسه، أو يقرؤه في كفه: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مَوادُّ من الحكمة، وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرَض له الغضب استبد به الغيظ، وإن أُسعد بالرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغِرّة، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عارضته فاقة فضحه الجزع، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظَّتْه البِطنة، فكل تقصير به مضرّ، وكل إفراط له مفسد.

وأفضل ما قُصد له من العلوم كتاب الله - جل ذكره - والمعرفة بما حلّ فيه من حلاله وحرامه وأحكامه، وإعراب لفظه وتفسير غريبه. ويروى أن المأمون أمر معلّم الواثق - وقد سأله عما يعلّمه إياه - أن يعلّمه كتاب الله جل اسمه، وأن يقرئه عهدَ أردشير، ويحفّظه كتاب كليلة ودمنة.
وأفضل العلوم بعدُ علمُ اللغة وإعراب الكلام، فإن بذلك يُقرأ القرآن، وعليه تُروى الأخبار والأشعار، وبه يزين المرء كتابه، ويُحلّي لفظه، قال الله عز وجلّ: " بلسانٍ عربي مبين " . قال الشاعر:
النحو يُطلق من لسان الألكَنِ ... والمرءَ تُعظمه إذا لم يلحَنِ
فإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها ... فأجلُّها منها مقيمُ الألسنِ
وقال صلى الله عليه وسلم: " أعربوا في كلامكم تعربوا في كتاب الله " .
وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: تعلّموا العربية تُحرزوا المروءة.
ولحن رجل بين يدي سليمان بن عبد الملك بعد أن فاوضه فوجده عاقلاً، فقال سليمان: زيادة عقل على منطقٍ هُجْنة، وزيادة منطقٍ على عقلٍ خدعة. وأحسنُ الأشياء ما شاكل بعضُه بعضاً.
وكان الصدر الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه يعربون طبعاً، حتى خالطهم العجم ففسدت ألسنتهم، وتغيرت لغاتهم.
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رأى قوماً من الفرس ينظرون في النحو فقال: لئن أصلحتموه لأنتم أول من أفسده.
ويروى أن رجلاً قال لبعض العلماء: أسألك عن شيء من الغريب، فقال: هو كلام القوم، وإنما أنت وأمثالك فيه غرباء.
وذُكر أن السبب الذي بُني له أبواب النحو وعليه أُصّلت أصوله أن ابنة أبي الأسود الدئلي قالت: يا أبتِ ما أشدُّ الحرِّ! قال: الحَصباء بالرَّمضاء. قالت: إنما تعجبتُ من شدته، قال: أوَ قد لحن الناس؟ فأخبر بذلك علياً - رحمة الله عليه - فأعطاه أصولاً بنى بها، وعمل بعده عليها، فأخذه عن أبي الأسود عنبسة بن مَعْدان المَهْري الذي يقال له عنبسة الفيل.
وأبو الأسود أول من نقد المصاحف. ثم أخذ النحو عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي الذي يقول فيه الفرزدق:
فلو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه ... ولكنّ عبدَ الله مولى مواليا
ثم أخذه عنه عيسى بن عمر، وأخذه عن عيسى الخليلُ بن أحمد الفُرْهودي، ثم أخذه عن الخليل سيبويه - واسمع عمرو بن عثمان الحارثي - ثم أخذه عن سيبويه الأخفش، وهو سعيد بن مَسعدة المُجاشعي.
وأفضل ما في الإنسان المعبّر عن شأنه المبين لمعرفته لسانُه، وقال الشاعر:
لسانُ الفتى نِصفٌ ونصفٌ فؤادُه ... فلم يبقَ إلاّ صورةُ اللحم والدم
وكائنْ ترى من صامتٍ لك مُعجِبٍ ... زيادتُه أو نقصُه في التكلم
وقال الآخر:
وما المرءُ إلا الأصغرانِ لسانُه ... ومعقولُه والجسمُ خلْقٌ مُصوَّرُ
فإن طُرّةٌ راقَتك يوماً فربما ... أمرَّ مذاقُ العودِ والعودُ أخضرُ
وقال عمرو بن العاص: لسان المرء قطعةٌ من عقله، وظنه قطعة من علمه. وقيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثَّلة. وقال علي رحمة الله عليه: المرء مخبوءٌ تحت لسانه.
وقال النمر بن تَوْلَب:
أعِذْني رَبِّ من حَصَرٍ وعيّ ... ومن نفسٍ أعالجُها عِلاجا
وقال الآخر:
وما بي من عيٍّ ولا أنطق الخَنا ... إذا جمعَ الأقوامَ في الخَطبِ مَحفِلُ
وقال أحيحة بن الجُلاح:
والصمتُ أحسنُ بالفتى ... ما لم يكن عِيٌّ يَشينُهْ
والقولُ ذو خَطَلٍ إذا ... ما لم يكن لُبٌّ يُعينُهْ
وبعد معرفة النحو علم الدين، والفقه والتفقه فيه، ومعرفة الحلال والحرام منه. وقيل للحسين: ما المروءة؟ قال: الدين المتوسط.
وقال له رجل: علِّمني ديناً وسُوطا، لا ذاهباً فَروطا، ولا ساقطاً هَبوطا. فقال: نعم، خير الأمور أوساطها. وأنشد أبو عبيدة:
لا تذهبنّ في الأمور فرَطا ... وكن من الناس جميعاً وسَطا

وعلى قدْر دين الرجل حُسن مُنقلبه، وعلى حسب سريرته منزلته من ربه. وإنما يُبين عن الناس أعمالهم، ويُلحقهم بالصُّلاّح آثارهم - واعتمدنا تأليف هذا الكتاب، والحثّ على طلب الأدب والترغيب فيه، والحض على الإكثار منه، فإن المستكثر من شيء، إن لم يدرك آخره ولم يأت على غابره استكثر من الصواب، واستقل من الخطأ، وتزيّن به عند الناس، واستتر به من لؤم الأصل، وإنما الإنسان بنفسه وابنُ خبره.
وقالت عائشة: كل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به، وكل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به.
وقال الشاعر:
كن ابنَ من شئتَ واكتسب أدبا ... يُغنيك محمودُه عن النسب
وكان بعض العلماء إذا سأل عن قال: أعصاميّ هو أم عظاميّ؟ أي أهو ممن يفخر بآبائه وسلفه وبمن قد مضى من أهله، وهو خال مما كانوا فيه، أم هو بنفسه، كما قال الشاعر:
نفسُ عصامٍ سوّدتْ عصاما ... وعلّمته الكَرَّ والإقداما
وجعلْته مَلِكا هُماما
وسنذكر في كتابنا هذا أبواباً من كلام العرب وبعض ما روى عنها، ونثراً من أخبارها، ونفصل ذلك بأشعار وأخبار من قديم وحديث وما بينهما، ونقدّم العذر في تقصير إن وقع فيه أو خلل إن لزمه، فإنا ألفناه من غير خلوة به ولا تمييز لما تضمنه، ونسأل الله توفيقه وحُسن معونته، ونتوكل عليه ونسترشده، وبه الحول والقوة.

باب في
فضل الشعر
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثني أبو الفضل العباس بن الفرج الرِّياشي قال: روى لنا أشياخنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستحسن الشعر ويستنشده من أهله، ويُثيب عليه قائلَه. ثم يُروى أن شاعراً أنشده مدحاً في الله ومدحاً فيه، فأثابه على مدحه لله ولم يثبه على مدحه له.
وكان يتمثل بقول طرَفة: ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. لأن الشعر لم يجرِ قط على لسانه. وقال يوماً لأبي بكر رحمة الله عليه: كيف قال العباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العُبَيد بين الأقرع وعُيَينة؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله صلى الله عليه: بين عُيينة والأقرع. قال: أليس هما سواء! وكان يستحسن:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ
وكان يقول: " إن من الشعر لحكمةً، وإن من البيان لسحراً " . وكان حسان بن ثابت شاعره. ويروى أنه أنشده في كلمة له يقول فيها:
لو لم تكن فيه آياتٌ مُبَيّنةٌ ... كانت بُداهتُه تُنْبيك بالخبرِ
فأعجب بذلك، صلى الله عليه وسلم، وأثاب حساناً ودعا له.
ويروى أنه قيل لحسان بعد موت رسول الله عليه السلام: ما بالُك لا تَرثي رسول الله عليه السلام؟ قال: لأني أستقل كل شيء يجيئني فيه.
وروى أبو عبيدة قال: كان ابن عباس يقول: إذا أشكل عليكم الشيء من القرآن فارجعوا فيه إلى الشعر فإنه ديوان العرب. وكان يُسأل عن القرآن فينشد الشعر.
وسئل عن الزَّنيم، فقال: هو الدعيّ الملصّق، ألم تسمع إلى قول الشاعر:
زَنيمٌ تداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زيدَ في عرض الأديم الأكارع
وسئل عن قوله عز وجل: " والليلِ وما وَسق " . قال: وما جمع، ألم تسمع إلى قول الراجز:
إنّ لنا قَلائصاً حقائقا ... مُسْتَوسَقاتٍ لو يجِدن سائقا
وكان يفسر قوله: " فإذا همْ بالساهِرة " . قال: بالأرض، ألم تسمع إلى قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
فذاك جزاءُ ما عملوا قديما ... وكلٌّ بعد ذلكُم يدومُ
وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر ... وما فاهوا به لهمُ مقيمُ
وتحدث عمر بن شَبّة قال: بينما ابن عباس في المسجد الحرام وعنده ناس من الخوارج وابن الأزرق يسائلونه إذ أقبل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة فقال: أنشدنا، فأنشده:
أمن آل نُعم أنت غادٍ فمُبكِرُ ... غَداةَ غدٍ أم رائحٌ فمُهَجِّرُ
حتى جاء على آخرها، فأقبل عليه ابن الأزرق فقال: تالله يا بن عباس، إنا نضرب إليك أكباد الإبل عن أقاصي البلاد لنسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل علينا، ويأتيك مترفٌ من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أيْما إذا الشمسُ عارضتْ ... فيَخزى وأمّا بالعشيِّ فيخسرُ
فقال ابن عباس: ليس هكذا. قال: فكيف قال: فأنشده:
رأت رجلاً أمّا إذا الشمسُ عارضتُ ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصَرُ

فقال: ما أراك إلا وقد حفظت هذا البيت، قال: نعم! وإن شئت أن أنشدك القصيدة كلها كما أنشدك أنشدتك، قال: نعم، فأنى أشاء، فأنشده القصيدة حتى جاء على آخرها، ثم أقبل على عمر فقال: أنشِد، فأنشده:
تَشِطّ غداً دارُ جيرانِنا
فقال ابن عباس:
وللدار بعد غدٍ أبعدُ
فقال: كذا قلت! قال: كذا يكون - إن شاء الله - فاضطرب ابن أبي ربيعة وخجل، فقال له ابن عباس: إنما عنيت أنك أنت قلته، قال: يا عمّ، فكيف علمت؟ فقال: لا يكون بعد هذا إلا ذا.
ويروى أن أعرابياً سأله عن قول الشاعر:
لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا ... وما عُلّم الإنسانُ إلاّ ليعلما
من الذي قاله؟ ومن عُني به؟ قال: عمرو بن حُمَمة الدوسي، قضى على العرب ثلاثمائة سنة وهو ابن سبعين، فألزموه السادسَ من ولد ولده حيث كبر، فجعل بينه وبينهم أمارةً إذا اختلط أن يقرع له العصا ليرتدع. فذلك قول المتلمّس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا
ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه سمع كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري ينشد:
ألا هل أتى غسان عنّا ودوننا ... من الأرض خرق غَوله متتعتِعُ
مجالدُنا عن جِذمنا كلّ فخمة ... مُدرّبةٍ فيها القوانس تلمعُ
فقال صلى الله عليه: " لا تقل عن جِذمنا وقل عن ديننا " . فكان كعب يقرأ كذلك ويفتخر بذلك، ويقول: ما أعان رسول الله صلى الله عليه أحداً في شعره غيري.
وحدثني الرياشي في إسناد قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه المدينة اجتمعت عليه الأنصار، وجعلوا يخبرونه عن أمورهم، قال: وأنشده حسان:
وقد أروحُ أمامَ الحيِّ مُنتطِقاً ... بصارمٍ مثلِ لونِ المِلحِ قَطّاعِ
يدفعُ عني ذبابَ السيفِ سابغةٌ ... موّارةٌ مثلَ مَورِ النهْي بالقاعِ
في فتيةٍ كسيوفِ الهند أوجُههم ... لا ينْكُلون إذا ما ثوَّب الداعي
قال: ورسول الله صلى الله عليه يتبسم، فظن أن تبسمه لما يسمع من وصفه ما هو عليه من جبنه. وذكر الزبير أن قومه كانوا يدفعون أن يكون جباناً، ولكنه أقعده عن الحرب أن أكحله قد قُطع، فذهب منه العمل في الحرب، وأنشد الزبير قولَ حسان:
أضرَّ بجسميَ مَرُّ الدهور ... وخان قِراعَ يدي الأكْحَلُ
وقد كنت أشهد وقعَ الحروب ... ويحمرّ في كفِّيَ المُنْصُلُ
ورِثنا من المجد أُكرومةً ... يوَرِّثُها الآخرَ الأولُ
وحُدثت عن الأصمعي قال: الدليل على أن حساناً لم يكن جباناً من الأصل أنه كان يهاجي خلقاً فلم يعيّره أحد منهم.
وكان أبو بكر الصديق رحمة الله عليه - فيما يروى - شاعراً، وعمر شاعراً، وعلي أشعر الثلاثة. وينشد لعلي عليه السلام:
فلو كنّا إذا مُتنا تُركنا ... لكان الموتُ راحةَ كلِّ حيِّ
ولكنّا إذا متنا بُعثنا ... فنُسأل بعد ذا عن كل شيّ
وكانت عائشة رحمها الله تفسر قول رسول الله صلى الله عليه: " لأن يمتلئ جوفُ أحدِكم قيحاً حتى يَرِيَهُ )من الورى( خير له من أن يمتلئ شعرا " . قالت: يعني الهجاء منه.
وسمع أبو بكر يوماً قول لبيد:
أخاً لي أمّا كلَّ شيءٍ سألتُه ... فيعطي وأمّا كلّ ذنبٍ فيغفر
فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه.
وحدثني الرياشي قال: أنشد منشد أبا بكر قول زهير في هرِم بن سِنان:
أنْ نِعمَ معترَكُ الجياعِ إذا ... خَبَّ السفير وسابئ الخمرِ
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دُعيتْ نَزالِ ولُجّ في الذعرِ
ومرهَّقُ النيران يُحمد في ال ... لأواء غير مُلعَّن القِدْر
وجعل أبو بكر رحمه الله يقول عند كل بيت: ذاك رسول الله، حتى أنشده:
والسِّتْرُ دون الفاحشات وما ... يلقاك دونَ الخيرِ من سِتْرِ
أي يكون لك ستراً دون الفاحشات من دون الخيرات. فقال: هكذا كان والله رسولُ الله صلى الله عليه. ثم قال: أشعر شعرائكم زهير.

باب منه
قال محمد بن علي بن الحسين - صلوات الله عليهم: إن الله جلّ وعزّ - أدّب محمداً صلى الله عليه أحسن الأدب، فقال تبارك وتعالى: " خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرفِ وأعرضْ عن الجاهلين " .
فلمّا قبل عن ربه جل وعز، وعمل بما أمره به ربُّه أثنى عليه فقال: " وإنَّكَ لعلى خلُقٍ عظيم " .

وقال صلى الله عليه: " أوصاني ربي بتسع خصال: الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والفضل في الفقر والغنى، وأن أعفو عمّن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون نطقي ذكْراً، وصمتي فكراً، ونظري عِبَراً " .
وقال أنس بن مالك: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه المدينة جاءت بي أمي إليه فقالت: يا رسول الله، هذا ابني جئتُك به ليخدمك، فخدمتُه عشرَ سنين ما سمعته قال أفّ قطّ، ولا قال في شيء فعلتُه: لم فعلتَه؟ ولا قال في شيء لم أفعلْه: لمَ لمْ تفعلْه؟ فلما كانت السنة التي توفي رسول الله صلى الله عليه جاءته أمي، فقالت: خادمك أنس تدعو الله له، فقال: " اللهم أطل عمرَه، وكثِّر ولدَه ومالَه، واغفر له " . فقال أنس: قد دفنت من ولدي مائةً إلا اثنين، أو مائة واثنين، وغَلَّتي تأتيني في السنة مرتين. وبلغ سنة مائة سنة وسنين بعد ذلك لم يَعُدَّه، وخلّف من الولد عدداً كالقبيلة الوافرة. قال أنس: وإني لأرجو الله في الدعوة الرابعة. ولم يسأل صلى الله عليه الله عز وجل شيئاً فمنعه. ويروى أنه نظر إلى عصابة قادمة من الأعراب ولم يكن عنده في ذلك الوقت شيء يقسمه بينهم، فتناوله بعضهم بما كرهه، فجاءوه فقالوا: يا رسول الله اقتصص منا، فقال عليه السلام: " لا أفعل " .
وقال صلى الله عليه لوافد وفد عليه، فسأله عن شيء فكذَبَه: " أسألك فتَكْذِبُني! لولا سخاءٌ فيك وَمَقَكَ اللهُ عليه لشردتُ بك من وافد القوم " .
وقدم عليه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بأسراء، فأمر بقتلهم إلا واحداً منهم، فقال علي: يا رسول الله، الرب واحد، والدين واحد، فما بال هذا من بينهم؟ فقال: " إن جبريل أمرني عن الله تبارك وتعالى بترك هذا لسخاء فيه شكره الله له " .
ولما دخل المدينة قال لبني سَلِمة: " من سيّدُكم؟ " قالوا: جدّ بن قيس، على بخل فيه. فقال عليه السلام: " وأي داءٍ أدوى من البخل؟ لا يسود البخيل، بل سيدكم الأبيضُ الجعدُ عَمرو بن الجموح " ويقال: " بشر بن البراء " . وجاء في الحديث أن رجلاً سأله عليه السلام أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: " حسن الخلق " .
وسئلت عائشة رحمة الله عليها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه فقالت: أو ما تقرءون القرآن: " وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم " .
وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه مع أصحابه فصنعتُ له طعاماً، وصنعتْ له حفصة طعاماً، وسبقتْني، فقلت لجاريتي: اذهبي فأكْفِئي قصعتها، فلحقتْها وقد أهوت أن تضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه فكفأتْها؛ فانكسرتْ القصعة، وانتشر الطعام، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وما فيها من الطعام على نِطَع فأكلوا، ثم بعثتُ قصعتي إلى حفصة فقلت: خذوا هذه ظرفاً مكان ظرفكم فكلوا ما فيها. قالت: فما رأيت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه.
وجاءه رجل فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: " عليك بتقوى الله واليأس عما في أيديهم، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وإذا صليت فصلّ صلاة مودّع وإياك وما يُعتذر فيه " . فقال: زدني، قال: " حسن الخلق وصلة الرحم يزيدان في العمر " . وروى عنه أنه قال: " من أقال نادماً يبيع أقال الله عَثْرَته، ومن سعى في حاجة أخيه كان الله معه " . وقال عليه السلام: " إن من الصدقة - أو قال: من المعروف - لفَضلَ لسانك تعبِّر به عن أخيك " . وقال عليه السلام: " لعن اللهُ المُثلِّث " . قيل: وما المثلِّث؟ قال: " الذي يسعى بجاره إلى سلطانه، فقد أهلك نفسه وجاره وسلطانَه " .
وروى محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام قال: قال رسول الله عليه السلام: " اهتبِلوا عثَراتِ الكرام " . يقول: اغتنموا أن يعثروا فتصفحوا عنهم. وقال عليه السلام: " لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً " .
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: من أخذه اللهُ بمعصيته في الدنيا فاللهُ أكرمُ من أن يعيدها عليه في الآخرة، ومن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يأخذه بها في الآخرة. فيقال إن هذا أحسن حديث روي في الإسلام.

وروي أنه لما هم رسول الله صلى الله عليه بتزويج فاطمة علياً رحمهما الله أمر بجمع المهاجرين والأنصار، ثم قال لعلي عليه السلام: " تكلم خطيباً لنفسك " . فقال: الحمد الله حمداً يبلغه ويرتضيه، وصلى الله على نبيه صلاة تُزْلفه وتُحظيه، والنكاح مما أمر الله تعالى به، واجتماعنا مما قدّره الله وأذن فيه، وهذا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه زوّجني ابنته فاطمة على خمسمائة درهم، وقد رضيتُ، فاسألوه واشهدوا.
ويروى أن أبا طالب خطب لتزويج رسول الله صلى الله عليه خديجة بنت خويلد رحمها الله فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، ومن ذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس في محلّنا الذي نحن فيه؛ ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به شيء إلا عَظُم عنده، وإنه وإن كان في المال قُلّ فإن المال بعدُ رزقٌ جارٍ، وله في خديجة رغبة، ولها فيه تلك، والصداق ما سألتموه عاجله وآجله من مالي، وله والله خطر عظيم، ونبأ شائع جسيم.

باب
نوادر من غريب ولغة
حدثني المازني قال حدثني الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول: جاءت فُقيم تفايش بقبائلها، أي تفاخر، كما قال جرير:
ولا تفخروا إن الفِياش بكم مُزْرِ
وحدثني الأصمعي قال: سيف قُساسيّ: منسوب إلى معدن، وأنشدني لرجل يصف مِعوَلاً:
أخضرُ من معدن ذي قُساس ... كأنه في الحَيْد ذي الأضراس
يُرمى به في البلد الدهاسِ
وأنشدني أبو عثمان:
لو عرضتْ لأَيْبُليّ قَسّ ... أشعثَ في هيكله مندسّ
حنّ إليها كحنين الطَّسّ
جاء به على الأصل؛ وذلك أن أصله الطس، وإنما التاء بدل من السين، كما قالوا: ستة؛ وأصله سِدْسة، وجمع السِدْس أسداس مبني عن أصله، والسِدس مبني عن ستة، والطِّست يجمع على طِساس، ويصغّر على طُسَيْسة.
وأنشدني أبو عثمان المازني:
وما البُتوت غير صوف بَحْت ... مصبوغة ألوانها بالزُّفتِ
فضمّ الزاي، كقولهم: الضَّعف والضُّعف، والفَقر والفُقر.
ويقال: قلوتُ الإبل إذا سقتها سَوقاً شديداً، ودلوتُها إذا هوّنتَ عليها السير، وأنشدني عن أبي زيد:
لا تَقْلُوَاها وادْلُوَاها دلْوا ... إنَّ مع اليوم أخاه غَدْوا
وأخبرني الرياشي عن الأصمعي، يقال: حَبَض السهم إذا قصَّر عن الهدف ثم سقط، وأنشد:
والنِّبْل تهوي خَطَأ أو حَبْضا
وقال أبو زيد: حَبَض السهمُ إذا خرج عن الوتر فوقع بين يدي الرامي، والناقر: السهم الذي يصيب الهدف ثم يسقط، والعاصد: المائل عن الهدف، والحابض: الذي يقع قدّام الرامي، والقاصر: الذي يقصر عن الهدف، والزالج: الذي يصيب الأرض ثم يرتفع فيصيب الهدف، والمُعَظْعِظ: الذي يمر ملتوياً غير مستقيم؛ وأنشدني التوزيّ لعنترة:
وعَظْعَظَ ما أعدّ من السهام
ويقال: فوّق له بسهم، وأفوق له بسهم إذا وضعه في الوتر. قال المازني: قال أبو زيد: أصابه سهمُ غَرْبٍ وسهمُ غَرَب؛ والغَرْب: الذي يأتيك من حيث لا تدري، فأمّا سهم غَرَب فإذا رُمي غيره فأصابه، والغَرَب: الذي يرمي غيره فأصابه هو.
يقال: خبرت الطعام إذا خلطتَه بدَسم، وسمرْتُه إذا أعريته من ذاك. قال رجل من الأعراب لامرأته: عليك بهذا الطعام فاخبُريه ولا تَسْمُريه. والخُبْرة: الدسم، والسمار: اللبن الرقيق، يقول: اجعلي فيه دسماً ولا تجعلي فيه سَماراً. والخُبرة أيضاً: النصيب من الجزور وأنشد:
إذا ما جعلتِ العنزَ للقومِ خُبرةً ... فشأنَكِ إنّي عامد لشؤوني
أي إذا ما فرغت من طعام الضيف فافعلي ما شئت.
ويقال: الجاثي على ركبتيه، والجاذي على ركبتيه ورجليه قائماً، وأنشد:
لقد طالما جرّبتَني فوجدتَني ... على مركَب السَّوء المذلة جاذيا
وحدثني المازني عن أبي زيد قال: تقول العرب - وقد جُرّب ذلك فوجد - :الضب لا يزيد على الإجذاع، والظبي لا يزيد على الإثناء. وتقول العرب: لا آتيك سِنَّ الحِسْل جُذعاناً، وسِنَّ الظبي ثُنياناً.

وقال: من كلامهم: " أحيا من ضب " . وذكروا أنه يعيش ثلاثمائة سنة. ويقال: الضب أطول الدواب ذَماءً إذا ذُبح وأبقاه، يعنون أنه لا يموت سريعاً. والذَّماء: النفس. ويقال: " أعقّ من ضب " ، وزعموا أنه كان يأكل أولاده.
ويقال: هذا بحر لا يغطغط، ولا يُنكَش، ولا يُنكَف، ولا يفتح ولا يدرَك غَورُه.
والغَرَب: كثرة الماء؛ يقال: غرِب البحر إذا تدفق ماؤه. ويقال: غرِبت معدتُه ورمَضت وذرِبت إذا فسدت من امتلائها.
وكان يقال - وهو الجاري في كلامهم - : الأسوَدان: التمر والماء، والأحمران: اللحم والنبيذ. وقالوا أيضاً: الأحامرة: اللحم والنبيذ والزعفران؛ وقال الأعشى:
إن الأحامرةَ الثلاثة أذهبتْ ... مالي وكنتُ بها قديماً مُولَعا
الراح واللحم السمين وأطّلي ... بالزعفران وقد أرُوح مولَّعا
ولقد شربتُ ثمانياً وثمانيا ... وثمانَ عشرة واثنتين وأربعا
والأبيضان: الشحم واللبن. وقيل: اللبن والماء. والأصرمان: الذئب والغراب. والأهيمان: الجمل الهائج والسيل؛ وهما الأيهمان أيضاً. والأيهم: الرجل الذي لا عقل له ولا فهم، وهو الحجر الأسود الذي لا أثر فيه أيضاً. والأيهم: الذي لا عَلَم به. واليهماء: الفلاة الملساء، وهي القِرواح. وذهب منه الأطيبان: الطعام والنكاح. ووقع في الأهيغين: أي في الأكل والنكاح. والأصفران: الوَرْس والزعفران. والحجران: الذهب والفضة، وهما الحَبيبان. والفَتَيان: الليل والنهار، وهما المَلَوان، والأجدّان، والجديدان. والعصران: الغداة والعشي، وهما القُرّتان والبَردان والأبردان. والغاران: الفرج والفم، وكذلك الطرفان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه من حفظ طرفيه فله الجنة " . وذهب منه الأبيضان: شبابه وشحمه. وجاء في الحديث: " لا صلاة لمدافع الأخبثين " ، وهما البول والغائط.
وكانت أم الهيثم من أفصح من رأيت، وسمعتها تقول من كلامنا: لا ترضى الشانئة إلا بجَرْزة. والشانئة: المُبغضة، وهي التي لا ترضى ممن أبغضتْه إلا باستئصال؛ ومنه قيل: سيف جُراز للذي يقطع كلّ ما يمر به. ورجل جَروز: إذا قعد على الزاد فأفناه، وأنشدتني:
كانت عجوزاً خَبّة جَروزا ... تأكل في مَقعَدها قَفيزا
تشرب حُبّاً وتبول كوزا ... لا تنكحنّ بعدها عجوزا
ومنه الأرض الجَروز التي تأكل نبتها فلا تدفع منه شيئاً.
وسمعتها تقول: جاء فلان يضرب أصدرَيه وأزدرَيه وأسدرَيه، وينفض مِذْرَوَيه، أي هو فارغ، قال عنترة:
أحولي تنفُضُ آستُك مِذروَيْها ... لتقتلني فهأنذا عُمارا

باب
من الشعر
أنشدني المازني لعبد الله بن الدُّمينة الخثعمي:
ولما لحقْنا بالحُمولِ ودونَها ... خميصُ الحشا تُوهي القميصَ عواتقُهْ
قليلُ قذى العينين نعلم أنهُ ... هو الموت إن لم تُلق عنا بوائقُه
عرضْنا فسلّمنا فسلّم كارهاً ... علينا وتَبريحٌ من الغيظِ خانقُه
فسايرتُه مِقدارَ ميل وليتني ... بكُرهي له ما دام حيّاً أرافقُه
فلما رأتْ أنْ لا وصالَ وأنهُ ... مدى الصُّرم مضروبٌ علينا سرداقُه
رمتني بطرفٍ لو كَمِيّاً رمتْ به ... لَبُلَّ نجيعاً نحرُه وبنائقُه
ولمعٍ بعينيها كأن وميضَه ... وميضُ الحيا تُهدى لنجْدٍ شقائقُه
وقال توبة بن الحُمَيِّر في كلمة له:
لكل لقاء نلتقيه بَشاشة ... وإن كان حولاً كل يوم أزورها
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعَتْ ... فقد رابني منها الغداةَ سُفورُها
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه ... وإعراضُها عن حاجتي وبُسورها
ألا إنّ ليلى قد أجدَّ بُكورها ... وزُمَّت غداة السبت للبينِ عيرُها
فما أمُّ سوداء المحاجر مُطْفِلٌ ... بأحسنَ منها مُقلتَينِ تُديرها
وكنت إذا ما جئت قلت لها اسْلمي ... فهل تر في قولي " اسلمي " ما يضيرها!
قوله: وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعَتْ؛ كان النساء إذا أنكحن أبرزن وجوههن ليُعلمْن أن لا سبيل إليهن؛ وكذلك قال:
وقد رابني منها الغداةَ سفورُها
وقال في هذه القصيدة:
وأُشرِفُ بالقور اليَفاع لعلّني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرُها
حمامةَ بطن الواديين تَرنَّمي ... سقاكِ من الغُرّ العِذاب مطيرها

أبيني لنا لا زال ريشكِ ناعماً ... ولا زلت في خضراء دانٍ بَريرُها
وقال آخر:
تعرّضن مرمى الصيدِ ثم رمينني ... من النبل لا بالطائشات الخوالف
ضعائفُ يقتلْن الرجالَ بلا دمٍ ... فيا عجباً للقاتلاتِ الضعائف!
وللعين مَلهىً في التِّلادِ ولم يَقُد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطرائف
وقال آخر:
أروحُ ولم أحدِثْ لليلى زيارةً ... لبئس إذاً راعي المودة والوصلِ
ترابٌ لأهلي لا ولا نعمةٌ لهم ... لشَدَّ إذاً ما قد تعبَّدني أهلي
وقال الشمردل اليربوعي:
وما أنصفتْ ذَلْفاءُ أمّا دُنوُّها ... فهجرٌ وأما نأيها فيشوقُ
تباعَدُ ممن واصلتْ وكأنّها ... لآخَرَ ممن لا تودّ صديقُ
يقول: لتنفي الريبة عن نفسها.
وقال آخر:
وأعرض حتى يحسب الناس أنما ... بيَ الهجر، لا ها الله! ما بي لكِ الهجرُ
ولكنْ أروضُ النفس أنظر هل لها ... إذا فقدت يوماً أحبّتَها صبرُ
وقال آخر:
فإن كان هذا منكِ حقاً فإنني ... أُداوي الذي بيني وبينِك بالهجرِ
ومنصرفٌ عنكِ انصرافَ ابن حرّة ... طوى وُدَّه والطيّ أبقى من النشرِ
وقال أعرابي فصيح:
أيا ربوةَ الرَّبعَين حُيِّيتِ ربوةً ... على النأي منا واستهلّ بكِ الرعدُ
قضيتُ الغواني غير أن مودة ... لذلفاء ما قضّيتُ آخرَها بعدُ
فإن تَدَعي نجداً أدَعْه ومن به ... وإن تَسكُني نجداً فيا حبّذا نجدُ
فرى نائباتُ الدهرِ بيني وبينها ... وصرفُ الليالي مثلما فُرِى البُردُ
إذا قيل يومُ الوعد أدنى لقائنا ... فلا تَعذُليني أن أقول متى الوعد؟
ولكثيِّر:
وأنتِ التي حبّبتِ شَغْباً إلى بدا ... إليّ وأوطاني بلادٌ سواهما
حللتِ بهذا مرة ثم مرّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
وأنشدني الرياشي لذي الرمّة:
إذا ما امرؤ حاولْن أن يقتتلْنَه ... بلا إحْنَةٍ بين الصدور ولا ذَحْلِ
تبسّمن عن نَور الأقاحيّ في الثرى ... وفتّرن عن أبصار مكحولة نُجْلِ
وشفّفن عن أجياد غزلان رَملة ... هِجان فكان القتلُ أو شبَهُ القتل
وإنّا لنرضى حين نشكو بخَلوة ... إليهنّ حاجاتِ النفوس بلا بذل
وما الفقرُ أزرى عندهنّ بوصلنا ... ولكن جرتْ أخلاقُهنّ على البخل
وأنشدني الرياشي لذي الرمة:
لعمري لوجهُ الأرض إذ أنتمُ به ... أشد اغتباطاً بالأنيس وأخصبُ
من الأرضِ إذ فارقتموها وبُدّلَت ... بكم غيرَ من أهوى ولَلماءُ أعذبُ
وفي الركب جثماني ونفسي رهينةٌ ... بزينب لم أذهبْ بها حيثُ أذهبُ
وأنشدني مسعود بن بشر بمعروف بن زُريق:
ولست بناسيها عشية فتّلتْ ... أناملَها وارفضَّ منها المدامعُ
وأترابُها اللاتي يقلن اقتتلنه ... فما لنواه بعد ذا اليوم جامعُ
فقلت اقتلا اقتلا رفيقاً وأجمِلا ... فِعال امرئ يوماً به الموت واقعُ
فقالتْ وبيت الله لا تقتُلانِه ... ولكن سَلاه لي متى هو راجعُ
وقال الصمة بن عبد الله القشيري:
ألا من لقلب قد أصيبتْ مَقاتلُهْ ... به غُلّةٌ عاديةٌ ما تُزايلُهْ
ومعتصِبٍ بالبينِ لم تستطع له ... كلاماً ولم تُصرم لبين حبائلُهْ
وقال آخر:
لو انَّ لك الدنيا وما عُدلتْ بها ... سواها وليلى بائنٌ عنك بَينُها
لكنتَ إلى ليلى فقيراً ولو جرتْ ... عليك تناعيمُ الحياة ولينُها
وقال آخر:
لعلّكَ يوماً أن ترى أمَّ واهب ... ويجمعُنا من نخلتين طريقي
وتنضمُّ أعناقُ المطيّ وبينَنا ... لُغىً من حديث دون كل رفيق
وقال كُثيِّر:
رأيتُ وعيني قرّبتْني لِما ترى ... إليها وبعض العاشقين قَتولُ
عيوناً جَلاها الكحلُ أمّا ضميرها ... فعفٌّ، وأما طرفها فجهولُ
فسلك العباس بن الأحنف هذا المعنى في شعره:
أتأذنون لصبّ في زيارتكمْ ... فعندكم شهواتُ السمع والبصرِ
لا يضمر السوءَ إن طال الجلوسُ به ... عفُّ اللسان ولكنْ فاسق النظرِ
وقال كثيّر:
رمتني على قرب بثينةُ بعدَما ... تولّى شبابي وارجحنَّ شبابُها

بعينين لو أبدتهما ثم كلّمت ... سحابَ الثرى لاستهلّ سحابُها
وأنشدني التوزي عن الأصمعي:
من ذا رسول ناصح فمبلغٌ ... عني عُلَيّة غير قيلِ الكاذبِ
أني غرِضتُ إلى تناصُف وجهِها ... غرَض المحب إلى الحبيب الغائب
قال الأصمعي: سألت عيسى بن عمر عن التناصف فقال: هو أن تكون العينان مثل الأنف في الحسن. قال ويقال: غرِضتُ إلى لقائك وجعت وعطشت، وإني إليك لأَصْوُر، وإلى إليك لمُلْتاح، وإني لأجادُ إلى لقائك. وقال:
وإني لأمضي الهمّ عنها تجمُّلا ... وقلبي إلى أسماءَ عطشان جائعُ
وقال الأقرع بن معاذ:
سلام على من لا يُملُّ حديثُه ... وإن عاشرتْه النفس عصراً إلى عصرِ
وما الشمسُ يوم الدجْن وافتْ فأشرقت ... وما البدر وافى تِمّه ليلة البدر
بأحسن منها بل تزيد ملاحةً ... بذي السَّرْح أو وادي المياه خيامُها
إذا ابتسمتْ في الليل والليلُ مظلم ... أضاء دُجى الليل البهيم ابتسامُها

باب
نذكره في الجود والكرم
يروى من غير وجه: سمعنا أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب كان يقال له عبيد الله الجواد. حدثني علي بن القاسم الهاشمي قال: كانت سمات أربعة من ولد العباس: عبد الله الحِبْر، وعبيد الله الجواد، ومَعبد الشهيد، وقُثَم الشبيه؛ وتأويل ذلك أن قُثَم بن العباس كان كثير المشابهة برسول الله صلى الله عليه، وكان العباس يُرقِّصه ويقول:
أبا قُثَمْ أيا قُثَم ... أيا شبيهَ ذي الكرمْ
شبيه ذي الأنف الأشمّ
صلى الله عليه. وحدثني المازني قال: قدم قوم على معاوية بالشام فقال: من أفقه من خلفت بالمدينة؟ فقال: عبد الله بن العباس. قال: فأسخاهم؟ قال: عبيد الله. قال: فأعبدهم؟ قال: معبد. ويروى أنه قيل لعبيد الله بن العباس: صف لنا أنفسَكم وبني أمية، قال: نحن أفصح وأسمح وأصبح، وبنو أمية أمكر وأنكر وأغدر. وفي خبر آخر: نحن أمجد وأجود وأنجد.
ويروى أن مولىً لبني أمية قال لمولى لبني هاشم: مواليّ أجودُ من مواليك، فقال الهاشمي: بل مواليّ والله، فهلم فسلْ عشرة من مواليك وأنتم السلطان، واسأل عشرة من مواليّ، فتحالفا وتعاقدا على ذلك، فانطلق الأموي فسأل عشرة من مواليه، فأعطاه كل واحد عشرة آلاف، وانطلق الهاشمي إلى عبيد الله بن العباس فسأله فأعطاه مائة ألف، وأتى الحسن بن علي فسأله فقال: سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم، عبيد الله بن العباس. فقال: لو بي بدأت لكفيتك أن تسأل غيري. وأعطاه ثلاثين ومائة وألف. ثم أتى الحسين بن علي عليهما السلام. فسأله، فقال: هل سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم، أخاك الحسن فأعطاني ثلاثين ومائة ألف، فقال الحسين: لا أتجاوز ما فعل سيدي، وأعطاه مثلها. قال: فانطلق الهاشمي من ثلاثة بثلثمائة ألف وستين، وأتى الأموي من عشرة بعشرة آلاف، فانصرف مغلوباً فردها على من أعطاه فقبلها، ورجع الهاشمي ليرد ما أخذه على من أعطاه، فكلهم قالوا بعد أن أبَوه قبولها: اذهب فألقها حيث شئت.
ويروى أن عبيد الله بن العباس خرج يريد معاوية ذات يوم فأصابه سماء، ونظر إلى نُوَيرة عن يمينه، فقال لغلامه: ملْ بنا إليه، فلما انتهى إذا رجل شيخ، وإذا هيئة رثّة ونَعَم مَهازيل، فقال له الشيخ: انزل فنزل، ودخل الشيخ على امرأته فقال: هَبي لي عنزك حتى أقضي بها ذِمام هذا الرجل، فقد توسمت فيه الخير، فإن يكن من مُضر فهو من بني عبد المطلب، وإن يكن من اليمن فهو من بني آكل المُرار. قالت: وقد عرفتَ حال صبيتيَّ هاتين وأن معيشتهما منهما وهما توءمتان، وأنا أتخوّف عليهما الموت، قال: موتُهما خير من اللؤم، فقبض على رِجل الشاة فاجترَّها إلى المذبح، وأخذ الشفرة بيمينه ثم قال:
قَرينتي لا تُوقظي ابنتَيّهْ ... إن تُوقَظا تنتحبا عليّهْ
وتنزِعا الشفرةَ من يديَّهْ ... أبغِضْ بهذا وبذا لديّهْ

ثم شحطها وكشف عن جلدها، وقطعها أرباعاً فقذفها في القِدر، وصب عليها ماء وحفن عليها من الملح، وجعل يَحُشُّ تحتها حتى بلغت إناها، ثم ثرد في جفنة فعشّاهم، ثم غدّاهم، فأقام عنده يومين وليلتين، ثم أراد الرحيل فقال لغلامه: ارم إلى الشيخ بما أخرجت من النفقة، فقال: سبحان الله! إنما ذبح لك شاة فكافئه بمثلها خمس مرات، وهو بعد لا يعرفك. فقال: ويحك! إن هذا لم يملك من الدنيا غير هذه الشاة فجاد بها؛ وإن يكن لا يعرفني فأنا أعرف نفسي، ارمِ بها إليه، فقال: إنها أكثر من ذلك، قال: وإن كثرت. فرمى بها إليه - وكانت خمسمائة دينار - ثم ارتحل فأتى معاوية فقضى حاجته وأكرمه، وأقبل راجعاً إلى المدينة حتى قرُب من الشيخ، فقال لغلامه: يا مِقْسَم، مل بنا ننظر إليه كيف حاله، فإذا فناءُ رجل سِريّ، وإذا نار ورماد ودخان عالٍ وإبل كثيرة وغنم، ففرح بذلك، فقال له: أتعرفني؟ قال: لا والله فمن أنت؟ قال: أنا أبو منزلك ليلة كذا، قال: وإنك لهو! فجعل يقبّل رأسه ثم قال: جعلني الله فداءك! قد قلت أبياتاً فاسمعها مني، فقال:
توسّمتُهُ لمّا رأيتُ مَهابةً ... عليه وقلتُ المرء من آل هاشمِ
وإلاّ فمن آل المُرار فإنهم ... ملوك عِظام من ملوك أعاظم
فقمتُ إلى عنزٍ بقيّة أعنُز ... فأذبحها فعلَ امرئ غير نادمِ
فعوّضني منها غناي ولم تكنْ ... تساوي قليلاً من قليلِ الدراهمِ
فقلت لعِرسي في الخلاء وصبيَتي ... أحقاً أرى أم تلك أحلام نائمِ
فقالوا جميعاً: لا بل الحق هذه ... تَخُبّ به الركبان وسْطَ المواسم
بخمس مئينٍ من دنانيرَ عُوِّضت ... من العنز ما جادت به كفّ حاتمِ
فضحك عبيد الله وقال: لما أعطيتنا أكثرُ مما أخذت، يا غلام أعطه مثلها. فبلغت فَعلته معاوية فقال: لله در عبيد الله! من أي بيضة خرج؟ وفي أي عش درج؟ هذه لعمري من فعَلاته.
ويروى من غير أن وجه: أن عبد الله بن جعفر - وكان من الأجواد المتقدمين - خرج يريد الشأم، فألجأه المطر إلى أبيات، فإذا قبة حمراء بفنائها رجل ينادي: الذَّرى الذرى! فأنخنا وحطّ عن رواحلنا، ثم أتى بجَزورٍ فنحرها، فبتنا في شِواء وقدير، وتحدث معنا هُنيهة من الليل، ثم انصرف وأتى بجزور فنحرها، فقلنا له: يرحمك الله! ما تريد بهذا وقد فضل ما فيه كفاية؟ فقال: كلوا رحمكم الله! فإنا لا نُطعم الضيف غابّاً. قال عبد الله: فدعوت بثوبٍ وجعلت فيه زعفراناً وصررت في كل طرف منه مائتي دينار، ثم بعثتُ به إلى أهله فقالوا: إنا لا نقدر على أخذه إلا بإذنه، وسألته أن يقبله فأبى، فلما ارتحلنا وودعته أمرت بالثوب، فأُلقي بين البيوت، قال: فإنا لنسير إذ لحقنا على فرس مُشرعاً رمحه، قد احمرت عيناه فصاح بنا: أغنوا عني هذه، ونبذه إلينا وولّى وهو يقول:
وإذا أخذتَ ثوابَ ما أعطيتَه ... فكفى بذاك لنائل تَكديرا
وهذا يشبه ما حدثني به الرياشي من أن سليمان بن عبد الملك لما حج ونزل الطائف هارباً من وَمَد مكة، قال له رجل من ثقيف: انزل عليّ، فقال: إنك لن تطيقني، فقال: إني لأطيقك. فنزل عنده أياماً، ثم ارتحل، فأمره بالخروج معه، فقالت له امرأته: اخرج معه إلى مستقره، فقال: أعمل معه ماذا؟ أقول له أعطني ثمن ما أكلته عندي! لا والله لا أفعل أبداً ويروى أن الحسن والحسين عليهما السلام لاما عبد الله بن جعفر في إسهابه في إعطاء المال - وكانا من الجود ما لا نهاية له - فقال: بأبي وأمي أنتما! إن الله عز وجل عوّدني أن يمدّني بماله، وعوّدته أن أفْضِل على خلقه، فأكره أن أقطع العادة فتنقطع عني المادة؛ وهذا يشبه ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه أنه قال: " الخلْق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله " .
وفي عبد الله بن جعفر يقول القائل:
وما كنتَ إلا كالأغرِّ ابنِ جعفرٍ ... رأى المال لا يبقى فأبقى به حمدا
ويروى أن نُصَيباً امتدحه فأعطاه خيلاً وإبلاً ودنانير ودراهم وثياباً، فقال أحد من حضر: أمِثلُ هذا الأسود يُعطى هذا المال؟ فقال: أما إنه لئن كان أسودَ إن شِعرَه لأبيض، وإن مدحه لعربي، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وما الذي أعطيناه؟ إنما أعطيناه مالاً يفنى، وثياباً تبلى، ومطايا تُنْضى وأعطانا ثناء يبقى، ومديحاً يُروى.

وهذا يشبه ما يروى عن معاوية أنه قال لرجل من ولد قيس بن معد يكرب: ما أعطى أبوك الأعشى حين مدحه؟ فقال: ثياباً وإبلاً وأشياء أُنسيتُها، قال: لكنه أعطاه ما لا يُنسى.
ويروى أن عبد الله بن الحسن قدم على أمير المؤمنين أبي العباس فسلم عليه والمال في ذلك الوقت قليل - فلما انصرف بعث إليه بثلاثين ألف درهم وقال له: أعلمتَ أن مثلي وهب لمثلك مثلَها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية فسلم عليه. فلما انصرف وجّه إليه بمائة ألف درهم وقال للرسول: احفظ ما يقول، فرجع إليه فقال: قال: اقرأ عليه السلام. قال يزيد: لم يرض ابن جعفر! اذهب إليه بمثلها، ففعل، فقال: قل له: وصلتكَ رحِم. قال أبو العباس: فاسق وهَب لمُسرف.
وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال: كان ابن هبيرة وهو أمير العراق يقسم المال بين أصحابه ويقول:
لا تبخلنَّ بدنيا وهي مُقبلةٌ ... فليس يَنقصُها التبذيرُ والسرفُ
فإنْ تولتْ فأحرى أن تجود بها ... فالشكرُ منها إذا ما أدبرتْ خَلَفُ
ومثل ذلك قول يحيى بن خالد البرمكي لبنيه: يا بَنيّ، إذا أقبلت الدنيا عليكم فأعطوا منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنكم فأعطوا منها فإنها لا تبقى. وكان بعضهم يعطي العطايا السابقة ويفرّق التفرقة الواسعة، وينشد:
أنتَ للمالِ إذا أمسكتَهُ ... فإذا أنفقتَه فالمالُ لكْ
ونظر الأحنف إلى درهم في يد رجل يقلّبه، فقال: أما إنه ليس لك حتى يخرج عن يديك.
ويروى عن يحيى بن خالد أنه كان يقول: لا يحسن بالملِك أن تكون جائزته أقل من ألف ألف، وجائزة وزيره أقل من خمسمائة ألف. وكان يعطي ويعتذر كما قال يزيد المهلبي:
كم صغَّروا منهمُ والله يكلؤهمْ ... نعماءَ ما صُغّرت إلا لأن عَظُموا
ويروى أن المأمون قال لمحمد بن عباد المهلبي - وكان من أجود الناس: بلغني يا محمد أنك تصُبّ المال صباً، قال: يا أمير المؤمنين، حَبْس الموجود سوءُ الظن بالمعبود. وكان رسول الله صلى الله عليه يقول: " الله يقول: ابن آدم يقول: مالي مالي؛ مالك من مالِك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت " . وقال عليه السلام: " خصلتان ليس فوقهما من الخير شيء: الإيمان بالله عز وجل والنفع لعباده " . وقال عليه السلام: " من عظُمتْ نعمة الله عنده عظُمت مؤونة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤونة عرّض تلك النعمة للزوال " . وقال عبد الله بن العباس: ما رأيت رجلاً لي عنده معروف إلا أضاء ما بيني وبينه، وما رأيت رجلاً أسأت إليه إلا أظلم ما بيني وبينه. ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال: استكثِروا من شيء لا تأكله النار، قيل: وما هو؟ قال: المعروف. وكان ابن السمّاك يقول: العجبُ ممن يشتري المماليكَ بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه.
وأنشد منشد عبد الله بن جعفر:
إن الصنيعة لا تكون صَنيعةً ... حتى يصابَ بها طريقُ المصنَعِ
فإذا صنعت صنيعةً فاعمل بها ... لله أو لذوي القرابة أو دعِ
فقال: هذان البيتان يُبخِّلان الناس، أمطر المعروف مطراً فإن أصاب الكرامَ كانوا له أهلاً، وإن أصاب اللئام كنت أهلاً لما صنعتَ. وقال معن بن زائدة: ما أتاني رجل في حاجة فرددته عنها إلا رأيت الغنى في قفاه. ويروى أن حكيم بن حزام قال: ما أصبحت ذا صباح قط فرأيت ببابي طالبَ حاجة، أو مستعيناً بي على أمر قد ضاق به ذرعاً إلا كان ذلك من النِّعم التي أحمد الله عليها، وإن أصبحت ذا صباح ولم أر ذلك كان من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها. وقيل لأبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: لم حرّم الله الربا؟ قال: لئلا يتمانع الناس المعروف. وقال جعفر لسفيان الثوري: احفظ عني ثلاثاً؛ إذا صنعتَ معروفاً فعجِّله فإن تعجيله تهنئته، وإذا فعلته وهو كبير فصغِّره فإن تصغيرك إياه أعظم له، وإذا فعلته فاستره فإذا ظهر من غيرك كان أكبر لقدره، وأحسنَ في الناس.
وحدثني مسعود بن بشر قال:

كان الحَجاج على عُتوِّه وإسرافه على نفسه جوداً، وكان إذا ضحك واستُغرِب أتبع ذلك الاستغفار مرات. وكان يصعد المنبر ملتفِعاً بمُطْرَفِه فما يُسمع من كلامه إذا ابتدأ في الخطبة، ثم يتزيّد حتى يُخرج يده عن مُطْرفه، ثم يصيح الصيحة يسمع بها أقصى من في المسجد، وكان يُطعم على ألف خوان جنباً مشوياً وسمكة طرية وثريدة، وكان له ساقيان أحدهما يسقي العسل والآخر يسقي الماء واللبن. وكان يُطاف به في محفّة يدور على الموائد ويقول: يا أهل الشام مزّقوا الخبز فإنه لا يُعدّ عليكم، وكان يُجلس على كل مائدة عشرة رجال وذلك في كل يوم، وكان يقول: أرى الناس يتخلّفون عن طعامي في كل يوم! فقال له بعض من حضر: كأنهم يكرهون الحضور قبل أن يُدعَوا، قال: قد جعلتُ رسولي إليهم في كل يوم الشمسَ إذا طلعت، فليحضروا.
وحدثني المازني قال: بلغني عن دهقانِ نهر تِيرى، وكان الناس لا يرون ناراً ولا دخاناً إلا في مطبخه لقيامه بشأنهم وتفقده لأحوالهم، فرأى يوماً دخاناً فاستنكر ذلك، فمضى غلمانه يتحسسون فإذا امرأة وجدت وجعاً في حلقها واتخذت حَسْواً تحسوه، فأخبروه بذلك، فأمر أن يُتخذ في مطبخه كل يوم كُرّ من دقيق حَسواً.
قال أبو العباس قد ذكرنا من هذا الباب بعض ما استحسناه ونمى إلينا، ونحن نذكر بعقبه أشعاراً تُشاكل هذا الباب وتدخل في هذا النوع، وبالله الحول والقوة.

باب من الشعر:
أنشدني أبو عثمان المازني:
وإنا لمشّاءون بين رحالِنا ... إلى الضيف منا لاحِفٌ ومُنيمُ
فذو الحِلم منا جاهل من ورائه ... وذو الجهل منا عن أذاه حليمُ
وقال آخر يصف ضيفاً:
عوى في سوادِ الليلِ بعد اعتسافِه ... لينبح كلبٌ أو ليفزَع نُوَّمُ
فجاوبهُ مستسمعُ الصوتِ للقِرى ... له مع إتيانِ المهيبينَ مَطعَمُ
يكادُ إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ... يكلّمه من حُبّه وهو أعجمُ
وقال أعرابي:
وعاوٍ عوى شِبهَ الجنون وما به ... جنونٌ ولكن كيدُ أمرٍ يحاولُهْ
فأوقدتُ ناري فاستضاءَ بضوئها ... وأخرجت كلبي وهو في السجن داخلُهْ
فلما رآها كبّر اللهَ وحدَه ... وبشّر قلباً كان جَمّاً بلابلُه
فلما أتاها قلت أهلاً ومرحباً ... تقدمْ ولم أقعدْ إليه أسائلُه
فقمت إلى البَرْك الهِجان أعودها ... بضربة حق لازم أنا فاعلُه
فجالت قليلاً واتَّقتني بخيرها ... سَناماً، وأدناها من الشحم كاهلُه
فأطعمته من لحمها وسنامها ... شواءً، وخيرُ الخير ما كان عاجلُه
طعامين لا أسطيعُ بخلاً عليهما ... جنى النحل والمغصوب تغلي مراجلُه
وقال آخر يصف ضيفاً:
ومُسْتَنبِح قال الصدى مثلَ قولِه ... حضأت له ناراً لها حطبٌ جزلُ
وقمت إليه مسرعاً فغنمْتُه ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبلُ
فأوسعَني حمداً وأوسعتُه قِرىً ... وأرخِصْ بحمد كان كاسبَه الأكلُ
وقال أبو كدراء العِجليّ:
يا أمَّ كدراء مهلاً لا تلوميني ... إني كريمٌ وإن اللوْم يؤذيني
فإن بخلْتُ فإن البخلَ مشتركٌ ... وإنْ أجُدْ أعطِ عفواً غيرَ ممنونِ
ليستْ بباكية إبْلي إذا فقدَتْ ... صوتي ولا وارثي في الحيّ يبكيني
بنى البُناةُ لنا مجداً ومكرُمةً ... لا كالبناء من الآجرّ والطينِ
وقال عتبة بن بجير:
سأقدحُ من قِدري نصيباً لجارتي ... وإن كان ما فيها كَفافاً على أهلي
إذا أنتَ لم تُشرك صديقَك في الذي ... يكون قليلاً لم تشاركْه في الفضلِ
وعلى ذلك قول الآخر:
ليس جود الأقوام عن فضل مال ... إنما الجود للمقلّ المواسي
وكذلك قول العتبيّ:
ليس العطاء من الكثير سماحةً ... حتى تجودَ وما لديكَ قليلُ
ومثل قول عتبة في شعره ووصفه سعة قِدره وإيثاره جارَه على أهله قول بعض الأعراب:
وقِدرٍ إذا ما أنفضَ الناس أوْفَضَتْ ... بأزفارها تومي إليها الأرامل
الزِّفر: الحِمل، يقول: إذا قل مال الناس لم يبخل بما كان يقيمه للأضياف المحتاجين إليه. وأوفضت أو وُسِّعت، ويقال أسرعت.

وحدثني المازني عن أبي زيد قال: وصفت امرأة من سعد امرأة فقالت: إنها للَيَّاءُ العنق، مِمْذاق السِّقاء، مِنْهاء القِدْر.
ليّاء العنق: كثيرة الالتفات إلى الأضياف. ممذاق السقاء؛ يقول: إذا قلّ لبنُها مذقته بالماء ليتسع على أضيافها، كما قال الشاعر:
نُمدُّهمُ بالماء لا لهوانهمْ ... ولكنْ إذا ما قلَّ شيءٌ يُوسّعُ
ومنهاء القدر: أي تعجّل إنزالها إلى أضيافها، ونظن أن قولها: منهاء القدر، من نَهِئَ اللحمُ إذا كان نيئاً.
وقال خالد بن عبد الله الطائي، ويقال لحاتم الطائي:
وعاذلةٍ قامتْ عليّ تلومُني ... كأني إذا أعطيتُ مالي أضيمُها
أعاذلَ إن الجودَ ليس بمُهلكي ... ولا يُخلد النفسَ الشحيحةَ لؤمُها
وتُذكَر أخلاقُ الفتى وعظامه ... مغيّبة في اللحدِ بالٍ رميمُها
ومن يبتدع خِيماً سوى خِيم نفسه ... يدعْهُ ويغلبْهُ على النفس خيمُها
وأنشد أبو زيد في قصيدة لحاتم أولها:
ألا أرقتْ عيني فبتُّ أديرُها
وإنا نُهين المالَ من غير ضِنّةٍ ... ولا يشتكينا في السنين ضريرُها
إذا ما بخيل الناس هرّت كلابُه ... وشقّ على الضيف الغريب عقورها
فإني جبانُ الكلب بيتي موطّأٌ ... جوادٌ إذا ما النفسُ شحَّ ضميرُها
وإنّ كلابي قد أقِرّت وعُوّدتْ ... قليلٌ على من يعتريها هريرُها
وأبرز قدري بالفناء قليلها ... يُرى غير ممنون به وكثيرُها
وليس على ناري حجابٌ يُكِنّها ... لمقتبس ليلاً ولكن أُثيرها
فلا وأبيكِ ما يظل ابنُ جارتي ... يطوف حوالَيْ قِدرنا ما يطورها
وما تشتكيني جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلُها لا أزورُها
سيبلغها خَيري ويرجعُ بعلُها ... إليها ولم تُسدَل عليّ ستورُها
وقال حاتم أيضاً:
وإني لأستحيي حياء يشفّني ... إذا القومُ أمسَوا مُرملي الزاد جُوّعا
وإني لأستحيي أكيليَ أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقْرعا
أكُفّ يدي من أن تنال أكفَّهم ... إذا نحن أهويْنا لمطعَمنا معا
أبيت خميص البطن مُضْطَمِرَ الحشى ... حياء أخاف اللوم أن أتضلّعا
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجَك نالا منتهى الذمّ أجمعا
وحكى أبو عبيدة وغيره - والخبر مشهور، في ألفاظه اختلاف: أن حاتماً الطائي لما أقام في عَنَزة بأن قد فدى أسيراً لهم بنفسه، غاب الرجال مرة وبقي هو والنساء، نيط لبعير لهم. فقلن له: قم فافصد هذه الناقة، وأخذ الشفرة فنحرها، فلطمته امرأة منهن وسبته، فقال: لو غير ذات سوار لطمني، أي لو لطمني رجل! فقلن: أمرناك بأن تفصد فنحرتها! فقال: هكذا فَصْدي أنَهْ.
وحدثني المازني قال: سمعت العرب تقول: لو غير ذات سوار لطمني. ويقول النحويون: لطمتني. فأخذت غير قول النحويين وتركت قول العرب.
وقال مالك بن أسماء:
قالت طريفة ما تُبقي دراهمُنا ... وما بنا سرَفٌ فيها ولا خُرُقُ
إنا إذا كثرتْ يوماً دراهمُنا ... ظلّتْ إلى سبل المعروف تستبقُ
لا يألفُ الدرهم المنقوش صُرّتَنا ... إلا لِماماً قليلاً ثم ينطلقُ
حتى يصير إلى نذل يخلّده ... يكاد من صَرِّهِ إياه يمَّزِقُ
وقال أعرابي: ما أبالي أصررت على حجر أم صررت على دنانير إذا كنت لا أنفقها.
وحدثني ابن عائشة عن بعض أشياخه قال: قال الأحنف بن قيس: بئس الرفيقان الدراهم والدنانير فإنهما لا ينفعانك حتى يفارقاك. وأنشدني ابن عائشة:
عوّدتُ نفسي إذا ما الضيفُ نبَّهني ... عَقْرَ العِشار على يُسري وإعساري
وأترك الشيءَ أهواه ويعجبني ... أخشى عواقبَ ما فيه من العارِ
وقال بعض المتقدمين:
تغطّ بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه
وقارِب إذا قاربتَ حُرّاً فإنما ... يزين ويُزري بالفتى قُرناؤه
وأقلِل إذا ما قلتَ قولاً فإنه ... إذا قَلّ قولُ المرء قلَّ خطاؤه
إذا قلّ ماءُ الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه
إذا قلّ مال المرء قلّ صديقه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه
إذا قلّ مال المرء لم يرض عقلَه ... بنوه ولم يغضب له أقرباؤه

وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامُه خيرٌ له أم وراؤه
إذا المرء لم يخترْ صديقاً لنفسه ... فناد بهِ في الناس هذا جزاؤه
وقد أفضينا من هذا الباب إلى بعض ما قصدنا له مما يجانمس الباب المتقادم، ونبتدئ بباب من معاني الشعر المستحسنة، وبالله الحول والقوة.

باب
أنشد منشد في صفة درع:
وكلّ ذيّالةٍ قَضّاءَ تحسَبها ... نهياً بقاعٍ علَتْه الريحُ مشمول
تنفي السُّرى وجيادُ النبْل تتركها ... من بين مُعتسِفٍ كَسْراً ومَفلول
يقول: هذه الدرع سابغة الذيل، شبّهها بغدير أصابته الشمال فاطرد ماؤه وتجعد. والنَّهْي، بالفتح: الغدير. ويقال: نِهْي بالكسر أيضاً. وزعم الأصمعي أنه سمّي نِهياً لأنه ينهى الماء أن يفيض عنه، وقال جرير:
فما ثَغَبٌ باتت تصفّقه الصَّبا ... بسرّاءِ نِهيٍ أتأقتْه الروائحُ
الثَّغْب، مفتوح ساكن: الماء الصافي، وهو الذي لو وقع فيه دُعموص لكدره. وقوله: أتأقته، أي طردته كذا مرة، وكذا مرة، يقال: أتأقتُ الإناءَ وأترعتُه وأدهقته أي ملأته. وفي المثل: " أنا تَئق وأنت مَئِق فكيف نتفق " - يقول: أنا سريع الغضب ممتلئ منه، وأنت مَغيظ، فليس يقع بيننا اتفاق. وقوله: تنفي السُّرى؛ وهو الصغار من النبل، يقال للواحدة سِروة وسُروة لضيق حَلْقها، وقوله: وجياد النبل تتركها، أي تحطمها وتجعلها كِسَراً، معتسف، لأنه على غير قصد. قال النمر بن تولب:
وقد رمى بسُراه اليومَ معتمدا ... في المنكبين وفي الساقين والرقبَهْ
وأنشد رجل من قريش:
ولستُ بزُمّيلة نأنأٍ ... خَفِيٌّ إذا ركب العود عودا
ولكنني أحمل المؤنِساتِ ... إذا ما الرجال استخفّوا الحديدا
قوله: إذا ركب العود عودا، أي إذا ركب السهام على القِسِيّ. والنأنأ: الضعيف، مهموز مقصور. والمؤنسات من السلاح: السيف والرمح والقوس والترس. وقوله: إذا ما الرجال استخفوا الحديد، أي في الحرب، يقول: إذا فزع الرجال أو خافوا خفّ ما عليهم من السلاح وإن كان ثقيلاً.
وأنشدني التوزي:
ورسم دار مُقفر الجنابِ ... يزداد عُمراناً من الخرابِ
يصف داراً تزداد عمراناً من الخراب بالموتى الذين يُدفنون فيها.
وأنشدني المازني:
كأن تحت البطن منه أكلُبا ... بيضاً صغاراً ينتهِسن المَنْقَبا
يصف فرساً يعدو، فإذا عدا ارتفعت قوائمه وبها تحجيل فصارت قرب بطنه، فشبّه تحجيله وتقليبه يديه ورِجليه من شدّة جَريه من شدة جَريه واقترابهما من بطنه إذا رفعهما بكلاب بيض صغار ينتهسنه، فهو ينفِر منها، وهو أشد لجريه.
وأنشد الأصمعي قول الشاعر، ولم نر تشبيهاً في بيت أحسن من هذا:
كأنّ مُثارَ النقْع فينا وفيهم ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوى كواكبه
شبه الغبار بالليل، وشبه السيوف في الغبار بالكواكب المنفضة في الليل. وأنشد:
يحملن أوعية السلاف كأنّما ... يحملنها بأكارع النِّغْران
شبه أغصان العنب وما يتشعّب منها بأكارع النِّغْران، هي عصافير. وقال آخر:
وحيّات نربّيها لتُجْدى ... عليّ قبورُها بعد الممات
يعني دود القز. وقال ابن البراء الجعدي - ويقال للنابغة الجعدي:
أرارَ الله مُخَّكِ في السُّلامى ... على من بالحنين تُعَوِّلِينا
فلستِ وإن حنَنْتِ أشد شوقاً ... ولكنّي أسِر وتُعلنينا
ويروى: أراني الله مُخّك. والرار والرِّير: المخ الرقيق الذائب.
وقال الأصمعي: آخر ما يبقى من المخ والسِمَن في الدابة في سُلاماها وعينها، فدعا عليها بالهُزال والهلاك.
وقال الراجز:
لا يشتكين عملاً ما أنقَيْن ... ما دام مخ في السُّلامى أو عين
قال أبو زيد: السُّلامى: الفراسن وعصبها، والنِّقي. وقوله ما أنقين، أي ما دام مخٌّ فيهنّ. وقال آخر:
طلب الأبلقَ العَقوقَ فلمّا ... لم ينله أراد بَيضَ الأنوُقِ
هذا مثل، يقول: طلب ما لا ينال ولا يكون، والأصل أن العَقوق الحامل من الخيل. والأبلق الذكَر، والأنوق الرّخَم، وإنما يكون في أصعب المواضع على رؤوس الجبال حيث لا يوصَل إليه. وهو مثل قول الهذلي عُدَيل بن الفرْخ العِجلي:
بَيضُ الأنوق كسِّرهن ومن يُردْ ... بَيضَ الأنوق فإنه يمعاقل

والمعاقل: جمع مَعقِل وهو الحِرْز، قال: وأنشدني المازني:
ومستأسدٍ يندى كأنّ ذبابه ... أخو الخمر هاجت شوقَه فتذكّرا
المستأسد: النبات الملتف الكثير، يندى، من الندى، وأخو الخمر: الذي يشربها. وهاجت: يعني الخمر، وشوقه، يعني الشارب. والمعنى أنه شبه صوت الذباب في هذا العشب بصوت شارب قد سكر واشتاق إلى أهله فتغنّى. وقال آخر:
وصاحب معجب في طول صُحبته ... لا ينفع الدهرَ إلاّ وهو محموم
تأتيك في شدة الحُمّى منافعه ... وإن أفاق بدا في وجهه اللوم
يعني الفرج، ويكون للفرجين جميعاً. قال وأنشدني التوزي:
رواحلنا سِتّ ونحن ثلاثة ... نُجنّبهنّ الماءَ في كلّ منهل
يعني النعال. وقال الكميت:
ولما رأيت النسر عزّ ابنَ دأيةٍ ... وعشّش في وَكْريه جاشَتْ له نفسي
يقال للغراب ابن دأية، لأنه يقع على الدأية من ظهر البعير فينقرها. وإنما يعني الشيب وغلبته على السواد، وعزني في الخطاب، أي كان أعز مني في المخاطبة، قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حِمىً يُتَّقى ... إذ الناسُ إذ ذاكَ مَن عزَّ بَزّا
أي من غلب سلب. وقوله: وعشش في وكريه، يعني بوكريه عارضيه ولحييه، فوجِلت نفسه لذلك. وأنشد الأصمعي:
قلن اتَّضعتِ فقالت لا، فقلن لها ... فكيف تَقوَيْن يا سلمى على الجَمَلِ
زعموا أن المؤدَّب من الإبل يقال له ضع ضع، فيطأطئ رأسه ليُركب. يقول: وأنتِ لو لم يفعلن هذا ما قدرت على ركوبه. واتضعت، افتعلت من الوضع. ومثله قول جميل:
فلما دنتْ أُولى الرِّكاب تيمّمت ... إلى جؤجؤ جَلْسٍ فقالت له ضع
يقول قصدتْ إلى نجيب قويّ شديد فقالت له ذلك، وأنشد:
قد قلت للصباح والمهاجِر ... إنّا وربِّ القُلُصِ الضوامر
إنّا: أي أعْيَيْنا، والأَيْن: الإعياء، تقول آن يئين أيْناً إذا أعيا، وأنشد:
لنِعم البيتُ بيتُ أبي دثارٍ ... إذا ما خاف بعضُ القوم بعضا
يقول: إذا خاف بعض القوم بعضَ البعوض فبيت أبي دثار لا يُخاف عليه ذلك فيه. وبيت أبي دثار: الكلّة. وأنشد:
يَريع إليه العمّ حاجةَ واحد ... فآبُوا بحاجات وليس بذي مال
يريع: يجتمع. إليه، يعني الكعبة، يريد أن الناس كلهم يسألون عند ذلك الموضع المغفرة، فرجعوا وهم يرجون حسن الإجابة، وليس معهم مالٌ حَوَوْه. وقال آخر:
ما لك لا ترمي وأنت أنزَعُ ... وهي ثلاثُ أذرُعٍ وإصبَعُ
وهي إذا أنبضتَ فيها تسجعُ ... تَرنُّمَ الثَّكلى أبَتْ لا تهجعُ
قوله: أنزع؛ يريد أنزع من غيرك، وبعضهم يقول: أنزع. يقول: قد كبِرتَ وصارت بك نزعة، قال: وأجود ما تكون القسيّ ثلاث أذرع ونصف وثلاث أذرع. وإنما أخبر عن جُبنه فقال: ما لك لا ترمي وأنت أنزَع في القوس من غيرك، وقوسك هذا حالها في الجودة والتمام؟. وأنبضت: جذبت. وتسجع: ترنّم. ويقال: خير القسيّ ما إذا جُذبت ترنّمت، وأنشد:
تسمع بعد النزع والتوكيرِ ... في سِيَتَيْها رنةَ الطُّنبورِ
قد أتينا من هذا الباب ببعض ما قصدنا له، وفسرنا ما أتينا به تفسيراً يغني عن تشكل فيه أو مسألة عنه، ونرجع إلى باب أخبار وأشعار يشاكل بعضها بعضاً، وبالله الحول والقوة.

باب
حدثني مسعود بن بشر قال: قدم عمرو بن العاص مكة وفتيان قريش يتحدثون، فلما رأوه رمَوه بأبصارهم، فعدل إليهم فقال: كأنكم كنتم في حديثنا، فقالوا: نعم كنا نفضّل بينك وبين أخيك، فقال: إن له عليّ أربعاً؛ أمه ابنة هشام بن المغيرة وأمي من قد علمتم، وكان أحبَّ إلى أبي مني وقد عرفتم رأي الأب في ابنه، وأسلم قبلي واستُشهد وبقيت. وكان هشام بن المغيرة شريفاً مسوَّداً، وكان الناس يؤرخون بالأمور العظام تحدث، مثل عام الفيل، وعام الرمادة، وموت هشام بن المغيرة وفيه يقول القائل:
فأصبح بطنُ مكة مُقشعِرّا ... كأن الأرضَ ليس بها هشام

وحدثني مسعود بن بشر قال: كان عمرو بن العاص جيد الفطنة كثير الدهاء سريع الجواب بليغ الكلام. ويروى أنه جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عَمراً عن أمه - وكان يُطعن عليها - فأتاه وهو يومئذٍ أميرُ مصر، فقال: أصلح الله الأمير أردت أن أعرف أم الأمير، فقال: نعم، امرأة من عَنَزة ثم من بني العنبر ثم من جِلاّن، اسمها ليلى وتعرف بالنابغة، اذهب فخذ جُعْلك.
وحدثني مسعود بن بشر في إسناد متصل قال: قال المنذر بن الجارود لعمرو: يا أبا عبد الله، إنك أفضل الناس لولا أن أمَّك أمُّك، فقال: قد خطر هذا ببالي البارحة والله، فأقبلت أقلّبها على أحياء العرب ممن كنت أحب أن تكون فيهم فلم يخطر لي عبُد القيس ببال - يعني منذراً.
ومما يستحسن من سرعة الجواب وحضوره عند وقته ما يروى أن خالد بن صفوان لقي الفرزدق - وكان دميماً - وقد لبس ثياباً سريّة، فقال له: يا أبا فراس مرحباً بهذا الوجه الذي لو رآه صواحبُ يوسف لم يُكبرْنه ولم يقطعن أيديهن. فقال الفرزدق: وأهلاً ومرحباً بوجهك الذي لو رأته صاحبةُ موسى لم تقل لأبيها: " يا أبتِ استأجرْهُ إنّ خيرَ من استأجرتَ القويُّ الأمين " .
وحدثتُ أن شريكاً النُّميري سايرَ عمر بن هبيرة وهو على بغلة، فجاوزت بغلتُه برْذَون عمر، فقال له: اغضُض من لجامها، فقال: إنها مكتوبة، فقال: ما أردت ذلك، قال: ولا أنا أيضاً أردته. ظن شريك أن عمر عنى بقوله: اغضض من لجامها قول جرير:
فغُضّ الطرفَ إنك من نُمَير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وعنى شريك بقوله: مكتوبة قوله:
لا تأمننّ فَزارياً خلوتَ به ... على قَلوصِك واكتبها بأسْيار
أي اشدُدها. ويروى أن ابن مُلجم قال لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه: إني اشتريت سيفي هذا بألف، وسممته بألف، وسألت الله أن يُقتل به شرُّ خلقه. فقال: قد أجاب الله دعوتَك، يا حسن، إذا متُّ فاقتله بسيفه.
ويروى أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج بن يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم - أما بعد - فإنك سالمٌ والسلام. فأشكل على الحجاج وأرِق لذلك ليلته، فقال له ابن هُبيرة: ما يُسهر الأمير؟ فقال: كتابٌ كتبه إليّ أمير المؤمنين فيه كذا، قال: فإن أعلمتُك معناه فما لي عندك؟ قال: ولايةُ خراسان، فقرأ عليه الكتاب، فقال عمر: أخذه من قول القائل:
يُديرونني عن سالمٍ وأُديرهم ... وجلدةُ بين العين والأنف سالمُ
فولاّه خراسان.
ويروى أن أبا دُلامة الشاعر دخل على المنصور أو المهدي وعليه جبّةٌ فاخرة فقال ما هذه الجبة يا أبا دلامة؟ فقال: هذه لا ألبسُها إلا في كل موتِ خليفةٍ، قال: فأراني ميتاً ولا أدري.
ويروى أن الحسينَ بن علي صلوات الله عليهما دخل على معاوية وهو في علّةٍ غليظة فقال معاوية: ساندوني، ثم تمثّل ببيت أبي ذُؤيب:
وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ ... أنّي لريبِ الدهرِ لا أتضعضع
فسلّم الحسين وتمثل ببيت أبي ذؤيب:
وإذا المنيةُ أنشبَتْ أظفارها ... ألفَيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
وكان معاوية مع حدة جوابه وصواب رأيه حليماً جواداً، وكان يضيف إلى ذلك شجاعةً وحزماً، ويروى أن عبدَ الرحمن بن خالد بن الوليد قال له: إني لأراك تُقْدِمُ أحياناً حتى أقولَ أشجعُ الناس، وأراك تُحجم أحياناً حتى أقول أجبنُ الناس، قال: إني أُقدم ما كان الإقدام غُنماً، وأحجم ما كان الإحجام حزماً، فأنا كما قال القائل:
شجاعٌ إذا ما أمكنتنيَ فرصةٌ ... وإن لم تكن لي فرصةٌ فجبانُ
وكان المهلّب يقول: الإقدام على الهلَكة تضييع، كما أن الإحجام عن الفرصة جُبن. ويروى أن جِرّة هوت على رأس يزيد ابنه فلم يتوقّها، فقال له المهلب: حفظتَ الشجاعةَ من حيث ضيّعت الحزم. ويروى عن أحد الحكماء قال: يجب على الرجل أن يكون سخياً ولا يبلغ التبذير، وأن يكون حافظاً ولا يبلغ البخل، وأن يكون شجاعاً ولا يبلغ التضييع، وأن يكون محترساً ولا يبلغ الجُبن، وأن يكون ماضياً ولا يبلغ القِحَة، وأن يكون قوّالاً ولا يبلغ الهَذَر، وأن يكون صموتاً ولا يبلغ العِيّ، وأن يكون حليماً ولا يبلغ الذل، وأن يكون منتصراً ولا يبلغ الظلم، وأن يكون أنفاً ولا يبلغ الزهو، وأن يكون حَيِيّاً ولا يبلغ العجز.

وحدثني مسعود بن بشر في إسناد ذكره قال: لما قال حسان بن ثابت في كلمة له يُعيّر الحارث بن هشام بن المغيرة - حيث فرّ يوم بدر عن أخيه أبي جهل ابن هشام:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدِّثْتِني ... فنجوتِ مَنْجى الحارث بن هشام
ترك الأحبّةَ لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طِمرّةٍ ولجام
وقال الحارث يعتذر من فزارة:
اللهُ يعلم ما تركت قتالَهم ... حتى علَوْا فرسي بأشقرَ مُزْبِدِ
وعلمتُ أني إن أقاتلْ واحداً ... أُقتَلْ ولا يَضْرُرْ عدوّيَ مشهدي
فصددت عنهم والأحبةُ فيهمِ ... طمعاً لهم بعقاب يوم مُفسد
وقال سعيد بن المسيّب لرجل من قريش: من جاءكم بخبر الجمل؟ قال: عبدُ الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال سعيد: كان أبوه أول من جاء بخبر بدر. وفر الحارث يوم بدر، وفر هشام أبوه يوم الفِجار، وفر عبد الرحمن يوم الجمل. وأنشدني التوزي لأبي ثور عمرو بن معد يكرب:
ولقد أرفع رجليّ بها ... حذَرَ الموت وإني لفرورُ
ولقد أعطِفها كارهةً ... حين للنفس من الموت هرير
كلُّ ما ذلك منّي خُلُقٌ ... وبكلٍّ أنا في الرَّوع جدير
ومثله قول زيد بن المهلهل:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ... وأنجو إذا لم ينجُ إلا المكيَّسُ
ولست بذي كُهْرورة غير أنني ... إذا طلعتْ أُولى المُغيرةِ أعبِسُ
ومنه قول أبي كعب الأنصاري:
ألا لا تقل عرسي على حين ساعة ... ألا فرّ عني مالكُ بن أبي كعب
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ... وأنجو إذا غُمّ الجبان من الكرب
وقال آخر:
وماذا على مروان لو كنتُ خلفه ... رديفاً على أقتاد أصهبَ بازل
ورفّعت من رجليّ ألتمس الذي ... وجدتُ على عهد القرون الأوائل
هذا رجل فر من حرب، فطلب إلى مروان هذا أن يُردفه فأبى عليه، فعدا على رجليه حتى أفلت. وإنما أراد قول وَعْلة الجَرْميّ حين نجا يوم الكُلاب على رجليه:
فِدىً لكما رِجلَيَّ أمّي وخالتي ... غداةَ الكُلابِ إذ تُحَزُّ الدوابر
يقول: إنما فعلت ما كان يفعل من كان قبلي من القرون الأوائل.
ويروى أن رجلاً من أهل الشام انهزم من حرب، فلقيه لاقٍ فقال: ما الخبر؟ قال: من صبر أخزاه الله، ومن انهزم نجاه الله.

باب
من الأخبار المستحسنة التي لا تدخل في جملة ما نقل منها ولا تشاكل ما ذكرناه قبلها. حدثني العُتبيّ في إسناد عن أبي خالد مولى عمرو بن عتبة قال قال محمد بن عمرو بن عتبة: جاءت هذه الدولة - يعني دولة ولد العباس - وأنا حديث السن متفرقُ الأموال خائف العيال، وكنت لا أنزل سكّة من سكك البصرة إلا شُهر مكاني، فرأيت أن أقيَ عيالي بنفسي، قال أبو خالد: قال لي: موعدك غداً بابُ الأمير سليمان بن علي، فبكرت فإذا به قد أقبل وعليه سراويل وَشْيٍ، قد أسدلها على قدميه، وطيلسانٌ مُطْبق، فقلت في نفسي إنا لله! ما تصنع الحداثة بأهلها. فلما دنا قلت: إن هذا اللباس ليس من لباس هذا اليوم. قال: صدقت والله ولكن ليس عندي إلا ما هو أشهر منه، فلففتُ سراويلَه حتى بلغت بها ركبتيه، وأخذت طيلسانه إليّ وأعطيته طيلساني، ثم قلت: ادخل الآن، فدخل، فلبث شيئاً ثم خرج إلي ضاحكاً، فقلت: ما كان بينك وبين الأمير؟ قال: مثَلْتُ بين يديه ولم يكن رآني قبلها فقلت: أصلح الله الأمير! ساقني البلاء إليك، ودلّني فضلُك عليك، فإما قبلتني غانماً، وإما رددتني سالماً. فقال: من أنت أعرفك؟ فانتسبت له، فقال لي: اقعد يا بن أخي فتكلم غانماً سالماً. فجلستُ فقلت: أيها الأمير إن هؤلاء الحُرَمَ اللواتي هنّ حُرَمُكم بعدنا وأنتم فيهن شركاؤنا، وقد خِفن لخوفنا، ومن خاف خيف عليه. فقال: ما أجابني إلا بعَبرته. فقال: بل يحقنُ الله دمك، ويصون حُرَمك، ويجمع لك مالك، ولو أمكنني مثل ذلك في جميع أهلك لفعلت، فكن مستتراً كظاهر، واكتب إليّ في حاجاتك. فقال: كان والله يكتب إلي كما يكتب الرجل إلى أبيه أو عمه. قال: قلما قضى حديثه رددت إليه طيلسانه، فقال: مه! فإن ثيابنا إذا فارقتْنا لا ترجع إلينا.

ويروى أن مروان الجعدي كتب إلى عبد الله بن علي: إني أظن أن هذا الأمر صائر إليكم، فإن كان ذلك فاعلم أن حُرَمنا حُرَمكم والسلام. فكتب إليه عبد الله: إن الحق لنا في دمك، والحق علينا في حُرَمك.
وحدثني علي بن القاسم الهاشمي قال: بينما الخيزران قاعدة ذات يوم قيل لها إن ببابك امرأةً حسناء، وعليها ثياب بَذّة تطلب الإذن عليك، وقد سُئلت عن اسمها فأبت أن تخبر به، فقالت لزينب بنت سليمان بن علي: ما ترَيْن؟ فقالت: تدخل فإنه لا بد من فائدة أو ثواب. فأذنت لها، فدخلتْ، فقالت: أنا مارية امرأة مروان بن محمد الأموي، فقالت زينب: أأنت مارية؟ فلا حباك الله! والحمد لله الذي أدال منك، أما تذكرين يا عدوة الله حيث أتاكِ عجائز قومي وأهل بيتي يسألونك مسألة صاحبِك في دم إبراهيم الإمام فوثبت عليهنّ وأسمعتِ ما أسمعتِ، وأمرتِ بإخراجهنّ! قال: فضحكت مارية، فلا يُنسى حسنُ ثغرها وعلوُّ صوتها بالقهقهة. ثم قالت أيا بنة عمِّ، أي شيء أعجبكِ من صنع الله بي على العقوق حتى أردت أن تتأسّي بي! فهبيني أني فعلتُ بنساءِ قومك ما فعلتُ ثم ساقني الله خاضعةً ذليلةً عُريانةً، فكان هذا مقدارَ شكرك لله على ما أولاك فيّ. ثم ولّت وقالت: السلامُ عليكنّ، فقالت الخيزران: ليس هذا لك عافاكِ الله! عليّ استأذنتِ، وإياي قصدت فارجعي! فقالت: نعم، وإن مما يرُدّني الجوعَ والضر. فدعت الخيزرانُ بالخِلَع لها ثم قالت: افرشوا لها المقصورة الفلانية، وقالت: والله لا يفرّقُ بيننا إلا الموت، فما فرّق بينهما إلا الموت.
ونُمي إليّ من ناحية زبير قال: اعترض رجلٌ من بني أمية يحيى بن خالد البرمكي، فقال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن توصلني إلى أمير المؤمنين الرشيد - وعرّفه نفسه - فقال له: إن أمير المؤمنين يكره أهل هذا البيت، فإن كانت لك حاجةٌ كنتُ لك فيما تريده دون أمير المؤمنين، قال: ما بي حاجةٌ إلى غيره، وهذه حاجتي إليك.
فدخل إليه يحيى فصادفه طيّب النفس، فقال: يا أمير المؤمنين إن لي حاجة، فقال له: قل يا أبا علي، فأخبره بقصة الأموي. فقال: ما أكره ذلك، فأتي به فسلّم عليه ودعا فأحسن، ثم أنشأ يقول:
يا أمينَ الله إني قائلٌ ... قول ذي رأيٍ ودينٍ وحسَبْ
لكمُ الفضلُ علينا ولنا ... بكمُ الفضل على كلِّ العرَبْ
من يقل غيرَ مقالي فلقد ... ضلّ في الحكم ضلالاً وكذبْ
عبدُ شمس كان يتلو هاشماً ... وهما بعدُ لأمٍّ ولأبْ
فصِلِ الأرحام منا إنما ... عبدُ شمسٍ عمُّ عبد المطلب
فالقرابات شديد عَقدُها ... عقدُها أوثق من عقد الكرَبْ
قال الرشيد: إي والله! وأمر له بجائزة، فقبضها وخرج. قال يحيى: فخرجتُ خلفه لأعطيه أنا أيضاً فلم ألحقه.
ويروى أن حفصاً الأموي - وكان هَجّاءً لبني هاشم مُطنِباً في ذكر مثالبهم - لم يشعر به عبد الله بن علي بن العباس إلا هو واقف على رأسه وهو لا يعرفه، فقال له: من الرجل؟ قال: حفص الأموي، قال: أأنت الذي لم تزل مطنباً في هجاء بني هاشم وثلبهم؟ فقال: ليس كل ما بلغك أيها الأمير حقاً، ولكني الذي أقول:
وكانت أميةُ في مُلكها ... تجور وتُكثر عُدوانَها
فلما رأى اللهُ أن قد طغت ... ولم يُطق الناس طغيانَها
رماها بسفّاح آل الرسول ... فجدَّ بكفَّيْه أعيانَها
فقال له: اجلس، فجلس، ثم دعا عبد الله بالطعام فتغدّى معه، ثم نظر إلى عبد الله وهو يُسارّ خادماً له، فخاف على نفسه، فقال: أيها الأمير، إني قد تحرّمتُ بطعامك فقال: ليس الأمر كما تظن، فجاءه الخادم بخمسمائة دينار، فصبّها في كمّه وقال له: اخرج آمناً، ومن بالباب يتوقعون أن يخرج رأسه، فسألوه عن حاله فقال: وهب لي الأمير ألف دينار: خمسمائة دينار ديني وخمسمائة في كُمّي.

وهذه رسالة نذكرها، فإذا استحسنا ألفاظها، واستغربنا معانيها، ووقفنا على إبلاغ عظاتها، وهي رسالة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن من الحبس إلى أبي مسلم: بسم الله الرحمن الرحيم من الأسير في يديه، بغير ذنب إليه، ولا خلاف عليه. أما بعد؛ فإنك مستودَع ودائع، ومولى صنائع، فاذكر القصاص، واطلب الخلاص، وأنْبِهْ للفكر قلبك، واتق الله ربك، وآثر ما يلقاك غداً على ما لا يلقاك أبداً، فإنك لاقٍ ما سلّفت، غيرُ لاقٍ ما خلّفت، وفّقك الله لما يُنجيك، وآتاك شكر ما يوليك.
فخلى سبيل إخوته. ومات عبد الله في السجن، فعاقب الله أبا مسلم ببغيه وأسلمه بغدره، وأتاح له من قتله.
ويروى أن المنصور بعد قتله أبا مسلم خطب فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تُسِرّوا غش الأئمة، فإنه من غش إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه، وسقطات أفعاله، إنا لن نبخسكم حقكم، ولا نبخس الدين حقه عليكم، وأنه من نازعنا عُروة هذا القميص أوطأناه خبئ هذا العمل وأن أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بنا فقد حل ماله ودمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه لأنفسنا حُكمهُ على غيره لنا، ولم يمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه فيه، والسلام. وفي قتله يقول أبو دلامة الأسدي:
أبا مجرمٍ ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتى يغيّرها العبدُ
أبا مجرمٍ خوّفتني القتلَ فانتحى ... عليك بما خوّفتني الأسد الوَرْدُ

باب
مراث بليغة
وعظات موجزة وأبيات مستحسنة
أنشدني أبو محمد التوزي عن أبي عبيدة لأخت عمرو ذي الكلب ترثيه في كلمة وصفته فيها فأطنبت، وعددت فضائله فأكثرت، وذكرت عُظم فقده ومبلغ قدره في حياته وانحطاط كل فخر وذكر بعد موته، وهو:
يا من بمقتله زُهى الدهرُ ... قد كان فيك تضاءل البدرُ
كنتَ المجير عليه تقهره ... فإذا سطوت فقد سطا القهر
وإذا سكتّ فإنها عِدَة ... وإذا نطقت تدفّق البحر
وإذا نظرت إلى أخي عدَمٍ ... أثرى وزال بلحظك الفقر
وإذا رقدت فأنت منتبِهٌ ... وإذا بدوتَ فوجهك البدر
والله لو بك لم أدَعْ أحدا ... إلا قتلتُ لفاتني الوتر
ما زال يحسد بطن أرضك ظهرَها ... إذا تمّ أمرك واستوى القدر
حتى حللتَ ببطنها فتقدّست ... فاليوم يحسُد بطنَها الظهرُ
وهذا من أحسن المعاني وألطفها، ولها فيه أيضاً كلمة أولها:
سألتُ بعمروٍ أخي صَحْبَهُ ... فأوحشني حين هابوا السؤالا
وقالوا تركناه في غارةٍ ... بآية ما قد ورثنا النِّبالا
أتيح له نَمِرا أجبُلٍ ... فنالا لعمرُك منه منالا
فأقسمُ يا عمرو لو نبَّهاك ... إذن نبّها منك داءً عُضالا
إذن نبِّها ليثَ عِرِّيسةٍ ... مفيداً مفيتاً نفوساً ومالا
وكان سببه وفاته أن النمر وثب عليه فقتله. وفي هذه القصيدة من حُرّ الكلام وصادق المدح قولها:
وخَرقٍ تجاوزتَ مجهوله ... بوجناء حرفٍ تشكّى الكلالا
فكنتَ النهارَ به شمسُه ... وكنت دُجى الليل فيه الهلالا
فما بلغتْ مدحتي لامرئ ... يَزُمُّ الكُماة ويعطي النوالا
وينزل في غمرات الحروب ... إذا كره المحجمون النزالا
ومما اخترناه منها قولها:
وخوفٍ وردت وثغر سددت ... وعِلْج شددت عليه الحبالا
ومالٍ حويتَ وخيل حميت ... وضيف قريت يخاف الوِكالا
وأبراد عصْب وخَطِّيَّةٍ ... بنيت لقومك منها الظلالا
وقالت امرأة من بني أسد ترثي ابنها:
لنعم الفتى أضحى بأكناف حائلٍ ... قِرىً للصفيح الأبيض والأسلَ السمرِ
لعمري لقد أُرْديتَ غير مُزَنَّدٍ ... ولا مُغلقٍ بابَ السماحة بالعذر
فتى لم يزل مذ شدّ عقد إزاره ... مُشيدَ مَعالٍ أو مقيماً على ثغرِ
فتى لم يكذِّب فعلُه نادباتِه ... بما قلن فيه لا ولا المادح المُطْري
أرادوا ليُخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
فيقال إن هذا أرثى بيت قالته العرب.
وقال أحد المحسنين أيضاً:
وأخ رماني الدهر فيه بفقدِه ... فالوجدُ من قلبي عليه دخيلُ

هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيلُ
وقال آخر:
هاتوا فتى يكفي مقام محمد ... هيهاتَ ذلك واحد لا يوجدُ
وهذا من الأبيات النادرة، وكذلك سبيلنا فيما نحكيه في كتابنا.
وقال:
جلّت صنيعتُه فعمّ مُصابه ... فالناس فيه كلّهم مأجورُ
فالناس مأتمهمْ عليه واحدٌ ... في كلِّ دار رنّة وزفيرُ
تجري عليك دموعُ من لم تُوله ... خيراً لأنك بالثناء جديرُ
ويُشاكل هذا الباب قول عمارة بن عقيل لخالد بن يزيد بن مَزيَد:
أرى الناس طُرّاً حامدين لخالد ... وما كلّهم أفضت إليه صنائعهْ
ولن يترك الأقوام أن يحمدوا الفتى ... إذا كرمت أعراقُه وطبائعهْ
فتى أمعنتْ ضراؤه في عدوّه ... وخصَّتْ وعمّت في الصديق منافعهْ
وأنشدني عمارةُ بيتين لجرير يرثي بهما أخويه عمراً وحكيماً:
خليليّ كم من زفرةٍ قد رددتُها ... ومن ظلمة وارت عليّ ضحىً حُجْرا
إذا ما دعا قوم عليّ أخاهمُ ... دعوتُ فلم أُسمِع حكيماً ولا عمْرا
وحدثني الرياشي في إسناد ذكره قال قال عمر بن الخطاب للخنساء: ما أقرحَ مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قال: يا خنساء، إنهم في النار. قالت: ذلك أطول لعويلي.
ويروى أنها قالت: كنت أبكي لصخر على الحياة وأنا أبكي له اليوم من النار.
وهذا نظير ما يروى أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه - قال لمتمم بن نويرة حين سمعه ينشد في أخيه مالك:
لا يمسكُ العوراءَ تحت ثيابه ... حلوٌ شمائله عفيف المِئزرِ
ولنعم حشوُ الدرع كنتَ وحاسرا ... ولنعم مأوى الطارق المتنوِّرِ
لودِدتَ أنك رثيت أخي بما رثيتَ به أخاك، فقال له: يا أبا حفص، لو أعلم أن أخي صار حيث صار أخوك ما رثيته؛ يقول: إن أخاه قتل شهيداً. فقال عمر: ما عزّاني أحد بمثل تعزيته. وفي حديث آخر أنه رثى زيدَ بن الخطاب فلم يُجِدْ، فقال عمر: لم أرك رثيت زيداً كما رثيت مالكاًفقال: إنه والله يحرِّكُني لمالك ما لا يحركني لزيد.
وأنشدني الرياشي لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز في عاصم بن عمر أخيه:
لئن تك أحزان وفائضُ عَبْرة ... أمَرْنَ نجيعاً من دم الجوف مُنقعا
تجرّعتها في عاصم واحتسيتها ... لأعظمُ منها ما احتسى وتجرّعا
فليتَ المنايا كنّ صادفن غيره ... فعشنا جميعاً أو ذهبنَ بنا معا
وقال إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن يرثي أخاه محمداً:
أبا المُنازل يا عُبْرَ الفوارس من ... يُفجعْ بمثلك في الدنيا فقد فُجعا
الله يعلم أني لو خشيتُهمُ ... أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أُسلم أخي لهمُ ... حتى نعيشَ جميعاً أو نموتَ معا
قال: وكان قَتله في المعركة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو الذي قتل أخاه - ويروى أنه قال: ما استغفرت الله قط من قتلهما.
وأنشدني الرياشي لابن ميادة في رياح بن عثمان بن حيان المرّي وقتل معه محمد بن عبد الله بن حسن:
أمرتُك يا رياحُ بأمر حزمٍ ... فقلتَ هشيمةٌ من آل نجد
نهيتُك عن رجال من قريش ... على محبوكة الأصلاب جُرد
ووجدا ما وجدتُ على رياح ... وما أغنيتُ شيئاً غير وَجْدي
ويروى لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه بيتان في النبي صلى الله عليه وسلم، وهما:
فوالله لا أنساك أحمدُ ما مشت ... بيَ العيسُ في أرض وجاوزتُ واديا
وإني متى أهبط من الأرض تَلعةً ... أجد أثراً منها جديداً وعافيا
ويروى أنه لما مات أخو الحسن البصري أجهش عليه بالبكاء، فقال له رجل: وأنت يا أبا سعيد تبكي؟ فقال: لقد بكى يعقوبُ على يوسف حتى ابيضت عيناه فما عيره الله بذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه: " ما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن القسوة والشيطان " .
ويروى أن عبيد الله بن العباس كان عاملاً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن، فخرج إلى علي واستخلف على صنعاء عمروَ بن أراكةَ الثقفي، فوجّه إليه معاوية بُسْرَ بن أرطاة، فقتل عمروَ بن أراكة، فجزع عليه أخوه عبدُ الله فقال أبوه في كلمة له:

وقلتُ لعبدِ الله إذ جدّ باكيا ... حزيناً وماءُ العين منحدر يجري
لَعمري لئن أتْبَعتَ عينيك ما مضى ... به الدهرُ أو ساق الحِمامُ إلى القبرِ
لتستنفِدَنْ ماء الشؤون بأسره ... ولو كنتَ تمْرِيهنّ من ثَبَجِ البحر
تأمَّل فإن كان البكا ردّ هالكا ... على أحد فاجهدْ بكاءً على عمرو
ولا تبك مَيْتاً بعد ميت أجَنَّه ... عليّ وعباسٌ وآل أبي بكر
وكان بُسْر قتل خَلقاً باليمن - يقول بعضهم - حتى أخاض الخيل في الدماء. وكان فيمن قُتل طفلان لعبيد الله بن العباس أخذهما من المكتب، فروى أنه قتلهما وهما يقولان: يا عم لا نعود. وأما الرواية الفاشِيَة التي كأنها إجماع فإنه أخذهما من تحت ذيل أمهما - وهي امرأة من بني الحارث بن كعب - ففي ذلك تقول لما خرج بهما من عندها:
ألا من بيّن الأخَوي ... نَ أمُّهما هي الثَّكلى
تسائل من رأى ابنَيْها ... وتستَبغي فما تُبْغى
وقالت أيضاً:
يا من أحسَّ بُنَيّيَّ اللذين هما ... كالدرتين تشظّى عنهما الصدف
يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... قلبي وطرفي فقلبي اليوم مُختَطَفُ
يا من أحس بُنَيَّيَّ اللذين هما ... مُخُّ العظام فمُخِّي اليوم مُزْدَهَفُ
نُبّئتُ بُسْراً وما صدّقت ما ذكروا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على وَدَجَيْ شِبْليَّ مُرهفةً ... من الشِّفار، كذلك البغي يُقترفُ
ويروى أن عمر بن الخطاب عزّى أبا بكر رحمة الله عليهما عن طفل له فقال: عوضك الله منه ما عُوّضَه منك، فإن الطفل يعوَّض من أبويه الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه: " إن الطفل لا يزال مُحْبَنْطِئاً على باب الجنة يقول: لا أدخل الجنة حتى يدخل أبواي " .
وقال العتبي يرثي بنيه - وكانوا ستة توالَوا موتاً:
يا ستّةً أودعتُهم حُفَرَ البِلى ... لخدودهم عفْرُ الجَبوبِ وسادُ
منعوا جفوني أن يصافحَ بعضُها ... بعضاً فهنّ وإن قرُبْنَ بِعادُ
لم تبقَ عينٌ أسعدت ذا عَبرة ... إلا بكت حتى أبكي بكى الحسّاد
وله أيضاً فيهم:
وكنت أبا ستة كالبدو ... رِ فقد فَقَئوا أعين الحاسدينا
فمروا على حادثات المنون ... كمرّ الدراهم بالناقدينا
فألقين هذا إلى ضارح ... وألقين هذا إلى لاحِدينا
فما زال ذلك دأبَ الزما ... ن حتى أبادهمُ أجمعينا
وحتى بكى لي حُسّادُهم ... وقد اتعبوا بالدموعِ العيونا
وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا
فمن كان يُسْلِيه مَرّ السنين ... فحزني يجدده لي السِّنونا
وقال مسلم بن الوليد يرثي أخاه في كلمة له:
وإني وإسماعيل يوم فراقه ... لكالغِمدِ يوم الروع فارقه النصلُ
فإن آتِ قوماً بعده أو أزرْهم ... فكالوحشِ يدنيها من القَنَص المَحْلُ
قال أبو العباس: قصدنا فيما نحكيه في كتابنا هذا حُسن الاختيار وكثرة الاختصار، وذكر ما يُستغنى به عن غيره، ويُقنع بمثله عن نظيره، وإنما نذكر في كل باب أحسن ما روي لنا فيه، وأطرف ما نمى إلينا منه. ولو ذهبنا نستقصي آخر هذا الباب لمد بنا الحديث وطال بنا القول. والحمد لله رب العالمين.

باب
نذكره ونشرح فيه بعض أخبار المعمّرين وأشعار العرب المحدَثين في ذم الشيب وفقد الشباب، ومدح من مدح شيبه وذم من ذمه، ووصف إسراعه إليه وتغييره إياه على كثرة ذلك وتفاوته، ونفضل ما نحكيه من ذلك، ولِمَ اخترنا ما اخترناه. وبالله الحول والقوة.
حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: كان ربيعة بن نزار يحمل أخاه مضر على عنقه ويقول: اللهم بلّغ به، وكان أكبر منه بنحو من خمسين سنة.
وحدثني الرياشي عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قيل لشيخ قد ذهب منه المأكل والمشرب والنكاح: هل تشتهي أن تموت؟ قال: لا، فقيل له: فما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أعيش وأسمع الأعاجيب.
وأنشدني الرياشي لعلي بن الغَدير الغنوي:
وهُلك الفتى ألا يراح إلى الندى ... وألا يرى شيئاً عجيباً فيَعجَبا

وحدثني الرياشي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قيل لشيخ قد بلغ ثلاثين ومائتي سنة: كيف رأيت عيشك؟ قال: عشت مائة سنة لا أصدّع، وأصابني في الثلاثين والمائة ما يصيب الناس.
وحدثني الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول قال أبو عمرو: عاش المستوغِر ابن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تيم عشرين وثلاثمائة سنة. وزعموا أن سعداً تناسلت في شيبه. وسمعت ابن العجاج قال: مرّ المستوغر بنُ ربيعة يقود ابنَ ابنه بعكاظ، فقيل: من ذا؟ قال: ابن ابني، قالوا: وما رأينا كاليوم في الكذب مثلَك قط، لو كنت المستوغر ما زاد، قال: فأنا المستوغر. وفي حديث آخر: فلما رأوه يقوده ظنوا أنه أبوه فقالوا: ارفق به فطالما رَفُق بك، فقال: إنه ابن ابني.
ويروى من غير وجه أن معاوية قال لجلسائه: أشتهي أن أرى رجلاً قد لقي الناس، وسمع الأعاجيب، ورأى من كان قبلنا يحدثنا عن زمانه، وأين زماننا مما مر عليه. فقيل له: ذاك رجلٌ بحضرموت، فأُتي به، فأقبل عليه فقال له: ما اسمك؟ قال: أمد، قال: ابنُ من؟ قال: ابن أبد، قال: كم أتى عليك من السن؟ قال: ثلاثمائة وستون سنة، قال: كذبت، وتشاغل عنه بغيره. ثم أقبل عليه فقال له: ما اسمك؟ قال: أمد، قال: ابنُ من؟ قال: ابن أبد، قال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: ثلاثمائة وستون سنة، قال: فحدثنا عما رأيت من الأزمنة؛ أين زماننا منها؟ قال: وكيف تسأل رجلاً يكذب؟ قال: أحببت أن أعرف مقدار عقلك، قال: يومٌ شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، ولدٌ مولود، ووالدٌ مفقود، فلولا من يولد لم يبق على ظهرها أحد، ولولا من يموت لم يسعهم بلد، قال: ما كانت صناعتك؟ قال: كنت تاجراً. قال: فما بلغتَ في تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري غَبَناً، ولا أرد ريحاً، قال: سلني حاجتك، قال: أسألك أن تدخلني الجنة، قال: ليس ذلك إلي، قال: فأسألك أن ترد إلي شبابي، قال: ولا ذاك إلي. قال: فلستُ أرى بيدك شيئاً من أمور الدنيا والآخرة، قال: هو والله ذاك، قال: فارددني من حيث جئت، ففعل به ذلك.
ويروى أنه مكتوب في الحكمة: من بلغ السبعين اشتكى من غير علة. وأُنشدت عن الزبير:
أرجِّي شباباً بعد تسعين حِجّةً ... لِهَنِّيَ لا في مطمع لطموع
وقال آخر:
هزئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يا بن الموصليّ كبيرُ
ورأت شيباً علاني فصدّت ... وابن ستين بشيب جدير
وقال أحد المحسنين، وهو النمر بن تولب:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباحُ والإمساءُ
ودعوتُ ربي بالسلامة جاهداً ... ليُصِحَّني فإذا السلامة داءُ
وقال بعض الأعراب:
وللكبير رَثَيَاتٌ أربعُ ... الرُّكبتان والنَّسا والأخدعُ
ولا يزال رأسه يَصَّدّع ... وكل شيء بعد ذاك يَيْجَعُ
وقال الهيثم بن عدي: لقي رجل الهيثمَ بنَ الأسود فقال له: كيف تجدك يا أبا العُريان؟ قال: أجدني صالحا، وأصبحت على ذاك قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسودّ مني ما أحب أن يبيضّ، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد، ثم قال:
إني سأُنيبك بآيات الكِبَرْ ... تقارُبِ المشي وضعفٍ في البصرْ
وقلةِ النوم إذا الليل اعتكرْ ... وقلةِ الطُّعْم إذا الزاد حضرْ
وتركيَ الحسناء في قُبْل الطُّهُر ... وكثرة النسيان فيما يُدّكرْ
والناس يَبْلَوْن كما يَبلى الشجرْ ... فهذه أعلامُ آيات الكِبَرْ
وقال أعرابي:
لا بارك الله على وجه الكِبَرْ ... فإنه يأمر للمرء بشرّْ
وخُبث ريح وبياض في الشعَرْ
وقال آخر:
إني وإنْ أفنى الزمان نَحْضي ... وأسرعتْ أيامُه في نَقضي
بمنحِفات وأمور تمضي ... حتى حنتْ طولي وضمّت عَرْضي
وابتزّني بعضي وأبقى بعضي ... وقَصُرت رجلاي دون الأرض
وهمّ أهلُ ثقتي برفضي ... ينفع حُبّي ويضُرُّ بغضي
وقال آخر:
قد صرت يا عمرو كأني نِقْصُ ... تَسَوَّر الشيبُ وخفّ النَّحْضُ
وصار قُدّامَ قيامي نهضُ ... وصار لا يحمل بعضي بعضُ
يقول: تسوّر الشيب وأنا غافل، أي كما يفعل اللص، أي تقحم. وقوله: قدّام قيامي نهض. يقول: إذا أردت أن أقوم نؤتُ أولاً ثم استقللت، أي صرت كبيراً لا أستقل بنهضتين ولا ثلاث.

وحدثني التوزي قال: رأى رجلٌ من العرب بنيه يركبون الخيل باقتدار، فأعجبه ذلك منهم، فحاول مثلَ ذلك مرة أو مرتين، فأعجزه الوثوب، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه. وقال بعضهم:
يموت مني كلَّ يوم شيُّ ... وأنا في ذاك صحيحٌ حيُّ
وكم عسى ما قد يدوم الفَيُّ ... وآخر الداء العَياء الكَيُّ
وحدثني الرياشي - ولا أحفظ عمن حدثنيه - قال: دخل أبو الأسود الدِّئليّ على عبيد الله بن زياد فقال يهزأ به: يا أبا الأسود، لو علّقت عليك تميمة! فإنك جميل الوجه، فقال أبو الأسود:
أفنى الشبابَ الذي أفنيتُ جدَّتَه ... مرُّ الجديدين من آت ومنطلقِ
لم يتركا ليَ في طول اختلافهما ... شيئاً يُخاف عليه لذعةُ الحَدَقِ
وأنشد:
من يشتري شيخَين مني بفتى ... إن الشيوخَ فيهمُ كلّ أذى
قال أبو العباس: كانت العرب تذكر الشيب في أشعارها إمّا مدحاً وإما ذمّاً، وشعرهم في ذمه أكثر منه في مدحه. ويروى أنه قيل: ما بالُ شِعركم في الشيب أحسن أشعاركم في سائر أقوالكم؟ قالوا: لأنا نقوله وقلوبنا قَرِحة.
وقال يونس النحوي: ما بكت العربُ على شيء بكاءها على الشباب، وما بلغت كُنْهَ ما يستحق، ويروى أن بعضهم رأى يوماً شيبة في رأسه فقال: شر بديل وخير مبدول. وقال ابن قيس الرُّقَيّات:
رأت بي شيبة في الرأ ... س مني ما أُغَيِّبُها
فقالت: أينُ قيس ذا؟ ... وبعض الشيب يعجبها
أي تتعجب منه، ليس أنها معجبة به. وأنشدني أبو العالية:
يا ربّ بيضاء على مُهَشِّمَهْ ... أعجبها أكلُ البعير اليَنَمَهْ
بيضاء: امرأة. ومُهشّمة: موضع، أعجبها أي تعجبت منه، كما قال الجعدي يصف ثوراً:
فأراه صورة تُعجبُه
وقال النمر بن تولب:
لعمري لقد أنكرتُ نفسي ورابني ... خلائقُ منها لم تكن من شمائلي
مطاوعتي من كنتُ لستُ أطيعه ... وأني أرى بثّي عن اللهو شاغلي
وبُدِّل رأسي الشيبَ بعد سواده ... فأصبحت ذا شُغْل وأقصر باطلي
وأصبحت قد أعرضن عني وسؤنني ... وأخلفنني عهد الخليل المماطل
ألا إن شيب الرأس ليس بآفة ... تَضيرك إلا في النساء الجواهل
وحدثني الرياشي قال: تزوج عبدُ الله بن عامر بأم كلثوم بنت معاوية، فنظر إلى وجهه في المرآة مع وجهها فرأى شيبة في لحيته، فقال لها: أيتها المرأة، الحقي بأهلك، فلما جاءت إلى أبيها قال لها: لعلكِ أسأتِ عِشرة زوجك، قالت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أدري لم طلقني؟ فوجه إليه معاوية فأحضره: فقال: ما أنكرت من أهلك؟ قال: لا شيء والله يا أمير المؤمنين، إلا أني نظرت إلى وجهي ووجهها في المرآة، فرأيتُ شيئاً قد ظهر بي، فكرهتُ أن يفسُد شبابُها معي، فطلقتها لتتمتّع بالأزواج.
وقال جرير في كلمة له:
يا قلّ خيرُ الغواني كيف رُعن به ... فشربه وَشَل فيهنّ تصريدُ
أعرضن من شَمَط في الرأس مشتعل ... فهُنّ عني إذ أبصرنني حِيدُ
قد كنّ يعهدْن مني مَضْحَكاً حسناً ... ومَفرِقاً حسَرت عنه العناقيدُ
فهنّ ينشُدن مني بعضَ معرفة ... وهن بالوُدِّ لا بخلٌ ولا جودُ
قد كان عهدي حديثاً فاستُبدّ به ... والعهدُ مُتَّبع ما فيه منشودُ
فقلن لا أنتَ بعلٌ يستقاد له ... ولا الشباب الذي قد فات مردودُ
كأنما باتت الصِّردان تَنْتِفه ... حتى تطاير عنه طيره السودُ
هل الشباب الذي قد فات مردود ... أم هل دواء يردّ الشيبَ موجودُ
لن يرجع الشيبُ شُبّاناً ولن يجدوا ... عِدْلَ الشباب لهم ما أورق العودُ
إن الشباب لمحمود بَشاشته ... والشيب مُنصرَف عنه ومصدودُ
وأنشدني مسعود بن بشر:
قعد الشيبُ بي عن اللذاتِ ... ورماني بجفوة القَيْناتِ
فإذا رمتُ ستره بخصاب ... فضحتْه طلائعُ الناصلاتِ
ما رأيتُ الشباب إلا سرابا ... غرّني لمعُه بأرض فلاةِ
فإذا ما دعاك للكأسِ داعٍ ... قيل ما للكبير والنّشَواتِ
لستُ بعد الشباب ألتذّ بالعي ... شِ فدَعْني بغُصّةِ العَبَراتِ
إن فقدَ الشباب أنزلني بع ... دكَ دار الهموم والحسراتِ
ورماني بحادث الدهر شيبٌ ... قارعَتْني أيامُه عن حياتي

وقال الطائي:
أرى أَلِفاتٍ قد كُتبْن على راسي ... بأقلامِ شيب في صحائف أنْقاسي
فإن تسأليني من يَخُطُّ كتابَها ... فكَفُّ الليالي تستمدُّ بأنْفاسي
جرَتْ في قلوب الغانيات لشَقْوتي ... قُشَعْريرةٌ من بعد لِينٍ وإيناسِ
وقد كنتُ أجري في حشاهنّ مرّةً ... مَجاري مَعينِ الماء في قُضُبِ الآسِ
وقال أبو العتاهية في مثل قوله:
فكفُّ الليالي تستمدُّ بأنفاسي
الشيبُ كُرهٌ وكُرهٌ أن يفارقني ... أعْجِب بشيء على البغضاءِ مَودود
يمضي الشبابُ وقد يأتي له خلَفٌ ... والشيب يذهب مفقوداً بمفقود
ومثله قول الآخر وهو علي بن محمد العلوي:
لعَمرُك للمَشيب عليّ مما ... فقدتُ من الشباب أشدُّ فَوتا
تملَّيتُ الشباب فصار شيبا ... وأبلَيتُ المشيبَ فصارَ مَوتا
وقال الحسن: الشباب الصحة، والسلطان المال، والعز الغنى عن الناس. وأنشدني مسعود بن بشر في مدح الشيب لكثيّر في عبد الملك بن مروان:
رأيتُ أبا الوليد غداةَ جَمْع ... به شيبٌ وما فقد الشبابا
ولكنْ تحت ذاكَ الشيبِ حزم ... إذا ما ظن أمْرض أو أصابا
وقال إبراهيم بن المهدي:
بقولون هل بعد الثلاثين ملعب ... فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب!
لقد جلَّ قدرُ الشيبِ إن كان كلّما ... بدَتْ شَيبة يَعرى من اللهو مَرْكَب
وقال آخر:
ألقى عصاهُ وأرخى من عِمامته ... وقال ضيفٌ فقلت الشيب قالَ أجَلْ
فقلتُ أخطأتَ دارَ الحيّ قال ألا ... تمّت لك الأربعون الحول ثم نزَلْ
للهِ شيبٌ رمى قلبي بلَوعته ... كأنما اعْتَمَّ منهُ مَفرِقي بجبَلْ
وأنشد إسحاق:
كان الشباب كخضاب فنصَلْ ... واختاره الشيبُ محلاًّ فنزلْ
فأزعج الشيبُ الشبابَ فارتحَلْ ... والشيبُ داءٌ قاتلٌ وإنْ مَطَلْ
ولأبي العتاهية:
يا خاضبَ الشيبِ بالحِنّاءِ تستُرَهُ ... سلِ الملِيكَ له سِتراً من النارِ
لن يرحلَ الشيبُ عن دارٍ ألمَّ بها ... حتى يُرحِّلَ عنها صاحبَ الدارِ
وكان الخضاب يستحب. وقد خضب أبو عبد الله الحسين بن علي صلوات الله عليهما. ويروى أن قائلاً قال للرضيّ: أأخضب؟ قال: نعم، بالحنّاء والخِطْر، ثم قال: أما علمت أن لك في ذلك أجراً؟ قال: وكيف؟ قال: ألا تعلم أنها تحب أن ترى منك مثل الذي تحب أن ترى منها؟ لقد خرج نساء من العفة ما أخرجهن إلا قلّة هيئة أزواجهن لهن. قال: وأنشد:
الشيبُ زهَّدَ فيكَ من تَصِلُ ... ولقد جفا بكَ بعدَهُ الغزَلُ
ولذاك ما قالتْ لجارتها ... هيهاتَ شيَّخَ بعدَنا الرجُلُ
قولي له يختارُ بي بدَلا ... من حيثُ شاءَ فلي بهِ بدَلُ
وقال آخر:
رأينَ الغواني الشيبَ لاح بعارِضي ... فأعرضْنَ عني بالخدود النواضرِ
وكنّ إذا أبصرنني أو سمعْنَ بي ... سعَين فرقَّعْنَ الكُوى بالمحاجر
وقال محمد بن عبد الملك الزيات يشتكي مصابه ويذكر فجيعته ويبكي على زمانه:
عَرِيت من الشباب وكنتُ غَضّا ... كما يعرى من الورق القضيبُ
ونُحْت على الشباب بدمع عيني ... فما نفع البكاءُ ولا النحيبُ
فيا أسفا أسِفتُ على شباب ... نفاه الشيبُ والرأسُ الخضيبُ
ألا ليت الشبابَ يعودُ يوما ... فأخبرهُ بما فعل المشيبُ

باب
شعر وغريب ولغة
حدثني المازني عن أبي زيد الأنصاري قال: سمعت العرب تقول في أسماء الدواهي: لقيت منه البُرَحِين والبَرحِين والفِتَكْرين والفُتَكْرِين. قال: وحكيت لي الفِتْكَرِين ولم أسمعها من العرب، وأنشد:
قد كلَّفتْ راعيَها الفِتَكْرِين ... إضمامةٌ من ذَودِنا الثلاثينْ
ولقيتُ منه الدهارس، واحدها دُِهْرُِس، وهي الدواهي. وقال الكلبي: الدهاريس، قال المتلمس:
حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... بَسْلٌ حرامٌ ألا تلك الدهاريس
وقال أبو زيد: البَسْل الحرام، والبَسْل الحلال، وهو عندهم من الأضداد، قال ابن همام السِّلوليّ للنعمان بن بشير الأنصاري:
زيادتَنا نعمانُ لا تَحرِمَنَّنا ... تقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلو

أيُثبَت ما زدتمْ وتُلقى زيادتي ... دمي إن أُحلَّت هذه لكمُ بَسْلُ
يقول: حلال.
وأنشد أبو زيد لضمرة بن ضمرة النهشلي، وكان في الجاهلية من الفُتّاك:
بكرتْ تلومك بعد وَهْنٍ في الندى ... بَسْل عليكِ ملامتي وعتابي
أَأَصُرُّها وبُنَيُّ عمّي ساغبٌ ... فكفاكِ من إبَةٍ عليّ وعابِ
يقال في كل شيء عُجل به: في أيّ وقت بُكر به، ويقال: بكرتُ على فلان عشية أمس، أي في أول أوقات العشيّ، ليس البُكرة للغداة، ألا ترى إلى قوله: بعد وَهْن، أي بعد ساعة من الليل، ومنه سميت الباكورة. وقوله: ومن إبة عليّ. يقال أَوِبْتُ إبة أي استحييت واحتشمت، وكذلك اتّأبت من الشيء. وأوأبت الرجلَ أحشمتهُ.
ويقال لطعام الفجأة: طعام ذو تُوَبة، أي ذو حشمة. ويقال: لقيت منه الذَّرَبِينَ والذَّرَبَيّا، والأَقْوَرِين والأقْوَرِيّات. ولقيت منه بناتِ بَرْح، وبني بَرْح، وبناتِ بئس، وبني بِئس، وبنات أَوْدَكَ، ولقيت منه الأمَرِّين، ولقيت منه بنات طَبَق، يعني الداهية، وأمّ الرُّبَيْق على وُرَيق وعلى أَرَيْق، وأنشد:
إني رأيت العنزَ يمنع ربُّها ... من أن يُضيح جارَها بالسِّنْبِس
وهي الداهية. والقناذع: الدواهي، وأنشد:
ومن لا يورّعْ نفسَه تتْبع الخنا ... ومن يتبع الجرباء يَغْش القناذعا
ولقيت منه الزَّبير، وهي الداهية، وأنشد:
فلاقَوْا من آل الزُّبَيرِ الزَّبِيرا
وأنشد:
إذا تمطّين على القياقي ... لاقَينَ منها أُذُنَيْ عَناقِ
والقياقي: واحدها قِيقاءة، وهو ما ارتفع من الأرض، وأذُني عَناق، يريد شرّاً وداهية. ولقيت منه الدقارير، واحدتها دِقرارة. ولقيت منه صِلاًّ من الأصلال، وصِمّةً من الصِّمَمم، يريد الداهية. ويقال للداهية حُوَّل قُلَّب. ومما تمثل به معاوية عند موته:
الحُوَّل القُلَّب الأريبُ وهل ... يدفع صرفَ المنيةِ الحِيَلُ
والدُّرَخْمِين الداهية.
وحدثني التوزي قال: سألت الأصمعي عن الدِّرَفْس والدِّرَفْسة فقال: هو الجمَل الشديد، وأنشد للعجّاج:
كم قد حسرْنا من عَلاة عَنْسِ ... كَبْداءَ كالقوسِ وأخرى جَلْس
دِرَفْسةٍ أو بازل دِرَفْس
وكان الأصمعي لا يعرف الدرَفْس في بيت عبد الله بن قيس الرقيّات وهو يمدح عبد العزيز بن مروان:
تُكِنُّهُ خرقةُ الدرَفْسِ من الشمسِ ... كليثٍ يُفرِّج الأجَما
فقال: الدرَفْس البعير، وما له ها هنا موضع، ولو كان إليّ لقلت: تُكنّه خرقة الدِّمَقْس، يعني الحرير.
وقال أبو العباس: وإنما الدرفس اسم لواء للعجم حملوه يوم القادسية لرُسْتَم يقال له بالعجمية: دِرَفْشِ كابيانْ، فأعربه عبد الله بن قيس فقال: الدرفس.
وحدثني التوزي قال: صحّف الأصمعي في بيت الحطيئة مرّة فلم نسمع تصحيفاً أحسن منه، وهو:
أغررتَني وزعمتَ أن ... ك لا تَنِي بالضيف تأمُرْ
أي لا تني تأمرُ بالضيف؛ تأمر بإكرامه وحُسن قِراه، والشعر:
أغررتَني وزعمتَ أنك لابِن بالصيف تامِرْ
أي كثير اللبن والتمر. ويقال: شاةٌ لَبِنة وغنم لِبان ولِبْن ولُبْن. ويقال: كم لُبْنُ غنمك؟ وكم رِسْلها؟ قال: إنه إنما قيل: كم لُبْن غنمك، أي كم فيها مما يُحلب، وفلان لابِنٌ وتامرٌ إذا كان لبن وتمر، وتمَرتُ القوم ولَبَنتُهم ألبِنُهم لَبْناً وقد ألبن الرجل: كثر لبنه، وتمَرْته فأنا أتمُره. ولم نقصد فيما نذكره في هذا الفصل طعناً على الأصمعي، ولا دفعاً لعلمه، وكذلك غيره، ولكن الشيء يُذكر بالشيء، والحديث يجر الحديث.
حدثني التوزي عن أبي عبيدة قال: أنشدني المفضِّل:
وإذا ألمّ خيالُها طُرقَتْ ... عيني فماء شؤونها سَجْمُ
وإنما طُرِفتْ فصحّف، وهي للمخبَّل السعدي.
وقال الأصمعي: هي لطرفة، وأولها:
ذكَرَ الرَّبابَ وذكرُها سُقْمُ
وأخبرني التوزي عن أبي عبيدة أن المفضَّل أنشد بيتَ أوس بن حجر:
وذاتُ هِدْمٍ عارٍ نَواشرُها ... تُصْمِتُ بالماء تَوْلَباً جَذَعا
وإنما هو جَدِعا. والجِدْع السيئ الغذاء، ويقال جدَعْتُه وأجدعتُه: أسأت غذاءَه. ويقال للسيئ الغذاء الجَحِن والقَتِين، ويقال للذي قد أُحسن غذاؤه مُسَرْهَف ومُعَذْلَج ومُخَرْفَج، والتَّوْلَب: الصغير. والأهدام: خُلقان الثياب.

وحدثني التوزي قال: أنشد المفضّل قول اليشكري:
وكنتُ زُمَيْناً جارَ بيتٍ وصاحبا ... ولكنّ قيساً في مسامعه صمَمْ
وأخبرني أبو عبيدة والأصمعي قالا: إنما هو زَمِيتاً أي قريباً.
وأخبرني الأصمعي وأصحابنا أن المفضّل أنشد قول البُرجُمي:
أفاطمَ إني هالكٌ فتبيّني ... ولا تَجزَعي كلّ النساءِ يتيمُ
وقال المفضل: امرأة يتيم إذا مات زوجها، وغلام يتيم مات أبوه، واليُتْم في البهائم موتُ الأم. قال الأصمعي: وإنما هو: كل النساء تَئِيم أي تصير أيِّماً والأيِّم: التي لا زوج لها بكراً كانت أم ثيِّباً، والأيِّم عند العامة: الثيِّب.
وأخبرني الشيباني قال: سألت المفضل عن قول متمم بن نُوَيرة:
لَعَمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جَزَع مما أصاب فأوجعا
ما التأبين؟ قال: لا أدري. والتأبين: نُدبة الميت، وقال أبو زيد: أبّنتُ الميّت تأبيناً إذا بكيته بعد موته.
وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال: ناظرني المفضّل عند عيسى بن جعفر فأخطأ أو صحّف، فجعل يصيح ويَشْغَب، فقلت له: أصِبْ، وليكن كلامُك كلامَ النَّمْل، لو صِحتَ إلى النشور ما نفعك.
وحدثني التوزي قال: شهدتُ الأصمعي فقرأ عليه رجل: ما في بعيري هاتّةٌ فجوّزها له، ومضى الرجل، فرددتُ على الرجل فقلت: إنما هي هانّةٌ، والهانّة الشّحم، فسكت الأصمعي وما أجابني بحرف.
قال: وشهدته أيضاً - وقرأ عليه رجل: ما سمعنا العام قابّةً - قال الأصمعي: يريد صوت الرعد، من القبيب، فقلت له: إنما قابّة قطرة من المطر، يقال: ما سمعنا العام قابّة، أي قطرة مطر - وكان كيسان، وابن أبي يحيى الغنوي حاضرين فوافقاني - فسكت الأصمعي.
وحدثني عن أبي عمرو الشيباني قال: كنا بالرَّقّة فأنشد الأصمعي:
عَنَنّا باطلاً وظلماً كما تُعْ ... نَزُ عن حَجْرة الرَّبِيض الظِّباءُ
فقلت له: تُعْتَرُ من العَتيرة. والشعر للحارث بن حِلِّزة، وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا بلغت إبل الرجل ألفاً فقئوا عين الفحل لتُدفع العين عنها، فهو المفقّأ يا فتى، وإذا زادت على الألف فقئوا العين الأخرى، فهو المعمّى. وفي ذلك يقول قائلهم:
فقأتُ لها عينَ الفحِيل تَعَيُّفا
ومن نذورهم: إذا بلغت إبلي كذا ذبحت كذا وكذا شاةً، ثم يقولون الظباء شاءٌ، فيذبحون مكان الشاة ظبية مما يصيدون، ويسمّونها العَتيرة، وحق ذلك أن يكون في رجب، فذلك قول الحارث بن حلّزة: عَنَنا باطلاً ... البيت.

باب
نذكره من باب إحالتهم بالذنْب على غير المذنب. فمن ذلك أنهم كانوا إذا امتنعت البقرُ من ورود الماء ضربوا الثور حتى يَرِد وتَرِد بوروده، ففي ذلك يقول أنس بن مُدرك الخثعمي:
إني وقَتْلي سُلَيكاً ثم أعْقِلَه ... كالثورِ يُضرب لمّا عافت البقرُ
وقال عوف بن عطية بن الخَرع:
تمنّت طيّئ جهلاً وجُبنا ... وقد خاليتُهمْ فأبَوْا خِلائي
هجَوْني أن هجرتُ جبالَ سلمى ... كضرب الثور للبقرِ الظِّماءِ
ويدخل في هذا الباب قصة صُحْر التي يُضرب بها المثل، وهي صُحر بنت لقمان بن عاد، وكان لقمان تزوج عدة نساء كلهن قد خانتْه في نفسه، فقتلهنّ، فلما قتل أُخراهن ونزل من الجبل كانت صُحر انته أول من لقيه، فقتلها، وقال: وأنت أيضاً امرأة، فضُرب بها المثل؛ قال خُفاف بن نَدْبة:
وعباسٌ يُدِبّ ليَ المنايا ... وما أذنبتُ إلاّ ذنبَ صُحْرِ
وقال عروة بن أذينة:
أتجعل تهياماً بليلى إذا نأت ... وهجراً لها ظُلماً كما ظُلمت صُحْرُ
قد ذكرنا من هذا الباب صدراً نخاف على قارئه الملال إن أطلناه، ونحذر من ضجر يلحقه إن أسهبنا فيه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. ونعود إلى الأخبار، والأشعار يشبه بعضها بعضاً، وبالله التوفيق.
باب
الحِلم والأناة
يروى أن معاوية بن أبي سفيان كان أكثر الناس حِلماً، وأوسعهم عفواً، وأشدهم إغضاءً عمن نابذه، وأحسنهم احتمالاً لمن عازّه وعانده.
فمن ذلك أن لاجً أغلظ له في الكلام، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتحلم عن هذا وقد قال ما قال؟ قال معاوية: ما كنت لأحول بين الناي وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين مُلكنا.

ويروى أن أبا الجهم الأموي قال: لقد بتُّ ليلة بأسرها قلقاً أفكر في حلم معاوية فيذهب عني وَسَني، قال: وغدوت عليه وأنا مُجمِع لقاءه بما أرجو أن يطيِّشه، فدخلت عليه، وقد كان عنده رجل أغضبه بأشياءَ لقيه بها، فقلت في نفسي: ظفرت به؛ فسلّمتُ عليه، فردّ عليّ جواباً ضعيفاً، فقلت: يا بن هند، أبلغَ بك الأمر إلى أن أسلِّم عليك فترد عليّ مثل هذا الرد! والله لقد رأيت أمك وهي شابة ناهد، وأنا إذ ذاك أطلب الفجور، فعرضتْ عليّ نفسها فأبيتُها، فقال: يا أبا الجهم، أما أنك لو نكحتَها لنكحت حَصاناً كريمة، ولكنت أهلاً لها. قال أبو الجهم: فوقعتُ على رجليه أقبلهما، وأقول:
نقلّبه لنَخْبُرَ حالتيه ... فيكشِف عنهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنّا ... نميل إذا نميل على أبينا
فقام معاوية فدخل إلى حجرة له فدعا بأبي الجهم فقال له: يا أبا الجهم، إياك وإغضاب الملوك، فإن لهم غضباً كغضب الصبيان، وبطشاً كبطش الأُسد. يا غلام، أعطه ثلاثين ألف درهم، وليحملها معه ثلاثة من العبيد، فخرج من بين يديه ومعه تلك الصلة.
ويروى أنه كان يقول: إذا لم يكن الملك حليماً استفزّه الشيء اليسير الذي يندم عليه، وإذا لم يكن شجاعاً لم يخفْه عدوّه، وإذا كان شحيحاً لم يكن له خاصة ولا مُناصح، وإذا لم يكن صدوقاً لم يُطمع في رأيه.
وحدثني العتبي قال: قيل لمعاوية: ما النُّبل؟ قال: مؤاخاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء، فقيل له: وما المروءة؟ قال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة.
ويروى أنه لما ورد عليه خبر علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أدالنا من عدونا، ورد إلينا من زماننا، فقام إليه رجل من أهل الشام، فقال: ما ذاك من كرامتك على الله يا معاوية، فقال له عمرو بن العاص: اسكت يا جاهل، فوالله لأنت أنذل أهل الشام وأقطعهم عن الكلام، فتمثل معاوية:
إني أرى الحلم محموداً مغبّته ... والجهل أفنى من الأقوام أقواما
ونظر يوماً إلى يزيد ابنه يضرب غلاماً له، فقال: يا يزيد، أتضرب من لا يمتنع منك! والله لقد حالت القدرة بيني وبين أولي التِّرات.
ويروى من ناحية زبير قال: حدثني مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، الخليفة لا يُصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه، وأنشد:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ... إذا نطقَ العوراءَ غرب لسان
إذا حُدِّثوا لم يُخشَ سوءُ استماعهم ... وإن حدّثوا أدّوْا بحُسنِ بيانِ
وقال عمر بن عبد العزيز: ثلاث من كنّ فيه فقد كمَل: من إذا غضب لم يُخرجه غضبه من الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا قدر عفا وكفّ.
ويروى أن وفوداً دخلت عليه، فتحفّز فتىً منهم للكلام، فقال عمر: كبّروا، أي ليتكلم أكبركم، فقال الفتى: إن قريشاً ليُرى فيها من هو أسنّ منك. فأطرق عمر ثم قال: تكلم يا فتى.
وقال الشعبي: ما رأيت رجلاً أفهم إذا حدّث، ولا أنصتَ إذا حُدِّث، ولا أحلم إذا خولف من عبد الملك.
وقال المدائني: شتم رجل المهلّب بن أبي صفرة فلم يردد عليه، فقيل له: لم حَلُمت عنه؟ قال: لم أعرف مساويه، وكرهت أن أبْهَتَه بما ليس فيه. وشُتم رجل فقال الرجل لشاتمه: يا هذا، ما ستر الله عليك من عورتي أكثر، وأنشد:
لن يدرك المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموا ... حتى يُذَلّوا وإن عزوا لأقوام
أو يُشْتَموا فترى الألوانَ مشرقةً ... لا صفحَ ذلّ ولكن صفحَ أحلام
وكان يقال: العقوبة ألأم حالات ذوي القدرة. وقال جعفر بن محمد: لأن أندم على العفو أحبّ إلي من أن أندم على العقوبة. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أول ما عُوِّض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره. وأنشد الشعبي:
ليست الأحلام في حال الرضا ... إنما الأحلام في حال الغضبْ
وقال الأخطل في بني أمية:
صُمٌّ عن الجهل عن قول الخنا خُرُسٌ ... وإن ألمّتْ بهم مكروهةٌ صبروا
شُمْس العداوة حتى يُستقادَ لهمْ ... وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قدَروا
وقال حاتم الطائي:

تحلَّمْ عن الأدْنَيْنَ واستبِق وُدَّهم ... فلن تستطيعَ الحلمَ حتى تَحَلَّما
إذا شئتَ نازيتَ امرأَ السَّوءِ ما نزا ... إليكَ ولاطَمتَ اللئيم المُلَطَّما
وقال محمد بن زياد الحارثي:
تخالُهُمُ للحلم صُمّاً عن الخنا ... وخُرساً عن الفحشاء عند التهاجر
ومرضى إذا لاقَوا حياءً وعفةً ... وعند الحفاظِ كالليوث الخَوادر
لهم ذُلّ إنصاف وأُنس تواضع ... بهمْ ولهمْ ذلّتْ رقاب المعاشر
كأن بهم وَصْماً يخافون عاره ... وما وصمهم إلاّ اتقاء المعابر
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومشارّة الناس؛ فإن المعاير تدفن الغُرّة وتُظهر العُرّة " . وأنشد:
وإني ليَثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربى خلائقُ أربعُ
حياءٌ وإيمانٌ ودينٌ وأنّني ... حليمٌ ومثلي لا يَضُرّ وينفعُ
وقال رجل من بني حنيفة يرثي أخاه:
لقد وارى المقابرُ من شريك ... كثيرَ تكرُّم وقليلَ عابِ
به كما نصولُ على الأعادي ... وننقُضُ مِرّةَ القوم الغِضابِ
صَموت في المجالس غير عِيّ ... جدير حين ينطق بالصواب
كثير الحِلم لا طَبِعٌ عَيِيّ ... ولا فَحّاشة نَزِق السِّباب
قوله: صموت في المجالس غير عيّ، نظير قول ابن كُناسة في إبراهيم بن أدهم الغنوي:
رأيتُك لا يُغنيك ما دونه الغنى ... وقد كان يَغنى دون ذاك ابن أدهما
يُشيع الغِنى إن نالَه وكأنما ... يلاقي به البأساء عيسى بنُ مريما
أخافَ الهوى حتى تجنّبه الهوى ... كما اجتنب الجاني الدم الطالب الدما
وأكثر ما تلقاهُ في القوم صامتا ... وإن قال بَدَّ القائلين فأفحَما
وقال آخر:
إني ليمنعُني من ظلم ذي رَحِمٍ ... لبٌّ أصيلٌ وحلمٌ غير ذي وَصمِ
إنْ لانَ لنتُ وإن دبّت عقاربُه ... ملأتُ كفّيه من عفوٍ ومن كرمِ
ويروى أن الأحنف كان حليماً وقوراً عالماً فقيهاً، وكانت الملوك ترجع إلى رأيه وتعمل بقوله. وذكروا أن خَتَناً له أراد أن يستفز حلمه فقال: ملأتْنا ابنتُك البارحة من دمائها؛ فقال: نعم إنها من نسوة يَخْبَأْنَ ذلك لأزواجهن؛ فقال: إني حملتُ على نفسي البارحةَ في جماعها؛ فقال: ما زوجناك إلا لذلك. وكان يقول: ما نازعني أحدٌ إلاّ أخذتُ عليه بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفتُ له قدره، وإن كان دوني رفعتُ نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضّلت عليه. ويروى أن معاوية قال له: يا أحنف، أأنت صاحبُنا يوم صِفِّين، والمخذول عن أمير المؤمنين؟ فقال الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها يومئذٍ لفي صدورنا، وإن سيوفنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن دنوت إلينا شبراً من خير لندنونّ إليك ذراعاً من عُذر، ولئن شئت ليصفونّ لك ودّنا بفضل حلمك عنا. قال: قد شئتُ. وروى زبير عن رجاله قال: دخلت على معاوية مَوْجِدةٌ على يزيد، فأَرِقَ لذلك ليلته، فلما أصبح بعث إلى الأحنف فقال له: كيف رضاك عن ولدك؟ - أو ما تقول في الولد؟ - قال الأحنف: فقلتُ في نفسي: ما سألني أمير المؤمنين عن هذا إلا لمَوجِدةٍ دخلتْه على يزيد، فحضرني كلام لو كنت روّأتُ فيه سنةً كنتُ قد أجدتُ، فقلت: يا أمير المؤمنين: هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول ونصل إلى كل حيلة، فإن سألوك فأعطِهم، وإن غضبوا فأرضِهم، يُمحِضوك ودَّهم، ويُلطِفوك جهدَهم، ولا تكن عليهم قُفلاً لا تعطيهم إلا نزراً فيمَلّوا حياتك ويكرهوا قربَك. فقال: لله در الأحنف! لقد دخلتَ عليّ وإني لمن أشد الناس مَوجِدة على يزيد، فلقد سَللتَ سَخيمة قلبي؛ يا غلام، اذهب إلى يزيد فقل له: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: قد أمرنا لك بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فأرسِل من يقبض مالك، فأتاه الرسول فأعلمه، فقال: من كان عند أمير المؤمنين؟ فقال: الأحنف؛ فقال: لا جرَم! لأقاسمنه الجائزة، فوجّه برسول يأتيه بالمال ورسولٍ يأتيه بالأحنف. فقال: يا أبا بحر: كيف كان رضا أمير المؤمنين؟ فأخبره: فقاسمه الجائزة، وأمر له بمائة ألف ومائة ثوب.

وحدثني الرياشي قال: دخل عقيل بن أبي طالب على معاوية - وكان من أحضر الناس جواباً - فقال له معاوية: يا عَقيل، ما حال عمِّك أبي لهب؟ وأين مكانه من النار؟ فقال: إذا أنتَ دخلتَها فخذ على يسارك؛ فستجده مفترشاً عمّتكَ حمّالة الحطب؛ فأطرق معاوية.
ويروى أنه قال له يوماً: أيّما خير لك: أنا أم علي؟ فقال: ذاك خيرٌ لديني، وأنت خيرٌ لدنياي. وكان يُسبغ جائزته إذا وفد عليه.
وحدثني الزيادي قال: لما بنى معاوية الخُضَيراء دخل إليها ومعه عمرو بن العاص، فأخذ يفتح باباً باباً، ويقول: هذا اتخذناه لكذا، وهذا بنيناه لكذا، فرأى في بعض الأبنية غلاماً يفجُر بجارية من جواريه، فقال: وهذا اتخذناه ليفجُر فيه غلمانُنا بجوارينا، وحَلُم عن الغلام والجارية ولم يعاقبهما.
ويروى أن كسرى أنو شروان لما قتل بُزُرْجمهر بعث إلى ابنته، فلما بعث إليها غطّت رأسها، فقالت: هيبتي لك في وفاته، كهيبتي لك في حياته، وكذا كنتُ أفعل؛ فقال: اخطُبوها لي، فقالت: انظروا إلى ملِك يقتل وزيراً لا يجد له عوضاً، ويصيّر بينه وبين فِراشه موتورةً بأبيها! فدعا بجوهر فحشا به فاها.
ويروى أن رجلاً قال للرشيد: أني أريد أن أعظك وأُغلظ لك في القول، فقال الرشيد: يا هذا ليس ذلك لك، قد بعث اللهُ من هو خيرٌ منك إلى من هو شر مني، فأمره أن يقول له قولاً ليناً.

باب
الشكر للصنائع
يروى من غير وجه سمعنا أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: لا يُزهِدَنّك في المعروف من لا يشكرك عليه، فقد شكرك عليه من لم يستمتع منك بشيء، وقد يُدرَك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع منه الكافر. وكان من دعائه: الحمد لله أحمد ومعترفاً بالتقصير في شكره، وأستغفره طامعاً في عفوه، وأتوكل عليه فاقةً إلى كفايته. وكان يقول: لا تكوننّ كمن يعجِز عن شكر ما أوتي، ويطلب المزيد، يأمر الناس بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويكره المسيئين وهو منهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ولا يدعها في حياته. وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل ليحمد العبد إذا قال الحمد لله " ، فلذلك قال محمود الوراق في هذا المعنى:
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً ... عليّ له في مثلِها يجب الشكرُ
فكيف بلوغُ الشكر إلاّ بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمرُ
إذا مُسّ بالسرّاء عمّ سرورُها ... وإن مُسّ بالضراء أعقبَها الأجرُ
وما منهما إلا له فيه نعمةٌ ... تضيق بها الأوهام والبرّ والبحرُ
فهذا معنى لطيف؛ يعني أن الله عز وجل لا يُحمد إلا بتوفيق يجب أن يحمد على توفيقه، ثم وجب في الحمد الثاني ما وجب في الحمد الأول، ثم إلى ما لا نهاية.
ويروى في الخبر أن داود عليه السلام قال: إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلاّ بنعمتك! فأوحى الله عز وجل إليه: أن يا داود، ألست تعلم أن الذي بك من النِّعم هو مني! قال: بلى يا رب، قال: فإني أرضى بذلك منك شكراً.
فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزّةِ مجدٍ أو علوّ مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثقلان
وكان يقال: كثرة الامتنان من النعم تهدم الصنيعة وتكدّر المعروف. وكان يقال: من كفر النعمة كتمانها من المنعَم عليه، ومن تكديرها إظهارها من المنعم. فعلى المنعم أن لا يمتنّ، وعلى المنعَم عليه أن لا يكفُر، وأنشد:
زاد معروفَك عندي عِظما ... أنه عندك مستورٌ حقيرْ
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الله مشكور كبيرْ
وقال آخر:
لأشكرنّك معروفاً همَمْت به ... إنّ اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يُمضه قدَر ... فالشيء بالقدر المجلوب مصروف
وكان معاوية يقول: من هَمّ بالمعروف ثم عجز عنه فقد وجب شكره، ويروى عن سليمان التيمي أنه قال: إن الله أنعم على العباد بقدر قدرته، وكلّفهم من الشكر بقدر طاقتهم. وشكر أعرابي رجلاً أَولاه جميلاً فقال له: لا ابتلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك، وأنعم عليك بنعمة يعجز عنها شكرك. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: قيّدوا النعَم بالشكر، والعلم بالكتابة. وقالت هند بنة المهلّب: اغتنموا شكر النعمة قبل زوالها. وقال محمود الوراق:

أعارَك مالَه لتقومَ فيه ... بطاعته وتقضيَ فَضلَ حقِّهْ
فسلم تشكره نعمتَه ولكن ... قوِيتَ على معاصيه برزقِهْ
تجاهره بها عَوْداً وبدءاً ... وتستخفي بها من شرِّ خلْقِهْ
وقال بعض الظرفاء:
وزهّدني في كل خير فعلتُه ... إلى الناس ما جرّبتُ من قلّة الشكر
إذا أنت لم تنظر لنفسك حظَّها ... أحاطت بك الأشياءُ من حيث لا تدري
وكان الناس يحبون أن يُحمدوا على ما أَولَوا، وأن يُظهروا الشكر لهم على ما قدموا، وأن يكون ذلك في غير وجوههم. ويروى أن أعرابياً دخل على هشام بن عبد الملك فأثنى عليه، فقال: إنا لا نحب أن نُمدح في وجوهنا، قال: لست أمدحك، ولكني أحمد الله فيك، وأنشد:
شكري كفعلك فانظر في عواقبه ... تعرفْ بفضلك ما عندي من الشكرِ
وقال آخر:
فلو كان للشكر شخص يَبين ... إذا ما تأمّله الناظرُ
لمثَّلتُه لك حتى تراه ... فتعلمَ أنّي امرؤٌ شاكرُ
وقال آخر:
كنتُ أثني على معاوية الأو ... سيّ قبل العطاء خيرَ الثناء
فأراني بعد البلاء تناهي ... تُ وخير الثناء بعد البلاء
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال لي جبرائيل عليه السلام: من أسديتَ إليه معروفاً فكافأ فذاك، ومن عجز عن ذلك فأثنى فقد كافأ " . وأنشد:
ثمن الصنيعة شكر صاحبها ... والشكر شيء ما له ثمنُ
وقال آخر:
ولا يُشترى الحمدُ أمنيّةً ... ولا يُشترى الحمد بالمِقْصرِ
ولكنه يُشترى غاليا ... فمن يُعطِ أثمانَه يشترِ
ومن يعتَطِفْهُ على مِئزرٍ ... فنعم الرداءُ على مئزرِ
ويروى أن عبد الله بن العباس - وكان من الأجواد - أمر لسائل سأله بعشرة آلاف درهم، فصُبّت في حجره فتخرّق ثوبه، فبكى، فقال له: أعلى قميصك تبكي؟ فقال: لا والله ولكن على ما يأكل التراب منك، فقال: شكرك أحسن من صنيعتنا، يا غلام أعطه مثلها. ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: من شكر استحق الإحسان، ومن أحسن استحق الشكر. ولقد أحسن أبو نواس حيث يقول في كلمة له:
أنت امرؤ طوّقتَني مِننا ... أوْهَتْ قُوى شُكري فقد ضَعُفا
لا تُسدِينَّ إليَّ عارفةً ... حتى أقومَ بشكر ما سلفا
وقال آخر:
سأشكر عَمْراً ما تراخت منيّتي ... أياديَ لم تُمْنَنْ وإن هيَ جَلَّتِ
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مُظهر الشكوى إذا النعل زلَّتِ
رأى خَلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّتِ
إذا استُقبلت منه المودة أقبلتْ ... وإن غُمزت منه القناة اكفهرّتِ
وقال آخر:
شكرتُك إن الشكر مني سجيّةٌ ... وما كل من أوليتَه نعمةً يقضي
ونبّهتَ من ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعضِ
وقال آخر:
جلّت أياديك عن الذكر ... فحار في معقولها شكري
ما تنقضي منك يدٌ ثَيّبٌ ... حتى تُثنِّي بيدٍ بِكرِ
فالشكر في عُرفك مستهلك ... كقطرة في لُجّة البحر
لم يعْفُ معروفك عندي ولا ... يعفو إلى المَبعَث والحشر
وشكر أعرابي رجلاً فقال: ذاك من شجر لا يُخْلِف ثمره، ومن ماء لا يُخاف كدَرُه. وشكر آخر رجلاً فقال: الحمد لله على توفيقه إياك في إعطائي، وعلى توفيقه إياي في مسألة مثلك، أعاشك الله صالحا. وقال بعض الحكماء: الشكر بالغ ما بلغ أدق من الصنيعة كائنةً ما كانت؛ لأن الشكر فرع من فروع الصنيعة، ولها وعنها كان، ولولا الصنيعة لم يكن شكر.
قد أردنا أن نصل كتابنا بما شرطناه على أنفسنا من ذكر ما ينتفع به من يأخذه عنا، وينشره من ينسُبه إلينا، وقد أتينا منه بعض ما أردنا وقصدنا، وكرهنا الإطالة، وخفنا على قارئه السآمة، وأشفقنا أن يبلغ به حدَّ المجاوزة؛ فإن الإكثار سرَف، كما أن التقصير عجز. ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: من أطال الحديث عرّض أصحابه للسآمة وسوءِ الاستماع.
ونحن خاتمو كتابنا هذا بباب يشتمل على فنون من الآداب، ويتضمن بعض ما نستحسنه من الأخبار والأشعار التي يشاكل بعضها بعضاً، ونضيف إلى ذلك من العظات الموجزة، والأمثال السائرة، والأشعار الموزونة. وبالله الحول والقوة.

باب يشتمل على فصول
فصل في الحسد

حدثني التوزي قال: قال معاوية بن أبي سفيان: كل إنسان أقدر أن أُرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها. وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، غمٌّ دائم، ونفَس متتابع. وكان يقال: الحاسد إذا رأى نعمة بُهت، وإذا رأى مصيبةً شمت. وكان يقال: من علامات الحسود أن يتملّق الرجلَ إذا حضر، ويغتابه إذا غاب، ويشمت بالمصيبة إذا نزلت. وكان يقال: ستة لا تخطئهم الكآبة: فقيرٌ حديثُ عهد بغنىً، ومُكثر يخاف على ماله التلف، والحسود، والحقود، وطالبُ مرتبة فوق قدره، وخليطُ أهل أدب غير أديب. وقال بعض الحكماء لبنيه: إياكم والحسد فإنه يبيّن فيكم ما لا يبيّن على عدوّكم. وقال معاوية: ليس في خلال الشر خَلّة أعدل من الحسد فإنه يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود. وقال ابن المقفع: الحسد خُلُق دنيء، ومن دناءته أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب
حسدوا النعمة لمّا ظهرت ... فرمَوْها بأباطيل الكَلِمْ
وإذا ما اللهُ أسدى نعمةً ... لم يَضِرْه قولُ حُسّاد النِّعم
ومن الدعاء: اللهم إني أعوذ بك من الكمَد، ومن الانطواء على الحسد، ومن صاحبٍ لا يُقيل عثرة، ولا يقبل معذرة، ومن صديق يمدح في المُحيّا ويغمِز في القفا، ومن جارٍ مؤذٍ، وولد عاقّ، وأمَة خائنة، وعبد آبقٍ، وعاقر غَيْرَى. وكان يقال: لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحرّ حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشرِهُ غنيّا، ولا الملول ذا إخوان.

فصل في كتمان السر
أنشدني بعض أصحابنا:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرَّها ... فسِرّك عند الناس أفشى وأضيع
وقال آخر:
ليس سِرّي يجاوز الدهرَ قلبي ... كل سرّ يجاوز القلب فاشِ
وحدثني الرياشي قال: يروى أن عثمان بن عَنبسة بن أبي سفيان أسرّ إلى معاوية سرّاً، فأتى أباه عنبسةَ فقال: إن معاوية أسرّ إلي سراً، فأحدثك به؟ قال: لا، قال: ولمَ؟ قال: لأن الرجل إذا كتم سرّه كان الأمر إليه، وإذا أذاعه فالأمر عليه، ولا تجعلن نفسك مملوكاً بعد أن كنت حرّاً، قال: أفيدخل هذا بين الأب وابنه؟ قال: لا يا بنيّ، ولكن أكره أن تذلِّل لسانك بإفشاء السر، قال فأتى معاويةَ فذكر ذلك له، فقال: أعتقك أخي من رِقّ الخطأ، وأنشد:
دسّت إليّ رسولاً لا تكن عَجِلاً ... واحذر هُديتَ وأمرُ الحازمِ الحذَرُ
إني رأيت رجالاً من ذوي رَحِم ... هم العدوّ بظهر الغيب قد نذَروا
إن يقتلوك كفاك القتل قادرُه ... والله جارُك مما يُزمع النفَرُ
فالسرّ يكتمه الخِلاّنِ بينهما ... وكلّ سرّ عدا الخِلّين منتشِرُ
وقال قيس بن الخطيم:
فإن ضيّع الإخوان سِرّي فإنني ... كَتومٌ لأسرار الصديق أمينُ
يكون له عندي إذا ما اتهمتُه ... مكان بسوداء الفؤاد مكينُ
وقال بعض المحدثين:
لعمرك ما استودعتُ سرِّي وسرَّها ... سوانا حذاراً أن تضيع السرائرُ
ولا لاحظتْها مقلتاي بلحظة ... فتفهمَ نجوانا العيون النواظرُ
ولكن جعلتُ الوهمَ بيني وبينها ... كلاماً فأدّى ما تُجِنُّ الضمائرُ
وقال آخر:
ولا تُخبر بسرّك بل أمِتْه ... وصَيِّرْ في حَشاكَ له حجابا
فما استودعت مثلَ النفس سرّا ... ولا أغلقت مثلَ الصدر بابا
وقال العباس بن الأحنف:
أيا من سروري به شِقوةٌ ... ومَن صفو عيشي به أكدرُ
أظنّك جرّبتَني بالصدود ... دِ عمداً لتعلمَ هل أصبرُ
أمنّي تخاف انتشار الحديثِ ... وحظّيَ في سِتره أوفر
ولو لم أصُنْه لبُقْيا عليك ... نظرتُ لنفسي كما تنظرُ
فصل آخر في تفضيل الكبير

حدثني الرياشي أن بني عبد الملك بن مروان كانوا إذا انصرفوا من دار أبيهم مضوا مع أكبرهم حتى يشيعوه، فإذا فارقوه مضى الباقون مع أسنّهم حتى يرجع آخرهم وحده. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حقّ كبير الإخوة على إخوته كحق الوالد على ولده " . ويروى في الحديث أن يعقوب لما دخل على يوسف تقدم يوسف أباه في المِشية، فأوحى الله: يا يوسف تقدمت أباك في المشية، جعلتُ عقوبتك ألا يخرج من نسلك نبي. ويروى أن غلاماً يقال له ذرّ احتُضر فحضر أبوه فقال وهو بين يديه يجود بنفسه: ذرّ، لئن مُتّ لما في موتك علينا غَضاضة، ولئن عشت لما بنا إلى غير الله حاجة. فلما مات وقف على قبره ثم قال: اللهم إني قد غفرتُ لذرّ ما قصّر فيه من واجب حقّي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك، فلما انصرف من قبره سئل كيف كانت عِشرته معك؟ فقال: ما مشى معي في ليل قط إلا كان أمامي، ولا في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنتُ تحته.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن والحسين: " هما سيّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما " . ويروى أنه قيل لعليّ بن الحسين: إنك أبرّ الناس وأتقاهم، فما بالك لا تأكل مع والدتك في صحفة واحدة؟ فقال: أكره أن تقع عينها على لقمة فأحاول أخذها وأنا لا أعلم فأكون قد عققتها. ويروى أن عليّاً كان أبرّ الناس وأتقاهم، وكان إذا سافر كتم نسبَه، وستَر وجهَه، فقيل له في ذلك فقال: أكره أن آخذ برسول الله مالا أُعطى مثله. وكان يقول: ما أكلتُ بنسبتي من رسول الله درهماً قط.
وحدثني الرياشي قال: قال سعيد بن المسيّب: كنت وأنا صغير ألعب مع عليّ بن الحسين عليه السلام بالمَداحي، فكان إذا غلبني ركبني وإذا غلبتُه يقول: أتركب ابن رسول الله عليه السلام. والمداحي أصلها من الدحو، وهو المرّ السهل، وهي المواضع التي تنتضل بها العرب بينهم، لأنهم يرمون بالواحدة فتقع موضعاً ثم تمرّ مرّاً سهلاً حتى تدخل في الحفرة. وحدثني أصحابنا جميعاً عن الأصمعي قال: قلت لابن أقيصر: ما خير الخيل؟ قال: الذي إذا استدبرته حَبا، وإن استقبلته أقعى، وإن استعرضته استوى، وإذا عدا دحا، وإذا مشى ردى، قلت: وما الرَّدَيان؟ قال: مشي الحمار بين آرِيّه ومُتَمَّعكه. وقالت الأنصار: فقدنا صدقة السر مذ مات علي بن الحسين صلوات الله عليه.
وحدثني مسعود بن بشر قال: قال طاوس: رأيت علي بن الحسين ساجداً في المسجد بمكة، فقلت: رجل من آل النبي عليه السلام، أمضي فأصلي خلفه، فمضيت فدنوت منه، فسمعته يقول: " عبدك بفنائك، فقيرك بفنائك، مسكينك بفنائك " ، فتعلمتُهنّ فما دعوت بها في كرب قطّ إلا فُرّج عني.
وحدثني التوزي عمّن حدثه قال: قال عليّ بن الحسين: لقد ابيضت عينا يعقوب من أقل مما نالني؛ وذلك أنه فقد واحداً من اثني عشر، وأنا رأيت ثلاثة عشر من لُحمتي قتلوا بين يديّ.
وروي عن جابر بن سليمان الأنصاري عن عمه عثمان بن صفوان الأنصاري قال: خرجنا في جنازة علي بن الحسين رحمة الله عليهما، فتبعتْنا ناقتُه تخطّ الأرض بزمامها، فلما صلينا عليه ودفناه أقبلت تحنّ وتتردّد وتريد قبره، فأوسعنا لها، فجاءت حتى بركت عليه وجعلت تفحص بكِرْكرتها وتحنّ، فوالله ما بقي أحد إلا بكى وانتحب، وقال: وبلغنا أنه حجّ عليها ثماني عشرة حجة أو تسع عشرة حجة لم يَقْرعها بعصا.
وكان يقال لعلي بن الحسين: ذو الخِيرَتين، لأن أمه كانت ابنة يزدجرد؛ وتأويل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز ولجل من خلقه خيرتين: من العرب قريش، ومن العجم فارس " . وكان الأصمعي يحدّث أن ابنة يزدجرد جاءت علي بن أبي طالب في مائة وصيفة، فقال علي: أكرموها فإنها حديثة عهد بنعمة فقال لها: تزوجي بالحسين ابني، فقالت: بل أتزوجك أنت، فقال لها: الحسين شاب، وهو أحق بالتزويج مني، فقالت: مثلي لا يملكه من يُملَك. وزعم عمر بن الخطاب أنه ليس أحد أذكى من أولاد السراري، لأن لهم عز العرب وتدبير العجم. ويقال لولد السُّرية الهجين، وهو الذي أمه أمة وأبوه عربي شريف. وأنشدني الرياشي:
إنّ أولاد السراري ... كثُروا يا ربّ فينا
ربّ أدخلني بلادا ... لا أرى فيها هجينا

فصل آخر

حدثني مسعود بن بشر في إسناد متصل قال: اجتمع الفرزدق وجرير والأخطل والبَعيث بباب بشر بن مروان بالكوفة، فدخل عليه داخل فأخبره بمكانهم، وأعلمه أنه لم يُر مثلُهم بباب ملِك قط، فأذِن للفرزدق ثم لجرير ثم للأخطل، وأمسك عن البَعيث، فقال له الرجل: إن البعيث معهم، فقال: إنه ليس كهؤلاء، ثم أذن للبعيث، فلما دخل مثَلَ بين يديه فقال: أيها الأمير، إن الناس قد تحدثوا بالباب أنك أذِنت لهؤلاء لفضل رأيتَه لهم عليّ، قال: أو ما تعلم ذاك؟ قال: لا والله ولا الله يعلمه، قال: فأنشدني، قال: أو أخبرك من معايبهم بما تستغني به عن الإنشاد، فقال: هات، قال: أما هذا القرد - يعني الفرزدق - فقد قال في هجائه ابن المراغة - يعني جريراً - :
فمالك بيت الزِّبْرِقان وظِلّه ... ولا لك بيت عند قيس بن عاصم
بأي رِشاءٍ يا جرير وماتحٍ ... تدلّيتَ في تلك البحور الخضارم
فجعله تدلّى عليهم، وإنما أتاهم من تحتهم لو كان يعقل. وأما هذا - يعني ابن المراغة - فقال في هجائه هذا القرد يعني الفرزدق:
لَقوميَ أحمى للحقيقة منكمُ ... وأضربُ للجبار والنقعُ ساطع
وأوثقُ عند المُرْهَقات عشيّة ... لَحاقاً إذا ما جرّد السيف لامع
فجعل نساءه قد أُردفن وفضحهنّ ووثِقن باللحاق. وأما هذا الكافر - يعني الأخطل - فقال في وقعة نجا منها أسيراً، وأقر على نفسه وقومه بالذل:
لقد أوقع الجحاف بالبِشر وقعة ... إلى الله منها المُشتكى والمُعوّل
فوصله يومئذٍ وحرمَهم. فحلف جرير أنه لم يقل: وأوثق عند المردفات، وإنما قال: عند المُرهَقات. والشيء يذكر بالشيء، أنشدني مسعود بن بشر لأحمد أخي أشجع السلميّ يمدح نصر بن شَبَث:
لله سيف في يدي نصرِ ... في متنه ماء الردى يجري
أوقع نصر بالسواجير ما ... لم يُوقع الجحّاف بالبِشْرِ
أُبكى بني بكر على تغلب ... وتغلباً أُبكى على بكرِ
وقيل لبشر بن مروان: أيُّما أشعر، جرير أم الفرزدق أم الأخطل؟ فقال: والله ما كان الأخطل مثلهما، ولكن أبت ربيعة إلا أن تجعله ثالثاً، قال: أجرير أم الفرزدق؟ فقال: إن جريراً سلك أساليب من الشعر لم يسلكها الفرزدق، ولقد ماتت النوار وكانوا ينوحون عليها بشعر جرير. وكان الأصمعي يقول: قال أبو عمرو بن العلاء: الأخطل ثم الفرزدق ثم جرير، وكان أبو عبيدة يقول بمثل قول أبي عمرو. ويروى أن الفرزدق قال للنوار: أنا أشعر أم جرير؟ قالت: إنك لشاعر وإن جريراً والله لشاعر، قال لها: أتُقسمين على جرير! قالت: إنه والله غلبك على حُلوه وشاركك في مُرّه. وسئل ابن دأب عن جرير والفرزدق فقال: الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة. وسئل يونس بن حبيب عنهما فقال أبو عبيدة للسائل: أنا أخبرك عنه، الفرزدق أشعر. قال يونس: ما شهدت مشهداً قط ذُكرا فاتفق أهل ذلك المجلس على أحدهما.
وحدّث أبو عبد الله محمد بن سلاّم الجمحي قال: رأيت أعرابياً من بني أسَيِّد أعجبني ظرفه وروايته، فقلت: أيهما أشعر عندك؟ فقال: بيوت الشعر أربعة: فخر ومدح وهجاء ونسيب، وفي كلها غلب جرير، فالفخر قوله:
إذا غضبتْ عليك بنو تميمٍ ... حسبتَ الناس كلَّهمُ غِضابا
والمدح قوله:
ألستمْ خيرَ من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطونَ راحِ
والهجاء قوله:
فغضَّ الطرفَ إنك من نُميرٍ ... فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا
والنسيب قوله:
إن العيون التي في طرفها مرَضٌ ... قتلننا ثم لم يُحْيينَ قتلانا
وقال أبو عبد الله: والنسيب عندي قوله:
ولما التقى الحَيّانِ أُلقيَت العصا ... ومات الهوى لمّا أُصيبت مَقاتلُهْ

فقلت للأُسَيدي: والله لقد أوجعكم - يعني في الهجاء - ، فقال: يا أحمق أوَ ذاك يمنعه من أن يكون شاعراً! ويروى أن الفرزدق كان حسن التديّن محمود السيرة، وأنه كان إذا ضحك فاستُغرب في الضحك التفت كأنه يخاطب ملَكَيْه، فقال: أما والله لأُسمعنّكما خيراً: لا إله إلا الله والحمد لله وأستغفر الله. ويروى أنه اجتمع هو والحسن البصري في جنازة فقال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد، أتدري ما يقول الناس؟ قال: لا، قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: كلا لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددتَ لهذا الموضع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: خذها والله من غير فقيه، ثم أنشأ الفرزدق يقول:
أخاف وراء القبر إن لم يُعافِني ... أشدّ من القبر التهاباً وأضيقا
إن قادني نحو القيامة قائدٌ ... عنيفٌ وسَوّاقٌ يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدمَ من مشى ... إلى النار مغلولَ القِلادة أزرقا
يُقادُ إلى نار الجحيم مُسَربلاً ... سرابيلَ قَطْرانٍ لباساً مُمزّقا
إذا شربوا فيها الصديدَ رأيتَهم ... يذوبون من حرِّ الجحيم تحرّقا
فلما مات الفرزدق رُؤي في المنام فقيل: ما صنع بك ربُّك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا؟ قال: بالكلمة التي نازعنيها الحسن على شفير القبر. ويروى أن أبا هريرة قال له: إني أرى لك قدمين لطيفين فانظر أن تجعل لهما موضعاً لطيفاً يوم القيامة، ومهما صنعت من شيء فلا تقنط من رحمة الله.
وحدثني الرياشي قال: هجا الفرزدق ابنَ هبيرة لما وُلّي فقال:
أميرَ المؤمنين وأنت بَرٌّ ... بذاك ولستَ بالطَّبِع الحريص
أأطمعتَ العراق ورافِدَيْه ... فزارياً أحدَّ يدِ القميص
ولم يكُ قبلها راعي مخاض ... ليأمنَهُ على وَرِكَيْ قَلوص
تفَيْهَقَ في العراق أبو المثنّى ... وعلّم قومه أكل الخَبيص
فبينما ابن هبيرة قاعد ينظر وجهه في المرآة قالت له الجارية: أصلح الله الأمير، قد قدم أمير آخر، فقال: لا إله إلا الله، هكذا تقوم الساعة، وكان القادم خالد بن عبد الله القَسْري، فأراد خالد أن يعذب ابن هبيرة، فقال ابن هبيرة: أنشدك الله أن تستنّ في سنّة هي تُستنّ فيك غداً، إن القوم الذي ولوك هم القوم الذين عزلوني، فقال: لا حاجة لي في عذابك، فحبسه. وكان لابن هبيرة مولى من الدهاة، فنقَب من داره إلى حبس ابن هبيرة، وهرب به إلى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به، فدخل مسلمة على أخيه يزيد أو هشام، فقال: يا أمير المؤمنين إن لي حاجةً - وكانت تُقضى في كل يوم ثلاث حوائج - فقال: نعم كل حاجة لك مقضية ما خلا ابن هبيرة، فقال: ما عودني أمير المؤمنين أن يستثني عليّ، فلم يزل به حتى أجابه. وقدم خالد بن عبد الله فأمر مسلمةَ بتلقّيه، وكان فيمن تلقّاه ابنُ هبيرة، فقال خالد: يابنَ هبيرة أإباق كإباق الأمَة! فقال ابن هبيرة: أنَوْمٌ كنوم العبد! وفي ذلك يقول الفرزدق:
ولما رأيت الأرضَ قد سُدّ ظهرها ... ولم يبقَ إلاّ بطنها لك مخرجا
دعوتَ الذي ناداه يونسُ بعد ما ... ثَوى في ثلاثٍ مظلمات ففرّجا
خرجت ولم يمنُنْ عليك طلاقةً ... سوى رَبِذِ التقريب من آل أعوجا
فأصبحت تحت الأرض قد سِرتَ سَيرةً ... وما سار سارٍ مثلها حينَ أدلجا
فقال ابن هبيرة: ما رأيت أكرم من الفرزدق، هجاني أميراً ومدحني أسيراً.

فصل آخر في الفصاحة
حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: قلت لعيسى بن عمر: أنا أفصح من معَدّ بن عدنان: قال لي: تجاوزتَ، فأنا أفصح منك، فقلت له: كيف ينشد هذا البيت:
قد كُنَّ يكْنُنّ الوجوهَ تستُّرا ... فالآن حين بدأْنَ للنُّظّار
أو بَدَيْن؟ فقال لي: بدأْن، فقلت له: لم تُصب، لأنه يقال بدا يبدو، وبدأ الشيءَ يبدؤه إذا أنشأه واستأنفه، والصواب: حين بَدَوْن.
وحدثني هارون بن عبد الله المهلبي قال: حدثني نصرُ بن علي بن عبد الله عن أبيه - وكان أبوه قرينَ سيبويه - قال سمعت الخليلَ بن أحمد يقول: أفصح الناس أزْد السراة.

وحدثني هارون عن نصر بن علي عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أفصح الناس سافلة قريش وعالية تميم، قال: وكنا نسمع أصحابنا يقولون: أفصح الناس تميم وقيس وأزد السراة وبنو عذرة.
وحدثني علي بن القاسم الهاشمي قال: رأيت قوماً من أزْد السراة لم أر أفصح منهم، وكانوا يلبسون الثياب المصبّغة، قلت لأحدهم: ما حملك على لُبس المصبَّغ؟ قال: ابتغاء الحُسن.
وحدثني علي بن القاسم عن أبي قِلابة الجَرْميّ قال: رأيت قوماً من بني الحارث بن كعب لم أر أفصح منهم. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه الوفودُ فأقرأ الأخماس كل خُمس على لغته فكان أعرَبَ القوم تميم. وعنه عليه السلام أن عمر بن الخطاب قال له: ما رأيت أفصح منك، قال: " بيدَ أنّي من قريش ونشأت في بني بكر بن سعد بن هوازن " . ويروى غير " بيد أني " ، " من أجل أني " . قال أبو العباس: وكل عربي لم تتغير لغتُه فصبح على مذهب قومه، وإنما يقال: بنو فلان أفصح من بني فلان، أي أشبه بلغة القرآن ولغة قريش، على أن القرآن نزل بكل لغات العرب. ويروى عن ابن عباس أنه قال: كنت لا أدري ما الفَتّاح حتى سمعتُ ابنة ذي يزن تقول لخصم لها: هلمّ فاتِحْني، أي حاكِمْني، فعلمت أن الحاكم الفَتّاح. وكنت لا أدري ما " فاطر السماوات " حتى سمعت أعرابياً ينازع في بئر فقال: أنا فطرتها، يريد أنشأتها.
وكان أبو محلم من أفصح من رأيت لساناً، وحدثني قال: جئت يونس بن حبيب النحوي فسألتُه عن هذا الحديث: " خير المالِ سِكّة مأبورة ومُهْرة مأمورة " فقال: هذا من لغاتكم يا بني سعد، ويقال: خير المال نِتاج أو زرع، فأنشدته:
لهفي على شاة أبي السِّباقِ ... عتيقة من غنمٍ عِتاقِ
مرغوسةٍ مأمورة مِعناق ... تُحلَب رِسْلاً طَيبَ المذاقِ
فكتبه يونس على ذراعيه وقال: إنك لجيّاء بالخير. قال أبو محلّم: المرغوسة النامية، وأنشد للعجّاج:
إمامَ رَغْس في نِصابِ رَغْس ... من نسلِ مروانَ قَريعِ الإنسِ
وابنة عباس قريعِ عَبْس
وحدثني عن الأصمعي قال: رأيت امرأة من بني تميم لم أر أفصح منها، فسمعتها تدعو على أخرى وتقول: إن كنتِ كاذبة فحلبتِ قاعدة. قال: رِعية الغنم عندهم ضَعَة فإنها تتمنى لها ذلك.
وحدثني الزيادي قال: قالت امرأة: مررت بالبادية فرأيت أبياتاً، فقصدتها فقامت امرأة هنالك، وإذا نسوة يتضاحكن، فقلت: ما يُضحككن؟ قلن: هذه التي توارت ميُّ صاحبة ذي الرمّة. قالت: فقلت: فقد والله كنت أشتهي أن أراها، فالآن لا أبرح حتى أراها، فدعونها فلم تجبهنّ، فأقسمن عليها فخرجت وهي تقول: شهّرني غيلانُ شهّره الله. فلم أكبرها حين رأيتها، فلما تكلمتْ ورأيتُ فصاحتَها علمت أن ذا الرمة قصّر في وصفها.
وحدثني علي بن القاسم قال: قلت لأعرابي فصيح: ما معنى قولهم في المثل: " كاد العروس أن تكون أميراً " لمَ كاد ذاك؟ قال: لأن الأكفاء يخدمونها في تلك الحال. ومن أمثالهم - روى ذلك أبو عبيدة - أن إبليس تصوّر لابنة الخُسّ فقال لها: أسألك أو تسألينني؟ فقالت له: سل، قال لها: كاد، فقالت: كاد النعام أن يطير، فقال لها: كاد، قالت: كاد المنتعل أن يكون راكباً. قال لها: كاد، قالت: كاد العروس أن يكون أميراً. ثم قال لها: سليني، قالت: عجبتُ، قال: من الحجارة لا يشيب صغيرها ولا يهرم كبيرها، قالت: عجبتُ، قال: من السَّبِخة لا يجفّ ثراها ولا ينبت مرعاها، قالت: عجبتُ، قال: من حِرِك لا يُبلَغ حفرُه، ولا يُدرَك قعرُه، قالت: اعزُب عليك لعنة الله. ويروى أن ابنة الخُسّ كانت بليغة فصيحة.
وحدّث محمد بن سلاّم عن يونس النحوي قال: النحويون يغلطون في ثلاثة أشياء؛ يقولون في نكاح أم خارجة: " خِطْب " فتقول: " نِكْح " ، وإنما هو نُكْح، ويقولون: ابنة الخُسّ، وإنما هو الأخُسّ، مثل الأرُزّ، ويقولون: " ليس لحاقن رأي " ، وإنما هو ذِهْن. ويقال: رجل خَسّ ورجال أخُسّ، من الخسة.
وحدثني المازني وغيره قال: أمّ خارجة امرأة ولدت زُهاء عشرين حيّاً من العرب، وآخر من نكحها عمرو بن تميم، وذلك أنه أتاها فسبق أهلَها الذين أرادوا أن يمنعوه منها مثل ما يسبق الراكبُ الراجلَ، فقال لها: خِطْب، قالت: نُكْح، في قول يونس فجاءوها فوجدوها قد تزوجت.
فصل آخر في الجَمال

يروى عن ابن كُناسة قال: الجَمال في الأنف، والحُسن في العينين، والمَلاحة في الفم. وقال ابن عباس وقد سئل عنه المحدّثين كذا وعن بني أمية فقال: نحن أصبَحُ وأسمَحُ وأفصَح، وقال آخر:
يُروى حديثٌ عن نبيّ الهدى ... يحكيه عن أسلافنا حاملوهْ
أن رسول الله في مجلس ... قال وقد حَفّ به حاضروهْ
إذا سألتم أحداً حاجةً ... فالتمسوها من صِباح الوجوهْ
وكان يقال: إن الجمال كان من قريش في ثلاثة: مصعب بن الزبير، وطلحة بن عبيد الله، وعمرو بن سعيد بن العاص، إلا أن ابن الرقيّات قال لما أنشد عبد الملك:
يعتقد التاجَ فوق مَفْرِقه ... على جبين كأنه الذهبُ
فقال: أما مصعب بن الزبير فتقول فيه:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الل ... ه تجلّت عن وجهه الظلماءُ
ويروى أنه كان يقال له الدِّيباج. وكان يقال: لم يُر أزواجٌ قطّ أحسن من ثلاثة: عائشة بنت طلحة ومصعب بن الزبير، ولبابة بنت عبد الله والوليد بن عتبة، وجعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عُمَيس. ويروى أن لبابة قالت: ما نظرت وجهي قطّ في مرآة ونظرتُ معي امرأة إلا رحمتُها من حسن وجهي؛ حتى تزوجت الوليد بن عُتبة فنظر معي في المرآة فرحمتُ نفسي من حُسن وجهه. ويروى عن ابن عباس رحمة الله عليه قال: قدم الوليد بن عتبة المدينةَ فكأن وجهه ورقةُ مصحف، وكأن منطِقَه نظمُ خَرَز، فلم يبق بها راجل إلا حمله، ولا فقير إلا أعطاه. وذكر النسّابون أن لبابة بنت عبد الله بن عباس كانت عند عباس بن علي بن أبي طالب فولدتْ له عبيد الله بن العباس، ثم قتل عنها مع الحسين بن علي صلوات الله عليهما، فتزوجها الوليد بن عتبة وهو يومئذٍ أمير المدينة ومكة، فولدت له القاسم بن الوليد، وهلك عنها الوليد، فتزوجها زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ويروى أن عبد الله بن جعفر والحسين بن علي وعبد الله بن عمر ومصعب بن الزبير وجّهوا بحُبَّى المدنيّة إلى أربع نسوة تخطبهن لهم: عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين، وأم البنين، وامرأة ذهب عني اسمها، فأتتهن حُبَّى وأعلمتْهن بما قصدت له، فكلٌّ قال ما فيمن ذكرتِ أحد يرغب عنه، قالت لهن: ولكن بيني وبينكن شريطة، قلن: وما هي؟ قالت: تمشي كل واحدة منكن بين يديّ متجرّدة. فأبين عليها، فأدلّت عائشة بنت طلحة بما عندها من الجمال، فتجرّدت ومشت. فلما رجعت حُبَّى إليهم أعلمتهم بما رجعت به منهن ومن عائشة، فقالوا: كيف رأيتِها حين تجرّدت؟ قالت: مشت فما بقيت في بدنها شحمةٌ إلا تحركت، فتزوجها مصعب بن الزبير، فشرطت عليه ألا تستر وجهها عن أحد، وقالت: لا أخفي ما رزَقَنيه الله من الجمال.
وقال الهيثم بن عديّ: أخبرنا يونس بن إسحاق قال: كان الجمال من أهل الكوفة في ثلاثة نفر: الأشعث بن قيس الكنديّ، وعديّ بن حاتم الطائيّ، وجرير بن عبد الله البجليّ، فدخلتُ مأدُبةً في السَّبيع فرأيت هؤلاء الثلاثة، فما رأيت بَيضَ نعام ولا طريدةَ ظبي ولا تمثالاً إلا وما رأيت من هؤلاء الثلاثة أحسنُ. وقال الهيثم: وكلٌّ أعور. قال يونس: فأما الأشعث بن قيس فأصيبت عينه يوم اليرموك، وأما عديّ بن حاتم فأصيبت عينه يوم الجمل، وأما جرير فأصيبت عينه بهَمَذان.

فصل آخر

حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: كانت أم البنين بنت يزيد بن معاوية عند عبد الملك بن مروان، وكانت من أحسن الناس وجهاً وأتمّهم خَلقاً، ويروى أنه وقع بينها وبينه هجرة في أمر الدخول إليها، فمنعتْه من ذلك، فعسر عليه رضاها، فشكا أمره إلى خُريم، فضمن له أن ترضى عنه، وضمن له عبد الملك قضاءَ جميع ما يسأله إن وقع ذلك، فمضى خُريم إلى بابها وشقّ جيبه وجعل التراب على رأسه، فسئل عن خبره فذكر أن أحد ابنيه وثب على أخيه ليضربه فقتله إما عمداً أو خطأً، فبلغ الخبر عبد الملك فحكم بقتل القاتل، فذهب منه ابنان، وهو بتأديب ابنه أحق، وذكر لها حُرمته بيزيد وبها، فأرسلت إليه تُعلمه أنها مغاضبة لعبد الملك، فازداد عويلاً وبكاء، فرحمته، وأرسلت بخادم يتعرف خبر عبد الملك، فسرّ وسُرِّيَ عنه، وأقبلت أم البنين تتهادى بين وصائفها حتى تمثلت بين يديه، ثم قالت له: ما كان من حقّك أن أبتدئك بالكلام، ولكن جور حكمك حملني على ذلك، لمَ حكمت بقتل ابن خريم، لأنه قتل أخاه؟ أليس أبوه أحقّ بتأديب ابنه منك؟ ففطن عبد الملك للحيلة، فقال لها: إني لا أُمكن رعاياي من أن يقتل بعضُها بعضاً، قالت: فهبه لي، قال: فادخلي البيت، فدخلتْ، وأُلقي السِّتر، قال خريم فجئت عبد الملك فقلت: كأني بها قد قالت كذا، قال: نعم وألقى الستر، قال خريم: الوعد، قال: فما حاجتك؟ قال: تُقطِعني كذا، قال: نعم أفعل، وتُثبت ابني في العطاء، قال: أفعل، وقضى حاجته.
وحدثني مسعود بن بشر أن عبد الملك وجّه بخادم له إلى أم البنين يسألها أن تصير إليه، فأخذت في زينتها، وطال اختلاف الخادم إليه، فبُصرت به عُثامة جارية عبد الملك، فسألته عن خبره، فأعلمها انتظارَ عبد الملك لأم البنين واحتباسها عنه، فقالت له: إن أدّيت إليه ما أقول فلك عشرة آلاف درهم، فقالت: قل له: " أما من استغنى فأنتَ لهُ تَصدَّى وما عليكَ ألاّ يَزَّكى، وأمّا من جاءكَ يسعى وهوَ يخشى فأنتَ عنهُ تَلهَّى " فأخبر الخادم عبد الملك، فأرسل إليها وخلا بها دون أم البنين.
وتحدث عمر بن شَبّة عن رجاله أن عُليّة بنت المهدي كانت من أحسن النساء وجهاً وأتمهنّ خَلقاً وأسهلهنّ شعراً، ولم يكن فيها عيب غير سعة في جبينها، فاتخذت العصائب من الجوهر وغيره، واستعملها الناس بعدها. وكانت تحب خادماً للرشيد يقال له طَلّ، فبلغه الخبر، فحلف عليها ألا تُسمّيَ باسمه، فقرأت يوماً: " فإنْ لمْ يُصبْها وابلٌ " فالذي نهاها عنه أمير المؤمنين " والله بما تعملونَ بصير " . فبلغه ذلك فقال: أبتْ إلا ظَرْفاً وكانت تحب خادماً له يقال له رَشَأ، فصحّفت اسمه وقالت فيه:
وجدَ الفؤادُ بزينبا ... وَجْداً شديداً مُتعِبا
فجعلتُ زينبَ سُترةً ... وكتمتُ أمراً معجِبا
ويقال إنها مشت على مِيزاب طوله عشرون ذراعاً وكتبتْ إلى الخادم:
قد كان ما حُمّلتُه زمنا ... يا طَلُّ من كَلَف بكم يكفي
حتى أتيتك زائراً عَتَما ... أمشي على حتْفٍ إلى حَتفِ
ويروى أن المتوكل بالقصر منع طَلاًّ من الدخول لأجلها فقالت في ذلك:
متى يلتقي من ليس يُرْجى خروجُه ... وليس لمن تهوى إليه دخول
ويروى سبيل.
عسى الله أن يرتاح منه برحمة ... فيُشفى جَوىً من مُدنَف وعويل
ولها في الرشيد:
سلام على من يرُدّ سلامي ... ومن لا يراني موضعاً لكلامِ
وماذا عليه أن يرُدّ مسلّما ... إذا كان يقضي بالسلامِ ذِمامي
ويروى أنها إذا وُعظتْ وخُوِّفت ما ينالها من نكير الرشيد إن صحّ عنده خبرها أنشدت:
تالله أترك مُهجتي تَبلى ... وأطبع رأيك في الهوى عقلا
ثم تقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حُبُّك الشيءَ يُعمي ويُصِمّ " .
وعلى ذلك ما يروى عن أحد الحكماء أنه قال: الهوى يقظان والرأي نائم. وأنشد لمحمود الورّاق:
هواك ولا تُكذَبْ عليك أميرُ ... وأنت رهين في يديه أسير
يسومك عصياناً وأنت تطيعه ... وطاعتُه عارٌ عليك كثير
ويروى عن بزر جمهر أنه قال: الهوى غالب والمغلوب مستعبَد.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه يقول: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدوا أعداءكم.
ويروى لهشام بن عبد الملك ولم يقل غيرَه:

إذا أنتَ لم تعصِ الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مَقالُ
وقال معاوية: لولا يزيد لأبصرتُ رُشدي. وقال معاوية: لا رأي لذي هوىً. وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إنما أخشى عليكم الهوى. وقالوا: أصبَر الناس من كان رأيه رادّاً لهواه. وقالوا: إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه. وأنشد لبعض المحدثين:
تُراني تاركاً بالل ... هِ ما أهوى لما تهوى
أنا أعلم أن الحبَّ ... من قلبي إذاً دعوى
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حُبِّب إليّ النساءُ والطِّيب وجُعلت قرّة عيني في الصلاة " . وقال بعض الأعراب: إني لأعشق الرزق وإنه ليُبغضني. وقال محمد بن واسع: ما بقي شيء أهواه، وألذه إلا الصلاة.
كمل كتاب فاضل كذا المبرّد، والحمد لله الموجب الشاكرين مزيداً كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الفاضلين " والسلامُ على من اتَّبَعَ الهُدى " .