كتاب : المعمرون والوصايا
المؤلف : السجستاني

قال الشيخ أبو حاتم سهل بن عثمان السجستاني ذكر أبو عبيدة، وأبو اليقظان، ومحمد بن سلام الجمحي، وغيرهم أن أطول بني آدم عمرا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم عليه السلام.
وقال ابن إسحاقي، حدثنا أصحابنا، أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة جمع بنيه، وقال لهم: يا بنيّ، إن الله منزّل على أهل الأرض عذابا، فليكن جسدي معكم بالمغارة، حتى إذا هبطتم فابعثوا بي، وادفنوني بأرض الشام. فكان جسدهم معهم.
فلما بعث الله تعالى نوحا عليه السلام ضمّ ذلك الجسد، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض، زمانا فجاء نوح عليه السلام، حتى نزل ببابل، وأوصى بنيه الثلاثة، وهم سام، ويافث، وحام، أن يذهبوا بجسده إلى المكان الذي أمرهم أن يدفنوه فيه.
فقالوا: الأرض وحشة، ولا أنيس بها، ولا نهتدي الطريق، ولكن نكفّ حتى يأمن الناس، ويكثروا، وتأنيس البلاد، وتجفّ.
وقال لهم نوح عليه السلام: إن آدم قد دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة؛ فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي دفنه، وأنجز الله له ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.
وعاش نوح النبي صلى الله عليه وسلم ألفا وأربعمائة وخمسين سنة؛ ذكر ذلك بن أبي زياد علي ابن أبي عياش العبدي عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما بعث الله نوحا إلى قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وبقى بعد الطوفان خمسين سنة ومائتي سنة، فلما أتاه ملك الموت قال، يا نوح يا أبا كُبر الأنبياء، ويا طويل العمر، ويا مجاب الدعوة، كيف رأيت تادنيا؟ قال: مثل رجل بنى له بيت، له بابان، فدخل من واحد، وخرج من الآخر.
وقد قيل دخل من أحدهما، وجلس هنيَّة، ثم خرج من الباب الآخر.
قالوا: وكان أطول الناس عمرا بعد الخضر لقمان بن عاديا الكبير، عاش خمسمائة سنة وستين سنة، عاش عمر سبعة أَنسر، عاش كل نسر منها ثمانين عاما، وكان من بقية عاد الأول.
حدثنا أبو حاتم قال، قال أبو الجنيد الضرير، أخبرنا بذلك الحسين بن خالد، عن سلام، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن محمد بن إسحاق وغيره، فأما غير الحسين، فذكر أنه عاش ثلاثة وخمسمائة سنة؛ واله أعلم أي ذلك كان.
" وكان من وفد عاد الذين بعثهم إلى قومهم إلى الحرم ليستسقوا لهم، وكان أعطى من العمر عمر سبعة أنسر، فجعل يأخذ النسر الذّكر، فيجعله في الجبل الذي هو في أصله، فيعيش النسر منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر، فرّباه حتى كان آخرها لُبَد، وكان أطولها عمرا، فقيل: طال الأبد على لُبَد.
وقال ذلك لبيد بن ربيعة الجفري من بني كلاب:
ولقد جرى لُبد، فأدرك جريهُ ... ريبُ الزَّمان وكان غيرَ مثقَّلِ
وقال لبيد أيضا:
لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادمَ كالفقير الأعزلِ
من تحته لقمان يرجوا نهضَهُ ... ولقد رأى لقمان ألاَّ يأتلي
وقال الضَّبِّى:
أوَ لم ترَ لُقمان أهلكه ... ما أفتاتَ من سنةٍ وَمِن شهرِ
وبقاء نسرٍ كلما انقرضت ... أيامه عادت إلى نسرِ
وقال الأعشى:
لنفسكَ إِذا سبعة أنسرِ ... إذا ما مضى نسر خلوتَ إلى نَسرِ
فَعًمِّرَ حتى خالَ أنَّ نَسوره ... خُلود وهل تبقى النفوس على الدهرِ؟
وقال
لأدناهُنَّ إذا حلَّ ريشه ... هلكت، وأهلكت ابن عادٍ، وما تدري
قال، وأعطى من السمع والبصر على قدر ذلك، وله أحاديث كثيرة.
وقال الذبياني:
أَمست خَلاءٍ وأَمسى أَهلُها احتملوا ... أخنَى عليما الَّذي أَخنى على لُبَدِ
قال أبو حاتم: أَخنى، أَفسَد.
قالوا: وكان من بعد سطيح، وُلِد في زمن السَّيل العرم، وعاش إلى ملك ذي نواس، وذلك نحوا من ثلاثين قرنا، وكان سكنه البحرين؛ وزعمت عبد القيس أنه منهم؛ وتزعم الأزد أنه منهم؛ وأكثر المحدثين يقولون، هو من الأزد، ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون: إنهم من الأزد.
قالوا: وكان المعافر بن يعفر بن مرّ بعد هذين، فمات، فلما حضره الموت حفروا له حفيرة، وبنوا له بيته " يعني قبره " فأخذ صخرة فكتب فيها:

أنا المعافر بن يعفر بن مر ... ولست من ذي يمنٍ بَقُرْ
لكنَّني مضريُّ حُرْ يقول: لست منهم ذا أصل، يقول: أنا يماني الدار.
وأنشد لطرفة:
فتناهيتُ وقد صابت بِقُرْ
فوجد في زمن سليمان بن داود، فكشف عنه، فوجد فيها " في الحفيرة " ووجد عبده الكتاب.
وقالوا: خرج رجل من قريش قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فركب البحر، فانكسرت سفينته، فوقع قي جزيرة في أرض لا يرى بها أنيسا، فبينا هو يط وف في تلك الجزيره إذا هو بشيخ كبير مجتمع العلم، فقال: من أنت؟ قلت: رجل من العرب.
قال: من أيّ العرب؟ قلت: رجل من قريش.
قال: بأبي وأمي قريش، وأين مساكنها اليوم؟ قلت: بمكة.
قال: فهل خرج محمد بعد؟ قلت: وما خروج محمد؟ قال: فقص علىّ كيف يكون خروجه، وأخبرني أنه نبي، وأنه سيخرج، فإذا خرج فأتّبعه وقص أمره، ثم قال لي: أعالم أنت بمكة؟ قلت: نعم.
قال: فهل تعرف مكانا يقال له " المطابخ " ؟ قلت: نعم.
قال: أفتدري لم سُمِّىَ المطابخ؟ قلت: لا.
فقال: إن جيشين منا تواعدوا للقتال، فنزل أحدهما شرقي الجبل، ونزل الآخر غربيه، فنحرنا فيه الجُزُر من جانبيه جميعا، فسميَ بنا المطابخ.
ثم قال: هل تعرف مكانا بمكة يقال له " القعيقعان " ؟ قلت: نعم.
قال: فهل تدري لم سمىَّ قيقعان؟ قلت: لا قال: فإنت لما خرجنا من المطابخ للقتال، فاجتمعنا بذلك الجبل، فاقتتلنا فيه، وقعقعوا السلاح، سميناه قعيقعان.
ثم قال: هل تعرف فيها بقعة يقال لها " فاضِحُ " قلت: أجل، نعم.
قال: فهل تدري لم سمى فاضحا؟ قلت لا.
قال: فإننا تناجزنا، فاقتتلنا قتالا فضح بعضنا بعضا، فسميناه فاضحا.
ثم قال: هل تعرف فيها موضعا يقال له " أَجياد " ؟ قال: قلت، نعم.
قال: فهل تدري لم سمى أجيادا؟ قلت: لا.
قال: فإنا لما أتيناه على جريدة خيل، فاقتلعت فيه الخيل، ليست فيها رجّالة، سمى أَجيادا لجياد الخيل.
ثم انصرف عني إلى الروضة.
فقلت: يا عبد الله، سألتني فأخبرتك، فأخبرني، من أنت؟ فألتفت إلي، فقال مجيبا:
كأَن لم يكن بين الحجون إلى الصَّفا ... أَنيس، ولم يسمُر بمكَّة سامرِ
بلى، نحن كنَّا أَهلَها، فأَزالنا ... صروف الَّليالي والجدود العواثُرِ
فظننا أنه الحارث بن مضاض الجرهمي، مدّ له عمره إلى ذلك اليوم؛ وبعضهم يقول، شيخ من جرهم.
قالوا: وكان من أطول من كان قبل الإسلام عمرا رُبَيع بن ضبيع بن وَهْب ابن بغيض بن مالك بن سعد بن عدىّ، ابن فزارة، عاش أربعين وثلاثمائة سنة، ولم يُسلِم.
وقال لما بلغ مائتي سنة وأربعين سنة:
أصبح منيِّ الشَّبابُ قد حَسَرَا ... إِن ينأَ عنيَّ فقد ثوى عُصُرا
ودعَّنا قبل أَن نودَّعه ... لمَّا قضى من جماعنا وطرا
ها أَنذا قبل آملُ الخلود وقد ... أَدرك عقلي ومولدي حُجُرا
أَبا مِرىِْ القيس هل سمعت به ... هيهات طال ذا عُمُرا
أَصبحت لا أَحمل السلاح ولا ... أَملك البعير إِن نَفَرَا
والذئب أَخشاه إِن مررت به ... وحدي وأَخشى الرياح والمطرا
من بعد ما قوة أُسرُّ بها ... أَصبحت شيخا أُألج الكبرا
وقال لما بلغ مائتي سنة:
أَلا أَبلغ بنىّ بنى ربيع ... فأَشرار البنين لكم فداء
فإِني قد كبرت ودق عظمي ... فلا تشغلكم عنِّى لبنساءُ
وإنَّ كنائنى لنساء صدق ... وما آلى بنىَّ وما أَساءوا
ويروى: وما أَلى، والتألية، التقصير: ومن قال، وما آلى، فالمعنى، ما أقسموا ألا يبروني.
حدثنا أبو حاتم قال، حدثنا أبو الأسود النوجشجاني، عن العمرى، عن أبى عمرو الشيباني قال، سألني القاسم بن معد عن قوله: ما آلى بنيّ وما أَسأَءوا.
قلت: أَبطئوا.
قال: ما تركت في المسألة شيئا.
ورجع إلى بقية الشعر:
إِذا كان الشتاء فادفنوني ... فإنّ الشَّيخَ يهدمُهُ الشتاءُ
فأَما حين يذهب كُّلُّ قُرٍ ... فسربالٌ خفيف أَو رداءُ
إِذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد أَودى المسرَّةُ والفتاءُ

ويروى، فقد ذهب التخيل والفتاء؛والفتاء مصدر الفُتى.
وقالوا: إن معاوية أتى برجل من جرهم، فقال: ما أسكنك هذه البلدة؟ فقال: خرج قومي من مكة، فخرج أبي نحو الشام، فلم أزل فيها.
قال: كم أتى عليك؟ قال: أربعين ومائة سنة.
قال : فمن أنت؟ قال: من جرهم.
قال: كذبت، لست منهم.
قال: فكيف تسألني إذن؟ قال: كم أتى عليك من الزمان؟ قال: كالذي أتى عليك.
فظن معاوية، أنه يعني هلكه، فقال كذبت.
قال: فكيف رأيت الدهر؟ قال: سنبات بلاء، وسنبات رخاء، ويوم شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهلالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد.
قال: فهل رأيت أُميّة؟ قال: نعم، يقود ذكوان عبده.
فقال: كف، فقد جاء غير ما ذكرت.
قال: فأي المال أفضل؟ قال: عين خرَّارة في أرض خوَّارة.
قال: ثم مَه؟ قال: فرس في بطنها فرس، يتبعها فرس، قد ارتبطت منها فرسا.
قال: ثم مه؟ قال: عد' أيام السنة ضأنا أَضمن لصاحبها الغنى.
قالوا: وعاش الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة ابن تميم عمرا، ثم مات في آخر الزمان، وقد كان له حَمّام بالحيرة، فقال الأضبط:
يا قوم، من عاذري من الخدعَة ... والمُسىُ والصبح لا فلاح معه
ما بالُ من غيَّه مصيبُكَا ... لاتملك من أَمره الَّذي وزعه
حتى إِذا ما انجلت عمايتُهُ ... أَنحى عليه، وأَمره فجَعَه
وصِل وصال البعيد ما وصَل ... حبلَ، وأَقص القريبَ إِن قطعَه
واقبل من الدَّهر ما أتاك به ... من قَرَّ عينا بعيشه نَفَعه
قالوا: وعاش الستوغر بن ربيعة بن كعب ثلاثا وثلاثمائة سنة، وقال قوم، ثلاثمائة وثلاثين سنة، وقال في ذلك:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمِرتُ من عدد السنين مئينا
رئة حدتها بعدها مائتان لي ... وعمرتُ من عدد الشهور سنينا
هل ما بقى إِلا كما قد فاتنا ... يومٌ يمرُّ وليلةٌ تحدونا
بقى، يريد، بقى، وهي لغة. وأنشد:
اقاذعتُ كعباً ما بقيتُ وما بقى
وقال المفضل: عاش زمانا طويلا، وكان من فرسان العرب في الجاهلية، وكان رجل من فتيان قومه يجلس إِليه، وكان لذلك الرجل صديق، يقال له، عامر، وكان الفتى يقول لعامر، إن امرأة المستوغر صديقة لي، وهو يطيل الجلوس، فأحب أن يجلس معه، حتى إذا أراد القيام تثاءبت، ورفعت صوتك بالثَّوباء حتى أسمعوا أنصرف من عندها من قببل أن يفجأَنا ونحن على حالنا تلك.
وإنما كان الفتى صديقا لأم عامر، فأراد أن يشغله بحفظ المستوغر، فيخالف الفتى إلى أم عامر، فيكون معها، حتى إذا سمع التثاوب يخرج.
فظن المستوغر لعامر وما يصنع، فاشتمل على السيف، وجلس حتى إذا لم يبق غيره وغير عامر قال: ألا ترى والذي أحلف به، لئن رفعت صوتك لأضربنّك بالسيف فسكت عامر، فقال له المستوغر: قم معي.
فقاما إلى بيت المستوغر، فإذا امرأته قاعدة بزينتها، فقال: - هل ترى من بأس؟ قال: ما أرى بأسا.
قال المستوغر: فانطلق بنا إلى أهلك فانطلقا، فإذا هو بالفتى متبطنا أم عامر معها من ثوبها.
فقال له المستوغر: انظر إلى ما ترى؛ ثم قال: لعلَّني مضللَّ كعار.
قال أبو حاتم: وإنما المثل: حسبتني مضللا كعامر، فذهب قوله مثلا.
وإنما سمى المستوغر لأنه قال في الشعر:
ينشُّ الماء في الرَّبلات منها ... نشيش الرَّضف في اللَّبن الوغير
والعافية خلف من الواقية، وستساق إلى ما أنت لقٍ. أراني غنيا ما دمتُ سويّا، إن رمت المحاجزة فققبل المناجزة، عاداك من لاحاكَ،خلِّ الوعيد يذهب في البِيد، إِنَّك لا تبلغ بلدا إلا بزادٍ، لا تسخر من شيٍْ فيحور بكَ، إنك ستخالُ ما لا تنالَ " يريد أنك ستتمنى ما لا تقدر عليه، والمعنى، أنك تظنّ كل يوم أنك تبقى إلى غد، وتظن الغد أنك تبقى إلى بعد الغد، وذلك ما لا يكون " .

ربَّ لائم مليم، لا تهرف بما لا تعرف، وإذا تكلَّفت غيَّ الناس كنت أغواهم، ليس من القوة التورط في الهوَّة، وإلى أِمِّه يخرج من لهف، جدَّك لا كدَّك، اسع بجدٍ أو دع، إنَّ بعد الحول أولا، وإن مع اليوم غدا، وإن أخاك من آتاك " يريد واتاك " ، ومن يطل ذيله ينتطق به، إن أَخا الظُّلم أَعشى ياليل، ومن حظَّك موضع حقَّك، لا تُلزم أخاك ما ساءك، ومن خير خَيرَ أن تسمع بمَطَر، وناصح أخاك الخبر وكن منه على حذر، ولِّ الثُّكل غيرك فإن العقوق ثكل من لم يثكل، ومن لك بأخيك كلِّه، والتَّجردُّ لغير نكاح مثله، ولا تكوننّ راضيا بالقول، الحرسُ يلهمُ العِرض " يريد يأكله " ، لا تحمدنَّ أَمة عام اشترائها، ولا فتاة عام هدائها، ولا تلم أخاك ما آساك.
قالوا: وجمع أكثم بن صيفي بنيه، فقال: يا بنيّ، قد أتت عليّ مائتا سنة، وإني مزودكم من نفسي؛ عليكم بالبرِّ فإنه ينمي العدد، وكفُّوا السنتكم فإن مقتل الرجل فكَّيه، إن قول الحق لم يدع لي صديقا، وإنه لا ينفع من الجزع التَّبكيَّ، ولا مما هو واقع التَّوقِّى، وفي طلب المعالي يكون الغرر " ويقال: يكون العَوَرَ " ، الاقتصاد في السعي أَبقى للجمال، ومن لا يأسى على ما فاته ودَّعَ بدنَه، ومن قنع بما هو فيه قرَّت عينه، التَّقدَّم قبل التَّندُّم، أن أُصبح عند رأس الأمر أُحبُّ من أن أُصبح عند ذنبه، لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أَمرٍ من جاهله، الوحشة ذهابُ الأَعلام " أي العظماء " ، ويتشابه الأمر إذا أقبل، فإذا أَدبر عرفه الأحمق والكِّيس، عند الرخاء حمق، والجزع عند النازلة آفة التجمل، ولا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير، لا تجيبوا فيما لا تسألون عنه، ولا تضحكوا مما لا يضحك منه، تناءوا في الديار ولا تباغضوا، فإن من يجتمع يتقعقع عمده " أو عُمُدُه، يقالان جميعا " ولقد رأيت جبلا مطلا تزايله حجارته، ولقد رأيته أَملس ما فيه صدع، أَلزموا النساء المهانة، ولنعم لهو الحرَّة المغزل، وأَحمق الحُمق الفجور، وحيلة من لا حيلة له الصبرُ، إن كنت نافعي فورِّ عن عينك، إن تعش تر ما لم ترَ، قد أقرّ صامت، المكثار كحاطب الليل، ومن أَكثر أَسقط، والسَّروُ الظاهر الرَّياش، لا تبوُلُوا على أَكمة، ولا تفشوا سراً إلى أَمةٍ، من لم يرج إلا ما هو مسوجب له كان قمنا أن يدرك حاجته، ولا تمنعنكم مساويْ رجل من ذكر محاسنه.
حدثنا أبو روق، قال، حدثنا أبو عمر بن خلاد عن محمد بن حرب الهللي قال، قال أكثم بن صيفي لولده: يا بنيّ، لا يغلبنكم جمال النساء عن صراحة النسب فإن المناكح الكريمة مدرجة للشَّرف.
قال أبو حاتم، قالوا، وكان من أمر رياح بن ربيعة ذي ذراريح التميمي أنه أخذ عبدا يقال له، المج، وأَمه يقال لها، الصبغاء، وإبلا لابن أخ لأكثم، فبعث إليه أكثم مالك بن نويرة، وهو ختن رياح على ابنته، فدفع إليه ما كان أخذ منه، وأبطأ عليهم. فبعث إليه أكثم المكفَّف بن المُسّضيح؛ فلما توجه من عنده قيل له، قد انطلق، فليأتينّك بالإبل والعبد والأمة.
فقال أكثم: فتى ولا كمالك.
قال أبو حاتم: هذا مثل للعرب معروف.
فلما قدم علليه مالك قال: صرَّح الأمر عن محصنه.
فدفع إليه مال ابن أخيه، فقال: أقصر لما أبصر، وهذا خبر إِن كان له أثر، وفي الجريرة تشرَكُ العشيرة، ورب قول من صول، والحُرّ حرّ وإن مسَّه الضُرّ، وإذا أفرع الفؤاد ذهب الرُّقاد، هل يهلكنَّي فقد مالا يعود، وأعوذ بالله أن يرميني امرؤ بدائه، ربّ كلامٍ ليس فيه اكتتام، حافظ على الصَّديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، وإذا أردت النصيحة فتأَهَّب للظَّنَّة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فيينا ملوم، متى تعالج مال غيرك تسأَم، وغثُّك خير من سمين غيرك، لا تنطح جمَّاء ذات قرنٍ، وقد يبلغ الخضم بالقضم، وقد صدع الفراق بين الرِّفاق، واستأنوا أخاكم فإن مع اليوم أخاه، وكلُّ ذات بعل سئيمُ، وقد غلب عليك من دعا إليك، والحرُّ عزوف " أي صبور " لما يبتلى، ولا تطمع في كل ما تسمع.
قالوا: وأشار أكثم يوم الكلاب على بني تميم حين سارت إليهم مذحج بأجمعها، فقال:

استشيروا، وأَقلوا الخلاف على أمرائكم، وإياكم وكثرة الصياح في الحرب، فإن كثرة الصياح من الفشل، وكونوا جميعا فإن الجميع غالب، والمرء يجز لا محالة، تثبتوا ولا تسارعوا، فإن أَحزم الفريقين أَركنهما، ورب عجلة تهب ريثا، وتنَّمروا للحرب، واّرعوا الليل، واتخذوه جملا، فإن الليل أَخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف.
قال: وغزا أكثم، فأسر الأَقياس ونهيكا، وأخذ أهليهم وأموالهم، فقال لبني أخيه، وهم ثلاثة، الكلب ، والذئب، والسَّبع بنو بني عامر، وعامر أخو أكثم؛ وكان أكبرهم الكلب وكان شرهم، فدفع الأقياس ونهيكا وأهليهم إلى الكلب. ووضع الأموال على يدي الذئب، وقال: إذا أطلقتهم فادفع إليهم أموالهم وردوها عليهم.
فانطلق الكلب إلى الذئب فأخبره أنه قد أطلقهم، فأكل منا، فبلغ أكثم، فقال: نعم كلب في بؤس أهله، ومن استرعى الذئب ظلم، لا ترجعن عن خير هممت به، إنك لن تخبأَ للهر إلا سالكه.
قال، وقال أبو زيد: ما تخبأ للدهر يسلكه وربما أعلم فأَدعُ.
تشجُّ بيد وتأسو بأخرى، ودَّك من أَعتبك، وحسبتك من شرّ سماعه،لا تكلف الهول فإن العاشية تهيج الآبية ولا فقر منَّا يهدي غمام أَرضنا، ليس الحلم عن قدم، وكن كالسَّمن لا يخمُّ.
قال الكلب: وما أنا برادِّها حتى يمدحوني.
فقال قيس بن نوفل:
أَنت السَّدى وابن النَّدى إِن رددتها ... وجدُّكَ صيفى وخالك أَكثمُ
فقال: كفى بهذا عارا ينسب الرجل إلى أمه، فرجع إلى فخده قالوا: وجمع أكثم قومه، وسار حتى انتهى إليهم، فقال: يا حامل، اذكر حلا.
فقال أبو حاتم: أَلمثلك يا عاقد أذكر حلا؟ حسبُك ما بلَّغك المحَّلا، ربُ أَكلة تمنع أَكلات، وربما ضام قبل أن يسام، وإنما اتخذت الغم من حذر العاريَّة، ولو لذا عويت لم أَعوِ.
قال:فحلف عليه السبع، ليردَّنها، وليطلقَّنها، ثم لا يقيم ببلد عليه فيها.
فشخصا، وأتى الذئب أ، يتبعهما.
وقال أكثم: يا بنّي، لا حكمة، ولا تكونوا كالكلب، أحبَّ أهله إليه الظاعن، أرى الكيس نصف العيش، ولا تعنفوا طلبا لرزقة، ولا دواء لمن لا حياء له، وفي كل صباح صبوح، واذلل للحق تعزز، ولا تجر فيما لا تدري، وفي الاختبار، وكل ما يذل يحمد، وإنما يمسك من استمسك، وكاد ذو الغربة يكون في كربة، والمنيّة تأتي على البقية، واستر سوءة لما تعرف فيك، والذئب مغبوط بذي بطنه.
قالوا: وكتبت جهينة ومزينة وأَسلم وخزاعة إلى أكثم، أن أحدث إلينا أمرا نأخذ به، فكتب إليهم: لا تفرقوا في القبائل فإن الغريب بكل مكان مظلوم، عاقدوا الثَّروة، وإياكم والوشائظ " قال أبو حاتم، وهم الحشو من الناس " فإن الذلَّة مع القلَّة، جازوا أخلاقكم بالبذل والنَّجدة، إن العارية لو سُئلت، أين تذهبين؟ لقالت، أبغي أهلي ذما، مت يتبّع كل عورة يجدها، والرسول مبلِّغ غير ملوم، من فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، ولو بغيره غصّ أجارته غصَّته، أشراف القوم كالمُخِّ من الدابة فإنما تنوء الدابة بمخَّها، وأشد القوم مئونة أشرافهم، وهم كحاقن الإهالة، من أساء سمعا أساء إجابه، والدّال على الخير كفاعله، والجزاء بالجزاء والبادئ أظلم، والشَّر يبدوه صغاه، وأهون السَّقي التَّشريع.
قالوا: والشَّر يبدوه صغاره، وأهون السَّقي التَّشريع.
قالوا: تنافر القعقاع، وخالد بن مالك بن سلم النهشلي إلى أكثم بن صيفى، أيهما أقرب إلى المجد والسؤدد، فقال: سفيهان يريدان الشر، ارجعا فإن أبيتم فإني لست مفضِّلا أحدا من قومي على أحد، كلَّهم إلى الشرع سواء.
وخلا بكل واحد منهما يسأله الرجوع عما جاء له.
فلما أبيا بعث معهما رجلا إلى ربيعة بن حذار الأسدي، وحبس عنده إبلهما، وكان تنافرا مائة لمائة، فقال: انطلقا مع رسولي هذا، فإنه قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها، الرفق حسن الأناة ومواتاة الأولياء، واللوم منع السَّداد وذَّم الجواد، والدِّقَّة منع السير، وطلب الحقير، والخرق طلب القليل وإضاعة الكثير، صادق صديقك هونا ما عسى أن يكون عدوَّك يوما ما، وعاد عدوَّك هونا ما عسى أن يكون صديقك يوما.
قال: فنفر ربيعة القعقاع على خالد، وقال: ما جعل العبد كربِّه.
فرجع خالد مغضبا، فإذا هو براع لبني أسد، فسأله، فأخبره الخبر، فقال الراعي: الحق بأكثم فإن أخذت الإبل وإلا فقد هلكت.

فجاء إلى أكثم فادّعاها، وسأله الإبل، فقال أكثم: حتى يأتيني رسولي.
فخرج من عنده مغضبا حتى أتى بني مجاشع وبني نهشل فقال: أتغلبني أُسيد على مالي؟ فخرجوا، فركبوا إليهم، فخرج إليهم أكثم في قومه، فردّهم.
وقال في ذلك:
أُنبئتُ أنَّ الأقرعين وخالدا ... أرادوا بأَن يستنقصوا عزَّ أَكثما
" ويروي: يستهضموا؛ وقيل: يستبعضوا "
فعضَّ بما أبقيت خواتن أُمِّهِ ... بعمدٍ أَرادوا أَن أُذمَّ ويغنما
" أي: ويغنم خالد " .
وزعموا أنه قال أيضا:
سأَحبسها حتَّى يبين سبيلها ... ويسرحها تحدي إِلى الحيَّ أَسلم
ويمنعها قومي ويمنعها يدي ... وجرداء من أهل الأفاقة صلدمُ
قال: أصاب النعمان أساري من بني تميم، فركب إليه وفودهم، وفيهم أكثم بن صيفي حتى انتهوا إلى النَّجف، فلما علوه أناخ أكثم بعيره، وقال لأصحابه: ترون خصيلتي؟ قالوا: رأينا ما ساءنا.
قال: قلبي مضغة من جسدي، ولا أظنَّه إلا نحل كما نحل سائر جسدي، فلا تتَّكلوا على في حيلة ولا منطق.
فقدموا الحيرة، فأقاموا نصف حول.
ثم شخص النعمان إلى القطانة، فأقام بها نصف حول.
فلما انفضت الوفود، ولم يبقى منهم إلا اليسير قام أكثم، فأخذ بحلقة الباب، ونادى:
يا حمل بن مالك بن أهبان ... هل تبلغنَّا ما أقول النعمان
إنَّ الطَّعام كان عيش الإنسان ... أهلكتني بالحبس بعد الحرمان
من بين عارٍ جائع وعطشان ... وذاك من شرِّ حباء الضِّيفان
فسمع النعمان صوته فقال: أبو حيدة وربّ الكعبة، ما زلنا نحبس أصحابه حتى تفحَّشناه.
ثم أذن لهم.
فلما دخلوا قال: مَرْحباً بكم، سَلُوني ما شئتم إلا أُساري عندي.
فطلب إليه القوم حوائجهم؛ وأبي أكثم أن يسأله.
فقيل له: ما يمنعك؟ قال: قد علم قومي أني من أكثرهم مالا، وجئنا لأمرٍ قد نُهينا عنه.
فقال النعمان: ما أراهم إلا سيغنمون، وتخيبُ.
قال ذلك لهم ثلاثا، يقول النعمان مثل مقالته، ويقول أكثم مثل مقالته، ثم أذن له في الرابعة في القول.
فتكلم أكثم، فقال: " أَبَيتَ اللَّعْنَ، قد علم قومي أني من أكثرهم مالا، ولم أسأل أحدا شيئا، إن المسأَلةَ مِنْ أَضعف المكسَبَةِ، وقد تجوع الحرَّةُ ولا تأكل بثدييها، إن من سلك الجدد أَمن العثارَ، ولم يجر سالكُ القَصْدِ، ولم يعم على القاصد مذهبه، من شدّد نفَّر، ومن ترَاخَى تألَّفَ، والشرُ التَّغافل، وأحسن القول أوجزه، وخير الفقه ما حاضرْت به " .
فقال النعمان: سل حاجتك.
فقال: ناقتُكَ برحلها، وخلعتك، وكلُّ مكْروبٍ بالقطقطانة والحيرة عرفني.
قال: ذاك لك.
فركب ناقته في كُسْونه، ثم نادى، يا أهل السجن، إن النعمان قد جعل لي من عرفني.
قالوا: كلُّنا يعرفك، أنت أكثم بن صيفي.
ثم فعل مثل ذلك بالحيرة، فأخرجهم، ثم قال:
ثَوَيْنَا بِالْقَطَاقِطِ مَا ثَوَيْنَا ... وَبالْعَبْرَيْنِ حولا ما نَرِيمُ
وأُخبر أهلنا أَن قد هلكنا ... وقد أعيا الكواهن والبسومُ
وآسانا على ما كان أوس ... وبعض القوم ملحيٌّ ذميمُ
فقلت لهم، أيا قومي أبانت ... فكونوا النَّاهضين بها، وقوموا
بوفدٍ من سراة بني تميم ... إلى أمثالهم لجأَ اليتيمُ
فإنَّكم لأَن تكفوه أهل ... عليكم حق قومكم عظيم
وإنَّكمُ بِعقوة ذي بلاءِ ... وحقُّ الملك مكشوف عظيمُ
قال: وكتب ملك هجر، أو نجران إلى أكثم أن يكتب إليه بأشياء ينتفع بها، وأن يوجز.
فكتب إليه:

" إن أحمق الحمق الفجور، وأمثل الأشياء ترك الفضول، وقلة السَّقط لزوم الصواب، وخير الأمور مغبَّة ألاَّ تني في استصلاح المال، وإياك والتبذير فإن التبذير مفتاح اليؤس، ومن التواني والعجز نتجت الهلكة، وأحوج الناس إلى الغنى من لا يصلحه إلا الغنى - وأولئك الملوك - ، وحبُّ المديح رأس الضياع، وفي المشورة صلاح الرعية ومادة الرأي، ورضا الناس غاية لا تدرك، فتحرَّ الخير بجهدك، ولا تحفل سخط من رضاه الجور، ومعالجة العقاب سفهٌ، وتعوَّد الصَّبر، لكل شيءٍ ضراوة، فضرِّ لسانك بالخير، وتوكَّل بالمهمّ، ووكِّل بالصغير، وأخِّر الغضب فإن القدرة من ورائك، وأقل الناس في البخل عذرا أقلُّهم تخوُّفا للفقر، وأقبح أعمال المقتدرين الانتقام، جاز بالحسنة، ولا تكافئ بالسَّيِّئة، فإن أغني الناس عن الحقد من عظم خطره عن المجازاة، وإن الكريم غير المدافع إذا صال بمنزلة اللئيم البطر، من حسد من دونه قلّ عذره، ومن حسد من فوقه فقد أتعب نفسه، من جعل لحسن الظَّنِّ نصيبا روَّح عن قلبه، وأصدر به أمره " .
وكتب الحارث بن أبي شمر الغسَّاني ملك عرب الشام إلى أكثم بن صيفي بن رباح، أن هرقل نزل بنا، فقامت خطباءُ غسّان فتلقَّته بأمر حسن، فوافقه، فأعجب به، فعجب من رأيهم وأحلامهم، وأعجبني ما رأيت منهم، ففخرت بهم عليه، فقال: هذا أدبي فإن جهلت ذاك فانظر، هل بجزيرة العرب مثل هؤلاء حكمة، وعقولا، وألسنة.
فكتب إليه أكثم: " إن المروءة أن تكون عالما كجاهل، وناطقا كَعييّ، والعلم مرشدة، وترك ادّعائه ينفي الحسد، والصَّمت يكسب المحبَّة، وفضل القول على الفعل لؤم، وفضل الفعل على القول مكرمة، ولم يلزَّ الكذب بشيء إلا غلب عليه، وشرّ الخصال الكذب، والصَّديق من الصِّدق سمِّىَ، والقلب يتّهم وإن صدق اللسان، والانقباض من الناس مكسبة للعداوة، والتقرُّب من الناس مجلبة لجليس السُّوءِ، فكن من الناس بين المنقبض والمسترسل، وخير الأمور أوساطها، وأفضل القرناء المرأة الصالحة، وعند الخوف حسن العمل، ومن لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من علمه زاجر " أي لم يحفل بمرشد " ، ومن أهمل نفسه أمكن عدوَّه " أو قال تمكن من عدوه " على أسوأ عمله، وفسولة الوزراء أضرُّ من بعض الأعداء، وأوَّل الغيظ الوهن " .
قالوا: وكتب النعمان بن المنذر إلى أكثم، وذكر ملك من ملوك فارس رجال العرب وعداوة بعضهم لبعض، وحالهم في بلادهم، فقال الفارس: هذا لخفّة أحرمهم، وقلّة عقولهم.
فكتب إلى أكثم أن اعهد إلينا أمرا نعجب به فارس ونرغبهم به في العرب.
فكتب أكثم: " لن يهلك امرؤ حتى يضيِّع الرأي عند فعله، ويستبدّ على قومه بأموره، ويعجب بما ظهر من مرؤته ويغترّ بقوَّته، والأمر يأتيه من قومه، وليس للمختال في حسن الثناء نصيب، والجهل قوة الخرق، والخرق قوة الغضب، وإلى الله تصير المصائر، ومن أتى مكروها إلى أحد فبنفسه بدأ، إن الهلكة إضاعة الرأي، والاستبداد على العشيرة يجرُّ الجريرة، والعجب بالمروءة دليل على الفسولة، ومن اعترّ بقوته فإن الأمر يأتيه من فوقه، لقاء الأحبة مسلاة للهم، من أشرّ ما لا ينبغي إعلانه ولم يعلن للأعداء سريرته سلم الناس عليه، والعيُّ أن تكلَّم يفوق ما تسدّ به حاجتك، وينبغي لمن عقل ألا يثق بإخاء من لم تضطرّه إليه حاجة، وأقلُّ الناس راحة الحقود، ومن أتى على يديه غير عامد فأعفه من الملامة " أو اللائمة " ، ولا تعاقب على الذنوب إلا بقدر عقوبة الذنب فتكون مذنبا، ومن تعمد الذَّنب لم تحل الرحمة دون عقوبته، والأدب رفق، والرفق يمن، والخرق شؤم، وخير السخاء ما وافق الحاجة، وخير العفو ما كان مع القدرة، ومن سوء الأدب كثرة العتاب، ومن اغترّ بقوَّته وهن، ولا مروءة لغاشّ، ومن سفه حلمه هان أمره، والأحداث تأتي بغتة، وليس في قدرة القادر حيلة، ولا صواب مع العجب، ولا بقاء مع بغيٍ، ولا تثقنَّ بمن لم تختبره " .
أخبرن أبو ورق قال، حدثنا أبو حاتم قال، وذكر ابن الكلبي، عن عيسى ابن لقمان، عن محمد بن حاطب الجمحي قال: عاش ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم ابن عمرو بن هصيص مائتي سنة، ولم يشب شيبة قط، وأدرك الإسلام فلم يسلم.
وقد اختلف في إسلامه، فقالت نائحته بعد موته:
من يأمن الحدثان بعد ... ضبيرة السهميِّ ماتا
سبقت منيته المشيب ... وكان ميتته افتلاتا

فتزودَّدوا لا تهلكوا ... من دون أَهلكم خفاتا
قال وعاش ذويد بن نهد أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة، فلما حضره الموت قال:
أَلقى غليَّ الدهرُ رجلا ويَدا ... والدَّهر ما أصلح يوما أَفسدا
يُفسد ما أَصلحه اليوم غدا وقال أيضا:
يا رب نهبٍ صالحٍ حويتُهُ ... وربَّ حَسَنٍ لوَيتُهُ
اليوم يبني لدويد بيتُهُ ... لو كان للدَّهر بلى أَبليتُهُ
أَو كان قرني واحدا كفيتُهُ
ثم مات مكانه.
قالوا: وجمع بني عند الموت، فقال: " أوصيكم بالناس شرَّا، لا تقبلوا لهم معذرة ولا تُقيلُوهم عثرة، أوصيكم بالناس شرا، طعناً وضربا، قصروا الأعنَّة، اشرعوا الأسنَّة، وارعوا الكلأ وإن كان على الصَّفا، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأَفسدوه على من سواكم، فإن غشّ الناس يدعوا إلى سوء الظن، وسوء الظن يدعوا إلى الاحتراس " .
وأوصى نهد بن زيد بنيه فقال: " يا بنيّ، أَوصيكم بالناس شرا، كلموهم نزرا، واطعنوهم شزرا، ولا تقبلوا لهم عذرا، ولا تقيلوهم عثرة، وقصروا الأعنَّة، واشحذوا الأسنَّة تأكلوا بذلك القريب، ويرهبكم البعيد، وإياكم والوهن فيطمع فيكم الناس " .
قال أبو حاتم، وذكر ابن الجَّصاص أن محصَّن بن عتبان بن ظالم الزُّبيديّ عاش مائتي سنة وستا وخمسين سنة، قال وهو من سعد العشيرة، وقال:
ألا يا أَسم إِنيَّ لست منكم ... ولكنَّي امرأ قومي شعوبُ
دعاني الدَّاعيان فقلت إيها ... فقالا: كلًّ من ندعو يجيبُ
أَلا يا أَسم أَعيان الرُّكوبُ ... وأَعيتني المكاسب والُّهوبُ
وصرتُ رزيَّة في البيت كلاًّ ... تأَذَّى بي الأَباعدُ والقريبُ
كذاك الدَّهرُ والأيَّام غول ... لها كلِّ سائمةٍ نصيبُ
وعاش دريد بن الصَّمة الجشمي، من جُثم بن سعد بن بكر، نحوا من مائتي سنة، حتى سقط حاجباه على عينيه، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وقتل يوم حنين كافرا، وإنما خرجت به هوازن تتيَّمن به.
وقال دريد:
فإن يكُ رأسي كاثَّغامة نسلُهُ ... يطيف بي الولدان أَحدبَ كالقردِ
رهينة قعرِ البيت كلَّ عشيَّةٍ ... كأني أُرقَّي أو أُصوَّبُ في المهد
فمن بعد فضل من شباب وقوَّة ... وشعر أَثيثٍ حالك اللون مسودِّ
وأنه لما كبر أراد أهله أن يحبسوه، فقالوا: إنا حابسوك وما نعوك من كلام الناس، فقد خشينا أن تخلط فيروى ذلك الناس علينا، ويرون منك عارا.
قال: أَوقد خشيتم ذلك مني؟ قالوا: نعم.
قال: فانحروا جزورا، وأصنعوا طعاما، وأجمعوا إلى قومي حتى أحدث لهم عهدا.
فنحروا جزورا، وعملوا طعاما، ولبس ثيابا حسانا، وجلس لقومه، حتى إذا فرغوا من طعامهم قال:

" اسمعوا مني، فإني أرى أمري بعد اليوم صائر لغيري، وقد زعم أهلي أنهم خافوا على الوهم، وأنا اليوم خبير بصير، إن النصيحة لا تهجم على فضيحة، أما أول ما أنهاكم عنه فأنهاكم عن محاربة الملوك، فإنهم كالسَّيل بالليل، لا تدري كيف يأتيه، ولا من أين يأتيك، وإذا دنا منكم الملك واديا فاقطعوا بينكم وبينه واديين، وإن أجدبتم فلا ترعوا حمى الملوك وإن أذنوا لكم، فإن من رعاه غانما لم يرجع سالما، ولا تحقرن شرا فإن قليله كثير، واستكثروا من الخير فإن زهيده كبير، اجعلوا السلام محياة بينكم وبين الناس، ومن خرق ستركم فارقعوه، ومن حاربكم فلا تغفلوه، وروا منه ما يرى منكم، واجعلوا عليه حدَّكم كلَّه ومن تكلَّم فاتركوه، ومن أسدى إليكم خيرا فاضعوا له، وإلا فلا تعجزوا أن تكونوا مثله، وعلى كل إنسان منكم بالأقرب إليه، يكفي كلُّ إنسان ما يليه، وإذا التقيتم على حسب فلا تواكلوا فيه، وما أظهرتم من خير اجعلوه كثيرا، ولا ير رفدكم صغيرا، ولا تنافسوا السؤدد، وليكن لكم سيِّد، فإنه لابد لكل قوم من شريف، ومن كانت له مروءة فليظهرها، ثم قومه أعلم، وحسبه بالمروءة صاحبا، ووسعوا الخير وإن قلَّ، وافنوا السرَّ يمت، ولا تنكحوا دنيا من غيركم فإنه عار عليكم، ولا يحتشمنَّ شريف أن يرفع وضيعه بأياماه، وإياكم والفاحشة في النساء فإنها عار أبدٍ وعقوبة غدٍ، وعليكم بصلة الرحم فإنها تعظم الفضل وتزين النسل، وأسلموا ذا الجريرة بجريرته، ومن أبى الحق فاعلقوه إياه، وإذا عييتم بأمر فتعاونوا عليه تبلغوا، ولا تحضروا ناديكم السَّفيه، ولا تلجوا بالباطل فيلجّ بكم " .
قالوا: وعاش ابن حممة الدوسي، واسمه كعب، أو عمرو، أربعمائة سنة غير عشر سنين، فقال:
كبرتُ وطال العمر حتَّى كأنَّني ... سليم أَفاع، ليلة غير مودع
فما الموت أَفناني ولكن تتابعت ... عليَّ سنون من مصيف ومربَعِ
ثلاثُ مئين قد مررن كواملا ... وها أنذا أَرتجي مرَّ أَربعِ
وأصبحت مثل النَّسرِ طارت فراخه ... وإِذا رام تطايرا يقلن له وقع
أُخبِّرُ أَخبار القرون الَّتي مضت ... ولا بدَّ يوما أَن يطار بمصرعي
وقلوا: وعاش كهمس بن شعيب الدوسي أربعين ومائة سنة، فقتله تأَبَّط شرا الفهمي.
وكهمس الذي يقول:
أَلا ربَّ بهب يخطر الموت دونه ... حويت وقرنٍ قد تركت مجدَّلا
وخيلٍ كأسراب القطا قد وزعتها ... بخيل تساقيها ثمالا متمَّثلا
ولَّذات عيش قد لقيت وشدَّة ... صبرت لها جاشي ولم أكُ أَعزلا
ومستلحم فيه الأسنَّة شرَّع ... دعاني أَن يصاب ويقتلا
سعيت إِليه سعي لا وهن القوى ... ولا عاجز لا يستطيع التحللا
فنفَّست عنه الخيل وانتشت نفسه ... وقد عاين الأبطال أَخول أَخولا
وقد عشت حتّى مللت معيشتي ... وأَيقنت حقَّا أَن سأَلقى الموكلا
وألا نجاة لا مريء من منيَّةٍ ... ولو حلَّ في أَعلى شماريخ يذبلا
قالوا: وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ابن زيد مناة أربعين ومائة سنة، وقال:
ما رغبتي في آخر العيش بعد ما ... أكون رقيب البيت لا أتغيب
إذا ما أردت أَن أَقوم لحاجة ... يقول رقيب حافظ، أين تذهب
فيرجعه المرمى به عن سبيله ... كما ردَّ فرخ الطائر المتربب
وقال أيضا:
إنَّ مصاد بن جناب قد ذهب ... أَدرك من طول الحياة ما طلب
والموت قد يدرك يوما من هرب
وقال أيضا:
للموت ما نغذى وللموت قصرنا ... ولا بد من موت وإن نُفس العمرُ
فمَن كان مغروراً بطول حياته ... فإنِّي جميل أَن سيصرعه الدَّهر
فليس بباق إِن سأَلت ابن مالك ... على الدهر إلا من له الدَّهرُ والأَمرُ
قالوا: وعاش مسافع بن عبد العزَّى الضَّمري ستين ومائة سنة، وقال:
جلست غديَّة وأَبو عقيل ... وعروة ذو النَّدى وأبو رياح

كأنَّا مضرحيَّات برضوى ... ينأَونَ إِذا ينأَونَ بلا جناح
يرانا أَهلنا، لا نن مرضى ... فنكوى أو نُلدُّ ولا صحاح
ولا نروي العضال إذا اجتمعنا ... على ذي دلونا، والحفر طاح
يقول: ضعفنا فلا نقدر على الاستسقاء. طاح مملوء وقال مسافع حين ضجر به أهله:
لعمرُ كما لو يسمع الموت قد أتى ... لداع على برءٍ جفته العَوائدُ
به سقم من كل سقمٍ وخبطه ... من الدَّهر أَصغى غصنه فهو ساجد
إذا مرَّ نعش قيل نعش مسافعٍ ... ألا لا بودي لو بني لي لاحدُ
يظنون أني بعد أَوَّلَ ميَّت ... فأبقى ويمضي واحدٌ ثمَّ واحدُ
فقالوا له لمَّا رأَوا طولَ عمره ... تأتَّ لدار الخُلد، إنَّك خالدُ
غضاب عليَّ أَن بقيت وإِنَّني ... بودِّي الَّذي يهوون لو أَنا واجدُ
" أضمر الهاء، يقول، لو أنا واجده " .
قالوا: ومن المعدودين في المعمربدين من قضاعة زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بم عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة، عاش أربعمائة سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه؛ ويفد قال، كانت فيه عشر خصال، ولم يجتمعن في غيره من أهل زمانه: كان سيد قومه، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطيبهم - والطب في ذلك الزمان شرف - ، وحازى قومه - والحزاة الكُهّان - ، وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم.
فبلغنا أنه عاش حتى هرم وغرض من الحياة، وذهب عقله، فلم يكن يخرج إلا ومعه بعض ولده، أو ولد ولده.
وأنه خرج ذات عشيّة إلى مال له ينظر إليه، فأتبعه بعض ولده، فقال له: ارجع إلى البيت قبل الليل، فإني أخاف أن يأكلك الذئب.
فقال: فقد كنت، ما أخشَّى الذئب.
فذهبت مثلا.
ويقال: إن هذا هو خفاف بن عمير السُلَميّ، وهو ابن ندبة السُّلمىّ قال أبو حاتم: وذكر ابن الكلبي أن هذا مما حفظ عن من تثق به من الرواة.
وقد ذكر لقيط أيضا نحواً من الحديث؛ وذكر أن زهيرا عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
حدثنا أبو حاتم قال: وقال العمري، أخبرني محمد بن زبار الكلبي عن أشيخه من كلب قالوا، كان زهير بن جناب قد كبر حتى خرف، وكان يتحدث بالعشي بين القلب - يعني الآبار - وكان إذا انصرف الليل شق عليه.
فقالت امرأته لميس الأَراشيّة لبنها خداش بن زهير: - اذهب إلى أبيك حتى ينصرف فخذ بيده فقده.
فخرج حتى انتهى إلى زهير، فقال: - ما جاء بك يا بنيَّ؟ قال: كذا وكذا.
قال: اذهب.
فأبى؛ وانصرف تلك الليلة معه.
ثم كان من الغد، فجاء الغلام، فقال له: انصرف.
فأبى.
فسأل الغلام، فكتمه، فتوعَّده، فأخبره الغلام الخبر، فأخذه، فاحتضنه، فرجع به.
ثم أتى أهله، فأقسم زهير بالله، ألا يذوق إلا الخمر حتى يموت.
فمكث ثمانية أيام، ثم مات.
وقال ابن لقيط، وابن زبّار، وغيرهما، قال: ورواية ابن أَتمُّهنَّ.
جدَّ الرحيل وما وقفت ... على لميس الأراشيّة
ولقي ثواني اليوم ما علقت ... حبال القاطنيه
حتَّى أُودِّها إِلى الملكِ ... الهمام بذي الثَّويَّه
قد نالني من سبيه ... فرجعت محمود الحذيَّه
" قال أبو حاتم: ويقال أولها كما أخبرنا أبو زيد الأنصاري عن المفضَّل "
أَبنيَّ إِن أَهلك فقد ... أَورثتكم مجدا بنيَّة
وترَكتكم أَولاد سنا ... داتٍ، زدناكم وريَّه
كلَّ الّذي نال الفتى ... قد نلته إلاَّ التحيَّة
كم من محيَّا لا يوا ... زيني ولا يهب الدَّعيَّة
ولقد رأيت النَّار للسلاف ... توقد في طميَّة
ولقد رحلت البازل الوجناء ... ليس لها وليَّ
ولقد غدوت بمشرف الطرفين ... لم يغمز شظيَّه
فأصبت من حمر القنان ... معا، ومن حمرِ القفيَّه

ونطقت خطبة ماجد ... غير الضعيفة والعييَّه
فالموت خير للفتى ... فليهلكن وبه بقيَّه
من أّن يرى تهديه ولدان ... المقامة بالعشيَّه
" ويروى " :
ممن أَن يرى الشَّيخ البجال ... وقد يهادى بالعشيَّه
" البجال ... الذي يبجِّله أصحابه ويعظّمونه " .
وقال زهير بن جناب حين مضت له مائتان سنة من عمره: لقد عمِّرت حتَّى ما أُبالي أَحتفى في صباحي أو مسائي
وحقَّ لمن أَتت مائتان عام ... عليه أَن يملَّ من الثَّواءِ
شهدت المخطئين على خزازٍ ... وبالسُّلاَّن جمعا ذا زهاء
ونادمت الملوك من آل عمرٍ ... وبعدهم بني ماءٍ السَّماء
قال أبو حاتم: التي ذكر امرأة؛ وهي بنت عوف بن جثم بن هلال النَّمريَّة،قال، فنادمت بنيها، وهي أم المنذر بن النعمان. ويعنى بآل عمرو بني عمرو آكل المرار؛ والمرار بنت حارٌّ، يتقلص منه مشفر البعير إذا أكله.
قال، وقال أيضا زهير، وسمع بعض نسائه تتكلم بما لا ينبغي لامرأة تتكلم عند زوجها، فنهاها، فقلت له: اسكت، وإلا ضربتك بهذا العمود، فوالله ما كنت أراك شيئا، ولا تعقله.
فقال عند ذلك:
أَلا يا لقوم لا أرى النَّجم طالعا ... من الَّليل إِلاَّ حاجبي بيميني
مُعزِّبتي عند القفا بعمودها ... يكون نكيري أَن أَقول ذريني
أَمينا على سرِّ النِّساء وربَّما ... أَكون على الأَسرار غير أَمين
وللموت خير من حداج موطَّأ ... مع الظُّعن لا يأتي المحلَّ لحين
" المعزَّة التي تقوم عليه وتطعمه كما يطعم الصَّبيّ؛ وذكر الأصمعي، المعزّبة هي التي تحفَّه وترفُّه " وقال زهير بن جناب:
ليت شعري والدَّهر ذو حدثان ... أَيُّ حين منيَّتي تلقاني
أَسبأت على الفراش خفات ... أَم بكفَّي مُفجَّعٍ حرَّان
ويروى: مفجَّع كأنه قُتل له قتيل.
قال أبو حاتم، وذكر الكلبي أن زهير بن جناب أوقع بالعرب مائتي وقعة. فقال الشَّرقّي بن القطامي خمسمائة وقعة.
والشرقي ضعيف.
حدثنا أبو حاتم قال، وزعم هشام بن محمد عن أبيه محمد بن السائب قال، سمعت أشياخا الكلبين يقولون، عاش زهير بن جناب أن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن مرة بن مالك بن حمير مائتي سنة.
فلم تجتمع قضاعة إلا عليه، وعلى رزاح بن ربيعة بن حرام بن ضنَّة بن عبد كبير ابن عذرة بن سعد، وهو هذيم بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة؛ ورزاح، ودحنّ أخوا قضىّ بن كلاب لأمه.
وكان زهير على عهد كليب بن وائل، وقد كان أسر مهلهلا، ولم يكن في العرب أنطق من زهير بن جناب، ولا أوجه عند الملوك، وكان لشدة رأيه يسمى كاهنا.
قال أبو حاتم: وذكر أصحابنا عن هشام قال، وكان زهير قال، ألا إن الحيّ ظعن.
فقال عبد الله بن عليم بن جناب: ألا إن الحي أقام.
فقال زهير: ألا إن الحي أقام فقال عبد الله: إلا إن الحي ظعن فقال زهير: من هذا المخالف علىّ منذ اليوم؟ قالوا: هذا ابن أخيك عبد الله بن عليم.
فقال : شر الناس للعمِّ ابن الأخ، إلا لا يدعُ قاتل عمه.
وأنشأ يقول:
وكيف بمن لا أستطيع فراقه ... ومن هو إن لا تجمع الدار لاهف
أَمير خلاف إِن أَقم لا يقيم معي ... ويرحل وإن أَرحل يُقم ويخالفُ
قال: ثم شرب زهير الخمر صرفا أياما حتى مات.
وشربها أبو براء، عامر بن مالك بن جعفر حين خولف صرفا حتى مات، وشربها عمرو بن كلثوم التغلبي صرفا حتى مات؛ ولم يبلغنا أن أحد من العرب فعل ذلك إلا هؤلاء.
قالوا: وعاش زهير حتى أدركه من ولد أخيه أبو الأحوص، وعمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب.
قالوا: وكان الشرقي بن قطامى يقول: عاش ابن جناب أربعمائة سنة.
قال، وقال المسيَّب بن الرِّفل الزهيري من ولد زهير بن جناب:
وأَبرهة الَّذي كان اصطفانا ... وسوَّسنا وتاج الملكِ عالي

وقاسم نصف إِمرتَهِ زُهيرا ... ولم يك دونه في الأمر والي
وأَمَّره على حيَّى مَعدٍ ... وأَمَّره على الحِّي المعالي
على ابني وائل لهما مهينا ... يردُّهما على رغم السبال
بحبسهما بدار الذُّلِّ حتَّى ... أَلمَّا يهلكان من الهزال
قال: وعاش هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي، وهو جدُّ زهير بن جناب ابن هبل بن عبد الله سبعمائة سنة حتى خرف، وغرض منه أهله.
فقالوا: إن بني بنيه، وبني بناته وبني أخيه كانوا يضحكون منه، ومن اختلاط كلامه، وأن نفرا من قومه يقال لهم بنو عبدود بن كنانة جلسوا يوما عنده، فأكثروا التعجب منه، ولم يكونوا في الشرف مثله، منهم جبيل بن عامر بن عوف بن كنانة، وحجل بن عمرو بن عوف بن كنانة، وهما من كلب، ولم يكونا مثله، ولا مثل ولده في الشرف.
فقال هبل بن عبد الله:
ربَّ يوم قد يرى فيه هبل ... ذا سامٍ ونوالٍ وَجَذل
لا يناجيه ولا يَخلو بِهَل ... عبدُ وُدٍ وجبيل وحجَل
" بِهَل، يريد به، واللام زائدة " .
وقال حاطب بن مالك بن الجلاس النهشلي يذكر طول عمر هبل:
كأنَّك ترجوا أَن تعيش ابن مالكٍ ... كعيش هُبَل، لقد سفهت على عَمدِ
وماذا تُرجِّى من حياة ذليلة ... تُعمِّرها بين الغطارفة المُردِ
وأنتَ لقي في البيت كالَّرال مُدنفٌ ... وقد كنت سبَّاقا إلى غاية المجد
وللموت خير لامرئٍ من حياته ... يدبّ ديبا في المحلَّة كالقرد
فلو أَنَّ شيئا نال خلدا لناله ... حليف النَّدى عمرو سليل أَبى الجعد
فتى كان سبَّاقا إلى كل غاية ... يبادر فتيان العشيرة للحمد
قالوا: وكان عمرو سليل أبي الجعد خال حاطب، وهو عمرو بن الحميس بن الجعد ابن رقبة بن لوذان، أَحد ثور أَطحل، وكان سيدا شجاعا، جواجا، قتله أنس ابن مدرك الخشعمي.
قالوا: قال عمارة بن عوف العدواني، ثم أحد بني وابش، وعمِّر خمسين ومائتي سنة، وكان كاهنا أدرك عمر بن الخطاب أول ما ولى، وهو شيخ قد ذهب بصره، وخرف، وأولع بالهذيان، يقول، أقروا ضيفكم.
وهو الذي يقول:
تقول لي عمرةُ ... تهذي به في السِّرِّ والجهرِ
قلت لها، والجودُ من شيمتي ... آمُرُكم في العسر واليسر
بضيفكم إِنَّ له حرمةً ... فاقروا ضيوفي قحد الجزرِ
وارعوا لجار البيت ما قد رعى ... قبلكم ذاك بنو عَمرِو
قوموا لضيفٍ جاءكم طارقا ... وجاركم بالنَّيِّ والخمرِ
قال أبو حاتم: من قال النَّيَ مفتوحة النون أراد الشَّحمَ، ومن قال النَّيَ بالكسر أراد اللحم الطري.
وذببَّوا من رام جيرانكم ... بالسَّوء بالبتر وبالسُّمرِ
واخشوشنُوا في الحرب إن أُوقدت ... بكل خطَّى وذي أَثرِ
" ذو أثر يريد السيف، يراد به لبمأثورة؛ والأثر هو الفرند الذي فيه " .
ولا تهرُّ الموت إن أَقبلت ... خيل تعادي سننَ الدَّبرِ
فربَّ يومٍ قد شهدت الوغى ... بسابح ينقضُّ كالصَّقرِ
أَقدُمُ قوماٍ سادةٍ ذاذةً ... بيضا عن القخر
" ويروى: يحامون عن النَّجر، وهو الأصل " .
لما احتووه جالدوا دونه ... وطار أَقوام من الذُّعرِ
فذاك دهر، ومحار الفتى ... في غير شك مظلم القعر
أَو طعنة تأتي على نفسه ... فهَّاقة تأبى على السَّبر
" يريد جياشة، لا يرد دمها الفتل " .
عُمِّرت دهرا ثمَّ دهرا وقد ... آمل أَن آتي على دهرِ
فإن أَمت فالموت لي خيرة ... من قبل أَن أَهذي ولا أدري
خمسون لي قد أكملت بعدما ... ساعد لي قَرنان من عمري
" قرنان مائتا سنة، ويروى دهران من عمري " .

قالوا: وعاش تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفضى بن دُعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن مَعد خمسمائة سنة حتى أَخلق أربعة لُحُم حديد، وكان من دهاة العرب في زمانه.
فبلغنا أنه بعث بنيه ذات يوم في طلب إبل له ظلَّت، فهبت ريح بعدما خرجوا من عنده شديدة، وذلك في الشتاء، فقال لامرأته، أمَّ بنيه: انظري من أين هبت الريح.
فنظرت، ثم قالت: من مكان كذا وكذا.
فقال لها: أَخنتيني في بنيّ أم لا؟ فقالت لا والله ما خنتك فيهم.
فقال: ويحك، والله إني لأعلم أنها ريح تُدهدي البعر، وتعفوا الأثر فلا يعرفون منطلقا، وإنها لتسوق مطرا فلا يعرفون أَثرا، فإن رجعوا فإنهم بنيّ، وإياي أشبهوا، وإن مضوا فلن تريهم أبدا، وقد خنتني فيهم، ووالله لأقتلنَّكِ إذن قبل أن يرجعوا.
ثم لم يزل ليلة أجمع ما ينام وما تنام امرأته حتى إذا كان عند طلوع الفجر رجع أحدهم، فقال له أبوه، تيم الله: - ما ردك؟ قال: هبت ريح تدهدي العر، وتعفوا الأثر، وتسوق المطر فلم أر منطلقا. فتتابعوا على مثل مقالته كلَّهم، ورجعوا إلى أبيهم، فسرَّ بذلك، وقال: أنتم بنيَّ حقا، وإياي أَشبهتم.
فلما حضره الموت أمر بنيه أن يحفروا قبره بمكان يقال له " حضن " .
وقال في ذلك:
ها ذاك تيم الله يبني بيته ... بحضن حياته وموته
وكان الذي ولى كبرته من بنيه هلال، وبنو هلال بن تيم الله أقل بني تيم الله عددا، وأَخملهم ذكرا.
فقال في ذلك الأخنس بن عباس بن خنسا بن عبد العزى بن هلال بن تيم الله ابن ثعلبة:
حملنا الشَّيخ تيم الله عودا ... وكان وليَّ كبرته أَبونا
ولم يك طبُّ أَعمامي عُوقا ... ولكنا كفينا ما ولينا
جزيناه بنعمته علينا ... وأَطرفناه حتى مات فينا
" أطرفناه ابتدأناه بالنعم " .
قالوا: وعاش سويد بن خذاق، من عبد القيس بن أفضى بن دعمى بن أسد ابن ربيعة بن نزار مائتي سنة.
وقال في ذلك:
كبرتُ، وطال العمر حتَّى كأَنَّما ... رمى الدهر مني كل عضو بأَهزعا
غنمت بعيري شيخ من سئلت به ... فتاة بني من كان أَزمان تُبَّعا
قالوا: وقال عطاء الكلبي: عاش الجشع بن عوف بن جذيمة، من عبد القيس مائتي سنة حتى هرم، وملَّ الحياة، وهان على أهله.
فقال في ذلك: حتَّى متي الجشعم في الأحياء ليس بذي أيدٍ ولا غناء هيهات ما للموت من دواء قالوا: وعاش مجمِّع بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن هلال ابن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل مائة سنة وتسع عشر سنة.
فقال في ذلك:
إن أُمسِ شيخا قد بليت فطالما ... عمرتُ، ولكن لا أَرى العيش ينفع
مضت مائة من مولدي فنضيتها وعشر وخمس بعد ذاك وأربع
فيا رب خيل كالقطا قد وزعتها ... لها سبل، فيه المنيَّة تلمع
شهدت، وغُنمٍ قد حويت ولذَّةٍ ... أَصبت، وماذا إلاَّ تمتُّعُ
قالوا: وعاش عمرو بن ثعلة من عبد القيس مائتي سنة.
وقال في ذلك حين كبر، وهان على أهله:
تهزَّأت عرسي واستنكرت ... شيبي، ففيها جنف وازورار
لا تكثري هزءا، ولا تعجبي ... فليس بالشيب على المرء عار
عمرك، هل تدرين أَنَّ الفتى ... شبابه ثوب عليه معارُ
قال أبو حاتم: وزعم عطاء بن مصعب الملط الأحمر وضع هذا البيت الآخر.
وعاش أنس بن مدرك الخشعمي بن كعيب بن عمرو بن يعد بن عوف ابن حارثة بن سعد بن عامر بن تيم الله بن مبشِّر بن أَكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أَفتل، وهو خشعم أنمار بن بجيلة بن عمرو بن لحيان مائة وأربعا وخمسين سنة، وكان سيد خشعم في الجاهلية وفارسها، وأدرك الإسلام فأسلم.
وقال في كبره:
إذا ما امروء عاش النيدة سالما ... وخمسين عاما بعد ذاك وأربعا
تبدَّل مرَّ العيش من بعد حلوه ... وأَوشك أَن يبلى وأَن يتسعسعا
ويأذى به الأَدنى، يرضى به العبدا ... إذا صار مثل الرَّي أَحدب أَخضعا
رهينة قعر البيت ليس بريمه ... لقى ثاويا لا يبرح المهد مضجعا

يخبِّر عن من مات حتى كأنَّما ... رأى ذا القرنين أو رأَى تبَّعا
قالوا: وعاش ذو جدن الحميري الملك ثلاثمائة سنة.
وقال في ذلك:
لكلِّ جنب اجتنبا مضطجع ... والموت لا ينفع منه الجزع
اليوم تجزون بأعمالكم ... كلُّ امرئ يحصد مما زرع
لو كان شيء حتفه ... أفلت منه في الجبال الصدع
وقال أيضا: يا إجتنا مهلا ذرينا ... أَفي سفاء تعذلينا
يا إجتنا تستعتبينا ... فلا وربك تعتبينا
يوم يغيِّر ذا النَّعيم ... وتارة يشقى الحزينا
إنَّ المنايا يطلَّعن ... على الأناس الآمنينا
فيدعنهم شتَّى وقد ... كانوا جميعا وافرينا
قالوا: عاش عبد اله بن سبيع الحميري مائة وخمسين ستة.
وقال في ذلك:
أَراني كلَّما هرَّمتُ يوما ... أَتى من بعده يوم جديد
يعود شبابه في كلَّ فجر ... ويأبى لي شبابي لا يعود
قالوا: وعاش مرداس بن صبيح بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد، من مذحج مائتي سنة وثلاثين سنة.
وقال في ذلك:
أَعاذلتي، دعي عذلي فإنَّ ... أتتني عن حجور منديات
" وحجور بطن من همدان، منهم معيوف بن يحي " .
قوافي قد أَتتني من بعيد ... فما أدري أَزور أَم ثبات
فإن تكُ كذبة من قوم سوء ... فما تزدهيني المعذرات
فإني قد كبرت ورقَّ عظمي ... وأَسلمني لدى الدَّهر الهنات
مرازي قد تنوب وطول عمر ... تثوب لها الهموم الطَّارقات
أَدبُّ على العصا لم يبق إلاَّ ... لسان صارم عضب حتات
فلا يغرركم كبري فإنِّي ... كريم، ليس في أمري شتات
قال أبو حاتم: وأظن البيت الأخير ليس منها.
قالوا وعاش عمرو بن ربيعة، وهو لحىّ بن حاثة بن عمرو بن عامر بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن أمرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد؛ وعمرو بن لحى هذا هو أبو خزاعة غير ولد أَفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر.
قالوا: وقد يقال أنه لحى بن قَمعة بن خندف بن مضر.
قالوا: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وغير دين أبيه إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف أبو خزاعة، فكأني أنظر إليه يجرَّ قصبه في النار، وأَشبه ولده به أَكثم بن الجون " .
فقال أكثم - وكان قاعدا - : يا رسول الله، بأبي وأمي، هل يضرَّني الشبّضه؟ قال: " لا يضرك كان كافرا، وأنت مسلم " .
عاش ثلاثمائة سنة، فكثر ماله وولده حتى بلغنا - والله أعلم - أنه كان يقاتل معه من ولده ألف مقاتل.
قال أبو حاتم، قالوا، وعاش فيما ذكر ابن الكلبي عن أبيه، أوس بن حارثة ابن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن لوذان ابن رومان بن خارجة بن سعد بن جندب بن فطرة بن طّيء، وهو جُلهمة بن أُدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهو عبد شمس ابن يشجب بن يعرب، وهو قحطان بن عابر، وإلى قحطان تجتمع قبائل اليمن كلها.
عاش مائتي سنة وعشرين سنة حتى هرم، وذهب سمعه وعقله، وكان سيد قومه وفي بيتهم؛ فبلغنا أن بنيه أرتحلوا، وتركوه في عرصتهم حتى هلك فيها ضيعة؛ وهم يُسبُّون بذلك اليوم.
وفي ذلك يقول الأسحم بن الحارث، أحد بني طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن لوذان بن رومان من جديلة طيء.
أتاني بالمحلَّة أَنَّ أَوسا ... على شظنان مات من الهزال
تحمل أهله واستودعوه ... خسيَّا من نسيج الصُّوف بالِ
تظلُّ الطَّير تعفوه وقوعا ... ألا يا بوسَ للشيخ المذال
" السيّ الصوف الذي لم يجزّ إلا مرة واحدة، وكان الإعراب بالياء، ولكن لغة طيء أن يقولوا: رأيت زيد، فيحذفون الألف، وشظنان أرض ترك الشيخ بنوه بها " .

قالوا: وعاش عديّ بن حاتم الطائي بن عبد الله بن حشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم، وهو هزومه بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو ابن الغوث بن طيء مائة وثمانين سنة، فلما أَسنّ استأذن قومه وطاء يجلس عليه في ناديهم، وقال، إني أكره أن يظن أحدكم أنيّ أرى لي عليه فضلا، ولكني قد كبرت ورقّ عظمي.
فقالوا: ننظر.
فلما أبطأوا عليه أنشأ يقول:
أَجيبوا يا بني ثعل بن عمرو ... ولا تكموا الجواب من الحياء
فإنِّي قد كبرت ورقَّ عظمي ... وقلَّ اللَّحم من بعد النَّقاء
وأَصبحت الغداة أريد شيئا ... يقيني الأرض من برد الشتاء
وطاء يا بني ثعل بن عمرو ... وليس لشيخكم غير الوطاء
فإن ترضوا به فسرور راضٍ ... وإن تأبوا فإنيِّ ذو إباء
سترك ما أردت لما أَردتم ... وردُّك من عصاك من العناء
لأنِّي من مساءتكم بعيد ... كبعد الأرض من جوِّ السَّماء
وإني لا أكون بغير قومي ... فليس الدَّلو إلاَّ بالرِّشاء
فأذنوا له أن يبسط في ناديهم، وطابت به أنفسهم، وقالوا، أنت شيخنا وسيدنا وابن سيدنا، وما فينا أحد يكره ذلك ولا يدفعه.
قالوا: عاش عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وكان منزله الحيرة، وكان شريفا في الجاهلية.
وقال:
لقد بنيت للحدثان بيتا ... لو انّ المرء تنفعه الحصون
رفيع الرأس أَجوى مشمخرا ... لأنواع الرِّياح به حنين
وقال يذكر من كان معه من ملوك قومه الذين مضوا:
أَبعدَ المنذرين أَرى سواما ... تروَّح بالخورنق والَّدير
تحاماه فوارس كلِّ حيّ ... مخافة أَغضف عالي الزَّئير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... رياضا بين مرَّة والفير
وصرنا بعد هلك أبى قبيس ... كجرب الشَّتاء في يوم مطير
تقسَّمنا القبائل من معدّ ... علانية كأَيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم فنحن كضرَّة الضَّرع الفخورنؤَدِّي الخرج بعد خراج بصري وخرج بني قريظة والنَّظير
كذاك الهر دولته سجال ... فيوم من مساة أَو سرور
قالوا: وخرج بقيلة في ثوبين أَخضرين، فقال له إنسان: ما أنت إلى بقيلة؛ فسمى بقيلة بذلك، واسمه ثعلبة بن سُنين.
قالوا: وعاش عدي بن واع بن العقي، الحارث بن مالك بن فهم بن غنم ابن دوس بن عبد الله ، من الأزد، ثلاثمائة سنة، فأدرك الإسلام، وأسلم، وغزا.
وقال في ذلك:
لا عيش إلاَّ الجنَّة المخضرَّة ... من يدخل النَّار يلاق ضرَّه
وقال:
أَعلم أَنَّ كلَّ فتى مرَّة ... للتراب أَو بيت من الجندل
ذلك مكروه وأدعى، فإن ... أُحمل على الثِّقلة لا أَثقلُ
قالوا: وعاش شريح بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن سلمة، وهو الضَّباب بن الحارث بن كعب بن مذحج عشرين ومائة سنة فيما ذكر ابن الكلبي عن أبي مخنف، قال: أخبرنا أشياخنا من بني الحارث قالوا: ثم قتل في ولاية الحجاج بن يوسف مع ابن أبي بكرة: فقال وهو يرتجز قبل أن يُقتل:
قد عشت بين المشركين أَعصرا ... ثُمَّتَ أَدركت النَّبيَّ المنذرا
وبعده صدِّيقه وَعَمرا ... ويوم مهران ويوم تسترا
والجمع في صفَّيهم والنَّهرا ... هيهات ما أَطول هذا عُمرا
قالوا: وعاش شرية بن عبد الجعفيّ من ججُعفيّ بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد بن مذحج ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام.
حدثنا أبو حاتم قال: وذكر الكلبي قال: سمعت أبا بكر بن قيس الجعفيّ يذكر عن أشياخه، وقد ذكره غيره وقالوا: وهو شرية بن عبد الله الجُعفيّ، وقال في زمن عمر بن الخطاب، وهو بالمدينة: لقد رأيت هذا الوادي الذي أنتم به وما به قطرة ولا قصبة ولا شجرة مما ترون، وأدركت أخريات قومي يشهدون بمثل شهادتكم، يعني يقول " لا إله إلا الله " ومعه ابن له يهادي به في شجار، قد خرف، فقيل له: يا شرية، ما بال ابنك قد خرف وبك بقيّة؟

قال: أما والله ما تزوجت أُمه حتى أتت على سبعون سنة، وتزوجتها ستيرة عفيفة إن رضيت رأيت ما تقربه عيني، وإن تأتَّت لي حتى أرضى، وإن ابني هذا تزوج امرأة فاحشة بذيَّة، إن رأى ما تقرّ به عينه تعرضت له حتى يسخط وإن سخط تلغَّبته حتى يهلك.
ثم قال شرية: وأحلف لا يبنز ثوبي واحد ولا اثنان، وإني بالثلاثة معذور.
قال أبو روق: حدثنا الرياشي قال، حدثنا الأصمعي قال، مرَ رجل بقوم يدفنون ميتا ورجل يقول:
احثوا على ديسم من برد الثَّرى ... قدما أَتى ربَّكَ إلاَّ ما ترى
قال: فقلت له، من هؤلاء؟. فقال: هذا ابني، وهذا بنوه.
قالوا: وعاش عبيد بن شرابة الجرهمي ثلاثمائة سنة، وقال بعضهم، مائتين وعشرين سنة، إلا أَنا نظن أنه عاشها في الجاهلية، وأدرك الإسلام، فأسلم؛ وقدم عل معاوية بن أبي سفيان.
فبلغنا أن معاوية قال له: أخبرني، كم أتى عليك؟ قال: مائتان وعشرون سنة.
قال: ومن أين علمت؟ قال: من كتاب الله.
قال: ومن أي كتاب الله؟ قال: من قول الله تبارك وتعالى (وجعلنا اللّيل والنَّهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النَّهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم) فقال له معاوية: وما أدركت؟ قال: أدركت يوما في أثر يوم، وليلة في أثر ليلة متشابها كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكذبون، وما يبيد عنهم ولالا يعتبرون بما مضى منهم، حيُّهم يتلف، وملودهم يخلف، في دهر قد تصرف أيامه، تقلَّب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوة في الرَّخاء إذا صار في البلاد، وبينا هو الزيادة إذ أدركه النُّقصان، وبينا هو حرّ إذا أصبح فيئا لا يدوم على حال، ولا تدوم له حال، بين مسرور بمولود ومحزون بمفقود، فلولا أن الحيّ يتلف لم يسعهم بلد، ولولا المولود يخلف لم يبق أحد.
قال معاوية: يا عبيد، أخبرني عن المال، أية أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني، وانفعه غناء، وأقلُّه عناء، وأبعده من الآفة، وأجداه على العامة عين خرارة في أرض خوارة، إذا استودعت أَدَّت، وإن استحلبتها درَّت فأفعمت، تعُولُ ولا تُعال.
قال معاوية: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها قد ارتبطت منها فرسا.
قال معاوية: فأي النَّعم أحب إليك؟ قال: النَّعم لغيرك يا أمير المؤمنين.
قال: فلمن؟ قال: لمن فلاها بيده وباشرها بنفسه.
قال معاوية: حدثَّني عن الذهب والفضة.
قال: حجران إن أخرجتهما نفذا، وإن خزنتهما لم يزد.
قال معاوية: فأخبرني عن قيامك وقعودك، وأكلك وشربك، ونومك، وشهوتك للباءة.
قال: أما قيامي فإن قمت فالسماء تبعد، وإن قعدت فالأرض تقرب؛ وأما أكلي وشربي إن جعت كلبت، وإن شبعت بهرت؛ وأما نومي فإن حضرت مجلسا حالفني، وإن خلوت أَطلبه فارقني؛ فإن بذلت لي عجزت وإن مُنعت غضبت.
قال معاوية: فأخبرني عن أعجب سيئ رأيته.
قال: أعجب شيء رأيته، أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة، يقال له، حُريث بن جبلة، فخرجت معهم حتى إذا واروه انتبذت جانبا عن القوم، وعيناي تذرفان، ثم تمثلت شعرا كنت رويته قبل ذلك:
يا قلب إِنَّك في أسماء مغرور ... اذكر، وهل ينفعك اليوم تذكيرا؟
قد بحت بالحب ما تخفيه ... حتَّى جرت بك إطلاقا محاضير
تبغي أمورا فما تدرس أَعاجلها ... خير لنفسك أَم ما فيه تأخيرُ
فاستقدِرِ الله خيرا، وارضينَّ به ... فينما العسر إِذا دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مُغتبطا ... إِذ صار في الرَّمس تعفوه الأعاصير
حتَّى كأَن لم يكن إلاَّ تذكرُّه ... والدَّهرُ أيَّة ما حالٍ دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحِّ مسرور
وذاك آخر عهد من أَخيك إِذا ... ما المرء ضمنَّه اللحد الخناسير
الخنسير والجمع الخناسير، ويقال الخناسرة، وهم الذي شيعوا الجنازة.
فقال رجل إلى جانبي يسمه ما أقول: يا عبد الله، من قال هذه الأبيات؟ قلت: والذي أحلف به، ما أدري أني قد رويتها منذ زمان.

قال: قائله الذي دفناه آنفا، وإن هذا ذو قرابته أَسرُّ الناس بموته، وإنك للغريب الذي وصف تبكي عليه. فعجبت لما ذكر في شعره والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره.
فقلت: إن البلاء موكَّل بالمنطق قالوا: وعاش سيف بن وهب بن جذيمة بن عمرو بن ثعلبة بن حيان بن ثعلبة، وهو جرم، وإنما سمى بجرم لحاضنة كانت له تسمى " جرما " مائتي سنة فيما ذكر ابن الكلبي عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، وهو من بلى، ثم من بني العجلان عن أشياخه.
وأما ابن الكلبي فقال: عاش ثلاثمائة سنة، وقال في ذلك:
أَلا إِنَّني عاجلا ذاهب ... فلا تحسبوا أنَّه كاذب
لبست شبابي فأَفنيته ... وأَدركني القدر الغالب
وصاحبني حقبة فانقضى ... شبابي، وودَّعني الصَّاحب
وخصم دفعت، ومولى نفعت ... حتَّى يثوب له ثائب
وجارٍ منعت، وفتق رتقت ... إِذا الصدع أَعيا به الشَّاعب
قالوا: وعاش عامر بن خوين بن عبد رضا بن قمران بن ثعلبة بن عمرو بن حيان " ابن ثعلبة " ، وهو جرم بن عمرو بن الغوث بن طّيء مائتي سنة.
وقال في ذلك:
ماذا أُرجى من الفلاح إِذا ... قنِّعت وسط الظَّائن الأول
مستعنزا أَطرد الكلاب عن الظِّلِّ ... إِذا ما دَنَونَ للحَمَلِ
وقال:
المرء يبكي للسَّلا ... مة، والسلامة لا تُحسُّه
أَو سالم من قد تثنَّى ... جلدُهُ وابيضَّ رأسُهُ
أَو دبَ هرمٍ وأَو ... دي سمعُهُ وانفَّق ضرسه
أَودي الزمان بأَهله ... وبأَقربيه فقلَّ أُنسُه
قالوا: وعاش الحارث بن مضاض الجرهمي، من جدهم الأكبر، وهو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن نوح عليه السلام أربعمائة سنة.
وهو االقائل:
يا أَيها الحيُّ المقيمونا ... هُبُّو، فيوشك يوما لا تهبُّونا
إِذا قال ركب لركب سائرين معا ... لا بدَّ أن تسمعونا أَو تُغنُّونا
حُثُّو المطىَّ وأَرخوا من أَزمَّتها ... قبل الممات، وقضُّوا ما تقضُّونا
كنَّا أُناسا كما أَنتم فغيرَّنا ... دهر فسوف كما كنَّا تكونونا
قد مال دهر علينا ثمَّ أَهلكا ... بالبغي منه، فكلُّ النَّاس يأسونا
يا أَيها النَّاسُ سيروا إِنَّ قصركُمُ ... أَن تُصبِحوا ذات يوم لا تسيرونا
وقال أيضا:
كأَن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أَنيس، ولم يسمر بمكَّة سامر
بلى، نحن كنَّا أَهلها، فأَزالنا ... صروف اللَّيالي والجدود العواثر
قالوا:وعاش جعفر بن قرط العامري ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام، فقال:
لم يبق يا خذلة من لِداتي ... أَبو بنين لا ولا بنات
من مسقط الشَّمس إلى الفرات ... إلا يُعدُّ في الأموات
هل مشترٍ أَبيعُهُ حياتي وعاش عباد بن أنف الكلب الصيداوي، من بني أسد عشرين ومائة سنة، وقال:
عمرت، فلمَّا جزت ستينَ حجَّة ... وستين، قال الناس: أَنت مفنَّدُ
فقلت لهم بالله هل تنكرونني ... وهل عابني إِلاَّ السَّخا والتَّمجُّدُ
" السخاء ممدودة، والراوية: إلا النّى واالتمجد " .
وإِنِّي جواد الكف سمح بما حوت ... يداي من المعروف لا أَتلدَّدُ
أَجود وأَحمي المستجير من الرَّدى ... إِذا عرَّد النكسُ الأحمُّ الألنددُ
ويوما ترى الأبطال من خوف شرِّه ... سكارى، عليهم غبيَة تتردَّدُ
شهدت فجليت البلايا وأَوقعها ... بأَسمر نحو المبتغى الشَّرَّ يقصد
ورزق كمستدمي الغزال سبأتُهُ ... لفتيان صدق رفدهُم ليس ينفذ
فقلت لهم عُلُّوا وتلك مطيَّتي ... بكفِّي عضب مشرفيّ مهنَّدُ
ففادت وقام الطَّاهيان فأَوقدوا ... بعلياء نارا حمُّها ليس يبرُدُ

فلمَّا اشتفوا منها وأَدبر وحشُهُم ... صببت لهم صهباء في الكأس تزبد
وقلتُ لهم إِنَّي حميل بمثل ما ... رأَيتهم طوال الدَّهر لا أَتزيَّدُ
ففادت أي بردت وماتت، ويروى فكاست، يعني قامت على ثلاث قوائم الأوق الشدة، يقال، إنه لذو أوق.
قال أبو روق، وقال الرياسي: رأى رجل في المنام رجلا مسرفا على نفسه، فسأله عن حاله، فقال، ما لقيت بعدكم أَوقة.
وحشهم جوعهم؛ ويقال بات فلانا وحشا.
الحميل، والكفيل، والضَّمين، والصَّبير، والزعيم سواء.
قالوا: وعاش عامر بن الظرب العدواني مائتي سنة، وكان حكما للعرب.
وفيه يقول ذو الإصبع العدواني:
ومنَّا حكم يقضى ... فلا ينقض ما يقضى
وهي أبيات.
وإنما قيل له ذو الإصبع، لأنه كانت له في رجله إصبع زائدة، وكان من أمره، أن وَجًّا، وهو وادي الطائف، وهو حرم الطائف الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يصطاد صيدها، ولا يختلي خلاؤها، وكان ثقيف، وهو قسّ بن منبِّه باليمن، أبو رغال فصدّقه، فأخذ شاته اللَّبون، وترك الأخرى، فأبى ثقيف أن يتركها، وقال، فيها قوتي، فأبى أن يتركها، فرماه ثقيف، فقتله، ثم لحق بالطائف فوجد فيها ظربا شيخا كبيرا، فأخذه، فقال، لتؤمنَّني أو لأقتُلنَّك، ثم لتنزلني أّفضل أرضك منزلا، فآمنه، وأنزله.
فلما جاء عامر ابنه قال له: ي أَبتاه، من هذا؟ قال: هذا رجل تبوَّا وادينا بغير حمد أَحد.
فقال عامر بن ظرب:
أَرى شعرات على حاجبيّ ... نبتن جميعا تؤاما
أظلّ أُهاهى بهنَّ الكلاب ... أَحسبهنّ صوارا قياما
أهاهي أزجرها، أقول هأْهَاْ.
وأَحسب أَنفي إِذا ما مشيت ... شخصا أَمامي رآني فقاما
قال أبو حاتم، وذكر أصحابنا عن الشعبي أن ابن عباس قال، قضى عامر بن الظرب العدواني، من جديلة قيس، على العرب بعد عمرو بن حممة الدَّوسي، فأتى عامر بخنثى له، ما للرجل وما للمرأة، فأشكلت عليه، فأقام أربعين يوما لا يقضى فيه بشيء، فأتته أمة سوداء تسمى " خصيلة " ، فقالت: يا أيها الشيخ، أفنيت علينا ماشيتنا؛ وإنما أَفناهنَّ أنه كان يذبح لأصحاب المسألة كل يوم شاة.
فقال: ويلك، إني أتيت في أمر لا أدري أصعِّد فيه أم أصوِّب.
فقالت: وما ذاك؟ قال: أتيت بمولود له، ما للرجل وما للمرأة.
قالت: وما يشقّ عليك من ذلك؟ أتبعه المبال، أقعده، فإن كان يبول من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن كان يبول من حيث تبول النساء فهي امرأة.
قال - وكان كثيرا ما يعاتب الأمة في رعيتها إذا سرحت - فقال، أسيئي يا خصيل أو أحسني فلا عتاب عليك، قد فرَّجتها عني.
فلما أصبح قضي بالذي أشارت.
فلما جاء الإسلام شدّد القضية، فصارت سنّة في الإسلام، يعني الإسلام شدّدها.
قالوا: وعاش عامر مائتي سنة، وقالوا، ثلاثمائة سنة.
قال أبو حاتم، ذكروا ذلك عن مجالد عن الشَّعبيّ؛ قال أبو روق، وحدثناه الرياشيّ، قال، حدثنا عمر بن بكير عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشهبي قال، كنا عند ابن عباس، وهو في ضفَّة زمزم يفتي الناس إذ قال أعرابي، أفتيت الناس فأفتنا.
قال: هات.
قال: أرأيت قول الشاعر المتلمّس:
لذي الحلم قبل اليومِ ما تقرعُ العصا ... وما علِّم اْلإنسان إلاَّ ليعلما
قال ابن عباس: ذاك عمرو بن حممة الدَّوسيّ، قضى على العرب ثلاثمائة سنة، فكبر، فألزموه السابع من ولده، فكان معه، فكان الشيخ إذا غفل كانت الأمارة بينه وبينه أن تقرع العصا حتى يعاوده عقله، فذلك قول المتلمس اليشكريّ من بكر ابن وائل: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا قال ذو الإصبع العدوانيّ بعد ذلك بدهر:
عذير الحيّ من عدوا ... ن كانوا حيَّة الأرضِ
بغى بعضهم بعضا ... فلم برعوا على بعض
ومنهم كانت السَّادا ... ت والموفون بالقرض
وهم بلغوا على الشَّحنا ... ءِ والشَّنآن والبغض
مبالغ لم ينلها النَّا ... س في بسط ولا قبض
وهم إن ولدوا أشبوا ... بسرِّ النَّسب المحض
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
يعني عامر بن الظَّرب.
أشبى الرجل إذا شبّ ولده.

فلما كبر عامر وتخوّف قومه أن يموت اجتمعوا إليه، فقالوا له، يا سيدنا وشريفنا، أوصِنا.
فقال: " يا معشر عدوان، كلفتموني تعبا، إن القلب لم يخلق، ومن لك بأخيك كلِّه، إن كنتم شرَّفتموني فقد التمست ذلك منكم، وإني قد أريتكم ذلك من نفسي، وأنّي لكم مثلي، افهموا عني ما أقول لكم؛ من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به، وإن الحق لم يزل ينفر من الباطل، ولم يزل الباطل ينفر من الحق، لا تفرحوا بالعلق ولا تشمتوا بالزلّة، وبكل عيش يعيش الفقير، ومن ير يوما ير به، وأعدّوا لكل أمر قدره، قبل الرِّماء تملأُ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، والعقوبة نكال وفيها ذمامة، فلا تذموا العقوبة، واليد العليا معها عافية، والقود راحة لا عليك ولا لك، وإذا شئت وجدت مثلك، إنَّ عليك كما أَنّ لك، وللكثرة الرُّعب وللصبر الغلبة، من طلب شيئا وجده، وإلاّ يجده يوشك أن يقع قريبا منه.
فيا معشر عدوان، إياكم والشر فإن له باقية، وادفعوا الشر بالخير يغلبه، إنه من دفع الشرَّ بالشرِّ رجع الشرُّ عليه، وليس في الشرِّ أسوة، ومن شبقكم إلى خير فاتبعوا أثره تجدوا فضلا، إن خالق الخير والشر وسعهما، ولكل يد منهما نصيب.
يا معشر عدوان، إن الأوّل كفى الآخر، فمن رأيتموه أصابه شر فإنما أصابه فعله، فاجتنبوا ذلك الذي فعله؛ يا معشر عدوان، إن الشرّ ميّت، وإنما يأتيه الحيّ فيصيبه، ومن اجتنب الشرّ لم يثب الشرُّ عليه؛ يا معشر عدوان، إن الخير عزوف ألوف، ولم يفارق الخير صاحبه حتى يفارقه ولن يرجع إليه حتى يأتيه؛ يا معشر عدوان، ربُّوا صغيركم، واعتبروا بالناس ولا يعتبر الناس بكم، وخذوا على أيدي سفهائكم تقلل جر أثركم، وإياكم والحسد فإنه شؤم ونكد، وإن كلَّ ذي فضل واجد أفضل منه، ومن بلغ منكم خطَّة خير فأعينوه واطلبوا مثلها، ورغِّبوه في نيّته، وتنافسوا في طريقته، ومن قصّر فلا يلومنّ إلا نفسه، وإني وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا تصدَّقوا.
" يقول من لزم الصدق وعوّده لسانه وفِّق فلا يكاد يتكلم بشيء يظنّه إلا جاء على ظنّه " .
وإنّي رأيت للخير طرقاً فسلكتها، ورأيت للشرّ طرقاً فاجتنبتها، وإني والله ما كنت حكيما حتى تبعت الحكماء، وما كنت سيِّدكم حتى تعبّدت لكم، إن الموعظة لا تنفع إلا عاقلا، وإن لكلّ شيء داعيا، فأجيبوا إلى الحق وادعوا إليه وأذعنوا له " يريد ذلُّوا للحق " .
وكان من حديث عامر أنه زوّج ابنته فعمة ابنة عامر ابن أخيه عامر بن الحارث ابن ظرب، وقال لأمها، وهي ماوية بنت عوف بن فهر حين أراد البناء بها: " يا هذه، مُري ابنتك فلا تنزلن فلاة إلا معها ماء، وأن تكثر استعمال الماء فلا طيب أطيب منه، وإن الماء جعل للأعلى جلاء وللأسفل نقاء، وإياك أن تميلي إلى هواك ورأيك فإنه لا رأي للمرأة، وإيَّاي ووصيّتك، فإنه لا وصيّة لك، أخبري ابنتك، أن العشق حلوٌ، وأن الكرامة المؤاتاه، فلا تستكرهنّ زوجها من نفسها، ولا تمنعه عند شهوته، فإن الرضا الإتيان عند اللذة، ولا تكثر مضاجعته فإن الجسد إذا ملّ ملّ القلب، ومريها فلا تمزحنّ معه بنفسه، فإن ذلك يكون منه الانقباض، ومريها فلتخبأ سوءتها منه، فإنه وإن كان لا بد من أن يراها فإن كثرة النظر إليها استهانة وخفة " .
فلما أدخلت الجارية عليه نفرت منه ولم ترده.
فأتى ابن أخيه العمَّ، فشكا ذلك إليه، فقال له عامر: " يا ابن أخي، إنها وإن كانت ابنتي فإن لك نصيباً مني " أو قال، فإن نصيبك الأوفر مني " فاصدقني، فإنه لا رأى لمكذوب، فإن صدقتني صدقتك، إن كنت نفَّرتها فذعرتها، فاخفض عصاك عن بكرتك تسكن، وإن كانت نفرت منك من غير إنفار فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإلا يكن وماق ففراق، وأجمل القبيح الطلاق، ولم نترك أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها، وهي فعلت ذلك بنفسها.
فزعمت علماء العرب أن هذا أول خلع كان في العرب وثبت في الإسلام.
وكان من حديث عامر بن الظَّرب أيضا، أنه كان يدفع بالناس في الحج، وذلك أنه كان وقومه طلبوا أن يجيزوا من ورد عليهم من تلقاء محلّتهم ببطن وجّ، وكان طريق أهل السَّراة، وهم أزد شنوءة، فدخلوا على صوفة، فكانوا يجيزون عدوان يوما، وصوفة يوما، وكان الذي يتولى إجازة الحج من عدوان أبو سيّارة العدوانيّ " هكذا أملاه أبو حاتم، وليس بمستو العدواني " ، فقال:

يا ربَّة العير ردِّيه لمرتعه ... لا تظعني فتهيجي النَّاس بالظَّعن
أضحت أيادي بني عمرو مجلَّلة ... تمَّت بلا كدر فيها ولا منن
ثواب ما قد أتوه عندنا لهم ... الشُّكر منَّا لما أسدوا من الحسن
فأجاز أبو سيّارة العدوانيّ بالناس أربعين سنة على عير له، حتى إن كانت العرب لتضرب المثل به فتقول: أصحُّ من عير أبي سيَّارة.
قال: فبينا عامر يدفع بالناس إذ بصر به رجل من ملوك غسّان فأعجبه نحوه فكلّمه، فإذا أحكم العرب وأحلمهم، قولا، وفعلا، وفعلا. فحسده الغسّانيّ، وقال في نفسه، لأفسدنَّه.
فلما صدر الحاجّ أرسل الملك إلى عامر، أن زرني حتى أتَّخذك خَّلا، وأحسن حباءك، وأعظِّم شرفك.
فأقبل عامر على قومه، فقال، ماذا ترون؟ قالوا: نرى ألا تردَّ رسوله، اشخص، ونشخص معك، فتصيب من رفده ونفعه، ونصيب معك، ونتَّجه بجاهك. فخرج وخرج معه نفر من قومه.
فلما دخل بلاده تكشف له رأيه وأبصر أنه قد أخطأ، فجمع إليه أصحابه، فقال: " ألا ترون أن الرأي نائم والهوى يقظان، وقد يغلب الهوى الرأي، ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم، وعجلت حين عجلتم عليّ، ولئن سلمت لا أعود بعدها لمثلها، وإنا قد تورّطنا في بلاد هذا الرجل، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه، ودعوني ورأيي وحيلتي لكم " .
فقدم على الملك، فضرب له قبّة ونحر له جزورا.
فقال له القوم: قد أكرمنا كما ترى، وما وراء هذا خير منه.
فقال: لا تعجلوا، فلكلّ عام طعام، ولكل راع مرعى، ولكل مراح مريح، وتحت الرًّغوة الصريح.
فمكثوا أياما، ثم أرسل إليه الغساني، قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمر قومي، فإني قد رضيت عقلك وأتفرغ للذَّتي ومركبي، فما رأيك؟ فقال: أيها الملك، ما أحسب أن رغبتك فيّ بلغَّتك أن تجعل لي ملكك، فقد قبلت إذ وليتني أمور رعيّتك وقومك، وإن لي كنز علم، وإن الذي أعجبك من علمي إنما هو من ذلك الكنز، أحتذى عليه وقد خلّفته خلفي، فإن صار في أيدي قومي علم كلُّهم مثل علمي، فأذن لي حتى أرجع إلى بلادي فآتيك به، فإن صرت بهذا العلم إلى بلدك أبحته ولدك وقومك حتى يكونوا كلهم علماء.
وكان الملك جاهلا، فطمع أن يقطع أصل العلم من عندهم، ويصير لقومه دونهم. فقال له الملك: قد أذنت لك بتعجيل الرَّجعة.
فقال له عامر: إن قومي أَضنَّاء بي، فاكتب لي كتابا بجباية الطريق فيرى قومي طمعا يطيب أنفسهم عني، واستخرج كنزي، وأرجع إليك.
فكتب له بذلك.
فعاد إلى أصحابه، فقال: ارتحلوا.
فقالوا تالله ما رأينا وافد قوم قطُّ أبعد عن نوال، ولا أحيد عن مال.
قال لهم: مهلا، فإن أفضل الرزق الحياة، ولها يراد الرزق، وقال، ليس على الرزق فوت، وغنم من نجا من الموت، ومن يرد باطنا يعيش واهنا، " يقول من لم ينظر في المتعقِّب عاش واهنا ضعيفا، والباطن ها هنا المتعقّب والنظر في العاقبة " .
ولو أخذ في لومكم لاتبعت قولكم، ويل أمِّ الآيات والعلامات، والنظر والاعتبار، والفكر والاختبار.
ثم قدم على قومه، فقال: ربَّ أَكلة تمنع أَكلات، وسنة تجبر سنوات ثم أقام، فلم يعد.
وكان من حديث عامر بن الظرب أيضا أنه خطب إليه صعصعة بن معاوية ابنته، فقال: يا صعصع، قد جئت تشتري مني كبدي، وأكرم ولدي عندي، منعتك أو بعتك، النكاح خير من الأَئمة، والحسب كفاء الحسب، والزوج الصالح يعدّ أبا، قد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، يا معشر دوس: " قال، وقال أكثر أصحابنا يا معشر عدوان " : خرجت كريمتكم من بين أَظهركم من غير رغبة عنكم، ولكنه من خطّ له شيء جاءه، ربّ زارع لنفسه ما حاصده غيره، ولا قسم الظوظ ما أدرك الآخر مع الأول شيئا يعيش به، ولكن رزق آكل من آجل وعاجل، إن الذي أرسل الحيا أنبت المرعى ثم قسمه " أي حفظ " ، وكلاَّ لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون، ولن يرى ما أصف لكم إلا كلُّ قلب راع، ولكل رزق ساع، ولكل خلق خُلق، كَيس أو حُمق، وما رأيت شيئا قطّ إلا سمعت حسَّه ووجدت مسَّه، وما رأيت شيئا خلق نفسه، وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا ذاهبا، ولا غانما إلا خائبا، ولا نعمة إلا ومعها بؤس، ولو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء، فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: وما هو؟ فقد قلت فأصبت، وأخبرت فصدقت.
فقال: أرى أمورا شتى، وشيئا شيئا حتَّى.

قالوا: وما حتّى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا ويعود لاشيء شيئا، ولذلك خلقت الأرض والسموات.
فتولوا عنه ذاهبين.
فقال: ويل أمَّها نصيحة، ولو كان لها من يقبلها بقبولها.
قالوا: وعاش سمعان بن هبيرة، وهو أبو السَّمال الأسدي سبعا وستين ومائة سنة.
وهو الذي يقول:
وهادئة من شيبتي وتحنُّني ... وطول قعودي بالوصيد أُفكِّرُ
تقول فنى سمعان بعد اعتداله ... وبعد سواد الرأس فالرأس أَزعرُ
فقلت لها، لا تهزئي إِنَّ قصرك المنايا، ... وريب الدَّهر بالمرء يغدرُ
فكم من صحيح عاش دهرا بنعمة ... فحل به يوم أَغرُّ مشهرَّ
فصار لقي في البيت لا يبرح الفنا ... رذيَّا عليه كآبة وتوقُّرُ
وقد كان مدلاجا إلى المجد متعبا ... إليه المطايا عمرهُ ليس يفترُ
فلما ترامته المنايا وريبها ... تقوَّس الظَّهر فالخطوُ مُقصرُ
" كذا قال أبو حاتم مقصر، وهو غلط، لأنه لا يقال: أقصر الخطوُ، إنما يقال قصر، ويجوز فالخطو مقصر، فجعل المصدر " الميمي " صفة للخطو " .
وعاد كفرخ النَّسر أعمى عن الَّتي ... يريد الدَّهر يهذي ويهدر
فإن أَكُ شيخا فانينا فلربما ... أَصبت الَّذي أَقوى وما كنت أَحذرُ
وربَّ خيور جمَّة قد لقيتُها ... وشر كثير عن شواتى تحدَّر
" شواته جلدة رأسه " .
وخيل دعتني للنِّزال أَجبتها ... وفي الصيف الكفِّ منِّى مشرفيّ مذكَّرُ
وتحتي طمرّ مستطار فؤادُهُ ... سليم الشَّظا نهد كميت مضمَّرُ
فنازلت إَذا نادوا نزال، ونلت ما ... ينال الكريم الأّحوذيُّ المشمِّر
فذلك دهر قد حلوُ عيشِةِ ... وغادرني شلوا لي الذئب يكثر
وقد كنت أَباَّءٍ على القرن مرجما ... أَجود وأَحمى المسنفات وأَخبرُ
وللموت خير لامرئ من حياته ... بدارة ذلّ علبلايا يوقَّرُ
" علبلايا يريد على البلايا فادغم اللام؛ وقال أبو حاتم: وآخر حرف في كتاب سيبويه علماء بنو فلان يريد على الماء قالوا: وعاش فالج بن خلاوة بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث بن غطفان ثمانين ومائة سنة، وكان فارسا، وكان عريِّيضا، يعرض فيما ليس يعنيه، وهو الذي تضرب العرب به المثل، يقال للرجل إذا عرض فيما لا يعنيه " أَنت من هذا الأَمر فالج بن خلاوة " .
حدثنا أبو حاتم: قال أخبرنا به أبو زيد فقال " أنت كفالج بن خلاوة، ولا عقب لفالج " .
وقال يذكر اعتراضه فيما لا يعنيه:
أَلا رُبَّ أَمر معضل قد ركبته ... بثنيىَّ فعل التَّيَّحان المضللَّ
فأَقشع عنيِّ لم يضرني وربَّما ... أَجرَّ الفتى ما كان عنه بمعزل
وقد كنت ذا بأوٍ على النَّاس مرَّة ... إِذا جئت أَمرا جئته الدَّهر من علِ
فلمَّا رماني الدَّهر صرت رزيَّة ... لكل ضعيف الركن أَكشف أَعزل
فيا دهر قدما كنت صعبا فلم تزل ... بسهمك ترمي كلَّ عظم ومفصل
فقد صرت بعد العزّ أغضى مذلَّة ... على الهول والأزمان ذات تنقُّلِ
فكم قد رأيت من همام متوَّج ... من التِّيه يمشي طامحا كالسبهلل
فأَصبح بعد التِّه كالعر ذلَّة ... قليل البتات كالضَّريك المعيل
وآخر قد أَبصرته متعلِّفا ... بريطة ذلّ كان غير مبجَّل
يدين له الأَقوام سرا وجهرة ... يروح ويغدو كالهمام المرفَّل
كذلك هذا الدَّهر صارت بطونه ... ظهورا وأَعلى الأمر صار كأَسفل
فصبرا على ريب الزمان وعضِّه ... ولا تك ذا تيه ولا تعلَّل
خذ العفو واقنع بالصَّحاح فربَّما ... أَكون لزاز العارض المتهلِّل
الصحاح الصحة مثل الضَّجاج والضَّجَّة، وأنشد: وخطَّ أَيَّام الصَّحاح والسَّقم وقال

معترض لِعَنَنِ لم يعنيه ... أَدرك مال غيره بجنبه
فاحتاز شيئا لم يكن من ظنَّه ... كأَنَّما يحتاز ماء شنِّه
قالوا: وعاش جروة بن يزيد الطائي، وكان ينزل بلخ خراسان، نزلها أيام عبد الله بن عامر، وهو ابن قريب من مائة سنة، وقتل مع سورة بن أَبجر، وهو أشل اليد اليسرى، ضربت يده يوم زحف التُّرك إلى الأحنف بن قيس، فشلّت يده، فأعطاه الأحنف دِيتَهَا، ومتب إلى ابن عامر فأعطاه ديتها أيضا، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وكتب إلى الأحنف: كافئ على البلاء فإنَّ الله يحبَّ الشَّاكرين.
وكان يكثر الغزو، وهو شيخ كبير، وكان لا يليق شيئا سخاء، وكان شجاعا مسيَّعا وهو الذي يقول:
تلوم حليلتي بالغزو جهلا ... وغرُ الغرور أَولى بالملام
ولولا الغزو كنت كمن يغادى ... بأنواع الشَّبارق والمُدام
" الشبارق الطعام، لفظ فارسي معرب " .
قليا الهمِّ يزهدُ في المعالي ... ويرضى بالقليل من الطَّعام
فهمِّي غير همِّكِ فاتركيني ... وغزوي، إنَّه همُّ الكرام
سأَغزو التُّرك إِنَّ لهم عُراما ... وبأسا حين تزحف للزِّحام
هو الومت الزُّؤام إَذا تنادوا ... لحرب يستطار لها عُقام
حدثنا أبو حاتم قال: أخبرنا أبو عبيد قال، الزؤام الموت الوحيّ.
تراهم في الحديد كأُسدِ غاب ... على جرد عوابي كالجلام
طووها للغوار فأَضمروها ... فاضت لا تضجُّ من الكلام
ولا تنحاش من ذعر ولا من ... مباشرة الأَسنَّة والسِّهام
وعندي حين أَغزوهم عتاد ... عتيد، كلُّ مصقول حسام
وكلُّ طمرَّة مرطى سبوح ... أَمام الخيل ظاهرة القسام
وكل مثقفَّ لدن عسول ... عليه مثل نبراس النِّهام
إِذا أَنحيته في القرن أَصمى ... ولا ينئد للحلق التُّؤَام
لا ينئد لا ينثني، والتؤام يعني حلقتين، وهذه دروع حلقُها مضاعف.
وفتيان إِذا ندبوا لحرب ... تمشُّوا مشية الإبل الهيام
يرون عليهم لله حقَّا ... مقارعة الطَّماطمة الطَّغام
يريدون المثوبة من إله ... بصير تحت قسطال القتام
قسطال، غبار.
وكلُّهم يرادي التُّرك قدما ... ويحوى منفسا في كلِّ عام
ويرجو الله لا يرجو سواه ... وراجي الله يرجع بالسَّلام
وقالت قد كبرت فقلت كلاّ ... وربِّ البيت والشَّهر الحرام
لقد أَبطلت، ما كبري بمُدبي ... إلىَّ حليلتي، قدر الحمام
سأَغزو أَو أَموت كذا خفاتا ... ولا آتى بداهية وذام
فإنَّ الدَّهر يلعب أَبرديه ... بكلّ مذمَّم جلد العظام
ويترك كلَّ مضعوف جريء ... على الأَبطال يعرف بالزَّحام
وهو الذي يقول لامرأته:
وقالت قد كبرت، وقلت حقَّا ... كبرت، فكفكفي ودعي عتابي
عتابك كلَّ يوم لي عذاب ... ومثلي لا يقرُّ على العذاب
فإن لم تصبري وكرهت قربي ... فدونك ما أَردت من اجتنابي
سأَغزو التَّرك في نفرٍ كرام ... سراع حين ندعى للضِّراب
يرون الموت أَفضل من حياة ... تُصيِّرها الدُّهور إِلى تباب
وفي الأَيَّام لي عظة وناه ... وما أَرضى معاتبة الكَعابِ
لأَنِّي أَطلب الأَمر الَّذي لا ... ينال بغير ضرب للرِّقاب
فيا ليت السيوف تعاورتني ... بأَيدي معشر كأُسود غاب
فأَلقى الموت مشتهرا فعالي ... ولم تدنس بمخزية ثيابي
وكُفِّى طلَّتي وتجنَّبيني ... وكلُّ العيش ويحك للذَّهاب
وقد أغدو أقود إلى المنايا ... فتوَّا زجرهم بهل وهاب
إذا ما عاينوا موتا زؤاما ... تمشَّوا مشية الإبل الطَّراب
ررجاء أن تصيبهم المنايا فينجوا من أليمات العقاب وقال أيضا:

لعمري وقد جاوزت تسعين حجَّة ... وتسعين أرجو أن أعمرها غدا
فما زادني صبري على ما ينوبني ... من الدَّهر ضعفا لا، ولا كدَّ لي زندا
وأرجو وأخشى أن أموت ولم أقم ... تخذِّعني بيض ضربنا بها السُّغدا
أذلَّت لنا أركانهم بعد عزَّة ... وكانوا أباة حين تعلقهم صمدا
فلا تهزئي منَّا ولا تتعجَّبي ... فلست أرى ممَّا فضي الله لي بدَّا
وعاش بحر بن الحارث بن امرئ القيس بن زهير بن جناب بن هبل الكلبيّ مائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام، فلم يسلم، وقال:
من عاش خمسين حولا بعدها مائة ... من السِّنين وأضحى بعد ينتظر
وصار في البيت مثل الحلس مطَّرحا ... لا يستشار ولا يعطي ولا يذر
ملَّ المعاش وملَّ الأقربون له ... طول الحياة، وشرُّ العيشة الكدر
قالوا: وعاش مسعود بن مصاد بن حصن بن كعب بن عليم بن جناب بن هبل، من كلب، مائة سنة وأربعين سنة، وقال:
أصبحت يا أمَّ بكر قد تخوَّنني ... ريب الزَّمان وقد أزرى بي الكبر
لا أستطيع نهوضا بالسِّلاح ولا ... أمضى الهموم كما قد كنت أبتكر
أمشي على محجن والرَّاس مشتعل ... هيهات هيهات، طال العيش والعمر
قد كنت في عصر لا شيء يعد له ... فبان منِّي، وهذا بعده عصر
قالوا: وعاش امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل بن عبد الله بن كنانة ابن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة، فقال في ذلك:
إنَّ الكبير إذا طالت زمانته ... فإنَّما حمله جنّازة عار
ومن يعيش زمنا في أهلة خرفا ... كلاَّ عليهم إذا حلُّوا وإن ساروا
يذمم مرارة عيش كان أوَّله ... حلوا، وللدَّهر إحلاء وإمرار
قالوا: وعاش عوف بن سبيع بن عميرة بن الهوان بن أعجب بن قدامة بن جرم بن ربّان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة مائة سنة وثمانين سنة.
وقال في ذلك:
إلا هل لمن أجرى ثمانين حجَّة ... إلى مائة عيش وقد بلغ المدى
وما زالت الأيَّام ترمي صفاته ... ونغتاله حتَّى تضعضع وانحنى
وصار كفرخ النَّسر يهتزُّ جيده ... يرى دون شخص المرءِ شخصا إذا رأى
وبدِّل من طرف جواد حشيَّة ... ومن قوسه والرُّمح والصَّارم العصا
وإنِّي رأيت المرء يظعن جاره ... لنيَّته لا بدَّ يوما وإن ثوى
قالوا: وعاش عامر، وهو طابخة بن تغلب بن خلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة خمسمائة سنة وعشرين سنة، ولا أعلمه. قال شعرا، وهو معروف بطول العمر.
قالوا: وعاش أبو الطَّمحان القينيّ حنظلة بن الشَّرقيّ، من بني كنانة بن القين ابن جسر بن شيع الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة مائتي سنة.
وقال في ذلك:
حنتني حانيات الدَّهر حتَّى ... كأنِّي خاتل يدنوا لصيد
قريب الخطو يحسب من رءاني ... ولست مقيَّدا أنَّى بقيد
حدثنا أبو حاتم، قال حدثني عدة من أصحابنا، أنهم سمعوا يونس بن حبيب النحويّ ينشد هذين البيتين كثيرا فيما زعم أصحابنا، وكان ينشد أيضا:
تقارب خطو رجلك يا سويد ... وقيَّدك الزَّمان بشرِّ قيد
قالوا: وعاش حارثة بن صخر بن مالك بن عبد مناة بن هبل بن عبد الله بن كنانة ابن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة مائة سنة وثمانين سنة حتى أدرك الإسلام فلم يسلم، وأسلم ابنه جناب بن حارثة بن صخر، وهاجر إلى المدينة، فجزع من ذلك جزعا شديدا.
وأنشأ يقول:
تركت أباك بالأدوات كَّلا ... وأمَّك كالعجول من الظِّراب
فلا وأبيك ما باليت وجدي ... ولا شوقي الشَّديد ولا اكتئابي
ولا دمعا تجود به المآقي ... ولا أسفي عليك ولا انتحابي
فعمرك لا تلوميني ولومي ... جنابا حين أزمع بالذَّهاب

إذا هتف الحمام على غصون ... جرت عبرات عيني بانسكاب
يذكِّرني الحمام صفىَّ نفسي ... جنابا، من عذيري من جناب
أردت ثواب ربِّك في فراقي ... وقربي كان أقرب للثَّواب
قالوا: وعاش عبَّاد بن شدّاد اليربوعيّ مائة وثمانين سنة.
وقال في ذلك:
يا بؤس للشَّيخ عبَّاد بن شدَّاد ... أضحى رهينة بيت بين أعواد
وتهزأ العرس منِّي إن رأت جسدي ... أحدب لم تبق منه غير أجلاد
فإن تريني صعيفا قاصرا عنقي ... فقد أكعكع عنِّي عدوة العادي
وقد أفئ بأثواب الرَّئيس وقد ... أغدو على سلهب للوحش صيَّاد
قالوا: وعاش همّام بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم مائة وثمانين سنة.
وقال في ذلك:
إنَّ القواني قد عجبن كثيرا ... ورأينني شيخا صحوت كبيرا
قصد الغواني أن أردن هوادتي ... حسب الكبير مجرَّبا مخبورا
إنِّي لأبذل للحليل إذا دنا ... مالي وأترك ماله موفورا
وإذا أردت ثواب ما أعطيته ... فكفى بذاك لنائل تكديرا
إنِّي امرؤ عفُّ الخلائق لا أره ... طرق السَّماحة يا أميم وعورا
قالوا: وعاش أسيِّد بن أوس التَّميميّ مائة وتسعين سنة، وقتل له ثلاثون ابنا في حرب كانت بينه وبين بني يشكر بن بكر بن وائل، فقال لمن بقي من ولده، وهو يوصيهم: " يا بنيّ، إني رأيت مطَّلعا تزايلت حجارته، وقد رأيته أملس ليس فيه صدع، ورأيت الدَّهر فلَّ الصُّخور، فليقترب بعضكم من بعض في المودّة، ولا تتَّكلوا على القرابة، فإن القريب من قرب نفسه، والأمور بدوات " .
قالوا: وانطلق أسيِّد بن أوس إلى الحارث بن الهبولة الغساني، كان أخا معاوية بن شريف لأمّه، أمُّهما ابنة رضا البارقيّ، يستمدّه في حرب بني الشَّقيقة، فلما قدم عليه قال " حمل " وهو رجل " يوثق في الشدّة بالقرابة وبصدق أهل الوفاء، إن خير السجيَّة ما لم يتكلّف، وخير الأعوان على النَّجل النساء " يعني بالنجل الأولاد " ، ومن اتّخذ أداء الحقّ الحيطة فقد كمل " والحيطة غاية الحفظ " والعفو منتهى البرّ، ومنتهى اليرِّ الهوى، وبالصِّدق تمام المرؤة، وبالكذب يحسر الأنصار، وبالقرناء تعتبر الرجال، وأغنى الخصال عن المادّة العفاف، والعفو ترك العقوبة، وترك العقوبة يسلُّ السَّخيمة " .
وقال أسيِّد بن أوس في حجَّة الغدر، عام قاتلوا أبا كرب بن زيد بن حسان بن تبّع، فرجع إلى قومه بما أصاب، فقال " الزموا البرَّ يبرُّكم بنوكم، أخِّروا الغضب ودافعوا بالأيّام القروض، فإن الرفق أبلغ، وآخر الدواء الكيُّ، وخير الثواب الشكر، وخطل القول عورة، وبالمرسل يعتبر المرسل.
قالوا: وعاش الأُبيرد بن المعذَّر الرِّياحيّ مائة وعشرين سنة؛ وقال بعضهم، بل هو الأبيرد بن الحارث، من تيم الرّباب بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس ابن مضر.
وقال في ذلك:
ألا هزئت مودودة اليوم أن رأت ... شكير أعالي الرَّأس منِّي تلفَّعا
وأن شاب أصداغي ومَّم مفرقي ... مشيب وأمسى لون وجهي أسعفا
فقلت لها لا تهزئي من مجرِّب ... ترامت به الأيَّام حتَّى تسعسعا
فإنَّك لو صاحبتني لم تعتّبي ... ولم تجدي فينا لكفَّيك مصنعا
ليالي لوني واضح وذؤابتي ... غرابيب في رأس امرئٍ غير أنزعا
قالوا: وعاش عبيد بن الأبرص الأسديّ الشاعر من بني سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد مائتي سنة وعشرين سنة، ويقال، بل ثلاثمائة سنة.
وقال في ذلك:
ولتأتين بعدي قرون جمَّة ... ترعى مخارم أيكة ولدودا
فالشمس طالعة، وليل كاسف ... والنجم يجري أنحساً وسعودا
حتَّى يقال لمن تعرَّق دهره ... يا ذا الزّمانة هل رأيت عبيدا
مائتي زمان كامل ونضيَّة ... عشرين عشت معمَّرا محمودا
أدركت أوَّل ملك نصر ناشئا ... وبناء شدَّاد وكان أبيدا
وطلبت ذا القرنين حتَّى فاتني ... ركضا وكدت بأن أرى داودا

ما تبتغي من بعد هذا عيشة ... إلاَّ الخلود، ولن ينال خلودا
وليفنين هذا وذاك كلاهما ... إَّلا الإله ووجهه المعبودا
وقال أيضا:
فنيت وأفناني الزَّمان وأصبحت ... لداتي بنو نعش وزهر الفراقد
قالوا: وعاش كبير بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة مائة وعشرين سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، وقال ابن اللكبيّ وغيره، بل عاش ثلاثين ومائة سنة، وكان يوم جبلة ابن تسع سنين، وولد عامر بن الطُّفيل في ذلك اليوم.
ووفد عار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن نيِّف وثمانين.
وقالوا: كانت أعطيات الناس ألفين وخمسمائة، فكتب معاوية إلى زياد أن ينقص الخمسمائة.
وحدثنا أبو حاتم قال، سمعت الأصمعيّ يقول، أراد أن يردّه إلى ألفين.
فقال: ما بال العلاوة بين العدلين؟ فجاء لبيد ليأخذ عطاءه.
فقال زياد: أبا عقبل، هذان الخرجان.
" يعني الألفين " .
- فما بال العلاوة؟ " يعني الخمسمائة " .
قال: ألحق العلاوة بالخرجين، فإنك لا تلبث إلا قليلا حتى يصير لك الخرجان والعلاوة.
قال: فأعطاه زياد ألفين وخمسمائة، ولم يعطها غيره.
فما أخذ عطاء آخر حتى مات رحمه الله.
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيَّتي ... لزوم العصا تحفى عليها الأصابع
أخبِّر أخبار القرون الَّتي مضت ... أدبُّ كأنِّي كلَّما قمت راكع
وقال:
ذهب الَّذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقال حين مضت له سبع وسبعون:
نفسي تشكَّي إلىَّ الموت مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
إن تحدثي أملا يا نفس كاذبة ... ففي الثَّلاث وفاءٌ للثَّمانينا
فلما بلغ مائة وعشرا قال:
أليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
فلما بلغ عشرين ومائة، قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا النَّاس كيف لبيد
قال: وحدثنا الرِّياشي قال أبو روق، وحدثناه أبو الخطاب زياد بن يحيى الحسّانيّ عن الهيثم بن الربيع قال، حدثنا أبي عن الشَّعبيّ قال، أرسل إلىّ عبد الملك بن مروان، وهو شاكٍ، فدخلت عليه، فقلت: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ فقال: أصبحت كما قال ابن قمئة أخو بني قيس بن ثعلبة.
قال: وما قال؟ قال: قال:
كأنِّي وقد جاوزت تسعين حجَّة ... خلعت بها عنِّي عذار لجامي
رمتني بنات الدَّهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمي، وليس يرامي
فلو أنَّها نبل، إذن لاتَّقيتها ... ولكنّني أرمي بغير سهام
إذا ما رآني النَّاس قالوا ألم يكن؟ ... جليدا شديد البطش غير كهام
فنيت ولم تفن من الدَّهر ليلة ... ولم يغن ما أفنيت سلك نظام
على الرَّاحتين مرَّة وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثا بعدهنَّ قيامي
فقلت: يا أمير المؤمنين، ولكنك كما قال لبيد بن ربيعة أخو بني جعفر بن كلاب.
قال: وما قال؟ قلت: قال:
نفسي تشكَّي إليَّ الموت مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثا تحدثي أملا ... وفي الثَّلاث وفاء للثَّمانينا
فعاش والله يا أمير المؤمنين حتى بلغ تسعين حجة، فقال:
كأنِّي وقد جاوزت تسعين حجَّة ... خلعت بها عن منكبيَّ ردائيا
فعاش حتى بلغ عشرا ومائة سنة، فقال في ذلك:
أليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
فعاش والله يا أمير المؤمنين حتى بلغ عشرين ومائة، فقال في ذلك.
وغنيت سبتا بعد مجرى داحس ... لو كان للنَّفس اللجوج خلود
فعاش حتى بلغ أربعين ومائة، فقال في ذلك:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا النَّاس كيف لبيد
فقال عبد الملك، والله، ما بي بأس، اقعد حدّثني ما بينك وبين الليل.
فقعدت، فحدّثته حتى أمسيت، ثم فارقته؛ فمات في ليلته.
قال أبو حاتم، وعاش النَّمر بن تولب بن أقيش العكليّ مائتي سنة حتى أنكر بعض عقله.
فقال ذلك:

لعمري، لقد أنكرت نفسي ورابني ... مع الشَّيب أبدالي الَّذي أتبدَّل
وتسميتي شيخا وقد كان قبله ... لي اسم فلا أدعي به وهو أوَّل
وزهدي فيكفيني اليسير وإنَّني ... أنام إذا أمسي ولا أتعلَّل
وظلعي ولم أكسر وإنّ حليلتي ... تحوز بنيها في الفراش وأعزل
فصول أراها في أديمي بعد ما ... يكون كفاف اللَّحم أو هو أجمل
يحبُّ الفتى طول السَّلامة والغنى ... فكيف يرى طول السَّلامة يفعل
قالوا: وعاش نصر بن دهمان بن بصار بن بكر بن سليم بن أشجع بن الرَّيث ابن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان مائة وتسعين سنة حتى سقطت أسنانه وابيضّ رأسه، فحزب قومه أمرٌ احتاجوا فيه إلى عقله ورأيه.
فدعوا الله أن يرد عليه عقله وشبابه.
فرد الله عليه عقله وشبابه وفهمه، واسودّ شعره.
فقال سلمة بن الخرشب الأنماريّ، من أنمار بن بغيض، ويقال، بل عياض بن مرداس:
نصر بن دهمان الهنيدة عاشها ... وتسعين حولا ثمَّ قوِّم فانصاتا
وعاد سواد الرَّأس بعد ابيضاضه ... وراجعه شرخ الشَّباب الَّذي فاتا
وراجع عقلا بعد عقل وقوَّة ... ولكنَّه من بعد ذا كلِّه ماتا
قالوا: وعاش زهير بن مرخة، من بني وابش بن عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان مائة وسبعين سنة.
وقال في ذلك:
كبرت وأمست عظامي رمادا ... وما تأمل العين إَّلا رقادا
أقول لأهلي لا تظعنوا ... وهاتوا فراشا وطيئا وزادا
قالوا: وعاش ربيعة، وهو أبو جعاد من بني عدوان مائة وسبعين سنة.
وقال في ذلك: أبا جعاد اليوم أفناك الكبر والدَّهر فينان، فحرٌّ وخصر أيَّام إذ تجني لك السَّمن مضر في قيس عيلان وأحياء أخر قالوا: وعاش نابغة بني جعدة، واسمه، قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة مائتي سنة، وأدرك الإسلام، وأسلم.
وقال حين وفت له مائة واثنتا عشرة سنة:
مضت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجَّتان
فأبقى الدَّهر والأيَّام منِّي ... كما أبقى من السَّيف اليمان
تفلَّل وهو مأثور جراز ... إذا جمعت بقائمة اليدان
ألا زعمت بنو كعب بأنِّي ... ألا كذبوا كبير السِّنِّ فإني
فمن يحرص على كبري فإنِّي ... من الفتيان أزمان الختام
الختان مرض أصاب الناس في أنوفهم وحلوقهم، وربما أخذ النَّغم، وربما قتل.
وقتل أيضا:
لبست أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا
المستآس المستعاض، مستفعل من الأوس، والأوس العطيّة عوضا.
وقال أيضا:
قالت أمامة كم عمرت زمانة ... وذبحت من عنز على الأوثان
ولقد شهدت عكاظ قبل محلِّها ... فيها وكنت أعدُّ ملفتيان
أراد من الفتيان.
والمنذر بن محرّق في ملكه ... وشهدت يوم هجائن النُّعمان
وعمرت حتَّى جاء أحمد بالهدى ... وقوارع تتلى من الفرقان
ولبست ما لإسلام ثوبا واسعا ... من سيب لا حرم ولا منَّان
قالوا: وعاش قردة بن نفاثة السَّلوليّ، من عمرو بن مرَّة بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان مائة سنة وأربعين سنة، وأدرك الإسلام.
وقال في إسلامه:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتَّى لبست من الإسلام سربالا
وقد أروِّي نديمي من مشعشعة ... وقد أقلِّب أوراكا وأكفالا
قال أبو حاتم، ويزعمون أن البيت الأول للبيد، وأنه لم يقل في الإسلام غيره، والله أعلم.
قالوا: وعاش زهير بن أبي سلمى الشاعر، وهو زيد بن ربيعة بن عمرو، ويقال، إنه من مزينة، وكذلك قال ابنه كعب في شعره؛ ويقال: إنه من عبد الله ابن غطاف مائة وعشرين سنة.
وقال حين بلغ الثمانين:
سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش ... ثمانين حولا، لا أَبا لك يسأَم

قال أبو حاتم، وكان الأصمعي يزعم في القصيدة لأَنس بن زنيم.
" قال أبو روق: غلط أبو حاتم، إنما كان الأصمعي يقول، القصيدة لصِرمة ابن أنس الأنصاري " .
وأنس بن زنيم كان على عهد زياد وابنه.
قال أبو حاتم، قال بعد ذلك:
أَلا ليت شعري، هل يرى النَّاس ما أرى ... من الأمر، أَو يبدو لهم ما بدا ليا
بد لي أَنِّي عشت تسعين حجَّة ... وعشرا وتسعا بعدها وثمانيا
فلم أَلفها لمَّا مضت وعددتها ... بحسبتها في الدَّهر إلاَّ ليليا
وقال: وعاش ثوب بن تُلدة الأسدى، من بني والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة عشرين ومائتي سنة، وأدرك معاوية بن أبي سفيان، وقال:
وإنَّ امرءٍ قد عاش عشرين حجَّة ... إلى مائتين، كُلَّها، هو دائب
لرهن لأحداث المنايا وإنَّما ... يلهيِّه في الدنيا مناه الكواذبُ
حدثنا أبو حاتم عن الكلبي قال: قال ابن الكلبي: سمعت أبي يقول، أدرك ثوب بن تلدة معاوية، فدخل عليه، فقال: - ما أدركت؟ وكم عمرك؟ قال: لا أدري، إلا أدركت بني والبة ثلاث مرات - يريد أفنيت ثلاثة قرون - .
قال: فكيف بصرك اليوم؟ قال: أحدُّ ما كان قطُّ، كنت أرى الشخص واحدا فأنا أراه اليوم شخصين.
قال: فكيف مشيك؟ قال: أَمشي ما كنت قط، كنت أمشى تيدا، فأنا اليوم أُهرول هرولة.
فقال: أدركت أمية بن عبد شمس؟ قال: نعم، وهو أمي يقوده عبد له، يقال له " ذكوان " .
فقال له معاوية: كفّ، فقد جاء غير ما رأيت يا ثوب.
ثم قال معاوية: ليس في البيت إلا أُمويّ، فانظر، أي هؤلاء أشبه بأمية.
فنظر، ثم قال: هذا، لعمرو بن سعيد بن العاص، وهو عمرو الأشدق.
قال أبو حاتم، قال العتبيّ، قيل له، الأشدق، لأنه كان خطيبا مفلقا.
قالوا: وعاش أُمية بن الأسكر من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة دهرا طويلا، وأدرك الإسلام فأسلم، وأسلم ابن له، يقال له " كلاب " وهاجر إلى المدينة، فخرج في لعث إلى العراق.
فلما بلغ ذلك أباه أمية أنشأ يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله لو ذكر الكتابا
أناشده ويعرض إلى إباء ... فلا وأبي كلاب ما أَصابا
إِذا هتفت حمامة بطن وجٍ ... إلى بيضاتها ذكرا كلابا
أَتاه مهاجران تكنَّفاه ... بترك كبيرة خطئا وخابا
تركت أباك مرعشة يداه ... وأُمَّك ما تسيغ لها شرابا
تُمسِّح مهده شفقا عليه ... وتجنبه أَباعرنا الضَّعابا
فإنَّك وابتغاء الأجر بعدي ... كباغي الماء يتَّبع السَّرايا
قال ومربَّعة كلاب منسوبة إليه، كان نزلها حين قدم البصرة.
وقال أيضا أمية:
أَعاذل قد عذلت بغير علم ... وما يدريك ويحك ما ألاقي
فإمَّا كنت عاذلتني فردِّى ... كلابا إِذ توجَّه للعراق
سأَستدعي على الفاروق ربا ... له، رفع الحجيج إلى بساق
إِن الفاروق لم يردد كلابا ... على شيخين هامُهما زواق
فلو فلق الفؤاد حماط وجد ... لهمَّ سواد قلبي بانفلاق
فلما بلغ عمر كبره وشوقه كتب إلى سعد بن أبي وقاص بالكوفة، يأمره بإقفال كلاب بن أُميّة إليه بالمدينة.
فلما قدم عليه قال لأبيه أميَّة: أي شيء أحب إليك؟ قال: النظر إلى ابني كلاب.
فدعاه.
فلما رآه قام إليه فاعتنقه، وبكى بكاء شديدا، وبكى عمر رقة لها؛ ثم قال: " يا كلابُ، الزم أباك وأمك، ولا تؤثرون عليهما شيئا ما بقيا.
قالوا: وعاش قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر، وقيل حذافة بن زهر بن إياد بن نزار ثلاثمائة وثمانين سنة، وقد أدرك نبيَّنا عليه السلام، وسمع النبي صلى اله عليه وسلم حكمته؛ وهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكَّأَ على عصا، وأول من قال، أما بعد؛ وكان من حكماء العرب.
وهو أول من كتب من فلان إلى فلان، وأول من قال في كتابه، أما بعد. زعمت العرب أنه سبط من أَسباطها.
وأَحكم من قُسَ وأَجرأَ ملَّذى ... بذي الغيل من خفَّان أَصبح حاردا
وقال الحطيئة:

وأَقول من قسّ إِذا مضى ... من الرمح إِن مسَّ النُّفوس نكالها
وقسّ الذي يقول:
هل الغيث معطى الأمن عند نزوله ... بحال مسيء في الأمور ومحسن
وما قد تولَّى فهو قد فات ذاهبا ... فهل ينفعنِّي ليتني ولو أنَّني
قال أبو حاتم: وذكروا أن وفد بكر بن وائل قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: - هل فيم أحد من قالوا: نعم.
قال: هل لكم علم بقسّ بن ساعدة؟ قالوا: مات يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ يخطب الناس على جمل أحمر، وهو يقول " يا أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت؛ ثم قال، أَما بعد، فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، نجوم تغور، وبحار تمور ولا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، أقسم قسّ قسما بالله وما أَثم، لتطلبنّ من الأمر شحطا، ولئن كان بعض الأمر رضى إن الله في بعضه سخطا، وما بهذا لعبا، وإن من وراء هذا عجبا، أقسم قسّ قسما بالله وما أَثم، إن الله دينا هو أَرضى من دين نحن عليه، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون، أَنعموا فأقاموا، أو تركوا فناموا " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: وسمعته لفظ بشعر ولساني لا ينطلق به.
فقال بعضهم: أنا أحفظ يا رسول الله، فهل ترى عليَّ فيه شيئا؟ قال: لا، الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، فهاته.
وذكروا أنه ابن عباس، فقال وهو يومئذ غلام لم يبلغ، فأنشده:
في الذَّاهبين الأوَّلي ... ن من القرون لنا بصائر
لمَّا رأيت مواردا ... للموت، ليس لها مصادر
ررورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا ... ينجو من الباقين غابر
أيقنت أنِّي لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
قال أبو حاتم، وذكروا أن قوما من إياد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن حكمة قسّ فأخبروه، وكان أحسن أهل زمانه موعظة، وأنشدوه قوله:
يا ناعي الموت والأموات في جدث ... عليهم من بقايا بزِّهم خرق
دعهم، فإنَّ لهم يوما يصلح بهم ... كما ينبَّه منّ نوماته الصَّعق
حتَّى يجيء بحال غير حالهم ... خلق مضوا ثمَّ ماذا بعد ذاك لقوا
منهم عراة وموتى في ثيابهم ... منها الجديد ومنها الأوراق الخلق
قال أبو حاتم، وذكر حزم بن أبي راشد قال، أملي علىّ رجل من أهل خراسان من مواعظ قسّ: " مطر ونبات، وآباء وأمَّهات، وذاهب وآت في أوانات، وأموات بعد أموات، وضوء وظلام، وليال وأيام، وغنيٌّ وفقير، وشقيٌّ وسعيد، ومسيءٌ ومحسّن، أين الأرباب العملة " أو قال الفعلة " ، إن لكل عامل عمله، كّلا، بل هو الله إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدي، وإليه المعاذُ غدا، أما بعد، يا معشر إياد، فأين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، وأين الحسن الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينتقم؟ " أو قال: لم ينكر " ، كلا وربّ الكعبة ليعودنَّ ما باد، ولئن ذهب يوما ليعودنّ يوما " .
قالوا: وعاش عوَّام " أو عرّام " بن المنذر بن زبيد بن قيس بن حارثة بن لأم، وأدخل على عمر بن عبد العزيز - رحمة الله - ليزمَّن " أي يكتب في الزَّمني " .
قالوا: وكان عمّر في الجاهلية دهرا طويلا.
فقال له عمر: ما زمانتك هذه؟ فقال فيما زعم ابن الكلبي، أخبرني رجل من بني قيس بن حارثة أنه قال لعمر ابن عبد العزيز:
ووالله ما أدري أأدركت أمَّة ... على عهد ذي القرنين أم كنت أقدما
متى تنزعا عنِّي القميص تبيَّنا ... جآجئ لم يكسين لحما ولا دما
قالوا: وعاش أنس بن نواس بن مالك بن حبيش، ويقال خنيس، بن ربيعة الجسريّ، من جسر محارب دهرا، ونبتت أسنانه بعدما سقطت؛ فقال:
أصبحت من بعد البزول رباعيا ... وكيف الرَّباعي بعد ما شقَّ بازله
ويوشك أن يلقي ثنيَّا وإن يعد ... إلى جذع تثل أخاكم ثواكله
إذا ما اتَّغرنا مرَّتين تقطَّعت ... حبال الصِّبا وانبتَّ منَّا وسائله

قالوا: وعاش ثعلبة بن كعب بن زيد بن عبد الأشهل الأوسيّ فيما ذكر ابن الكلبيّ، عن عبد الحميد بن أبي عبس الأنصاري، عن أشياخ قومه ثلاثمائة سنة، وقال غيرهم، مائتي سنة.
وقال ثعلبة:
لقد صاحبت أقواما فأضحوا ... خفاتا ما يجاب لهم دعاءُ
وقوما بعدهم قد نادموني ... فأضحى مقفرا منهم قباءُ
مضوا قصد السَّبيل وخلَّفوني ... فطال عليَّ بعدهم الثَّواء
فأصبحت الغداة رهين بيتي ... وأخلفني من الموت الرَّجاء
قال أبو حاتم، وقال هشام، كانت اليهود تسمّى قباء قباذ بالذَّال، فسمّتها الأنصار قباء.
قالوا: وعاش طيء بن أُدد خمسمائة سنة، وذكر هشام أنه سمع أشياخا من طيء يذرون ذلك، وأنه حمل من جبلة باليمن، وكان يقال له " ظريب " إلى جبلى طيِّء، فنسبا إليه، وأقام بهما حينا، وقتل العاديّ الذي كان بالجبلين.
وقال طيء في ذلك:
اجعل ظريبا كحبيب ينسى ... لكل قوم مصبح وممسي
وأقام بالجبلين حتى دفن بهما.
وقال فيما سمعت من أشياخهم:
إِنَّا من الحيَّ اليما نينا ... إِن كنت عن ذلك تسألينا
فقد ثوينا بظريب حينا ... ثمَّ تفرَّقنا مباغضينا
لنيَّة كانت لنا شطونا ... إِذ سامنا الضَّيم بنو أَبينا
قالوا: وعاش يزيد بن جبر بن حرثان بن جزء بن كعب بن الحارث بن معاوية ابن وائل بن مرّان بن جعفيّ خمسين ومائة سنة؛ وهو القائل:
إِمَّا تريني قد بليت وغاضني ... زمان، فقد أَودى أَخو الجود حُرثان
وأَودى أَبو جزء وعمرو كلاهما ... وعبد يغوث قبل ذاك ومرَّان
وأَودى بشيخي ذي المهابة جابر ... ونال نذيرا وسط أَركاح غُمدان
غمدان قصر باليمن قال الأصمعيّ: ويقال لفلان ساحة يتركَّح فيها، ونذير ملك، وأَركاح أَفنيه، وفاد فلان هلك.
فهل أَنا إِلاَّ مثل من فاد فاعلمي ... ولا تجزعي كلُّ امرئ مرَّة فإني
فلو أَنّ حيا سالم من سهامه ... لعاش الألى سمَّيت ما عاش إِنسان
قالوا: وعاش هاجر بن عبد العزّى الخزاعيّ دهر فيما ذكر ابن الكلبي عن أبي السائب المخزومي قال، حدثني به طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعيّ، قال غيره، هو عميرة بن هاجر بن عمير بن عبد العزَّى بن قمير الخزاعي، وهو جد عبد الله ابن مالك بن الهيثم بن عوف بن وهب بن عميرة بن هاجر بن عمير بن عبد العزَّى بن قمير الخزاعي عاش سبعين ومائة سنة.
وقال:
بليت وأَقناني الزَّمان وأَصبحت ... هنيدة فقد أَنضيت من بعدها عشرا
وأَصبحت مثل الفرخ لا أَنا ميتِّ ... فأُسلى ولا حيَّ فأُصدر لي أَمرا
وقد كنت دهرا أَهزم الجيش واحدا ... وأُطى، فلا منا عطائي ولا نزرا
وقد عشت دهرا لا تجنُّ عشيرتي ... لها ميِّتا حتَّى أَخطَّ له قرا
قالوا: وعاش جليلة بن كعب بن الحارث بن معاوية بن وائل بن مرّان بن جعفيّ تسعين ومائة سنة فيما ذكر ابن الكلبي عن الوليد بن عبد الله الجعفيّ.
وقال:
وإِنَّ امرأ قد عاش تسعين حجَّة ... إِلى مائة يرجو الفلاح لجاهل
يوَملُ أَن يبقى وقد مات ذو النَّدى ... أَبوك وأَودى ذو الحمالة وائل
وجار الصَّفا والأرقمان كلاهما ... فكيف ترجِّى الخُلد أُمُّك هابل
فلا ترج عمرا بعد من قال إِنَّما ... بقاؤك في الدُّنيا ليال قلائل
قالوا: وعاش كعب بن رداة النخعيّ فيما ذكر ابن الكلبيّ عن بعض النخعّيين ثلاثمائة سنة وقال:
لقد ملَّني الأَدنى وأَبغض رؤيتي ... وأَنبأني أَلاَّ بحلّ كلامي
على الراحتين مرَّة وعلى العصا ... أَنؤ ثلاثا بعدهنَّ قيامى
فيا ليتني قد سخت في الأرض قامة ... وليت طعامي كان فيه حمامي
قالوا: وعاش عبد يغوث بن كعب بن الرَّداة بن ذهل بن كعب بن قعين بن مالك بن النَّخع بن عمرو بن علَّة بن جلد بن مالك بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ سبعين ومائة سنة.
وقال في ذلك:

بليت وقد كنت دهرا جديدا ... وقد عشت دهرا أَبيَّا جليدا
أَبعد ثمانين أَنضيتها ... وتسعين يا سلم أَرجو الخلودا
ومات أَبي وأَبو والدي ... وذهل فأَصبحت منهم وحيدا
قالوا: وعاش رجل من أسلم، وبقال هو أَوس بن ربيعة بن كعب بن أُمية الأسلميّ مائتي سنة وأربع عشر سنة.
وقال في ذلك:
لقد خلِّفت حتَّى ملَّ أَهلي ... ثوائي فيهم، وسئمت عمري
وحقّض لمن أتت مائتين عام ... عليه وأَربع من بعد عشر
يملُّ من الثَّواء وصبح يوم ... يغاديه، وليل بعد يسرى
فأَبلى جدَّتي وبقيت شلوا ... وباح بما أُجنُّ ضمير صدري
قالوا: وعاش حارثة بن عبيد الكلبيّ، ومن ولده بطون، منظور، ومنصور ابن جمهور من بني حارثة، وأدرك الإسلام، وقد حجب دهرا طويلا.
قال أبو حاتم، قال هشام، وكذا كانت العرب تفعل بالكبير منهم تحجبُه قال هشام: وقال لي شملة بن مغيث، رجل من ولده، قال، أظنه عاش خمسمائة سنة، قال، وأنشدني شملة له:
أَلا ليتني أَنضيت عمري ... وهل يجدى عليَّ اليوم ليتى
حنتني حانيات الدَّهر حتَّى ... بقيت رذيَّة في قعر بيتي
تأَذى بي الأقارب إِذ رأَوني ... بقيت، وأَين منِّي اليوم موتي
قالوا: وعاش حاثة بن مرّة بن حارثة بن عبد رضا بن جبيل الكلبي خمسين ومائة سنة، وأصابهم سنة أَجحفت بأموالهم فقال: لم يدع الدَّهر لنا ذخيرة ولم يدع شحما ولا مريرة ولا لنا حام ولا بحيرة وشيَّب العارض والغديرة فصرت كالنَّسر على الجذيرة براضة من عمر يسيرة الجديرة اصل حائط أو بناء، وجذر كل شيء أصله، براضة بقيَّة، ويقال تبرَّضت الماء وغيره إذا أخذت بقيَّة.
قالوا: وعاش المجاج بن خالد بن الحارث بن قيس بن نصر بن عائذة ابن ذهل بن مالك بن سعد بن ضبّة حتى هرم، وملّ من الحياة.
وزعموا أنه قال:
لقد طوَّفت في الآفاق حتَّى ... بليت وقد أَنى لي لو أَبيد
وأَفناني وما يفنى نهار ... وليل كلَّما يمضي يعود
وشهر مستهل بعد شهر ... وحول بعده حول جديد
ومفقود عزيز الفقد تأتى ... منيَّة ومأمول وليد
قالوا: وعاش القدار العنزي مائتي سنة فيما ذكر ابن الكلبي عن خراش، قال، حدَّثني به قوم من عنزة، وقال:
رُبَّ حيَّ رأَيتهم ورأَوني ... ثم قالوا، متى يموت قدار
رًبَّ نهب حويته ملث اللَّيل ... ظلاما تزينه الأبكار
وجياد كأنَّها قضب الثَّوحط ... تزجى اَمامهنَّ العشار
رذاك دهر افنيته وتعرتني ليال ينضينني ونهار قالوا: وعاش ربيعة بن عبد الله البجلي تسعين ومائة سنة.
قال أبو حاتم، قال ابن الكلبيّ حدثني به عُليل بن مجمدّ البجليّ، وقال:
أميم أُميم قد أَودى شبابي ... وأَخلفني البطالة والتَّصابي
وقد ذهب الّذين ولدت فيهم ... وقد رحلت لشَّقيتهم ركابي
وسلهبة وهبت لغير صهر ... فلم أَبكر أُميم على الثَّواب
قالوا: وعاش الحارث بن حبيب الباهلي من بني أَود بن معن ستين ومائة سنة فيما ذكر هشام عن طارق بن حمزة الغنويّ عن رجل من باهلة، كان عالما.
وقال الحارث:
كم من أسير تائه فديتُهُ ... ومن كميّ مُعلم أَرديته
ومسرع بسروه جازيته ... ومبطئ برفده كفيته
ومسرع يسروه جازيته ... ومبطئ برفده كفيته
ومعلن بضغنه كويتُهُ ... لو كان يشري الموت لاشتريته
وقال الحارث:
أَلا هل باب يشترى برغيب ... يدلُّ عليه الحارث بن حبيب
فمن لا سواد الرأس بعد ابيضاضه ... ومن لقوام الصلب بعد دبيب
قالوا: وعاش حامل بن حارثة بن عمرو بن مالك بن عكوة ثلاثين ومائتي سنة، قال، حدثنا شيخ من بني عكوة من طيء، وكان حامل يرحل إلى الملوك في قومه، فقال حين بلغ ثمانين ومائة سنة:
أَلا ليتني لم أَغن في النَّاس ساعة ... ولم أَلق أَيَّاما تشيب الحزوَّرا

أَبعدَ الألى من آل عكوة قدِّموا ... كراما وأَبحت الغداة مؤخَّرا
أُرجى خلودا بعد تسعين حجَّة ... تسعين أخرى، لا سقيت الكنهورا
الكنهور سحابة.
قالوا، وعاش عمرو بن مسبِّح الطائي، ثم أحد بني معن فيما زعموا حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمسين ومائة سنة، وله يقول امرؤ القيس:
رُبَّ رام من بني ثعل ... متلج كفَّيه " من " قتره
ومات في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو القائل:
لقد عمِّرت حتَّى شقَّ عمري ... على عُمرِ ابن عكوة وابن وهب
وعُمرِ الحنظليّ وعُمرِ سيف ... وَعُمرِ الرَّداة قريع كعب
قالوا: وعاش عبّاد بن سعيد بن أحمر بن ثور بن خداش بن السَّكسك ابن أَشرس بن كندة ثلاثمائة ستة فيما زعم ابن الكلبيّ عن فروة بن سعيد الكنديّ.
وقال:
بليتُ وأَفنتني السنون وأَصبحت ... لداتي نجوم اللّيل والقمر والبدر
ثلاث مئين قد مررن كواملا ... فيا ليتني ثور لما صنع الدَّهرُ
قالوا: وعاش عوف بن الأَردم بن غالب دهرا طويلا، ثم أدرك الفجار وبعد ذلك، فيما زعم معروف بن الخرَّبوذ، وقال:
أَودى الشَّباب، وحبُّ الطَّلَّة الخبله ... وقد برئت فما في الصدر من قلبه
وقد تفلَّل أَنيابي وأَدركني ... قرن على شديد فاحش الغلبة
وقد رماني بركن لا كفاء له ... في المنكبين وفي الرجلين والرَّقبة
قال أبو حاتم، هذا الشعر للنَّمر بن تولب، أنشدنا الأصمعي: أَودى الشَّباب وحبُّ الخالة الخبله والخالة قوم ذوو خيلاء، قال الأصمعي:
وقد رمى بسراه اليوم معتمدا ... في المنكبين وفي الساقين والرَّقبة
السرى جمع سروة، وهو سهم صغير.
قالوا: وعاش الحارث بن التَّوأَم اليشكريّ دهرا في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام ولا يعقل، فقال فيما زعم الكلبيّ عن خراش:
زعمت تمامة أَنِّى قد سؤتُها ... ولقد أَنى لي أَن أَسوء وأَكبرا
إنَّ الكبير إذا يشاف رأيته ... مقرنشعا، وإذا يُهان استزمَرا
وإذا ترحَّل في الرَّعيَّة خلته ... كسلا، وعزَّ عليه أَن يتعذَّرا
وإذا تراءى القوم شخصا خاله ... شخصين، ثمَّت لم يكن هو أَبصرا
ولقد رأَيت أباك وهو وليُّه ... وأَباه شيخا من بنانه أَعسرا
يدعوا ببرد الماء وهو قصاره ... فإذا سقوه الماء مجَّ وغرعرا
قال: رأى أباها وهو صغير، ثم عُمرّ بعد، وقوله يشاف يُزيَّنُ، مُقرنشع نشيط حسن الهيئة، وإذا يهان استزمر أي قبّض، والزمر الشعر القليل.
قالوا: وعاش الجرنفش بن عبدة الطائي ثلاثين ومائة سنة، وقال:
إما تريني لا أُعين على النَّدى ... ولا أَنصر المولى كما كنت أَفعلُ
وأَصبحت أَعمى قاعدا متوكلا ... على الله، إنَّ المؤمن المتوكلُ
فحقُّ امرئ قد سار حتَّى تخرمَّت ... هنيدة حقَّا أَن ينبخ بمنزل
قالوا: وعاش سعنة بن سلامة بن الحارث بن امرئ القيس بن زهير بن جناب حتى كبر واختلط عقله، فترك الغزو بهم، وكان يظعن معه قومه إذا ظعن، ويقيمون إذا أقام.
فقال يذكر ما كان يصنع قومه:
قد عمرت زمانا ما يخالفني ... قومي، إذا قلت جدُّوا سيركم ساروا
وإن أَردتُ مقاما قال قائلهم ... يا سعنة الخير قد قرَّت بنا الدَّار
فإن بليت لقد طالت سلامتنا ... والدَّهر قدما له صرف وإصرار
قالوا: وعاش سنان بن وهب بن تيم الأردم بن غالب بن فهر دهرا طويلا فيما ذكروا عن معروف بن الخَّربوذ، وأنشأ يقول:
لقد عمِّرت حتَّى صرت كَّلا ... مقيما لا أَحُلُّ ولا أسيرا
وكيف بمن أَتت مائتان عام ... عليه أَن يكون له نكير
فإن يكن الشَّباب مضى حميدا ... وشيَّب لَّمتي الدَّهر الختور
عَمرتُ ببلدح عُمرا طويلا ... وليس ببلدح إلا الصخورُ
تأَذى بي الأقارب بعد أنس ... كأَنِّي فيهم فرخ شجير

فلم أَكُ نأنأ أُمَّ عَمرو ... إِذا نزلت بساحتي الأمور
قالوا: وعاش المجزم بن بكر بن عمرو بن عباد بن الارث بن سامة بن لؤي دهرا طويلا، وكان من دعاميص العرب، أي يهتدي للأمور الخفية الدقيقة ويحتال لها.
وقال باعث بن حويص بن زيد بن عمرو الطائيّ:
أَلا ليتني عُمرتُ يا أُمَّ حشرجكعمرِ أَخي نجران أَو عُمرِ مجزمِلقد عُمِّرا دهريهما في ربيلةوفي ظل عيش من لبوس ومطعم
وأَفناهما دهر طويل فأَصبحنا ... أَحاديث طسم أَو أَحاديث جُرهُم
حدثنا أبو حاتم قال، وذكر الكلبي عن رجل من قريش قال، كان رجل من بني عذرة قد طال عمره حتى كبر ابن ابن له، وكان عالما بقومه، وكان يُغشى للطعام والعلم؛ فشكا الدهر وتصرفه.
فقال له ابن ابنته: كم أتى لك يا جد؟ قال: لا أَحقُّ ذلك يا بني، ولكني عققت عن أبيك وأنا ابن ثلاث وتسعين، وعاش أبوك خمسا وثمانين، وقد مات منذ ثمانين.
فقال: لقد شكوت الدهر وما كان ينبغي لك أن تشكوه وقد بلغت هذا السن.
وأنشأ ابن ابنته يقول:
إن تكُ قد بليت فبعد قوم ... طوال العمر قد بادوا يقينا
فزادك في حياتك لا تضعه ... كأنَّك عند موتك قد أُتينا
فإنَّك إذا خلقت عبدا ... إلى أَجل تجيب إذا دُعيتا
مقدَّرة بعيشتك الليالي ... إذا وفِّيت عدَّتها فنيتا
كأَنَّك والخطوب لها سهام ... مقدَّرة بسهمك قد رميتا
أخبرنا أبو روق أحمد بن محمد بن بكر الهزَّاني قال، أخبرنا أبو حاتم قال، قال هشام، حدثنا بكار بن نافع اللؤلؤيّ قال، قال نصر بن الحجاج بن علاط السُّلميّ لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
إذا مت مات الجود وانقطع النَّدى ... من النَّاس إلا من قليل مصرَّدِ
وجفت أكف السائلين وأَمسكوا ... من الدِّنِ والدنيا بخلف مجدَّدِ
فلما سمع معاوية الشعر قال لابنه قرظة، وهي تبكي، اسمعي إلى مرثيتي وأنا حيّ قالوا: وعاش صَرم، ويقال صَومُ، بن مالك الحضرميّ قريبا من مائتي سنة فيما ذكروا عن سعيد بن عبد الجبار بن وائل الحضرمي.
وقال:
إن أَمسِ كلاَّ لا أُطاع فربما ... سُقت الكتائب مشرقا أَو مغربا
ولرُبَّ كبش كتيبة لا قيته ... فطعنته حتَّى أُوارى الثَّعلبا
أَجرزته رمحي فخرَّ لوجهه ... ما إن يجيب إذا دعا المستصحبا
في فتية من حضرموت أَعزَّة ... لا ينكلون إذا المنادي ثوِّبا
قال أبو حاتم، قال خالد بن سعيد عن أبيه قال، دخل أَدهم بن محرز الباهليّ أبو مالك بن أدهم على عبد الملك ورأسه كالثَّغامة، فقال، لو غيَّرت هذا الشَّيب.
فذهب فاختضب بسواد، ثم دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، قد قلت بيتا لم أقل بيتا قبله، ولا أراني أقول بعده.
قال: هات.
فأنشأ يقول:
ولمَّا رأَيتُ الشيب شينا لأهله ... تفتَّيتُ وابتعت الشَّباب بدرهم
قال أبو حاتم، وذكروا عن أبي مسكين قال: عُمِّر رجل من بليّ، يقال له النعمان، دهرا، فقال:
تهدَّلت العينان بعد طلاوة ... وبعد رضى، فأحسب الشَّخص راكبا
وأبعد ما أنكرت كي أستبينه ... فأعرفه وأنكر المتقاربا
حدثنا أبو حاتم قال، قال هشام وأخبرني غير واحد من تميم قالوا: كانت الإتاوة من مضر في الكبر والقعدد في النسب، فصارت إلى بني عمرو بن تميم، فزليها ربيعة بن عزيّ بن بزيّ الأسيديّ حتى جبي إتاوة مضر، فطال عمره، وهو أبو الحفّاد، وهو القائل: يا أبا الحفَّاد أفناك الكبر والإتاوة خراج كان عليهم.
قال: وقال أبو الحسن المدائني، أنشدني أبو الشَّمَّاخ بن الشِّمراخ الطائيّ:
ما بال شيخ قد تخدَّد لحمه ... أبلي ثلاث عمائم ألوانا
سوداء داجية وسحق مفوِّف ... وأجدَّ لونا بعد هجانا
ثمَّ الممات بعد ذلك كلِّه ... وكأنَّما يعني بذاك سوانا
قال: وكانت العمامة تلبس أربعين سنة فكأنه عاش عشرين سنة ومائة سنة.

وقال آخرون: إنما عني أنه كان شابا، وذلك قوله سوداء داجية، ثم أخلس وابيض بعض رأسه ولحيته، وذلك قوله، وسحق مفوّف، ثم عاد رأسه كأنه ثغامة، فذلك قوله وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا، والهجان البياض.
وزعم العمريّ عن عطا بن مصعب قال، حدثني عبيد بن أبان النُّميري قال، قدم فضالة بن زيد العدوانيّ على معاوية، فقال له معاوية: - كيف أنت والنِّساء يا فضالة؟ فقال: يا أمير المؤمنين،
لا باه لي إَّلا المنى وأخو المنى ... جدير بأن يلحي ابن حرب ويشتما
" الرواية، ولا قمط لي، والقمط الجماع، ومن قال باه فقد أخطأ، لأن الباءة ممدودة، وهي تاء في الإدراج " .
وفيم تصابي الشَّيخ والدَّهر دائب ... بمبراته يلحو عروقا وأعظما
رمتني صروف الدَّهر حتَّى تركننب ... أجبَّ السَّنام بعدما كنت أيهما
فخلت سهول الأرض وعثا ووعثها ... سهولا، وقد أجررت أن أتكلَّما
وكان سليطا مقولي متناذرا ... شذاه، فصرت اليوم ملعيِّ أبكما
كذلك ريب الدَّهر يترك سهمه ... أخا العزِّ والأدِّ الذَّليل المذمَّما
الأد الأيد ذو القوة " وملعيّ من العيّ " .
وحرب يحيد القوم عن لهباتها ... شهدت، فكنت المستشار المقدَّما
توسَّطتها بالسَّيف إذ هاب حميها ال ... كماة،فلم يغشوا من الحرب معظما
فلمَّا رأيت الموت ألقي بعاعه ... عليَّ تعمَّدت امرءا كان معلما
فيمَّمت سيفي رأسه وتركته ... يهرُّ عليه الذِّئب أفضح قشعما
نفدت فما لي حيلة غير أنَّني ... أجود إذا سيل البخيل فهمهما
وأبذل عفوا ما ملكت تكرُّما ... وأجبر في الَّلأواء كَّلا ومعدما
فقال له معاوية: كم أتت لك من سنة يا فضالة؟ قال: عشرون ومائة سنة.
قال: فأيّ الأشياء بك منذ كنت بها أسرَّ، وأي شيء بوقوعه كنت أشدُّ اكتئابا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم يقطع الظَّهر قطع الولد شيء، ولا دفع البلاء والمصائب مثل إفادة المال، والله يا أمير المؤمنين إن المال ليقع من القلب موقعا ما يقعه شيء، وإن الولد الصالح ليمثل منزلة المال، ولكن للمال فضيلة عليه، وإن كان طلب المال إنما يجمعه لولده، فإنه آثر عنده منه، لأنه قد يمنعه المال إذا طلبه منه، وإن كان يثّمره له فهو أحلى متاع الدنيا عند أهل الدنيا.
فقال معاوية: ليس كل أحد على رأيك، للمال حال، والولد حبَّة القلب ووتد النفس، وقطبة العيش، لا خير في المال لمن لا ولد له إلا أن يكون مالا ينفقه في سبيل الله.
فقال فضالة: يا أمير المؤمنين،
وما العيش إَّلا المال فاحفظ فضوله ... ولا تهلكنه في الضَّلال فتندم
فإنِّي وجدت المال عزَّا إذا التقت ... عليك ظلال الحرب ترهم بالدَّم
إذا جلَّ خطب صلت بالمال حيثما ... توجَّهت من أرضي فصيح وأعجم
وهابك أقوام وإن لم تصبهم ... بنفع، ومن يستغن يحمد ويكرم
وتعطي الَّذي يبغي وإن كان باخلا ... بما في يديه من متاع ودرهم
وفي الفقر ذلُّ للرِّقاب وقلَّ ما ... رأيت فقيرا غير نكس مذمَّم
يلام وإن كان الصَّواب بكفِّه ... ويحمد آلاءُ البخيل المدرهم
كذلك هذا الدَّهر يرفع ذا الغنى ... بلا كرم منه ولا بتحلُّم
ولكن بما حازت يداه من الغنى ... يصير أميرا للَّئيم الملطَّم
فقال معاوية: قاتل الله أخا بني أسيِّد حين يقول:
بني أمِّ المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدا سيِّد الأمر جحفلا
وهم لمقلّ المال أولاد علَّة ... وإن كان محضا في العمومة مخولا
حدثنا أبو حاتم قال: وذكر العمريّ قال، حدثني عطاء بن مصعب عن الزِّبرقان قال عطاء، سمعته أنا وخلف الأحمر منه، قال، دخل خنَّابة بن كعب العبشمي على معاوية حين أتَّسق له الأمر ببيعة يزيد ابنه، وقد أتت لخنَّابة يومئذ أربعون ومائة سنة.
فقال له معاوية: يا خنّابة، كيف نفسك اليوم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، أمتعني الله بك.
عليَّ لسان صارم إنّ هززته ... وركني صفيف والفؤاد موفَّر
كبرت وأفني الدَّهر حولي وقوَّتي ... فلم يبق إَّلا منطق ليس يهذر
وبين الحشا قلب كميٌّ مهذَّب ... متى ما يرى اليوم العشنزر يصبر
أهمُّ بأشياء كثير فتعتقي ... مشيَّة نفس، إنَّها ليس تقدر
تلعَّبت الأيَّام بي فتركنني ... أجبَّ السَّنام حائرا حين أنظر
أرى الشَّخص كالشَّخصين والشَّيخ مولع ... بقول أرى والله ما ليس يبصر
وقال خنابة لابنيه حين كبر، وحالا بينه وبين ماله:
ما أنا إن أحسنتما بي وحلتما ... عن العهد بالغرِّ الصَّغير فأخدع
جريت من الغايات تسعين حجَّة ... وخمسين حتَّى قيل أنت المقزَّع
المقزَّع المسوّد.
حدثنا أبو حاتم قال، قال الكلبيّ أخبرنا كعب الأسديّ، وكان معنا بخراسان قال، خبّرنا مروان بن الحكم قال، أُتي كعب بن ربيعة في منامه، فقيل له، كبر سنُّك، ورقّ عظمك، وحضر أجلك، فقل لولدك فليتمنّوا، فإنهم سيعطون أمانيهم.
فجمعهم، فقال: فلكل امرئ منكم أمنيته.
فقال الحريش: أتمّنى النَّعظ.
قال: فهم أنكح بني عامر.
وقال لقشير: تمنَّه.
فقال: اليقاء والجمال، فهم أجمل بني عامر، وأطولهم أعمارا، كان منهم ذو الرُّقيبة، كان في الجاهلية رجلا، ثم أدرك معاوية، ومعه ألف ظعينة، تقول هذه يا أبتاه، وهذه يا جدّاه، وهذه يا عمّاه؛ ومنهم حيدة أدرك الجاهلية، ثم أدرك بشر بن مروان، أو زمن أسد بن عبدالله بخراسان وهو عم ألف رجل وامرأة.
ثم قال لجعدة: تمنَّه.
فقال: اللبن والتَّمر، فهم أكثر بني عامر لبنا وتمرا.
ثم قال لعقيل: تمنَّه.
فقال: الإبل، فهم أكثر بني عامر لبنا وإبلا؛ ويقال، بل تمنَّى عقيل العدد والشِّدة، فليس في بني كعب بطن أشدّ ولا أعدّ من بني عقيل.
ثم قال لحبيب: تمنَّه.
قال: المحبّة من أخوتي، فكب بني كعب يتعطّف عليهم.
قالوا: وعاش أبو زبيد الطائي، وهو المنذر بن حرملة من بني حيّة خمسين ومائة سنة، وكان نصرانيا بالرقة فيما حدّث به الكلبيّ عن أبي محمد المرهبيّ، وكان يجعل له في كل أحد طعام كثير، ويهيَّأ له شراب كثير، ويذهب أصحابه يتفرّقون في البيعة، ويحملنه النساء فيضعنه في ذلك المجلس، فجعل له طعام في أحد من تلك الآحاد، وقدِّمت أباريقه وحملته النساء، فجاءه الموت، فقال:
إذا جعل المرءُ الَّذي كان حازما ... يحلُّ به حلَّ الحوار ويحمل
فليس له في العيش خيرٌ يريده ... وتكفينه ميتا أعفُّ وأجمل
أتاني رسولُ الموت يا مرحبا به ... لآتيه وسوف والله أفعل
ثم مات، فجاءه أصحابه، فوجوده ميِّتا.
وعاش الأغلب العجليّ عمرا طويلا، وقال:
إنَّ اللَّيالي أسرعت في نقضي ... أخذن بعضي وتركن بعضي
حنين طولي وحنين عرضي ... أقعدنني من بعد طول نهضي
قالوا: وقال أبو عامر رجل من أهل المدينة عن رجل من أهل البصرة، قال أبو حاتم، وحدّث به أبو الجنيد الضرير عن أشياخه قال، قال معاوية، إني لأُحبّ أن ألقي رجلا قد أتت عليه سنّ وقد رأى الناس يخبرنا عما رأى.
فقال بعض جلسائه: ذاك رجل بحضرموت.
فأرسل إليه، فأتى به، فقال له: ما اسمك؟ قال: أمد.
قال: ابن من؟ قال: ابن أبد.
قال: ما أتى عليك من السنّ؟ قال: ستون وثلاثمائة سنة.
قال: كذبت.
قال: ثم إن معاوية تشاغل عنه، ثم أقبل عليه، فقال: - ما اسمك؟ قال: أمد.
قال: ابن من؟ قال: ابن أبد.
قال: كم أتى عليك من السنّ؟ قال: ثلاثمائة وستون.
قال: فأخبرنا عمّا رأيت من الأزمان، أين زماننا هذا من ذلك؟ قال: وكيف تسأل من تكذِّب؟ قال: إني ما كذَّبتك، ولكني أحببت أن أعلم كيف عقلك.
قال: يوم شبيه بيوم، وليلة شبيهة بليلة، يموت ميّت، ويولد مولود، فلولا من يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.
قال: فأخبرني هل رأيت هاشما؟ قال: نعم، رأيته طُوالا، حسن الوجه، يقال، إن بين عينيه بركة أو غرَّة بركة.
قال: فهل رأيت أميَّة؟

قال: نعم، رأيته رجلا قصيرا أعمى، يقال إن في وجهه لشرَّا أو شؤماً.
قال: أفرأيت محمداً عليه السلام؟ قال: ومن محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ويحك، أفلا فخَّمت كما فخَّمه الله تعالى؟ فقلت رسول الله.
قال: فأخبرني، ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلا تاجرا.
قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيبا، ولا أردّ ربحا.
قال معاوية: سلني.
قال: أسالك أن تدخلني الجنة.
قال، ليس ذاك بيدي، ولا أقدر عليه.
قال: لا أرى بيدك شيئا من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة، فردَّني من حيث جئت بي.
قال: أما هذه فنعم.
قال: ثم أقبل معاوية على أصحابه فقال: لقد أصبح هذا زاهداً فيما أنتم فيه راغبون.
قالوا: وعاش القلمَّس، وهو أمية بن عوف، دهرا طويلا، وهو من حكماء العرب، وكان جده الحارث بن كندة، وهو الذي يقوم بفناء البيت ويخطب العرب، وكانت العرب لا تصدر حتى يخطبها ويوصيها، فقال: " يا معشر العرب، أطيعوني ترشدوا " .
قالوا: وما ذاك؟ قال: " إنكم قوم تفرَّدتم بآلهة شّتى، وإني لأعلم ما الله بكل هذا براض، وإن كان ربَّ هذه الآلهة، إنه ليحبّ أن يعبد وحده " .
فنفرت العرب عنه ذلك العام، ولم يسمعوا له موعظة.
فلما حجّ من قابل اجتمعوا إليه، وهم مزورُّون عنه، فقال: " مالكم أيها الناس كأنكم تخشون مثل مقالتي عاما أول، إني والله لو كان الله تعالى أمرني بما قلت لكم ما أعتبتكم ولا استعتبت، ولكنه رأى مني، فإذا أبيتم فأنتم أبصر، أوصيكم بخصلتين، الدّين والحسب، فأما الدين فلَّله، ومن أعطيتموه عهدا ففوا له، ومن أعطاكم عهدا فارعوا عهده حتى تردّوه إليه؛ فأما الحسب فبذل النَّوال " .
فلما حضرته الوفاة حضره أشراف قومه من كنانة، ومات بمكة، فقالوا: قل نسمع، ومرنا نطِع، وأوصنا نقبل، وزوِّدنا منك زاداً نذكرك.
فقال: " أوصيكم بأحسابكم فإنها مقدم وافدكم، وشرفكم في محافلكم، وكفاف وجوهكم، وعنى معدمكم؛ وأوصيكم بالسائل إن كان منكم أن يسأل غيركم؛ وإن كان من سواكم وتيمّمكم فلا تخطُّنَّه ما رجا فيكم، واستوصوا بذوي أسنانكم خيرا، أجملوا مخاطبتهم، وقدّموهم أمامكم، وزيِّنوا بهم مجالسكم، وأوصيكم ببيوت الشرف فيكم، أقيموا لهم شرفهم، ولا تنزعوا الرئاسة منهم حتى لا تجدوا لها منهم أهلا، وأوصيكم بالحرب، إن ظفرتم بقوم فابقوا فيهم، فإنه حسب لكم، ويد عند عدوِّكم، فإنّ من ظفرتم به فهو ظافر بكم لا بدّ، وهو عامل فيكم بما عملتم به فيه، فلا تقتلن أسيرا فإنه ذحل عندكم ومصيبة فيكم، وإنما هو مال من مالكم، وإن الأسراء تجارة من تجارات العرب فلا تسألنّ أسيركم فوق ما عنده فيموت في أيديكم، فلا يستأسر بعده أحدٌ بكم، وأكثروا العتاقة في أسراء العرب، ودعوا العرب ترجوكم وتستبقيكم.
وأوصيكم بالضيف، فإنّ كًّلا إذا قال لم يسمع منه حتى يقول الضيف، فلا يخرجنَّ من عندكم وهو يستطيع أن يقول فيكم، وأوصيكم بالجيران فأكرموهم، فلا تغشوا منازلهم، وليصحبهم ذوو أسنانكم، وامنعوا فتيانكم صحابتهم، وأوصيكم بالخفراء خيرا فلا تغرِّموهم في غرمكم، وأغرموا في غرمهم فإنّهم عدّة لكم، يعينونكم ما داموا فيكم، وينقصونكم إذا فارقوكم ويعينون عليكم إذا خرجوا من عندكم، وأوصيكم بأياماكم خيرا، شدّوا حجبهن، وانكحوهن أكفاءهن، وأيسروا الصداق فيما بينكم، تنفق أياماكم ويكثر نسلكم، فإن نكحتم في العرب فاختاروا لكم ذوات العفاف والحسان أخلاقا، فإنكم لما يكون منهم أحمد من غيركم، وإنهم راءُون فيمن بقي من نسائكم مثل ما رأوا فيمن جاءهم منهنّ، وإذا نكحتم الغريبة " يعني المرأة من غيركم " فأعلوا صداقها، وتزوّجوا في أشراف القوام، ثم أكرموا مثوى صاحبتهم ما كانت فيكم، ولا تحرموها إذا انصرفت إلى قومها مالها، واصرفوها على أحسن حالاتها، لا تنقصوها من شيء يكون لها، فإن كريمة القوم إذا رجعت إليهم قليلا متاعها ظاهرة حاجتها غير راجعة فيكم غيرها.
وأوصيكم بالصِّلة، فإنها تديم الألفة وتسرّ الأسرة، وأحذِّركم القطيعة فإنها تورث الضغينة، وتفرِّق الجماعة، وإياكم والعجلة فإنها رأس السَّفه " .
قالوا: وعاش عمرو بن قمئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة تسعين سنة، وقال:
يا لهف نفسي على الشَّباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما

قد كنت في منعة أسرُّ بها ... أمنع ضيمي وأهبط العصما
وأسحب الرَّبط والبرود إلى ... أدنى تجاري وأنفض اللِّمما
وقال حين مضت له تسعون حجّة، وهي قصيدة:
كأنِّي وقد جاوزت تسعين حجَّة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدَّهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمي وليس برام
فلو أنَّها نبل إذن لاتقَّيتها ... ولكنَّما أرمي بغير سهام
إذا ما رآني النَّاس قالوا ألم تكن ... حديثا جديد البزِّ غير كهام
فأفنى وما أفنى من الدَّهر ليلة ... ولم يغن ما أفنيت سلك نظام
على الرَّاحتين مرَّة وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثا بعدهنَّ قيامي
وأهلكني تأميل يوم وليلة ... وتأميل عام بعد ذاك وعام
قالوا: وعاش ذو الإصبع العدوانيّ، وهو حرثان بن محرّث من عدوان ابن عمرو بن قيس بن عيلان ثلاثمائة سنة، وقال:
أصبحت شيخا أرى الشَّخصين أربعة ... والشَّخص شخصين لمَّا مسَّني الكبر
لا أسمع الصَّوت حتَّى أستدير له ... ليلا وإن هو ناغاني به القمر
وإنما قال ليلا لأن الأصوات هادئة، فإذا لم يسمع بالليل والأصوات ساكنة كان من أن يسمع بالنهار مع ضجَّة الناس ولغطهم أبعد.
كتاب الوصايا عن أبي حاتم " وأولى الوصايا " أخبرنا أبو روق قال، قال أبو حاتم قالوا، وكان ملك من ملوك اليمن يقال له، الحارث بن عمرو الكندي، بلغه عن ابنه لعوف الكندي جمال وكمال، وهو الذي يقال له: لا أحد يشبه عوفا جمالا وكمالا؛ فبعث إلى امرأة من قومها، يقال لها عصام، فقال: إنه بلغني عن بنت عوف جمال وكمال، فاذهبي، فاعلمي لي علمها.
فانطلقت حتى دخلت على أمها، وهي أمامة بنت الحارث، فأخبرتها خبر ما جاءت له، وإذا أمها كأنها خاذل من الظباء، وحولها بنات لها، كأنهن شوادن الغزلان.
فأرسلت إلى ابنتها، فقالت: يا بنيّة، إن هذه خالتك، أتتك لتنظر إلى بعض شأنك، فاخرجي إليها، ولا تستتري عنها بسيئ، وناطقيها فيما استنطقك فيه.
فدخلت عليها، ثم خرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع.
فأرسلها مثلا.
فلما جاءت إلى الحارث قال: ما وراءك يا عصام؟ قالت: أيها الملك، صرّح " المخض " عن الزبد.
فأرسلها مثلا.
ثم قالت: أقول حقا، وأخبرك صدقا، لقد رأيت وجها كالمرآة الصينية، يزينّه حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، قد تقّوسا على مثل عيني الظبية العبهرة، التي لم تر قانصا، ولم تذعرها قسورة، تبهتان المتوسم إذا فتحهما، بينهما أنف كحدّ السيف المصقول، ولم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفّت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شقِّق فيه فم لذيذ الملتئم، فيه ثنايا غرّ، وأسنان كالدر، ذات أشر، ينطق فيه لسان، ذو فصاحة وبيان، يحركه عقل وافر، وجزاب حاضر، تلتقي دون شفتان حمَّاوان، كأنهما في لين الزبد، تحمىن ريقا كالشُّهد، نصب على ذلك عنق أبيض، كأنه إبريق فضة.
لها صدر كصدر التمثال، مدت منه عضدان مدمجتان، ممتلئتان لحما، مكتنزتان شحما، متصلة بهما ذراعان، ما فيهما عظم يمسّ، ولا عرق يجسّ، متصلة بهما كفان، رقيق قصبهما، تعقد إن شئت منهما الأنامل، وتركّب الفصوص في حفر المفاصل، نتأ في ذلك الصدر ثديان، يخرقان عنها أحيانا ثيابها، ويمنعانها من أن تقلد سخابا، أسفل من ذلك بطن طوى كطي القباطي المدمجة، كُسِىَ عُكَنا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العكن بسرَّة كمدهن العاج، لها ظهر فيه كالجدول، ينتهي إلى خصر، لولا رحمة ربك لا نبتر، لها كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص من الرمل، لبَّده سقوط الطلّ، أسفل من ذلك فخذان لفَّاوان، كأنما نصبتا على نضد جمان، متصلة بهما ساقان بيضاوان خدلَّجتان، قد وشيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزَّرد، يحمل ذلك كله قدمان، كحذو اللسان " تبارك الله " مع لطافتهما، كيف يطيقان حمل ما فوقهما؟ وأما ما سوى ذلك فإني تركت نعته، ووصفه، لدقّته، إلا أنه كأكمل وأحسن وأجمل ما وصف في شعر أو قول.

قال: فبعث إلى أبيها فخطبها إليه، فزوّجها إياه، فبعث إليها من الصداق بمثل مهور نساء الملوك، بمائة ألف درهم، وألف من الإبل.
فلما حان أن تحمل إليه دخلت إليها أمها لتوصيها.
فقالت: " أي بنيّة، إن الوصية لو تركت لعقل وأدب، أو مكرمة في حسب لتركت ذلك منك، ولزويته عنك، ولكن الوصية تذكرة للعاقل، ومنبهة للغافل.
أي بنية، إنه لو استغنت المرأة بغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عن الزوج، ولكن للرجال خلق النساء، كما لهن خلق الرجال.
أي بنية، إنك قد فارقت الحِواء الذي منه خرجت، والوكر الذي منه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك ملكا، فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي عني خصالا عشرا، تكن لك دركا وذكرا؛ فأما الأولى والثانية فالمعاشرة له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وحسن السمع والطاعة رأفة الرب؛ وأما الثالثة والرابعة فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا طيب الريح؛ واعلمي، أي بنيّة، أن الماء أطيب الطيب المفقود، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود.
وأما الخامسة والسادسة فالتَّعهد لوقت وطعامه، والهدوّ عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النَّومة مغضبة؛ وأما السابعة والثامنة فللاحتفاظ بماله والرعاية على حشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير، والرعاية على الحشم والعيال من حسن التدبير؛ وأما التاسعة والعاشرة فلا تفشي له سرا، ولا تعصي له أمرا، فإنك إن أفشيت سرّه لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
واتّقي الفرح لديه إذا كان ترحا، والاكتئاب عنده إذا كان فرحا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي إلى ذلك منه حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك فيهما أحببت وكرهت.
والله يخير لك، ويصنع لك برحمته.
قال: فلما حملت إليه غلبت على أمره، وولدت منه سبعة أملاك، ملكوا من بعده.
قالوا: وأوصي زرارة بن عُدُس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم، أنه جمع بنيه وبني بنيه فقال: يا بنيّ، إنكم قد أصبحتم بيت تميم، بل بيت مُضر، يا بنيّ، ما هجمت على قوم قطُّ من العرب لا يعرفونني إلا أحلُّوني، فإذا نسبوني ازددت عندهم شرفا، وفي أعينهم عظما، ولا وفدت إلى ملك إلا آثرني وشفعني، خذوا من أدبي، واثبتوا عند أمري، واحفظوا وصيتي.
" إياكم أن تدخلوا عليّ في قبري حوبة أسبّ بها...
" كذا قال أبو حاتم، حوبة، وليس لها ههنا معنى، وينبغي أن تكون خربة، وهي المنقصة، أو خزّية، والحوبة الخالة، وقال قوم هي الأمُّ " .
... فوالله ما شايعتني نفسي قط على إتيان ريبة، ولا عمل بفاحشة، ولا ضمّني وعاهرة سقف بيت قط، ولا حسّنت لي نفسي الغدر منذ شدّت يداي مئزري، ولا فارقني جار على قلي، ولا حملني هواي على أمر يعييني في مضر.
يا بني، إن القالة إليكم سريعة، فاتقوا الله في الليل إذا أظلم، وفي النهار إذا انتشر يكفكم ما أهمّكم، وإياكم وشرب الخمر، فإنها مفسدة للعقول والأجساد، ذهّابة بالطريف والتلاد.
يا بني، زوّجوا النساء الأكفاء، وإلا فانتظروا بهنّ القضاء.
يا بني، قد أدركت سفيان بن مجاشع بن دارم شيخا كبيرا محجوبا، فأخبرني أنه قد حان خروج نبي بمكّة من مضر، يقال له، أحمد، عليه السلام، يدعو إلى عبادة الله، فإن أدركتموه فاتبعوه، تزدادوا بذلك شرفا إلى شرفكم، وعزَّا إلى عزّكم، إنه ليس فيكم سقط رجل واحد، ولا تمنَّيتكم أنِّي بدِّلتكم بعدَّتكم من العرب، ولولا عجلة لقيط إلى الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث لشرّفته عليكم، وهو بعد فارس مضر، وعليكم بحاجب، فإنه حليم عند الغضب، فرّاج للكرب، يجود إذا طلب إليه، ذو رأي لا ينكش، وزمَّاع لا يفحش، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، جنَّبكم الله الردى.
" لا ينكش لا يستقصي ما فيه، يقال: نكشت البئر أي أخرجت ما فيها، والزَّمّاع العزم، لا يفحش أي لا ينتقص " .
قالوا: وأوصي سعد العشيرة بنيه لما حضرته الوفاة، فقال:

" يا بني، اتقّوا إلهكم بالليل والنهار، وإيّاكم وما يدعو إلى الاعتذار، ودعوا قفو المحصنات تسلم لكم الأمهات، وإياكم والبغي على قومكم تعمر لكم الساحات، ودعوا المراء والخصام تسلم لكم المروءة والأحلام، تحبَّبوا إلى العشائر تهبكم العمائر، وجودوا بالنوال تنم لكم الأموال، وإياكم ونكاح الورهاء فإنها أدوأ الداء، وأبعدوا من جار السوء داركم، ومن قرين الغيّ مزاركم، ودعوا الضغائن فإنها تدعو إلى التباين، ولا تكونوا لآبائكم ضرَّارا، حيّاكم ربكم، وسدّد أمركم " .
قالوا: وجمع الحارث بن كعب بنيه حين حضرته الوفاة، فقال: " يا بني، عليكم بهذا المال فاطلبوه أَجمل الطلب، ثم اصرفوه في أجمل مذهب، فصلوا به الأرحام، واصطنعوا منه الأقوام، واجعلوه جنة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم، فإن بذلة تمام الشرف، وثبات المروءة، وإنه ليسود غير اليد، ويؤيّد غير الأيَّد حتى يكون عند الناس نبيلا نبيها، وفي أعينهم مهيبا؛ ومن اكتسب مالا فلم يصل به رحما، ولم يعط منه سائلا، ولم يصن به عرضا بحث الناس عن أصله، فإن كان مدخولا هرتوه وهتكوه، وإن لم يكن مدخولا ألزموه ودبّيه، واكسبوه عرقا لئيما حتى يهجّنوه به " .
وقال لابنه أشعت، وهو يوصيه:
أَبنيّ أَباك يوما هالك ... فاحفظ أباك رياسة وتقلُّبا
وإِذا لقيت كتيبة فتقدَّما ... إِن المُقدَّم لا يكون الأَخيبا
تلقى الرياسة أو تموت بطعنة ... والموت يأتي من نأَى وتجنَّبا
قالوا: دعا المنذر ابنه النعمان، وهو غلام شاب، فقال: " يا بنيّ، إن لي فيك رأيا دون غيرك من لدي، فإني آمرك بما أمرني به والدي، وأنهاني عما نهاني عنه والدي، آمرك بالذلّ في عرضك، وذلك أن تكون ذلولا بالمعروف، وعليك بالانخداع في مالك، وأُحبُّ لك خلوة اللّيل وطول السَّمر، وأكره لك إخلاف الصديق، واطّراف المعرفة، واتهاك عن ملاحاة الحلماء ومواح السفهاء، إن لك عقلا وجمالا ولسانا، فاكتس من ثناء الناس ما يؤيد جمالك، ودع الكلام وأنت عليه قادر، وليكن لك من عقلك خبئ تدَّخره أبدا ليوم حاجتك.
ثم قال:
إنَّ ظنِّي بمن أَمرتُ بأَمري ... حسنَ إن أَعانت الأذنان
باستماع وما ظفرت بشيء ... إن نبا مقولي عن النعمان
قد تفرَّست في بنيّ وفيه ... فإذا الأمر ليس بالمتداني
فلئن تمّ ما أُؤَمل فيه ... ما له في بني الملوك مدان
وله ألظُّ في الجمال وفي العقل ... وحظّ من مهلة ولسان
قالوا: وأوصى مالك بن المنذر البجلي بنيه، وكان قد أصاب دما في قومه، فخرج هاربا بأهله حتى أتى بهم بني هلال، فلما احتضر أوصى بنيه، وأمرهم أن يعطوا قومه النِّف من حدثه الذي أَحدثه فيهم، وقال: " يا بني، قد أتت عليّ ستون ومائة سنة ما صافحت بيميني يمين غادر، ولا قنعت نفسي بخلّة فاجر، ولا صبوت بابنه عم لي ولا كنَّة، ولا طرحت عندي مومسة قناعها، ولا بحثُ لصديق لي بسرِّي، وإني لعلي دين شعيب النسبي، صلى الله عليه وسلم، وما عليه أحد من العرب غيري، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مرّ، فاحفظوا وصيتي، وموتوا على شريعتي، إلهكم فاتقوه يكفكم المهم من أموركم، ويصلح لكم أعمالكم، وإياكم ومعصيته، ولا يحل بكم الدمار، وتوحش منكم الديار.
يا بني، كونوا جميعا، ولا تفرقوا، فتكونوا شيعا، فإنّ موتا في عزّ خير من حياة في ذلٍّ وعجز، وكلُّ ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، الدهر صرفان، فصرف رخاء، وصرف بلاء، واليوم يومان، فيوم حبره، ويوم عبره، والناس رجلان، فرجل معك، ورجل عليك، وزوّجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهنّ الماء، وتجنّبوا الحمقاء، فإن ولدها إلى أفن ما يكون، إنه لا راحة لقاطع " يعني القرابة " .
وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوّهم، وآفة العدد اختلاف الكلمة، التفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة بالسيئة الدخول فيها، العمل بالسوء يزيل النعماء، وقطيعة الرحم تورث إلمام الهمّ، وانتهاك الحرمة تزيل النعمة، عقوق الوالدين يعقب النكد، ويمحق العدد، ويخرب البلد، النصيحة لا تهجم على الفضيحة، احتمال الحقد يمنع الرِّفد، لزوم الخطية يعقب البلية، سوء الرِّعة يقطع أسباب المنفعة، الضغائن تدعو إلى التبايم.
ثم قال:

أكلت شبابي فأفنيته ... وأمضيت بعد دهور دهورا
ثلاثة أهلين صاحبتهم ... فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا
قليل الطَّعام، عسير القيا ... م، قد ترك الدَّهر قيدي قصيرا
أبيت أراعي نجوم السَّما ... ءِ، أقلِّب أمري، بطونا ظهورا
قالوا: وأوصي عمرو بن الغوث بن طيء ولده، وهم: ثعل، ونبهان، وبنوهم؛ وكان عمرو قد عاش حتى كبر ولده، فقال: " يا بني، إنكم قد حللتم محلاّ تخرجون منه ولا يدخل عليكم فيه، فارعوا مرعى الضَّبّ الأعور، يرى جحره، ويعرف قدره، ولا تكونوا كالجراد، يأكل ما وجد ويأكله ما وجده؛ وإيّاكم والبغي، فإن الله إذا أراد هلاك النملة جعل لها جناحين؛ يا بني، لا تستحيوا من منع من لا يستحي من المسألة، وكلوا من الكعام وأطعموه، ولا يستحي أحدكم أن يفعل شيئا ينتفع به إذا لم يعرف، فإنه إنما يستحي حينئذ لغيره، وابدءوا الناس بالشر فإنه أشكر لخيركم وإن كان قليلا، ولا تمنعكم الكثرة أن تربعوا على أقداركم، والله يحوطكم " .
قالوا: وأوصي قيس بن معد يكرب ولده، فقال: " باسمك اللهم، احفظوا أدبي يكفكم، واتَّبعوا وصاتي تلحقوا بصالح قومكم ويستعل أمركم، إنِّي أكلكم إلى أدبي، وإن المعنيّ بكم لغائب " يعني نفسه " ، الزموا ما يجمل، واقنوا حياءكم، وأطيعوا ذوي رأيكم، وأجلُّوا ذوي أسنانكم، ولا تعطوا الدنّية، وإن كان الصبر على خطَّة الضَّيم أبقي لكم، وتناصروا تكونوا حمى، وإذا نزلتم على قومكم فلتكن محلّتكم واحدة، واهدروا الحسد يقطع عنكم النائرة، ودعوا المكافأة بالشر يحببكم الناس، وعفّوا عن الدناءة وأكرموا أهل الكفاءة، ولا تواكلوا الترافد والرياسة فيحلّ عطبكم، واتخذوا لأسراركم من علانيتكم حجابا، ولا تدبروا أعجاز ما قد أدبرت صدوره، ولا تقيَّلوا الرأي بالظن فيبدع بكم، والزموا الأناة يفز قدحكم، وأطيلوا الصمت إلا فيما يعنيكم، ولا تأخذوا ختلا، وخذوا صراحا، فهناك عزّ القرار، ومنعة الجار، واظعنوا في الأرض تبلغوا مأمنكم، ولا تعرضوا لنمائم النساء، وإياكم والغدر فإنه أحلَّني دار الغربة، واعتبروا " .
قالوا: وجمع أود بن صعب بن سعد بنيه، فقال: " يا بني، أخيفوا الناس ولا تخافوهم، واستخبروهم، ولا تخبروهم، وبئس موضع السر المرأة، وكونوا من الموتورين على حذر، وإذا دفعتم عن حقكم فاطلبوا أكثر منه، وإذا بخع لكم فاقتصروا عليه " .
قالوا: وأوصى عبقر بن أنمار البجليّ فقال: " يا بني، إذا غدوتم فبكِّروا، وإذا رحتم فهجِّروا، وإذا أكلتم فأوتروا، وإذا شربتم فأنبروا، وأبيحوا ما يؤكل فإن منعه ألأمُ اللُّؤم " .
" قال أبو حاتم: النبز الهمز، وإنما شّبهه بالصوت الذي تسمعه من الحلق إذا جرى الماء فيه " .
قالوا: وجمع صعب بن سعد بنيه عند موته، فقال: " يا بني، أوسعوا الحبا، وحلُّوا الربا، وكونوا أسى تكونوا حمى " .
" قال أبو حاتم، يقول، إذا احتبى أحدكم فليوسع الحبوة ولا ينقبض، أراد لتعظم همة أحدكم ولا تصغر؛ وقوله، وحلوا الربا، يعني، انزلوا المرتفعات من الأرض لترى نيرانكم فتقصدكم الأضياف، وقوله، وكونوا أسى، أي لتكن كلمتكم واحدة، وهو من الأسوة، أي لا تختلفوا، فيطمع فيكم أعداؤكم، ولكن، كونوا أسوة، بعضكم بعضا، تكونوا حمى، أي حرزا، لا يطمع فيكم " .
قالوا: وأوصى مالك بن عمرو الكلبيّ فقال: " يا بنيّ، عليكم بتقوى الله، وصلة الرَّحم، وأداء الأمانة، ورعاية الحق، والوفاء بالعهد، وإياكم ومعصية الله وقطيعة الرحم، فإنه لا يسلم على الضغائن الكبير، ولا يصلح عليها الصغير، وصونوا أنفسكم بالدَّعة وبذل المعروف، وكفُّوها عن سوء الرَّعة في الأمور، وإن أقبح ذلك ما كان في المطمع؛ واهجروا البغي فإنه مثبور، وتجنّبوا العجب فإنه ممقتة، ولا تقصروا عن طاعة أمرائكم، ولا توجهوا الأمور دونهم، فإنهم إن يشاركوكم فيها يكمل رأيكم، والتمسوا المحامد في مظانَّها، ولا يمنعكم من طلب المعاش اليأس، فإن أبواببه أكثر من أن يبلغها الظانُّ، استكثروا من الإبل يكثر تبعكم، ولا تضيعوا رباطكم فيهدم حصنكم، وإذا لقيتم العدو فاصبروأ، فإن في الصبر النجاة والدَّرك للتراث، وألزموا النساء البيوت، وخافوهنّ على أسراركم، واجتمعوا ولا تفرقوا، واحذروا الغدر فإنه نقمة، وليحيكم ربُّكم " .

قالوا: وأوصى جابر بن مالك الكلبي بنيه وقومه، فقال: " يا معشر العمائر المنتظرة للفناء والمنقطعة من الأصل، أوصيكم برهبة الله، وصلة الرحم، والفظ للعهد، والمباعدة لأهل الغدر وأهل الذكر للمعاير، وعليكم باحياء المناقب، وقد ترون المنايا تتبعها الرزايا، ولا تواكلوا النصر فتنكبوا، ولا تخاذلوا فتذلّوا، واجهدوا أبدانكم اليوم لراحتّها غدا، ولا تكنوها بالدَّعة فتحسر عند الاجتهاد، ولا تختلفوا فبخسِّر كيدكم، واحجبوا الكرائم، وتجنبوا الملاوم، وكلُّ ما يعتذر منه خطيئئة، ولتطب أنفسكم عن الدنيا، وبالصبر تدفع العظائم، ليحيكم المديل للأمم " .
قالوا: وأوصى هبيرة بن صخر الكلبيّ، ثم الغامديّ، فقال: " يا بنيّ ويا عشيرتاه، أوصيكم بتقوى الله والصبر على المضض، ففيه الفوز، لا فوز القسيّ، حافظوا على الحرم، فإن الهلاك في الغفلة عنها، والفشل في التخاذل، غيظوا العدو بإظهار السرور وإبداع الأمور، واذكروا المجامع والمواسم يأمن سربكم، فإن المحافظة أمن، وإنما المعسكر لمن صبر، وليحيّكم ربكم " .
قالوا: وأوصى الأحوص الكلبي ثم من بني عبدودٍّ، فقال: " يا عشيرتاه، إن الرأي الرأي اليوم، أوصيكم بشكر ذي النعمة، والغيرة على الحرم، والتمسك بالحسب، ولا ترضوا بالدنّية، ففيها البليّة وضياع العلم، وذهاب المهج، الموت في الغدر خير من الحياة في القسر، والفرج مع الصبر، وليحيِّكم ربكم.
قالوا: وأوصى عمرو بن يزيد الكلبيّ بنيه، فقال: " أوصيكم بتقوى الله، وبرّ الرحم، والحفظ للعيال، والإحراز للحرم، ولا تحاسدوا فتذلّوا، ولا تواكلوا فتفشلوا، تعاطفوا يصلب عودكم، وتقاربوا، وتحابّوا يظهر حزمكم، وأقلّوا المنطق ترهبوا، وتساخوا الفعال، وأميتوا الضغائن تحمدوا العواقب، واستعينوا على محاربة عدوكم بذكر المعاير، والهرب منها كرم، والتخوف لها جهاد، أزيلوا عنكم نيّة البغي، وألزوما قلوبكم الإنصاف وعزيمة العفو تنصروا، ولتكن أعلامكم ذوي الرأس منكم، وأنزلوهم منزلة الآباء في التقليد والإنفاذ لأمرهم، فإن أعظم مصائب القوم خلاف الشَّفيق المصيب، وطاعة المصيب ظفر، واتباعه يمن، وإذا حاربتم قوما فأطيلوا مواقفتهم، وتأمّلوا فيهم الفرصة، وإن أمكنكم البيات ففيه الظفر بعدوكم، وإن منحوكم أكتافهم فوسِّعوا عليهم المسرب، ونهنهوا عن لجم المذاكي، وعند تلك فأحبوا فراقهم، فإن العافية لمن اعتصم بها، ليرعكم ربُّكم " .
قالوا: وأوصى زهير بن جناب فقال: " يا بنيّ، قد كبرت سنِّي، وبلغت حرسا " يعني دهرا من عمري " وأحكمتني التجارب، والأمور تجربة واختبار، فاحفظوا عني ما أقول، وعوه، إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب، فإن ذلك داعية للغمّ، وشماتة لعدو، وسوء الظنّ بالربّ، وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترّين، ولها آمنين، ومنها ساخرين، فإنه والله ما سخر امرؤ قط إلا ابتلى، ولكن استعفوا منها، وتوقّعوها؛ فإنما الإنسان في الدنيا غرض، تعاوره الرماة، فمقصّر دونه، ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لابدّ أنه مصيبه " .
قالوا: وأوصى رياح بن ربيعة بنيه عند موته فقال: " يا بنيّ، سوِّدوا أعقلكم، فإن أمير القوم إذا لم يكن عاقلا كان آفة لمن دونه، وجودوا على قومكم، وإياكم والبخل، فإنه داء، ونعم الدواء السخاء، والتغافل فعل الكرام، والصمت جماع الحلم، والصدق في بعض المواطن عجز، واستعينوا على من لا تقوون عليه بالجموع، واعلموا أن سيِّد القوم أشقاهم، وإياكم والمنّ، فإنه مهدمة للصنيعة " .
قالوا: وأوصى الأفوه الأوديّ فقال:

" عليكم بتقوى الله وصلة الرحم، وحسن التعزِّي عن الدنيا بالصبر، والنظر فيما حزبكم لما بعده تفلحوا، وتفقّدوا حالاتكم بالمعرفة لحقوق أعلامكم فإنهم بكم عزُّوا، وأنتم بهم أعزّ منكم بغيرهم، كونوا من الفتن على حذر، ولا تأمنوا على أحسابكم السفهاء، ولا تشركوهم في سرّكم، فإنهم كالضأن في رعيتها، كلامهم ذعر، وفعلهم عسر، لا يستحيون من دناءة، ولا يراقبون محرما، ولا يغضبنّ منكم امرؤ لسفيه على ابن عمه وإن وزعه، ولا تطمئنوا إلى أجسامهم، واستوحشوا من عقولهم، ولا تثقوا بناحيتهم، وإن حاربتم فاتخذوهم حشوا فيما بينكم، فإن النظر قبل اللقّاء حزم، ولا حزم بعد الندامة، فإذا اقتادكم امرؤ فوقِّروه بالإجلال والمناصحة تبلغوا بذلك من العدو، وتنالوا به المحامد، فإن لغد أمرا، والأيام دُوَل، فتأهّبوا، وتصنّعوا لحلولها.
ثم قال: أما بعد، فإن التجربة علم، والأدب عون، والكفّ عن ذلك مضرّة، وليكن جلساؤكم أهل المروءة والطلب لها، وإياكم ومجالسة الأشرار، فإنها تعقب الضغائن، والرفض لهم من أسباب الخير، والحلم محجزة عن الغيظ، والفحش من العيّ، والغيّ مهدمة للبناء " يعني المعالي " ، ومن خير ما ظفرت به الرجال اللسان الحسن " اللسان ههنا الثناء " - قال الله عز وجل (لسان صدق في الآخرين).
وفي ترك المراءِ راحة للبدن، فلينظر كل رجل منكم إلى جهته، فإن العجب كبر، والكبر قائد إلى البغض، واشنأوا البغي، فإنه المرعى الوخيم، واستصلحوا الخلل، وتحاموا الذُّلّ، اللهم عليك بأهل الحسد للنعم " .
وقال الأقوه:
لنا معاشر لن يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
لا يرعوون ولن يرعوا لمرشدهم ... والغيُّ منهم معا والجهل ميعاد
كانوا كمثل لقيم في عشيرتهم ... إذ أهلكت بالَّذي قدَّموا عاد
أو بعده كقدار حين طاوعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
والبيت لا يبتني إلاَّ له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمَّع أقوام ذوو حسب ... تصطاد أمرهم، فارُّشد مصطاد
لا يصلح النَّاس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا
إذا تولّى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم وازدادوا
تهدي الأمور بأهل الرَّأي ما صلحت ... فإن تولَّت فبالأشرار تنقاد
أمارة الغيِّ أن تلقي الجميع لدى ال ... إبرام للأمر للأذناب ينقاد
كيف الرَّشاد إذا ما كنت في نفر ... لهم عن الرُّشد أغلال وأقياد
أعطوا غواتهم جهلا مقاءَتهم ... فكلهم في حبال الغيِّ منقاد
أخف الرَّحيل إلى قوم وإن بعدوا ... فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد
فسوف أجعل بعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحم منكم وميلاد
إنَّ النَّجاة إذا ما كنت ذا بصر ... مراجع الغيِّ أبعاد فأبعاد
والخير تزداد منه ما بقيت به ... والشرُّ يكفيك منه قلَّ ما زاد
قالوا: وأوصى حصن بن حذيفة بن بدر الفزاريّ بنيه، وكان سبب موته أن كرز بن عامر العقيليّ طعنه، وكان له بنون عشرة، فأوصاهم عند موته، واشتد به مرضه، فقال: - الموت أروح مما أنا فيه، فإياكم يطيعني؟ قالوا: كلُّنا لك مطيع.
فبدأ بأكبرهم، فقال: خذ سيفي هذا، فضعه على صدري، ثم اتّكئ عليه حتى يخرج من ظهري.
فقال: يا أبتاه، وهل يقتل الرجل أباه؟ فعدل عنه إلى ولده، كلّهم يقول مقالة الأول، حتى انتهى إلى عُيينة، فقال: - يا أبتاه، أليس لك فيما تأمرني به سلوى وراحة، ولك مني فيه طاعة؟ قال: بلى.
قال: فمرني كيف أصنع.
قال حصن: ألق السيف يا بنيّ، فإني أردت أن أبلوكم فأعرف أطوعكم لي في حياتي، فهو أطوعكم لي بعد وفاتي، فاذهب فأنت سيّد ولدي من بعدي، ولك رياستي.
فجمع بني بدر، فأعلمهم بذلك، ثم قال:

" اسمعوا ما أوصيكم به، لا يتَّكلنّ آخركم على فعال أوّلكم، فإن الذي يدرك به الأول حجة على الآخر، وانكحوا الكفيء من العرب فإنه عزّ حادث، وإذا حاربتم فأوقعوا، وقولوا واصدقوا، فإنه لا خير في الكذب، وصونوا الخيل فإنها حصون الرجال، وأطيلوا الرماح فإنها قرون الخيل، واغزوا الكثير بالكثير، وبذلك كنت أغلب، ولا تغزوا إلا بالعيون " يعني بالأشراف " ، ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح، وعجّلوا القرى فإن خيره أعجله، وأعظوا على حسب المال، فإنه أبقى لكم، ولا تحسدوا من ليس مثلكم، فإنما يحسد القوم أمثالهم، ولا تحكروا على الملوك فإن أيديهم أطول من أيديكم، ولا تأمنوا صرعات البغي، ونضحات الغدر، وفلتات المزاح، واقتلوا " كرز بن عامر " فإنه قتلني " .
فمات.
فقام عُيينة بالرياسة، وقتل كرزا، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المؤلَّفة قلوبهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون: هذا الأحمق في دينه، المطاع في قومه.
قالوا: وأوصى مضرّس بن ربعيّ ابنه فقال: " يا بنيّ، إن الأسف مرض، والطمع لؤم، واليأس عجز، فاسل عما فات، واحرص فيما تستقبل، وفكِّر ثم قدِّر، ثم احضر " .
وقال:
لا تهلكنَّ النفَّس لوما وحسرة ... على الشَّيء سدَّاه لغيرك قادره
فلا تيأسا من صالح أن تناله ... وإن كان شيئا بين أيد تبادره
وما فات فاتركه إذا عزَّ واصطبر ... على الدَّهر إن دارت عليك دوائره
ولا تظلم المولى ولا تضع العصا ... على الجهل إن طارت عليك دوائره
قالوا: وأوصى أبو قيس بن صرمة فقال: " لا تنكلوا عن العدو، ولا تبخلوا عن الصديق، وجازوا ذا النعمة، وتمسّكوا بحرمة الجار، وتبادلوا، وقدّموا أهل العيّ، وأوفوا بالعهد، وإياكم والبغي، فإنه أقوى سلاح عدوكم " .
وأنشد:
يقول أبو قيس وأصبح غادبا ... ألا ما استطعتم من وصاني فافعلوا
أوصيكم بالله والبرِّ والتُّقى ... وأعراضكم، والبرُّ بالله أوَّل
وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السَّيادة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدَّواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فابذلوا
وإن طلبوا عرفا فلا تحرموهم ... وإن كان فضل العرف فيهم فافضلوا
وإن أنتم أعوزتم فتعفَّفوا ... وما حمَّلوكم في النَّوائب فاحملوا
قالوا: وأوصى الحارث بن الحكم آكل الذراع بنيه، فقال: " يا بنيّ، لا تبكوا على الزمان فإنه لا يزداد على رجل على السن من أهله قربا إلا ازدادوا منه بعدا، استأنوا العشيرة، ولا تمشوا بينها بالنميمة، وكونوا لقومكم أتباعا، وإيّاكم والبغي، فإنه آخر مدة القوم، وجازوا بالحسنة، ولا تكافئوا بالسيئة ولا تردّوا الكرامة، ولا تبغوا، غنيتم وبقيتم " قوله هذا دعاء لهم " .
قالوا: لما حضر الحطيئة الوفاة قيل له، أوصِه.
قال: ويل للشِّعر من راوية السوء.
قيل: أوصه.
قال: أخبروا آل شمَّاخ بن ضرار أنه أشعر العرب.
قالوا: أوصه.
قال: بماذا؟ قالوا: في مالك، فإنه كثير.
قال: هو لذكور ولدي دون النساء.
قالوا: ليس كذلك قال الله عز وجل.
قال: لكن أنا أقوله.
قالوا: أوصه.
قال: بماذا؟ قالوا: عبدك هذا قد طالت صحبته.
قال: اشهدوا أنه عبد ما بقى على الأرض عبسيٌّ.
ثم قال: احملوني على حمار، فإنه بلغني أن الكريم لا يموت على حمار.
فحمل عليه، فمات.
وصية قيس بن عاصم المنقريّ بنيه، قال: " أوصيكم بتقوى الله عز وجل، وسوِّدوا أكبركم، فإن القوم إذا سوَّدوا أكبرهم لم يفقدوا أباهم، وضعوا كرائمكم في أعقابكم، وتزوّجوا في مثل ذلك، فإنكم إذا فعلتم مثل ذلك خلفتم أباكم، وعليكم بطلب المال واصطناعه، فإن المال منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الرجال، فإنها آخر كسب المرء، ولا يعلمنّ بمدفني بكر بن وائل، فإني كنت أغاورهم في الجاهلية، وكانت بيني وبينهم خماشات، فأخاف أن يفتنوكم في دينكم، أو يدخلوا عليكم غضاضة، ولا تنوحوا عليّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم سنح عليه " .
قالوا: وأوصى عوف بن كنانة الكلبيّ بنيه، فقال:

" يا بنيّ، احفظوا وصيتي، فإنها أنصح الجبلة لكم، وإن أنتم حفظتموها سدتم قومكم بعدي، إلهكم فاتقّوه، ولا تخونوا، ولا تستثيروا السباع في مرابضها فتندموا، وجازوا الناس بالكف عن مساوئهم تسلموا، ونصحّوا وخفُّوا عند نائبتهم، ولا تستبطئو في حق، والزموا الصمت إلا من حق تحمدوا، وابذلو التحية تسلم لكم الصدور، ولا تظانَّو بالمنافع فتباغضو، واستتروا من العامّة تجلَّوا، ولا تكثرو مجالس الناس فيستخف بكم، ولا تزايلوهم فتعادوا، وإن نزلت معضلة فاصبروا، وأَلبسوا الهر أثوابه، فإن لسان الصدق مع المسكنة خير من لسان السوء مع الميسرة، وذلُّو لمن ذلّ لكم فإن أقرب الوسائل المودّة، ولا تعلموا الناس أَقتاركم فتهونوا عليهم، ويجمّلوا تنجبوا، وإياكم والعزبة فإنها ذلّة، ولا تضعوا الكرائم إلا عند الأكفاء، وابتغوا لأنفسكم المعالي، ولا يخلجنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن مناكحة الكرام مدارج الشرف، واخضعوا لقومكم، ولا تبغوا عليهم، ولا تخالفوهم فيما اجتمعوا عليه، فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع، وليكن معروفكم بعدهم في غيرهم، ولا توحشوا أفنيتكم من أهلها، فإن إيحاشها إخماد الناس ودفع الحقوق، وأذكوا النار، وأحيوا الحقوق، ولا تبذلوا الوجوه إلى غير مكرميها فتكلحوها، وتحشوها الدناءة، وتقصروا بها، ولا تحاسدوا فتبورا.
والتمسوا بالتودد المنازل عند الولاة، فإنهم من وضعوا أفرد، ومن رفعوا أنجد، وابتنوا المباني بالأدب ومصافاة أهل الحبا، وابتاعوا المحبة بالجود، واجتنبوا البخل، ووقِّروا ذوي الفضيلة، وخذوا عن أهل التجارب، ولا تحتقروا الرجال من غير خبرة؛ وإنما المرء بذكاء قلبه وتعبير لسانه، وإذا خوِّفتم داهية فتثبتوا قبل العجلة، ولا يمنعنكم من المعروف صغر قدره، فإن له ثوابا، ولا تعفِّروا الأقدام إلا لأخطارها، وتنبَّلوا تسمُ اليكم الأبصار، وارفضوا النمائم بينكم تسلموا، وكونوا أنجاد عند الملمات تعّوا، واحذروا النجعة التي في المنعة.
وأكرموا الجار، وآثروا حق الضيف، وألزموا السفهاء الحلم تقلّ همومكم، وإياكم والحرص فإنه من أسباب المتالف، واتخذوا الزهد جنة تسترح أبدانكم، وإياكم والفرقة فإنها ذلّ، ولا تكلفوا أنفسكم فوق طاقتها فتعجزوا، فلأن تلاموا وبكم قوة خير من أن تعانوا بالعجز، وعليك بالجد فإنّ به يمنع الضيم، وإياكم والتفريط فيه يكون الخلل، ولا أجدبتم أبدا، ولا غلبتم - أو - قال - ولا خذلتم.
حدثنا أبو حاتم قال: وذكر بعض أهل العلم أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى سليمان الكلبي، وكان رجلا جامعا للأدب فاضلا، ذا رأى.
قال سليمان: فدخلت عليه، وهو في غرفة له، قد علا نفسي. وانتفخ سحري، فسلمت عليه، فردّ عليّ، وأضرب عني حتى سكن جأشي، ثم قال لي: - يا سليمان، قد بلغني عنك ما أحب، وإذا بلغني عن أحد من رعيتي مثل الذي بلغني عنك أسرعت إليه بما يحب، واستعنت به على مهم أمري، وإن محمد ابن أمير المؤمنين بالمكان الذي بلغك، وهو جلدة ما بين عيني، وإني أرجو أن يبلِّغ الله به أفضل ما بلّغ بأحد من أهل بيته، وقد ولاك أمير المؤمنين تأديبه وتعليمه، وماله، والنظر فيما يصلح الله به أمره، فعليك بتقوى الله، وأداء الأمانة فيه، فإنك تقصد فيه بخصال، لو لم تكن إلا واحدة كنت قمنا ألاّ تضيّعها، فكيف إذا اجتمعت؟ أما أولها فإنك مؤتمن عليه، وحقّ لك أداء الأمانة فيه؛ وأما الثانية فأنا إمام ترجوني، وتخافني؛ وأما الثالثة فكلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتفعت معه، ففي هذا ما يرغبّك فيما أوصيك به، فادخل عليه في خاصّة أهل القرآن، وذوي الأسنان، فإنك منهم بين خصلتين، إما أن يسمع منهم كلاما فيعيه ويحفظه فيكون لك صونه وذكره، وإما أن يراهم الناس يخرجون من عنده فيرون أنكم على مثل ما هم عليه.
ولا تدخل عليه الفسّاق ولا شربة الخمر، فإنك منهم بين خصلتين، إما أن يسمع منهم كلاما قبيحا فيعيه ويحفظه ويأخذ به فتريد تحويله عن ذلك فلا تقدر عليه، وإما أن يراهم الناس يخرجون من عندكم فيرون أنكم على مثل ما هم عليه.

وانظر إذا سمعت منه الكلمة العوراء فلا تؤنبه بها فتمحِّكه، ولكن احفظها عليه، فإذا قام من مجلسه فانقله إلى ما هو أحسن منه؛ وإذا سمعت منه الكلمة المعجبة ففطِّن القوم لها، فإنهم عسى ألا يكونوا فهموها وفهمتها باهتمامك بها، حتى يقوموا وقد سمعوا منه كلاما حسنا، ويروونه عنه، ويرفعونه به.
وإذا حضر الناس أبوابكم فعجلوا إذنهم، ثم ليحسن بشركم بهم، وأطيبوا للناس طعامهم، فإذا فرغوا من الغذاء والعشاء فمن أحب أقام للحديث من قبل نفسه، ومن أحب انصرف إلى أهله، فإن للناس حوائج عند زيارتكم، وإذا أعطيتم أهل القرآن وحملة العلم وأهل الفضل فإنكم تؤجرون على إعطائهم إلا أن يكون في سبب النجدة أو وسيلة، فإنكم ملوك، والناس سوق، وإنما تسودون الناس ويطأون أعقابكم ببارع الفضل ولين الجناح.
قال الشاعر:
فإنَّك لن ترى طردا لحرّ ... كإلصاق به بعض الهوان
ولم تجلب مودَّة ذي وفاء ... بمثل البذل أو لطف اللِّسان
وخذه بعلم نسبه في العرب حتى لا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، وعلّمه منازل القمر، وأنواع الخطب، ومواضع الكلام، ومعرفة الجواب.
وإن هو احتبس عن تأديبه ومروّاته فادخل عليه، وإن كان من أهله في لحافه حتى تجرّ برجله إلى ما ينفعه الله به، وإياك أن تكتم عليه، فيؤدي ذلك إليّ غيرك، فأنزل لك عما يسرُّك إلى ما يضرُّك، ولا يخرجنَّ إلا معتمَّا، ولا يركبنّ محذوفا، ولا مهلوبا، ولا يعقدن له ذنب دابة إلا من لثق، ولا يركبنّ سرجا صغيرا فتبدو منه أليتاه كفعل الفسّاق، ولا يسيرنّ متلفِّتا ولا طامحا.
فخذه بهذه الخصال، وزده من عندك ما استطعت، فإني سأقيس عقله اليوم وبعد اليوم، فإن رأيته قد ازداد خيرا إلى ما كان عليه رؤي فضل أمير المؤمنين عليك، وإن كانت الأخرى فلا تلم إلا نفسك.
وقد أجريت عليك ألف درهم في كل شهر، سوى كسوتك وجتئزتك.
قالوا: وأوصى أبجر بن جابر العجليّ فقال: " يا بنيّ، إن سرّكم طول البقاء وحسن الثناء والنِّكاية في الأعداء، فإذا استقبلتم الخميس فاستقبلوهم بوجوهكم، وإياكم أن تمنحوهم أكتافكم فتطعنوا بالرماح في أدباركم، فإن أمثل القوم بقيّة الصابر عند نزول الحقائق.
وحدثنا الرياشيّ عن الأصمعي قال: قال أبجر العجليّ لابنه حجّار لما أراد الإسلام: إذا قدمت المصر فاستكثر من الصديق، فإنك على العدو قادر، وإياك والخطب فإنها نشوار كثير العثار.
قال أبو حاتم، وكان البذّال أبو العلاء، وهو من بني مازن بن عمرو بن تميم مرض، فقالوا: كيف تجدك؟ فقال: أجدني مغفورا.
قالوا: يا أبا العلاء، أوص.
قال: بما أوصي؟ ثم قال:
يا ابني حريث ارفعا وسادي ... واستوصيا بالجلَّة التِّلاد
فإنَّما حولكم الأعادي ثم قال: ما لكما عندي وصية غير هذا.
" وابنا حريث ابنا أخيه " .
وصية شبث بن ربعيّ وأوصى شبث بن ربعيّ فقال: هذا ما أوصى به شبت بم ربعي، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجواد في الجنة، وأن البخيل في النار.
انظروا ابنتي فلا تزوّجوها إلا كريما، ولا تدفنوني عند مقابر بني طهيَّة.
وصية وكيع بن أبي سود قال: وأوصى وكيع بن أبي سود، وكان أحمق الناس، وأظهر " هم " موقا، فقال: " يا بنيّ، إنيّ لو قد هلكت أتاكم قوم قد شمَّروا ثيابهم، وحلقوا شواربهم، وعفّروا جباههم، فقالوا، إن لنا على أبيكم دينا فاقضوا دين أبيكم، إلا وإنّ قبل أبيكم تبعات إن يغفرها الله له فالدّين أهون مما هنالك، وإن تكن الأخرى فلا يهلكنّ أبوكم وتذهب أموالكم " .
وصية ابن الأهتم قال لما ثقل ابن الأهتم أظهر ماله ودعا بنيه، فقال: " يا بنيّ، دُونكم، فقد كفيتكم كدَّه، وصفا لكم ما اشتهيتم منه، وإنما جمعته لنبوة الزمان، وجفوة السلطان، ومباهاة العشيرة، وأيم الله لوددت أنه كان بين صلعي حمار بالفلاة، أو بقراء مقحل " .
وصية المهلب قال: ولما حضرت المهلب الوفاة جمع بنيه فقال:

" أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن تقوى الله تعقب الجنة، وإن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتثري المال وتجمع الشَّمل، وتكثر العدد، وتعمر الدار، وتعزّ الجانب، وأنهاكم عن معصية الله وقطيعة الرحم فإن معصية الله تعقب النار، وإن قطيعة الرحم تورث القلّة والذُّلة، وتفرق الجمع، وتدع الدار بلا قِع، وتطمع العدو، وتبدي العورة.
يا بنيّ، قومكم، قومكم، إنه ليس لكم فضل عليهم، بل هم أفضل منكم، إذ فضلَّوكم وسوَّدوكم، ووطئو أعقابكم، وبلغوا حاجتكم فيما أردتم، فلهم بذلك حقّ عليكم وبلاء عندكم، ولا تؤدُّون شكره، ولا تقومون بحقه، فإذا طلبوا فأطلبوهم، وإذا سألوا فأعطوهم، وإن لم يسألوا فابتدأوهم، وإن شمتوا فاحتملوا لهم، وإن غشوا أبوابكم فلتفتح لهم، ولا تغلق دونهم.
يا بنيّ، أني أحب للرجل منكم أن يكون لفعله الفضل على لسانه، وأكره أن يكون للسانه الفضل على فعله.
يا بنيَّ، اتقوا الجواب وزلّة اللسان، فإني رأيت الرجل يعثر قدمه فيقوم من زلته، فينتعش منها سويا، ويزل لسانه فيوفيه وتكون فيه هلكته، يا بنيّ، إذا غدا عليكم رجل وراح فكفى بذلك مسألة وتذكرة بنفسه، يا بني، ثيابكم على غيركم أجمل منها عليكم، ودوابُّكم تحت غيركم أجمل منها تحتكم، يا بني، أَحيوا المعروف وافعلوه، واكرهوا المنكر واجتنبوه، وآثروا الجود على البخل، واصطنعوا العرب وأكرموهم، فإن العربي تعده العدة فيموت دونك، ويشكر لك، فكيف بالصنيعة إذا وصلت إليه في احتمالها وشكرها، والوفاء منها لصاحبها؟.
يا بنيّ، سوِّدوا أكابركم وأعزّوا ذوي أسنانكم تعظموا بذلك، وارحموا صغيركم، وقرِّبوه، وأَلطفوه، وأجيروا يتيمكم، وجودوا عليه بما قدرتم، وخذوا على أيدي سفهائكم، وتعهدوا جيرانكم وفقراءكم بما قدرتم عليه، واصبروا للحقوق، واحذروا عار عدوّكم عليكم في الحرب بالأناة والتؤدة في اللقاء، وعليكم بالتماس الخديعة في الحرب لعدوّكم، وإياكم والنزَّق والعجلة، فإن لمكيدة والأناة والخديعة أنفع من الشجاعة.
واعلموا أن القتال والمكيدة مع الصبر، فإذا كان القضاء عند اللقاء، فإن ظفر امرؤ وأخذ بالحزم قال العاقل: قد أتى الأمر من وجه، وإن لم يظفر قال: ما ضيّع ولا فرّط، ولكن القضاء غالب، فالزموا الحزم على أي الحالين وقع الأمر، والزموا الطاعة والجماعة، وإياكم والخلاف وفراق الجماعة، تواطأوا، وتوازروا، وتواصلوا، وتعاطفوا فإن ذلك يثبت المودة، وتحابّوا، وخذوا فيما أوصيكم به بالجدّ والقيام به تظفروا بدنياكم ما كنتم فيها وآخرتكم إذا صرتم إليها، ولا قوة إلا بالله، وليكن أول ما تبدءون به أنفسكم إذا أصبحتم، تعلموا االقرآن والسنن والفرائض، تأدبوا بأدب الصالحين من قبلكم، من سلفكم الصالح، ولا تقاعدوا أهل الدَّعارة والريبة، ولا تخالطوهم، ولا يطمعن في ذلك منكم، وإياكم والخفّة في مجالسكم وكثرة الكلام، فإنه لا يسلم منه صاحبه، وأدُّوا حق الله عليكم فإني قد أبلغت إليكم الوصية، واتخذت لله عليكم الحجة " .
قال: وتوفِّى الملّب رحمه الله تعالى بمو الروذ بخراسان، فقال نهار بن توسعة:
ألا ذهب الغزو المقرَّب للغنى ... ومات النَّدى والحزم بعد المهلَّب
أَقام بمرو الرُّوذ رهن ثوابه ... وقد غيِّبنا عن كلِّ شرق ومغرب
قالو: ثم ولى بعده قتيبة بن مسلم الباهليّ، فدخل عليه نهار بن توسعة، فقال له قتيبة: - أأنت القائل في المهلب، ألا ذهب الغزو؟ فقال: أنا الذي أقول:
ما كان مذ كنَّا ولا كان قبلنا ... ولا هو فينا كائن كابن مسلمِ
أَعمَّ لأهل الشَّرك قتلا بسيفه ... وأقسم فينا مغنما بعد مغنم
فقال: إن شئت فأقلل، وإن شئت فأكثر، والله لا تصيب منى خيرا، يا غلام، حلِّق على اسمه.
ولزم منزله حتى ولى يزيد بن المهلب خراسان، فأتاه نهار، فدخل عليه، وأنشأ يقول:
إِن يكُ ذنبي يا قتيبة أَنَّني ... بكيت امرأً في المجد قد كان أَوحدا
أَبا كلِّ مظلوم ومن لا أبا له ... وغيث مغياث أَطلعن التَّلدُّدا
رفشأنك، إِنَّ اله إِن سؤت محسن إِليَّ إِذا أَبقى يزيدا وخلدا فقال له: احتكم.
قال: مائة ألف.
فأعطاه مائة ألف درهم.

ويقال: إن مخلد بن يزيد بن المهلب هو الذي أعطاه، لأن أباه قد كان قدَّمه خليفة على خراسان، فكان يقول بعد موت مخلد: رحم الله مخلدا، ما ترك لي بعده من قول.
قالوا: وقدم قيس بن زهير على النَّمر بن قاسط بعد الهباءة ليقيم فيهم، فقال: يا معشر النمر، أنا قيس بن زهير، غريب، حريب، فانظروا إلى امرأة قد أذلها الفقرر وأدّبها الغنى، لها حسب وجمال، فزوِّجونها.
فنظروا له امرأة على ما وصف، يقال لها " ظبية " ابنة الكّيس النمريّ.
فقال لهم: إني ل أقيم فيكم، إني فخور غيور آنف، ولعّلني أن لا أغار حتى أرى، ولا أفخر حتى أسمع، ولا آنف حتى أظلم.
فأقام حتى ولد له غلام، فسماه " خليفة " ثم بدا له أن يرتحل عنهم، فقال لهم: " إن لكم عيّ حقا، وإني أوصيكم بخصال فاحفظوها، عليكم بالأَناة فإن بها تنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء، فإن يعيش الناس، وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل القسر، وإجلرة الجار على الدهر، وتنفيس المنازل عن بيوت الأيامى، وخلط الضيف بالعيال.
وأنهاكم عن الرِّهان فإني به أَثكلت مالكا، وعن البغي فإنه صرع زهيرا، وعن السرف في الدماء، فإنّ قتل أهل الهباءة ألزمني العار، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، ولا تبيتوا بعراص الغدر، وإياكم وعورات الناس، ولا تردّوا النساء عن الأَكفاء فإن لم تصيبوا الأكفاء فإن خير أزواجهن القبر، واعلموا أني أصبحت ظالما مظلوما، ظلمني بنو بدر بقتل مالك، فقتلت من لا ذنب له.
ثم قال:
إنَّ يوم الهباءة أَورثني الذُّلَّ ... فأصبحت ظالما مظلوما
كان ظلمي قتل سراة بني بدر ... فأصبحت بعدهم مرحوما
فخضبت السَّنان من ثغر القوم ... وكانوا للنَّاظرين نجوما
كان ثاري لمالك بن زهير ... واحدا كان فيهم معلوما
فقتلت الجميع من حذر الثكل ... لقد كنت في الدِّماء نهوما
كان ظلمي، وكان ظلمهم أَمس ... عظيما ورأيهم موصوما
لطم القوم داحسا حذر السَّبق ... لقد كان داحس مشئوما
ظلمونا بقتلنا وظلمنا ... معشرا كان يومهم محتوما
إِنَّ للنمر في إِجارتها الجار ... وأَمن الطَّريد حظَّا عظيما
يأمن الجار فيهم وترى وسطهم ... ذا خئولة معموما
يملأ الدَّلو قبل دلو أَخي النمر ... وما حوض جارهم مهدوما
وصية مجاشع ذكروا أن مجاشع بن شريف، أو مخاسن بن معاوية بن شريف قل في حرب النعمان بن الشُّقيقة: " يا بني تميم، أقلُّ الناس رحمة الملوك، إن الملوك ينككِّلون بالشقيّ السعيد، ومنجاة من ناوأ الملوك الصبر وكتمان السرّ، وأول الظفر الاجتماع، وأول البلاء الفشل، وآفة الكرم جوار اللئام، وقد غلب على الكرم من سبق إليه، احفظوا ألسنتكم يعمِ عدوكم كيدكم، إنه من كتم سره عمى كيده على عدوه " .
وصية أسيد بن أوس ذكروا أن أُسيد بن أوس انطلق إلى الحارث بن الهبولة الغساني، وكان أسيد أخا معاوية بن شريف لأمه، وأمها ماويّة بنت الرضا البارقي، يستمده في حرب ابن الشقيقة، فلما قدم عليه قال: " إنما يوثق في الشدّة بذي القرابة، وبصفاء الإخوان، وبصدق أهل الوفاء، إن خير السجيّة ما لم يتكلّف، وخير الأعوان على البخل السخاء، والعفو منتهى البرّ، الزم البرَّ يبرُّك بنوك، أَخِّر الغضب وادفع بالإناة، وآخر الدواء الكيّ، وخير الثواب الشكر، وخطل القول غواية، ومنتهى البرّ الهوى، والصدق تمام المروءة، والكذب يفسد الفعال، وتصرّف الأحوال بغيرّ الرجال، وأغنى الخصال عن المادة العفاف، وخير السِّيرة العفو، وترك العقوبة يسلُّ السَّخيمة " .
وصية صيفي بن رياح ذكروا أت صيفي بن رياح أبا أكثم بن صيفي قال: " سلطانك على أخيك على كل حال، فإذا أخذ السيف فلا سلطان لك عليه، وكفى بالمشرفية واعظا، وترك الفخر أبقى للثناء، وأسرع الجرم عقوبة البغى، وشر النَّصرة التعديّ، واَلأم الأخلاق أضيفها، ومن سوء الأدب كثرة العتاب، واقرع الأرض بالعصا " . فذهبت مثلا.
وصية أبي جهم بن حذيفة العدويّ

قال أبو حاتم، وحدثنا الثِّقة عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير اللخمي قال: جاء أبو جهم بن حذيفة العدويّ، وهو يومئذ ابن مائة سنة إلى مجلس اقريش فأوسعوا له عن صدر المجلس " وقائل يقول، بل كان عروة بن الزبير " .
فقال أبو الجهم: يا بني أخي، أنتم خير لكبيركم من مهرة لكبيرهم.
قالوا: وما شن مهرة وكبيرهم؟ قال: كان الرجل منهم إذا أسنّ وضعف أتاه ابنه أو ولُّه فعقله بعقال، ثم قال: قم. فإن استتَّم قائما، وإلاّ حمله إلى مجلس لهم يجري على أحدهم فيه رزقه حتى يموت، فجاء شابّ منهم إلى أبيه، ففعل ذلك به، فلم يستتم قائما، فحمله، فقال: يا بنيَّ، أين تذهب بي؟ فقال: إلى سنَّة آباك. فقال: يا بني، لا تفعل، فوالله لقد كنت تمشي خلفي فما أخلِّفُك، وأُماشيك فما أَبذُّك " أي أسبقك " ، وأسقيك الدُّواية " يعني اللبن " قائما.
وكانت العرب إذا أُسقى الغلام اللبن قائما كان أسرع لشبابه.
فقال: لا جرم، لا أذهب بك.
فاتخذته مهرة سنَّة.
وصية أبي الأسود الدؤلي وأوصى أبو الأسود الدؤلي ابنته ليلة البناء بها فقال: " يا بنية، كان النساء أحق بأدبك مني، ولكن لا بد لي منه، يا بنية، إن أطيب الطيب الماء، وأحسن الحسن الحسن الدُّهن، وأحلى الحلاوة الكُحل، يا بنية، لا تكثري مباشرة زوجك فيملَّك، ولا تباعدي عنه فيجفوك، ويعتل عليك، وكوني كما قلت لأمّك: خذي العفو كمُّي تستديمي موَّدتي ولا تنطقي في سورتي حين أَغضب
فإنِّي رأَيت الحبَّ في الصَّدر والأذى ... إذا اجتمعتا لم يلبث الحبُّ يذهب
وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا: أوصى أبو بكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، فقال: " أن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل، إنه لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، فإنه إنما ثقلت موازينه يوم القيامة باتِّباعهم الحقَّ، وثقله عليهم؛ ويحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة اتّباعهم الباطل في الدنيا وخفَّته عليهم، ويحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا؛ إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئهم، فإذا ذكرتهم قلت إني أخاف ألا أكون من هؤلاء، وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وتجاوز عن حسنهم، فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون العبد راغبا راهبا لا يتمنى على الله غير الحق، ولا يلقى بيديه إلى التهلكة، فإن حفظت وصيتي فلا يكوننّ غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجِزِه.
قالوا: وقال ابن داب، قالت أسماء بنت عميس: دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنهما في اليوم الذي قُبض فيه.
فقال: يا عمر، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت أُثرته إيّانا على أهله، ووالله إن كنا لنرسل إليهم من فضله ما يأتينا منه، وصحبتي ورأيتي، والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فشبِّه لي، وإني لعلى بصرة من رأى.
يا عمر، إن أول ما أحذرك به نفسك، فإن لكل نفس شهوة، فإذا أجابتها إليها دعتها إلى ما هو أعظم منها، وأحذِّرك هؤلاء الرهط من المهاجرين، فإني قد رأيتهم طمحت أبصارهم، ونفخت أجوافهم، وتمنى كل امرئ منهم لنفسه، فاحملهم على الطريق الواضح يكفوك أنفسهم، واعلم أنهم لن يزالوا لك هايبين ما هِبتَ الله عزّ وجل، فَرِقين منك ما فرقت منه.
هذه وصيتي إياك، وأَقرأ عليك السلام.
وصية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وذكروا عن قطر بن خليفة وغيره أن عمر بن الخطاب دعا عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فقال: " أي بُنيّ، إذا قام الخليفة بعدي فائته، فقل له، إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرئك السلام، ويوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، ويوصيك بالمهاجرين والأنصار، أن تقبل من محسنهم، وتتجاوز عن مسيئتهم، ويوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم غيظ العدوّ وجباة الفيء، لا تحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، ويوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن تأخذ من حواشي أموالهم فيردَّ غلى فقرائهم، ويوصيك بأهل الذمّة خيرا، أن تقاتل من ورائهم ولا يكلَّفوا فوق طاقتهم.
وصية علي بن أبي طالب، رضي الله عنه

قال أبو حاتم، وحدوثونا عن أبي مخنف قال، حدثني عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال، دخلت على بن أبي طالب، رضي الله عنه، أسأل به لّما ضربه ابن ملجم، فقمت قائما، ولم أجلس لمكان ابنته، دخلت وهي مستترة، فدعا علي الحسن والحسين، رضوان الله عليهم، فقال: " أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء منها زوى عنكما، قولا الحق، وارحما اليتيم، وأَعينا الضائع، وأَضيفا الجائع، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا، ولا تأخذكما في الله لومة لائم.
ثم نظر إلى ابن الحنفية، فقال: - هل فهمت ما أوصيت به أَخويك؟ قال: نعم.
قال: أوصيك بمثله، وأَوصيك بتوقير أخويك، وتزيين أمرهما، ولا تقطع أمرا دونهما.
وقال لها: أوصيكما به، فإنه شقيقكما، وابن أبيكما، وقد علمتما أن أباكما كان يحبّه، فأحبّاه.
وذكر آخرون عن إبراهيم بن أيوب الأسدي قال: حدثني عمرو بن شمر عن جابر الجعفيّ عن محمد بن عليّ قال: أوصى عليّ الحسن بن هلي رضي الله عنهم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إل الله، وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمرت، وأنا أول المسلمين.
وإني أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه هذا بتقوى الله ربَّكم، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، فإني سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عام الصيام والصلاة، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهونّ عليكم الحساب، والله الله في الأيتام، فلا تغيّرنّ أفواههم بحضرتكم، والله، الله في الضَّعيفَّين، فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: أوصيكم بالضعيفين خيرا.
والله، الله في القرآن فلا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله، الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم، والله، الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم عنكم، والله الله في صيام رمضان فإن في صيامه جنَّة لكم من النار، والله، الله في الحج فإن بيت الله إذا خلا لم تناظروا، والله، الله في الفقراء والمساكين، فشاركوهم في معايشكم وأموالكم.
عليكم يا بنيّ بالبر والتواصل والتَّبارّ، وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، وتعاونوا على البّر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيَّكم، صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو حاتم قال: وأخبرونا أن ابن ملجم خطب امرأة، وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ذكروا أنه قتل أخاها، فقالت: - أتزوجك على ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقتل علي بن أبي طالب.
فقال: لك الثلاثة آلاف، والعبد، والقينة.
فأبى أن يقتل لها عليّا.
فقالت: والله، لا أُنكحك نفسي.
ثم جاد لها بعد بقتله.
فخرج، فضربه بسيفه في رأسه، فقتله، فقُتل.
ثم أتى به دار المرأة، فأشرفت وهم يحرقونه. فقالت:
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وقتل عليّ بالحسام المصمَّم
فلا مهرَ أَغلى من عليّ وإن غلا ... ولا فتك إِلاَّ دون فتك ابن مُلجم
قال: فلما غيَّبه الحسن بن علي، رضى الله عنهما، صعد المنبر، فجعل يريد الكلام، فتخنقه العبرة.
" قال رجل: فرأيته كذلك وأنا في أصل المنبر أنظر إليه، وكنت من أَنزر الناس دمعه، ما أقدر أن أبكي من شيء، فلما رأيت الحسن يريد الكلام، وتحنقه العبرة " صرت بعد من أغزر الناس دمعة، ما أشاء أن أبكي من شيء إلا بكيت.
قال: ثم إن الحسن انطلق، فقال، الحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون، نحتسب عند الله مصابنا بأبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا لن نصاب بمثله أبدا، ونحتسب عند الله مصابنا بخير الآباء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا إنِّي لا أقول فيه الغداة إلا حقا، لقد أصيبت به البلاد والعباد والشجر والدواب، فرحم الله وجهه، وعذب قاتله.
ثم نزل، فقال: عليَّ بابن مُلجم.
فأتى به.
فإذا رجل واضح الجبين والثَّنايا، له شعر وارد " يعني طويلا " يخطر به حتى وقف، فلم يسلِّم.
فقال: يا عدوّ الله، قتلت أمير المؤمنين، وخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: يا حسن، دعني من كلامك هذا، هل لك في أَمر أَعرضه عليك، لا بأس لك به إن قبلته.
قال: وما هو؟ قال: أسير إلى معاوية بالشام، عدوّ أبيك فأَروم قتله، فإن قتلته كنت قد قتلت أَعدى الناس لكم، وإن لم أقتله قُتلت فأنا مقتول في كلتا الحالتين.
قال: لا والله يا عدوّ الله حتى أنفذ فيك ما أمرني به أمير المؤمنين.
قال: وما الذي أمرك به أبوك؟ قال: جمعنا، فقال، يا بنيّ، إياكم أن تخوضوا في دماء المسلمين، وأن تقولوا، قُتل أمير المؤمنين، أَلا لا يقتلنَّ فيّ إلا قاتلي، وضربة بضربة، فإياك يا حسن والمثلة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ولو بالكلب العقور.
قال، يقول عبد الرحمن بن ملجم، والله إن كان أبوك ما علمنا لعدلا في الرضى والغضب إلا ما كان منه يوم صقين، حين حكم في دين الله، أَفشكَّ أبوك، أَي بُنيّ، في دينه؟ فضربه ضربة، تلقاه بخنصره، فقطعها. ثم ضربه أخرى في الموضع الذي ضرب فيه أباه، فقتله.
وحدثونا، أن معاوية رحمه الله عليه فخر يوما والحسن جالس.
فقال معاوية: أنا ابن بطحاء مكة، أنا ابن أَغزرها جودا، وأكرمها جُدودا، أنا ابن من ساد قريشا فضلا، ناشيا وكهلا.
فقال الحسن رضي الله عنه، أَعليَّ تفتخر يا معاوية؟ أنا ابن عروق الثَّرى، أنا ابن مأوى التُّقى، أنا ابن من جاء بالهدى، أنا ابن من ساد الدنيا بالفضل السابق والجود الرائق والحيب الفائق، أنا ابن من طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، فهل لك أب كأبي تتباهى به، أو قديم كقديمي تساميني به؟ قل، نعم؛ أو، لا.
قال: بلى أقول، لا، وهي لك تصديق.
فقال الحسن:
الحق أَبلجُ ما يخيل سبيله ... والقُّ ذوو الأَلباب
قال، وحدثونا عن أبي نعيم عن اسماعيل بن ابراهيم بن المهاجر قال: سمعت عبد الملك بن عمير قال، حدثني رجل من ثقيف قال: استعملني عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه على عكبرا، ولم يكن السواد يسكنه المصلون فقال لي بين أيديهم، استوف خراجهم منهم، فلا يجدوا فيك ضعفا ولا رخصة، ثم قال لي، رُح إليّ عند الظهر. فرحنا إليه، فلم أجد عليه حاجبا، يحجبني دونه، ووجدته جالسا وعنده قدح، وكوز ماء.
فدعا بظبيه " يعني جرابا صغيرا " .
فقلت في نفسي لقد أمنني حين يخرج إليّ جوهرا، فإذا عليها خاتم.
فكسر الخاتم، فإذا فيها، سويق.
فصبه في القدح، فشرب نته، وسقاني، فلم أصبر.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أتصنع هذا بالعراق؟ طعام العراق أكثر من ذلك.
فقال: إنما أشتري قدر ما يكفيني، وأكره أن يفنى فيضع فيه غيره، فإني لم أختم عليه بُخلا عليه، وإنما حفظي لذلك، وأنا أكره أن أدخل بطني إلا طيبا، وإني قلت لك بين أيديهم الذي قلت لك لأنهم قوم خدع، وأنا آمرك الآن بما تأخذهم به إن أنت فعلت، وإلا أخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ما آمرك به عزلتك.
لا تبيعنّ لهم رزقا يأكلونه، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا تضربنّ رجلا منهم سوطا في طلب درهم، فإنا لم نؤمر بذلك، ولا تبيعنّ لهم دابة يعملون عليها؛ إنا أُمرنا أن نأخذ منهم العفو.
قال: إذن أجيئك كما ذهبت.
قال: وإن فعلت.
قال: فذهبت، فتتبعت ما أمرني به، فرجعت، ووالله ما بقى درهم واحد إلا وفّيته.
وصية معاوية رحمه الله عليه قالوا: وأخبروني أن معاوية لما حضرته الوفاة قال لابنه يزيد: " إني كفيتك الحلِّ والتِّرحال، أو قال الرَّحل والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعزاء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك ما جمع واحد، فانظر أهل الحجاز، فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعهد من غاب عنك منهم، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم في كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحبُّ إليك من أن يشهر عليك مائة ألف سيف؛ وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإذا أصبت بهم عدوّك فارددهم إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم.

وإني لست أخاف عليك من قريش إلا الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم؛ فأما الحسين، فإن له رحما وحقا عظيما، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أُتي به عفوت عنه؛ وأما ابن عمر، فيُقيدُّه إيمانه؛ وأما ابن الزبير فخب، ضب، يجثم لك جثوم الأسد، ويروغ روغان الثعلب، فإن أمكنته الفرصة وثب، فإن فعل فقدرت عليه أن تقطّعه إِربا فافعل " .
قال، وحدثونا عن ابن عياش المنتوف قال، لما حضر معاوية الموت، ويزيد ابنه غائب بيت المقدس، وقال آخرون، بل في الصيد، دعا معاوية مسلم ابن عقبة المرّيّ، والضَّحَّاك بن قيس الفهريّ، فقال: " أبلغا يزيد عنّي قولا، قولا له، انظر أهل العراق فإن سألوا عزل عامل في كل يوم فاعزل عنهم، فإن عزل عامل أهون من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، ثم لا تدري على ما أنت منهم، وانظر أهل الشام فاجعلهم الشعار والدِّثار، فإن رابك من عدوّك ريب فارمهم بهم، فإن أظفرك الله بهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، ولا يقيموا في بلاد غيرهم، فيتأدّبوا بغير أدبهم.
إني لست أخاف عليك غير عبد الله بن عمر، وحسين بن عليّ، وعبد الله بن الزبير، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه الورع، ولا والله، لا تؤتى من قبله، وأما حسين بن عليّ فأرجوا أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه، وأما ابن الزبير فإنه خب ضبّ، فإذا طلع فأثبت له، فقلّما مارست رجلا مثله، فوالله لو قذفته في بئر مملوء زفتا لخرج منه متملِّسا " قال، فمات معاوية.
فقام الحاك بن قيس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إن معاوية كان حدّ العرب، وفخر العرب، وهذه أكفانه، نحن مُدرجوه فيها، ومخّلون بينه وبين ربّه، فمن أراد حضوره فليحضر بعد الظهر " .
فصلّى عليه الضحاك بن قيس.
وقال ابن خريم الأَسدي:
أَتى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار صمدن له صمودا
فردَّ شعورهنَّ السُّود بيضا ... وردَّ وجوههنَّ البيض سودا
وقال ابن الكلبي عن أبى عبد الرحمن المدني قال، لما حضر معاوية الموت جعل يقول:
إِن تناقش يكُن نقاشك يا ربِّ ... عذابا لا طوق لي بالعذاب
أَو تجاوز فأَنت ربٌ رحيم ... عن مُسيْ، ذوبه كالتُّراب
وأما ابن داب فقال، لما ثقل معاوية بعث إلى يزيد ابنه، وهو في بعض ضياعه، فأتاه غلام له، يقال له " عجلان " فأخبر بثقله، فأقبل، وقال في ذلك شعرا:
جاءَ البريد بقرطاس يخبُّ به ... فأَوجس القلب من قرطاسة جزعا
قالوا، لك الويل، ما في كتابكم ... قالوا، الخليفة أَمسى مدنفا وجعا
فمادت الأرض أَو كادت تميد بنا ... كأَنَّ أَغبر من أَركانها انصدعا
من لا تزل نفسه توفى على شرف ... توشك مقادير تلك النَّفس أَن تقعا
لمَّا انتهينا وباب الدار منصفق ... لصوت رملة ريع القلب فانصدعا
فلما دخل على معاوية خلا به، وأخرج عنه أهل بيته.
فقال: يا بنيَّ، قد جاء أمر الله، وهذا أوان هلاكي، فما أنت صانع بهذه الأمة من بعدي؟ فمن أجلك آثرت الدنيا على الآخرة، وحملت الوزر على ظهري لتعلو بني أبيك.
قال يزيد: آخذهم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، آخذهم به، وأقتلهم عليه.
فقال: أو لا تسير بسيرة أبي بكر الذي قاتل أهل الردّة، ومضى والأمة عنه راضون؟ قال: لا، إلا بكتاب الله وسنّة نبيّه، آخذهم به، وأقتلهم عليه.
قال: أولا تسير بسيرة عمر الذي مصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وفرض العطيّة، وجبي الفيء، وقاتل العدوّ، ومضى والأمة عنه راضون.
قال: لا، إلا بكتاب الله وسنة رسوله، آخذهم به، وأقتلهم عليه.
قال: أولا تأخذ بسيرة عثمان عمك الذي أكل في حياته، وورّث في مماته، واستعمل أقاربه؟ قال: لا، إلا بكتاب الله وسنة نبيه، آخذهم به وأقتلهم عليه.
قال: أولا تسير بسيرة أبيك الذي أكل في حياته وورث بعد وفاته، واحتمل الوزر على ظهره؟ قال: لا إلا بكتاب الله وسنّة نبيه، آخذهم به وأقتلهم عليه.
قال: يا يزيد، انقطع منك الرجاء، أظنك ستخالف هؤلاء، جميعا، فتقتل خيار قومك، وتغزو حرم ربك بأوباش الناس، فتطعمهم لحومهم بغير الحق فتدركك مرّته فجأة، فلا دنيا أصبت ولا آخرة أدركت.

يا يزيد، إذا لم تصب الرشد وتطلع ذا الحق فإني قد أوطأت لك المنابر، وأذللت لك أهل العز، وأخضعت لك رقاب العرب، وكفيتك الرحلة والترحال، وجمعت لك ما لم يجمع واحد، وإني لست أخاف أن ينازعك في هذا الأمر إلا ثلاثة نفر، الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير.
فأما ابن عمر فرجل وقذته العبادة، وتخّلى من الدنيا وشغل نفسه بالقرآن، ولا أظنه يقاتل إلا أن يأتيه الأمر عفوا، وأما الذي يجثم جثوم الأسد، ويروغ روغان الثعلب، وإن أمكنته فرصة وثب فابن الزبير، فإن هو فعل فاستمكنت منه فقطِّعه إربا إربا إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، واحقن دماء قومك تقبل قلوبهم إليك، وأما الحسين بن علي فإن له رحما وحقا وولادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه عليك، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو كنت صاحبه لعفوت عنه.
وحدثونا، أنه كان عند معاوية خمسة رهط حين حضرته الوفاة، الضحاك ابن قيس الفهريّ، ومسلم بن عقبة المرّي، وثور بن معن السلميّ، وزياد بن عمرو ابن معاوية العقيلي، والنعمان بن بشير الأنصاري، فقال: " بلّغوا يزيد عني السلام، وقولوا له، انظر أهل الحجاز فإنهم قومك وعشرتك، فأكرم من قدم عليك منهم، وصل من غاب، وانظر أهل الشام فإنهم جندك، فأكرمهم، وإذا هاجك هيج فارمه بهم، فإن فتح عليك فارددهم إلى بلادهم، فإنهم إن يسكنوا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم.
وزعموا أنه كان يحوَّل في مرضه الذي مات فيه، وهو يقول: إنكم لتحوّلون جسدا حولا قلَّبا إن ينج من النار غدا فهو الرجل كل الرجل، وله يوم من ابن الأدبر طويل " يعني حجرا وأصحابه " .
ثم أنشد:
لقد جمعت لكم من جمع ذي حسب ... وقد كفيتكم الترِّحال والنَّصبا
وابن الأدبر حجر بن يويد الكندي.
فلما مات معاوية، فدفن، دخل زياد بن عمرو العقيلي على يزيد، فقال: - يا أمير المؤمنين، مضى ابن أبي سفيان فردا لشأنه، وخلِّفت، فانظر بعده كيف تصنع، أقمنا على المنهاج، واركب محجّة السداد، فأنت المرتجي والمفزع.
فقال يزيد: لا حول ولا قوة إلا بالله، إيّاه أستعين، وعليه توكلت، ونعم الوكيل.
وصية الربيع بن خُثيم: وحدثونا عن إسرائيل قال، أوصى الربيع بن خُثيم، وأشهد الله عليه، وكفى بالله شهيدا وجازيا لعباده الصالحين ومشيبا، أني رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، وبالقرآن إماما، وأني أرضى لنفسي ولمن أطاعني أن يعبد الله في العابدين، ويحمد الله في الحامدين وينصح لجماعة المسلمين.
وقال هرم بن حيان لما حضرته الوفاة، وقيل له، أوصِ.
فقال: لا أدري ما أوضي، ولكن بيعوا درعي، فاقضوا ديني، فإن لم يف فبيعوا فرسي، فإن لم يتمّ فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل، ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى... لهو خير الصابرين.
فقال قتادة: أوصي والله بجماع الأمر، ومن أوصى بما أوصى الله به فقد أبلغ.
وصية عبد الملك بن مروان قالوا: لما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة دعا بنيه، فأوصاهم، فقال: " يا بني، أوصيكم بتقوى الله، فإنها أحصن كهف، وأزين حلية، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حقّ الكبير، وإياكم والاختلاف والفرقة، فإن بها هلك الأولون قبلكم، وذلّ ذوو العدد والكثرة، انظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه جنتَّكم الذي به تستجنون، ونائبكم الذي عنه تفترُّون، أكرموا الحجّاج فإنه وطَّأ لكم المنابر، وكونوا عند القتال أحرارا، وعند المعروف منارا، وكونوا بني أمّ بررة، إحلولوا في مرارة، ولنوا في شدّة " .
قال: ثم رفه رأسه إلى الوليد، فقال: يا وليد، لا أعرفّنك إذا وضعتني في حفرتي تمسح عينيك وتعصرهما فعل الأمة، ولكن إذا وضعتني في حفرتي فشمِّر واتَّزر، والبس جلد النَّمر، ثم اصعد المنبر، فادع الناس إلى البيعة، فمن قال كذا، فقل كذا.
وأومأ إليه، من قال: لا، فاقتله.
ثم بعث إلى خالد وعبد الله ابني يزيد بن معاوية فقال: - أتعلان لم بعثت إليكما؟ - قالا: نعم، يا أمير المؤمنين، لترينا عافية الله إياك.
- قال: لا ولكن لأسلكما، هل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء، فأقيلكما.
- قالا: معاذ الله يا أمير المؤمنين.
- قال: والله. لو قلتما غير ذلك لضربت أعناقكما.
فقاما، فخرجا.

فقال لبنيه، احفظوا هذه الأبيات عني:
اِنفوا الضَّغائن عنكم وعليكم ... عند المغيب وفي حضور المشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مدَّ في عمري وإن لم يمدد
ولمثل ريب الدَّهر ألِّف بينكم ... بتراحم، وتواصل، وتودُّد
حتى تلين قلوبكم وجلودكم ... لمسزَّد منكم وغير مسوَّد
إنَّ القداح إذا جمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيِّد
عزَّت فلم تكسر وإن هي بدِّدت ... فالوهن والتَّكسير للمتندِّد
فلما توفى عبد الملك سجَّاه الوليد بثوبه، ثم سعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " لم أر مثلها مصيبة، فقد الخليفة ونيل الخلافة، فإنّا لله وإنا إليه راجعون على أعظم المصيبة، والحمد لله رب العالمين على أعظم النعمة " .
ثم دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه، ولم يختلف عليه أحد.
وصية الحجاج بن يوسف وحدثونا عن أبي عبد الرحمن التميمي عن سيف عن شيخ ثقيف قال في وصية الحجاج: هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: " أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا، وإليك المصير، لا نفرِّق بين أحد من خلفاء الله، ولا نتّهم الله في قضائه فيهم، هم لي أولياء، وأنا لهم وليٌّ في الدنيا والآخرة، من اتّهم الله على قضائه فيهم أو نكث عهده أو عصاه، أو خلع عطاء الله الذي ولاّهم فأنا لذلك عدوّ في الدنيا والآخرة، على هذا أحيا، وعليه أموت، وعليه أبعث، وبه أخاصم، وإن صلاة الحجاج ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت، وأنا أوّل المسلمين " .
وصيّة رجل من أهل الشام قال أبو حاتم، وحدثونا عن أبي يعقوب عن ابن عمير - يعني عبد الملك - أن رجلا من أهل الشام أوصى ابنه عند موته، وذكر أنه بلغه أن معاذ بن جبل قال: " يا بنيّ، أظهروا اليأس مما عند الناس فإنه غني، وإياكم وطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وإياكم وما يعتذر منه من القول والفعل، وإذا صلّيت يا بنيّ فاسبغ الوضوء، وصلِّ صلاة مودّع يرى أنه لن يئُوب إلى أهله، فإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس، وغدا خيرا منك اليوم فافعل " .
وصية أبي عبيدة بن الجراح قال أبو حاتم، وحدثونا عن لوط بن يحيى عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن سعيد بن أبي سعيد قال، لما طعن أبو عبيدة بالأردن - وبها قبره - دعا من حضره من المسلمين، فقال: " إني أوصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير وبعدها تهلكوا، أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وحجُّوا، واعتمروا، وتواصلوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تبغضوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرؤا لو عمرِّ ألف حول ما كان له بدّ من أن يصير إلى مثل مصرعي هذا الذي ترون، إن الله قد كتب الموت على بني آدم، فهم ميِّتون وأكيسهم أطوعهم لربّه، وأعلمهم ليوم معاده، والسلام عليكم " .
يا معاذ بن جبل، صلِّ بالناس.
فمات أبو عبيدة، فقام معاذ في الناس، فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم من ذنوبكم توبة نصوحا، فإن عبدا يلقى الله تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له، ومن كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرا أخاه فليصافحه، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والذَّنب في ذلك عظيم.
أيها الناس، قد فجعتم برجل ما أرى أني رأيت عبدا من عباد الله قطّ أبرأ صدرا منه، ولا أبعد منه غائلة، ولا أشد حبّا للعافية، ولا أنصح للعامة منه، فترحّموا عليه، رحمة الله، واحضروا الصلاة عليه، رحمة الله عليه.
وصية معاذ بن جبل قال أبو حاتم، وحدثونا عن لوط بن يحيى قال، حدثني الصَّقعب بن زهير عن شهر بن حوشب قال: أتى آت معاذ بن جبل عند موته، فقال، أوصني بما ينفعني قبل أن تفارقني ولا أراك ولا تراني، ثم لعلّي أحتاج إلى سؤال بعدك فلا أجد فيهم مثلك.

فقال له معاذ: بل صلحاء الناس كثير بحمد الله، ولن يضيِّع الله أهل هذا الدِّين، خذ عنِّي ما آمرك به، وأوصيك به، " كن من الصامتين بالنهار، والمستغفرين بالأسحار، والذاكرين الله على كل حال، ولا تشرب الخمر، ولا تعقَّنَّ والديك، ولا تأكل مال اليتيم، ولا تفرَّ من الزحف، ولا تدع الصلاة المكتوبة، وصل رحمك، وانصح لجماعة المسلمين، وكن بالمؤمنين رءوفا رحيما، وأنا لك بالجنة زعيم " .
ومات رحمة الله عليه، وصلّى عليه عمرو بن العاص.
وصية عمر بن عبد العزيز قال أبو حاتم، حدثونا عن وصيّة عمر بن عبد العزيز قال، لما خضرت الوفاة عمر قبل له: اكتب يا أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك فأوصيه بالأمر.
قال، وبما أوصيه؟ إني لأعلم أنه من بني مروان.
ثم أمر بالكتاب إليه: " أما بعد، فاتّق يا يزيد الصُّرعة على الغفلة، فلا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، وتترك ما تتركه لمن لا يحمدك، وترجع إلى من لا يعذرك " .
قالوا: ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر في مرضه الذي قبض فيه، فقال: " إنك قد أفغرت ولدك من هذا المال، وتركتهم عالة لا مال لهم، وأنهم لا بدّ لهم مما يصلحهم فاوص بهم إليّ وإلى نظرائي من أهل بيتك نكفك مئونتهم " .
فقال عمر: أجلسوني.
فأُجلس.
فقال: يا مسلم بن عبد الملك، أما ما ذكرت أني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فتركتهم عالة لا مال لهم، فلم أمنعهم حقَّا هو لهم، ولست معطيهم حقّ غيرهم؛ وأما ما سألت من الوصاة بهم إليك وإلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيِّي فيهم ووليِّي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولّى الصالحين.
يا مسلمة بن عبد املك، إنما بنو عمر أحد رجلين، إما رجل اتّقى الله فسيرزقه حتى يقبضه إليه، وإما رجل غدر وفجر فوالله لا يكون عمر أول من قوّاه على معصية الله، أدع لي بنيَّ.
فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر رجلا.
فجعل يصعِّد بصره فيهم، ويصوّبه حتى اغرورقت عيناه، ثم قال: " هذا يزعم أني تركتكم عالة لا مال لكم، بل تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون بامرئ مسلم ولا معاهد إلاّ ولكم عليه حق واجب، يا بنيّ، إني ميَّلت رأيي في الدنيا بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن أدخل الجنة، أو تستغنوا في الدنيا وبين أن أدخل النار، فكان أن تفتقروا في الدنيا إلى آخر يوم من الدنيا أحبَّ إلىّ من دخول النار طرفة عين، قوموا عصمكم الله، ورزقكم.
ومسلمة يسمع.
حدثنا أبو حاتم قال، وحدثونا عن أبي بكر بن الضحّاك بن قيس الفهريّ قال: شهدنا مع سليمان بن عبد الملك جنازة رجل من قريش، فجلست قريبا منه، فأخذ حفنة من تراب، فقبض عليها، ثم أرسل أصابعه، وبسط كفّه والتراب فيها، ثم قال: " إن هذا المدفن طّيب " .
قال: فوالله الذي لا إله غيره ما أتت له جمعة حتى دفنَّاه إلى جنب القرشيّ، ليس بينهما أحد.
وصية سليمان بن عبد الملك.
حدثنا أبو حاتم قال: وحدثونا عن ابن عيّاش قال، أخبرني حصن، قال: كان سليمان غزا معنا الصائفة، فما رأينا رجلا كان أورع، ولا أحسن صلاة، ولا أكثر صدقة منه، قال، فوالله، إني لقائم على رأس سليمان أذبّ عنه بمنديل، إذ تشمَّم فوجد رائحة.
فقال: ائتوني من هذا الخبز.
فأتوه بثلاثة أرغفة عظام من خبز الفرنيّ، فقال: - يا غلام، انطلق إلى المطبخ، فانظر، هل تصيب لي مخَّا.
فانطلق، فنكت عظما مما طبخ، ثم أقبل به في شيٍّ.
فلما رآه قال: ويلك، ما هذا؟.
فانصرف الغلام، فما ترك في المطبخ عظما إلا نكته، ثم أتى به في صحفة.
قال: فوالله إن وضعه على " يعني:خوان " وما وضعه إلا على الأرض، فأكل تلك الأرغفة الحارة بذلك المخّ، ثم وثب، فدخل على أم سلمة بنت عمر ابن سهل، فما نزل عن بطنها إلا وهو مغشيّ عليه.
فأقام يوما وليلة ثم أفاق، فقال: هو الموت، عليّ برجاء بن حيوة الكنديّ.
وكان من أخصّ الناس به، فأتاه.
فقال: يا هذا، قد ترى ما نزل بي من الأمر، فما رأيك؟.
قال: بل يرفع الله صرعتك يا أمير المؤمنين، ويعلي كعبك.
قال: أيها الرجل، هو والله الموت.
قال رجاء: ذلك ما كتب الله على الأنبياء قبلك، وإن نقض فإلى روح الله ورحمته إن شاء الله.
فقال: ما شاء الله كان، ويفعل الله ما يشاء، من ترى لهذا الأمر يا رجاء؟ قال: ابنك داود.
قال: كيف؟ وهو ابن أمّ ولد، وأهل بيتي لا يرون ذلك.

قال رجاء: فقلت عبيد الله بن مروان، رجل من أهل بيتك.
قال: والله، ما يستنضج الكراع.
قلت: فأخوك سعيد بن عبد الملك.
قال: إن كانت أمُّه لغالبة على رأيه.
فذاكرته عمر بن عبد العزيز.
قال: أعمر؟ قلت: نعم.
قال: وكيف أصنع بوصية عبد الملك؟ فإنه أخذ عليّ وعلى الوليد أنّ أيَّنا بقي بعد صاحبه أن يعقد لابني عاتكة - يعني يزيد ومروان - .
قلت: يا أمير المؤمنين، بنو أخيك بالباب.
قال: أدخلهم، لا قرَّبهم الله.
قال: فدخل أربعة عشر من ولد الوليد، فسلموا عليه.
فلما نظر إليهم قال: ألكم حاجة؟ قالوا: يسلمك الله يا أمير المؤمنين.
قال: إذا شئتم.
فلما ولُّوا قال:
إنَّ بنيَّ صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيُّون
إنَّ بنيَّ صبية صغار ... أفلح من كان له كبار
قال رجاء: قلت يا أمير المؤمنين، قد أفلح من تزكَّى، وذكر اسم الله فصلَّى.
قال: نعم، أستغفر الله.
قال رجاء: يا أمير المؤمنين، فاعهد عهدا، وأشهد عليه.
ففعل.
فلم يلبث بعد ذلك إلا سبعة أيام حتى هلك.
قال: فخرج رجاء بالكتاب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: " هذا عهد أمير المؤمنين " .
فقال يحيى بن سعيد بن العاص: وما فيه؟: فنظر إليه رجاء نظرة تكاد تقتلعه من الأرض، وقال: وما أنت والكلام؟ ثم تأوّل هذه الآية " وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها " ؛ أي في عمرو بن سعيد وما كان منه.
فقال رجل ليحيى بن سعيد: مالك والكلام، والسيف يقطر دما؟.
قال: أردت أن استقري ما عند القوم.
قال هشام: لا الآن، فيه رجل من ولد عبد الملك.
فقال له رجاء: يا أحول، ما أنت والكلام؟ قال: ففضّ الكتاب بعد موت سليمان، فإنه فيه عمر بن عبد العزيز، ويزيد ابن عبد الملك من بعده.
فسلّم ولده ورضوا.
قال ابن عياش، وأخبرنا... الطلت مولى لبني أمية قال: ثم أقبل رجاء إلى عمر بن عبد العزيز، وهو في المقصورة، فأخذ بيده، فجعل يتلكَّأ.
فقال له رجاء: إن الذي تصنع شرٌّ.
فقال عمر: إن هذا الأمر ما سألته الله في صلاة ولا سرّ ولا علانية.
فلما انصرف من الجنازة، وصلى على سليمان قلت، لأنظرن ما يصنع.
وكتب في الآفاق بردّ المظالم، وعزل أهل بيته عن الأعمال، وأظهر عزلهم، ورد مظالمهم، وكان مقامه بدابق شهرين، ثم انصرف إلى منزله بدير سمعان، فلم يزل بها إلى أن توفى، رحمة الله عليه.