كتاب : عقلاء المجانين
المؤلف : ابن حبيب

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الذي لا يخيب لديه أمل الآملين، ولا يضيع عنده عمل العاملين، فهو جبار السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين.
أما بعد: فإن الله تعالى خلق الدنيا دار زوال، ومحل قلق وانتقال، وجعل أهلها فيها غرضاً للفناء، ومقاساة الشدة والبلاء، فشاب حياتهم فيها بالموت، وبقاءهم بحسرة الفوت، وجعل أوصافهم فيها متضادة، فقرن قوتهم بالضعف، وقدرتهم بالعجز، وشبابهم بالمشيب، وعزهم بالذل، وغناهم بالفقر، وصحتهم بالسقم، واستأثر انفراد الصفات لنفسه: قوة بلا ضعف، وقدرة بلا عجز، وحياة بلا موت، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر. وكذلك بسائر صفاته.
ثم أقسم بها أجمع فقال تعالى: " والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر " . واختلف الناس فيها من ثلاثين وجهاً، وأشار أبو بكر محمد بن عمر الوراق، رحمه الله، إلى ما ذكرناه: حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، قال: حدثنا أبو عبد الله ختن أبي بكر الوراق قال: سأل أبو بكر عن قوله عز وجل " والشفع والوتر " فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين والوتر انفراد صفات الخالق ثم ذكر نحواً مما قلنا.
وعلى هذا المثال قرن خبرتهم بالعبرة، وفرحهم بالترح، ولذلك قالت الحكماء وكفاك بصحتك سقماً، وبسلامتك داء. حدثنا أبو عبد الله بن عبد الله بن أحمد الخطيب الميداني بزوزن، قال: حدثنا أبو قريش محمد بن خلف الحافظ، قال: حدثنا محمد بن زنبور المكي قال حماد بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالسلام داء.
سمعت الفقيه أبا حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي بها، قال: سمعت أبا الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله، قال: سمعت أبا داود سليمان بن معبد الشنجي يقول أنشدنا بعض الأدباء:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... وألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... لمعيشتي فإذا السلامة داء
وأخبرنا محمد بن عيسى بن علي بمرو الروذ قال: أخبرنا يوسف بن موسى قال: حدثنا بشر بن عبد الغفار الواسطي عن يحيى بن هاشم السمسار قال: قال مسهر لعطية العوفي: كيف أصبحت ؟ قال: في سلامة مشوبة بداء، وعافية داعية إلى فناء.
قال: وحدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون قال: حدثنا أبو حامد المستملي: حدثنا محمد بن الحجاج: حدثنا جميل بن يزيد، عن وهب بن راشد، عن فرقد السنجي، قال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم أنت في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك.
وقيل للحسن: إن فلاناً في النزع. فقال: ما زال في النزع منذ خرج من بطن أمه ولكنه الآن أشد: وهذا حميد بن ثور وهو من فحول الشعراء يقول في بعض قصائده:
أرى جسدي قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
وأنشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله السرخسي، قال: أنشدنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن المدغولي، قال: أنشدنا أبو الحسن محمد بن حاتم المظفري:
يحب الفتى طول البقاء وإنه ... على ثقة أن البقاء فناء
زيادته في الجسم نقص حياته ... وليس على نقص الحياة نماء
إذا ما طوى يوماً طوى اليوم بعده ... ويطويه إن جن المساء مساء
جديدان لا يبقى الجميع عليهما ... ولا لهما بعد الجميع بقاء
وكما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقلهم بالجنون فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون. ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أبلى شبابه في المعصية فسماه مجنوناً، حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا أبو إسحاق حبان البلخي قال: حدثنا محمد بن مدويه الكرابيسي الترمذي، قال: حدثنا خالد بن خداش عن صالح المرسي عن جعفر بن زيد العبدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ مر به رجل فقال بعض القوم: هذا مجنون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصاب إنما المجنون على معصية الله تعالى.

والمجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه، قال الله جل ذكره " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعى ربه إني مغلوب فانتصر " وقال تعالى: " وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركته " يعني فرعون وقال ساحر أو مجنون.
سمعت علي بن عبد الله السمرقندي يقول: سمعت أبا القاسم الحكيم يقول: من عرف نفسه كان عند الناس ذليلاً ومن عرف ربه كان عند الناس مجنوناً.
ولقد قال مشركو مكة في النبي صلى الله عليه وسلم حين تحداهم إلى الايمان بالله: إنه مجنون وساحر وشاعر وكاهن. أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن نصر اللباد، قال: أنبأنا يوسف بن بلال عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال حين حضر الموسم يا معشر قريش إن محمداً رجل حلو الكلام، وقد أغار أمره في البلاد وأنجد، وإني لا آمن أن يصدقه الناس، فابعثوا رهطاً من ذوي الرأي والحجى إلى أنقاب مكة على مسيرة ليلة أو ليلتين، ليلقوا الناس، فمن يسأل عن محمد فليقل بعضهم أنه ساحر، وبعضهم أنه مجنون، وبعضهم أنه كاهن، وبعضهم أنه شاعر، إن لم تروه خير من أن تروه فبعثوا ستة عشر رجلاً في أربعة من الطرق في كل طريق أربعة نفر، وأقام الوليد بن المغيرة في مكة يقول لمن يسأل أنه كاهن ومجنون، ففعلوا ذلك فتصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرجو أن يلقى الناس أيام الموسم، فيعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء وفرحت قريش وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا دأبنا ودأبك ما عشنا، فنزل جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر، فمر به الوليد بن المغيرة، فقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد هذا ؟ فقال: بئس عبد الله هو. فأهوى جبريل بيده إلى كعبه، فقال: كفيت أمره، فمر الوليد بحائط فيه نبل لبني المصطلق وهم حي من خزاعة وعليه بردان يتبختر فيهما، فعلق سهم بإزاره فمنعته الخيلاء أن ينزعه منه، فنفض السهم، فأصاب أكحله فقتله، ومر به العاص بن وائل السهمي، فقال جبريل: كيف تجده ؟ فقال: عبد سوء، فأهوى جبريل بيده إلى باطن قدمه، فقال: قد كفيت أمره. فركب حماراً يريد الطائف فصرعه الحمار على شوك فدخلت شوكة باطن قدمه فتقيحت فقتلته. ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل: كيف تجد هذا ؟ قال: عبد سوء. فأهوى جبريل عليه السلام بيده إلى رأسه، وقال: كفيت أمره. فتفسخ رأسه ومات. ومر به الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل عليه السلام: كيف تجده ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بئس العبد هو. فضرب جبريل عليه السلام بجندك في وجهه، وقال: كفيت أمره. فعمي ثم مات.
وأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين " يعني الذين سميناهم. فلما آذى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنهم فقال: " ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون " وقال: " ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون " وقال: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون، وما هو إلا ذكر للعالمين " وعزاه فقال: " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " وقال: " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون " .
ثم ناضل ونضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاب عنه جميع ما قيل فيه، ولم يكلفه الإجابة عن نفسه كما كلف غيره من الأنبياء عليهم السلام. ألا ترى أن نوحاً عليه السلام لما قيل له: " إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين " قال: " يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ " وكذلك هود عليه السلام لما قيل له: " إنا لنراك في سَفاهة " قال: " يَا قَوْم لَيْسَ بي سَفَاهَةٌ " وقال فرعون لموسى عليه السلام " إني لأظنك يا موسى مسحوراً " فكلف موسى الإجابة عن نفسه فقال: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً " أي هالكاً.

وفي هذا مزية للرسول صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء عليهم السلام. ألا ترى كيف أجاب جل ذكره عن جميع ما قيل فيه نحو قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " " وما هو بقول شاعر " ، " ولا بقول كاهن " " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " وقوله تعالى: " ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى " حين قالوا: إنه يقول ما يقول من تلقاء نفسه " وما صاحبكم بمجنون " وقوله تعالى: " أو لم تتفكروا ما بصاحبهم من جنة " وقوله: " إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " وقوله تعالى: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون " وإلى الجنون أشار قوم هود في قولهم " أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن عمير ومحمد بن عمران بن عتبة، بدمشق، قالا: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن داود بن أبي هند عن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رجل من أزدشنوءة يسمى ضماداً وكان راقياً فقدم مكة فسمع أهلها تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجنوناً، فأتاه فقال: إني رجل أرقي وأداوي فإن أحببت داويتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله، أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد عبده ورسوله. فقال ضماد: أعد علي. فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم. واستعاد ثانياً. فأعاد عليه الصلاة والسلام. فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء والبلغاء فما سمعت مثل هذا الكلام قط، هات يدك أبايعك، فبايعه على الاسلام، فقال: وعلى قومي. فقال عليه السلام: وعلى قومك. قال الراوي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سرية فمروا على تلك البلاد، فقال لأميرهم: هل أصبتم شيئاً ؟ قالوا: نعم، أداوة. قال ردوها فهؤلاء قوم ضماد.
وأخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن، قال: قرأت على أحمد بن عمر بن الصلت النسوي، قال: حدثنا علي بن حزم، قال: حدثنا أبو عبد الله الضرير، قال: حدثنا يزيد بن ذريع عن داود بن أبي هند، أخبرنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم الصريمي المروزي، قدم علينا حاجاً، قال: حدثنا عبدان بن محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال عن عبد الله بن المبارك عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس، قال: قدم أبو العراف اليماني، وكان من أشراف اليمن، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء وهو يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا خلفه شيخ يقول: إياك وإياه فإنه مجنون كذاب، فسأل أبو العراف عن ذلك الشيخ فقيل عمه أبو لهب، فأتاه فقال: ما تقول في ابن أخيك ؟ قال: لم نزل نداويه من الجنون. فقال له: تباً لك، إن كلام المجانين متفاوت غير مستقيم، وما يشبه ابن أخيك المجانين بوجه من الوجوه. فقال له أبو لهب: فما هذا الذي يقول ؟ قال وحي ورسالة وحق وصدق أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنه عبده ورسوله. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أظهر دعوته واستفحل أمره في ثمانين فارساً من قومه مسلمين.
والمجنون عند أهل الحقائق من ركن إلى الدنيا وعمل لها وطاب عيشاً. بذلك نطقت الأخبار. حدثني أبي رحمة الله، قال: حدثنا محمد ابن شوار حدثنا محمد بن رافع حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال: خلق ابن آدم أحمق ولولا حمقه ما هنأه العيش. وسمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يقول: سمعت محمد بن المسيب الأرغياني يقول: سمعت عبد الله بن الحسن الأنطاكي يقول: سمعت يوسف بن إسباط يقول: سأل سفيان الثوري: من المجنون ؟ فقال: من لم يميز غيه من رشده. سمعت أبا علي محمد بن عمر الربودي يقول: سمعت علي بن الحسين بن أبي عيسى الهلالي يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: دعاك الله إلى دار السلام، وقد آثرت في دنياك المقام، وحذرك عدوك الشيطان، وأنت مؤالفه طول الزمان، وأمرك بخلاف هواك، وأنت معانيه صباحك ومساك، فهل الحمق إلا ما أنت فيه ؟.

سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أحيد القطان البلخي يقول: سمعت أبا شهاب معمر بن محمد العوفي يقول: سمعت عبد الصمد بن الفضل يقول: سمعت خلف بن أيوب، وسأل عن الأحمق، قال: من عمل لدنياه، ووافق هواه، وآثر على ربه سواه.
وقيل لآخر: من المجنون ؟ قال: من لم يبال ما نقص من دينه بعد أن سلمت له دنياه. وقيل لآخر: من المجنون ؟ قال: من لم يأمن على روحه ساعة وهو يسعى في عمارة دنياه. وسئل آخر: من الأخرق ؟ فقال: من خرب آخرته بدنيا غيره.
أنشدنا أبو جعفر محمد بن علي الطيان القمي بمرو الروذ قال: أنشدنا محمد بن سعيد بن سهيل الطباخي بالبصرة:
خلقنا لأمر وإن لم نكن ... به مؤمنين فإنا لنوكى
وإن نحن كنا به مؤمنين ... ولسنا نخاف فإنا لهلكى
وأنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا بن دينار الهلالي قال: أنشدنا عبد الله بن محمد بن عائشة:
ومن كانت الدنيا هواه وحلمه ... فذلك مجنون وإن قيل عاقل
قال آخر: المجنون ممن إلتمس رضى الناس بسخط الله عز وجل.
أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن مسعود بنسا قال: أنشدنا نفطويه، عن الخليل بن أحمد:
إني بليت بمعشر ... نوكي أخفهم ثقيل
نفر إذا جالستهم ... نقصت بقربهم العقول
ومر صلة بن أشيم بقوم قد اجتمعوا على رجل مقيد، فقال: من هذا ؟ قالوا: مجنون، فقال لا تقولوا مثل هذا إنما المجنون مثلي ومثلكم يعمر الدنيا ويخرب الآخرة.
أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد بن ملحان البصري، قال: أنشدنا بشر بن موسى الأسدي:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا
ثبت العلم في قوم ... يروحون يوغدونا
فلا هم بك يعنون ... ولا هم عنك يغنونا
لئن لم تك مجنونا ... لقد فقت المجانينا
قال الشيخ أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري المفسر رحمة الله عليه: سألني بعض أصحابي، عوداً على مبدأ، أن أصنف كتاباً في عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم، وكنت أتغامس عنه إلى أن تمادى به السؤال، فلم أجد بداً من إسعافه بطلبته، وأجابته إلى بغيته، تحرياً لرضاه، وتوخياً لهواه، وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي رحمهم الله فوقع كل كتاب منها في جزء أو ما يقارب جزءاً، تتبعتها وتيقنتها، وضممت إليها قرائنها، وعزوتها إلى أصحابها، وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب، وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب، وأرجو أني لم أسبق إلى مثله. والله الموفق والمعين.

أصل الجنون
في اللغة : الجنون في اللغة الاستتار. تقول العرب: جن الشيء يجن جنوناً إذا استتر وأجنه غيره إجناناً إذا ستره قال لبيد:
حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
يعني الشمس ألقت يداً في ليل مظلم. وستر الظلام الفجاج والطرق.
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي:
يا غافلاً عما تجن ضلوعي ... أنسيت ويحك عبرتي ودموعي
وجن الليل بجن جنوناً وجناناً إذا دخل. ومنه قوله سبحانه: " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً " وأجن الليل الشيء أجناناً إذا غطاه بظلامه. قال العتبي: وأجنه الليل أي جعله في ظلامه في جنة، قال الشاعر يصف مفازة:
وصرماء مذكار كأن دويها ... يعيد جنان الليل مما يخيل
حديث أناسيّ فلما سمعته ... إذا ليس فيه ما أبين فأعقل
وقال الشاعر:
ولولا جنون الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرض عياض بن ناشب
الصرماء المفازة التي تصرم الناس عن الماء أي تقطعهم. والمذكار التي لا يدخلها إلا ذكور الرجال لصعوبتها كالمرأة المذكار التي لا تلد إلا الذكران. والجنان القلب سمي بذلك لاستتاره.
أنشدني أبو الحسن محمد بن علي القزاز لديك الجن:
خذ يا غلام عنان طرفك فاحمه ... عني فقد ملك الشمول عناني
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم ... الشأن ويحك في جنون جناني

قال العتبي: وسميت الجن لاجتنانهم عن أعين الناس. وقيل في قوله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن " أي من الملائكة، سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار. قال الأعشى:
وسخر من جن الملائكة تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا أجر
والجنة البستان لالتفاف الشجر. والجنة الدرع والترس لأنهما يستران. والجنة بالكسر الجنون. والجن أيضاً، قال الله جل ذكره: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً " يعني حين قالوا: " أن الملائكة بنات الله، وقال في معنى الجنون: " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " وأما قوله تعالى: " من الجنة والناس " قال قتادة: إن الشيطان يوسوس الجن كما يوسوس الناس، والمعنى الذي يوسوس في صدور الجن والناس. والجنن القبر، لأنه ساتر، قال الشاعر:
لقد أدرجت ليلى هنالك في جنن ... فصبراً جميلاً حين ما ينفع الحزن
والجنين: الولد في بطن الأم، لأنه مستور، وتقول العرب للنبت إذا طال وكثر تكاوس والتف واستجلس واعلنكس: تجان. وتجان الرجل إذا تكلف الجنون وليس بمجنون. وكذلك تحامق وتناوم وتكاسل، قال العجاج:
إذا تجازرت وما بي جزر ... ثم كسرت العين من غير عور
وكل هذا يؤول إلى معنى الاستتار، فالمجنون المستور العقل، والفعل منه جن يجن جنوناً وهو مجنون، وأجنه الله فهو مجنون، وهذا الباب نادر في اللغة ونظيره أزكمه الله فهو مزكوم، وأحمه فهو محموم، وأضأده فهو مضؤود أي أزكمه، وأحببت فلاناً فهو محبوب، وهذا هو السائر وقد قالوا محب. قال عنترة العبسي:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم

أسماء المجنون
في اللغة : للمجنون في اللغة أسماء كثيرة. وقد مضى تفسير المجنون. منها الأحمق، والفعل منه حمق يحمق حمقاً وحماقة فهو أحمق، قال الشاعر:
سبحان من أنزل الأشياء منزلها ... وصير الناس مرفوضاً مرزوقاً
والجمع حمقى كقولك: قتلى وصرعى وهلكى وحرقى وغرقى، قال الشاعر:
رزقت مالاً فعش مما رزقت به ... فلست أول من حمقى بمرزوق
لو كان باللب يعطي ما تعيش به ... لما ظفرت من الدنيا بمفروق
ومنها المعتوه: وهو الذي يولد مجنوناً. والفعل منه عته فهو معتوه.
ومنها الأخرق: وهو الذي لا يحسن التقدير والتدبير والمرأة خرقاء، قال أبو عبيدة: لا يقال خارق إلا للمقدر بعلم وتدبير، فإذا قدر بغير علم قيل أخرق. وخرقاء، ومنه قوله تعالى: " وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه " قال مجاهد: أي كذبوا. قال أبو عبيدة: اختلفوا، وقرأ أهل المدينة بالتشديد وخففه الكسائي وأبو عمر. والاسم الخرق بضم الخاء. والخرق أيضاً جمع الأخرق.
ومنها المائق: والموق أيضاً جمع المائق كقولهم عائط وعوط وحائل وحول للشاة التي لم تحمل، وعائد وعود للناقة القريبة النتاج، وفاره وفره، قال الشاعر:
وغرة مرة من فعل غر ... وغرة مرتين فعال موق
إذا لم تبق بالصحصاح زلت ... من الصحصاح رجلك في العميق
وحسن الظن عجز في أمور ... وسوء الظن يأمر بالوثيق
ولا تفرح بأمر أن تدانى ... ولا تيأس من الأمر السحيق
فإن القرب يبعد بعد قرب ... ويدنو البعد بالقدر المسوق
أنشدنيه أبي رحمة الله تعالى، وقال: أنشدناه أبو سلمة المؤذن لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
ومنها الرقيع والمرقعان: وهو الأحمق الذي يتمزق عليه رأيه وعقله. والفعل منه رقع رقاعة فهو رقيع كقولك بلد بلادة فهو بليد. أنشدنا أبو بكر أحمد بن سعد بن نصر بن بكار الفقيه البخاري بها، قال: أنشدنا عبيد الله بن عبد الله:
وما الناس إلا وعاة العلوم ... وسائرهم غنم في قطيع
ومنها الممسوس: وهو الذي يتخبطه الجن أو الشيطان والاسم المسمى ؟ ومنه قوله جل ذكره كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
ومنها المخبل والمخبل: والاسم الخبل ويقال: رجل مخبل ومخبول ومختبل، قال الأعشى:
علقتها عرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
وعلقته فتاة ما يحاولها ... من قومها ميت يهذي بها وهل
وكلنا مغرم يهذي بصاحبه ... ناء ودان ومخبول ومختبل

ومنها الأنوك: والفعل منه نوك ينوك فهو أنوك كقولك حول فهو أحول، وسألت أبا منصور الامام الأزهري رحمه الله بهراة: فلم يذكر منه فعلاً. والاسم النوك بضم النون والجمع نوكي قال الشاعر: و.. وكيف يكون النّوك إلا كذلكا.
وأنشد الأصمعي:
تضحك منه شيخة ضحوك ... واستنوكت وللشباب نوك
ومنها البوهة: قال الشاعر:
ويا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسنا
ومنها الذولة: بالذال المعجمة. والموتة ضرب من الجنون، ولم أسمع منه للمجنون إسماً.
سمعت الإمام أبا حامد الخارزنجي يقول: النطاة الجنون، قال: وتقول العرب: فلان من فرط نطاته لا يعرف قطاته من لطاته. القطاة مقعد الردف من الدابة واللطاة دائرة في الجبهة.
ومنها العرهاة: قال الشاعر:
ومن لم يواس الناس مما بكفه ... فذلك عرهاة من العقل مبلس
ومنها الأولق: والفعل منه ولق يولق. والولق الاسم. وأما الولق اللام فهو الكذب. وقرأت عائشة رضي الله عنها " إذ تَلْقُونَه بألسنتكم " والفعل منه ولق يلق ولقاً، قال الأعشى:
ويصبح من غب السري فكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق
ومنها المهووس: والاسم الهوس، وهو ضرب من الجنون، فإن كان قدراً ؟ في جنونه فهو أغفل.
ومنها الهلباجة: وهو الأحمق الكثير الأكل قاله الخليل بن أحمد ومنها اللكع: وهو الأحمق اللئيم. وقال غيره: هو العبد.
ومنها الجذب: قال ابن السكيت: يقال رجل جذب وفيه جذب أي فضل الحمق.
ومنها الهجاجة: قال الأصمعي يقال للرجل الأحمق الكثير الخطأ رجل هجاجة.
ومنها الرشاع: قال ابن السكيت: والزهدن الأحمق أيضاً، وأنشد في كتاب الألفاظ:
قلت لها إياك أن تركني ... عندي في الجلسة أو تلبني
عليك ما عشت بذات الزهدن
ومنها الملغ: قال الأصمعي : هو الأحمق. والجعبس الأحمق أيضاً، قال الراجز:
لما رأيت سد الليل ادمسا ... ليلاً دجوجي الظلام عرمسا
وصم كسراه الغيام الجعبسا
والهلباجة: وقد ذكر آنفاً. قال ابن السكيت: قال خلف ابن الأحمر: قلت لابن كبشة بنت السعتري: ما الهلباجة ؟ فتردد في صدره ما لم يتهيأ له إخراجه، ثم قال الهلباجة الأحمق الذي لا خير عنده.
وقرأت في كتاب النوادر لأبي زيد سعيد بن أوس: رجل مألوس أي مجنون وقد ألس إذا جن.
ومما يضارع هذا الباب ويقرب منه وليس بعينه المتيم وهو العبد تيمه الحب، أي عبده واستعبده ومنه تيم اللات كأنه عبد اللات.
ومنها الأهوج: والفعل منه هوج يهوج هوجاً فهو أهوج.
ومنها الهائم: وهو ذاهب العقل.
ومنها المدله: قال الشاعر:
تركوني مدلهاً ... أرتجي حج قابل
بعدما كنت ناسكاً ... زال نسكي بباطل
ومنها الأبله: والفعل منه بله.
ومنها المستهتر: قال الشاعر:
فبعثن ورداً للخلي وزدن في ... برحاء وجد العاشق المستهتر
ومنها الواله: والاسم الوله، وهو عند العرب الذي فقد ولده ففقد صبره قال الأعشى يصف بقرة:
فأقبلت والهاً ثكلى على عجل ... كل دهاها وكل عندها اجتمعا
والهبنقع الأحم المبالغ في حمقه، قال الشاعر:
ومهور نسوتهم إذا ما نكحوا ... عدوي وكل هبنقع تنبال
فهذه كلها أسماء المجانين وعيارها المجنون والأحمق.

الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى
منها قولهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي إنها مع حمقها تظلم الناس، قال ثعلب: هكذا جرى المثل بغيرها، ومثله خرقاء عيابة أي مع حمقها تظلم غيرها وتعيب غيرها، قال خلف الأحمر: ومن أمثالهم أحمق بلغ أي انه مع حمقه يبلغ حاجته. ومن أمثالهم فيه خرقاء ذات نيقة أي أنها حمقاء وهي مع ذلك تتأنق في الأمور، قال أبو عبيد: فإذا اشتد موق الرجل قيل ثاطة مدت بماء والثأطة الحمأة فإذا أصابها ماء ازدادت فساداً، قال الأصمعي: ومنها أحمق من رجلة وهي البقلة الحمقاء، وحمقها أنها تنبت في السروح ومسايل الأودية فيجيء السيل فيجرفها. وشبه بها أهل الحقائق من يعمر دنياه وهو يعلم فناءها، قالوا: مثل عامر الدنيا الباني على الماء. والماء لا يثبت عليه شيء.

حدثنا أبو القاسم منصور بن العباس ببوشنج قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الهروي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثنا إسحاق ابن إسماعيل قال: أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: قال عيسى ابن مريم عليهما السلام: من ذا الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً. وقال أيضاً: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وقال سابق البربري في قصيدة له:
لكم بيوت بمستن السيول وهل ... يبقى على الماء بيت أسه مدر
وقال أبو عمرو الشيباني: ومن أمثالهم في الحمق إنه لأحمق من ترب العقد والعقد عقد الرمل، وحمقه إنه ينهار ولا يثبت فيه التراب يضرب للذي لا يثبت ولا يستقر على حال.
قال ابن الكلبي: ومن أمثالهم في هذا إنه لأحمق من دغة وهي أمرأة عمرو بن جندب بن العنبر ووصف من حمقها ما يسمج ذكره، وقال الأصمعي: ومن أمثالهم أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها وذلك أن زوجها قضى حاجته منها ثم طلقها فقالت أعطني حقي فنزع إحدى خدمتيها وهما الخلخالان من رجلها فأعطاها فسكتت ورضيت.
وتقول العرب للمبالغ في الجنون. جنونه مجنون. سمعت أبا الحسن محمد بن الحسين الحاكم ببوشنج يقول: سمعت جدي عبد الملك بن محمد ابن عدي يقول: سمعت جدي يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: قال الشافعي رحمه الله لبعض أصحابه:
جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون
ومنها الضبع وزعموا أنها أحمق الدواب فإنها تشد يداها ورجلاها ويقال لها لست ها هنا فتسكت وترضى. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا أكون مثل الضبع تسمع الدم فتخرج حتى تصاد. وكنيتها أم عامر يضرب بها المثل فيقال: خامري أم عامر، كما قال الشاعر:
فلا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
أي دعوني للتي يقال لها أم عامر حتى تأكلني ولا تدفنوني بعد موتي. وأنشدني أبي رحمة الله.
عرقب الضبع وقالوا غائب ... رضي القول وأغضي وصبر
أي دعوني للتي يقال لها أم عامر حتى تأكلني ولا تدفنوني بعد موتي. وأنشدني أبي رحمة الله.
عرقب الضبع وقالوا غائب ... رضي القول وأغضى وصبر
ومنها العقعق، تقول العرب إنه لأحمق من العقعق وحمقه أن ولده أبداً ضائع. قال ابن الكلبي: تقول العرب إنه لأحمق من حماقة عقعق وذلك لأنها تبيض على الأعواد فربما وقع بيضها فانكسر.

أسماء جنون الدواب
تقول العرب لجنون الابل الهيام وهو داء يأخذها فتهيج وتهيم. ويقال لجنون الشاة الثول وهي ثولاء، ولجنون الكلب الكلب فهو كلب كلب. والسعر ضرب من جنون النوق، تقول العرب ناقة مسعورة إذا كانت مجنونة. وتأول بعضهم قوله جل ذكره إن المجرمين في ضلال وسعر أي جنون.
ضروب المجانين
المجانين على ضروب، فمنهم المعتوه وقد مضى تفسيره ومنهم المرور وهو الذي أخرقته المرة، ومنهم الممسوس وهو الذي يتخبطه الجن والشياطين، ومنهم العاشق الذي تيمه الحب فأجنه.
سمعت أبا الحسن محمد بن محمد بن مسعود النسوي بها، يقول: سمعت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى السركري ؟ ببغداد يقول: سمعت زكريا بن يحيى بن خلاد المنقري يقول: سمعت الأصمعي يقول: لقد أكثر الناس في العشق فما سمعت بأوجز ولا أجمل من قول أنشدنا بعض نساء الأعراب وسألت عن العشق فقالت: داء وجنون.
أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحق الخزلحجي ؟ بمرو قال: عبد الله بن بهلول بقرميسين.
وما عاقل في الناس يحمد أمره ... ويذكر إلا وهو في الحب أحمق
وما من فتى قد ذاق بؤس معيشة ... من الناس إلا ذاقها حين يعشق
سمعت أبا الحسن مظفر بن غالب الهمداني يقول: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي قال: اعتل عبد الله بن المعتز فأتاه أبوه عائداً، وقال له: ما عراك يا بني ؟ فأنشأ يقول:
أيها العاذلون لا تعذلوني ... وأنظروا حسن وجهها تعذروني
وأنظروا هل ترون أحسن منها ... إن رأيتم شبيهها فاعذلوني
في جنون الهوى وما بي جنون ... وجنون الهوى جنون الجنون
قال: فتتبع أبوه الحال حتى وقع عليها فابتاع الجارية التي شغف بها بسبعة آلاف دينار ووجهها إليه.

أنشدني أبو منصور مهلهل بن علي العنزي.
أبدر بدا أم وجهك القمر السعد ... أليل دجا أم شعرك الفاحم الجعد
أنرجسة هاتيك أم هي مقلة ... أتفاحة ذاك المضرج أم خد
أموج إذا وليت أم كفل بدا ... أغض لجين في الغلالة أم قد
كذا لو تأملت الذي بي لقلت لي ... أهذا جنون ثابت بك أم وجد
سمعت أبا العباس الرازي الصوفي يقول: سمعت الشبلي يقول ذات يوم لأصحابه: ألست عندكم مجنوناً وأنتم أصحاء ؟ زاد الله في جنوني وزاد صحتكم ! ثم أنشد.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين !
أنشدنا أبو العباس أحمد بن سعيد المغربي قال: أنشدنا أبو عمرو محمد ابن إسماعيل الضرير قال حدثنا وأنشدنا أيوب بن غسان وهو يقول:
ودعتني بعبرة من جفون ... أضمرت فيضها حذار العيون
ومضت خلفها وقد خلفتني ... إلف ضر وفورة وجنون
فشكوت الفراق بالنفس الدا ... ئم حتى هتكت سر الظنون
أنشدني أبو سعيد أحمد بن زاوية الفارسي الكاتب:
ألا قل للأحبة يرفقونا ... فإن الحب أورثنا الجنونا
أنشدني أبي رحمه الله قال أنشدنا أبو محمد الزنجاني لبعض الأعراب:
أحبك حباً لو علمت ببعضه ... أصابك من وجد عليك جنون
لطيفاً على الأحشاء أما نهاره ... فسكت وأما ليله فأنين
وحكى لي عن حبيب بن محمد بن خالد الواسطي قال دخلت يوماً على علي بن هشام فوجدته باكياً حزيناً ذاهب النفس فأنكرته وسألته عما دهاه، فقال أعلم أني مررت الآن بالخريبة فرأيت مجنوناً مصفداً بالحديد يتمرغ في التراب ويقول:
ألا ليت أن الحب يعشق مرة ... فيعرف ماذا كان بالناس يصنع
يقولون خذ بالصبر إنك هالك ... وللصبر مني في مصابي أجزع
سمعت أبا علي الحسن بن أحمد القزويني يقول سمعت بعض السياح يقول رأيت مجنوناً في القفار وهو يرقص ويقول:
حبكم في القفار شردني ... آه من الحب ثم رآه
وهذا الباب يطول شرحه إلا أنه يذكر في أثناء أخبار المجانين وستراه في موضعه إن شاء الله تعالى.

فصل
من اعتقد بدعة وارتكب كبيرة فأدركه شؤمها فجن
حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن سبطم ؟ الدهانيني البلخي قدم علينا حاجاً قال حدثنا هشام بن عمار عن سعيد بن يحيى قال رأيت مجنوناً بحمص مصروعاً قد اجتمع عليه الناس، فدنوت منه، فقلت آللّه إذن لكم أم على الله تفترون ؟ فجرى على لسانه لسنا ممن يفتري على الله دعه يمت فإنه يقول بخلق القرآن.
أخبرنا أبو القاسم منصور بن العباس ببوشنج قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الهروي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثنا الحسين بن عبد الرحمن قال لقيت بمنى مجنوناً مصروعاً كلما أراد أن يؤدي فريضة أو يذكر الله صرع فقلت على ما يقوله الناس إن كنتم يهوداً فبحق موسى وإن كنتم نصارى فبحق عيسى وإن كنتم مسلمين فبحق محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما خليتم عنه، فقالت الجن لسنا يهوداً ولا نصارى ولكنا وجدناه يبغض أبا بكر وعمر فمنعناه من أشد أموره.
حدثنا أبو عبد الرحمن عمر بن أحمد بن علي الجوهري بمرو قال حدثنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مهزاد، حدثنا مسلمة، أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال بلغني أن عامة الركب الذين ساروا إلى عثمان رضي الله عنه جنوا.
فصل
من يسمى مجنوناً بلا حقيقة
كالشاب والمتصابي والسكران
كانت العرب تقول الشباب شعبة من الجنون. أنشدنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحارث المؤدب ببوشنج عن أحمد التمامي إنه أنشده وقال:
ما العيش إلا بجنون الصبي ... فإن تولى فجنون المدام
كأساً أذا ما الشيخ والى بها ... فيتردى برداء الغلام
فصل
من جن من خوف الله سبحانه

حدثنا أبو الفضل العباس بن هزار بن محمد بن هزار بن الخطيب، بمرو، قال حدثنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال حدثنا علي ابن الجعد أخبرنا شعبة قال بغني عن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز النخعي إنه كان يصلي في مسجد على عهد عمر رضي الله عنه فقرأ الامام ذات ليلة " ولمن خَافَ مَقَامِ رَبِّه جَنَّتان " فقطع صلاته وجن وهام على وجهه ولم يوقف له على أثر.
حدثنا أبو الحسن بن موسى السلامي بهراة، قال حدثنا أحمد بن يعقوب البسطامي حدثنا خلف بن عمر الصوفي قال سمعت أبا يزيد يقول: جننتني بي فمت ثم جننتني به فعشت ثم جننتني عني فغبت ثم أوقفني في رجة الجنون وسألني عن أحوالي الثلاث فقلت الجنون بي فناء والجنون بك بقاء والجنون عني وعنك ضناء وأنت في كل الأحوال أولى بنا.
حدثنا أبو الحسن المظفر بن محمد بن غالب قال حدثنا أبو علي الحسن ابن محمد بن أحمد البغدادي قال: حدثنا محمد بن يحيى بن مسلم عن صالح المري أن رجلاً من الزهاد مر ذات ليلة برجل يقرأ " وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَم يَكُونُوا يحتسبُون " فجعل يصيح ثم مزق ثيابه وغلب على عقله، فأخذ وقيد ومات على ذلك.
أخبرنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن منصور قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثنا الصلت بن مسعود الجحدوي: حدثنا فضل بن سليمان عن يونس بن محمد بن فضاله قال: خرجنا مع الربيع بن خيثم فمررنا على حداد ومعنا فتى فقام الربيع ينظر إلى حديدة في النار فوقع الفتى فأغمي عليه فتركناه ومضينا لحاجتنا فعدناه فإذا هو على تلك الحال ثم بلغنا إنه جن فمات في جنونه.
حدثنا محمد بن سليمان قال حدثنا ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثني مالك ابن ضيغم قال: مر بكر بن معاذ برجل يقرأ " وأنذرهُم يَوْم الآزفة إذ القلوبُ لَدَى الحناجر كاظِمِين مَا لِلْظَالِمين مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطاع " فاضطرب وخرثم صاح ارحم من أنذر ثم لم يقبل إليك بعد النذير ! ثم غلب على عقله فلم يفق حتى مات.
وحدثنا أبو جعفر محمد بن شيب حدثنا هشام بن عبد الله قال: نظر الحارث بن سعيد في قبر منخسف فوقع مغشياً عليه ثم رفع وقد زال عنه عقله فبقى كذلك حتى مات.
حدثنا أبو زكريا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن معبد الآملي قال حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الدريدي: حدثنا العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن يونس البكري قال: سمع حذيفة العابد رجلاً يقرأ وعرضوا على ربك صفا فهام على وجهه ولم ير بعد.
أخبرنا أبو القاسم منصور بن العباس حدثنا محمد بن إبراهيم بن خالد الهروي حدثنا أبو الطيب محمد بن أحمد اليافي بفلسطين حدثنا الحسن بن محمد بن المبارك الصوري عن أبيه قال: قرأ رجل بين يدي معاذ ابن نصر " وانذِرْهُم يَوْمَ الحسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ " الاية فجعل يتمرغ في التراب ويضطرب ويصيح ثم هام على وجهه ولم يوقف له على أثر.
وأخبرنا منصور عن محمد بن إبراهيم عن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين عمار بن عثمان عن بشر بن عبد العزيز قال: كان عمر بن ذر لا يخرج إلا إلى الصلاة أو الجنازة فسمع قارئاً يقرأ " وَمَا أمرُنا إلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ بِالبَصَرِ " فصرخ صرخة فخولط فلم يزل على ذلك حتى مات.

فصل
من تجان وتحامق وهو صحيح العقل
وهم ضروب، فمنهم من تعاطى ذلك ليرى شأنه ويستره على الناس سمعت أبا موسى عمران بن محمد بن الحصين يقول: سمعت إبراهيم بن الحارث الكرماني يقول سمعت أحمد الدورقي يقول قال مالك بن دينار: رأيت بالمصيصة شيخاً في عنقه غل وسلسلة والصبيان يرمونه وهو يقول:
إن من قد أرى على صور النا ... س وإن فتشوا فليسوا بناس
قال فتقدمت إليه فقلت أمجنون أنت ؟ قال أنا مجنون الجوارح لا مجنون القلب ثم مر وأنشأ يقول:
واريت أمري بالجنون عن الورى ... كيما أكون بواحدي مشغول
يا من تعجب في الأنام لمنطقي ... ماذا أقول ومنطقي مجهول

سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول سمعت أبا بكر ابن طاهر الأبهري يقول سمعت عمران بن علي الرقي يقول: كان إبان ابن سيار الرقي رئيس القراء والفقراء بالرقة وكان مع ذلك أهل علم فأكل الذئب بنياً له وكان واحده، وكان مشغوفاً به، ولم يتمالك، وهام على وجهه، فغاب ملياً ثم عاد وقد برم بالناس. فجنن نفسه، وجعل لا تطمئن به دار ولا يستقر به قرار، فخبرت بشأنه فأتيته بأصحاب لي، فألفيته في الجامع يكلم بعض الأساطين، فقلت يا إبان أجننت ؟ قال نعم عندك وعند اضرابك. فقلت كيف ؟ فأنشأ يقول:
جننت عن عقلي لديكم وما ... قلبي واللّه بمجنون
أجن مني وإله الورى ... من اشترى دنياه بالدين
وكنت قد ابتعت ضيعة من بعض السلاطين فعلمت انه يعنيني فتسورت ووالله ما عاودته بعد.
وقال الفرزدق أمر عمرو بن هند ملك العرب لطرفة وجرير المتلمس بكتابين إلى عامله بالبحرين بإهلاكهما وهما لا يشعران فمرا برجل على قارعة الطريق يحدث ويتفلى ويأكل، فقال المتلمس بالله ما رأيت أحمد من هذا، فقال الرجل وما رأيت من حمقي، أخرج خبيثاً وأدخل طيباً، وأقتل عدواً، أحمق والله مني من حمل حتفه بيده. ففك المتلمس كتابه فإذا فيه أما بعد فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً فرمى بالكتاب وأنشأ يقول:
قذفت بهذا القط من جنب كافر ... كذلك أرمي كل قط مطلل
وقال لطرفة: فك كتابك، فقال: هو لا يجتريء على إهلاكي، فذهب بالكتاب فإذا فيه إذا أتاك طرفة فاقطع أكحله ولا تشده حتى يموت ففعل وأنشأ طرفة يقول:
كل خليل كنت خاللته ... لا ترك اللّه له واضحه
كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة

فصل
من تحامق لينال غنى
سمعت أبا نصر محمد بن مزاحم البدخشي، قدم علينا حاجاً، قال: سمعت سعيد بن علي بن عطاف الطاحي بالبصرة يقول: كان عندنا رجل عاقل أديب فهم شاعر يقال له عامر وكان مع أدبه محروماً مجازفاً، فقال لي رجل من أصحابي إن صديقك عامراً قد جن، فجعلت أطلبه حتى ظفرت به في بعض القرى والصبيان حوله يضحكون، فقلت له: يا عامر مذ كم صرت بهذه الحال ؟ فأنشأ يقول:
جننت نفسي لكي أنال غنى ... فالعقل في ذا الزمان حرمان
يا عاذلي لا تلم أخا حمق ... تضحك منه فالحمق ألوان
وعلى هذا علي بن صلوة القصرى كان ممن يجيد الشعر وكان محروماً لا يؤبه له، ومن جيد شعره:
لسان الهوى في مقلتي لك ناطق ... يخبر عني أنني لك وامق
ولي شاهد من ضر جسمي معدل ... وقلب عليل في ودادك خافق
وما كنت أدري قبل حبك ما الهوى ... ولكن قضاء اللّه في الخلق سابق
ثم تحامق وأخذ في الهزل فحسنت حاله وراج أمره حتى أن الملوك والأشراف أولعوا به، ومن قوله:
غياث بن عبد اللّه يطعم ضيفه ... رؤوس الجدايا طبخها بأرياجها
وهذا مجال في الطعام لأنما ... رؤوس الجدايا حقها سكباجها
وما أشبه ذلك: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن الجنيد يقول سمعت محمد بن زكريا الغلابي يقول: مر بعض الأدباء بمجنون يتكلم، فتأمل كلامه، فإذا هو رصين يدور على الأصول، فقال له ما حملك على التحامق ؟ فقال:
لما رأيت الحظ حظ الجاهل ... ولم أر المغبون مثل العاقل
دخلت عيشاً من كرام نائل ... فصرت من عقلي على مراحل
أنشدنا أبو نصر محمد بن أحمد التميمي بسرخس:
إن كنت تهوى أن تنال المالا ... فالبس من الحمق غداً سربالاً
فصل
من تحامق ليرخي وقتاً ويطيب عيشاً
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن صالح الأندلسي المعافري قال: أخبرنا بكر بن حماد السهربي قال حدثنا صالح بن علي النصيبيني قال: قلت لزيد ابن سعيد العبدي: مالي أراك نكرت حالك وزيك ؟ قال: جددت فشقيت ثم تحامقت فارحت واسترحت.
أخبرنا أبو الحسن المظفر بن محمد بن غالب الهمداني برباط قراوة قال أنشدنا محمد بن إبراهيم بن عرفة الأسدي نفطويه قال أنشدنا العباس ابن محمد الرودي الشافعي:

وانزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرءاً لا أشاكله
فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت اعاقله
أنشدنا أبو جعفر محمد بن علي بن الطيان القمي هذا الشعر
تحامق تطب عيشاً ولاتك عاقلاً ... فعقل الفتى في ذا الزمان عدوه
فكم قد رأينا ذا نهي صار خاملاً ... وذا حمق في الحمق منه سموه
ولأبي الربيع محمد بن علي الصفار البلخي.
طاب عيش الرقيع في ذا الزمان ... والجهول الغفول والصفعان
فاغتنم حمقك الذي أنت فيه ... تحظ بالمكرمات والاحسان
وأنشدني أبو منصور مهلهل بن علي الغنوي:
الروح والراحة في الحمق ... وفي زوال العقل والخرق
فمن أراد العيش في راحة ... فليلزم الجهل مع الحمق
ورأيت في بعض الكتب:
إذا كان الزمان زمان حمق ... فإن العقل حرمان وشوم
فكن حمقاً مع الحمق فإني ... أرى الدنيا بدولتهم تدوم

فصل
من تحامق لينجو من بلاء وآفة
حدثنا أبو أحمد بن قريش بن سليمان سنة ثمان وثلاثين بمرو الروذ قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباس الديري قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أبي طاوس عن أبيه قال: لما وقعت الفتنة زمن عثمان رضي الله عنه قال رجل لأهله أوثقوني فإني مجنون كيلا أوذيكم، فأوثقوه، فلما قتل عثمان رضي الله عنه قال خلوا عني فقد صحوت والحمد الله الذي عافاني من قتل عثمان.
سمعت الحسن بن عمران الحنظلي، بهراة، يقول حدثنا أبو عبد الله محمد بن حفص الفارسي حدثنا منصور بن سعيد الرازي. حدثنا قاسم ابن محمد بن عريب من ولد أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ادخل عبادة المخنث على الواثق والناس يضربون ويقتلون في الامتحان قال فقلت والله لئن امتحنني قتلني فبدأته فقلت اعظم الله أجرك أيها الخليفة فقال فيمن ؟ فقلت: في القرآن قال ويحك والقرآن يموت ؟ قلت نعم كل مخلوق يموت فإذا مات القرآن في شعبان فبايش يصلي الناس في رمضان ؟ فقال: اخرجوه فإنه مجنون ..
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله قراءة عليه قال: حدثنا عبد الله بن محمود البغدادي قال حدثنا محمد بن يحيى البصري قال: دعا المنصور أبا حنيفة والثوري ومسعراً وشريكا ليوليهم القضاء، فقال أبو حنيفة: أنا أتحامق فيكم فأقال وأتخلص، وأما مسعر فيتجان ويتخلص، وأما سفيان فيهرب، وأما شريك فيقع، فلما دخلوا عليه قال أبو حنيفة رحمه الله أنا رجل مولى ولست من العرب ولا تكاد العرب ترضى بأن يكون عليهم مولى ومع ذلك فإني لا أصلح لهذا الأمر، فإن كنت صادقاً في قولي فلا أصلح له، وإن كنت كاذباً فلا يجوز لك أن تولي كاذباً دماء المسلمين وفروضهم. وأما سفيان فأدركه المشخص في طريق فذهب لحاجته فانصرف المشخص ينتظر فراغه فبصر سفيان سفينة فقال للملاح إن مكنتني من سفينتك وإلا ذبحت بغير سكين. تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين فأخفاه الملاح تحت السارية. وأما مسعر بن كدام فدخل على المنصور فقال له: هات يدك، كيف أنت وأولادك ودوابك ؟ فقال: أخرجوه فإنه مجنون. وأما شريك فقال المنصور تقلد فقال أنا رجل خفيف الدماغ، فقال تقلد وعليك بالمعصيد والنبيذ الشديد حتى يرجح عقلك، فتقلد، فهجره الثوري، وقال أمكنك الهرب فلم تهرب.
حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن يحيى، واللفظ له، قال حدثنا محمد ابن المسيب بن إسحاق الأرغياني قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي قال: كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فتجنن نفسه ولزم بيته، فاطلع عليه راشد بن سعد وهو يتوضأ في صحن داره، فقال أبا محمد ألا تخرج إلى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسول الله فقد جننت نفسك ولزمت بيتك. فرفع إليه رأسه وقال: إلى ههنا انتهى عقلك ؟ أما علمت إن العلماء يحشرون مع الأنبياء وإن القضاة يحشرون مع السلاطين ؟.

حدثنا أبو القاسم منصور بن العباس الفقيه ببوشنج قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن السلمي قال: دعا الخليفة أيام المحنة محمد بن مقاتل الرازي وأبا الصلت عبد السلام بن صالح الفهندري فقال لمحمد بن مقاتل: ما تقول في القرآن ؟ قال أقول: التوراة والانجيل والزبور والفرقان فإن هذه الأربعة مخلوقة وأشار إلى أصابعه الأربع، فنجا، فقال لأبي الصلت ما تقول ؟ قال تعز يا أمير المؤمنين قال عمن ويلك ؟ قال عن " قل هو اللّه أحد " فإنه مات. قال فكيف ؟ قال إن كان مخلوقاً فإنه يموت ! فقال مجنون اخرجوه، فاخرج فنجا.
أخبرنا يوسف بن أحمد بن محمد بن قيس السنجري قال أخبرني عبد الله بن محمد الدينوري قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي عن أبيه قال سمعت يحيى بن معين يقول: لما ادخلت على الخليفة قال لي ما تقول في القرآن ؟ قلت مخلوق، عنيت به قرآن بنت تمام.
حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن أحمد بن علك الجوهري، بمرو، قال حدثنا يحيى بن ساسويه بن عبد الكريم قال حدثنا علي بن حجر قال: أخبرنا شعيب بن صفوان عن أبي معشران رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مئة نفس، لما قاسى من بلاء النساء، فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد، فخرج على أن يسأل اول من نظر إليه فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عظم وسود وجهه وركب قصبة فسلم عليه وقال: مسألة، فقال سل ما يعنيك وإياك وما لا يعنيك، فقلت مجنون والله ثم قلت: إني أصبت من النساء بلاء وآليت أن لا أتزوج حتى استشير مئة نفس وأنت تمام المئة، فقال: اعلم أن النساء ثلاث، واحدة لك وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك، فأما التي لك فشابة طرية لم تمس الرجال فهي لك لا عليك إن رأت خيراً حمدت وإن رأت شراً قالت كل الرجال على مثل هذا، وأما التي عليك فأمرأة ذات ولد من غيرك فهي تسلخ الزوج وتجمع لولدها، وأما التي لا لك ولا عليك فأمرأة قد تزوجت قبلك فإن رأت خيراً قالت هكذا يجب وإن رأت شراً حنت إلى زوجها الأول. فقلت نشدتك الله ما الذي غير من أمرك ما أرى ؟ قال ألم اشترط عليك أن لا تسأل عما لا يعنيك، فأقسمت عليه، فقال إني رشحت للقضاء فاخترت ما ترى على القضاء.
وأخبرنا أبو موسى بن الحصين قراءة عليه قال حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق المهرجاني، حدثنا أبو علي سهل بن علي ببغداد في الدار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: أخبرت إن الحجاج بن يوسف لما فرغ من أمر عبد الله بن الزبير قدم إلى المدينة فلقي شخصاً خارجاً من أهل المدينة، فلما رآه الحجاج قال له: يا شيخ من أهل المدينة أنت ؟ قال نعم قال الحجاج من أيهم ؟ قال من بني فزارة، قال كيف حال أهل المدينة ؟ قال شر حال ! قال ومم ؟ قال لما لحقهم من البلاء بقتل ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحجاج ومن قتله ؟ قال قتله الفاجر اللعين حجاج بن يوسف عليه لعاين الله وصلبه من قلة المراقبة لله، فقال الحجاج، وقد استشاط غضباً: وإنك يا شيخ ممن أحزنه ذلك واسخطه ؟ قال الشيخ أي والله اسخطني ذلك سخط الله على الحجاج وأخزاه ! قال الحجاج: أو تعرف الحجاج إن رأيته ؟ فقال أي والله إني به لعارف فلا عرفه الله خيراً ولا وقاه ضيراً، فكشف الحجاج عن لثامه وقال لتعلم أنك أيها الشيخ يسيل دمك الساعة، فلما أيقن بالهلاك تحامق وقال هذا والله العجب أما والله يا حجاج لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة، أنا العباس بن أبي ثور المصروع اصرع في كل شهر خمس مرات وهذا أول جنوني، فقال الحجاج انطلق فلا شفاك الله ولا عافاك !.

فصل
ضروب الجد والعقل ودولة الحمق والجهل
سمعت محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول سمعت العباس بن حمزة يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول سمعت هشام بن عبد الله الرازي يقول سمعت أبا يوسف القاضي يقول ثلاثة: مجنون، ونصف مجنون وعاقل، فأما المجنون فأنت منه في راحة، وأما نصف المجنون فأنت منه في تعب، وأما العاقل فقد كفيت مؤنته.
أنشد أبو ذر القراطيسي:
الحمد للّه كم في الدهر من عجب ... ومن تغير أحوال وحالات
لا تنظرن إلى عقل ولا أدب ... إن الجدود قريبات الحماقات
واسترزق اللّه مما في خزائنه ... فكل ما هو آت مرة آت

قال عبيد الله بن سعيد الكاتب: دخل بعض الشعراء على ابن شوذب وهو الذي يضرب به المثل في كثرة الأموال، فأتى برعيل من الخيل فتأملها وقال أخرجوا منها ذلك المرعزي، ثم أتى بقطيع من الغنم لا تذبحوا ذلك الأدهم. وكان الشاعر قد مدحه بقصيدة فلما رأى ذلك خرج من عنده ولم ينشده، وأنشأ يقول.
لا يعرف الضأن من المعزى ... ويحسب الأدهم مرعزّى
صفت له الدنيا وضاقت لنا ... تلك لعمري قسمة ضئزى
أنشد أبو الفضل العباس بن القاسم الطبري:
قل لدهر على المكارم غطى ... يا قبيح الفعال جهم المحيا
كم رفيع حططته عن يفاع ... ورقيع الحقته بالثريا
وأنشد أبو بكر أحمد بن عمران السوادي:
زمان قد تفرغ للفضول ... يسوّد كل ذي حمق جهول
فإن أحببتم فيه ارتفاعاً ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال ابن الرومي:
دهر علا قدر الرقيع به ... وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلاً ويعلو فوقه جيفه
وقال علي بن محمد بن قادم:
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذ وأحلى
لو لقوا ما لقيت من حرفة العلم ... لساروا إلى الجهالة رسلا
ولقد قلت حين اغروا بلومي ... أيها اللائمون في الحمق مهلاً
حمقي قائم بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هزلا
وسمعت أبا الحسن محمد بن محمد بن الحسن الكازري يقول سمعت إبراهيم بن محمد بن يزيد عن عبد الله بن الأكبر متردداً يقول: كان على سيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
للناس حرص على الدنيا بتبذير ... وصفوها لك ممزوج بتكدير
لم يرزقوها بعقل عندما قسمت ... لكنهم رزقوها بالمقادير
كم من أديب لبيب لا يساعده ... ومائق نال دنياه بتقصير
لو كان عن قوة أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير
ورأيت في كتاب لابن ممشاد.
قد كسد العقل وأصحابه ... وفتحت للحمق أبوابه
فاستعمل الحمق تكن ذا غنى ... فقد مضى العقل وطلابه
وللامام الشافعي رحمه الله:
إن امرأ رزق اليسار ولم يصب ... حمداً ولا اجراً لغير موفق
فالجد يدنى كل شيء شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق
فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً فأثمر في يديه فحقق
وإذا سمعت بأن محروماً رأى ... ماء ليشربه فغاض فصدق
وأشد خلق اللّه بالهمّ امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ولابن الرومي:
جاهي أدق من الصراط ... فيكم وعزي في انحطاط
وتكايسى وتحاذقى ... يلجان في سم الخياط
وأنا الشقي بأرضكم ... مثل المصور في البساط
ولعي بن محمد السيرافي:
ما همتي إلا مقارعة العدى ... خلق الزمان وهمتي لم تخلق
والمرء كالمدفون تحت لسانه ... ولسانه مفتاح باب مغلق
إني أرى الأكياس قد تركوا سدى ... وأزمة الأملاك طوع الأحمق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق
وقال بعضهم:
كم من أديب عاقل قلبه ... مكمل العقل مقل عديم
ومن رقيع وافر ماله ... ذلك تقدير العزيز العليم
سبحان ربي إن ربي حكيم ... قد حرم العاقل فضل النعيم
ما يظلم الرب ولكنه ... أراد أن يظهر عجز الحكيم
وبلغني أن امرأة أتت بزرجمهر الحكيم فقالت له أيها الحكيم ما بال الأمر يلتام للعاجز ويلتان على الحازم ؟ قال ليعلم العاجزان عجزه لن يضره وليعلم الحازم إن حزمه لن ينفعه وإن الأمر إلى غيرهما.

قال أكتم بن صيفي حكيم العرب لبنيه: إياكم وصحبة الأحمق فإنه إلى أن يضركم أقرب منه إلى أن ينفعكم.
قال الأحنف بن قيس لبعض أصدقائه: اجتنب صحبة النوكي فانهم لا يستقرون على حال وإياك والعتاب فإنه يفتح باب التغالي، والعتاب خير من الحقد.
قال بشر بن عمرو اتق الأحمق فليس للأحمق خير من هجرانه.
قال أبو الحسن علي بن إبراهيم:
اتق الأحمق إن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً ... صفقته الريح وهنا فانخرق
أو كعير السوء إن أقصدته ... رمح الناس وإن جاع نهق
قال آدم بن عيينة قلب حجر بأرض الروم فإذا عليه مكتوب:
ولا تصحب أخا الحمق ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حكيماً حين واخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وللناس من الناس ... مقاييس وأشباه
سلمة بن بلال قال: كان فتى يعجب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرآه يوماً يماشي رجلاً متهماً فقال رضي الله عنه وذكر الأبيات.
وكان بشر بن الحارث يقول: النظر إلى الأحمق سخنة عين والنظر إلى البخيل يقسي القلب.

أويس القرني
ومن عقلاء المجانين قدس الله سره، وهو أول من نسب إلى الجنون في الإسلام والمعروف من حديثه ما وجدته في كتاب جدي سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي عنه قال: نادى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر بمنى: يا أهل قرن، فقام مشايخ فقالوا ها نحن يا أمير المؤمنين فقال رضي الله عنه أفي قرن من اسمه اويس ؟ فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ليس فينا من اسمه اويس إلا مجنون يسكن القفار والرمال لا يألف ولا يؤلف قال رضي الله عنه ذاك الذي أعنيه إذا عدتم إلى قرن فاطلبوه وبلغوه سلامي وقولوا له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرني بك وأمرني أن أقرأ عليك سلامه. قال فعادوا إلى قرن فطلبوه فوجدوه في الرمال فابلغوه سلام عمر رضي عنه وسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عرفني أمير المؤمنين وشهر باسمي، السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وهام على وجهه فلم يوقف له بعد ذلك على أثر دهراً، ثم عاد على أيام علي رضي الله عنه مقاتلاً بين يديه، وقتل مستشهداً في صفين امامه، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة وطعنة وضربة ورمية.

هرم بن حيان قال: قدمت الكوفة ولم يكن لي هم إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه وحتى وجدته قاعداً على شاطئ الفرات يغسل يديه ورجليه عليه ازار من صوف ورداء من صوف، كريه الوجه، مهيب المنظر جداً، وكان لحيماً آدم اللون شديد الأدمة كث اللحية، فسلمت عليه فرد علي وقال حياك الله من رجل ومددت إليه يدي لا صافحه، فأبى أن يصافحني فقلت وأنت فحياك الله، كيف أنت يا أويس رحمك الله ؟ ثم سبقتني العبرة من حبي ورقتي له إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى وقال: وأنت فرحمك الله يا هرم بن حيان، كيف أنت يا أخي ؟ ومن دلك علي ؟ فقلت: الله، فقال لا إله إلا الله سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، فتعجبت حين سماني وعرفني ولا والله ما رأيته قط ولا رآني فقلت من أين عرفتني وعرفت اسمي واسم أبي فوالله ما رأيتك قط قبل اليوم ؟ فقال نبأني العليم الخبير عرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا ويتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الديار وتفرقت بهم المنازل، فقلت حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أحفظه عنك، فقال إني أدركت سرول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لي معه صحبة ولكني صحبت رجالاً رأوه وبلغني كبعض ما بلغكم ولا أريد أن أفتح هذا الباب، واحتج، فقلت له اقرأ علي آيات من كتاب الله تعالى وأوصني وصية فأحفظها، فقام وأخذ بيدي وقال " أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم " وشهق شهقة ثم بكى فقال: قال ربي، وأحق القول قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأحسن الكلام كلامه: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين " حتى بلغ إلى قوله تعالى " إنه هو العزيز الرحيم " ثم شهق شهقة ثم سكت، فنظرت إليه وأنا أحسبه قد غشى عليه، ثم قال: يا هرم بن حيان مات أبوك وبشرك أن تموت يا ابن حيان فأما إلى الجنة وأما إلى النار، مات أبواك آدم وحواء ومات نوح، ومات إبراهيم خليل الرحمن يا ابن حيان ومات موسى كليم الرحمن، يا ابن حيان ومات داود خليفة المسلمين، ومات أخي وصديقي وضيفي عمر بن الخطاب، ثم قال: واعمراه رحم الله عمر وعمر يومئذ حي قال هرم فقلت إن عمر لم يمت بعد قال قد نعاه إلي ربك إن كنت تفهم قد علمت ما قلت وأنا وأنت في القرى ؟، وكان قد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بدعوات خفيات ثم قال هذه وصيتي: عليك يا ابن حيان بكتاب الله وبقايا الصالحين من المسلمين نعيت لك نفسي ونفسك فعليك بذكر الله وذكر الموت فلا يفارقان قلبك طرفة عين ما بقيت، وانصح لأهل ملتك جميعاً، وإياك وأن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار، ثم قال: إلهي إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك، واللهم عرفني وجهه في الجنة واحفظه في الدنيا حيث ما كان وارضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له واجعله بما تعطيه من نعمتك من الشاكرين واجزه عني خير الجزاء، أستودعك الله يا هزم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله لا أراك بعد اليوم رحمك الله فإني أكره الشهرة وأحب الوحدة ولا تطلبني واعلم انك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله تعالى. وفارقني يبكي وأبكي، فجعلت انظر في قفاه حتى دخل في بعض السكك فكم طلبته بعد ذلك وسألت عنه فما وجدت من يخبرني خبره.
الربيع بن خيثم قال: أتيت أويس القرني فوجدته جالساً قد صلى الفجر فقلت لا اشغله عن التسبيح، فمكث مكانه، ثم قام إلى الصلاة حتى صلى الظهر، ثم قام إلى الصلاة حتى صلى العصر، ثم هكذا حتى صلى المغرب، فقلت في نفسي لا بد من أن يرجع ليفطر، فثبت مكانه حتى صلى العشاء الأخيرة، فقلت لعله يفطر بعد العشاء، فثبت مكانه حتى صلى الفجر ثم جلس فغلبته عيناه فانتبه وقال: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة ومن بطن لا يشبع، فقلت حسبي ما عاينت ورجعت.

قتادة عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة أكثر من ربيعة ومضر، أما اسمي لكم ذلك الرجل ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: ذلك أويس القرني، ثم قال يا عمر إن أدركته فاقرئه مني السلام وقل له حتى يدعو لك واعلم إنه كان به وضح فدعا الله تعالى فرفع عنه ثم دعا الله فرد عليه بعضه. فلما كان في خلافة عمر رضي الله عنه وهو بالموسم قال ليجلس كل رجل منكم إلا من كان من قرن فجلسوا إلا رجلاً فدعاه وقال له تعرف فيكم رجلاً اسمه أويس فقال وما تريد منه فإنه رجل لا يعرف يأوي الخرابات ولا يخالط الناس، فقال اقرئه مني السلام وقل له حتى يلقاني فأبلغه الرجل رسالة عمر رضي الله عنه فقدم عليه فقال له عمر: أنت أويس ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: صد الله ورسوله، هل كان بك وضح فدعوت الله فرفعه عنك ثم دعوته تعالى فرد عليك بعضه ؟ فقال: نعم، من خبرك به فوالله ما اطلع عليه غير الله ؟ فقال اخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمرني أن سألك حتى تدعو لي، وقال يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر ثم سماك، قال فدعا لعمر ثم قال: حاجتي إليك يا أمير المؤمنين أن تكتمها علي وتأذن لي بالانصراف ففعل، فلم يزل مستخفياً من الناس حتى استشهد يوم نهاوند رحمه الله.

مجنون ليلى
هو من جملة من يذكر من المجانين أشهر، وحديثه أوضح وأيسر، وإنه بلغ من شهرته إن جنونه غلب على اسمه حتى إنه إن سمي أو عزى إلى أبيه لم يثبت بل يقال قال المجنون كذا وفعل مجنون بني عامر كذا حتى عابه كثير من الشعراء بالبوح ومدحوا أنفسهم بالكتمان.
قال أبو عبيدة: هو مهدي بن الملوح بن مزاحم بن قيس بن عدي ابن ربيعة بن جعدة بن كعب. وقال يزيد بن عبد الأكبر: هو قيس بن معاذ بن شامة بن نصير.
سئل مجنون بني عامر: كيف كان سبب عشقك لليلى ؟ قال: بينا أنا في عنفوان عزتي وريعان صباي أسحب ذيل اللعب وأرمي الكواعب من كثب، أصبو إليهن فيفترقن، وأهزأ بهن فلا ينتصفن، إذا اعتقلتني حبائل فتاة من عذرة فذهلني حبها، وتيمني عشقها، وإذا جذبة جذبتني فمن أشعاره قوله:
ولم أر ليلى غير موقف ساعة ... بخيف مني ترمي جمار المحصب
وتبدي الحصى منها إذا قذفت به ... من البعد أطراف البنان المخضب
وأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... من الصبح في اعجاز نجم مغرب
الا إنما غادرت يا بدر مالك ... صدا حيثما هبت به الريح يذهب
قيل لليلى: حبك للمجنون أكثر أم حبه لك ؟ فقالت: بل حبي له. قيل فكيف ؟ قالت لأن حبه لي كان مشهوراً وحبي له كان مستوراً.
قال ابن الكلبي: إن المجنون في أول ما كلف بليلى قعد عندها يوماً يتحدث فرآها تعرض عنه وتقبل على غيره فشق ذلك عليه وعرفت ذلك في نفسه فأقبلت عليه وقالت:
وكل مظهر للناس حباً ... وكل عند صاحبه مكين
فخر مغشياً عليه، ثم تمادى في الغلو حتى ذهب عقله.
قال محمد بن الكلبي: نزل المجنون برهط ليلى فجاء إلى امرأة كانت عارفة بأمرها، فشكى إليها ما يجده، فوعدته أن تجمع بينهما، فمضت وأخذتها وجمعت بينهما، فأنشأ يقول:
إذا قربت داراً كلفت وإن نأت ... أسفت فلا بالقرب أسلو ولا البعد
فإن وعدت زاد الهوى بانتظارها ... وإن بخلت بالوعد مت على الوعد
أقول: وتمام الأبيات:
بكل تداوينا ولم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
قال الأصمعي: حدثت إن رهط قيس المجنون قالوا لأبيه اطلب لنا طبيباً لعله يطلعنا على ما به، فأحضر إليهم طبيباً، فعالجه فلما أعياه خلاه، فأنشأ قيس يقول:
ألا يا طبيب النفس أنت طبيبها ... فرفقا بنفس قد جفاها حبيبها
دعتني دواعي الحب ليلى ودونها ... ذوي قوة قلبي الحزين قلوبها ؟
فديتك من داع دعا ولو انني ... حشاي من أحجار لظل يجيبها
ما هجرتك النفس من أجل انها ... قلتك ولكن قل منها نصيبها

قال الأصمعي: إن رهط قيس قالوا لأبيه: لو خرجت به إلى الحج فتدعو الله لعله ينساها، فخرج به فبينا هو يرمي الجمار نادى مناد من بعض تلك الخيام: يا ليلى، فخر قيس مغشياً عليه، ثم أفاق وأنشأ يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بقلبي طائراً كان في صدري
إذا ذكرت يرتاح قلبي لذكرها ... كما انتفض العصفور من بلل القطر
وهي قصيدة طويلة.
قيل: حبس المجنون مع ليلى في السجن فقيل له اخرج فقال لا أخرج لأن أكون مع الحبيب في السجن خير من الفراق فأخرج فجاء الناس يعزونه فقال ارتجالاً:
ليل الحبيب مع الحبيب نهار ... وكذاك أيام الوصال قصار
وقال أيضاً:
وسجني مع المحبوب فردوس جنتي ... وناري مع المحبوب في النار أنوار
وذكر إن سعيد بن الحاص ؟ كان صديقه فعاتبه يوماً فقال له فضحت نفسك وعشيرتك فقال:
اريد لا نسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فلا تلحننى يا سعيد فانني ... وحق إلهي هالك بقليل
قال كثير عزة: خرجت أريد قضاء حاجة لي فضللت الطريق فإذا أنا برجل قاعد فقلت إنسي أنت أم جني ؟ فقال بل إنسي، فقلت ما أقعدك ها هنا ؟ فقال إن هنا صياداً فأحببت أن أنظر إلى صيده، فأنخت راحلتي قريباً منه، فبينا نحن نتحدث إذ اضطرب الحبل فقام وقمت فإذا بظبية كأحسن ما يكون من الظباء واسمنهن، فاستخرجها برفق، وجعل يقبل خديها وعينيها ثم أرسلها وهو يقول:
اذهبي في كلاءة الرحمن ... أنت منى في ذمة وأمان
فتهني فالجيد منك لليلى ... والحشا والبغام والعينان
لا تخافي بأن تسامي بسوء ... ما تغني الحمام في الأغصان
قال كثير: فأعجبني ما رأيت منه، فأقمت عنده، فلما كان من الغد غدا ونصب حبالته، فما لبث أن اضطرب الحبل، فقام وقمت فإذا ظبي كنحو ما كان بالأمس، ففعل به كما فعل بالآخر، فمضى غير بعيد ثم وقف ينظر إليه وأنشأ فقال:
ايا شبه ليلى لا تراعي فانني ... لك اليوم من وحشية لصديق
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
ثم لبثنا يومنا وليلتنا، فلما كان من الغد غدا وغدوت وصنع مثل صنيعه، فإذا نحن بظبية قد وقعت في الحبالة، ففعل مثل ذلك فخلاها وأنشأ يقول:
تذكرني ليلى من الوحش ظبية ... لها مقلتاها والمقلد والحشا
فينهل دمع العين يجري لذكرها ... وأسفي عليك القلب بالدمع ما جرى
فقلت: لله أبوك، ما أعجب شأنك فالتفت إلي ثم قال:
أتلحى محباً هائماً أن رأى لمن ... أحب شبيهاً في الحبالة موثقا
فلما دنا منه تذكر شجوه ... وآنس مما قد رآه تشوقا
وهيج منه حائل دون ذبحه ... فأرسله من أجل ليلى فاعتقا
ألا لا تلمه بل له اليوم حرقة ... من الوجد لا يزداد إلا تحرقا
فوالله إني لفي ذلك إذ أقبل راكب فقال: اللهم إني أسألك خير ما عنده، فجاء حتى وقف فقال: اصبر يا قيس، قال عمن قال ؟ عن ليلى، فقام إلى بعيره وقمت إلى بعيري فشددنا عليهما ثم أقبلنا إلى الحي فقال: أرشدوني إلى قبرها، فأشاروا له إلى قبر حديث عهد بطين، فأكب يقبله ويلتزمه ويشم ترابه وأنشأ يقول:
أيا قبر ليلى لا شهدناك أعولت ... عليك نساء من فصيح ومن عجم
ويا قبر ليلى إن في الصدر غصة ... مكان الشجى سدت مع الريق بالسلم
ثم شهق شهقة فمات، فدفنته أنا والراكب، وأنشأت أقول:
سابكيكما ما عشت حياً وإن أمت ... فإني قد لاقيت ما تجدان
قيل للمجنون: أتحب ليلى ؟ قال لا، قيل ولم ؟ قال لأن المحبة ذريعة للرؤية فقد سقطت الذريعة فليلى أنا وأنا ليلى.
أنشدنا محمد بن المنذر للمجنون:
تذكرت ليلى والفؤاد عميد ... وشطت نواها والمزار بعيد
يبدي الهوى من صدر كل متيم ... وحبي لليلى ما حييت جديد

قال الأصمعي: لم يكن المجنون مجنوناً ولكن كانت فيه لوثة كلوثة أبي حية النميري، وهو من أشعر الناس، ومن جيد شعره:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الزجر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما لم يكن صنع الهجر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وأنشد الجعد بن عقبة الجرمي لمجنون بن عامر:
دعوت إله الناس عشرين حجة ... نهاراً وليلاً في الجميع وخاليا
لكي تبتلى ليلى بمثل بليتي ... فتعلم حالي أو ترق لما بيا
فلم يستجب لي اللّه فيها ولم يفق ... هواي ولكن زيد حب برانيا
فيا رب حببني إليها أو اشفني ... بها أو أرح مما يقاسي فؤاديا
ومن شعره أنشد ابن الأعرابي:
يقولون عن ليلى غنيت وإنما ... بي اليأس عن ليلى وليس بي الصبر
فيا حبذا ليلى إذ الدهر صالح ... وسقيا لليلى بعد ما فسد الدهر
فإني لا هواها وإني لآيس ... هوى وإياس كيف صمهما الصدر
وله أيضاً:
امر مجانباً عن دار ليلى ... ألم بها وفي قلبي غليل
وقلبي عند ساكنها فهل لي ... إلى قلبي وساكنها سبيل
فلو أن الطلول أجبن صبا ... لرحمته أجابتني الطلول
وله أيضاً:
وجاؤوا إليه بالتعاويذ والرقى ... وصبوا عليه الماء من ألم النكس
وقالوا به من أعين الجن لحظة ... ولو عقلوا قالوا به أعين الأنس
وله أيضاً:
أيا شبه ليلى إن ليلى مريضة ... وأنت صحيح إن ذا لمحال
أقول لظبي مر بي في مفازة ... لانت أخو ليلى فقال يقال
وإن لم تكن ليلى غزالاً بعينها ... فقد أشبهتها ظبية وغزال
ومن مشهور شعره:
ذكرتك والحجيج له ضجيج ... ببكة والقلوب لها وجيب
فقلت ونحن في بلد حرام ... به للّه أخلصت القلوب
أتوب إليك يا رحمن إني ... أسأت وقد تضاعفت الذنوب
وأما من هوى ليلى وحبي ... زيارتها فإني لا أتوب

سعدون
قال عطاء السلمي احتبس عنا القطر بالبصرة فخرجنا نستسقي فإذا بسعدون المجنون فلما أبصرني قال يا عطاء إلى أين ؟ قلت خرجنا نستسقي فقال بقلوب سماوية أم بقلوب خاوية ؟ قلت بقلوب سماوية، فقال لا تبهرج فإن الناقد بصير، قلت ما هو إلا ما حكيت لك فاستق لنا، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: أقسمت عليك الا سقيتنا الغيث، ثم أنشأ يقول:
أيا من كلما نودي أجابا ... ومن بجلاله ينشي السحابا
ويا من كلم الصديق موسى ... كلاماً ثم ألهمه الصوابا
ويا من رد يوسف بعد ضر ... على من كان ينتحب انتحابا
ويا من خص أحمد باصطفاء ... وأعطاه الرسالة والكتابا
إسقنا. قال: فأرخت السماء شآبيب كأفواه القرب. فقلت زدني، قال ليس ذا الكيل من ذاك البيدر، ثم قال:
سبحان من لم تزل له حجج ... قامت على خلقه بمعرفته
قد علموا أنه مليكهم ... يعجز وصف الأنام عن صفته
قال عطاء: رأيت سعدون يتفلى ذات يوم في الشمس فانكشفت عورته فقلت له استرها أخا الجهل فقال: أمالك مثلها ؟ واستتر، ثم مر بي يوماً وأنا آكل رماناً في السوق ففرك أذني وقال من الجاهل أنا أم أنت ؟ ثم قال:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وما خير من تخفى عليه عيوبه ... ويبدو له العيب الذي لأخيه
وكيف أرى عيباً وعيبي ظاهر ... وما يعرف السوءآت غير سفيه
قال عبد الله بن سويدك رأيت سعدون المجنون وبيده فحمة وهو يكتب بها على جدار قصر خراب:
يا خاطب الدنيا إلى نفسه ... إن لها في كل يوم خليل

ما أقبح الدنيا لخطابها ... تقتلهم عمداً قتيلاً قتيل
تستنكح البعل وقد وطنت ... في موضع آخر منه البديل
أنعم في عيشي وأيدي البلا ... تعمل في نفسي قليلاً قليل
تزودوا للموت زاداً فقد ... نادى مناديه الرحيل الرحيل
قال خالد بن منصور القشيري قدم علينا سعدون المجنون فسمعته ليلة من الليالي يقول في دعائه: لك خشعت قلوب العارفين وإليك طمحت آمال الراجحين، ثم أنشأ يقول:
وكن لربك ذا حب لتخدمه ... إن المحبين للأحباب خدام
قال إسماعيل بن عطاء العطار: مررت بسعدون فلم أسلم عليه، فنظر إلي ثم قال:
يا ذا الذي ترك السلام تعمداً ... ليس السلام بضائر من سلما
إن السلام تحية مبرورة ... ليست تحمل قائلاً أن يأثما
قال ثابت بن عبد الله أنشدني سعدون المجنون أبياتاً في الوصف:
تفهم يا أخي وصف الملاح ... وقد ركبوا النجائب في الوشاح
من الحور الحسان منعمات ... تفوق وجوهها ضوء الصباح
يراهن المهيمن من عبير ... وشرفهن حقاً بالفلاح
وصدغ فوق سالفة بمسك ... كمشق النون في رق مباح
إذا خطرت تحير كل حسن ... وإن مرحت أهل للمراح
تقول إذا أتت نحو العذارى ... ألا يا خود هل حبي بصاح
فقد نغصن لذاتي جميعاً ... واعدمني هواها شرب راحى
قال الفتح بن سالم كان سعدون سياحاً لهجاً بالقول فرأيته يوماً بالفسطاط قائماً على حلقة ذي النون وهو يقول يا ذا النون متى يكون القلب أميراً بعد أن كان أسيراً فقال ذو النون:
إذا اطلع الخبير على الضمير ... ولم ير في الضمير سوى الخبير
قال فصرخ سعدون وخر مغشياً عليه، ثم أفاق فقال:
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي ... ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر
ثم قال استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال يا أبا الفيض إن من القلوب قلوباً تستغفر الله قبل أن تذيب قال: نعم نبأت قبل أن تطيع أولئك قوم أشرقت قلوبهم بضياء روح اليقين، ثم قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء كن لي بكليتك أكن لك وقل للمطيعين إن لم تطيعوني فلا تقربوا مني.
وكان ابن أبي أوفى يقول قعدنا في جزيرة من الجزائر نتشارب المز وفينا شيخ يغني ويقول:
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيابك ممن شربه الماء
وإذا رجل يهتف: كذبت يا شيخ:
أما النبيذ فقد يذري بصاحبه ... ولا أرى شارباً يذري به الماء
فالتفتنا فإذا سعدون المجنون.
قال عطاء التيمي: كنت أبني فأشرفت من بعض الجدران فإذا سعدون يكتب بقطعة فحم على جدار:
ما حال من سكن الثرى ما حاله ... أمسى وقد رتّ هناك حباله
أمسي ولا روح الحياة يصيبه ... أبداً ولا لطف الحبيب يناله
أمسي وقد درست محاسن وجهه ... وتفرقت في قبره أوصاله
واستبدلت منه المحاسن غبرة ... وتقسمت من بعده أمواله
ما زالت الأيام تلعب بالفتى ... والمال يذهب صفوه وجلاله
قال ذو النون المصري رأيت سعدون في مقابر البصرة وهو يناجي ربه ويقول بصوت عال أحد أحد فسلمت عليه فرد علي، فقلت بحق من تناجيه ألا وقفت، فوقف، ثم قال: قل: قلت أوصني بوصية أحفظها عنك أو تدعو بدعوة فأنشأ يقول:
يا طالب العلم من هنا وهنا ... ومعدن العلم بين جنبيكا
إن كنت تبغي الجنان تسكنها ... فاسبل الدمع فوق خديكا
وقم إذا قام كل مجتهد ... وادعه كي يقول لبيكا
ثم مضى وهو يقول: يا غياث المستغيثين، فقلت له ارفق بنفسك فلعله ينظر إليك برحمته فنزع يده من يدي، وهو يقول:
سلام على طيب المقام سلام ... فليس لعين المستهام منام
ولو ترك الأغماض يوماً لجفنه ... لا يقظه مما يجن ضرام
ثم مضى وتركني.

قال رباح القيسي: سمعت مالك بن دينار، يقول: أصاب الناس بالبصرة قحط شديد، فخرجنا نستسقي فإذا أنا بسعدون في بعض الخرابات فقلت له بالذي خلقك استسق لنا، فرفع رأسه إلى السماء وقال " يا فاطر الأشباح والأرواح ومنشئ السحاب والرياح وفالق الأصباح بحق ما جرى البارحة أن ترحم عبادك وبلادك ولا تهلك بلادك بذنوب عبادك " قال فما استتم كلامه حتى أرخت السماء غرابيلها وجادت بوابلها فخرج يخوض الماء وهو يقول:
قل لدنياي أبعدي وتولي ... ان تريني فإنني لا أراك
وصلي واملكي وداد سوائي ... انني مغرم بحب سواك
إن تكوني أسرت بالذنب قوما ... فاذهبي أنت لست من أسراك
قال محمد بن الصباح خرجنا بالبصرة نستسقي فلما أصحرنا إذا بسعدون يفلي جبة صوف له، فلما رآنا قام وقال إلى أين ؟ قلنا نستسقي المطر، فقال بقلوب سماوية أم بقلوب خالية فقلنا بقلوب سماوية فقال اجلسوا ها هنا فجلسنا حتى ارتفع النهار والسماء لا تزداد إلا صحوا فقال يا بطالين لو كانت قلوبكم سماوية لسقيتم ثم توضأ وصلى ركعتين ولحظ السماء بطرفه وتكلم بكلام لم نسمعه فما استتم كلامه حتى أرعدت وأبرقت وأمطرت مطراً جواداً فسألناه عن الكلام الذي تكلم به فقال إليكم عني إنما هي قلوب حنت فرنت فعاينت فعلمت فعملت وعلى ربها توكلت، وأنشأ يقول:
أعرض عن الفخر والتمادي ... وارحل إلى سيد جواد
ما العيش إلا جوار قوم ... قد شربوا صافي الوداد
قال: ورأيت مكتوباً على جبته:
يا ذنوبي عليك طال بكائي ... صرت لي مأتماً فقل عزائي
في كتابي عجائب مثبتات ... ليتني ما لقيتها في بقائي
نظر العين قادني للخطايا ... إذ أذنت اللحوظ للأهواء
تالياً للقرآن يتلو المعاصي ... اسمه في السماء عبد مرائي
قال ذو النون المصري: خرجت بكرة إلى مقابر عبد الله بن مالك فإذا أنا بشخص مقنع كلما رأى قبراً منخسفاً وقف عليه فقصدته، فإذا هو سعدون، فقلت سعدون، فقال سعدون فقلت ما تصنع ها هنا ؟ فقال إنما يسال عما أصنع من أنكر ما أصنع وأما من عرف ما أصنع فما معنى سؤاله ؟ فقلت يا سعدون تعال نبكي على هذه الأبدان قبل أن تبلى، فتأوه ثم قال البكاء على القدوم على الله أولى بنا من البكاء على الأبدان، فإن يكن عندها شر أبلاها في القبور فسوف يبعثها ربها للعرض والنشور. يا ذا النون إنك إن تدخل النار فلا ينفعك دخول غيرك الجنة وإن تدخل الجنة لا يضرك دخول غيرك النار، ثم قال يا ذا النون وإذا الصحف نشرت، ثم صاح واغوثاه ماذا يقابلني في الصحف قال: فغشي علي فلما أفقت إذا هو يمسح وجهي بكمه ويقول يا ذا النون من أشرف منك إن مت مكانك هذا: قال محمد بن الصباح قرأت على قميص سعدون:
عيني أبكي علي قبل انطلاقي ... بدموع منها تسيل المآقي
واندبي مصرعي فقد مضني الشوق ... ونوحي علي قبل الفراق
قال مالك بن دينار دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون فقلت له كيف حالك وكيف أنت فقال يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفراً بعيداً بلا أهبة ولا زاد ويقدم على رب عدل، ثم بكى بكاء شديداً، قلت ما يبكيك، قال والله ما أبكي حرصاً على الدنيا ولا جزعاً من الموت لكني بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أو إلى النار، فسمعت منه كلام حكيم، فقلت له إن الناس يزعمون أنك مجنون. فقال وأنت قد اغتررت بما اغتر به بنو الدنيا زعم الناس أنني مجنون وما بي جنة ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي ودمي وعظمي فأنا والله من حبه هائم مشغوف، قلت فلم لا تجالس الناس وتخالطهم ؟ فأنشد الأبيات المشهورة:
خذ عن الناس جانباً ... كي يظنوك راهبا
وأنشد أيضاً:
ولو لم يكن شيئاً سوى الموت والبلى ... وتفريق أعضاء ولحم مبدد
لكنت حقيقاً يا ابن آدم بالبكا ... على نائبات الدهر مع كل مسعد

قال عبد الله بن خالد الطوسي: لما خرج هارون الرشيد إلى مكة فرش له من جون العراق إلى مكة لبد مرعزي وكان حلف على أن يحج راجلاً فاستند يوماً إلى ميل وقد تعب، فإذا سعدون قد عارضه وهو يقول:
هب الدنيا تواتيكا ... أليس الموت ياتيكا
فما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيكا
ألا يا طالب الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا
فما أضحكك الدهر ... كذاك الدهر يبكيكا
فشهق الرشيد شهقة فخر مغشياً عليه ثم أفاق بعد أن فاته ثلاث صلوات.
قال ذو النون بينا أنا في أزفة مصر إذا أنا بسعدون المجنون وعليه جبة صوف جديدة مكتوب عليها خطوط قد أدخل رأسه فيها، فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: قف يا أبا سعيد حتى أنظر ما على جبتك، فوقف، فقرأت على كمه الأيمن سطرين:
عصيت مولاك يا سعيد
ما هكذا تفعل العبيد
وعلى كمه الأيسر سطرين:
تباً لمن قوته رغيف ... يأتي به السيد اللطيف
يعصي إلهاً له جلال ... وهو به راحم رؤوف
ومن خلفه سطران:
كل يوم يمر يأخذ بعضي ... يذهب الأطيبان منه ويمضي
نفس كفي عن المعاصي وتوبي ... ما المعاصي على العباد بفرض
ومن بين يديه سطران:
أيها الشامخ الذي لا يرام ... نحن من طيبة عليك السلام
إنما هذه الحياة متاع ... ومع الموت يستوي الاقدام
وعلى عكازه مكتوب:
اعمل وأنت من الدنيا على وجل ... واعلم بأنك بعد الموت مبعوث
واعلم بأنك ما قدمت من عمل ... محصى عليك وما خلفت موروث
قال: فقلت له أنت حكيم ولست بمجنون، قال أنا مجنون الجوارح ولست بمجنون القلب ثم ولى هارباً.
قال ذو النون: بينا أنا أطوف ذات ليلة حول البيت وقد هدأت العيون إذ أنا بشخص قد حاذاني وهو يقول: رب عبدك المسكين الطريد الشريد من بين خلقك، أسألك من الأمور أقربها إليك وأسألك بأصفيائك الكرام من الأنبياء إلا سقيتني كأس محبتك وكشفت عن قلبي أغطية الجهل حتى أرقى بأجنحة الشوق إليك فأناجيك في أركان الحق بين رياض بهائك، ثم بكى، ثم ضحك وانصرف، فتبعته حتى خرج من المسجد فأخذ خرابات مكة فالتفت إلي وقال: مالك ارجع أمالك شغل ؟ قلت ما اسمك رحمك الله، قال عبد الله، قلت ابن من أنت ؟ قال ابن عبد الله، قلت قد علمت أن الخلق كلهم عبيد الله وبنو عبيد الله فما اسمك ؟ قال أسماني أبي سعدون، قلت المعروف بالمجنون ؟ قال نعم، قلت فمن القوم الذين سألت الله بهم ؟ قال أولئك قوم ساروا إلى الله سير من قد نصب المحبة بين عينيه وتخوف تخوف من أخذت الزبانية بقلبه ثم التفت إلي فقال ذا النون ! قلت نعم، قال يا ذا النون بلغني أنك تقول فقل لي شيئاً اسمع في أسباب المعرفة، فقلت أنت الذي يقتبس من علمك، فقال حق السائل الجواب ثم أنشأ يقول:
قلوب العارفين تحن حتى ... تحل بقربه في كل راح
صفت في ود مولاها فما أن ... لها من وده أبداً براح ؟
قال موسى بن يحيى كان سعدون إذا اشتد به الجوع يرمي بطرفه إلى السماء ويقول:
أتتركني وقد آليت حلفاً ... بأنك لا تضيع من خلقتا
وأنك ضامن للرزق حتى ... تؤدي ما ضمنت وما قسمتا
وإني واثق بك يا إلهي ... ولكن القلوب كما علمتا
قال عيسى بن علي رأيت سعدون ذات يوم، والصبيان يؤذونه، فطردت عنه الصبيان فقال بعض الصبيان هو يزعم أنه يرى ربه، فقلت له أما تسمع ما يقول الصبيان، قال وما هو، قلت يقولون أنك ترى الله عز وجل، فقال يا أخي مذ عرفت الله ما فقدته، ثم أنشأ يقول:
زعم الناس أنني مجنون ... كيف أسلو ولي فؤاد مصون
علق القلب بالبكا في الدياجي ... وهو باللّه مغرم محزون
قال وقرأت على فروة له:
نغص الموت ريحه كل طيب ... ودهاني بفقد كل حبيب
ولكم أذ رأيت من حدث السن ... غريراً كغصن بان رطيب
حسن بالموت فانثنى بانكسار ... واضعاً خده بذل عجيب
قائلاً اخوتي سلام عليكم ... آذنت شمس مدتي بالمغيب

قال مالك بن دينار كنت حاجاً فغلبتني عيناي فرقدت عند الكعبة فوقف سعدون على رأسي، فقال:
يا أيها الراقد كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وساعاته ... فازدد إذا ما سجد السجد
كتب سعدون المجنون إلى جعفر المتوكل: يا أخي، أما بعد، فإنك قد طمعت بالحياة ونسيت تراصف الأقدام وتطاير الصحف في الشمائل والإيمان، فاذكر حسراتك عند انكشاف الغطاء واقرأ فلا أنساب يومئذ بينهم ولا يتساءلون.
عطية بن إسماعيل الموكل على زمام المأمون قال كتب سعدون إلى المأمون وقد بنى قصراً:
يا من بنى القصر في الدنيا وشيده ... أسست قصرك حيث السيل والغرق
لو كنت تغني بذخر أنت ذاخره ... أسسته حيث لا سوس ولا حرق
والموت مصطبح منكم ومغتبق ... فاحتل لنفسك قبل الورد يا حمق
واذكر ثموداً وعاداً أين أنفسهم ... فلو بقي أحد من بعدهم لبقوا
ثم كتب عنوان الكتاب " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " .
عطاء بن سعيد قال كتب سعدون إلى والينا وكان قد آذانا: أما بعد. يا هذا فإنك إن لم تستح من نفسك فاستحي من ربك لا يغرك بسطه عليك فإنه إن غاقصك أهلكك وهتكك ثم كتب عنوانه إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا.
عبد الله بن سهل قال كتب سعدون إلى بعض الخلفاء.
أما بعد فإن الله أخذ على السماوات والأرض والجبال عهداً فأودعه إياهن فأما السماوات فتناثر أنجمها وانطمس شمسها واضمحل قمرها وتراصدت أقدام سكانها وارتعدت أكنافها، وأما الأرض فانزوى أطرافها واكدودر ماؤها وتناثر أوراق شجرها وأغصانها وثمارها، وأما الجبال فتحلمد شوامخها وسالت أوديتها ارتعاداً وانتقاضاً من شدة الأمانة التي كلفتها، وأنت في ضعف حياتك وبلادة خواطرك وعجزك مذ كلفت الأمانة فما تحرك عليك عضو ولا بذعر منك مفصل قد ركبت مجانب مخادعك وجعلت الدنيا نزهة بطالتك فانتبه من رقدة الوسن قبل أن يكشفك الحزن والسلام.
قال عبد الصمد بن إسرائيل كتب سعدون إلى بعض إخوانه.
أما بعد يا أخي جعلنا الله وإياك من الذين غاصوا في بحار الشوق فاستخرجوا صدف اللطف فسقط عنهم الأذى والأسف ثم كتب عنوانه من بعث راح ومن راح استراح.
قال نصر بن خالد كتب سعدون إلى بعض إخوانه.
أما بعد يا أخي جعل الله قلبك سماوياً معلقاً بجلال مودته حتى تنصب إليك ينابيع الدلائل فتسمو إليه بموارث الطاعة ثم كتب عنوانه ميراث صفاء القلوب ودوام الشبع يميت القلوب.
وديعة الواسطي قال كتب سعدون إلى بعض إخوانه: أما بعد فارحل قبل أن يرحل بك وتزود قبل المسير إلى ربك فإنك تريد قطع مفاوز لا يقطعها البطالون، قطع الله عنك الطمع وجعلك ممن وصف في كتابه لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين.
سعيد بن أبي عبيد الله الآجري قال كتب سعدون إلى بعض إخوانه: أما بعد فقد بلغني أنك تركت الآخرة وأقبلت على الدنيا، وإذا كان العبد من الله على كفاية ومال إلى الدنيا سلبه الله جل جلاله حلاوة الطاعة عنه فيظل حيران فيقبل بعد ذلك عليه فيقول عبدي ارجع إلى ما كنت عليه.
إسماعيل بن عبد الله قال كتب سعدون إلى بعض اخوانه: أما بعد من استعمل معول الفهم قوي على حفر خنادق الكد ومن أتى جب المعرفة استسقى بدلو الجد ومن نظر في مرآة الفكر سقطت عنه لذة الكرى ثم أنشأ:
ومن الناس من يعيش شقياً ... جاهل القلب غافل اليقظه
فإذا كان ذا وفاء ورأي ... حفظ الوقت واتقى الحفظه
إنما الناس راحل ومقيم ... فالذي بان للمقيم عظه
عبد الله بن سهل قال كتب سعدون إلى بعض إخوانه أما بعد يا أخي فانه من تعرض لعقوبة الله هوى وشقي ومن تعرض لرضاء الله كفي ووقى فاجعل حظك من دنياك الاشتغال بطاعة مولاك والسلام.
قال وكتب بهذا الشعر إلى بعض إخوانه:
تحب الصالحين بزعم قلبك ... وتخلو إن فقدتهم بذنبك
فمن حب الخليل تفر منه ... وهذا كله من كذب حبك
ستندم حين لا ندم بمجد ... وتعلم ما يحل غدا بجنبك
قال مالك بن دينار مات بعض قراء البصرة، فخرجنا في جنازته، فلما انصرفنا من دفنه صعد سعدون تلا ونادى:

إلا يا عسكر الأحياء ... هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى ... وهم منتظروا الكبرى
يقولون لكم جدوا ... فهذا غاية الدنيا
سلمة بن عقيل قال كتب سعدون إلى بعض إخوانه: جعلنا الله وإياك من الذين ادبوا أنفسهم بدرة الجوع وردموا خندق الأحزان وجاوزوا عقاب الشدائد وقطعوا جسر الأهوال ثم كتب عنوانه ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
إبراهيم بن سعيد النجيبي قال: كتب المتوكل إلى عامله بالبصرة إن قبلك رجلاً أديباً ظريفاً ذا حكمة فوجه به إلي على أحسن صفة غير مروع. فحمله إليه فلما ورد الباب قال له الحاجب سلم على الخليفة سلامك على الخلفاء، فدخل، ثم سلم عليه وقال: أنت المتوكل ؟ قال نعم، قال فلم سميت بالمتوكل ولم تسم بالمتواضع ؟ ثم قال: للهوى كأني السلام عليك يا من استوى على سرة الغنى وتقمص بقميص الخيانة متبعاً مقاصير علائك فلم يوقد أتاك فظ غليظ فجذبك عن سرير بهائك وأخرجك عن اللحد وفراق الأهل والولد، فلو عليك حاجباً ولا قهرمانا حتى أخرجك إلى ضيق في صحيفة بطالتك، يا من احتوى على أموال الضعفة بظلمه، غداً تبكي سرائرك بين يدي من لا تخفى عليه السرائر فتحمل على دقيق المسئلة جواباً وعلى الصراط جوازاً فستعلم وتستقرئ كل ما قد أحصى عليك بالتحقيق.
قال: فغاظه ذلك، فأمر بحبسه، فلما كان في اليوم الثاني أمر بإخراجه، فلما وقف بين يديه قال: بلغني أنك قدري تقايس في العظمة وتداخل في التكوين، فقال: يا متوكل يا من له عقل موجود وفهم غير مفقود إن مثلي لا يتكلم في القدر قال فنظر إليه مغضباً ورده إلى السجن.
فلما كان في اليوم الثالث أخرجه، فوقف بين يديه وقال: يا سعدون أنك ثنوي تقول السماء خالية بلا مدبر. فقال له: يا متوكل أسألك عن شيء تخبرني به ؟ قال: نعم، قال: من جعل سطح الهامة منبت الشعر وسقاها من حرارة الدماغ ؟ قال: الله، قال: أخبرني من مد حاجبيك فأنبت عليهما الشعر ؟ قال: الله تعالى، قال: فأخبرني من فتق العينين وجعل للحدقة بياضاً وجعل وسطها سواداً ؟ قال: الله، قال: فمن جعل فيهما ماء عذباً ولحا ؟ قال الله، قال: فأخبرني من خرق السمعين فجعل فيهما سماعا قال الله، قال: فمن ألزم القدم من الساقين فجعلهما اسطوانة للركبتين ؟ قال الله، قال فمن شد الحقوين بالوركين ؟ قال، الله قال: فمن عرفك أن تقول الله ؟ قال الله، قال: فكيف أقول السماء بلا إله ؟ قال المتوكل: بلغني أنك تقول القرآن مخلوق، قال يا متوكل ارض عن الله وثق بالله وكل شيء بقضاء الله ما يبلغ الفطنة كنه الله ولا يفوت الخلق رزق الله، الله لا يشبه خلق الله، القبض والبسط فعال الله، والجود والفخر أيادي الله، يا أيها القائل بالله بالحق والصدق عرفت الله، فلا تكن مبتدعاً في الله، ارض بدين الله، عبد الله لا شيء أحلى من كلام الله، يكون مخلوقاً كلام الله يقولها ؟ مبتدع والله !

قال: فأمر به إلى الحبس ثم اتخذ مقصورة وأمر بفرش الزرابي من الحرير الأخضر والخز والديباج ثم دعا به، فلما نظر إليه ضحك، ثم قال: يا متوكل هذا ملكك الدنيء الحقير الفاني، فقال المتوكل بلغني أنك حروري تطعن في السلطان، فقال إني لست كذلك ولكنني أصف لك مرجا أحسن من مرجك وقصراً أحسن من قصرك، قال هات، قال في الجنة مرج من ورق الآس في وسط المرج قصر من درر وشقائق وفي وسط القصر قبة من ورق السوسن والقصر والقبة مبنيان على نبات القرنفل لها حدود أربعة الحد الأول ينتهي إلى ناحية الوجلين والحد الثاني ينتهي إلى نعيم المشتاقين والحد الثالث ينتهي إلى طريق المريدين والحد الرابع ينتهي إلى غرف مملوءة بتحف وصنائع ووصائف ورفارف وإلى خيام وخدام وإلى ميدان يطوف في ساحته الولدان، أرضها من الفضة ورمالها من اللؤلؤ وقضبانها من العنبر وشرفها من الياقوت الأحمر، العرش سقفها والرحمة حشوها والأنبياء سكانها والملائكة عمارها والولدان خدامها، الزعفران حشيشها والقرنفل نباتها والسندس ثيابها، مطردة أنهارها دائمة ظلالها دانية قطوفها مطهرة أزواجها خضر رياضها لذيذ عيشها ذكي مسكها وكافورها، فهي دار العيش والنعيم المقيم، فساكن هذه الدار في نعيم لا يزول، لا غل في صدور سكانها، قد رفعت عنهم الأسقام وزالت الآلام وصاحب هذه الدار أبداً معانق الأبكار في مرافقة الأخيار وجوار الملك الجبار.
ثم قام يخطر في مشيته ويقول:
قبة من جواهر الخ ... اد بالدر رصعت
جوف قصر من الزبير ... جد بالنور وشعت
مذ بناها الجليل في ... داره ما تزعزعت
لو عليها تساقطت ... أرضها ما تصدعت
حجبت كاعب من الح ... ور فيها فابدعت
عجب الحسن والجما ... ل إذا ما تطلعت
منع الحب بالحبيب ... كما قد تمنعت
قال المتوكل أحسنت بارك الله فيك، من زعم أنك مجنون ؟ ثم أمر له بجائزة، فردها وقال حبي الله الذي جعل خزائن عطائه مفتوحة لمؤمليه وحسبي من جعل مفاتيحها حجة الطمع فيه.

بهلول
قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك سمعت بهلولاً في بعض المقابر وقد دلى رجله في قبر وهو يلعب في التراب فقلت له ما تصنع ها هنا ؟ فقال أجالس أقواماً لا يؤذونني وإن غبت عنهم لا يغتابونني، فقلت قد غلا السعر فهلا تدعو الله فيكشف، فقال والله لا أبالي ولو حبة بدينار، إن الله تعالى أخذ علينا أن نعبده كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا، ثم صفق بيديه وأنشأ يقول:
يا من تمتع بالدنيا وزينتها ... ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما لست تدركه ... تقول للّه ماذا حين تلقاه
علي بن ربيعة الكندي قال: خرج الرشيد إلى الحج فلما كان بظاهر الكوفة إذ بصر بهلولاً المجنون على قصبة وخلفه الصبيان وهو يعدو فقال من هذا، قالوا بهلول المجنون، قال كنت أشتهي أن أراه فأدعوه من غير ترويع، فقالوا له أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته، فقال الرشيد السلام عليك يا بهلول، فقال وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال كنت إليك بالأشواق، قال لكني لم أشتق إليك، قال عظني يا بهلول، قال وبم أعظك هذه قصورهم وهذه قبورهم، قال زدني فقد أحسنت، قال يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار فظن الرشيد أنه يريد شيئاً فقال قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال لا يا أمير المؤمنين لا يقضى الدين بدين أردد الحق على أهله واقض دين نفسك من نفسك، قال فإنا قد أمرنا أن يجري عليك، فقال يا أمير المؤمنين أترى الله يعطيك وينساني ؟ ثم ولى هارباً.

وروي بإسناد آخر أنه قال للرشيد يا أمير المؤمنين فكيف لو أقامك الله بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير، قال فخنقته العبرة فقال الحاجب حسبك يا بهلول قد أوجعت أمير المؤمنين، فقال الرشيد دعه، فقال بهلول إنما أفسده أنت وأضرابك، فقال الرشيد أريد أن أصلك بصلة فقال بهلول ردها على من أخذت منه، فقال الرشيد فحاجة، قال ان لا تراني ولا أراك، ثم قال يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة ابن عبد الله الكلابي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد، ثم ولى بقصبته وأنشأ يقول:
فعدّك قد ملأت الأرض طراً ... ودان لك العباد فكان ماذا
ألست تموت في قبر ويحوي ... تراثك بعد هذا ثم هذا
عبد الرحمن الأسلمي قال: قال أبي لبهلول أي شيء أولى بك ؟ قال العمل الصالح.
بعض الكوفيين قال: حج الرشيد فذكر بهلولاً حين دخل الكوفة فأمر بإحضاره وقال ألبسوه سواداً وضعوا على رأسه قلنسوة طويلة وأوقفوه في مكان كذا ففعلوا به ذلك وقالوا إذا جاء أمير المؤمنين فادع له، فلما حاذاه الرشيد رفع رأسه إليه وقال يا أمير المؤمنين اسأل الله أن يرزقك ويوسع عليك من فضله، فضحك الرشيد وقال آمين، فلما جازه الرشيد دفعه صاحب الكوفة في قفاه وقال أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون، قال بهلول اسكت ويلك يا مجنون فما في الدنيا أحب إلى أمير المؤمنين من الدراهم، فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال والله ما كذب.
قال الحسن بن سهل بن منصور سمعت بهلولاً وقد رماه الصبيان بالحصى وقد أدمته حصاة فقال:
حسبي اللّه توكلت عليه ... ونواصي الخلق طراً بيديه
ليس للهارب في مهربه ... أبداً من روحة إلا إليه
رب رام لي بأحجار الأذى ... لم أجد بداً من العطف عليه
فقلت له تعطف عليهم وهم يرمونك، قال اسكت لعل الله سبحانه وتعالى يطلع على غمي ووجعي وشدة فرح هؤلاء فيهب بعضنا لبعض.
ولبهلول:
حقيق بالتواضع من يموت ... وحسب المرء من دنياه قوت
فما للمرء يصبح ذا اهتمام ... وشغل لا تقوم له النعوت
صنيع مليكنا حسن جميل ... وما أرزاقنا مما يفوت
فيا هذا سترحل عن قريب ... إلى قوم كلامهم السكوت
قال عبد الرحمن الكوفي لقيني بهلول المجنون فقال لي اسألك، قلت اسأل، قال أي شيء السخاء قلت البذل والعطاء، قال هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين ؟ قلت المسارعة إلى طاعة الله، قال أفيريدون منه الجزاء ؟ قلت نعم بالواحد عشرة، قال ليس هذا سخاء هذه متاجرة ومرابحة، قلت فما هو عندك ؟ قال لا يطلع على قلبك وأنت تريد منه شيئاً بشيء.
قال عمر بن جابر الكوفي مر بهلول بصبيان كبار فجعلوا يضربونه فدنوت منه فقلت لم لا تشكوهم لآبائهم ؟ فقال لي اسكت فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون رحم الله ذلك المجنون ! قال صباح الوزان الكوفي لقيت بهلولاً يوماً فقال لي أنت الذي يزعم أهل الكوفة أنك تشتم أبا بكر وعمر ؟ فقلت معاذ الله أن أكون من الجاهلين، قال إياك يا صباح فإنهما جبلا الإسلام وكهفاه ومصباحا الجنة وحبيبا محمد صلى الله عليه وسلم وضجيعاه وشيخا المهاجرين وسيداهم ثم قال: جعلنا الله من الذين على الأرائك يسمعون كلام الله إذا وفد القوم إلى سيدهم.
علي بن الحسين قال: لما مات أبو بهلول خلف ستمائة درهم، فأخذها القاضي وحجز عليها، فأتاه بهلول فقال أصلح الله القاضي وتزعم أني مصاب في عقلي فأنا جائع فادع لي بمائتي درهم حتى اقعد في أصحاب الحلقات أبيع وأشتري فإن رأيت مني رشداً ضممت إليها الباقي وان تلفت فالذي اتلفت أقل مما بقي، فدعا القاضي بالكيس ووزن له مائتي درهم، فأخذها بهلول ولزم الحيرة حتى أنفدها، ثم جاء إلى القاضي وهو في مجلس الحكم فقال يا بهلول ما صنعت ؟ فقال أعز الله القاضي أنفقتها فإن رأى القاضي ان يزن من ماله مائتي درهم ويردها إلى الكيس حتى يرجع الكيس إلى ما كان، قال القاضي فتجحد لي ما أخذت ؟ قال كلا ولكنني ما أقمت عندك شاهدين بأني موضع لها، قال صدقت، ودعا بمائتي درهم وردها إلى الكيس.

قال عباس البناء نظر بهلول إلي وأنا أبني داراً لبعض أبناء الدنيا، فقال لي لمن هذه الدار ؟ فقلت لرجل من نبلاء الكوفة، فقال أرنيه فأريته إياه فناداه يا هذا لقد تعجلت الحماية قبل العناية اسمع إلى صفة دار كونها العزيز أساسها المسك وبلاطها العنبر اشتراها عميد قد ازعج للرحيل كتب على نفسه كتاباً وأشهد على ضمائره شهوداً، هذا ما اشترى العبد الجافي من الرب الوافي اشترى منه هذه الدار بالخروج من ذل الطمع إلى عز الورع فما أدرك المستحق فيما اشتراه من درك فعلى المولى خلاص ذلك وتضمينه أراه شهد على ذلك العقل وهو الأمين والخواطر وذلك في ادبار الدنيا وإقبال الآخرة أحد حدودها ينتهي إلى ميادين الصفا والحد الثاني ينتهي إلى ترك الجفا والحد الثالث ينتهي إلى لزوم الوفا والحد الرابع ينتهي إلى سكون الرضا في جوار من على العرش استوى، لها شارع ينتهي إلى دار السلام وخيام قد ملئت بالخدام وانتقال الاسقام وزوال الضر والآلام، يا لها من دار لا ينقضي نعيمها ولا يبيد، دار اسست من الدر والياقوت شرفك تلك الخدور وجعل بلاطها في البهاء والنور، قال فترك الرجل قصره وهام على وجهه، وأنشأ بهلول يصيح خلفه ويقول:
يا ذا الذي طلب الجنان لنفسه ... لا تهربن بإنه يعطيكا
قال عبد الخالق سمعت أبي يقول سمعت بهلولاً يقول من كانت الآخرة أكبر همه أتته الدنيا وهي راغمة، ثم أنشأ يقول:
يا خاطب الدنيا إلى نفسه ... تنح عن خطتها تسلم
ان التي تخطب غدارة ... قريبة العرس من المأتم
قال كثير بن روح رأيت بهلولاً ذات يوم يتمثل وهو يقول هذه الأبيات:
يا طالب الرزق في الآفاق مجتهداً ... اعتبت نفسك حتى شفك الطلب
تسعى لرزق كفاك اللّه بغيته ... اقعد فرزقك قد يأتي به السبب
كم من دنيء ضعيف العقل تعرفه ... له الولاية والأرزاق والذهب
ومن حسيب له عقل يزينه ... بادي الخصاصة لا يدري له سبب
فاسترزق اللّه مما في خزائنه ... فاللّه يرزق لا عقل ولا حسب
قال بعض أهل الكوفة ولد لبعض أمراء الكوفة ابنة فساءه ذلك فاحتجب وامتنع من الطعام والشراب فأتى بهلول حاجبه فقال إئذن لي على الأمير، هذا وقت دخولي عليه، فلما وقف بين يديه قال: أيها الأمير ما هذا الحزن أجزعت لذات سوى هيأته رب العالمين أيسرك أن لك مكانها ابنا مثلي ؟ قال: ويحك فرجت عني فدعا بالطعام وأذن للناس.
قال عبد الواحد بن زيد مر بهلول برجل قد وقف على جدار رجل يكلم امرأته، فأنشأ يقول:
كن حبيباً إذا خلوت بذنب ... دون ذي العرش من حكيم مجيد ؟
أتهاونت بالإله بديا ... وتواريت عن عيون العبيد
أقرأت القرآن أم لست تدري ... أنّ ذا العرش دون حبل الوريد
ثم ولى وهو يقول من نوقش في الحساب غفر له، فقلت له من نوقش الحساب عذب، فقال اسكت يا بطال إن الكريم إذا قدر غفر.
ولبهلول:
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لأهل الأرض من أهل السماء
قال الحسين الصقلي نظرت وقد زار سعدون بهلولاً ورأيتهما فسمعت سعدون يقول لبهلول أوصني وإلا أوصيك فناداه بهلول أوصني يا أخي فقال سعدون أوصيك بحفظ نفسك ومكنها من حبك فإن هذه الدنيا ليست لك بدار، قال بهلول أنا أوصيك يا أخي، فقال قل، فقال: اجعل جوارحك مطيتك واحمل عليها زاد معرفتك واسلك بها طريق متلفك فإن ذكرتك ثقل الحمل فذكرها عاقبة البلوغ. فلم يزالا يبكيان جميعاً حتى خشيت عليهما الفناء.
قال علي السيرافي حمل الصبيان يوماً على بهلول، فانهزم منهم فدخل دار بعض القرشيين ورد الباب، فخرج صاحب الدار فأحضر له طبقاً فيه طعام فجعل يأكل ويقول فضرب لهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
قال نعيم الخشاب كتب بهلول إلى الواثق:

أما بعد فإن المراء قد لعب بدينك والأهواء قد أحاطت بك ومقالات أهل البدع قد سلخت عنك عقلك وابن أبي داود المشئوم قد بدل عليك كلام ربك، اقرأ فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى، إلى قوله فاعبدني أيكون هذا الكلام مخلوقاً، فرماك الله بحجارة من سجيل مسومة عند ربك وما هو من الظالمين ببعيد ثم كتب عنوانه من الخائف الذليل إلى المخالف لكلام ربه تعالى.
قال سالم بن عطية كتب بهلول إلى ابن أبي داود: أما بعد فإنك قد ميزت كلام الله من الله وزعمت أنه مخلوق فإن يك ما ذكرت باطلاً فرماك الله بقارعة من عنده، ويلك أكنت معه حين كلم موسى، فإن كنت راداً عليه فاقرأ: عليها غبرة ترهقها فترة أولئك هم الكفرة الفجرة ثم كتب عنوانه من الصادق المتواضع إلى الكاذب المتجبر.
قال عبد الرحمن الهاشمي لما ولي الخلعي على شرطة بغداد وكان يرى برأي ابن أبي داود كتب إليه بهلول: أما بعد فإن السماء بأكنافها ونور كواكبها وضياء شمسها وقمرها وصفوف ملائكتها والعرش والملائكة المقربين وافحجب المزدلفة بقدرة خالقها والنار وزبانيتها والجنة وسندسها والأرضين وجبالها والجبال وكهوفها والحيتان في بحارها والوحش في قفارها والجن في أقطارها والطير في أوكارها والسباع في وجارها والأشجار وثمارها يسبحون له في الغدو والآصال.
ولبهلول في الترقيق:
اضمر من اضمر حبي له ... فيشتكي اضمار اصمار
رق فلو مرّت به ذرة ... لخضبته بدم جاري
وله أيضاً في أرق منه:
اضمر أن يأخذ المراة لكي ... ينظر تمثاله فأدناها
فجاء وهم الضمير منه إلى ... وجنته في الهوى فأدماها
وله أيضاً:
شبهته قمراً إذ مر مبتسما ... فكاد يجرحه التشبيه أو كلما
ومر في خاطري تقبيل وجنته ... فسلبت فكري من عارضيه دما
قال محمد بن عبد الله بينا أنا في مسجد الكوفة يوم الجمعة والخطيب يخطب، إذ قام رجل به لمم وجنون فقال: أيها الناس إن رسول الله إليكم جميعاً، فقام بهلول فقال " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً " .
قال علي بن خالد بت ليلة على سور طرسوس فمر بهلول فلكزني برجله ثم أنشأ يقول:
يا طالب الحور ألا تستحي ... يحملك النوم على السور
وخاطب الحور طويل البكا ... مقيد الأعضاء محصور
لا يطعم الغمض وما إن له ... راحة جسم أو يرى الحور
في جنة زخرفها ذو العلى ... ينعم فيها كل محبور
قال فانتبهت فزعاً ولم أنم بعد ذلك في الحرس.
وسئل بهلول عن رجل مات وخلف ابناً وابنة وزوجة ولم يخلف من المال شيئاً كيف تكون القسمة، فقال للإبنة الثكل وللزوجة خراب البيت وما بقي من الهم فللعصبية ! قال محمد بن خالد الواسطي أنشدني بهلول يقول:
دع الحرص على الدنيا ... وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع من المال ... فما تدري لمن تجمع
فإن الرزق مقسوم ... وسوء الظن لا ينفع
فقير كل ذي حرص ... غني كل من يقنع

عليان
قال عبد الملك بن أبجر لقيت عليان المجنون وكان اسمه عندي عليان فقلت له يا عليان فقال: لا إله إلا الله قل خيراً يا ابن أبجر ولد لأبي مولود قبلي فسماه محمداً ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ولدت فسماني علياً ببركات وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن صغرني فقد صغر وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طيبت به للتصغير بي فما طيبت بك يا ابن أبجر، فجعلت لا أسميه إلا علياً أو كنيته.
قال حفص بن غياث القاضي مررت في طاق السراجين فإذا عليان جالس، فلما جزته سمعته يقول من أراد سرور الدنيا وحزن الآخرة فليتمن ما هذا فيه فوالله لقد تمنيت لو كنت مت قبل أن ألي القضاء.
قال الحسن الكوفي قال رجل لعليان أجننت ؟ قال أما عن الغفلة فنعم وأما عن المعرفة فلا، قال كيف حالك مع المولى ؟ قال ما جفوته مذ عرفته، قال ومذ كم عرفته ؟ قال مذ جعل اسمي في المجانين !

قال السري مولى ثوبان أدركت بالكوفة مجنوناً يقال له عليان وكان يأوي إلى دكان طحان وكانت معه عصى لا تفارقه، وكان الصبيان قد علموا وقت مسيره إلى الدكان فيجتمعون ويعبثون به، فإذا بلغت أذيتهم منه قال للطحان قد حمي الوطيس وطاب اللقاء وأنا على بصيرة من أمري فما ترى ؟ فيقول شأنك، فيثب وهو يقول:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانباً
ثم يشد مئزره ويقول:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت باظهار
ثم يتناول العصا ويشد عليهم ويقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
والصبيان يهربون، فإذا أرهقهم طرح الصبيان أنفسهم وكشفوا عن عوراتهم، فيعرض عنهم بوجهه ويقول عورة المؤمن حمى لولا ذلك لتلف عمرو بن العاص يوم صفين والأخذ بكلام علي رضي الله عنه أولى بنا أمرنا أن لا نتبع مولياً ولا نذفف على جريح، ثم يرجع ويقول:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
ثم يعود إلى دكان الطحان ويلقي عصاه ويتمثل:
وألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
قال علي بن ظبيان مررت يوماً بالكوفة فلما صرت في سكك همدان إذا أنا بعليان المجنون وفي يده قصبة فارسية مثل القناة وفي رأسها كبة قطن وعليها خرقة، وإذا هو يشد على الصبيان، فإذا أدركهم قالوا القصاص يا علي، ثم يلقي القصبة من يده، فلما رأيته تهيبت أن أمر بين يديه، فقال لي مر يا علي فلست منهم فمررت فلما حاذيته قلت من نوقش في الحساب عذب قال كلا يا علي ربنا أكرم من ذلك فإنه إذا قدر عفا، قلت له من العاقل ؟ قال من حاسب نفسه وخاف ربه.
قال علي بن محمد الكناني كنت بمكة وعليان المجنون بها، وضربه الصبيان، وضربه بعض الفسقة بسكين فقطر منه الدم، فكنت أنظر إلى الدم يقطر على الأرض وبكيت له فبصرت ذلك في تسعة عشر موضعاً.
قال الإمام أبو يوسف القاضي رحمه الله كنت ماراً في طرقات الكوفة وإذا أنا بعليان المجنون فلما بصر بي سلم علي وقال لي أيها القاضي مسئلة قلت هات، قال أليس قال الله تعالى في كتابه العزيز " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " . قلت بلى قال أليس قال الله عز وجل: " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " ، قلت بلى، قال فما نذير الكلاب، قلت لا أدري فأخبرني، قال لا والله لا أقول إلا بمن رقاق من شواء ونصف من فالوذج، فأمرت من جاء بها، ودخلت معه مسجداً فأكلها حتى أتى على آخرها، فقلت هات الجواب فأخرج من كمه حجراً وقال هذا نذير الكلاب ! وقال له بعض الناس يوماً يا مجنون، فقال مهلاً إنما المجنون من عرفه ثم عصاه.
قال عطاء السلمي مررت ذات يوم في بعض أزقة الكوفة فرأيت عليان المجنون واقفاً على طبيب يضحك منه ومالي عهد كان بضحكه، فقلت له ما أضحكك ؟ قال هذا السقيم العليل الذي يداوي غيره وهو مسقام، قلت فهل تعرف له دواء ينجيه مما هو فيه ؟ قال شربة ان شربها رجوت برأه، فقلت صفها، قال خذ ورق الفقر وعرق الصبر واهليلج التواضع وبليلج المعرفة وغار يقون الفكرة، فدقها دقاً ناعماً بهاون الندم واجعله في طنجير التقى، وصب عليه ماء الحياة وأوقد تحتها حطب المحبة حتى ترمي الزبد ثم أفرغها في جام الرضا وروحها بمروحة الحمد واجعلها في قدح الفكرة وذقها بملعقة الاستغفار، فلن تعود إلى المعصية أبداً.

قال ذو النون المصري رأيت في منامي كأن قائلاً قال لي إن في دير هرقل حكيماً من الحكماء أفلا تقصده ؟ فقلت شأنك، قال أفلا اكترى لك حماراً أو بغلاً قلت لا، قال امش معي فإن الله سبحانه يقوينا على ذلك، وكان بيننا وبين الدير عشرون فرسخاً، فمشيت معه نتحدث، فأصبحنا ونحن على باب الدير كأنا لم نمش إلا يسيراً، فدخلنا الدير فسألنا عنه فقالوا لا نعرف إلا معتوهاً أو ممروراً أو مريضاً، قال ذو النون إنه وصف لنا ها هنا حكيم، قال صاحب الدير أيكما أحق بالحبس وشرب الدواء من هؤلاء ؟ ما يصنع الحكيم في دير هرقل ؟ قلنا فاذن لنا في النظر إليهم، قال شأنكما، فما من محبوس إلا تعرضنا له فما سمعنا ما دل على غرابة عقولهم حتى بلغنا إلى أقصى مقصورة فيها، فرأينا رجلاً مغلولاً مقيداً قد شد بسلسلة إلى حجر كبير، قال ذو النون فتعرضت له فقال قل خيراً تغنم أو اسكت تسلم، فسلمت عليه، فرد، فقلت له ما اسمك قال اسمي علي وأعرف بعليان الكوفي، قلت له أنت عليان الكوفي ؟ قال نعم، قلت فمن حبسك ها هنا ؟ قال الحب ينطق والحياء يسكت والحرق يقلق، فتغير لوني وارتعدت فرائصي، فقلت يا علي ما طيب العيش قال إذا قذف بك في عين الأنس فكلك معه، قلت يا علي فما بلغ بك ما أرى ؟ قال كنت عاقلاً ظريفاً وكان المدبر والسايس غيري وأنا منبوذ بين كنفه وعطفه فإن شاء عفا وإن شاء عاقب وإن شاء أبلى وإن شاء عافى وهو الفعال لما يريد، وان الطبيعة النقية يكفيها من العظمة اللمحة ومن الحكم الإشارة إليها، قلت فإن أسترشدك، قال إن كان همك طلب الدلالة فإن ذلك أمر لا نهاية له وإن كان همك وجوده فهو موجود في أول خطرة ولو احتملت الزيادة لزدناك، قال ذو النون فكنت رأيت كثيراً من العباد، فما هبت أحداً قط منهم كهيبته. قال علي بن ظبيان: أتاني عليان ذات يوم وأنا في داري فقلت له: ما تشتهي ؟ قال: فالوذج فأمرت أهل الدار فاتخذوا له فالوذجاً وقدم إليه فأكله. ثم قال: يا علي ! هذا فالوذج العام. فهل لك في فالوذج العارفين ؟ قلت نعم. قال: خذ عسل الصفا، وسكر الوفا، وسمن الرضا، ونشا اليقين. ثم القها في طنجير التقى، ثم صب عليه ماء الخوف، وأوقد تحتها نار المحبة، ثم حركها باصطام العصمة، ثم اجعلها في جام الذكر، ثم روحها في مروحة الحمد حتى تبرد، ثم كلها بملعقة الاستغفار. فإنك إن فعلت ذلك ضمنت لك أن لا تعصي ربك أبداً.
قال زهير بن حرب: أمر الخليفة موسى الهادي باحضار بهلول وعليان فأحضرا. فلما دخلا عليه قال لعليان: ايش معنى عليان ؟ قال عليان: وايش معنى موسى اطبق ؟ فغضب الهادي وقال: خذوا برجل ابن الفاعلة. فالتفت عليان إلى بهلول وقال خذها إليك. كنا اثنين فصرنا ثلاثة.
قال أبو جعفر السباح: لقيت عليان يوم العيد على شدة شوقي إليه، وقصد مقبرة فلما توسطها رفع رأسه وقال: اللهم بك صام الصائمون؛ ولك قام القائمون، وقربوا قربانهم، ودخلوا منازلهم، وأنسوا بأهاليهم. وقد قربت قرباني. فليت شعري ! ما صنعت بقرباني ؟ اللهم ! إني أصبحت لا منزل لي، ولا عندي طعام. فاجعل قرباني منك بالمغفرة. فلما رآني أرمقه؛ وثب هارباً على وجهه.
وقال أبو علي السيرافي: اشتقت إلى عليان لما كان بلغني عنه، ودخلت الكوفة في طلبه فقالوا: هو في المقبرة، فدخلت المقبرة فلما رآني هرب، فدخل مسجداً ورد الباب، فدخلت عليه فإذا هو في صلاة. فلما فرغ أقبل على مناجاته فقال: إليك توجه الطالبون وأرادوك، وإياك قصد المحبون واشتاقوك فآثروك. فدنوت منه وقلت: أحب أن تجيبني. فقال: نعم فجئت إلى منزلي به وقلت ما تشتهي ؟ فقال: ما اشتهيت منذ أربعين سنة إلا المولى. قلت: الا اتخذ لك عصيدة جيدة ؟ قال هذا إليك. فاتخذت له عصيدة بالسكر ووضعت بين يديه. فقال: لا أُريد مثل هذا ولكني أُريد على الصفة التي أصفها لك، قلت صفها لي. قال: خذ تمر الطاعات، واخرج منه نوى العجب، وخذ دقيق العبودية، وزعفران الرضا، وسمن النية، واجعل ذلك في طنجير التواضع، وصب عليه ماء الصفا، وأوقد تحتها نار الشوق، بحطب التوفيق، وحركه باصطام الحمد، واجعله على طبق الشكر، وضعه بين يدي. فمن أكل منه ثلاث لقمات كان شفاءً لصدره، وشفاءً لذنوبه، ثم قام ونفض ذيله وأنشأ يقول:
أفلح الزاهدونا والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا

أقرحوا الأعين الغزيرة شوقاً ... فمضى ليلهم وهم ساجدونا
حيرتهم مخافة اللّه حتى ... زعم الناس إن فيهم جنونا

أبو الديك
قال عبد الله بن محمد الفقيه: أرسل إلي عمران بن إسحاق بن الصباح فأتيته، وإذا أبو الديك عنده، وكان حسن البديهة، جيد الجواب. فإذا هو يحلب ويشير إلى الحائط. كأنه تكلم شيئاً، وكان لا يعتريه إلا عند الجوع، فقال عمران: علي بالمائدة. ثم قال: هلم وقال: هذه التي قال الله تعالى في كتابه حكاية عن نبيه عليه السلام " ربنا أنزل علينا مائدة من السماء " قال لي: يا عبد الله ! هذه فطن العقلاء، وأذهان الحكماء. ثم أقبل على عمران وقال: أيها الأمير ! ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. فأنا مسكين يتيم أسير في حبس شيطان قد وكل بي، أعاذني الله منه. ثم أقبل على الطعام فإذا فتى ينشد شعراً:
إن الصنيعة لا تكون صنيعةً ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فقال أبو الديك: كذب الشاعر لا يكون المعروف معروفاً حتى يصرف في أهله، وفي غير أهله، ولو كان لا يصرف إلا في أهله، كيف كان ينالني منه شيء. وأنا معتوه، وكنيتي أبو الديك.
عبد الرحمن الأشعث
قال سيف بن سوار قاضي واسط: كان عبد الرحمن بن الأشعث الكوفي جاراً لنا، وكان جميلاً وسيماً من أمثل أهل زمانه، وكان يقدم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وكان أهله على غير ذلك ثم غلبت عليه المرة فأحرقته وطيرته وكان إذا خرج من بيته أولع به الصبيان يؤذونه ويقولون: يا ذحموية فلا يجيبهم. وإذا قيل له يا عبد الرحمن قال لبيتكم أنا عبد الرحمن. فرأيته يوماً والصبيان يرمونه بالحجارة فقلت له ارميهم وكفهم عنك قال لا أفعل يمنعني من ذلك خصلتان خوف الله عز وجل وأن أكون مثلهم.
فمر بي ذات يوم وأنا جالس أقرأ كتاب الصلوات لمحمد بن الحسن وكان أخي إلى جنبي وكان مكتوفاً أسن مني وكان أحد الصالحين فقلت يا عبد الرحمن لو جلست فسمعت. فقال وكيف يا ابن جابر إنما يصيد كل طائر قدره. ثم قال يا ابن جابر لئن أعجبت بحالك عندها ولا الذين حولك ليعجبني أخوك هذا يوم القيامة بمكانه من الله إن شاء الله تعالى. فبكى أخي حتى سقط على وجهه وهو واقف ينظر إليه. ثم قال يا ابن جابر لأني أنظر إلى استبشار الملائكة ببكائك. فغشي على أخي فحمل. ثم قال يا سيف بن جابر اخزن لسانك، كما تخزن دراهمك. وإذا أعجبك الكلام فاصمت. قال: فقلت له اجلس وما أقول لك إلا لآنس بك. قال: أقول يا ابن جابر ما قال نبيه أيوب عليه السلام رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فما بقي منا واحد إلا بكى ! فقال: ما يبكيكم ؟ أليس يكفي لي خيراً مما أخذ مني حبه وحب أنبيائه وصالح عباده وتقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم ولى هارباً.
قال سيف بن جابر خرجت يوماً إلى الجبانة في جنازة فلما دفناها جعلت أدور في المقابر فإذا أنا بعبد الرحمن بن الأشعث جالس بين قبرين واضع خده على ركبتيه وهو يقول: شردتني في البلاد، وطيرتني في الجبانين، وآنستني في القبور. ثم قال: استغفر الله أما اني أعلم أنك مأمورة ولو عصيت الله سلط عليك من هو شر منك علي. قال فقلت يا عبد الرحمن من تكلم ؟ قال هذه المسلطة علي. قلت ومن هي ؟ قال المرة. قلت فلو دعوت الله سبحانه رجوت أن يذهبها عنك. قال يا ابن جابر ! ربما دعوت الله وربما سمع. وهو الفعال لما يشاء فإما دعائي فاستغاثة بالله وإما إمساكي فتسليم لأمر الله ورضى بقضائه. قلت أفلا أجلس معك أُؤنسك ؟ قال لي لا. قد جعل الله تعالى أُنسي في الوحدة. كما جعل أُنسك في حلق الفقه. ثم قال يا سيف ابن سوار ! أليس يروى أن مورقاً العجلي قال أني لأسأل الله تعالى حاجة منذ عشرين سنة، ما أُعطيتها، وما يئست منها. قلت بلى. قال لي وهو مغضب بارفع صوته يا سيف والله لو قطعني جذاماً وبرصاً لعلمت إن ذلك له وإنه الحكم العدل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
فليت

قال محمد بن عبد الرحمن الكوفي كان لنا جار يقال له فليت وكان معتوهاً. وكانت له خالة وهي عجوز كبيرة قد أدركت عجائز الحي. فكنت أتحدث عندها وكان لها عقل ودين فكنت عندها ذات يوم، إذ دخل فليت فقلت له يا فليت: أيسرك أنك أمير المؤمنين ؟ فقال لا فقلت ولم ؟ قال يثقل ظهري، ويكبر همي، وتنسيني النعم ذكر ربي. قلت وفي الأرض عاقل لا يتمنى إنه خليفة ! قال وفي الأرض عاقل يتمنى أنه خليفة.
قال محمد بن ثابت لقيت فليتاً فقلت له ما تشتهي ؟ قال عصيدة فجئته بها وأدخلته بعض المساجد فأكل حتى أتى على آخرها فظننت إن به جوعاً فقلت أتحتاج الزيادة ؟ فقال لا يا أخي هذا زادي إلى عشرة أيام.
قال عمرو العسكري رأيت فليتاً يوماً والصبيان يرمونه بالحجارة وهو يقول فلمن صبر وغفران ذلك من عزم الأمور.
قال ومر بي يوماً فقال لي كم بقي من الشهر ؟ فقلت ثلاثة أيام. قال واويلاه ! انقضى الشهر ولم أتزود فيه لمعادي.

قديس البصري
قال رجل من الأنصار لقديس البصري وكان موسوساً ذاهب العقل: يا قديس الا تعدو من الصباح إلى الرواح أيوجعك جسدك إذا جاء الليل ؟ فقال:
إذا الليل البسني ثوبه ... ثقلت فيؤنسني الموجع
رأيت التصبر ستر الهوى ... إذا اشتملت قوة الأضلع
وكيف يطيق فتى كتمه ... وأجفانه أبداً تدمع
فقلت أسألك عما يشتكي جسدك، فتنشدني الشعر. فقال: يا ابن الفاعلة ! قد أجبتك. فقلت: لا تسبني وأنا سيد من سادات الأنصار ؟ ثم قال.
وإن لقوم سوّدوك لحاجة ... إلى سيد لا يظفرون بسيد
قال صالح السري: قدم علينا محمد بن السماك العابد فقال: اروني عبادكم ؟ فذهبت به إلى قديس وقرأت إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون فشهق شهقةً وخر مغشياً عليه فخرجنا من عنده وتركناه على هذا الحال.
أبو سعيد الضبعي
قال سعيد بن عامر مر بي أبو سعيد الضبعي ذات يوم فقلت له ألا تجلس عندي ساعة ؟ قال بلى متزيناً بمجالستك فجلس فقلت: يا أبا سعيد ما أفضل الكلام ؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت وأي الأعمال أفضل ؟ قال إقام الصلاة. وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام، وبر الوالدين. قلت فأي الرجال أحب إليك ؟ قال أحسنهم خلقاً. قلت فأي النساء أحب إليك ؟ قال المتحببة النقية وإن كانت قبيحة.
قال بكار بن علي قلت لأبي سعيد يوماً كيف أصبحت ؟ قال أصبحت مؤمناً بالله لا أقول بقول القدرية ولا المرجئة ولا بقول الجهمية ولا الرافضة فأما القدرية فتزعم أن العبد لو لقي الله بمثل حبة خردل من المعاصي مصراً عليها كان في نار جهنم مخلداً. وأما المرجئة فتقول من لقي الله بشهادة لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق. وقالت الجهمية علم الله مخلوق فكفرت بالخالق. وقالت الرافضة بعث جبريل عليه السلام إلى علي فغلط فجاء إلى محمد. فكفرت بالله وجحدت محمداً صلى الله عليه وسلم. قلت فما تقول أنت ؟ قال: أقول خلق الله الخلق كما يشاء لا كما يشاؤون فمن عذبه منهم عذبه غير ظالم. ومن رحمه فرحمته وسعت كل شيء عز وجل أن يقال له لم وكيف فقد قال تعالى في كتابه العزيز " لا يُسأل عما يفعل وهم يُسالون " . ثم قال يا ابن عامر هل أنكرت شيئاً ؟ قلت لا.

قال سعيد بن عامر كان بالبصرة وال يقال له محمد بن سليمان وكان كلما صعد المنبر أمر بالعدل والاحسان. فاجتمع قوم من نساك البصرة فقالوا أما ترون ما نحن فيه من هذا الظالم الجائر وما يأمر به. فأجمعوا ان ليس له إلا أبا سعيد الضبعي. فلما كان يوم الجمعة احتوشوا أبا سعيد وهو لا يتكلم حتى يحرك فلما تكلم محمد بن سليمان حركوه. وقالوا يا أبا سعيد، محمد يتكلم على المنبر يأمر بالعدل والاحسان. فقال يا محمد بن سليمان إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا يفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. يا محمد بن سليمان ما بينك وبين ان نتمنى أنك لم تخلق إلا أن يدخل ملك الموت بيتك. قال فخنقت محمد بن سليمان العبرة ولم يقدر على الكلام. فقام أخوه جعفر بن سليمان إلى جانب المنبر فتكلم عنه. قال فأحبته النساك من حين خنقته العبرة. فقالوا مؤمن مذنب.
قال سعيد بن عامر: كان لجعفر بن سليمان جارية اسمها الخيزران وكان مفتوناً بها وشهر ذلك بالبصرة. فركب يوماً في جماعة من الموالي يريد الجمعة فمر بأبي سعيد الضبعي فلما حاذاه قيل لأبي سعيد هذا جعفر. فرفع رأسه وقال يا جعفر تحب خيزران قال نعم. فقال أبو سعيد:
نبئتها عشقت حشاً فقلت لها ... لا يعشق الحش إلا كل كناس
قال فضرب جعفر وجه دابته ومضى حياءً من الناس.
وله حكايات اكتفينا منها بهذا القدر.

جعيفران
قال محمد بن جعفر الدينوري لقيت جعيفران الموسوس وقد جاء إلى علي ابن إسماعيل الهاشمي المقلب بالظاهرية وكانت له هيئة فوقف بين يديه فقال أعطني درهماً فرماه الغلمان ونحوه. فقال:
قد زعم الناس ولم يكذبوا ... إنك من غير بني هاشم
فقال علي بن إسماعيل فضحني والله وهم بقتله. ثم قال يا جعيفران ! ما تريد ؟ قال درهماً صحيحاً، ورغيفاً حواري، وفالوذجاً، فجيء بها وقعد وأكله أجمع، وأخذ الدرهم وقال:
فكذب اللّه أحاديهم ... يا هاشمي الأصل من آدم
قال عبد الله بن عثمان أبطأ عند جعيفران يوماً. ثم عاد إلينا وهو عريان يشتد والصبيان يرمونه بالحجارة فسلم علي وقال يا عبد الله:
رأيت الناس يدعوني ... مجنوناً على حال
ولو كنت كقارون ... وفرعون باقبال
وما ذا عليّ حق ... ولكن هيبة المال
قلت أيحضرك شيء على غير هذه القافية في هذا المعنى حتى نعلم أنك شاعر فقال:
رأيت الناس يدعوني ... بمجنون على عمد
وما بي اليوم من حسن ... ولا لبس ولا عقد
ولو كنت كقارون ... ووالي رحبة الجند
رأوني راجح العقل ... جميلاً حسن القد
وما ذاك على حقٍ ... ولكن هيبة النقد
فقلت أعندك مزيد على هذا ؟ فإن جئت بالثالثة اقررت لك بأنك شاعر. فأطرق ثم قال قم بنا إلى المنزل فقمنا معه فقال:
رأيت الناس يرموني ... بوسواس لأيامي
وما كنت أخا موق ... قديماً قبل تهيامي
ولكني أرى ذاك ... لإدقاعي وإعدامي
ولو كنت أخا ملكٍ ... وإسراج وإلجام
إذا أكرمني الناس ... ولم أُرم بالمام
وكانوا كل أوقات ... يباهون باكرامي
قال فأدخلته منزلي وغذيته وقعدت أنا وقوم من أصحابنا ثم عاتبناه على ما صنع بنفسه ووبخناه بأنواع اللوم فأنشأ يقول:
رأيت الناس أحياناً ... ليروموني بوسواس
ومن يضبط يا هذا ... مقال الناس في الناس
فدع ما قاله الناس ... وعجّل صفوة الكاس
فإن الناس يفرون ... بأمثالي وأجناسي
ولو كنت أخا ملكٍ ... أتوني بين جلاسي
يقومون ويفدون ... على الرجلين والراس !
ثم قال يا فتى هذه أربعة وقام قومه فقال لي أحد أصحابي لو جئنا بقينة قلت ومن يجيء بقينة بين يدي مجنون دعونا اليوم نلهو فقد حل علينا فقال:
وندامي أكلوني ... إن تغيبت قليلا

زعموا إني مجنون ... أرى العري جميلاً
كيف لا أرعى وما لب ... صر في الناس مثيلاً
باسطاً للجود كفاً ... قائلاً خيراً فعولاً
انثي أهوى كرام ... الناس لا أهوى البخيلا
إن أكن سؤتكم اليوم ... فخلوا لي سبيلا
وابتغوا غيري نديماً ... لكم مني بديلاً
وأتموا يومكم ح - ياكم اللّه طويلاً قال فندمنا على ما كان منا فقلنا له معك نلذ ونفرح فأتيناه بثوب فطرحناه عليه وأتيناه بقينة فأنشدت له:
لا تزوّج فتهلكا ... حذرك اليوم حذركا
إن للعرس مرجعاً ... عينها يورث البكا
لا يغرنك سقف بي ... تت وفرش ومتكا
عن قليل يشكي الي ... ك فترثي لمن بكا
قال محمد بن مهدي الكاتب أتى جعيفران إلى بعض الولاة وهو يأكل فدعي إلى طعامه فأكل معه فلما كان من الغد حجب فقعد على الباب ثم كتب إليه شعراً:
عليك إذن فانا قد تغذينا ... لسنا نعود فقد كنا تسقينا
بأكله سلفت أنقت حرارتها ... ماذا بقلبك قد صمنا وصلينا
قال أبو العباس الأسدي لقيت جعيفران فقلت له أتجيز لي هذا البيت الشعر ؟ قال نعم بدرهم صحيح. قلت له نعم. قال هات فأعطيته وأنشدته.
وما الحب إلا لوعة قدمت بها ... عيون المها باللحظ بين الجوانح
فتفكر ثم قال:
ونار الهوى تطفي عن القلب فعلها ... كفعل الذي جادت به كف قادع
وأنشد أيضاً:
يا واعد الوعد ليس ينجزه ... أُفٍ لمن لا يتم كا وعدا
أُفٍ لمن لا يزال صاحبه ... في تعب من عذابه أبدا
أكلّ طول الزمان أنت إذا ... جئتك في حاجة تقول غدا
لا جعل اللّه إليك ولا ... عندك ما عشت حاجة أبدا
وله أيضاً:
لا تيأس إن كنت ذا فاقة ... تتعب في نزر من الرزق
بين الفتى في شر أحواله ... صاحب خلقان على الطرق
صار أميراً إن ذا عبرة ... وقدرة اللّه في الخلق
وذكر ابن أبي خالد قال كان بعض أصحابنا لقي جعيفران فقال له مصراع بيت إن أتممته فلك درهم قال هات قال ألا عجزت عن الصبر العقول فقال بالبداهة ! لان سبيله مر ثقيل هات الدرهم.

سهل بن أبي مالك الخزاعي
قال عبد الله بن ادريس مررت بابن أبي مالك فقال اسكت وغضب. وانقلبت عيناه فإن أعمالك كلها حادات. قال فوالله لقد داخلني من الفرق منه أمر عظيم. فلما كان يوم الجمعة حملت معي ثلاثة دراهم فأمرت انساناً يطلبه فوجدته. فدفعت له الدراهم فتبسم يحسبني إني أُكلمه فوقفت حيث أراد ثم أقبل علي فقال لي قل. قلت يا ابن أبي مالك ما تقول في النبيذ ؟ قال حلال. قلت تشربه ؟ قال إن شربته فقد شربه، وكيع وهو قدوة. قلت تقتدي بوكيع في تحليله ولا تقتدي في تحريمه. وأنا أسن منه. فقال إن قول وكيع مع اتفاق أهلب البلد. معه أحب إلي من مقالتك مع اختلاف أهل البلد عليك. وقلت له ما تقول في الغناء ؟ قال قد غنى البراء بن مالك وعبد الرحمن بن رواحة. وسمع الغناء ابن عمر. وكان عبد الله بن جعفر من التابعين. وأمسك فقلت له سميت جماعة من الصحابة وأمسكت عن عبد الله بن جعفر. فقال لأنك سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان. قال بكار بن علي كان سهل بن أبي مالك الخزاعي المجنون عالماً بالشعر. قال رجل من أصحابنا ما أجود الشعر ؟ فقال ما لا يحجبه عن القلب حاجب. مثل قول جميل:
ألا أيها النوّام ويحكم هبوا ... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب
قال عبد الله بن ادريس خرجت من عند عيسى بن موسى فانا عند طاق المخامل. إذا أنا بابن مالك المجذوب جالس قد نكس رأسه كالمغشى عليه فوقفت على رأسه فقلت يا ابن أبي مالك ! فانتبه فزعاً. فقال ما تشاء ؟ قلت أي شيء أعجب معنى ؟ قال لو قلت من أي النساء لقلت بيضاء شقراء مجدولة شهلاء. ولو قلت أي الرجال أعجب إليك ؟ لقلت أصحهم جواباً وأحسنهم مسألة. فغير مسألتي إياه. ومدح إجابته إياي. قال فلما وليت سمعته يقول انظروا إلى ابن ادريس.

أبا خالد لا زلت سبّاح غمرة ... صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطي
كسنور عبد اللّه بيع بدرهم ... صغيراً فلما شبّ بيع بقيراط !
قال فقبعت رأسي ودخلت في أضعاف الناس. ولم أعد بعدها إلى مسألته. قال ابن ادريس مررت ذات يوم جمعة بابن أبي مالك فقلت له متى تقوم الساعة ؟ قال: ما المسؤول فيها باعلم من السائل. غير إن من مات فقد قامت قيامته. والموت أول عدل الآخرة. فقلت له المصلوب يعذب ؟ قال إن كان مستحقاً فروحه يعذب. وما أدري لعل البدن في عذاب من عذاب الله. لا تدركه عقولنا. ولا أبصارنا. فإن الله سبحانه لطفاً لا يدرك. وكان جالساً في موضع رماد ومعه قطعة جص يخط بها فيستبين بياض الجص في سواد الرماد. فقلت له يا ابن أبي مالك ! ايش تصنع ؟ قال ما كان يصنع صاحبنا. قلت ومن صاحبكم ؟ قال مجنون بني عامر. قلت وما كان يصنع ؟ قال أسمعه يقول:
ومالي بها من حيلة غير انني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع
قلت ما سمعته فضحك وقال أما سمعت قول الله سبحانه ؟ " ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل " فهل رأيته ؟ هذا يا ابن ادريس كلام العرب. قال ومر بي وأنا في المسجد فصحت به ليعطف فقال:
أقبل عليّ ان أنت بين يدي ... فأنت بين يدي رب العالمين
قال ابن أويس فأفزعني والله.

أبو نصر الجهني
قال ابن أبي فديك كان عندنا رجل يكنى أبا نصر من جهينة ذاهب العقل. وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا سئل عن شيء أجاب. فأتيته ذات يوم ودفعت إليه شيئاً كان معي. فقال قد صادفت منا حاجة. فقلت يا أبا نصر ! ما الشرف؟ قال حمل ما ناب العشيرة أدناها وأقصاها. والقبول من محسنها. والتجاوز عن مسيئها. قلت فما المروءة ؟ قال إطعام الطعام. وإفشاء السلام. وتوقي الأدناس والآثام. قلت فما السخاء ؟ قال جهد المقل. قلت فما البخل ؟ قال أُف. وحول وجهه عني. قلت لم ؟ قال لا تجيبني قلت قد أجبتك.
قال ابن أبي فديك قدم علينا يوماً هارون الرشيد سنة ثلاث فأخلى له المسجد فوقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى منبره. وفي موقف جبريل عليه السلام. واعتنق اسطوانة التربة. ثم قال قفوا بي على أهل الصفة فلما أتاهم حرك أبو نصر وقيل له هذا أمير المؤمنين. فرفع رأسه إليه وقال أيها الرجل إنه ليس بين عباد الله وأُمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينك وبين رعيتك وبين الله خلق غيرك. وإن الله سائلك عنهم فأعد للمسألة جواباً. فقد قال عمر بن الخطاب لو ضاعت سخلة على شاطيء الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة. فبكى هارون. ثم قال يا أبا نصر ؟ إن رعيتي ودهري غير رعية عمر ودهره. قال دع عنك هذا. والله غير مغن عنك فانظر لنفسك فإنك وعمر لتسألان عما خولكما الله. قال ودعا هارون بمئة دينار فقال ادفعوها إلى أبي نصر. فقال أبو نصر ما أنا إلا رجل من أهل الصفة فادفعوها إلى فلان يفرقها بينهم. ويجعلني رجلاً منهم.

قال ابن أبي فديك أجدبت المدينة في سنة واشتد حال أهلها وانكشف حال قوم كانوا مستورين بها. فخرجوا يدعون وإذا أبو نصر جالس. قد نكس رأسه فقلت يا أبا نصر ! أما ترى ما في أهل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال بلى. قلت أفلا تدعو ؟ لعل الله ان يفرج عنهم. قال بلى. وحول وجهه إلى القبلة. وقال اجلس بجنبي فجلست. فانكب وعفر وجهه في التراب. ثم رفع رأسه وقال: يا فارج الهم. وكاشف الغم. ومجيب دعوة المضطرين. رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. صلى الله عليه وآله وسلم على محمد وعلى آل محمد. وفرج ما أصبح فيه أهل حرم نبيك. ثم غلب فذهب. فقمت من عنده فوالله ما خرجت من السوق حتى رأيت الشمس قد تغطت. فرفعت رأسي فإذا رجل من جراد أرى سوادهن في الهواء فما زلن يسقطن وأنا واقف انظر حتى ملأت المدينة. فاشتغل كل قوم ما في دارهم من الجراد فحشوا الأجواب وطحنوا وملحوا وملأ الناس الجرار والجناب والقواصير والبواقي جانب بيوتهم. ثم باض بعد ثلاثة أيام فانتشر في أعراض المدينة لم يخرج منها إلى غيرها ثم ما مرت بنا ثلاثة إلى أن جاءنا عشر سفاين إلى التجار فإذا هي في الوقت الذي دعا فيه أبو نصر. فرجع السعر إلى أرخص ما كان. ورجعت حال الناس إلى أحسن ما كانت. فأتيت أبا نصر وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت يا أبا نصر ! ألا ترى إلى بركة دعائك ؟ فقال لا آله إلا الله هذه رحمة الله التي وسعت كل شيء. وقال ابن أبي فديك كان أبو نصر يخرج كل جمعة فيدخل السوق فيقف على مربعة ويقول أيها الناس ! اتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون إن العبد إذا مات صحبه أهله وماله وعمله. فإذا وضع في قبره رجع أهله وماله وبقي عمله فاختروا لأنفسكم ما يؤنسكم في قبوركم رحمكم الله. ثم لا يزال يفعل ذلك في مربعة مربعة حتى يأتي مصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يمضي إلى الجمعة فلا يخرج إلا للطهور حتى يصلي العشاء الأخيرة.

حيان بن خيثم المجنون
قال عطاء السلمي: مررت ببعض أصدقائي ظاهر البلد فناداني وسألني ان أبر قسمة وناولني سكراً وسمناً ونشاءً وقال اصلحه لي. فأمرت من أصلحه. ثم أخذته تحت كسائي أمر به إليه، إذا أنا بحيان بن خيثم المجنون فقال ما معك ؟ فقلت شيء اصلحته لبعض رفقائي. فقال اكشف عنه فكشفت فقال ارفعه فان نفوسنا نفرت من أن تأكله. قلت فما تريد ؟ قال فالوذج العارفين قلت وما هو ؟ قال خذ قند الصفا. وسمن البها. وزعفران الرضا. وماء المراقبة. وانصب طنجير القلق. وأوقد تحتها حطب الحرق. واعقده باصطام الحياء. ونار الشوق. حتى يزيد زبد الصبر. وترغو رغوة التوكل. ثم ابسط على صحاف الأنس. ثم كله. قلت فإذا أكلته. قال تضج أوجاع القلوب إلى مداويها. وتشكو ألم الضمير إلى مبليها. وتبكي العيون عن محبة مبكيها شوقاً إلى تأنسه محبتها. ثم أنشد فقال:
فهام بحب اللّه في القفر سابحاً ... وحطت على سوق القدوم رواحله
نهاه النهى فارتاح للخوف باطنه ... وخاف وعيذ اللّه فالحق شاغله
فلما جرى في القلب ماء يقينه ... فأنبت زرعاً لم تجف سنابله
طوى دهره بالصوم حتى كأنما ... عليه يمينٌ إنه لا يزايله
فعاد بحزن قد جري في ضميره ... تنوح به أعضاؤه ومفاصله
يسرّ الفتى ما كان قدّم من تقى ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
قال عطاء: ومررت به يوماً وهو في المقبرة واقف على قبر يخاطبه، فقلت من تخاطب ؟ قال: صاحب هذا القبر فإنه كان صديقي ورفيقي، قلت: وما قلت ؟ قال أقول.
يا صاحب القبر يا من كان يأنس بي ... وكان يكثر في الدنيا موآتاتي
قلت وما جاوبك ؟ قال قال:
شغلت عنك بشيءٍ لست واصفه ... من الغموم ولوعاتٍ وبرحات
قال عطاء: مر بي يوماً في أزقة البصرة فقلت له كيف أصبحت ؟ قال
أصبحت لا أعرف ما صباحي ... من الهموم لا ولا رواحي
أفرط في جرمي وفي اجتراحي ... فصرت كالبازي بلا حناح
همام

قال قاضي أرجان كان أبو همام يقول بلاعتزال وكان همام ولده يقول بقوله. فغلب على عقله فتاه، فقيد وشدت يده إلى عنقه. قال: فدخلت عليه فجلست بعيداً خوفاً منه. وقلت له: يا همام ! كيف تجدك ؟ فقال لي أسكت يا قدري، فقلت له يا سبحان الله ! ما هذا الجواب ؟ أليست مقالتنا ومقالتك واحدة ؟ قال: لا ولا كرامة لك يا ابن الفاعلة. إني نظرت في مقالتك ومقالة عمك الضال المفتون فوجدتكما كافرين بالله تعالى فقلت: كيف ؟ قال انكما تزعمان أن الله سبحانه جعل فيكما استطاعة، تغلبان بها؛ استطاعة الله تعالى، وأنت يا ابن الفاعلة تزعم أن الله سبحانه وتعالى لم يقض عليك الزنا، وأنت قضيته على نفسك، فتبارك الله في حكمه، وزعمت أن الله لو قال لك افعل، فلعنك الله ولعن عمك. قلت: فأي قول أخذت لنفسك ؟ قال رددت الأمر إلى مدبرها وخالقها. وعلمت أن خيرها وشرها ونفعها وضرها منه. قلت ليتك مت قبل هذا الوقت، فقال لي: يا ابن الفاعلة الله سبحانه أرحم بي أمهلني إلى هذا الوقت الذي عرفت فيه رشدي.
قال شعيب بن مخلد الدهان: دخلت عليه يوماً فقلت له يا همام ! ما هذا الذي يبلغنا عنك ؟ قال وما يبلغكم عني ؟ قلت بلغنا أنك انتقلت من القول بالعدل إلى القول بالجور، قال همام يا ابن الفاعلة ! لو كنت تقول بالعدل لرددت الأمور إلى مدبرها وخالقها وبعد فأنت تقول بالعدل وتغشى الاثم، فرماه بحجر، فلم يزل يعرج منها. قال واجتمعت به يوماً فقلت له: يا همام ! أي شيء تأمر في ميراثك لأبيك ؟ فنظر إلي مغضباً وقال: أيتوارث أهل ملتين مختلفتين ؟ قلت له أو نحن ملتان مختلفتان ؟ قال نعم: أنتم تزعمون أن الله قضى الخير، ولم يقض الشر، وأنا أقول: أن الله قضى الخير والشر. وإن من عذبه عذبه غير ظالم، ومن رحمه فرحمته وسعت كل شيء، رحمه الله تعالى.

بعيل أو جعيل
قال عبد الله بن محكم الحمصي سألت بعيلاً وكان من أهل المحبة. متى يصح للعبد الولاية ؟ قال: إذا سبقت له العناية، وكان من مولاه في كفاية. قال وسمعته يقول وقد سئل عن العارفين:
قوم لهم همم تسمو بهم أبداً ... إلى جليل عظيم القدر غفار
قال جعفر بن عبد القادر المقدسي: سألت جعيلاً عن حد الزهد، فقال: استصغار الدنيا. فلما وليت، دعاني فقال: هو محو الدنيا من القلب، قال وسمعته في بعض الخرابات وقد خنقته العبرة وهو يقول:
يا رجائي وعصمتي ومنائي ... إلاحم اليوم ذلتي وبكائي
يا حبيبي ومؤنسي وعمادي ... وغياثي ومعقلي ورجائي
يوحنا
قال محمد بن عبد الرحمن: كنت أنا ووكيع بن الجراح بفناء دار بن صالح بالجبانة فطلع علينا عبادي على حمار وهو من أهل الحيرة يقال له يوحنا، وكان ممروراً، وكانت مرته تعيج تارة، وتسكن أُخرى. فقلت لوكيع اسمع جواب العبادي. فلما حاذانا، قال له وكيع: يا يوحنا ! لو نزلت وتحدثت معنا في هذا الفناء الكثيب. قال يوحنا: يا أبا سفيان نعم المجلس لمن كفى أهله مصالحهم. فقال له وكيع: ناولني خاتمك فناوله، فإذا عليه مكتوب العزة لله. محمد خير البرية، قال له وكيع يا يوحنا ! ما تقول في تقدمة أبي بكر وعمر ؟ قال أقدمهما في الإمامة، ولا أُقدمهما في المحبة. ثم أقبل على وكيع وقال: يا أبا سفيان وفي المحبة.
أبو علقمة
قال أبو زيد النحوي كنت أنا ورجل من قيس ومعه ابن له نريد الجمعة. وأبو علقمة على باب المسجد جالس. فقال الغلام لأبيه: أُكلم أنا أبا علقمة. فقال لا، فأعاد عليه الغلام ثلاثاً فقال له أبوه: أنت أعلم، فقال الغلام يا أبا علقمة ! ما بال لحى قيس قليلة خفيفة المؤنة، ولحى اليمن كبيرة عريضة شديدة المؤنة ؟ قال: من قول الله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته ... والذي خبث لا يخرج إلا نكدا مثل لحية أبيك ! قال فجذب القيسي يده من ابنه ودخل في غمار الناس حياءً وتستراً.
نمير

قال علي بن ظبيان كان نمير من نساك أهل الكوفة، وكان قد سمع سماعاً حسناً. وكان مواظباً على العبادات. فعرض له، فذهب عقله، وكان لا يأوي سقف بيت. فإذا كان النهار فهو في جبانة القبور، وإذا كان الليل فهو في وسط السطح قائماً على رجليه في البرد والمطر والرياح. وكنا في بعض ما هو فيه من البرد والمطر والرياح، فنزل بكرة ذات يوم يريد المقابر فقلت يا نمير ! تنام ؟ قال لا، قلت: وما العلة التي منعتك من النوم ؟ قال هذا البلاء الذي تراه بي. قلت له: يا نمير ! ما تخاف الله تقول البلاء ؟ قال: أليس قد جاء في الخبر أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. فقلت أنت أعلم مني قال كلا ومضى.

سلمة
قال الحسن بن صالح قلت لسلمة يوماً من الأيام: يا سلمة ! أتؤمن بالمعاد ؟ ففتح عينيه وغضب وقال: نعم يا حسن كأني أنظر إلى القيامة وقد قامت، وإلى كرسي القصاص وقد وضع كما شاء الله، وإلى الموازين قد نصبت، وإلى الصحف قد نشرت كما شاء، وكأني أنظر إلى فريق في الجنة، وفريق في السعير، ولكن يا حسن اتق الله ولا ترد أمر الله. فقال له الحسن: وكيف أرد أمر الله ؟ فقال: انكم معاشر الشيعة تزعمون أن أبا بكر وعمر إماما عدل وقد قال الله في كتابه العزيز أن الله يأمر بالعدل والاحسان فتولية أبي بكر وعمر من عدل الله الذي أمر به فإن لقيت الله بهذه المقالة لقيته وأنت من الخاسرين. قال عثمان وقلت له يوماً: ادع الله لي. فقال: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
" وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " . ثم قال يا عثمان ! إن الله سبحانه لم يخص أحداً، ولم يحصرها عن أحد، فيا من أمر بذلك هب لنا ولعثمان العافية في الدنيا والآخرة.
عشرة المدني
كان رجلاً عجمياً وكان يجلس تحت دار سعيد بن العاص فمر به يوماً إبان بن عثمان متولي الشرطة. فقال لصاحب بابه: احجب الناس من بين يدي، ومن خلفي. ودنا إلى عشرة المدني وكان إذا قيل له يا عشرة، تجرد. فقال له إبان بن عثمان: يا عشرة ! فلم يتكلم فألح عليه فمسك لحيته بيده وتكلم بالفارسية: يا ريش كان اللحم إذا فسد داويناه بالملح، فإذا فسد الملح بأي شيء يداوى ؟ قال إبان بن عثمان: إذا كان الأمر على ذلك. فمن عاد صالح له بهذا الاسم يعني عشرة جلدته بكذا وكذا سوطاً.
سابق
قال أبو هاشم إسرائيل بن محمد القاضي: كان بالمهرجان معتوه يقال له: سابق، وكان متوحشاً مأواه الخرابات والمقابر والغياض. وكنت أحب أن أراه وأُكلمه، فأتيته يوماً بالمقابر وقد وضع رأسه على قبر، فلم يشعر بي حتى سلمت عليه. فقال: وعليكم السلام. ثم هبته، فرفع رأسه إلي وقال لي: يا إسرائيل ! خف الله خوفاً لا يشغلك عن الرجاء. فإنك إن ألزمت قلبك الرجاء يشغلك عن الخوف. وفر إلى الله، ولا تفر منه، فإنه يدركك ولن تعجزه، ولا تطع المخلوق في معصية الخالق. واعلم أن لله يوماً تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء. ثم قام فدخل الخرابات. فعدت إليه بعد شهر، فلما أبصرني هرب، فقلت له يا سابق لا أعود إليك بعدها، فوقف فقلت: علمني كلمات أدعو بهن. فقال: أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس، ثم قال: قل اللهم اجعل نظري عبرة، وسكوني فكرة، وكلامي ذكراً. ثم تخطى حائطاً من الخراب ومضى.
قال خلف بن سالم: قلت لو يوماً يا أبا علي ألك مأوى ؟ قال نعم: قلت فأين هو ؟ قال دار يستوي فيها العزيز والذليل. قلت وأين هذه الدار ؟ قال المقابر. قلت له: يا أبا علي أما تستوحش في ظلمة الليل ووحشته ؟ قال: إني أذكر ظلمة اللحد ووحشته، فيهون علي ظلمة الليل ووحشته. فقلت له: فهل ترى في المقابر شيئاً تكرهه ؟ قال: أرى، ولكن في هول ما يشغل عن هول المقابر أعاذنا الله تعالى.
أبو جوالق
قال بعضهم: خرج أبو جوالق يوماً فلقيه بعض أصدقائه فقال: إلى أين يا أبا جوالق ؟ فقال أشتري حماراً. فقال له صديقه: قل إن شاء الله فقال: ما هذا موضع إن شاء الله. الدراهم في كمي، والحمار في السوق. قال ومضى إلى السوق فسرقت منه دراهمه. فعاد فرآه صديقه حزيناً فقال له: اشتريت الحمار ؟ فقال له: سرقت الدراهم إن شاء الله.
ثوبان القرميني

قال إسماعيل بن وهب: ركبت يوماً في مركب من البصرة أُريد سيراف. فهاج البحر بريح شديدة، وكان معنا في المركب ثوبان القرميني، فلحظ السماء بطرفه وقال: أقسمت عليك يا مأوى همم العارفين، ألا كشفت عنا الأذى. فما استتم الكلام حتى سكنت الريح، ونجونا. وروي عنه أنه كان إذا جنة الليل، يناجي ربه ويقول:
يا سروري ومنيتي وعمادي ... وأنيسي وبغيثي ومرادي
أنت روح الفؤاد أنت رجائي ... أنت لي مؤنس وشوقك زادي

أبو الصقر
قال بكر بن سليمان: مررت يوماً بأبي الصقر فقال لي: أمعك سيورجه قلت وما تريد ؟ قال أملي عليك شيئاً قلت نعم. فأخرجت لوحاً كان معي فقال أكتب:
أنّا إلى اللّه وأنّا به ... يرتفع الناس وأنحط
قد صرت نطوا في فراش الهوى ... كأني من فوقه خط
سلمة الموصلي
قال نعيم الخشاب: كان سلمة الموصلي أديباً ظريفاً قبل أن خولط. فماتت له زوجة فخولط. فمررت به ذات يوم وهو يقول لبعض أصدقائه: عليك بقصر الأمل، والاختلاع من الحول والقوة والقدرة، وكل الأمور إلى خالقها ومدبرها تسترجع وإياك والكسل فإن أخذه أليم شديد. وسمعته يوماً ينشد وهو واقف على قبر:
حسب الخليلين أن الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي
قال نعيم: وكان يجلس عندي في بعض الأحيان فأُطعمه وأُشهيه، فقلت له يوماً: يا سلمة ما الفرق بين الفعال والفعال ؟ فقال الفعال العيار في المصنوعات وهي عام، والفعال في المكارم وهي خاص. قال وكان عندي ليلة فأراد الخروج فهبت ريح شديدة فقال يا غلام هات الهلة قلت وما الهلة قال بيت المستراح.
ولهان المجنون
كان مجنوناً ذاهب العقل قال ذو النون المصري: رأيت ولهان يوماً وهو يطوف حول البيت وهو يقول: شوقك قتلني، وحبك أقلقني، والاتصال بك أسقمني، فقدت قلباً يحب غيرك، وثكلت خواطراً تسر بسواك.
وحكى أحمد بن إبراهيم الدوري قال: كان ولهان المجنون مهيباً، ذا هيبة، وكان كل من يراه يهابه من سلطان أو غيره. وكان يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، وكان يقول: يا أيها الناس تزودوا ليوم الدين، يوم تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، وينتصف فيه المظلومون من الظالمين. اعملوا، في الأيام تراخ، وفي النفس مهلة، قبل أن تؤخذوا على غرة.
بكار المجنون
قال إدريس بن عبد الرحمن: خرجت يوماً من الجامع أُريد الرجوع إلى منزلي، وإذا أنا ببكار المجنون وهو قائم في السوق يقول: " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه، ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون " . فلا يزال كذلك في مربعة مربعة حتى إذا أفلت الشمس نادى: " ومن يتقي اللّه يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه " . ثم أنشأ يقول:
ولهت قلوب العارفين يجبه ... فتناشروا وتبايعوا الأعمالا
قال علي بن بكار: سمعت بكار المجنون في جامع البصرة يقول: يا أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء، ولا تعبدوه رهباً من نيرانه، ولا طمعاً في جنانه، بل عبوديةً واستحقاقاً.
نقرة المجنون
قال عبد الله بن محمد العتبي: بينا أنا ذات يوم في صحن داري إذ هجم علي نقرة المجنون، فخفت منه وقلت: أنا بين ضربة ولطمة. فوقف في جواري وأنشأ يقول:
نظرت إلى الدنيا بعين مريضة ... وفكرة مغرور وتأميل جاهل
فقلت هي الدار التي ليس مثلها ... ونافست فيها في غرور وباطل
وضيعت أيامي أمامي طويلة ... بلذة أيام قصارٍ قلائل
ثم ولى هارباً، فوثبت إلى الدواة وكتبت الأبيات، وأغلقت الباب.
سمنون
قال ابن فاتك: قلت لسمنون أي منزل إذا نزله العبد قام مقام العبادة ؟ قال: إذا ترك التدبير. قال وقلت له يوماً: يا سمنون أسألك عن المحبة، قال عن محبة الله إياك تسأل أو عن محبتك إياه ؟ قلت عن محبة الله لي. قال: لا تطيق الملائكة أن تسمع ذلك. فكيف تطيق أنت وأنشد سمنون:
لا لأني أنساك أُكثر ذكرا ... ك ولكن بذاك يجري لساني
أنت في النفس والجوانح والفك ... ر وأنت المنى وفوق الأماني

فإذا أنت غبت عني عياناً ... أبصرتك المنى بكل مكاني
وقال له بعض الخلفاء: يا سمنون كيف وصلت إليه ؟ قال ما وصلت حتى عملت ستة أشياء. أمت ما كان حياً وهو النفس، وأحييت ما كان ميتاً وهو القلب، وشاهدت ما كان غائباً وهي الآخرة، وغيبت ما كان شاهداً وهي الدنيا، وأبقيت ما كان فانياً وهو المراد، وأفنيت ما كان باقياً وهو الهوى، واستوحشت مما تستأنسون، وأنست مما تستوحشون. ثم أنشد:
روحي إليك بكلّها قد أجمعت ... لو أن فيك هلاكها ما أقلعت
تبكي عليك بكلها في كلها ... حتى يقال من البكاء تقطعت
انظر إليها نظرةً بمودةٍ ... فلربما منّعتها فتمنعت
وله أيضاً:
لطائف برّك ما تنقضي ... وطاعات خلقك ليست تضي
تقاضوك برّاً فأوفيتهم ... ولم يقتضوا لك ما يقتضي
وما تبصر العين يا سيدي ... سوى ما تحب وما ترتضي
قال سمنون: أقمت مطروحاً على باب بني شيبة سبعة أيام مهموماً، فهتف بي هاتف في آخر ليلي. من أخذ من الدنيا فوق ما يجزيه، أعمى الله عيني قلبه، وأنشد:
أجلك أن أشكو الهوى منك انني ... اجلّك ان تومي إليك الأصابع
فأصرف طرفي نحو غيرك عامداً ... على أنه بالرغم نحوك راجع
قال: سئل سمنون أي الطعام أطيب ؟ قال لقمة من ذكر الله، في فم النفس بتوحيد الله، رفعتها من مائدة الرضا عن الله، عند حسن الظن بكرامة الله وأنشد:
حرام على قلب تحرم بالهوى ... يكون لغير الحق فيه نصيب
تفرد فيه فانفردت بحبه ... فصار عليّ شاهد ورقيب
قيل له ما علامة من بقي له ربه. قال يا هذا اجعل قبرك خزانتك، واحسنها من كل عمل صالح، فإذا وردت على ربك سرك ما ترى. وقال سمنون: رأيت إبليس في المنام ولا شك أنه إبليس، فأخذت عصاي لأضربه، فهتف بي هاتف: هو لا يهرب من عصاك، وإنما يهرب من نور القلب وأنشد:
بين المحبين سرٌّ ليس ينسبه ... قول ولا قلم في الخلق يحكيه
سرٌّ يمازجه انس يقابله ... نور تحيّز في جوٍّ من التيه
وله أيضاً:
الحب شيءٌ لطيف ليس يدركه ... عقل لإدراكه عزّ وتدبير
لكنه في مجاري السرّ بعرفه ... أهل الإشارة عزّ لا كيف وتقدير
قال محمد بن عبد الله: سألت سمنون عن قول النبي صلى الله عليه وسلم، روحوا القلوب تعي الذكر. فقال: معناه روحوا القلوب من هموم الدنيا تعي اذكار الآخرة.
قال إبراهيم بن فاتك: سئل سمنون عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، المؤمن يأكل في معىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء. فقال واحد منها طبع، وستة حرص، فالمؤمن يأكل بمعى الطبع، والكافر يأكل بأمعاء الحرص، وأنشد في المعنى:
لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرٍّ كريم
فلا يحزنك ان أبصرت حالاً ... مغيرة عن الحال القديم
فلي نفس ستذهب أو سترقى ... لعمرك بيّ في أمر جسيم
قال سمنون رأيت راهباً في صومعة. فقلت له كم لك في هذه الصومعة ؟ فقال منذ ثلاثين سنة. فقلت ما أفادتك الخلوة. قال ويحك ! هل رأيت وزيراً يخرج سر أميره ؟ ومما أنشد سمنون:
يا من فؤادي عليه موقوف ... وكل همي إليه مصروف
يا حسرة حسرة أموت بها ... ان لم يكن لي لديك معروف
وله أيضاً:
ألست لي عوضاً مني كفى شرفاً ... مما وراءك لي حظ ومطلوب
رأيت أسباب راحاتي بها عطفي ... عن العزاء فصبري فيّ مغلوب
لو أن أيوب لاقى بعض ضرك لي ... لضج من بعض ما لاقيت أيوب
وله أيضاً:
أفسدتني بهواك هل أصلحتني ... لم أرض بعدك كائناً من كانا
من ودّني قد كان ودّك فوقه ... فتركتني أتسخط الأخوانا
قال أبو نعيم الحافظ: سمنون هو ابن حمزة الخواص أبو الحسين، وقيل أبو بكر البصري سكن بغداد ومات قبل الجنيد وسمى نفسه سمنون الكذاب بسبب أبياته التي قال فيها:
فليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فامتحنّي
فحصر بوله من ساعته فسمى نفسه سمنون الكذاب.

ومن شعره قوله:
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت ببنين منك إن كنت كاذباً ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني بعيني يملح
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح

عبيد المجنون
قال ذو النون أردت الخروج إلى بيت الله الحرام، فإذا أنا في الطريق بفتى قد افترش التراب وتوسده، وهو يئن أنيناً شديداً، فقلت لرفيق كان معي: مر بنا نعود هذا العليل، فقال ما هو عليل، بل هو عبيد المجنون، فعدلت إليه، فإذا عليه جبة صوف خلق: قد أدخل رأسه في جيبها، وهو يبكي ويقول:
يا طبيب السقام داوي اعتلالي ... فعليل الفؤاد ليس يعاد
حلف السقم لا يزايل قلبي ... أيزور الفؤاد مني اللحادا
ثم قال عجبت ممن خلقه الله بشرياً سوياً، وجعل له عقلاً سنياً، وبصراً مضياً، كيف تهدي جوارحه، وكيف لا تنوح جوانحه، ثم بكر وقال:
قطعوا الليالي في الظلام فأعقبوا ... يوم المعاد تحيةً وسلاما
عبدان
قال عمرو بن مدرك مر عبدان المجنون يوماً بقوم من بني تيم الله بن ثعلبة، فعبثوا به وآذوه، فقال يا بني تيم الله، ما أعلم ما في الدنيا خير منكم. قالوا: وكيف ذاك ؟ قال بنو أسد ليس فيهم مجنون غيري وقد قيدوني وسلسلوني. وكلكم مجانين ليس فيكم مقيد واحد.
صباح الموسوس
قال محمد بن المغيرة وقف صباح الموسوس على قوم فسألهم شيئاً فردوه فولى وهو يقول:
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس
قال محمد بن المغيرة: مر صباح بقوم فظن بهم خيراً فردوه وكانوا سبعة. فسأل أحدهم فقال ما اسمك ؟ قال غليظ، وقال للثاني ما اسمك ؟ فقال الخشن، فقال للثالث وأنت ؟ فقال وعر، فقال للرابع وأنت ؟ فقال شداد، فقال للخامس وأنت ؟ فقال رداد، فقال للسادس وأنت ؟ فقال ظالم، فقال للسابع وأنت ؟ فقال لاطم. قال صباح وأين مالك ؟ قالوا ومن مالك ؟ يا مجنون ! قال ألستم خزنة النار ؟ الغلاظ الشداد !.
شقران المجنون
قال أبو عثمان الواسطي خرجنا غزاةً في الصائفة، فنحن في بعض الثغور، إذ رأيت الناس مزدحمين. فجئت فإذا أنا بمجنون يقال له شقران، وهو يقول الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها. والآخرة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها. وسمعته مرة أُخرى يقول الدنيا دار زوال وانتقال واضمحلال. والآخرة دار جلال وجمال وكمال. قال وسألته من الحكيم؟ فقال من لا يتعرض للعذاب الأليم. قلت وما العذاب الأليم ؟ قال البعد عن الكريم.
هتاهية
قال محمد بن إبراهيم قال لي أبي كان عندنا مجنون يقال له هتاهية. يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر، فيكون في إفاقته ساكناً، وإذا هاج أكثر الكلام وصعد إلى السطوح. ويقول يا نيام ! انتبهوا من رفدة الغفلة، قبل انقطاع المهلة، واعملوا في إعداد العدة، قبل انقضاء المدة، واعلموا أن أحبالكم مقصوصة، وأعمالكم محفوظة، والموت يأتي بغتة.
بكار العريان
قال أبو يعقوب السوسي رأيت ببلد مجنوناً يقال له بكار العريان. على سوءته خرقة، وبيده قصبة على رأسها كالعلم، وهو يعدو ويقول:
كفى حزناً إني مقيم ببلدة ... أحباي عنها نازحوي بعيد
أقلب طرفي في البلاد ولا أرى ... وجوه أحبائي الذين أُريد
قال قلت ومن أحباؤك ؟ فأخذ بيدي وأدخلني المقابر وأشار إليها، وقال هؤلاء.
شيبان المجنون

قال سالم خادم ذي النون بينا أنا أسير مع ذي النون في جبل لبنان، إذ قال لي مكانك يا سالم لا تبرح حتى أعود إليك، فغاب عني ثلاثة أيام، وأنا أتعيش في نبات الأرض وبقولها، وأشرب من غدرانها. ثم عاد بعد ثلاثة أيام مغبر اللون حائراً، فلما رآني عادت إليه نفسه. فقلت له أين كنت ؟ قال إني دخلت كهفاً من كهوف الجبل، فرأيت رجلاً أغبر أشعث، نحيلاً نحيفاً. كأنما أُخرج من حفرته وهو يصلي، فلما قضى صلاته سلمت عليه، رد علي السلام وقام إلى الصلاة، فما زال يركع ويسجد حتى قرب العصر، فصلى العصر واستند إلى حجر بحذاء المحراب فسبح. فقلت يرحمك الله توصيني بشيء أو تدعو لي بدعوة. فقال يا بني آنسك الله بقربه وسكت. فقلت زدني. فقال يا بني من آنسه الله بقربه أعطاه أربع خصال. عزاً من غير عشيرة، وعلماً من غير طلب، وغنىً من غير مال، وأُنساً من غير جماعة. ثم شهق شهقة فلم يفق إلى الغد حتى توهمت أنه ميت. ثم أفاق فقام فتوضأ. وقال يا بني كم فاتني من الصلاة ؟ قلت ثلاث فقضاها. ثم قال إن ذكر الحبيب هيج شوقي، وأزال عقلي، قلت إني راجع فزدني. قال أحب مولاك، ولا ترد لحبه بديلاً. فإن المحبين لله هم تيجان العباد، وزين البلاد، ثم صرخ صرخةً فحركته فإذا هو ميت. فما كان إلا بعد هنيهة إذ بجماعة من العباد منحدرين من الجبل، فصلوا عليه وواروه. فقلت ما اسم هذا الشيخ ؟ قالوا شيبان المجنون. قال سالم فسألت أهل الشام عنه. فقالوا كان مجنوناً هرب من أذى الصبيان. فقلت هل تعرفون من كلامه شيئاً ؟ فقالوا نعم كان إذا خرج إلى الصحراء يقول: فإذا لم أجن يا إلهي فبمن ؟ وربما قال فإذا لم أجن بك فبمن ؟

عفان الموسوس
قال الأصمعي قيل لعفان الموسوس لم لا تتعالج لما بك ؟ فقال قصر الرشا، وطالت البئر، وأين الملتقى ؟.
لقيط المصري
قال ذون النون المصري مررت ذات يوم بلقيط المصري، وهو يخط على الأرض باصبعه، فتأملت فإذا هو قد كتب:
فلّ حياء الناس من ربهم ... وكلهم يظهر تقواه
ليس ينال المرء من دينه ... ما نال في عاجل دنياه
يخاف أن يمقته أهله ... ولا يبالي مقت مولاه
وعابد اللّه يرى برّه ... في كل ما سرّ وما ساه
همته في كل أسبابه ... رضوان ذي العزة مولاه
ميمون الواسطي

قال المسيب بن شريك بلغني ان ميمون الواسطي المجنون أُدخل على الحجاج ابن يوسف وكان ميمون بليغاً عابداً فقال له الحجاج: أتجنن أهل مثل هذا الكلام وتسمى مجنوناً ؟ فقال يا حجاج ! إن أهل البطالة إذا نظروا لأهل المحبة سموهم مجانين وقد سبق القول منهم، لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا: لا تضمنون بيوم الحساب، وأنت يا حجاج ! لو كنت تؤمن بالله واليوم الآخر بكلية قلبك، لشغلك عن أكل الطيب، ولبس اللين، ولكنه استقذرك، فطردك، ولو أرادك لاستعملك. إن الله عباداً مطهرين مطيعين، بالعبادة مشتغلين، وهم ثلاثة أصناف: فقوماً عبدوه شوقاً إليه، فقلوبهم لا تشتغل بغيره، لأن قلوبهم قد ألفت، وسقاهم ربهم بكأس الوداد شربةً فقاموا شوقاً، فلا تحط رحالهم إلا في قرب الله. فهم خاصته في أرضه. وقوماً عبدوه خوفاً من النار، لما سمعوا قوله تعالى: " قووا أنفسكم وأهليكم ناراً " فحذروا وبادروا واجتهدوا خوفاً من النار من تحتهم ومن فوقهم وعن أيمانهم، وعن شمائلهم. فالأفاعي تلسعهم، والعقارب تلذعهم، كلما استغاثوا جدد لهم العذاب، وهو عدل من الرحمن. وقوماً عبدوه طمعاً في الجنة دار أوليائه، محل أصفيائه. لما سمعوا قوله تعالى " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " فصبروا على الألم، حتى استوجبوا الرضى، والعفو عما مضى، فقلوبهم تحن إلى جوار الله سبحانه، ليسكنهم في قصور من فضة، وخيام مزينة، ومجالس متخذة، والحور أزواجهم، والطير يظلهم، والملائكة تخدمهم. فقال الحجاج يا ميمون ! وصفت الجنة ولم تصف أزواجها، فهل لك أن أُريك شيئاً يذهل عقلك، ويلجلج لسانك ؟ ثم نادى الحجاج يا أملس ! فخرجت جارية معتدلة القامة، في حسن تام، عليها قباء رقيق وهي تمشي وتخطر، ولها ذوائب قد جللت أكتافها. فلما نظر إليها ميمون قال: ويحك يا حجاج ! ما تصنع بهذه الجارية ولها أجل مسمى، وأيام محصاة ؟ ثم اخرج من كمه رغيفاً يابساً فقال يا حجاج ! انظر إلى هذا الرغيف ويبوسته، إن أطعمته جائعاً ملهوفاً رجوت الله أن يزجني جارية كأن الشمس تطلع من بين عينيها، وكأن الغنج يجري في حركاتها فأُطرب، وتكلمني فأُنعم، وأرجو أن أكون قد استوجبتها في هذا الوقت لقولي الحق، وتركي الهوى. قال الحجاج يا ميمون: امدحني فأُحسن جائزتك. قال يا حجاج ! والله ما أعرف فيك خيراً فأقوله. وإن قلت ما أعرف فيك ذممتك، ولكن ما أذم الناس، لأن في نفسي ما شغلني عن عيب غيري. قال الحجاج: قد أمرت لك بأربعة آلاف درهم. قال: المال فرده إلى الموضع الذي سرق منه، ولا تكن لصاً جواداً تجود به على من ان ذمك لا يضرك، وإن مدحك لا ينفعك. خلي سبيلي أسأل الله بقوت يغني عن نوالك ونوال أضرابك. فخلى سبيله. وسيجيء باقي قصة ميمون معه.

طيورية المجنون
كان يحيى بن متمم الدوسي يقول: كان بدير العاقول مجنون يقال له طيورية وأخذه الشرط وهو يبول على باب المسجد فضربوه. فقال: أرأيتم لو بال ههنا حمار أكنتم تضربونه ؟ فهبوني حماراً فتركوه.
غورك المجنون
قال أبي إسحاق بن إبراهيم الابلي: رأيت غورتا المجنون يوماً خارجاً من الحمام والصبيان قيام يضربونه ويؤذونه وهو يبكي فقلت له: ما خبرك يا أبا محمد ؟ قال قد أذاني هؤلاء الصبيان، أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون ؟ قلت: ما أظنك مجنوناً. قال بلى والله وبي وعاشق شديد. قلت: هل قلت في عشقك شيئاً ؟ قال: نعم ثم أنشد:
جنون وعشق ذا يروح وذا يغدو ... فهذا له حدٌّ وهذا له حدّ
هما استوطنا قلبي وجسمي كلاهما ... فلم يبق لي قلب صحيح ولا جلد
وقد سكنا تحت الحشا وتحالفا ... على مهجة أن لا يفارقها الجهد
وأي طبيب يستطيع بحيلة ... يعالج من داءين ما منهما يدّ
قال الأيلي: فوليت عنه فقال قف واستمع ما أقول فإن شرح غرامي على الخلى يطول فوقفت فأنشد.
قال محمد بن الزراد: قلت لغورك ما حيرك ؟ قال جنون وعشق قد بليت بهما، والذي بليت به من هؤلاء الصبيان أشد. وقال:
جنون ليس يضبطه الحديد ... وحبٌّ لا يزول ولا يبيد
فجسمي بين ذاك وذا نحيل ... وقلبي بين ذاك وذا عميد
ثم قال لي إنصرف ما سمعته يكفيك وأخذ يوماً بيد المتهم بعشقه فقال له المعشوق كيف أصبحت ؟ فقال:

أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرضاً لموارد التلف
وأراك نحوي غير ملتفٍ ... محرفاً عن غير منحرف
يا من أطال بهجرة أسفي ... أسفي عليك أشد من تلفي
قال: وقلت لغورك يوماً أخبرني باحسن ما قلت في الحب ؟ قال:
كتمت جنوني وهو في القلب كامنٌ ... فلما استوى والحب أغلبه الحبّ
وقلبي والجسم الصحيح مذيبه ... فلما ذاب الجسم ذلّ له القلب
فجسمي نحيل للجنون وللهوى ... فهذا له نهب وهذا له نهب
قال جعفر بن إسماعيل: أُتى غورك بطبيب يعالجه، فقال الطبيب: لو تركتني لعالجتك وأصلحتك. فأنشأ غورك يقول:
إعلم وأيقن أيها المتكلم ... ما بي اجلّ من الجنون وأعظم
أنا عاشق فإن استطعت لعاشق ... برءاً مننت به فأنت محكم
حسبي عذابي في الهوى حسبي به ... إذ من أهيم به يصدّ ويصرم
هيهات ! أنت بغير دائي عالم ... وسواك بالداء الذي بي أعلم
دائي رسيس قد تضمنه الهوى ... تحت الجوانح ناره تتضرم
وله أيضاً:
هلموا انظروا ما أورث الحبّ انله ... أُحذركم شرّ الهوى وعواقبه
وأغرى بنفسي الشوق والهم والاسى ... فأرقني بالليل أرعى كواكبه

عباس المجنون
قال محمد بن المبارك: صعدت جبل لبنان فإذا برجل عليه جبة من صوف مكتوب عليها: لا يباع ولا يوهب. قد ائتزر بمأزر الخشوع، وارتدى برداء الورع، وتعمم بعمامة التوكل. فلما رآني استخفى وراء شجرة بلوط، فناشدته الله أن يظهر فظهر. فقلت كيف تصبر على الوحدة في هذه القفار ؟ فضحك وأنشأ يقول:
يا حبيب القلوب من لي سواكا ... إرحم اليوم مذنباً قد أتاكا
أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا
يا مرادي وسيدي واعتمادي ... طال شوقي متى يكون لقاكا
ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير اني أريدها لأراكا
ثم غاب، وعدت مراراً فلم أره. فسألت عنه فقيل لي إنه العباس المجنون له اكلتان في كل شهر من ثمر الشجر والعشب.
مان الموسوس
واسمه محمد بن القاسم
قال بكار بن علي: عزم صاحب الشرطة علي فالتمس مني من يناديه فأشرت إليه بمان الموسوس فأُحضر، فأمر به فأُدخل الحمام، وأُلبس ثياباً ثم أُدخل عليه. فقال السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله. فقال وعليك السلام يا مان ! قد آن لك أن تزورنا على شوقنا إليك. فقال أصلح الله الأمير الشوق شديد والمزار بعيد والود عنيد، والحجاب صعب والبواب فظ، ولو سهل لنا لأذن لسهلت علينا الزيارة. فقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب الشرطة للحسن بن طالوت: ما أحسن ما يلفظ في تسهيل الاذن ! فأمره بالجلوس فجلس. ودعا محمد بجارية تسمي بنوسة جارية ابن المقري وكان يحب سماعها، وكان أول ما غنت به:
ولست بناس إذ غدوا فتحملوا ... دموعي على الخدين من شدة الوجد
وقولي وقد زالت بعيني حمولهم ... بواكر تحدي لا تكن آخر العهد
فقال مان: أتأذن لي يا سيدي ؟ قال في أي شيء يا مان ؟ قال في استحسان ما أسمع، فقال أذنت لك فقل ما أحببت، فقال أحسنت ! بحق الأمير إلا زدت هذين البيتين:
وكيف أُناجي الفكر والدمع حائر ... بمقلة موقوف على الصبر والجهد
ولم يعدني هذا الأمير بعدله ... على ظالم قد لج في الهجر والصدّ
فقال له محمد: ومن أي شيء استعديت يا مان ؟ فاستحيا وقال: لا من ظلم أيها الأمير ولكن الطرب حرك شوقاً كامناً فظهر. وهل بعد الشيب من صبوة ؟ ثم غنت بنوسة بشعر أبي العتاهية:
حجبوها عن الرياح لأني ... قلت للريح بلغيها السلاما
لو رضو بالحجاب هان ولكن ... منعوها يوم الرحيل الكلاما
فقال مان ما كان على قائل هذا الشعر لو زاد فيه هذين البيتين:
فتنفست ثم قلت لطيفي ... ويك لو زرت طيفها إلماما
حبها بالسلام سرّاً وإلا ... منعوها لشقوتي أن تناما
قال محمد: أحسنت يا مان ! ثم غنت بنوسة بشعر أبي نواس:

يا خليلي ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابة فأقيما
ما مررنا بقصر زينب إلا ... فضح الدمع سرّي المكتوما
فقال مان: والله لولا رهبة الأمير، لأضفت إلى هذين البيتين بيتين، لا يردان على سمع ذي لب فيصدرا إلا عن استحسان منه لهما. فقال الأمير محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن كل رهبة فقال ما بدا لك. فقال:
ظبية كالهلال لو تلحظ الصخ ... ر بطرفٍ لغادرته هشيماً
وإذا ما تبسمت خلت ما يب ... دو من الثغر لؤلؤاً منظوما
قال محمد: أحسنت يا مان ! فأجز هذين البيتين:
لم تطب اللذات إلا بما ... دارت به ألفاظ بنّوسة
غنت غناءً عبرة ... كانت بحسن الصبر محبوسة
وكيف صبر النفس عن غادة ... تظلمها إن قلت: طاووسة
وجرت ان شبهتها بائةً ... في جنة الفردوس مغروسة
وغير عدل ان عدلنا بها ... لؤلؤةً في البحر مغموسة
جلّت عن الوصف فما فكرة ... تدركها بالنعت محسوسة
فقالت بنوسة: قد وجب شكري يا مان ! فاعدك دهرك، وعطف عليك إلفك، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك، والله يديم لنا ولك من ببقائه اجتمع شملنا، وطاب يومنا. ثم قال مان:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم المتب مملول
ليس لي خلّ فيقطعني ... فارقت نفسي الأباطيل
أنا موسول بنعمة من ... حبله بالحمد موسول
أنا مشمول بمنة من ... منّه في الخلق مبذول
أنا مغبوط بزورة من ... ربعه بالجود مأهول
ثم أومأ إليه الحسن ان قم، فنهض وهو يقول:
ملك عز النظير له ... زانه الغرّ البهاليل
طاهري في مواكيه ... عرفة في الناس مبذول
دم من يشقى بصارمه ... مع هبوب الريح مطلول
فلما خرج قال محمد: ليست خساسة المرء باتضاع حاله، ولا ينبو العين عن ناظره، بل يهذبه جوهره الذي الأدب مركب فيه. وما أخطأ صالح ابن عبد القدوس حيث يقول:
لا يعجبنك من يصون ثيابه ... حذر الغبار وعرضه مبذول
ولربما افتقر الفتى فرأيته ... دنس الثياب وعرضه مغسول
وأنشد أبو محمد بن الحسين الوضاحي لمان:
لما رأيت البدر في ... أُفق السماء قد استقلا
ورأيت قرن الشمس في ... أُفق الغروب وقد تدلى
شبهت ذاك وهذه ... فأرى شبيههما أجلا
وجه الحبيب إذا بدا ... وقفا الحبيب إذا تولى

رزام المجنون
قال علي بن عبد الملك: كان بطرسوس مجنون اسمه رزام. وكان إذا خرج المعسكر خرج مع الناس وأخذ سيفاً ودرقة، ولا يزال يلقي أعداء الدين، فإذا حصل في الحرب زال عنه جنونه، فإذا انقضى القتال، فعاد إلى البلد، رجع إلى جنونه.
مجانين الاعراب
جساس الموسوس
قال الأصمعي: قال عمي: دخلت بعض أحياء العرب فرأيت شيخاً موسوساً يهذي، وقد اجتمع إليه الناس. فقلت من هذا ؟ فقالوا جساس الموسوس لا يزال ينام ليله ونهاره، وربما ينتبه فزعاً مرعوباً فيجلس ساعةً، ثم يصيح ويهيم على وجهه، ثم يعود إلى نومه. فبت ليلةً هناك، وهو على الحال الذي وصفوه، فلما أصبحنا أتيته. فقلت ما اسمك يا شيخ ؟ أنت أنوم من فهد. مالك تنام دهرك ؟ فقال النوم لا تبعة علي فيه، وفي مجالستك ومجالسة أضرابك تبعات. قلت وأي تبعة عليك في مجالستي ؟ قال اشتغل بك عمن أنشأني، ثم أنشأ يقول:
لقد أغنيت عن هذا السؤال ... وعما أنت فيه من المقال
فإن كنت الغداة تريد قولاً ... فما فيه رضى مولى الموالي
ثم عدا هائماً على وجهه في تلك الرمال قائلاً: ما أكثر فضول أهل الحضر !.
أوفى البدوي
قال المدايني: كان بمكة مجنون يقال له أوفى البدوي من مجانين الاعراب وكان يصلي الليل كله، فإذا أحس بالصبح رمى بطرفه إلى السماء وأنشأ يقول:
ربّ مكحول بمحلول الأرق ... قلبه وقف بنيران الحرق
فكره في اللّه في أوقاته ... وبه يفتح فاه ان نطق
مجنون من بني سعد

قال الأصمعي: بينما أنا قاعد عند محمد بن سليمان الهاشمي والي البصرة إذ دخل عليه رجل فقال أصلح الله الأمير إن بالمربد أعرابياً مجنوناً من بني سعد لا يتكلم إلا بالشعر، فقال علي به، فأُتي به، فلما نظر الأعرابي إليه أنشأ يقول:
حياك ربّ الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخير
فقال محمد: وأنت فحياك الله يا أخا بني سعد، فقال الأعرابي:
إني أتاني الفارس الجلواز ... والقلب قد طار به اهتزاز
فقال الأمير إنما بعثنا إليك لنشتري ناقتك، فقال الأعرابي:
ما قال شيئاً في شراء الناقة ... وقد أتى بالجهل والحماقة
قال الأمير وما الذي أتى ؟ فقال:
قد شق سربالي وشق بردتي ... وكان زيني في الملا ومجدتي
فقال الأمير إذاً نخلع عليك، فقال الأعرابي:
نعّمك اللّه وأرخى بالك ... وأكثر اللّه لنا أمثالك
فقال الأمير بكم اشتريتها ؟ فقال:
شراؤها عشر ببطن مكة ... من الدنانير القيام السكة
ولن أبيع الدهر أو أزاد ... إني لربح في الشرا معتاد
قال الأمير فبكم آخذها ؟ فقال:
خذها بعشرٍ وبخمسٍ وازنه ... فإنها ناقة صدق مازنة
فقال الأمير بل تحط وتحسن فقال:
سبحان ربي ذو الجلال العالي ... تسأل احساني وأنت الوالي
قال الأمير فنأخذها منك ولا نعطيك شيئاً فقال:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنت لم تخش الآله فافعل
فقال الأمير إني أسألك أن تحط. فقال الأعرابي:
واللّه ما يجبرني ما تعطي ... لا يداني الفقر مني حطّي
فأمر له بألف درهم وثياب من خاصة ملبسه. فقال الأعرابي.
إني رمتني نحوك الفجاج ... أبو عيال معدم محتاج
طاوي المطيّ مع ضيق العيش ... فأنبت اللّه لديك ريشي
شرفتني منك بألفٍ حاضرة ... شرفك اللّه بها في الآخرة
وكسوة طاهرة حسان ... كساك ربي حلل الجنان
قال فضحك الأمير وقال من زعم إن هذا مجنون ؟ وددت إني كنت مثله.

أعرابي
قال العباس بن علي الهاشمي كنت والياً بمكة فجلست ذات يوم في مسجد وعندي جماعة، فوقف بنا إعرابي وقال أيكم الأمير ؟ فأُشير إلي. فقال:
يا من ترفع بالإمارة طاغياً ... إخفض عليك فللأمور زوال
فلئن أفادك ذا الزمان بصرفه ... فبصرفه تتقلب الأحوال
أبو الشريك
قال الأصمعي بينا أنا ذات يوم عند والي البصرة إذ قيل مجنون بالباب يتكلم بالشعر. فقال أدخلوه فدخل، فإذا هو رجل كأنه نخلة سحوق، نتن الأطراف موسوس، فسلم على الأمير، فرد عليه السلام وقال من أنت ؟ فقال:
إني أنا أبو الشريك الشاعر ... من سأل عني فأنا ابن الفاغر
فقال الوالي ما أمدحك لنفسك ! فقال:
لأنني أرتجل ارتجالاً ... ما شئت يا من أُلبس الجمالا
قال الأصمعي فقال لي الأمير ما هذا مجنون. فألق عليه ما عندك فقلت له ما الريم ؟ فقال:
الريم فضل اللحم للجزار ... ينحره للفتية الأيسار
فقلت ما الحلوان ؟ فقال.
أليس ما يعطي على الكهانة ... والحر لا يقنع بالمهانة
فقلت ما الدكاع ؟ فقال:
إن الدكاع هو سعال الماشية ... واللّه لا تخفي عليه خافية
قلت فما التوله ؟ فقال:
عوذة عنق الطفل عندي توله ... وقد تسمى العنكبوت توله
قلت فما الرفة ؟ فقال.
الرّفة التبن فسل ماشيتا ... لقد وجدت عالماً خرّيتا
قال الأصمعي فاستحييت من كثرة ما سألته. فقال قل لي:
ما الهلقس والسحساح ... والحمل الراوح لا يراح
قلت الهلقس الطمع للحريص، والسحساح الذي لا يستقر في موضع والراوح المهزول فقال:
ما أنت إلا حافظ للعلم ... أحسنت ما قلت بغير فهم
فقال الوالي فحبذا كل مجنون مثل هذا. ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قدم إليه المال قال.
أكلّ هذا هو لي بمرّه ... تم سروري واعترتني مسره
ثم أقبل على الأمير فقال.
رشت جناحي يا أخا قريش ... أقررت عيني وأطبت عيشي
هبنقة
قال عبد العزيز بن سعيد السيرافي قال لي أبي قد أنشد رجل هبنقة:
إهجر محل السوء لا تلمّ به ... وإذا نبابك منزل فتحول
فقال هذا أحمق بيت قالته العرب، وكيف يطيق أهل السجن النقلة ؟ هلا قال:
إذا كنت في دار يهينك أهلها ... ولم تك مكبولاً بها فتحول
جارية سوداء
قال بلال بن جماعة فكرت ذات ليلة فقلت يا رب من زوجتي في الجنة ؟ فأريت في منامي ثلاث ليال إنها جارية سوداء في أوطاس. فأتيت أوطاس فسألت عن الجارية فقال لي رجل يا هذا ! تسأل عن جارية سوداء مجنونة كانت لي فأعتقتها ؟ قلت وكيف كان جنونها ؟ قال كانت تصوم النهار، فأعطيناها فطورها فتصدقت به، وكانت لا تهدأ بالليل ولا تنام، فضجرنا منها. قلت فأين هي ؟ قال ترعى غنماً للقوم في الصحراء، فإذا أنا بها قائمةً تصلي، فنظرت إلى الغنم فإذا ذئب يدلها على المرعى وذئب يسوقها ! فلما فرغت من صلاتها، سلمت عليها فقالت يا بلال ! أنت زوجي في الجنة. قلت قد رأيت ذلك في النوم. قالت وأنا بشرت بك. فقلت ما هذه الذئاب مع الأغنام ؟ قالت نعم أصلحت شأني بيني وبينه، فأصلح بين الذئب والغنم !
عوسجة
قال محمد بن المبارك الصوري خرجت حاجاً، فإذا أنا بجارية سوداء يقال لها عوسجة بلا عطاء ولا وطاء. فسلمت عليها فردت السلام. ثم قالت أنت يا ابن المبارك على بطالتك بعد ؟ قلت لها وكيف عرفتني ؟ فقالت أضاءت مصابيح الآمال، في قلوب العمال. فتنورت جوارحي بنور الصفاء، فعرفتك بمعرفة من على العرش استوى. قلت وما الصفا ؟ قالت ترك أخلاق الجفا. قلت لها من أين جئت قالت من عنده. قلت وإلى أين تريدين ؟ قالت إليه. قلت بلا زاد ولا راحلة. قالت يا أعمى ! أسألك عن مسألة، لو أتى أحدكم واستزار خاله إلى منزله أيجمل أن يحمل معه زاداً ؟ ثم أنشأت:
ارض باللّه صاحباً ... وذر الناس جانبا
صافه الودّ شاهداً ... كنت أو كنت غائبا
لا تودّن غيره ... ذا رفيقاً مصاحبا
قال صالح بن إسماعيل سمعت عوسجة وهي تطوف بالبيت الشريف تقول:
سرائر كتمان يبوح بها الهوى ... واظهار وعد ما يراد سواه
قال عبد الرحمن الواسطي سمعت عوسجة ذات ليلة تقول:
جعل الظلام مطيةً لقيامه ... لينال وصلاً ما يريد سواه
ريحانة
قال إبراهيم بن الأدهم رحمه الله ذكرت لي ريحانة فخرجت إلى الأيلة، فإذا أنا بجارية سوداء قد أثر البكاء في خديها خطاً، فذاكرتها شيئاً من أمر الآخرة. فأنشأت تقول:
من كان راكب يوم ليس يأمنه ... وليله تائهاً في عقب دنياه
فكيف يلتذ عيشاً لا يطيب له ... وكيف تعرف عين الغمض عيناه
وأنشدت أيضاً.
صبرت عن اللذات حتى تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
ولها أيضاً:
وما عاشق الدنيا بناج من الردى ... ولا خارج منها بغير غليل
فكم ملك قد صفّر الموت بيته ... وأخرج من ظلٍ عليه ظليل
ولها أيضاً:
حسب المحب من الحبيب بعلمه ... إن المحبّ ببابه مطروح
والقلب فيه أن تنفس في الدجى ... بسهام لوعات الهوى مجروح
وأنشدت أيضاً:
بوجهك لا تعذبني فإني ... أؤمل أن أفوز بخير دار
منجدة مزخرفة العلالي ... بها المأوى ونعم هي القرار
وأنت مجاور الأبرار فيها ... ولولا أنت ما طاب المزار
وأنشدت أيضاً:
اجعل لنفسك في الليالي نبهة ... تنبهك من خلل المنام قيام
وأنس إلى طول القيام مخلدا ... واترك لذاذ النوم والأحلام
وأيضاً:
تعوّد سهر الليل ... فإن النوم خسران
ولا تركن إلى الذنب ... فإن الذنب نيران
فكن للوحي درّاساً ... وللقراء أخدان
إذا ما الليل فاجاهم ... فهم في الليل رهبان
يميلون كما مال ... من الأرياح أغصان
وأيضاً:

أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كبرت لديه
تهين المكرمات بها بصغر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما كنت محتاجاً إليه

آسية
قال إبراهيم ذكرت آسية لعبد الله بن طاهر، فدعى بها، فأُدخلت عليه، فلزمت الصمت خمسة أيام. فقال لها عبد الله أخرساء أنت، مالك لا تنطقين ؟ قالت ولكني أقول:
قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عيٍّ ومن خرس
الصمت أحمد في الحالين عاقبةً ... عندي وأحسن بي من منطق شكس
قالوا وأنت مصيب لسلت ذا خطإ ... فقلت هاتوا أروني وجه معتبس
أأنشر البر فيمن ليس يعرفه ... أم أنثر الدرّ بين العمى في الغلس
حيونة
قال راشد بن علقمة الأهوازي كانت حيونة إذا جنها الليل تقول في دعائها: يا واحدي تمنعني بالليل التلاوة، ثم تقطعني عنك بك في ضياء النهار. إلهي ! وددت أن النهار ليل حتى أتمتع بقربك.
قال سلام الأسود طلعت عليها الشمس يوماً فآذتها فقالت:
إن كنت تعلم أنني بك واله ... فاصرف سموم الشمس عني سيدي
قال فغمت السماء في الوقت.
قال سلام صامت حيونة حتى اسودت، فعوتبت في ذلك فرفعت طرفها إلى السماء وقالت قد لامني خلقك في خدمتك فوعزتك وجلالك لأخدمنك حتى لا يبقى لي عصب ولا قصب. ثم أنشأت تقول.
يا ذا الذي وعد الرضى لحبيبه ... أنت الذي ما أن سواك أُريد
قال سلام الأسود نظرت إليها في يوم شديد الحر، فقالت اسكت عند المبلغ تفرح الواردون، وعند العرض تنقطع الأسباب، وعند قوله خذوه تنشر أعلام العارفين.
زارت رابعة حيونة فلما كان جوف الليل حمل النوم على رابعة. فقامت إليها حيونة فركلتها برجلها وهي تقول قومي قد جاء عرس المهتدين. يا من زين عرائس الليل بنور التهجد.
قال سلام وقفت حيونة يوماً على عبد الواحد ثم نادت يا متكلم تكلم عن نفسك، والله لو مت ما تبعت جنازتك. قال ولم ؟ قالت تتكلم على الخليفة وتتقرب لهم ! ما شبهتك إلا بمعلم صبي علمه أن يحفظ بالعشي فإذا بكر من بيت أمه نسي. فيحتاج المعلم إلى ضربه. إذهب يا عبد الواحد ! إضرب نفسك بدرة الأدب، وتزود زاد القناعة، واجعل حظك مما أنت فيه الكلام على نفسك، ثم تكلم على الخليقة. قال سلام فلقد عرق عبد الواحد وأقام ما يتكلم على الناس سنة. وأنشدت.
وليس للميت في قبره ... فطر ولا أضحى ولا عشر
بان من الأهل على قربه ... كذلك من مسكنه القبر
قال سلام سمعت حيونة تقول: من أحب الله أنس ومن أنس طرب. ومن طرب استاق. ومن اشتاق وله. ومن وله خدم. ومن خدم وصل. ومن وصل اتصل. ومن اتصل عرف. ومن عرف قرب. ومن قرب لم يرقد. وتسورت عليه بوارق الأحزان. وكانت تقول اللهم هب لي سكون قلبي بعقد الثقة بك. واجعل جميع خواطري واثقة برضاك. ولا تجعل حظي الحرمان منك. يا أمل الآملين ! قال إبراهيم زارت ريحانة حيونة فلما جن الليل جاء المطر والريح الشديد، ففزعت ريحانة، فضحكت حيونة وقالت لها يا مدبرة العمل. لو علمت أن في قلبي محبة غيره أو خوف سواه لوجأته بالسكين.
سلمونة
قال سهل بن سعد: كانت عندنا بعبادان امرأة مجنونة اسمها سلمونة. وكانت تغيب شخصها بالنهار فلا ترى، فإذا كان الليل صعدت السطح وجعلت تنادي إلى الصباح سيدي ومولاي جنبتني عن عقلي، وأوحشتني عن خلقك وآنستني بذكرك، وقد نفيت عن خلقك، فوا أسفاه إن نفيت عنك.
ميمونة

قال إبراهيم بن الأدهم رأيت في المنام كأن قائلاً يقول: إن ميمونة السوداء زوجتك في الجنة. قال فكنت أطلبها حتى وجدت أثرها بحمص. فطلبتها فقيل إنها مجنونة لا تألف أحداً. قلت فأين هي ؟ قيل دفعنا إليها أغناماً ترعاها في الجبانة. فخرجت إلى الجبانة فإذا هي قائمة تصلي، والشاة والذئب في مكان واحد فوقفت متعجباً، فلما قضت الصلاة قالت يا إبراهيم ! الموعد في الجنة لا هنا. فعجبت من فطنتها فقلت يا سبحان الله ! ألست مؤتمنة على هذه الأغنام ؟ قالت بلى. قلت فلم عطلتيها حتى توسطتها الذئاب ؟ قالت سلمتها إلى منشئها. ثم قالت: ارتفعت الحشمة بيني وبين من أنا قائمة بين يديه. فهو الذي رفع الوحشة بين الشاة والذئاب ثم ولت وأنشأت تقول:
قلوب العارفين لها عيون ... ترى ما لا يراه الناظرونا
والسنة بسرّ قد تناجي ... تغيب عن الكرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغير ريش ... إلى ملكوت رب العالمينا
فتسقيها أشراب الصدق صرفاً ... وتشرب من كؤوس العارفينا

بجة
قال إسماعيل بن سملة بن كهل: كانت لي أخت أسن مني فذهب عقلها فكانت في غرفة في أقصى السطح. فمكثت بضع عشرة سنة وكانت مع ذلك تحرص على الطهور والصلاة وتتفقد الأوقات، وربما إذا غلبت على عقلها أياماً فتحفظ ذلك حتى تقضيه. فبينما أنا ذات ليلة إذا بباب بيتي يدق نصف الليل، فقلت من هذا ؟ قالت بجة. فقلت أُختي، قالت أُختك. قلت لبيك وقمت وفتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت من أكثر من عشرين سنة، فقلت لها يا أُختاه خير. فقالت رأيت الليلة في منامي فقيل لي السلام عليك يا بجة فرددت فقيل لي إن الله قد غفر لجدك وحفظك بأبيك إسماعيل فإن شئت دعوت الله فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة. فإن أبا بكر وعمر قد شفعا لك إلى الله بحبك أبيك وجدك وحبكم إياهما. قالت فقلت إن كان لا بد من اختيار أحدهما، فالصبر على ما أنا فيه، والجنة. وإن الله تعالى لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء إن شاء جمعهما. قيل فقد جمعهما لك، رضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقومي وانزلي. قال فأذهب الله ما كان بها وعادت إلى أحسن الحالات. وكانت إذا حضر إليها طبيب تقول: خلوا بيني وبين طبيبي أشكو إليه بعض ما أجد من بلائي فلعله يكون عنده شفائي.
مجنونة
قال ذو النون: بينا أنا أسير في طريق إنطاكية إذا بجارية مجنونة عليها جبة صوف فقالت ألست ذا النون ؟ قلت بلى، وكيف عرفتني ؟ قالت فتق الحب بين قلبي وقلبك فعرفتك، ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت تاق قلب أوليائه شوقاً إليه، فقلوبهم مربوطة بسلاسل الأنس ينظرون إليه بمعارف الألباب، ثم قالت: أسألك. قلت نعم. فقالت: أي شيء السخاء ؟ قلت: البذل والعطاء. قالت هذا السخاء في الدنيا. فما السخاء في الدين ؟ قلت المسارعة إلى طاعة الله. قالت: فإذا سارعت في طاعته ترجو منه شيئاً ؟ قلت نعم، بالواحدة عشرة. قالت مه يا بطال ! هذا في الدين قبيح وإنما المسارعة في الطاعة أن يطلع المولى على قلبك، وأنت لا تريد منه بديلاً، ثم قالت إني أُريد أن أُقسم عليه منذ عشرين سنة في طلب شهوة فاستحي منه مخافة أن أكون كأجير السوء يعمل للأجرة ولكنني أعمل تعظيماً لهيبته.
مجنون
قال إسحاق بن أحمد الخزاعي عن أبيه قال: قدم هارون الرشيد مدينة الرقة وبها دير يقال له دير. زكى فلما أقبلت المواكب أشرف أهل الدير ينظرون وفيهم مجنون مسلسل، فلما أقبل هارون رمى المجنون بنفسه فقال يا أمير المؤمنين قد قلت فيك ثلاثة أبيات فأُنشدك، قال نعم. فقال:
لحظات طرفك في العدى ... تغنيك عن سلّ السيوف
وعزيم رأيك في النهى ... يكفيك عاقبة الصروف
وسيول كفك في الندى ... بحر يفيض على الضعيف
ثم قال يا أمير المؤمنين ! هات ثلاثة آلاف دينار أشتري بها كساءً وتمراً فقال الرشيد تدفع إليه ثلاثة آلاف دينار، فحملت إلى أهله وأُخرج من الدير وكان من أهل الشرف.
شيخ مجنون

قال سوار بن عبد الله القاضي: دخلت بعض حمامات البصرة، فقلت لصاحب الحمام فيه أحد ؟ قال لا، إلا شيخ موسوس. فدخلت فإذا شيخ فقلت يا شيخ ! ما حرفتك ! قال أنا أبيع الكعاب والدوامات من الصبيان فقلت في نفسي مع من وقعت. فقال لي الشيخ فما حرفتك ؟ قلت لا أُخبرك قال والله ما أنصفتني سألتني عن حرفتي فأخبرتك، وسألتك عن حرفتك فلم تخبرني. فقلت أنا أنظر فيما بين الناس، وأمنع الظالم من المظلوم. قال الشيخ: ويقبلون منك، قلت من لم يقبل حبسته وأدبته، قال ومنك ذلك قلت نعم إن معي أعواناً من السلطان. قال الشيخ: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به. قال سوار فتصاغرت إلي نفسي.

مجنون
قال محمد بن يعقوب الأزدي عن أبيه دخلت دير هرقل فوجدت فيه مجنوناً مكبلاً، فكلمته فوجدته أديباً. فقلت ما الذي غيرك إلى ما أرى ؟ فقال:
نظرت إليها فاستحلت بنظرة ... دمي ودمي غالٍ فارخصه الحب
وغاليت في حبي لها ورأت دمي ... رخيصاً فمن هذين داخلها العجب
قال بعضهم لقيت بعض المجانين، فقلت له يوم غيم قال:
أرى اليوم يوماً قد تكاثف غيمه ... وأقتامه فاليوم لا شكّ ماطر
وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المحاجر
مجنون
قال الجاحظ: رأيت مجنوناً بالكوفة فقال لي من أنت ؟ قلت عمرو بن بحر الجاحظ. قال يزعم أهل البصرة أنك أعلمهم. قلت إن ذلك لقال. قال من أشعر الناس ؟ قلت امرئ القيس. قال حيث يقول ماذا ؟ قلت:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والخشف البالي
قال فأنا أشعر منه، قلت حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقول:
كأن وراء الستر فوق فراشها ... قناديل زيت من ورام قرام
فأينا أشعر ؟ قلت أنت. قال فأيهما أقوى الماء ؟ قلت الريح. قال لم تصب. قلت وكيف ؟ قال يقع الثوب في الماء فيبتل في طرفة عين، ويبسط في الريح فلا يجف إلا بعد ساعات، أصبت أم أخطأت ؟ فقلت أصبت.
مجنون أسود
قال ذو النون: ركبت البحر ومعنا مجنون أسود ذاهب العقل فلما توسطنا البحر قال الملاح: زنوا الكراء، فوزنا حتى إذا بلغوا إليه فقالوا له زن فأنشأ يقول:
ليس القلوب تفوز أنس أنيسها ... فتحيرت بين المحبة والهوى
قال الملاح: زن، قال بعثنا إلى الخازن ليزن لك، قال وأين الخازن ؟ قال في البحر صيرفي خازن. قال ذو النون فبينا نحن في ذلك إذ هاج موج عظيم فخرجت منه سمكة فاغرة فاها مملوء فوها دنانير، فجاءت حتى وقفت بقرب الأسود. فقال الأسود يا ملاح ! خذها إليك وإياك أن تسرق فأخذ منها ديناراً، فلما خرجنا سألت عنه فقيل هذا مجنون لم يفطر منذ خمسين سنة لا يطعم في الشهر إلا مرة.
شاب
مجنون
قال المبرد: دخلت دار المرضى فإذا أنا بشاب مقيد إلى جدار. فقال لي من أنت وما حرفتك ؟ فسكت. فنظر إلى المحبرة في يدي، فقال أمن أهل الحديث وحملة الآثار ؟ أم أهل الأدب والنحو ؟ قلت من أهل الأدب والنحو. قال من أصحاب من ؟ قلت من أصحاب أبي عثمان المازني. قال فهل لك معرفة بصاحبه الذي قعد في مكانه ؟ قلت إني به لعارف. قال ما سمعت في نسبه ؟ قلت يقولون أنه من ثمالة الأزد. قال أنه مطعون فيه. قلت لا. قال قد قال عبد الصمد فيه:
سألنا عن ثمالة كل حيّ ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهاله
ولد مجنون
قال معقل بن علي: كان عندنا بالمدينة رجل من ولد كثير بن الصلت حسن الوجه، نظيف الثياب، كثير المال، ملازماً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فغلبت عليه المرة، فأحرقته فذهب عقله، فكان بعد ذلك يجلس في المزابل، فمررت به ذات يوم. فقلت له يا ابن كثير ! عز علي ما أرى بك. فقال الحمد لله الذي لم يجعلني ساخطاً لقضائه وقدره، يا أخا الأنصار روى أهل العراق أن عطاءً الخراساني كان يغازيهم في سبيل الله، فيقوم الليل حتى إذا انفجر الصبح نادى بأعلى صوته يا عبد الرحمن بن يزيد ! ويا هشام بن الغار ! قوما فصليا، فإن مكابدة هذا الليل الطويل، خير من مقطعات النيران والسلاسل والأغلال، النجاة النجاة يا أخا الأنصار ! فلعل ما أنا فيه بدل من النار.
مجنون

قال أبو القاسم الصوفي: دخلت البيمارستان بالبصرة فرأيت في المجانين من تفرست فيه فسلمت فرد علي، فقلت ما هذا المكان ؟ فقال رضي لي بهذا فلا يعارض فيما يريد، قلت: الذي يقول:
تعرف في الفكر إذا ... رحّله الشوق رحل
وحيث ما كان إذا ... أنزله الحب نزل
وهكذا أهل الهوى ... يلقون في الحب الخبل
مختبل معتبر ... يهيم في كل جبل
لو خطر الوهم به ... على التجني لاعتدل

فتى مجنون
قال أحمد بن يحيى: كان ببغداد فتى يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر كما كان، فاستقبلني يوماً في بعض السكك فقال ثعلب ! قلت نعم، قال فأنشدته:
وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم هجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... حتى تكون أخا دمٍ وذبائح
فتضاحك وسكت ساعة، ثم قال: ألا قال:
إذاهبا بي إن لم يكن لكما عق ... ر إلى ترب قبره واعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان
ثم إني بعد ذلك رأيته فتأملني، وقال ثعلب ! قلت نعم. قال أنشدني فأنشدته:
أعار الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا
وإن أسد شكا جبناً ... أعار فؤاده الأسدا
ثم ضحك. ثم قال: ألا قال:
علم الجود الندى حتى إذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد
فله الجود مقرّ بالندى ... وله الليث مقرٌّ بالجلد
رجل مجنون
قال أبو إسحاق الرملي: كان رجل يشير إلى الحقائق، ويلحقه الوجد مع كل لحظة ولفظة. فغلب على عقله، فلقيته في المقابر وهو ينشد:
قد ضل عقلي وذاب جسمي ... وصنت عهدي وخنت عهدك
لو قلت للنار عذبيه ... إذا ابتلاني أخفرت وعدك
لصرت في قعرها أُنادي ... إياك أبغي إياك وحدك
فتى مجنون
قال حيان بن علي التونسي: ركبت بحر الصين فوقعت في جزيرة فدخلت بعض سككها فقيل لي احذر، فإن هناك فتى مجنوناً، فبينما أنا واقف إذ خرج علي فتىً مدهوش، مرتدياً بأشجانه، مؤتزراً بأحزانه، وهو يقول: لك هطلت الآماق، ولك بكت الأحداق، وذكرك مشهور في الآفاق، يا من ينعم بحبه لأهل الأشفاق، يا من يداوي جراحات أهل الوجد والاحتراق، فسلمت عليه فرد علي، ثم أنشأ يقول:
وكن لربك ذا حب لتخدمه ... إن المحبين للأحباب خدّام
قوم يبيتون من وجد ومن قلق ... ومن محبته في الليل قوّام
قد قطّعوا الليل دهراً في محبته ... ما أن ترونهم بالليل نوّام
مجنون
قال ابن جبلة الساوي: رأيت بالكوفة مجنوناً قد تمنطق بمنطقة عريضة عليها مكتوب:
حب ذي العرش سناء وشرف ... وهدايا وعطاء وتحف
فتهجد في دجى الليل له ... لترى منه أعاجيب اللطف
مجنون في دمشق
قال الحسن بن علي بن جعفر الخياط بالكوفة سمعت أبي يقول: رأيت مجنوناً في سوق دمشق وهو يقول:
يا غافلاً مقبلاً على أمله ... وجاهلاً والنساء في عمله
كم نظرة لامرئٍ يسرّ بها ... لعلّها منه منتهى أجله
شاب مجنون
قال الحسن بن علي بن عبد الرحمن القناد قال: دخلت دار المرضى بالشام فرأيت شاباً مسلسلاً مغلولاً مستوقراً فقال يا شيخ إن رويتك أبياتاً تحفظها ؟ قلت نعم. قال:
يا نفس قومي بي فقد نام الورى ... ان تفعلي خيراً فذو العرش يرى
وأنت يا عين دعي عنك الكرى ... عند الصباح يحمد القوم السرى
رجل مدهوش
قال سهل بن علي الأنباري: اجتمع قوم إلى المنصور فقالوا له: يا أبا السري في جوارنا رجل مدهوش، ذاهب العقل، لا ترى له صورة. فقال منصور: أوقفوني عليه، فأتوا به بابه ليلاً فلما غارت النجوم وهدأت العيون سمعوه يقول:
طال القيام لهجعة النوام ... وتراك مطلعاً لطول مقامي
يا سيدي ومؤملي وموثقي ... من أجل حبك قد هجرت منامي
فأجابه منصور:
يا ذا الذي هجر الرقاد لربه ... إبشر بدار تحية وسلام

يوم القدوم عليه في دار البقا ... يوم تزف إليه بالخدام

شيخ
قال محمد بن جعفر الطبيب الخاقاني الطبرستاني دخلت دار المرضى ببغداد فإذا شيخ مقيد يبكي وقد خنقته العبرة. فقلت له مالك ؟ فأنشأ يقول:
من كان أذنب ذنباً ... فليدن مني قليلاً
لعلنا نتباكى ... على الذنوب طويلا
مجنون
قال مهلهل بن علي العنزي: كان عندنا في عنزة مجنون يرمي ويضرب، فقلت له الآن ترمي وتشد فأنشأ يقول:
ليس على قوتٍ فائتٍ أسف ... ولا تراني عليه اليوم ألتهف
ما قدر اللّه لي فليس له ... عني إلى من سواي ينصرف
ومانع ما لديه قلت له ... لا ضير، في اللّه منك لي خلف
شيخ
قال بعضهم: دخلت دار المجانين وعلي شارة حسنة، وثياب فاخرة، فإذا شيخ مقيد مغلول، فجعلت أنظر إليه، فقال مه ! أتعجب مني ؟
أتعجب مني في قيودي وأغلالي ... وأنت رضي البال في العز والمال
فلا أنت تبقى بعد مالٍ كسبته ... ولا أنا أبقى في قيودي وأغلالي
شاب
قال أبو الحسن العنسي المؤدب: دخلت الموصل فبينا أنا ذات يوم في أزقتها إذا صياح وجلبة، وإذا هي دار المجانين، فدخلت إليها فإذا شاب حسن شحط في الدم، فسلمت عليه فرد وقال من أين جئت ؟ قلت من بالس. قال وأين تريد ؟ قلت العراق، قال لي: أتعرف بني فلان ؟ وأشار إلى بيت قلت نعم. قال لا صنع الله لهم، فهم الذين أدهشوني وأحلوني هنا. قلت: وما فعلوا ؟ قال:
زمّوا المطايا واستقلوا صحىً ... ولم يبالوا قلب من تيموا
ما ضرّهم واللّه يرعاهم ... لو ودّعوا بالظرف أو سلّموا
ما زلت أذري الدمع في إثرهم ... حتى جرى من بعد دمعي دم
ما أنصفوني يوم قاموا ضحى ... ولم يفوا عهدي ولم يرحموا
شخ مجنون
قال محمد بن عماد البغدادي: كان بجوار جنيد قدس سره شيخ مجنون، فلما مات جنيد رحمه الله وقف الشيخ المجنون على تل، ثم أنشأ يقول:
واحسرتا من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون
والمزن والمدن والرواسي ... والخير والأمن والسكون
لم تتغيّر لنا الليالي ... حتى توفيهم المنون
فكل جمر لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون
شاب مجنون
قال بعضهم: دخلت دار المجانين بالبصرة، فرأيت شاباً أحسن الناس وجهاً، وقد قيد وغل، وكنت رأيته في البزازين قبل ذلك صاحب نعمة. فقلت ما الذي دهاك ؟ فأنشأ يقول:
تمطّى عليّ الدهر في متن قوسه ... ففرقنا منه بسهم شتات
فيا زمناً ولّى على رغم أهله ... ألا عد كما قد كنت مذ سنوات
غلام مجنون
قال الوليد بن عبد الرحمن السقاء برملة: بينا أنا ذات ليلة في منزلي، إذ طرق الباب طارق، فقلت من طرق الباب ؟ فأنشأ يقول:
أنا الذي ألبسني سيدي ... لما تعريت لباس الوداد
فصرت لا آوي إلى مؤنس ... إلاّ إلى مالك رقّ العباد
فخرجت فإذا أنا بغلام ذاهب العقل، هائم مجنون مستوفز، فدخل الدار وقال: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، فعلمت أنه جائع، فقدمت إليه شيئاً فأكل وشرب، ثم وثب إلى الباب وأنشأ يقول:
عليك اتكالي لا على الناس كلهم ... وأنت بحالي عالم لا تعلّم
وأقسمت أني كلما جعت سيدي ... سنفتح ستفتح لي باباً فأُسقى وأُطعم
قال الوليد السقاء: فقلت له توصيني بوصية فقال:
الزم الخوف مع الحزن ... وتقوى اللّه فأربح
وذر الدنيا مع الأخ ... رى فتقوى اللّه أرجح
فاجتهد في ظلمة اللي ... ل إذا ما الليل أجنح
واسأل اللّه ذنوبك ... فعللّ اللّه يصفح
رجل

قال مالك بن دينار: مررت ببعض سكك البصرة، فإذا الصبيان يرمون رجلاً بالحجارة ويقولون: هو يزعم إنه يرى ربه على الدوام. قال فزجرت عنه الصبيان، وقلت له: ما الذي يزعم هؤلاء ؟ قال وما يزعمون ؟ قلت يزعمون انك تزعم ترى ربك على الدوام، فبكى، وقال والله ! ما فقدته لما أطعته. ثم أنشأ يقول:
على بعدك لا يصبر ... من عادته القرب
ولا يقوى على هجرك ... من تيمه الحب
لئن لم ترك العين ... فقد أبصرك القلب
ولبعض المجانين: احذروا الأقارب فإنهم العقارب، ثم قال: وأخبث العقارب، أقرب الأقارب. فربما لم يصدر عن العقلاء، ما صدر عن المجانين.
ولبعض المجانين:
تلذ الناس إن عمروا وعاشوا ... ومالي لذة في طول عمري
وما يغني الجمال وحسن ثوبي ... إذا ما كنت أصرع كل شهر
بقيئي قد تلطخ حسن وجهي ... أبوك في الثياب ولست أدري
فليت اللّه عاجلني بموت ... ليكثم سوء حالي تحت قبري
لآخر، وقد بال في قميصه، والناس يبكون عليه ويقولون ما حالك ؟ فقال:
أبكي الناظرون لسوء حالي ... ولا يبكون عاقبة الليالي
وكم وجهٍ جميلٍ صار مثلي ... ولم يك مثل ذلك في مثال
إذا عوفيت يا هذا فشكراً ... وعد مما ترى من سوء حالي

شيخ مجنون
قال ذو النون المصري: رأيت شيخاً مجنوناً وعليه جبة صوف مكتوب عليها من ورائه:
حتى متى يا شيخ ما تستحي ... يراك مولاك مع الغافلين
ما تستحي منه وما ترعوي ... غطي خطاياك عن العالمين
نشاك بين الخلق في منزه ... وأنت معكوف مع الفاسقين
وعلى كمه الأيسر مكتوب مؤخراً:
إن اللّه عباداً ... كشفوا فيه القناعا
هل رأيتم خادماً عا ... مل مولاه فضاعا
وعلى كمه الأيمن مكتوب مقدماً:
عجبت لمن ينام وذو المعالي ... ينادي يا عباد أنا البذول
وهل يجد الخلائق مثل ربي ... وكلّ فعاله حسن جميل
تتمة الكم الأيسر:
سوف أُرويكم حديثاً ... قد سمعناه سماعا
من دنى من ربه شب ... راً دنا منه ذراعا
شاب مجنون
قال عبد الله بن عبد العزيز السامري: مررت بدير هرقل أنا وصديق لي. فقال لي: أُدخل بنا لنرى من ملح المجانين، فقلت ذلك إليك. فدخلنا وإذا بشاب مليح الوجه، حسن الزي، قد أرجل شعره، وكحل عينيه، طراوة يعلوه حلاوة، مشدود إلى سلسلة بجانب حائط. فلما بصر بنا قال: مرحباً بالوفد قرب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما. قلنا: وأنت فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبك فداءك. فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاءكما، وتولى عني مكافأتمكا. قلنا: فما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل ؟ فقال:
اللّه يعلم انني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي نفس تضمنها ... بلد وأُخرى حازها بلد
أما المقيمة ليس بنفعها ... صبر وليس يقرها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... وكأنها تجد الذي أجد
ثم التفت إلينا فقال: هل أحسنت ؟ قلنا له نعم ما قصرت وولينا. فقال بأبي أنتما ما أسرع ذهابكما بالله اعيراني افهامكما واذهانكما قلنا هات فقال:
لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم ... ورحلوها فسارت بالهوى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها ... ترنوا إلي ودمع العين منهمل
وودّعت ببنان عقده غم ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حل بي وبها ... يا نازح الدار خلّ البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرّج كي اودعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم انقض مودتهم ... يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا

فقلنا مجوناً منا ولم نعلم بحقيقة ما وصف ماتوا. قال أقسمت عليكم ماتوا ؟ ثم قال إني والله ميت في أثرهم. ثم جذب نفسه في السلسلة جذبة دلع منها لسانه، وبرزت عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبط ساعة، ثم مات. فلا ننسى ندامتنا على ما صنعنا به.

أديب عاشق
قال الريان بن علي الأديب: عشق فتى من أولاد بعض أصدقائي جارية لبعض الأشراف. فأنحله العشق وأضناه، وتيمه وأتلفه. فمررت به يوماً في بعض الخرابات، فقلت له كيف حالك؟ فقال أسوء حال. عقل هائم، وغم لازم، وفكر دائم. ثم أنشأ يقول:
تيمني حبّها وأضناني ... وفي بحار الهموم ألقاني
كيف احتيالي وليس لي جلد ... في دفع ما بي وكشف أحزاني
يا رب فاعطف بقلبها فعسى ... ترحم ضعفي وطول أشجاني
فتى مجنون
قال سهلان القاضي: بينما أنا سائر في بعض الطرقات إذ مررت بفتىً مجنون وبين يديه خلقان فقال لي أين رأيت القافلة ؟ قلت في موضع كذا. قال آه من البين، آه من دواعي الحين. فقلت وما دهاك ؟ فقال:
شيعتهم من حيث لم يعلموا ... ورحت والقلب بهم مغرم
سألتهم تسليمةً منهم ... عليّ إذ بانوا فما سلموا
ساروا ولم يرنوا لمستهتر ... ولم يبالوا قلب من تيموا
واستحسنوا ظلمي فمن أجلهم ... أحبّ قلبي كل من يظلم
مجنون
قال علي بن عبد الرحمن القناد: وصف لي مجنون بمصر ذو بديهة، فطلبته حتى ظفرت به، فكلمته فبكم ملياً، ولم يرد علي جواباً، ثم نظرت إلى فروته فإذا عليها مكتوب:
عشرون ألف فتىً ما منهم رجلٍ ... إلا كألف فتىً مقدامةٍ بطل
أضحت مزاودهم مملوءة أملاً ... ففرغوها وأوكوها على الأجل
شيخ مجنون

قال أبو الهذيل العلاف: رحلت من البصرة أريد العسكر فمررت بدير هرقل فقلت لأدخلن هذا الدير لأرى ما فيه، فإذا شيخ حسن اللحية في السلسلة فأدمت النظر إليه، فلما رآني لا أرد بصري عنه قال لي معتزلي أنت ؟ قلت نعم. قال إمامي ؟ قلت نعم. قال تقول القرآن مخلوق ؟ قلت نعم. قال كن أبا الهذيل العلاف قلت أنا أبو الهذيل. قال أسألك ؟ قلت: سل. قال أخبرني عن الرسول صلى الله عليه وسلم أليس هو أمين في السماء وفي الأرض ؟ قلت بلى. قال أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى ؟ قلت لا. قال فأخبرني عن رأيه أليس هو الذي لا يدخله زلل وشبهة، وهو المعصوم من الشبهة والريبة قلت بلى. قال فأخبرني عمن هو دونه من الخلق. أليس يدخلهم في رأيهم الفساد والغفلة والهوى وانهم أضداد في كل شيء وإن كانوا أخياراً. قلت بلى. قال فلأي علة لم يقم لهم علماً ينصبه بقوله هذا خليفتكم بعدي فلا تقتتلوا. لمن يفعل هذا الا لا يكون الاختلاف والفساد في أُمته ؟ قلت معاذ الله أن يكون ذلك. قال فلم تركهم وألجأهم إلى رأي من دونه في الصفة، إذ لم يحب الاختلاف والتشتت ؟ فسكت لم أدر ما أقول له. فقال مالك لا تجيب الا تحسن ؟ ثم تركته وخرجت ! فلما رآني مولياً ناداني الشيخ ارجع إلينا، فرجعت إليه. فقال أحسبك تريد الخليفة قلت نعم. قال الا أن تصير إلى الخليفة إقضي لي حاجتي. فقلت وما هي ؟ قال تكلم هذه الفاعلة امرأة صاحب الدير تطلقني، فكلمتها فقالت عليه في هذا ضرر، فلما رآها غير مجيبة قال فسلها أن تستوطني، فسألتها فأجابت، فانصرفت عنه متعجباً. فلما صرت إلى سر من رأى ودخلت على الواثق قال لي ما كان حالك في سفرك ؟ قلت أعجوبة يا أمير المؤمنين ! لم أسمع بمثلها. فقال وما هي ؟ فقصصت عليه حديث المجنون، فقال يحضر المجنون، فأُحضر وأصلح من شأنه وأُدخل عليه، فلما رآني قال حاجتنا. قلت نعم. قال الواثق لمحمد بن مكحول كلمة. فقال المجنون يا أمير المؤمنين ! هذا ليس يحسن شيئاً، فإن كان عندك من يحسن. قال الواثق فاسأل فإن المجلس مشترك، فمن كان يحسن أجابك. فسأل عن المسألة المذكورة فأحجم القوم عن الجواب، فالتفت إليه الواثق فقال ليس ههنا من يجب فأجب. فقال سخين العين أكون سائلاً، ومجيباً في وقت ! فقال الواثق وما عليك أن تعلمنا. قال أما إذا كان كذا، فنعم ان الله سبحانه حكم فحكم في خلقه ولم يكن بد من تعبدهم وكان الاختلاف بينهم حكمة في خلقه، إذ قد كان حكم عليهم بذاك الاختلاف قبل خلقهم فأحجم، ثم قام الواثق ليدخل الدار. فقال المجنون: يا ابن الفاعلة أخذت منفوعنا وفررت ! فأمر بالاحسان إليه.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: الدنيا دار المرضى، والناس فيها مرضى، وللمجانين في دار المرضى شيئان: غل وقيد. ولنا غل الهوى، وقيد المعصية.

رجل
قال الأصمعي: ركب جعفر بن سليمان أمير البصرة في زي عجيب من اللباس والغلمان والدواب والصقور والفهود، وكان عندنا رجل بالبصرة يتفقه، وكان في حداثة سنه يجالس العباد، فغلب على عقله، فخرج في طريق جعفر فلما أبصره وقف وقال يا جعفر بن سليمان ! أنظر أي رجل تكون إذا خرجت من قبرك وحدك، وحملت على الصراط وحدك، وقدم إليك كتابك وحدك، ولم يغن عنك من الله شيئاً. يا جعفر إنك تموت وحدك. وتقف بين يدي الله وحدك، وتدخل قبرك وحدك، ويحاسبك الله وحدك، فانظر لنفسك، قد نصحت لك. فرجع جعفر من نزهة تلك، وسأل عن الرجل فقيل له مغلوب على أمره.
معتوه
قال ضمرة بن ربيعة: وقف علي معتوه فحنقني وقال تعلم. قلت خلص عن حلقي. فخلى ثم قال: الشر نذالة، والعفو كرم، والاستقصاء غم، وشفاء الغيظ بلية.
مجنون
قال محمد بن بيان: مررت وإذا جماعة على مجنون وقوف، فوقفت فهش إلي وقال:
إسقني قبل تباريح العطش ... ان يومي يوم طس بعد رش
حبّ من أشواهم أدهشني ... لا خلوت الدهر من ذاك الدهش
شاب مجنون

قال ثمامة بن أشرس: دخلت دير هرقل فرأيت فيه شاباً مشدوداً إلى سارية. فقال لي ما اسمك؟ قلت ثمامة، قال المتكلم ؟ قلت نعم. قال يا ثمامة ! هل للنوم لذة ؟ قلت نعم. قال متى يجدها صاحبها ؟ إن قلت قبل النوم أجلت، وإن قلت مع النوم أخطأت، لأنه ذاهب العقل. وإن قلت بعد النوم أخطأت لأنه قد انقضى. قلت وما تقول أنت ؟ قال إن النعاس داء يحل بالبدن ودواؤه النوم.

شاب
دخل الأمير سعيد مع وزيره دار المرضى فإذا شاب مسلسل، فلما رأى الأمير قال له أيها الأمير ! هذا وزيرك ؟ قال نعم. قال يزعم إنه أقل الناس فإن سألته مسألة. قال سله. قال ما أكثر الأشياء ؟ قال ذوات الأربع قال ليس كذلك. قال فما هو ؟ قال لا أقول حتى تقول بالعجز. قال قد أقررت. قال أكثر الأشياء الهموم. قال ملم ؟ قال لأن نصيبي منها أوفر الأنصباء. قال الأمير سل حاجتك. قال مسكة عقل أعيش به وأنجو من هذا القيد. قال ليس ذلك إلي. قال فلا حاجة لي في سواه.
شيخ
قال جنيد البغدادي رحمه الله: دخلت دار المرضى بمصر فرأيت شيخاً فقال لي ما اسمك ؟ قلت جنيد. قال عراقي. قلت نعم. قال ومن أهل المحبة ؟ قلت نعم. قال فما الحب ؟ قلت إيثار المحبوب على ما سواه. فقال الحب حبان حب لعلة، وحب لغير علة. فأما الذي لعلة فرؤية الاحسان. وأما الذي لغير علة فلأنه أهل لأن يحب. ثم أنشد:
أُحبك حبين حبّ الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا
وأما الذي هو حب الهوى ... فحبّ شغلت به عن سواكا
فأما الذي أنت أهل له ... فلست أرى العيش حتى أراكا
وما الذي فلا عيش لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
شيخ مجنون
قال أبو غسان الاسماعيلي: دخلت البصرة فرأيت شيخاً مجنوناً قد غلت يداه، وأحدث به الناس، فرحمته وأزحت الناس عنه، فتنفس الصعداء واستعبر ثم قال:
لقد صبرت على المكروه أسمعه ... من معشر فيك لولا أنت ما نطقوا
وفيك داريت أقواماً أُجاملهم ... ولولاك ما كنت أدري انهم خلقوا
الحمد للّه حمداً لا شريك له ... كأنني بدعةٌ من بين من عشقوا
مجنون
قال بعض السياح: دخلت مسجد البصرة فإذا فقير عليه أثر البؤس وهو يترنم في نفسه، فإذا هو مجنون، فلما دنوت منه سكت. فقلت له أعد ما كنت تقوله ؟ فقال ارتجالاً:
أشار قلبي إليك كيما ... يرى الذي لا تراه عيني
وأنت تلقي على ضميري ... حلاوة الؤل والتمني
تريد مني اختبار سري ... وقد علمت المراد مني
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
روى أحمد بن عمران السوادي لبعض المجانين:
ولست بقوّال لذي الزاد أبقه ... فإنك إن لم تبق زادك ينفد
ولا ناظر في وجهه ثم قائل ... الا لا تصاحبنا إذا لم تزودّ
رجل
قال عمر بن عثمان الصوفي: دخلت جبال الشام وإذا أنا برجل في كوخ، فأقمت عليه يوماً وليلة لم أسمع كلاماً، فخرج من كوخه فرفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي ! شهد قلبي لك في النوازل بسعة روح الفضل، وكيف لا يشهد لك قلبي بذلك أفأحسب أن يألف قلبي غيرك ؟ هيهات ! لقد خاب لديك المقصرون. ثم قال: إلهي ما أحلى ذكرك ! ألست الذي قصدك المؤملون ؟ فنالوا منك ما طلبوا. فقلت أصلحك الله إني منتظرك منذ يوم وليلة أُريد أن أسمع كلامك. قال قد رأيتك حين أقبلت ولم يذهب روعك من قلبي. قلت وما راعك مني ؟ قال فراغك في يوم عملك، وبطالتك في يوم شغلك، وتركك الزاد ليوم معادك، ومقامك على الظنون. فقلت إن الله سبحانه كريم، وما ظن به عبد شيئاً إلا أعطاه. قال نعم إذا وافقته السعادة والعمل الصالح. قلت أههنا فتية يستراح إليهم ؟ قال نعم. قلت هل عندهم دواء يتعالجون به ؟ قال إذا كلوا داووا الكلال بالكلال، وحثوا الحث بالأنخال، فتسكن العروق وتهدأ الآلام.
مجنون
قال عبد الله بن حسان المزني: مررت بمجنون مقيد، والصبيان يؤذونه، فقال أُطرد عني هؤلاء الأنذال. أفدك أبياتاً، تسر بها، فطردتهم عنه فقال أنا جائع فأتيته بشيء فأكله وقلت له هات فقال:
إصبر إذا عضك الزمان ومن ... أصبر عند الزمان من رجله

ولا تهن للصديق تكرمه ... نفسك كي لا تعدّ من خوله
يحمل أثقاله عليك كما ... يجمل أثقاله على جمله
ولست مستبقياً أخاً لا ... تصفح عما يكون من زلله

شاب
قال زياد النميري: دخلت دار المجانين فإذا شاب حسن الوجه، في زاوية مشدود إلى جدار. فقال لي أنقرأ القرآن ؟ قلت نعم. قال فاقرأ فقرأت: " اللَّهُ لطيفٌ بعباده يزرق من يشاء وهو القويُّ العزيز " فقال أخبرني ما معنى اللطيف ؟ قلت البار الرفيق. قال هذا في وصف الناس. قلت فما اللطيف ؟ قال الذي يعرف بلا كيف.
مجنون
قال سكين بن موسى: كنت مجاوراً بمكة وكان بها مجنون ينطق بالحكم. فقلت له أين تأوي بالليل ؟ فقال دار الغرباء. فقلت ما أعرف بمكة داراً يقال لها دار الغرباء. قال يا مسكين ! دار الغرباء المقابر. فقلت أما تستوحش في الليل وظلمته ؟ قال إذا فكرت في القبر ووحشته هان علي الليل وظلمته.
قيل لبعض المجانين: لم سميت مجنوناً ؟ فقال أنا مجنون عن معصيته لا عن معرفته.
وقيل لآخر: أنت مجنون ؟ قال وأنت عاقل ؟ كل الناس مجانين ولكن حظي صار أوفر.
وقيل لآخر: لم أر مجنوناً أعقل منك. قال الجنون ما أنت فيه، تأكل رزق الله، وتطيع عدوه.
وقيل لآخر: أغربت أنت ؟ فقال أما عن عقلي فنعم. وأما عن البلاد فلا.
شاب
قال بعضهم: دخلت دار المجانين بنيسابور، فإذا شاب حسن من أبناء ذوي النعم، مشدود وهو يصيح. فلما أبصرني قال أتروي من الشعر شيئاً ؟ قلت نعم. من أي الشعر ؟ قال من شعر البحتري. قلت من أي قصيدة أُرويها ؟ قال: أي قصيدة كانت. قلت:
ألمع برقٍ سرى أم ؤوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الصاحي
فأنشدته القصيدة. قال وأنا أُنشدك قصيدة. قلت نعم. فأخذ حتى بلغ إلى قوله:
إقصرا ليس شأني الإقصار ... وأفلا لا ينفع الإكثار
إن جرى بيننا وبينك بعد ... أو تنآءت منا ومنك الديار
فالعليل الذي عهدت مقيمٌ ... والدموع التي شهدت غزار
فنفر وجعل يرقص في قنيده ويصيح إلى أن سقط مغشياً عليه !
موسوس
قال عبدان بن أحمد: كان بباب خراسان موسوس، وكان يجالس الحسين ابن منصور وكان يدور في المقابر ويأتي إلى الحسين بن منصور. فجاءه ذات يوم وعلى رأسه دوخلة والصبيان خلفه. فوقف وقال للحسين: متى أخرج من نفسي ؟ متى آيس من نفسي ؟ متى آنس بالأنس، واستأنس بالوحش، واستوحش من جنسي. فقال الحسين:
إذا وسوست في الوقت ... من المأتم والعرس
شهدت النار والجن ... ة والأفلاك والكرسي
أبو المبارك ميمون

قال لما رمى الحجاج بيت الله بالعذرة وقتل ابن الزبير، أقبل رجل موسوس معتوه عليه عباءة قد شدها إلى عنقه، فطاف بالبيت سبعاً، ثم صعد إلى الحجر، فتكلم بصوت جهوري فأسمع الناس وقال أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني نبأته باسمي، أنا ميمون أبو المبارك المجنون فاسمعوا ما أقول لكم. فإني متكلم ناطق، غير هائب ولا خائف، بل أقول بلسان صواب، ولا أخاف العقاب، بل أرجو الثواب من رب الأرباب، ذي المن والإفضال. إياه قصدت، وما عنده طلبت. ثم حمد الله فأحسن، ومجد فأكثر. ثم دعى دعوات وأعرب. فقال: اللهم ! لك سجدت الجباه ولك خضعت الأعناق، ولك ذلة الأرباب. وأنت خالق السموات والأرض بلا تعب ولا مشورة لذوي الألباب. لم يعجزك ما أردت ولا يفتك ما طلبت، ولم يخف عليك شيء لبعده، ولا زدت في معرفة شيء لقربه. تعلم خفيات الضمائر كما تعلم كل شيء بين. أما السموات فلك مذعنة، وأما الأرضون فلك مطيعة، وأما الأفلاك فلك مسبحة. وأما الملائكة ففي عبادتك مجتهدة، وأما النبيون فلرسالتك مبلغة، وأما السحاب فبرحمتك مهطلة. والنار من خوفك تزفر وتفرق، والجنة مزينة بالحور والقصور. فيا من العدل قضاؤه ويا من الشكر رضاؤه، ويا من يتحلى في الجنة لأوليائه قد تكلمت بلسان ينطق بحمدك، وبقلب يخشع لهيبتك، وجوارح أذعنت لعظمتك. فأسألك يا من قصده العباد من كل البلاد، رجاء الثواب وخوف العقاب. أسألك مسألة طالب قد رجا الإجابة، وأيقن بقضاء الحاجة. ان تهلك الحجاج المتوثب على بيتك برمي العذرة. والقاتل لأصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم المطهر من كل ريبة. اللهم ! إذا ذكرت عبادك بالرحمة، فاذكره بأشد غضب واكمل عطب، انك أنت المستجيب للدعاء.
اللهم ! هذا البيت بيتك، وهذا الحرم حرمك، وهذا حجر إسماعيل نبيك. اللهم ! أنت ذو الجلال والإكرام.

ثم أتى منىً والناس أجمع ما كانوا. فصلى صلاة الفجر ثم قام قائماً على قدميه ثم قال: أيها الناس ! أليس إلى الله قصدتم وما عنده طلبتم ؟ فإذا سألتموه فابتهلوا. وإذا دعوتموه فاخضعوا. والحجاج فالعنوا فإنه نجس الولادة اللهم ! فلا تنجه من سخطك واحرمه رحمتك التي وسعت كل شيء. إنك ذو الجلال والإكرام. قال فاجتمع الناس إليه وقالوا له: أيها الرجل: من أين أنت؟ قال من بلاد الله. قالوا فأين تأوي ؟ قال إلى أرض الله. قالوا: فما قصتك وقصة الحجاج ؟ أظلمك بشيء ؟ قال نعم. قالوا ماذا ؟ قال: قصد بيت ربي فنجسه، وقتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأهان. فوجبت اللعنة عليه، واستوجب منا العداوة. ولم أعرف موضعاً أجل من هذه الثنية. موضع ولد فيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فأحببت أن أُتعب نفسي من أجله وبالدعاء عليه. ثم مر يسحب كساءه، وقد تبين فيه أثر الجوع، فاتبعه رجل من التجار فقال السلام عليك يا أبا المبارك ! قال وعليك السلام يا وافد الله ! قال لي إليك حاجة. قال وما هي ؟ قال تأتي منزلي فتأكل كسرة خبز وتشرب شربة من سويق. قال على شرط. قال وما شرطك ؟ قال ألا تكون ظالماً ولا عوناً لظالم. فما عملك ؟ قال تاجر. قال أفما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يحشر التجار فجاراً إلا من اتقى وبر وصدق. قال فإني لا أمدح عند البيع ولا أذم عند الشرى. قال منك يا أخي طاب القرى. قال فأتى إلى رحله فأكل رغيفاً وملحاً ولم يزد عليه بشيء. ثم قال يا أخي ! أوصني. قال خف الله خوف حذر، وارجه رجاء متملق، وعليك بأكل الحلال، وبذل النوال لأهل الأقلال، وادخل الجنة بسلام. قال فأعجبني ما سمعت من قوله. قال فلما انقضى الموسم أقبل أصحاب الحجاج إلى الحجاج وأخبروه بخبر ميمون وقالوا ما منعنا من أخذه إلا العامة وجلبتهم. والغوغاء وضجتهم. قال فدعا الحجاج بقائد من قواده من خاصة أصحابه. وقال سر في البلاد واطلب هذا الرجل، ولك الجباء والجائزة. قال فأتعبوا أبدانهم وأحفوا دوابهم في طلب ميمون. وهو من أهل الكوفة ومسكنه بها. فدخل القائد الكوفة. فإذا هو جالس على مزبلة والصبيان حوله وهو يقول لهم، إنه لم تجر عليكم الأقلام، ولم تكتب عليكم الآثام، فانظروا أن لا تطيعوا إبليس عدوكم فإنه عدو أبيكم آدم عليه السلام من قبل وهو الذي أعانه بعد القضاء على الخروج من الجنة. وعليكم بأخلاق الصالحين والاقتداء بالمؤمنين، منهم الصديق ذو الحق المبين، ثم عمر الفاروق لم يكن عنده حق الله يزول، ثم عثمان ذو النورين. ثم علي الرضى سال السيف في المنافقين الأردياء. فإذا فعلتم ذلك كنتم مع الأولياء. ولم يزل يعظهم. فلما فرغ قالوا له هل لك في طعام طيب تأكله وثوب لين تلبسه ؟ فقال كذبتم ما لهذا قصدتم ولا لهذا أردتم. إنما تريدون أن يحملوني أصحاب الحجاج إلى الحجاج وإنما جئتم في طلبي فلا تقيدوني ولا تغلوني فإني لكم سامع مطيع. فأحسنوا رفقته والمشي به فلما اشرف على بلد واسط قال له القائد إذا دخلت على الأمير فسلم عليه. قال فإذا لم أُسلم عليه ؟ قال يقتلك. قال فإن أنا سلمت عليه وساءلني فصدقته الجواب. أيقتلني ؟ قال نعم. قال فما كنت بالذي أُسلم على رجل عاص قتل أولياء الله ووالى أعداء الله. فهو بغيض للهز ثم دخل القائد فأخبره بخبره ففرح الحجاج وقال علي به فأُتي به. فوقف بين يديه صامتاً لم يتكلم وعليه عباءة قد شدها إلى عنقه. فاستحقره الحجاج لما رأى من نحالة جسمه وسوء حاله فأنشأ يقول:
إياك أن تزدري الرجال وما ... يدريك ما ذا يجنه الصدف
نفس الجواد العتيق باقية ... فيه وإن من جسمه العجف
فالحر حرّ وإن ألمّ به ... الضر ففيه الحياء والأنف

فلما سمع الحجاج مقالته وشعره علم أنه حكيم. فقال من أنت ؟ ومن أين أنت ؟ قال عبد الله وابن عبيدة. قال فما منعك من السلام ؟ قال ما كنت بالذي أُسلم ولو سلمت خفت أن لا ترد علي. قال ما اسمك ؟ قال أما اليوم فميمون. وما أدري ما اسمي عند ربي إذا دعيت. بالسعادة أُدعى أم بالشقاوة أُنادى ؟ فإن قيل سعد فلان فما أحتاج إلى اسمي، وإن قيل شقي فلان فلا حظ لي عند ربي. قال يا ميمون ! إني سائلك عن مسائل فانظر أن يكون الجواب صواباً. فقال يا حجاج إنما لساني بضعة من بدني. فإن أطلق مولاي الصواب نطق به اللسان. وما أنا وأمر لا أطيقه ولا أفعل إلا بحركة ولا حركة إلا بمعين. قال ويحك وما اللسان ؟ قال هو الذي يترجم عن الإنسان. قال: وإنسان أنت ؟ قال نعم. قال ومن أين علمت أنك إنسان ؟ قال لأني أفهم وأعقل وأطيع وأعصي، وآكل بيدي وأشرب تجرعاً وأتغوط خالياً. وليس هذا إلا فعل الانسان. وقد قال الله عز وجل: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " . فعرفت ما يضر مما ينفع. قال فما خلقك ؟ قال من ماء من عوج من بين لحم ودم. فهو في وقت إزعاجه دم أحمر. وفي وقت نزوله ماء أبيض. فإذا استقر في مستقر قراره صير معه مضغة مخلفة وغير ثم صير منه لحماً وعظماً ودماً وعروقاً وجلداً. فغشي العظم بالجلد. وشبك بالعروق والعصب. وغشى بالجلد وليس في بدن عرق ساكن إلا وتحته ضارب. ولا ضارب إلا وتحته ساكن. فإذا سكن الضارب قلق البدن. وإذا ضرب الساكن اضطرب، فمن قام بحقها استوجب من الله الثواب. ومن لم يقم بحقها استوجب من الله الزوال. فلا يخرج أحد من بطن أمه حتى يكتب أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. قال فما تعمل إذا كان قد فرغ من أمرك ؟ قال أعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم إعملوا فكل ميسر لما خلق له. ولما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ضرب يده على صلبه. فاستخرج ذريته فأراهم إياه. ثم قبض قبضة اليمين فقال هذه إلى الجنة ولا أُبالي. ثم قبض القبضة الأُخرى وقال هذه إلى النار ولا أُبالي. ثم أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك قرآناً وقال " وأما ان كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين. وأما إن كان من المكذبين الضالين " . يعني أصحاب القبضة الأُخرى. " فنزل من حميم وتصلية جحيم " فتقدر أن تنكر هذا ؟ فقال الحجاج ويحك يا ميمون تحسن مثل هذا وأنت تدعى مجنوناً. فقال إن أهل البطالة إذا نظروا إلى أهل محبة الله سموهم مجانين. وقد مر خاتمة هذه الحكاية من هنا إلى آخرها مرة أُخرى فتركناه هنا للتكرار. ثم خلى الحجاج سبيله فمضى مسلماً. ثم قال لابن طاهر:
لنا حاجة والعذر فيها مقدّم ... خفيف معلاها مضاعفة الأجر
فإن تقضها والحمد للّه وحده ... وإن كانت الأخرى ففي أوسع القدر
بلى إنه الرحمن معط ومانع ... وللحرّ أسباب إلى قدر يجري

الأعرابي والحجاج
ولنختم هذا المختصر بكلمات الأعرابي مع الحجاج بن يوسف:

قال صعصعة بن صوحان: خرجنا مع الحجاج حاجاً إلى بيت الله الحرام. فبينما نحن في بعض الطريق إذا نحن بصوت أعرابي يلبي بين الغيضة. فلما فرغ من التلبية قال: كلامك اللهم لك، من قال مخلوق هلك، وفي الجحيم قد سلك والجاريات في الفلك، على مجاري من سلك، قد اتبعنا رسلك، ما خاب عبد أملك، أنت له حيث علك فقال الحجاج: تلبية موحد ورب الكعبة. لا يفوتنكم الرجل. فأسرع ما كان حتى أُتي بأعرابي على ناقة برحاء بلحاء. فقال الحجاج: من أين أقبلت يا أخا العرب ؟ وإلى أين تريد ؟ قال جئت من الفج العميق. قال من أي الفجاج أنت ؟ قال من العراق وأرضها. قال من أي العراق أنت ؟ قال من مدينة الحجاج بن يوسف. قال فما سيرته فيكم ؟ قال بسيرة فرعون في بني إسرائيل، يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم. قال فهل خلفته ظاعناً أو مقيماً ؟ قال بل ظاعناً. قال إلى أين ؟ قال إلى الحج ولن يتقبل الله منه. قال وهل خلف أحداً بعده ؟ قال نعم أخاه محمداً. قال فما سيرته فيكم ؟ قال ظلوم غشوم، واسع البلعوم، عاص مشؤوم. قال له الحجاج هل عرفتني ؟ قال الأعرابي اللهم لا. قال الحجاج أنا الحجاج بن يوسف. قال الأعرابي: أشر والله ممن أظلت الخضراء. وأقلت الغبراء. ويشرب من الماء بغيض مبغوض. لعين ملعون. في الدنيا والآخرة. فقال الحجاج والله يا أعرابي لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك. قال الأعرابي إن لي رباً يخلصني وينجيني منك. قال يا أعرابي إني سائلك ؟ قال إذاً والله أُخبرك. فقال أتحسن من القرآن شيئاً ؟ قال نعم. قال فأسمعنا. فاستفتح وقال: بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً. قال ليس هكذا يا أعرابي. قال وكيف ؟ قال يدخلون في دين أفواجاً. فقال الأعرابي قد كان ذلك قبل أن يتولى الحجاج. فلما ولي جاؤوا يخرجون من دين الله. فضحك الحجاج حتى استلقى على قفاه. ثم قال ما تقول في محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال وما عسى أن أقول في محمد صلى الله عليه وسلم صاحب القضيب والناقة والحوض والشفاعة وزمزم والسقاية، ومن قرن الله اسمه باسمه. يدعى في كل يوم وليلة عشر مرات في الأذان والإقامة. قال فما تقول في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال وما عسى أن أقول في صديق في السماء وصديق في الأرض وصاحبه في الغار وأسلم وهو يملك ثمانين ألف دينار أنفقها في سبيل الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك يا حجاج يوم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه " . وقال عليه السلام سمعتم ما قال ربكم تبارك وتعالى إلا من كان عنده شيء فليأتني بما أمكنه فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأتى بجيمع ما عنده. وقام عمر رضي الله عنه فأتى بنصف ما عنده. وقام عثمان رضي الله عنه وأتى بثلث ما عنده. فقالوا خذ يا رسول الله. ولله عندنا المزيد. فنزل جبريل عليه السلام وقال يا رسول الله إن ربك العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: اقرأ أبا بكر منى السلام وقل له أنا راض عنه، فهل هو راض عني ؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه. فبكى أبو بكر بكاءً شديداً وقال يا رسول الله أنا راض راض فوعد الله أن يرضيه وذلك قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " . قال الحجاج: فما تقول في عمر بن الخطاب ؟ قال وما عسى أن أقول في فاروق السماء وفاروق الأرض. فرق بين الحق والباطل على لسانه. وإذا كان يوم القيامة يأتي الحق والإسلام ويتعلقان فيه فيجزع عمر رضي الله عنه منهما فيقولان له لا تجزع فنحن الحق والإسلام اللذان كنت تقوم بنا في الدنيا. ومن ذلك يا حجاج إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند حفصة فدخلت عليه صفية فقال لها لا تخبري عائشة فخرجت وأخبرت أُم سلمة. فأخبرت أُم سلمة عائشة رضي الله تعالى عنهن. فتظاهر عليه أزواجه فجاءهن عمر مغضباً فقال لهن: لم تتظاهرن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً. فنزلت الآية كذلك موافقةً لقول عمر رضي الله عنه. قال الحجاج فما تقول في عثمان بن عفان ؟ فقال الأعرابي وما عسى أن أقول في حافر بئر أرومة. ومجهز جيش الفطرة. ومن سبح في كفه الحصى. واستحيت منه ملائكة السماء. ومن ذلك يا حجاج يوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جالساً على الأيسر وركبته

مكشوفة. فدخل أبو بكر والنبي عليه الصلاة والسلام على حاله. فلما استؤذن لعثمان بادر له وغطى ركبته فدخل عثمان رضي الله عنه وجلس جلسة المريض يمزحه فنظر أبو بكر إلى عمر وعمر إلى أبي بكر. فقالا يا رسول الله تغطيت من عثمان وعثمان صهرك ونحن أصهارك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أتغطى وأستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ فقال الحجاج: ما تقول في حق علي بن أبي طالب ؟ قال الأعرابي: وما عسى أن أقول في ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج إبنته البتول. ومن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي إن الله ألف بين روحي وروحك وكان عرشه على الماء وزوجك فاطمة واختارك لها من قبل أن يخلق الدنيا بألف عام. فقال الحجاج: فما تقول في الحسن والحسين ؟ قال الأعرابي وما عسى أن أقول فيمن ولدتهما البتول، ورباهما الرسول وراعاهما جبرائيل فهل لهما مثل وعديل ؟ فقال الحجاج فما تقول في معاوية؟ قال وما عسى أن أقول في خال المؤمنين وكاتب وحي رسول رب العالمين ورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته دلدل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبني منك يا معاوية ؟ فقال بطني يا رسول الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام ملأه الله علماً وحلماً. فقال الحجاج ما تقول في يزيد بن معاوية ؟ قال الأعرابي كما قال من هو خير مني لمن هو شر منك. قال الحجاج ومن هو خير منك وشر مني ؟ فقال الأعرابي موسى عليه السلام خير مني، وفرعون شر منك. قال الحجاج فما قال فرعون لموسى ؟ قال قال فما بال القرون الأولى ؟ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. فقال الحجاج: فما تقول في عبد الملك بن مروان ؟ فقال الأعرابي: ذلك والله أخطأ خطيئة ملأت بين السماء والأرض. فقال الحجاج وكيف ذلك ؟ قال الأعرابي: ولاك على أمور المسلمين تحكم في أموالهم ودمائهم بجور وظلم. قال فعند ذلك هم الحجاج بالسيف وأشار إلى سيافه ليضرب عنق الأعرابي. قال فحرك الأعرابي شفتيه. فخر السيف ناحيةً، والسياف ناحية. وولى الأعرابي ذاهباً. فقال الحجاج: بحق معبودك ألا أخبرتني بأي دعاء دعوت ؟ فقال الأعرابي: بدعاء ان علمتك إياه غفر الله لك ما عليك من حسابهم من شيء. وما من حسابك عليهم من شيء. ثم قال الأعرابي يا حجاج ! قلت:. فدخل أبو بكر والنبي عليه الصلاة والسلام على حاله. فلما استؤذن لعثمان بادر له وغطى ركبته فدخل عثمان رضي الله عنه وجلس جلسة المريض يمزحه فنظر أبو بكر إلى عمر وعمر إلى أبي بكر. فقالا يا رسول الله تغطيت من عثمان وعثمان صهرك ونحن أصهارك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أتغطى وأستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ فقال الحجاج: ما تقول في حق علي بن أبي طالب ؟ قال الأعرابي: وما عسى أن أقول في ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج إبنته البتول. ومن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي إن الله ألف بين روحي وروحك وكان عرشه على الماء وزوجك فاطمة واختارك لها من قبل أن يخلق الدنيا بألف عام. فقال الحجاج: فما تقول في الحسن والحسين ؟ قال الأعرابي وما عسى أن أقول فيمن ولدتهما البتول، ورباهما الرسول وراعاهما جبرائيل فهل لهما مثل وعديل ؟ فقال الحجاج فما تقول في معاوية؟ قال وما عسى أن أقول في خال المؤمنين وكاتب وحي رسول رب العالمين ورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته دلدل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبني منك يا معاوية ؟ فقال بطني يا رسول الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام ملأه الله علماً وحلماً. فقال الحجاج ما تقول في يزيد بن معاوية ؟ قال الأعرابي كما قال من هو خير مني لمن هو شر منك. قال الحجاج ومن هو خير منك وشر مني ؟ فقال الأعرابي موسى عليه السلام خير مني، وفرعون شر منك. قال الحجاج فما قال فرعون لموسى ؟ قال قال فما بال القرون الأولى ؟ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. فقال الحجاج: فما تقول في عبد الملك بن مروان ؟ فقال الأعرابي: ذلك والله أخطأ خطيئة ملأت بين السماء والأرض. فقال الحجاج وكيف ذلك ؟ قال الأعرابي: ولاك على أمور المسلمين تحكم في أموالهم ودمائهم بجور وظلم. قال فعند ذلك هم الحجاج بالسيف وأشار إلى سيافه ليضرب عنق الأعرابي. قال فحرك الأعرابي شفتيه. فخر السيف ناحيةً، والسياف ناحية. وولى الأعرابي ذاهباً. فقال الحجاج: بحق معبودك ألا أخبرتني بأي دعاء دعوت ؟ فقال الأعرابي: بدعاء ان علمتك إياه غفر الله لك ما عليك من حسابهم من شيء. وما من حسابك عليهم من شيء. ثم قال الأعرابي يا حجاج ! قلت:

اللهم ! يا رب الأرباب. ويا معتق الرقاب. ويا هازم الأحزاب. ويا منشئ السحاب. ويا منزل الكتاب. ويا رازق من تشاء بغير حساب. يا ملك، ويا تواب. يا راد موسى إلى أُمه. ويوسف إلى أبيه. أسألك أن ترزقني وتكفيني شره إنك على كل شيء قدير.