كتاب : المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى
المؤلف : محمد بن محمد الغزالي

الفصل الأول في بيان معنى الاسم والمسمى والتسمية
قد كثر الخائضون في الاسم والمسمى وتشعبت بهم الطرق وزاغ عن الحق أكثر الفرق فمن قائل إن الاسم هو المسمى ولكنه غير التسمية ومن قائل إن الاسم غير المسمى ولكنه هو التسمية ومن ثالث معروف بالحذق في صناعة الجدل والكلام يزعم أن الاسم قد يكون هو المسمى كقولنا لله تعالى إنه ذات وموجود وقد يكون غير المسمى كقولنا إنه خالق ورازق فإنهما يدلان على الخلق والرزق وهما غيره وقد يكون بحيث لا يقال إنه المسمى ولا هو غيره كقولنا إنه عالم وقادر فإنهما يدلان على العلم والقدرة وصفات الله لا يقال إنها هي الله تعالى ولا إنها غيره
والخلاف يرجع إلى أمرين
أحدهما أن الاسم هل هو التسمية أم لا
والثاني أن الاسم هل هو المسمى أم لا
والحق أن الاسم غير التسمية وغير المسمى وأن هذه ثلاثة أسماء متباينة غير مترادفة ولا سبيل إلى كشف الحق فيه إلا ببيان معنى كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة مفردا ثم بيان معنى قولنا هو هو ومعنى قولنا هو غيره فهذا منهاج الكشف للحقائق ومن عدل عن هذا المنهج لم ينجح أصلا

فإن كل علم تصديقي أعني علم ما يتطرق إليه التصديق أو التكذيب فإنه لا محالة لفظه قضية تشتمل على موصوف وصفة ونسبة لتلك الصفة إلى الموصوف فلا بد أن تتقدم عليه المعرفة بالموصوف وحده على سبيل التصور لحده وحقيقته ثم المعرفة بالصفة وحدها على سبيل التصور لحدها وحقيقتها ثم النظر في نسبة تلك الصفة إلى الموصوف أنها موجودة له أو منفية عنه فمن أراد مثلا أن يعلم أن الملك قديم أو حادث فلا بد أن يعرف أولا معنى لفظ الملك ثم معنى القديم والحادث ثم ينظر في إثبات أحد الوصفين للملك أو نفيه عنه فلذلك لا بد من معرفة معنى الاسم ومعنى المسمى ومعنى التسمية ومعرفة معنى الهوية والغيرية حتى يتصور أن يعرف بعد ذلك أنه هو أو غيره
فنقول في بيان حد الاسم وحقيقته إن للأشياء وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ووجودا في اللسان
أما الوجود في الأعيان فهو الوجود الأصلي الحقيقي والوجود في الأذهان هو الوجود العلمي الصوري والوجود في اللسان هو الوجود اللفظي الدليلي فإن السماء مثلا لها وجود في عينها ونفسها ثم لها وجود في أذهاننا ونفوسنا لأن صورة السماء تنطبع في أبصارنا ثم في خيالنا حتى لو عدمت السماء مثلا وبقينا لكانت صورة السماء حاضرة في خيالنا وهذه الصورة هي التي يعبر عنها بالعلم وهو مثال المعلوم فإنه محاك للمعلوم ومواز له وهي كالصورة المنطبعة في المرآة فإنها محاكية للصورة الخارجة المقابلة لها
وأما الوجود في اللسان فهو اللفظ المركب من أصوات قطعت أربع تقطيعات يعبر عن القطعة الأولى بالسين وعن الثانية بالميم وعن الثالثة بالألف وعن الرابعة بالهمزة وهو قولنا سماء فالقول دليل على ما هو في الذهن وما في الذهن صورة لما في الوجود مطابقة له ولو لم يكن وجود في

الأعيان لم ينطبع صورة في الأذهان ولو لم ينطبع في صورة الأذهان لم يشعر بها إنسان ولو لم يشعر بها الإنسان لم يعبر عنها باللسان فإذا اللفظ والعلم والمعلوم ثلاثة أمور متباينة لكنها متطابقة متوازية وربما تلتبس على البليد فلا يميز البعض منها عن البعض
وكيف لا تكون هذه الوجودات متمايزة ويلحق كل واحد منها خواص لا يلحق الأخرى فإن ذالإنسان مثلا من حيث أنه موجود في الأعيان يلحقه أنه نائم ويقظان وحي وميت وقائم وماش وقاعد وغير ذلك ومن حيث أنه موجود في الأذهان يلحقه أنه مبتدأ وخبر وعام وخاص وجزئي وكلي وقضية وغير ذلك ومن حيث أنه موجود في اللسان يلحقه أنه عربي وعجمي وتركي وزنجي وكثير الحروف وقليلها وأنه اسم وفعل وحرف وغير ذلك وهذا الوجود يجوز أن يختلف بالأعصار ويتفاوت في عادة أهل الأمصار
فأما الوجود الذي في الأعيان والأذهان فلا يختلف بالأعصار والأمم البتة
فإذا عرفت هذا فدع عنك الآن الوجود الذي في الأعيان والأذهان وانظر في الوجود اللفظي فإن غرضنا يتعلق به فنقول
الألفاظ عبارة عن الحروف المقطعة الموضوعة بالاختيار الإنساني للدلالة على أعيان الأشياء وهي منقسمة إلى ما هو موضوع أولا وإلى ما هو موضوع ثانيا
أما الموضوع أولا فكقولك سماء وشجر وإنسان وغير ذلك
وأما الموضوع ثانيا فكقولك اسم وفعل وحرف وأمر ونهي ومضارع وإنما قلنا إنه موضوع وضعا ثانيا لأن الألفاظ الموضوعة للدلالة على الأشياء منقسمة إلى ما يدل على معنى في غيره فيسمى حرفا وإلى ما يدل على معنى في نفسه وما يدل على معنى في نفسه ينقسم إلى ما يدل على زمان وجود ذلك

المعنى ويسمى فعلا كقولك ضرب يضرب وإلى ما لا يدل على الزمان ويسمى اسما كقولك سماء وأرض
فأولا وضعت الألفاظ دلالات على الأعيان ثم بعد ذلك وضع الاسم والفعل والحرف دلالات على أقسام الألفاظ لأن الألفاظ بعد وضعها أيضا صارت موجودات في الأعيان وارتسمت صورها في الأذهان فاستحقت أيضا أن يدل عليها بحركات اللسان
ويتصور الألفاظ أن تكون موضوعة وضعا ثالثا ورابعا حتى إذا قسم الاسم إلى أقسام وعرف كل قسم باسم كان ذلك الاسم في الدرجة الثالثة كما يقال مثلا الاسم ينقسم إلى نكرة وإلى معرفة وغير ذلك والغرض من هذا كله أن تعرف أن الاسم يرجع إلى لفظ موضوع وضعا ثانيا
فإذا قيل لنا ما حد الاسم
قلنا إنه اللفظ الموضوع للدلالة وربما نضيف إلى ذلك ما يميزه عن الحرف والفعل
وليس تحرير الحد من غرضنا الآن إنما الغرض أن المراد بالاسم المعنى الذي هو في الرتبة الثالثة وهو الذي في اللسان دون الذي في الأعيان والأذهان
فإذا عرفت أن الاسم إنما يعنى به اللفظ الموضوع للدلالة فاعلم أن كل موضوع للدلالة فله واضع ووضع وموضوع له يقال للموضوع له مسمى وهو المدلول عليه من حيث أنه يدل عليه ويقال للواضع المسمي ويقال للوضع التسمية يقال سمى فلان ولده إذا وضع لفظا يدل عليه ويسمي وضعه تسمية وقد يطلق لفظ التسمية على ذكر الاسم الموضوع كالذي ينادي شخصا ويقول يا زيد فيقال سماه فإن قال يا أبا بكر يقال كناه وكان

لفظ التسمية مشتركا بين وضع الاسم وبين ذكر الاسم وإن كان الأشبه أنه أحق بالوضع منه بالذكر
ويجري الاسم والتسمية والمسمى مجرى الحركة والتحريك والمحرك والمحرك وهذه أربعة أسام متباينة تدل على معان مختلفة فالحركة تدل على النقلة من مكان إلى مكان والتحريك يدل على إيجاد هذه الحركة والمحرك يدل على فاعل الحركة والمحرك يدل على الشيء الذي فيه الحركة مع كونه صادرا من فاعل لا كالمتحرك الذي لا يدل إلا على المحل الذي فيه الحركة ولا يدل على الفاعل
فإذا ظهر الآن مفهومات هذه الألفاظ فلينظر هل يجوز أن يقال فيها إن بعضها هو البعض أو يقال إنه غيره
ولا يفهم هذا إلا بمعرفة معنى الغيرية والهوية
وقولنا هو هو يطلق على ثلاثة أوجه
الوجه الأول يضاهي قول القائل الخمر هي العقار والليث هو الأسد وهذا يجري في كل شيء هو واحد في نفسه وله اسمان مترادفان لا يختلف مفهومهما البتة ولا يتفاوت بزيادة ولا نقصان وإنما تختلف حروفهما فقط وأمثال هذه الأسماء تسمى مترادفة
الوجه الثاني يضاهي قول القائل الصارم هو السيف والمهند هو السيف وهذا يفارق الأول فإن هذه الأسامي مختلفة المفهومات وليست مترادفة لأن الصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع والمهند يدل على السيف من حيث نسبته إلى الهند والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشارة إلى غير ذلك وإنما المترادفة هي التي تختلف حروفها فقط ولا تتفاوت بزيادة ولا نقصان فلنسم هذا الجنس متداخلا إذ السيف داخل في مفهوم الألفاظ الثلاثة وإن كان بعضها يشير معه إلى زيادة

الوجه الثالث أن يقول القائل الثلج أبيض بارد فالأبيض والبارد واحد والأبيض هو البارد فهذا أبعد الوجوه ويرجع ذلك إلى وحدة الموضوع الموصوف بالوصفين معناه أن عينا واحدة موصوفة بالبياض والبرودة
وعلى الجملة فقولنا هو هو يدل على كثرة لها وحدة من وجه فإنه إذا لم يكن وحدة لم يمكن أن يقال هو هو واحد وما لم يكن كثرة لم يكن هو هو فإنه إشارة إلى شيئين
فلنرجع إلى غرضنا فنقول من ظن أن الاسم هو المسمى على قياس الأسماء المترادفة كما يقال الخمر هي العقار فقد أخطأ جدا لأن مفهوم المسمى غير مفهوم الاسم إذ بينا أن الاسم لفظ دال والمسمى مدلول وقد يكون غير لفظ ولأن الاسم عربي وعجمي وتركي أي موضوع العرب والعجم والترك والمسمى قد لا يكون كذلك والاسم إذا سئل عنه قيل ما هو والمسمى إذا سئل عنه ربما قيل من هو كما إذا حضر شخص فيقال ما اسمه فيقال زيد وإذا سئل عنه قيل من هو وإذا سمي التركي الجميل باسم الهنود قيل اسم قبيح ومسمى حسن وإذا سمي باسم كثير الحروف ثقيل المخارج قيل اسم ثقيل ومسمى خفيف والاسم قد يكون مجازا والمسمى لا يكون مجازا والاسم قد يبدل على سبيل التفاؤل والمسمى لا يتبدل وهذا كله يعرفك أن الاسم غير المسمى ولو تأملت وجدت فروقا كثيرة غير ذلك ولكن البصير يكفيه اليسير والبليد لا يزيده التكثير إلا تحيرا
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال الاسم هو المسمى على معنى أن المسمى مشتق من الاسم ويدخل فيه كما يدخل السيف في مفهوم الصارم فهذا إن قيل به فيلزم عليه أن يكون التسمية والمسمي والاسم والمسمى كله واحدا لأن الكل مشتق من الاسم ويدل عليه وهذا مجازفة في الكلام وهو كقول القائل الحركة والتحريك والمحرك والمحرك واحد إذ الكل مشتق من الحركة وهو

خطأ فإن الحركة تدل على النقلة من غير دلالة على المحل والفاعل والفعل والمحرك يدل على فاعل الحركة والمحرك يدل على محل الحركة مع كونه مفعولا بخلاف المتحرك فإنه يدل على محل الحركة ولا يدل على كونه مفعولا والتحريك يدل على فعل الحركة من غير دلالة على الفاعل والمحل فهذه الحقائق متباينة وإن كانت الحركة غير خارجة عن جميعها
ولكن للحركة حقيقة في نفسها تعقل وحدها ثم تعقل نسبتها إلى فاعل وهذه الإضافة غير المضاف إذ الإضافة تعقل بين شيئين والمضاف قد يعقل وحده وتعقل نسبته إلى المحل وهو غير نسبته إلى الفاعل كيف ونسبة الحركة إلى المحل واحتياجها إليه ضروري ونسبتها إلى الفاعل نظري أعني به الحكم بوجود النسبتين دون التصور فكذلك الاسم له دلالة وله مدلول وهو المسمى ووضعه فعل فاعل مختار وهو التسمية ثم ليست هذه المداخلة من قبيل دخول السيف في مفهوم الصارم والمهند لأن الصارم سيف بصفة وكذا المهند فالسيف داخل فيه وليس المسمى اسما بصفة ولا التسمية اسما بصفة فلا يصح فيه هذا التأويل
وأما الوجه الثالث الذي يرجع إلى اتحاد المحل مع تعدد الصفة فهو أيضا مع بعده غير جار في الاسم والمسمى ولا في الاسم والتسمية حتى يقال إن شيئا واحدا موضوع لأن يسمى اسما ويسمى تسمية كما كان في مثال الثلج إذ هو معنى واحد موصوف بالبارد والأبيض وإلا هو كقول القائل الصديق رضي الله عنه هو ابن أبي قحافة لأن تأويله أن الشخص الذي وصف بأنه صديق هو الذي نسب بالولادة إلى أبي قحافة فيكون معنى ال هو هو اتحاد الموضوع مع القطع بتباين الصفتين فإن مفهوم الصديق رضي الله عنه غير مفهوم بنوة أبي قحافة

فالتأويلات التي تطلق عليها هو هو غير جارية في الاسم والمسمى وفي الاسم والتسمية البتة لا حقيقتها ولا مجازها والحقيقة من جملتها ما يرجع إلى ترادف الأسماء كقولنا الليث هو الأسد بشرط أن لا يكون في اللغة فرق بين مفهوم اللفظين فإن كان بينهما فرق فليطلب له مثال آخر وهذا يرجع إلى اتحاد الحقيقة وكثرة الاسم ولا بد في قولنا هو هو من كثرة من وجه ووحدة من وجه وأحق الوجوه أن تكون الوحدة في المعنى والكثرة في مجرد اللفظ
وهذا القدر كاف في الكشف عن هذا الخلاف الطويل الذيل القليل النيل فقد ظهر لك أن الاسم والتسمية والمسمى ألفاظ متباينة المفهوم مختلفة المقصود وإنما يصح على الواحد منها أن يقال هو غير الثاني لا أنه هو لأن الغير في مقابلة الهو هو
وأما المذهب الثالث المقسم للاسم إلى ما هو المسمى وإلى ما هو غيره وإلى ما لا هو هو ولا هو غيره فأبعد المذاهب عن السداد وأجمعها لقبول الاضطراب إلا أن يؤول ويقال ما أراد بالاسم الذي قسمه إلى ثلاثة أقسام الاسم نفسه بل أراد به مفهوم الاسم ومدلوله ومفهوم الاسم غير الاسم فإن مفهوم الاسم هو المدلول والمدلول غير الدليل وهذا الانقسام الذي ذكره متطرق إلى مفهوم الاسم فالصواب أن يقال مفهوم الاسم قد يكون ذات المسمى وحقيقته وماهيته وهي أسماء الأنواع التي ليست مشتقة كقولك إنسان وعلم وبياض وما هو مشتق فلا يدل على حقيقة المسمى بل يترك الحقيقة مبهمة ويدل على صفة له كقولك عالم وكاتب
ثم المشتق ينقسم وماهيته وهي أسماء الأنواع إلى ما ليست مشتقة كقولك إنسان وعلم وبياض وما هو مشتق إلى ما يدل على وصف حال في المسمى كالعالم والأبيض وإلى ما يدل على إضافة له إلى غير مفارق كالخالق والكاتب

وحد القسم الأول كل اسم يقال في جواب ما هو فإنه إذا أشير إلى شخص آدمي وقيل ما هو ليس كقول من هو فجوابه أن يقال إنسان فلو قيل حيوان لم يكن قد ذكر تمام الماهية لأنه ليس تتقوم ماهيته بمجرد الحيوانية لأنه هو هو بأنه حيوان عاقل لا بأنه حيوان فقط ولفظ الإنسان اسم للحيوان العاقل فلو قيل بدل الإنسان أبيض أو طويل أو عالم أو كاتب لم يكن جوابا لأن مفهوم الأبيض شيء مبهم له وصف البياض ما يدري ما ذلك الشيء ومفهوم العالم شيء مبهم له وصف العلم ومفهوم الكاتب شيء مبهم له فعل الكتابة نعم يجوز أن يفهم أن الكاتب إنسان ولكن من أمور خارجة وأدلة زائدة على مفهوم اللفظ وكذلك إذا أشير إلى لون وقيل ما هو فجوابه أنه بياض فلو ذكر اسما مشتقا فقال مشرق أو مفرق لضوء البصر لم يكن جوابا لأن المطلوب بقولنا ما هو حقيقة الذات وماهيتها التي بها هي ما هي والمشرق شيء مبهم له الإشراق والمفرق شيء مبهم له التفريق
فهذا التقسيم في مدلول الأسامي ومفهومها صحيح ويجوز أن يعبر عن هذا بأن الاسم قد يدل على الذات وقد يدل على غير الذات ويكون ذلك على سبيل المساهلة في الإطلاق فإن قولنا يدل على غير الذات إن لم يفسر بأنا أردنا به غير الماهية المقولة في جواب ما هو لم يصح فإن العالم يدل على ذات له العلم فقد دل على الذات أيضا ففرق بين أن يقول عالم وبين أن يقول علم لأن العالم يدل على ذات له العلم ولفظ العلم لا يدل إلا على العلم
فقوله الاسم قد يكون ذات المسمى فيه خللان ويحتاج فيه إلى إصلاحين
أحدهما أن يبدل الاسم بمفهوم الاسم

والآخر أن يبدل الذات بماهية الذات فيقال مفهوم الاسم قد يكون حقيقة الذات وماهيتها وقد يكون غير الحقيقة
وأما قوله إن الخالق هو غير المسمى إن أراد به لفظ الخالق فاللفظ أبدا هو غير مدلول اللفظ وإن أراد به أن مفهوم اللفظ غير المسمى فهو محال لأن الخالق اسم وكل اسم مفهومه مسماه فإن لم يفهم المسمى منه فليس اسما له والخالق ليس اسما للخلق وإن كان الخلق داخلا فيه والكاتب ليس اسما للكتابة ولا المسمى اسما للتسمية بل الخالق اسم ذات من حيث يصدر عنه الخلق فالمفهوم من الخالق هو الذات أيضا لكن لا حقيقة الذات فقط بل المفهوم هو الذات من حيث له صفة إضافية كما إذا قلنا أب لم يكن المفهوم منه ذات الأب بل المفهوم ذات الأب من حيث إضافته إلى الابن والأوصاف تنقسم إلى إضافية وغير إضافية والموصوف بجميعها الذوات فإن قال قائل الخالق وصف وكل وصف فهو إثبات وليس في مضمون هذا اللفظ إثبات سوى الخلق والخلق غير الخالق وليس للخالق وصف حقيقي من الخلق فلذلك قيل إنه يرجع إلى غير المسمى فنقول قول القائل الاسم يفهم غير المسمى منتاقض كقول القائل الدليل يعرف غير المدلول فإن المسمى عبارة عن مفهوم الاسم فكيف يكون المفهوم غير المسمى والمسمى غير المفهوم
وأما قوله إن الخالق لا وصف له من الخلق والكاتب لا وصف له من الكتابة فليس كذلك والدليل على أن له وصفا منه أنه يوصف به مرة وينفى عنه أخرى والإضافة وصف للمضاف ينفي ويثبت كالبياض الذي ليس بمضاف فمن عرف زيدا وبكرا ثم عرف أن زيدا أب لبكر فقد عرف شيئا لا محالة وهذا الشيء إما وصف أو موصوف وليس هو ذات الموصوف بل هو وصف وليس وصفا قائما بنفسه بل هو وصف لزيد فالإضافات من قبيل

الأوصاف للمضافات إلا أن مضمونها لا يعقل إلا بالقياس بين شيئين وذلك لا يخرجها عن كونها أوصافا
ولو قال القائل ليس الله عز و جل موصوفا بكونه خالقا كفر كما لو قال ليس موصوفا بكونه عالما كفر ولكن إنما وقع هذا القائل في هذا الخبط لأن الإضافة عند المتكلمين غير معدودة في جملة الأعراض مع أنهم إذا قيل لهم ما معنى العرض قالوا إنه الموجود في محل لا يقوم بنفسه وإذا قيل لهم هل الإضافة تقوم بنفسها قالوا لا وإذا قيل لهم هل الإضافة موجودة أم لا قالوا نعم إذ لا يمكنهم أن يقولوا الأبوة معدومة إذ لو كانت الأبوة معدومة لم يكن في العالم أب وإذا قيل لهم الأبوة تقوم بنفسها قالوا لا فيضطرون إلى الاعتراف بأنها موجودة في محل وأنها لا تقوم بنفسها بل تقوم في محل ويعترفون بأن العرض عبارة عن موجود في محل ثم يعودون وينكرون أنه عرض
وأما قوله إن من الاسم ما لا يقال إنه المسمى ولا يقال هو غيره فهو أيضا خطأ لأنه سيفسر ذلك بالعالم وهذا إذا اعتذر فيه بأن الشرع لم يأذن في إطلاق ذلك في حق الله عز و جل فربما قيل ليس التصريح بالحق والصدق موقوفا على إذن خاص وربما سومح الآن فيه ورد النظر معه إلى الإنسان إذا وصف بالعلم أفتقول إن العلم ليس غير الإنسان وقد كان الإنسان موجودا ولم يكن العلم وحد العلم غير حد الإنسان لا محالة فإن قال العلم غير الإنسان ولكن إذا قلنا عن شخص واحد إنه عالم وإنه إنسان لم يكن العالم هو الإنسان ولا هو غير الإنسان لأن الإنسان هو الموصوف به قلنا ويلزم هذا من الكاتب والنجار فإن الموصوف به أيضا هو الإنسان
على أن الحق فيه التفصيل وهو أن يقال مفهوم لفظ الإنسان غير مفهوم

لفظ العالم إذ مفهوم الإنسان حيوان ناطق عاقل ومفهوم العالم شيء مبهم له علم فأحد اللفظين غير اللفظ الآخر ومفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر فهو بهذا الوجه هو غير لا يجوز أن يقال هو هو وبوجه آخر هو هو ولا يجوز أن يقال بذلك الوجه إلا هو غيره وذلك إذا نظرت إلى الذات الواحدة التي توصف بأنها إنسان وأنها عالمة فإن المسمى بالإنسان هو الموصوف بأنه عالم كما أن المسمى بالثلج هو الموصوف بأنه بارد وأبيض فبهذا النوع من النظر والاعتبار هو هو وبالاعتبار الأول هو غيره ومحال في العقل أن يكون الاعتبار واحدا ويكون لا هو هو ولا غيره كما يستحيل أن يكون هو هو وغيره لأن الغير والهو هو متقابلان تقابل النفي والإثبات فليس بينهما واسطة
ومن فهم هذا علم أنه إذا أثبت لله عز و جل وصف القدرة والعلم زائدا على الذات فقد أثبت ما هو غير الذات وأثبت للغيرية معنى وإن لم يطلقه لفظا توقفا إلى ورود التوقيف فكيف لا وإذا ذكر حد العلم دخل فيه علم الله عز و جل ولم يدخل فيه قدرته ولا ذاته والخارج عن الحد كيف لا يكون غير الداخل في الحد وكيف لا يجوز لحاد العلم إذا لم يدخل في حده القدرة أن يعتذر ويقول لا يضرني خروج القدرة عن الحد لأني حددت العلم والقدرة غير العلم فلا يلزمني إدخالها في حد العلم فكذلك الذات العالمة غير العلم فلا يلزمني إدخالها في حد العلم فمن استنكر قول القائل الداخل في الحد غير الخارج منه وأحال إطلاق لفظ الغير هاهنا كان من جملة من لم يفهم معنى لفظ الغير وما عندي أنه لا يفهم فإن معنى لفظ الغير ظاهر لكن عساه يقول بلسانه ما ينبو عنه عقله ويكذبه فيه سره وليس الغرض من المحاجة البرهانية اقتناص الألسنة بل اقتناص العقول لتعترف باطنا بما هو الحق أفصح عنه باللسان أو لم يفصح
فإن قيل إنما اضطر القائلين بأن الاسم هو المسمى إلى القول به الحذر

من أن يقولوا الاسم هو اللفظ الدال بالاصطلاح فيلزمهم القول بأن الله عز و جل لم يكن له اسم في الأزل إذ لم يكن لفظ ولا لافظ فإن اللفظ حادث فنقول هذه ضرورة ضعيفة يهون دفعها إذ يقال معاني الأسماء كانت ثابتة في الأزل ولم تكن الأسماء لأن الأسماء عربية وعجمية وكلها حادثة وهذا في كل اسم يرجع إلى معنى الذات أو صفة الذات مثل القدوس فإنه كان بصفة القدس في الأزل ومثل العالم فإنه كان عالما في الأزل
فإنا قد بينا أن الأشياء لها ثلاث مراتب في الوجود
أحدها في الأعيان وهذا الوجود موصوف بالقدم فيما يتعلق بذات الله عز و جل وصفاته
والثاني في الأذهان وهذا الوجود حادث إذ كانت الأذهان حادثة
والثالث في اللسان وهي الأسماء وهذا الوجود أيضا حادث بحدوث اللسان
نعم نريد بالثابت في الأذهان المعلوم وهي أيضا إذا أضيفت إلى ذات الله عز و جل كانت قديمة لأن الله عز و جل موجود وعالم في الأزل وكان يعلم أنه موجود وعالم فكان وجوده ثابتا في نفسه وفي علمه أيضا وكانت الأسماء التي سيلهمها عباده ويخلقها في أذهانهم وألسنتهم أيضا معلومة عنده فبهذا التأويل يجوز أن يقال كانت الأسماء في الأزل
أما الأسامي التي ترجع إلى الفعل كالخالق والمصور والوهاب فقد قال قوم يوصف بأنه خالق في الأزل وقال آخرون لا يوصف وهذا خلاف لا أصل له فإن الخالق يطلق لمعنيين أحدهما ثابت في الأزل قطعا والآخر منفي قطعا ولا وجه للخلاف فيهما إذ السيف يسمى قاطعا وهو في الغمد ويسمى قاطعا حالة حز الرقبة فهو في الغمد قاطع بالقوة وعند الحز قاطع بالفعل والماء في الكوز مرو ولكن بالقوة وفي المعدة مرو بالفعل ومعنى

كون الماء في الكوز مرويا أنه بالصفة التي بها يحصل الإرواء عند مصادفة المعدة وهي صفة المائية والسيف في الغمد قاطع أي هو بالصفة التي بها يحصل القطع إذا لاقى المحل وهي الحدة إذ لا يحتاج إلى أن يستجد وصفا آخر في نفسه
فالبارىء سبحانه وتعالى في الأزل خالق بالمعنى الذي به يقال الماء الذي في الكوز مرو وهو أنه بالصفة التي بها يصح الفعل والخلق وهو بالمعنى الثاني غير الخالق أي الخلق غير صادر منه وكذلك هو في الأزل على المعنى الذي به يسمى عالما وقدوسا وغير ذلك ويكون في الأبد كذلك سماه غيره بذلك الاسم أو لم يسم وأكثر أغاليط الجدليين منشؤه عدم التمييز بين معاني الأسامي المشتركة وإذا ميزت ارتفع أكثر اختلافاتهم
فإن قيل فقد قال الله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم 12 يوسف الآية 40 ومعلوم أنهم ما كانوا يعبدون الألفاظ التي هي حروف مقطعة بل كانوا يعبدون المسميات فنقول المستدل بهذا لا يفهم وجه دلالته ما لم يقل إنهم يعبدون المسميات دون الأسماء فيكون في كلامه التصريح بأن الأسماء غير المسميات إذ لو قال القائل العرب كانت تعبد المسميات دون المسميات كان متناقضا ولو قال تعبد المسميات دون الأسماء كان مفهوما غير متناقض فلو كانت الأسماء هي المسميات لكان القول الأخير كالأول
ثم يقال معناه أن اسم الآلهة التي أطلقوها على الأصنام كان اسما بلا مسمى لأن المسمى هو المعنى الثابت في الأعيان من حيث دل عليه باللفظ ولم تكن الإلهية ثابتة في الأعيان ولا معلومة في الأذهان بل كانت أساميها موجودة في اللسان فكانت أسامي بلا معان ومن سمي باسم الحكيم ولم يكن حكيما وفرح به قيل فرح بالاسم إذ ليس وراء الاسم معنى وهذا هو الدليل على أن الاسم غير المسمى لأنه أضاف الاسم إلى التسمية وأضاف التسمية إليهم وجعلها

فعلا لهم فقال أسماء سميتموها 12 سورة يوسف الآية 40 يعني أسماء حصلت بتسميتهم وفعلهم وأشخاص الأصنام لم تكن هي الحادثة بتسميتهم
فإن قيل فقد قال الله تعالى سبح اسم ربك الأعلى 87 سورة الأعلى الآية 1 والذات هي المسبحة دون الاسم قلنا الاسم هاهنا زيادة على سبيل الصفة وعادة العرب بمثله جارية وهو كقوله عز و جل ليس كمثله شيء 42 سورة الشورى الآية 11 ولا يجوز أن يستدل فيقال فيه إثبات المثل إذ قال ليس كمثله شيء 42 سورة الشورى الآية 11 كما يقال ليس كولده أحد إذ فيه إثبات الولد بل الكاف فيه زيادة
ولا يبعد أن يكنى عن المسمى بالاسم إجلالا للمسمى كما يكنى عن الشريف بالجناب والحضرة والمجلس فيقال السلام على حضرته المباركة ومجلسه الشريف والمراد به السلام عليه ولكن يكنى عنه بما يتعلق به نوعا من التعلق إجلالا وكذلك الاسم وإن كان غير المسمى فهو متعلق بالمسمى ومطابق له وهذا لا ينبغي أن يلتبس على البصير في أصل الوضع
كيف وقد استدل القائلون بأن الاسم غير المسمى بقوله عز و جل ولله الأسماء الحسنى 7 سورة الأعراف الآية 180 وبقوله إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مئة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وقالوا لو كان هو المسمى لكان المسمى تسعا وتسعين وهو محال لأن المسمى واحد فاضطر أولئك إلى الاعتراف هاهنا بأن الاسم غير المسمى وقالوا يجوز أن يرد بمعنى التسمية لا بمعنى المسمى كما سلم الآخرون بأن الاسم قد يرد بمعنى المسمى وإن كان هو غير المسمى في الأصل وعليه نزلوا قوله

تعالى سبح اسم ربك الأعلى 87 سورة الأعلى الآية 1 ولم يحسن كل واحد من الفريقين في الاستدلال والجواب جميعا
أما قوله سبح اسم ربك الأعلى 87 سورة الأعلى الآية 1 فقد ذكرنا ما فيه وعليه وأما هذا الاستدلال فجوابهم عنه بأن الاسم والمسمى واحد وإنما أريد بالاسم هاهنا التسمية فقط خطأ من وجهين
أحدهما أن من يقول الاسم هو المسمى لا يعجز عن أن يقول المسمى هاهنا تسعة وتسعون لأن المراد بالمسمى مفهوم الاسم عند هذا القائل ومفهوم العليم غير مفهوم القدير والقدوس والخالق وغير ذلك بل لكل اسم مفهوم ومعنى على حياله وإن كان الكل يرجع إلى وصف ذات واحدة فكأن هذا القائل يقول الاسم هو المعنى ويمكن أن يقول لله تعالى المعاني الحسنى فإن المسميات هي المعاني وفيها كثرة لا محالة
والثاني أن قوله المراد بالاسم هاهنا التسمية خطأ فإنا قد بينا أن التسمية هو ذكر الاسم أو وصفه والتسمية تتعدد وتكثر بكثرة المسمين وإن كان الاسم واحد كما أن الذكر والعلم يكثر بكثرة الذاكرين والعالمين وإن كان المذكور والمعلوم واحدا فكثرة التسمية لا تفتقر إلى كثرة الأسماء لأن ذلك يرجع إلى أفعال المسمين فما أريد بالأسماء هاهنا التسميات بل أريد الأسماء والأسماء هي الألفاظ الموضوعة الدالة على المعاني المختلفة فلا حاجة إلى هذا التعسف في التأويل قيل الاسم هو المسمى أو لم يقل
فهذا القدر يكفيك في كشف هذه المسألة وإن كانت المسألة لقلة جدواها لا تستحق هذا الإطناب ولكن قصدنا بالشرح تعليم طريق التعرف لأمثال هذه المباحث لتستعمل في مسائل أهم من هذه المسألة فإن أكثر تطواف النظر في هذه المسألة حول الألفاظ دون المعاني والله أعلم

الفصل الثاني في بيان الأسامي المتقاربة في المعنى وأنها هل يجوز أن تكون
مترادفة لا تدل إلا على معنى واحد أو لا بد أن تختلف مفهوماتها
فأقول الخائضون في شرح هذه الأسامي لم يتعرضوا لهذا الأمر ولم يبعدوا أن يكون اسمان لا يدلان إلا على معنى واحد كالكبير والعظيم والقادر والمقتدر والخالق والبارئ والمصور وهذا مما أستبعده غاية الاستبعاد مهما كان الاسمان من جملة التسعة والتسعين لأن الاسم لا يراد لحروفه بل لمعانيه والأسامي المترادفة لا يختلف إلا حروفها وإنما فضيلة هذه الأسامي لما تحتها من المعاني فإذا خلت عن المعنى لم يبق إلا الألفاظ والمعنى إذا دل عليه بألف اسم لم يكن له فضل على المعنى الذي يدل عليه باسم واحد فيبعد أن يكمل هذا العدد المحصور بتكرير الألفاظ على معنى واحد بل الأشبه أن يكون تحت كل لفظ خصوص معنى
فإذا رأينا لفظين متقاربين فلا بد فيه من أحد أمرين
أحدهما أن تتبين أن أحدهما خارج عن التسعة والتسعين مثل الأحد والواحد فإن الرواية المشهورة عن أبي هريرة رضي الله عنه ورد فيها الواحد وفي رواية أخرى ورد الأحد بدل الواحد فيكون مكمل العدد معنى التوحيد إما بلفظ الواحد أو بلفظ الأحد فأما أن يقوما في تكميل العدد مقام اسمين والمعنى واحد فهو بعيد عندي جدا
الثاني أن نتكلف إظهار مزية لأحد اللفظين على الآخر ببيان اشتماله على

دلالة لا يدل عليها الآخر مثاله لو ورد الغافر والغفور والغفار لم يكن بعيدا أن تعد هذه ثلاثة أسام لأن الغافر يدل على أصل المغفرة فقط والغفور يدل على كثرة المغفرة بالإضافة إلى كثرة الذنوب حتى إن من لا يغفر إلا نوعا واحدا من الذنوب قد لا يقال له غفور والغفار يشير إلى كثرة على سبيل التكرار أي يغفر الذنوب مرة بعد أخرى حتى إن من يغفر جميع الذنوب ولكن أول مرة ولا يغفر العائد إلى الذنب مرة بعد أخرى لم يستحق اسم الغفار
وكذلك الغني والملك فإن الغني هو الذي لا يحتاج إلى شيء والملك أيضا هو الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء فيكون الملك مفيدا معنى الغنى وزيادة وكذلك العليم والخبير فإن العليم يدل على العلم فقط والخبير يدل على علمه بالأمور الباطنة وهذا القدر من التفاوت يخرج الأسامي عن أن تكون مترادفة وتكون من جنس السيف والمهند والصارم لا من جنس الأسد والليث فإن عجزنا في بعض هذه الأسامي المتقاربة عن هذين المسلكين فينبغي أن نعتقد تفاوتا بين معنى اللفظين وإن عجزنا عن التنصيص على خصوص ما به الافتراق كالعظيم والكبير مثلا فإنه يصعب علينا أن نذكر وجه الفرق بين معنييهما في حق الله تعالى ولكنا لا نشك في أصل الافتراق
ولذلك قال عز من قائل الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ففرق بينهما فرقا يدل على التفاوت فإن كل واحد من الرداء والإزار زينة للابس ولكن الرداء أشرف من الإزار
ولذلك جعل مفتاح الصلاة الله أكبر ولم يقم عند ذوي البصائر النافذة الله أعلم مقامه وكذلك العرب في استعمالها تفرق بين اللفظين إذ تستعمل الكبير حيث لا تستعمل العظيم ولو كانا مترادفين لتواردا في كل

مقام تقول العرب فلان أكبر سنا من فلان ولا تقول أعظم سنا وكذلك الجليل غير الكبير والعظيم فإن الجلال يشير إلى صفات الشرف ولذلك لا يقال فلان أجل سنا من فلان ويقال أكبر ويقال العرش أعظم من الإنسان ولا يقال أجل من الإنسان
فهذه الأسامي وإن كانت متقاربة المعاني فليست مترادفة وعلى الجملة يبعد الترادف المحض في الأسماء الداخلة في التسعة والتسعين لأن الأسامي لا تراد لحروفها ومخارج أصواتها بل لمفهوماتها ومعانيها فهذا أصل لا بد من اعتقاده

الفصل الثالث في الاسم الواحد الذي له معان مختلفة وهو مشترك بالإضافة
إليها
كالمؤمن مثلا فإنه قد يراد به المصدق وقد يشتق من الأمن ويكون المراد إفادة الأمن والأمان فهل يجوز أن يحمل على كلا المعنيين حمل العموم على مسمياته كما يحمل العليم على العلم بالغيب والشهادة والظاهر والباطن وغير ذلك من المعلومات الكثيرة وهذا إذا نظر إليه من حيث اللغة فبعيد أن يحمل الاسم المشترك على جميع المسميات حمل العموم إذ العرب تطلق اسم الرجل وتريد به كل واحد من الرجال وهذا هو العموم ولا تطلق اسم العين وتريد به عين الشمس والدينار وعين الميزان والعين المنفجرة من الماء والعين الباصرة من الحيوان وهذا هو اللفظ المشترك بل تطلق مثل ذلك لإرادة أحد معانيه وتميز ذلك بالقرينة وقد حكي عن الشافعي رضي الله عنه في الأصول أنه قال الاسم المشترك يحمل على جميع مسمياته إذا ورد مطلقا ما لم تدل قرينة على التخصيص وهذا إن صح منه فهو بعيد بل مطلق لفظ العين مبهم في اللغة لا يتعين به واحد من مسمياته إلا أن تدل قرينة على التعيين
فأما التعميم فربما خالف وضع الشرع وضع اللسان نعم فيما تصرف الشرع فيه من الألفاظ لا يبعد أن يكون من وضعه وتصرفه إطلاق اللفظ لإرادة جميع المعاني فيكون اسم المؤمن بالشرع محمولا على المصدق ومفيدا الأمن بوضع شرعي لا بوضع لغوي كما أن اسم الصلاة والصيام قد اختص بتصرف الشرع ببعض أمور لا يقتضي وضع اللغة ذلك فهذا غير بعيد لو كان عليه دليل

ولكن لم يدل دليل على أن الشرع قد غير الوضع فيه والأغلب على ظني أنه لم يغير وأن من قال من المصنفين إن الاسم الواحد من أسماء الله عز و جل إذا احتمل معاني ولم يدل العقل على إحالة شيء منها حمل على الجميع بطريق العموم فقد أبعد فيه
نعم من المعاني ما يتقارب تقاربا يكاد يرجع الاختلاف فيه إلى الإضافات فيقرب شبهه من العموم فالتعميم فيه أقرب كالسلام فإنه يحتمل أن يكون المراد سلامته من العيب والنقص ويحتمل أن يكون المراد سلامة الخلق به ومنه فهذا وأمثاله أشبه بالعموم فإذا ثبت أن الميل الأظهر إلى منع التعميم فطلب التعيين لبعض المعاني لا يكون إلا بالاجتهاد فيكون الحامل للمجتهد على تعيين بعض المعاني إما أنه أليق كمفيد الأمان فإنه أليق بالمدح في حق الله عز و جل من التصديق فإن التصديق أليق بغيره إذ يجب على الكل الإيمان به والتصديق بكلامه فإن رتبة المصدق فوق رتبة المصدق وإما أن يكون أحد المعنيين لا يؤدي إلى الترادف بين اسمين كحمل المهيمن على غير الرقيب فإنه أولى من الرقيب لأن الرقيب قد ورد والترادف بعيد كما ذكرناه وإما أن يكون أحد المعنيين أظهر في التعارف وأسبق إلى الإفهام لشهرته أو أدل على الكمال والمدح فهذا وما يجري مجراه ينبغي أن يعول عليه في بيان الأسامي ولا نذكر لكل اسم إلا معنى واحدا نراه أقرب ونضرب عما عداه صفحا إلا إذا رأيناه مقاربا في الدرجة لما ذكرناه فأما تكثير الأقاويل المختلفة فيه مع أنا لا نرى تعميم الألفاظ المشتركة فلا نرى فيه فائدة

الفصل الرابع في بيان أن كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى
والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه
اعلم أن من لم يكن له حظ من معاني أسماء الله عز و جل إلا بأن يسمع لفظه ويفهم في اللغة معنى تفسيره ووضعه ويعتقد بالقلب وجود معناه في الله تعالى فهو مبخوس الحظ نازل الدرجة ليس يحسن به أن يتبجح بما ناله فإن سماع اللفظ لا يستدعي إلا سلامة حاسة السمع التي بها تدرك الأصوات وهذه رتبة تشارك البهيمة فيها وأما فهم وضعه في اللغة فلا يستدعي إلا معرفة العربية وهذه رتبة يشارك فيها الأديب اللغوي بل الغبي اللغوي البدوي وأما اعتقاد ثبوت معناه لله سبحانه وتعالى من غير كشف فلا يستدعي إلا فهم معاني الألفاظ والتصديق بها وهذه رتبة يشارك فيها العامي بل الصبي فإنه بعد فهم الكلام إذا ألقي إليه هذه المعاني تلقاها وتلقنها واعتقدها بقلبه وصمم عليها وهذه درجات أكثر العلماء فضلا عن غيرهم ولا ينكر فضل هؤلاء بالإضافة إلى من لم يشاركهم في هذه الدرجات الثلاث ولكنه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين بل حظوظ المقربين من معاني أسماء الله تعالى ثلاثة
الحظ الأول معرفة هذه المعاني على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم اتصاف الله عز و جل بها انكشافا يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان

بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنه لا بإحساس ظاهر وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين تقليدا والتصميم عليه وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية
الحظ الثاني من حظوظهم استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث من الاستعظام يشوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند الله عز و جل ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الكمال والجلال وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة
ولا يخلو عن هذا الشوق أحد إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة واليقين بكون الوصف المعلوم من أوصاف الجلال والكمال وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به فالتلميذ إذا شاهد كمال أستاذه في العلم انبعث شوقه إلى التشبه والاقتداء به إلا إذا كان مملوءا بالجوع مثلا فإن استغراق باطنه بشوق القوت ربما يمنع انبعاث شوق العلم ولهذا ينبغي أن يكون الناظر في صفات الله تعالى خاليا بقلبه عن إرادة ما سوى الله عز و جل فإن المعرفة بذر الشوق ولكن مهما صادف قلبا خاليا عن حسيكة الشهوات فإن لم يكن خاليا لم يكن البذر منجحا
الحظ الثالث السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها وبه يصير العبد ربانيا أي قريبا من الرب تعالى وبه يصير رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة فإنهم على بساط القرب فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق تعالى

فإن قلت طلب القرب من الله عز و جل بالصفة أمر غامض تكاد تشمئز القلوب عن قبوله والتصديق به فزده شرحا تكسر به سورة إنكار المنكرين فإن هذا كالمنكر عند الأكثرين إن لم تكشف حقيقته فأقول لا يخفى عليك ولا على من ترعرع قليلا من درجة عوام العلماء أن الموجودات منقسمة إلى كاملة وناقصة والكامل أشرف من الناقص ومهما تفاوتت درجات الكمال واقتصر منتهى الكمال على واحد حتى لم يكن الكمال المطلق إلا له ولم يكن للموجودات الأخر كمال مطلق بل كانت لها كمالات متفاوتة بالإضافة فأكملها أقرب لا محالة إلى الذي له الكمال المطلق أعني قربا بالرتبة والدرجة لا بالكمال
ثم الموجودات منقسمة إلى حية وميتة وتعلم أن الحي أشرف وأكمل من الميت وأن درجات الأحياء ثلاثة درجة الملائكة ودرجة الإنس ودرجة البهائم ودرجة البهائم أسفل في نفس الحياة التي بها شرفها لأن الحي هو الدراك الفعال وفي إدراك البهيمة نقص وفي فعلها نقص أما إدراكها فنقصانه أنه مقصور على الحواس وإدراك الحس قاصر لأنه لا يدرك الأشياء إلا بمماسة أو بقرب منها فالحس معزول عن الإدراك إن لم يكن مماسة ولا قرب فإن الذوق واللمس يحتاجان إلى المماسة والسمع والبصر والشم يحتاج إلى القرب وكل موجود لا يتصور فيه المماسة والقرب فالحس معزول عن إدراكه في الحال وأما فعلها فهو أنه مقصور على مقتضى الشهوة والغضب لا باعث لها سواهما وليس لها عقل يدعو إلى أفعال مخالفة لمقتضى الشهوة والغضب
وأما الملك فدرجته أعلى الدرجات لأنه عبارة عن موجود لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه القرب والبعد إذ القرب والبعد يتصور على الأجسام والأجسام أخس أقسام الموجودات ثم هو مقدس عن الشهوة والغضب فليست أفعاله بمقتضى الشهوة والغضب بل داعيه

إلى الأفعال أمر أجل من الشهوة والغضب وهو طلب التقرب إلى الله عز و جل
وأما الإنسان فإن درجته متوسطة بين الدرجتين وكأنه مركب من بهيمية وملكية والأغلب عليه في بداية أمره البهيمية إذ ليس له أولا من الإدراك إلا الحواس التي يحتاج في الإدراك بها إلى طلب القرب من المحسوس بالسعي والحركة إلى أن يشرق عليه بالآخرة نور العقل المتصرف في ملكوت السموات والأرض من غير حاجة إلى حركة بالبدن وطلب قرب أو مماسة مع المدرك به بل مدركه الأمور المقدسة عن قبول القرب والبعد بالمكان وكذلك المستولي عليه أولا شهوته وغضبه وبحسب مقتضاهما انبعاثه إلى أن يظهر فيه الرغبة في طلب الكمال والنظر للعاقبة وعصيان مقتضى الشهوة والغضب فإن غلب الشهوة والغضب حتى ملكهما وضعفا عن تحريكه وتسكينه أخذ بذلك شبها من الملائكة وكذلك إن فطم نفسه عن الجمود على الخيالات والمحسوسات وأنس بإدراك أمور تجل عن أن ينالها حس أو خيال أخذ شبها أخر من الملائكة فإن خاصية الحياة الإدراك والعقل وإليهما يتطرق النقصان والتوسط والكمال ومهما اقتدى بالملائكة في هاتين الخاصيتين كان أبعد عن البهيمية وأقرب من الملك والملك قريب من الله عز و جل والقريب من القريب قريب
فإن قلت فظاهر هذا الكلام يشير إلى إثبات مشابهة بين العبد وبين الله تعالى لأنه إذا تخلق بأخلاقه كان شبيها له ومعلوم شرعا وعقلا أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء فأقول مهما عرفت معنى المماثلة المنفية عن الله عز و جل عرفت أنه لا مثل له ولا ينبغي أن يظن أن المشاركة في كل وصف توجب المماثلة
افترى أن الضدين يتماثلان وبينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد

فوقه وهما متشاركان في أوصاف كثيرة إذ السواد يشارك البياض في كونه عرضا وفي كونه لونا وفي كونه مدركا بالبصر وأمور أخر سواها أفترى أن من قال إن الله عز و جل موجود لا في محل وإنه سميع بصير عالم مريد متكلم حي قادر فاعل والإنسان أيضا كذلك فقد شبه وأثبت المثل هيهات ليس الأمر كذلك ولو كان كذلك لكان الخلق كلهم مشبهة إذ لا أقل من إثبات المشاركة في الوجود وهو موهم للمشابهة بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية والفرس وإن كان بالغا في الكياسة لا يكون مثلا للإنسان لأنه مخالف له بالنوع وإنما يشابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن الماهية المقومة لذات الإنسانية
والخاصية الإلهية أنه الموجود الواجب الوجود بذاته الذي عنه يوجد كل ما في الإمكان وجوده على أحسن وجوه النظام والكمال وهذه الخاصية لا يتصور فيها مشاركة البتة والمماثلة بها لا تحصل فكون العبد رحيما صبورا شكورا لا يوجب المماثلة ككونه سمعيا بصيرا عالما قادرا حيا فاعلا بل أقول الخاصية الإلهية ليست إلا لله تعالى ولا يعرفها إلا الله ولا يتصور أن يعرفها إلا هو أو من هو مثله وإذا لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره فإذا الحق ما قاله الجنيد رحمه الله حيث قال لا يعرف الله إلا الله ولذلك لم يعط أجل خلقه إلا اسما حجبه به فقال سبح اسم ربك الأعلى 87 سورة الأعلى الآية 1 فوالله ما عرف الله غير الله في الدنيا والآخرة وقيل لذي النون وقد أشرف على الموت ماذا تشتهي فقال أن أعرفه قبل أن أموت ولو بلحظة وهذا الآن يشوش قلوب أكثر الضعفاء ويوهم عندهم القول بالنفي والتعطيل وذلك لعجزهم عن فهم هذا الكلام
وأنا أقول لو قال القائل لا أعرف الله كان صادقا ولو قال أعرف الله كان صادقا ومعلوم أن النفي والإثبات لا يصدقان معا بل يتقاسمان

الصدق والكذب فإن صدق النفي كذب الإثبات وبالعكس ولكن إذا اختلف وجه الكلام تصور الصدق في القسمين وهو كما لو قال القائل لغيره هل تعرف الصديق أبا بكر رضي الله عنه فقال والصديق ممن يجهل ولا يعرف أو يتصور في العالم من لا يعرفه مع ظهوره واشتهاره وانتشار اسمه فهل على المنابر إلا حديثه وهل في المساجد إلا ذكره وهل على الألسنة إلا ثناؤه ووصفه لكان هذا القائل صادقا ولو قيل لآخر هل تعرفه فقال ومن أنا حتى أعرف الصديق هيهات لا يعرف الصديق سوى الصديق أو من هو مثله أو فوقه ومن أين لي أن أدعي معرفته أو أطمع فيها وإنما مثلي يسمع اسمه وصفته فأما أن يدعي معرفته فذلك محال فهذا أيضا صادق وله وجه وهو أقرب إلى التعظيم والاحترام
وهكذا ينبغي أن يفهم قول من قال أعرف الله وقول من قال لا أعرف الله
بل لو عرضت خطا منظوما على عاقل وقلت هل تعرف كاتبه فقال لا صدق ولو قال نعم كاتبه هو الإنسان الحي القادر السميع البصير السليم اليد العالم بصناعة الكتابة فإذا عرفت كل هذا منه فكيف لا أعرفه فهذا أيضا صدق ولكن الأحق والأصدق قوله لا أعرفه فإنه بالحقيقة ما عرفه وإنما عرف احتياج الخط المنظوم إلى كاتب حي عالم قادر سميع بصير سليم اليد عالم بصناعة الكتابة ولم يعرف الكاتب نفسه فكذلك الخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبر حي عالم قادر
وهذه المعرفة لها طرفان أحدهما يتعلق بالعالم ومعلومه احتياجه إلى مدبر والآخر يتعلق بالله عز و جل ومعلومه أسامي مشتقة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيتها فإنا قد بينا أنه إذا أشار المشير إلى شيء

وقال ما هو لم يكن ذكر الأسماء المشتقة جوابا أصلا فلو أشار إلى شخص حيوان فقال ما هو فقيل طويل أو أبيض أو قصير أو أشار إلى ماء فقال ما هو فقيل بأنه بارد أو أشار إلى نار وقال ما هو فقيل حار فكل ذلك ليس بجواب عن الماهية البتة والمعرفة بالشيء هي معرفة حقيقته وماهيته لا معرفة الأسامي المشتقة فإن قولنا حار معناه شيء مبهم له وصف الحرارة وكذلك قولنا قادر وعالم معناه شيء مبهم له وصف العلم والقدرة
فإن قلت فقولنا إنه الواجب الوجود الذي عنه وحده يوجد كل ما في الإمكان وجوده عبارة عن حقيقته وحده وقد عرفنا هذا فأقول هيهات فقولنا واجب الوجود عبارة عن استغنائه عن العلة والفاعل وهذا يرجع إلى سلب السبب عنه وقولنا يوجد عنه كل موجود يرجع إلى إضافة الأفعال إليه وإذا قيل لنا ما هذا الشيء وقلنا هو الفاعل لم يكن جوابا وإذا قلنا هو الذي له علة لم يكن جوابا فكيف قولنا هو الذي لا علة له لأن كل ذلك نبأ عن غير ذاته وعن إضافة له إلى ذاته إما بنفي أو إثبات وكل ذلك أسماء وصفات وإضافات
فإن قلت فما السبيل إلى معرفته فأقول لو قال لنا صبي أو عنين ما السبيل إلى معرفة لذة الوقاع وإدراك حقيقته قلنا هاهنا سبيلان أحدهما أن نصفه لك حتى تعرفه والآخر أن تصبر حتى تظهر فيك غريزة الشهوة ثم تباشر الوقاع حتى تظهر فيك لذة الوقاع فتعرفه وهذا السبيل الثاني هو السبيل المحقق المفضي إلى حقيقة المعرفة
فأما الأول فلا يفضي إلا إلى توهم وتشبيه للشيء بما لا يشبهه إذ غايتنا أن نمثل لذة الوقاع عنده بشيء من اللذات التي يدركها العنين كلذة الطعام

والشراب الحلو مثلا فنقول له أما تعرف أن السكر لذيذ فإنك تجد عند تناوله حالة طيبة وتحس في نفسك راحة قال نعم قلنا فالجماع أيضا كذلك أفترى أن هذا يفهمه حقيقة لذة الجماع كما هي حتى ينزل في معرفته منزلة من ذاق تلك اللذة وأدركها هيهات إنما غاية هذا الوصف إيهام وتشبيه خطأ وتفهيم ومشاركة في الاسم
أما الإيهام فهو أنه يتوهم أن ذلك أمر طيب على الجملة وأما التشبيه فهو أنه يشبهه بحلاوة السكر وهو خطأ إذ لا مناسبة بين حلاوة السكر ولذة الوقاع وأما المشاركة في الاسم فهو أنه يعلم أنه مستحق أن يسمى لذة ومهما ظهرت الشهوة وذاق علم قطعا أنه لا يشبهه حلاوة السكر وأن ما كان توهمه لم يكن على الوجه الذي توهمه نعم يعلم أن الذي كان قد سمع من اسمه وصفته وأنه لذيذ وطيب كان صادقا بل كان أصدق عليه منه على حلاوة السكر
فكذلك لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان أحدهما قاصر والآخر مسدود
أما القاصر فهو ذكر الأسماء والصفات وطريقة التشبيه بما عرفناه من أنفسنا فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز و جل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا كفهم العنين لذة الوقاع بما يوصف له من لذة السكر بل حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز و جل وقدرته وعلمه من حلاوة السكر من لذة الوقاع بل لا مناسبة بين البعيدين وفائدة تعريف الله عز و جل بهذه الأوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم لكن يقطع التشبيه بأن يقال ليس كمثله شيء فهو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين كما تقول الوقاع لذيذ كالسكر ولكن تلك اللذة لا تشبه هذه البتة ولكن تشاركها في الاسم

وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا إن الله سميع ولا الأكمه يفهم معنى قولنا إنه بصير ولذلك إذا قال القائل كيف يكون الله عز و جل عالما بالأشياء فنقول كما تعلم أنت الأشياء فإذا قال فكيف يكون قادرا فنقول كما تقدر أنت فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه فيعلم أولا ما هو متصف به ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه فإن كان لله عز و جل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم ولو مشاركة حلاوة السكر لذة الوقاع لم يتصور فهمه البتة فما عرف أحد إلا نفسه ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم
وأما السبيل الثاني المسدود فهو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا كما ينتظر الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى
فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله بل أقول يستحيل أن يعرف النبي غير النبي وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه
بل أزيد وأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة أو النار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها

والنار عبارة عن أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار
وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات وهي المطعم والمنكح والمنظر فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات كما ذكرناه في تشبيه لذة الوقاع بحلاوة السكر ولذات الجنة أبعد من كل لذة أدركناها في الدنيا من لذة الوقاع عن لذة السكر بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإن مثلناها بالأطعمة قلنا مع ذلك لا كهذه الأطعمة وإن مثلناها بالوقاع قلنا لا كالوقاع المعهود في الدنيا فكيف يتعجب المتعجبون من قولنا لم يحصل أهل الأرض والسماء معرفة من الله تعالى إلا على الصفات والأسماء ونحن نقول لم يحصلوا من الجنة إلا على الصفات والأسماء وكذلك في كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته وما ذاقه وما أدركه ولا انتهى إليه ولا اتصف به
فإن قلت فماذا نهاية معرفة العارفين بالله تعالى فنقول نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه وأنه لا يمكنهم البتة معرفته وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله عز و جل فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته
وهو الذي أشار إليه الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه حيث قال العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلوات الله عليه وسلامه حيث قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على

نفسك ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط بها وحدك
فإذا لا يحظى مخلوق في ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة وأما اتساع المعرفة فإنها تكون في معرفة أسمائه وصفاته
فإن قلت فبماذا تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفته إن كان لا يتصور معرفته فأقول قد عرفت أن للمعرفة سبيلين أحدهما السبيل الحقيقي وذلك مسدود إلا في حق الله تعالى فلا يهتز أحد من الخلق لنيله وإدراكه إلا ردته سبحات الجلال إلى الحيرة ولا يشرئب أحد لملاحظته إلا غضت الدهشة طرفه
وأما السبيل الثاني وهو معرفة الصفات والأسماء فذلك مفتوح للخلق وفيه تتفاوت مراتبهم فليس من يعلم أنه عز و جل عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطلع على بدائع المملكة وغرائب الصنعة ممعنا في التفصيل ومستقصيا دقائق الحكمة ومستوفيا لطائف التدبير ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله عز و جل نائلا لتلك الصفات نيل اتصاف بها بل بينهما من البون العظيم ما لا يكاد يحصى وفي تفاصيل ذلك ومقاديره يتفاوت الأنبياء والأولياء
ولن يصل إلى فهمك هذا إلا بمثال ولله المثل الأعلى سورة النحل / الآية 60 ولكنك تعلم أن العالم التقي الكامل مثلا مثل الشافعي رضي الله عنه يعرفه بواب داره ويعرفه المزني رحمه الله تلميذه فالبواب يعرفه أنه عالم بالشرع ومصنف فيه ومرشد خلق الله عز

وجل إليه على الجملة والمزني يعرفه لا كمعرفة البواب بل معرفة محيطة بتفاصيل صفاته ومعلوماته بل العالم الذي يحسن عشرة أنواع من العلوم لا يعرفه بالحقيقة تلميذه الذي لم يحصل إلا نوعا واحدا فضلا عن خادمه الذي لم يحصل شيئا من علومه بل الذي حصل علما واحدا فإنما عرف على التحقيق عشره إن ساواه في ذلك العلم حتى لم يقصر عنه فإن قصر عنه فليس يعرف بالحقيقة ما قصر عنه إلا بالاسم وإيهام الجملة وهو أنه يعرف أنه يعلم شيئا سوى ما علمه فكذلك فافهم تفاوت الخلق في معرفة الله تعالى بقدر ما انكشف لهم من معلومات الله عز و جل وعجائب مقدوراته وبدائع آياته في الدنيا والآخرة والملك والملكوت تزداد معرفتهم بالله عز و جل وتقرب معرفتهم من معرفة الحقيقة من معرفة الله تعالى
فإن قلت فإذا لم يعرفوا حقيقة الذات واستحال معرفتها فهل عرفوا الأسماء والصفات معرفة تامة حقيقية قلنا هيهات ذلك أيضا لا يعرفه بالكمال والحقيقة إلا الله عز و جل لأنا إذا علمنا أن ذاتا عالمة فقد علمنا شيئا مبهما لا ندري حقيقته لكن ندري أن له صفة العلم فإن كانت صفة العلم معلومة لنا حقيقة كان علمنا بأنه عالم علما تاما بحقيقة هذه الصفة وإلا فلا ولا يعرف أحد حقيقة علم الله عز و جل إلا من له مثل علمه وليس ذلك إلا له فلا يعرفه أحد سواه وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه كما أوردنا من مثال التشبيه بالسكر وعلم الله عز و جل لا يشبه علم الخلق البتة فلا يكون معرفة الخلق به معرفة تامة حقيقية بل إيهامية تشبيهية
ولا تتعجبن من هذا فإني أقول لا يعرف الساحر إلا الساحر نفسه أو ساحر مثله أو فوقه فأما من لا يعرف السحر وحقيقته وماهيته لا يعرف من الساحر إلا اسمه ويعرف أن له علما وخاصية لا يدري ما ذلك العلم إذ لا يدري معلومه ولا يدري ما تلك الخاصية نعم يدري أن تلك الخاصية وإن

كانت مبهمة فهي من جنس العلوم وثمرتها تغيير القلوب وتبديل أوصاف الأعيان والتفريق بين الأزواج وهذا بمعزل عن معرفة حقيقة السحر ومن لم يعرف حقيقة السحر لا يعرف حقيقة الساحر لأن الساحر من له خاصية السحر وحاصل اسم الساحر أنه اسم مشتق من تلك الصفة إن كانت مجهولة فهو مجهول وإن كانت معلومة فهو معلوم والمعلوم من السحر لغير الساحر وصف عام بعيد عن الماهية وهو أنه من جنس العلوم فإن اسم العلم ينطلق عليه
فكذلك الحاصل عندنا من قدرة الله عز و جل أنه وصف ثمرته وأثره وجود الأشياء وينطلق عليه اسم القدرة لأنه يناسب قدرتنا مناسبة لذة الوقاع لذة السكر وهذا كله بمعزل عن حقيقة تلك القدرة نعم كلما ازداد العبد إحاطة بتفاصيل المقدورات وعجائب الصنع في ملكوت السموات كان حظه من معرفة صفة القدرة أوفر لأن الثمرة تدل على المثمر كما أنه كلما ازداد التلميذ إحاطة بتفاصيل علوم الأستاذ وتصانيفه كانت معرفته له أكمل واستعظامه له أتم
فإلى هذا يرجع تفاوت معرفة العارفين ويتطرق إليه تفاوت لا يتناهى لأن ما لا يقدر الآدمي على معرفته من معلومات الله تعالى لا نهاية له وما يقدر عليه أيضا لا نهاية له وإن كان ما يدخل منه في الوجود متناهيا ولكن مقدور الآدمي من العلوم لا نهاية له نعم الخارج إلى الوجود متفاوت في الكثرة والقلة وبه يظهرالتفاوت وهو كالتفاوت بين الناس في القدرة الحاصلة لهم بالغنى بالمال فمن واحد يملك الدانق والدرهم ومن آخر يملك ألافا فكذلك العلوم بل التفاوت في العلوم أعظم لأن المعلومات لا نهاية لها وأعيان الأموال أجسام والأجسام متناهية لا يتصور أن تنتفي النهاية عنها
فإذا قد عرفت كيف يتفاوت الخلق في بحار معرفة الله عز و جل وأن

ذلك لا نهاية له وعرفت أن من قال لا يعرف الله غير الله فقد صدق وأن من قال لا أعرف إلا الله فقد صدق أيضا فإنه ليس في الوجود إلا الله عز و جل وأفعاله فإذا نظر إلى أفعاله من حيث هي أفعاله وكان مقصور النظر عليه ولم يره من حيث هو سماء وأرض وشجر بل من حيث أنه صنعه فلم يجاوز معرفته حضرة الربوبية فيمكنه أن يقول ما أعرف إلا الله وما أرى إلا الله عز و جل
ولو تصور شخص لا يرى إلا الشمس ونورها المنتشر في الآفاق يصح منه أن يقول ما أرى إلا الشمس فإن النور الفايض منها هو من جملتها ليس خارجا منها وكل ما في الوجود نور من أنوار القدرة الأزلية وأثر من آثارها
وكما أن الشمس ينبوع النور الفايض على كل مستنير فكذلك المعنى الذي قصرت العبارة عنه فعبر عنه بالقدرة الأزلية للضرورة وهو ينبوع الوجود الفابض على كل موجود فليس في الوجود إلا الله عز و جل فيجوز أن يقول العارف لا أعرف إلا الله
ومن العجائب أن يقول لا أعرف إلا الله ويكون صادقا ويقول لا يعرف الله إلا الله عز و جل ويكون أيضا صادقا ولكن ذلك بوجه وهذا بوجه ولو كذبت المتناقضات إذا اختلفت وجوه الاعتبارات لما صدق قوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى سورة الأنفال الآية 17 ولكنه صادق لأن للرمي اعتبارين هو منسوب إلى العبد بأحدهما ومنسوب إلى الرب تعالى بالثاني فلا تناقض فيه
ولنقبض هاهنا عنان البيان فقد خضنا لجة بحر لا ساحل له وأمثال هذه الأسرار لا ينبغي أن تبتذل بإيداع الكتب وإذ جاء هذا عرضا غير مقصود فلنكف عنه ولنرجع إلى شرح معاني أسماء الله الحسنى على التفصيل

الفن الثاني في المقاصد والغايات وفي فصول ثلاثة
الفصل الأول في شرح معاني أسماء الله التسعة والتسعين
وهي التي اشتملت عليها رواية أبي هريرة رضي الله عنه إذ قال قال رسول إن لله عز و جل تسعة وتسعين اسما مئة إلا واحدا إنه وتر يحب الوتر من أحصاها دخل الجنة
هو الله الذي لا إله هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور

فأما قوله الله فهو اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المتفرد بالوجود الحقيقي فإن كل موجود سواه غير مستحق الوجود بذاته وإنما استفاد الوجود منه فهو من حيث ذاته هالك ومن الجهة التي تليه موجود فكل موجود هالك إلا وجهه والأشبه أنه جار في الدلالة على هذا المعنى مجرى أسماء الأعلام وكل ما ذكر في اشتقاقه وتعريفه تعسف وتكلف فائدة
اعلم أن هذا الإسم أعظم أسماء الله عز و جل التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيره فلهذين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء دقيقة
معاني سائر الأسماء يتصور أن يتصف العبد بشيء منها حتى ينطلق عليه الإسم كالرحيم والعليم والحليم والصبور والشكور وغيره وإن كان إطلاق الاسم عليه على وجه آخر يباين إطلاقه على الله عز و جل وأما معنى هذا الاسم فخاص خصوصا لا يتصور فيه مشاركة لا بالمجاز ولا بالحقيقة ولأجل هذا الخصوص يوصف سائر الأسماء بأنها اسم الله عز و جل ويعرف بالإضافة إليه فيقال الصبور والشكور والملك والجبار من أسماء الله عز و جل ولا يقال الله من أسماء الشكور والصبور لأن ذلك من حيث هو أدل على كنه المعاني الإلهية وأخص بها فكان أشهر وأظهر فاستغني عن التعريف بغيره وعرف غيره بالإضافة إليه

تنبيه
ينبغي أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله وأعني به أن يكون مستغرق القلب والهمة بالله عز و جل لا يرى غيره ولا يلتفت إلى سواه ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الإسم أنه الموجود الحقيقي الحق وكل ما سواه فان وهالك وباطل إلا به فيرى أولا نفسه أول هالك وباطل كما رآه رسول الله حيث قال أصدق بيت قالته العرب قول لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل

الرحمن الرحيم
اسمان مشتقان من الرحمة والرحمة تستدعي مرحوما ولا مرحوم إلا وهو محتاج والذي ينقضي بسببه حاجة المحتاج من غير قصد وإرادة وعناية بالمحتاج لا يسمى رحيما والذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرا على قضائها لم يسم رحيما إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما باعتبار ما اعتوره من الرقة ولكنه ناقص وإنما الرحمة التامة إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق ورحمة الله عز و جل تامة وعامة أما تمامها فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق وعم الدنيا والآخرة وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنهما فهو الرحيم المطلق حقا دقيقة
الرحمة لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم والرب سبحانه وتعالى منزة عنها فلعلك تظن أن ذلك نقصان في

معنى الرحمة فاعلم أن ذلك كمال وليس بنقصان في معنى الرحمة
أما أنه ليس بنقصان فمن حيث أن كمال الرحمة بكمال ثمرتها ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظ في تألم الراحم وتفجعه وإنما تألم الراحم لضعف نفسه ونقصانها ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجته
وأما أنه كمال في معنى الرحمة فهو أن الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرقة عن نفسه فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة بل كمال الرحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة فائدة
الرحمن أخص من الرحيم ولذلك لا يسمى به غير الله عز و جل
والرحيم قد يطلق على غيره فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله تعلى الجاري مجرى العلم وإن كان هذا مشتقا من الرحمة قطعا ولذلك جمع الله عز و جل بينهما فقال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى 17 سورة الإسراء / الآية 110 فيلزم من هذا الوجه ومن حيث منعنا الترادف في الأسماء المحصاة أن يفرق بين معنى الاسمين فبالحري أن يكون المفهوم من الرحمن نوعا من الرحمة هي أبعد من مقدروات العباد وهي ما يتعلق بالسعادة الأخروية فالرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولا وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا وبالإسعاد في الآخرة ثالثا والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا

تنبيه
حظ العبد من اسم الرحمن أن يرحم عباد الله الغافلين فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله عز و جل بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإزراء وأن يكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه رحمة لذلك العاصي أن يتعرض لسخط الله ويستحق البعد من جواره
وحظه من اسم الرحيم أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو جاهه أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته رقة عليه وعطفا حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته سؤال وجوابه
لعلك تقول ما معنى كونه تعالى رحيما وكونه أرحم الراحمين والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعذبا ومريضا وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية ودفع كل فقر وغمة وإماطة كل مرض وإزالة كل ضرر والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا وهو قادر على إزالة جميعها وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن
فجوابك إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهرا والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته وأن الأم له عدو في صورة صديق فإن الألم القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا

والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شرا أعظم من الشر الذي يتضمنه فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر وفي ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن ولكان الشر أعظم وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير ولكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع السلامة التي هي خير محض ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد قصد قطع اليد لأجله فكانت السلامة مطلوبة لذاتها أولا والقطع مطلوبا لغيره ثانيا لا لذاته فهما داخلان تحت الإرادة ولكن أحدهما مراد لذاته والآخر مراد لغيره والمراد لذاته قبل المراد لغيره ولأجله قال الله عز و جل سبقت رحمتي غضبي فغضبه إرادته للشر والشر بإرادته ورحمته إرادته للخير والخير بإرادته ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته ولكن لما في ضمنه من الخير فالخير مقضي بالذات والشر مقضي بالعرض وكل بقدر وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلا
فالآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرا أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك الخير ممكنا لا في ضمن الشر فاتهم عقلك القاصر في أحد الخاطرين
أما في قولك إن هذا الشر لا خير تحته فإن هذا مما تقصر العقول عن معرفته ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى الحجامة شرا محضا أو مثل الغبي الذي يرى القتل قصاصا شرا محضا لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول لأنه في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمله

أو اتهم عقلك في الخاطر الثاني وهو قولك إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن فإن هذا أيضا دقيق غامض فليس كل محال وممكن مما يدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب بل ربما عرف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون
فاتهم عقلك في هذين الطرفين ولا تشكن أصلا في أنه أرحم الراحمين وفي أنه سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق لاسم الرحمة وتحت هذا الغطاء سر منع الشرع عن إفشائه فاقنع بالإيماء ولا تطمع في الإفشاء ولقد نبهت بالرمز والإيماء إن كنت من أهله فتأمل
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
هذا حكم الأكثرين وأما أنت أيها الأخ المقصود بالشرح فلا أظنك إلا مستبصرا بسر الله عز و جل في القدر مستغنيا عن هذه التحويمات والتنبيهات
الملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاج إليه كل موجود بل لا يستغني عنه شيء في شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في وجوده ولا في بقائه بل كل شيء فوجوده منه أو مما هو منه فكل شيء سواه هو له مملوك في ذاته وصفاته وهو مستغن عن كل شيء فهذا هو الملك مطلقا تنبيه
العبد لا يتصور أن يكون ملكا مطلقا فإنه لا يستغني عن كل شيء فإنه أبدا فقير

إلى الله تعالى وإن استغنى عمن سواه ولا يتصور أن يحتاج إليه كل شيء بل يستغني عنه أكثر الموجودات ولكن لما تصور أن يستغني عن بعض الأشياء ولا يستغني عنه بعض الأشياء كان له شوب من الملك
فالملك من العباد هو الذي لا يملكه إلا الله تعالى بل يستغني عن كل شيء سوى الله عز و جل وهو مع ذلك يملك مملكته بحيث يطيعه فيها جنوده ورعاياه وإنما مملكته الخاصة به قلبه وقالبه وجنده شهوته وغضبه وهواه ورعيته لسانه وعيناه ويداه وسائر أعضائه فإذا ملكها ولم تملكه وأطاعته ولم يطعها فقد نال درجة الملك في عالمه فإن انضم إليه استغناؤه عن كل الناس واحتاج الناس كلهم إليه في حياتهم العاجلة والآجلة فهو الملك في عالم الأرض
وتلك رتبة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فإنهم استغنوا في الهداية إلى الحياة الآخرة عن كل أحد إلا عن الله عز و جل واحتاج إليهم كل أحد ويليهم في هذا الملك العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وإنما ملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن الاسترشاد
وبهذه الصفات يقرب العبد من الملائكة في الصفات ويتقرب إلى الله تعالى بها وهذا الملك عطية للعبد من الملك الحق الذي لا مثنوية في ملكه
ولقد صدق بعض العارفين لما قال له بعض الأمراء سلني حاجتك حيث قال أوتقول لي هذا ولي عبدان هما سيداك فقال ومن هما قال الحرص والهوى فقد غلبتهما وغلباك وملكتهما وملكاك وقال بعضهم لبعض الشيوخ أوصني فقال له كن ملكا في الدنيا تكن ملكا في الآخرة قال وكيف أفعل ذلك فقال ازهد في الدنيا تكن ملكا في الآخرة معناه اقطع حاجتك وشهوتك عن الدنيا فإن الملك في الحرية والاستغناء

القدوس
هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضي به تفكير ولست أقول منزه عن العيوب والنقائص فإن ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب فليس من الأدب أن يقول القائل ملك البلد ليس بحائك ولاحجام فإن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص
بل أقول القدوس هو المنزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق كمالا في حقه لأن الخلق أولا نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال ولكنه في حقهم مثل علمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وكلامهم وإرادتهم واختيارهم ووضعوا هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني وقالوا إن هذه هي أسماء الكمال وإلى ما هو نقص في حقهم مثل جهلهم وعجزهم وعماهم وصممهم وخرسهم فوضعوا بإزاء هذه المعاني هذه الألفاظ
ثم كان غايتهم في الثناء على الله تعالى ووصفه أن وصفوه بما هو أوصاف كمالهم من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام وأن نفوا عنه ما هو أوصاف نقصهم والله سبحانه وتعالى منزه عن أوصاف كمالهم كما أنه منزه عن أوصاف نقصهم بل كل صفة تتصور للخلق فهو منزه ومقدس عنها وعما يشبهها ويماثلها ولولا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يجز إطلاق أكثرها وقد فهمت معنى هذا في الفصل الرابع من فصول المقدمات فلا حاجة إلى الإعادة تنبيه
قدس العبد في أن ينزه إرادته وعلمه أما علمه فينزهه عن المتخيلات والمحسوسات والموهومات وكل ما يشاركه فيه البهائم من الإدراكات بل يكون تردد نظره وتطواف علمه حول الأمور الأزلية الإلهية المنزهة عن أن تقرب فتدرك بالحس أو تبعد فتغيب عن الحس بل يصير متجردا في نفسه عن المحسوسات

والمتخيلات كلها ويقتني من العلوم ما لو سلب آلة حسه وتخيله بقي ريانا بالعلوم الشريفة الكلية الإلهية المتعلقة بالمعلومات الأزلية الأبدية دون الشخصيات المتغيرة المستحيلة
وأما إرادته فينزهها عن أن تدور حول الحظوظ البشرية التي ترجع إلى لذة الشهوة والغضب ومتعة المطعم والمشرب والمنكح والملبس والملمس والمنظر وما لا يصل إليه من اللذات إلا بواسطة الحس والقلب بل لا يريد إلا الله عز و جل ولا يبقى له حظ إلا فيه ولا يكون له شوق إلا إلى لقائه ولا فرح إلا بالقرب منه ولو عرضت عليه الجنة وما فيها من النعيم لم تلتفت همته إليها ولم يقنع من الدار إلا برب الدار
وعلى الجملة الإدراكات الحسية والخيالية تشارك البهائم فيها فينبغي أن يترقى عنها إلى ما هو من خواص الإنسانية والحظوظ البشرية الشهوانية يزاحم البهائم أيضا فيها فينبغي أن يتنزه عنها فجلالة المريد على قدر جلالة مراده
ومن همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منه ومن لم يكن له همة سوى الله عز و جل فدرجته على قدر همته ومن رقى علمه عن درجة المتخيلات والمحسوسات وقدس إرادته عن مقتضى الشهوات فقد نزل بحبوحة حظيرة القدس

السلام
هو الذي تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر حتى إذا كان كذلك لم يكن في الوجود سلامة إلا وكانت معزية إليه صادرة منه وقد فهمت أن أفعاله تعالى سالمة عن الشر أعني الشر المطلق المراد لذاته لا لخير حاصل في ضمنه أعظم منه وليس في الوجود شر بهذه الصفة كما سبق الإيماء إليه إلا لله سبحانه

تنبيه
كل عبد سلم عن الغش والحقد والحسد وإرادة الشر قلبه وسلمت عن الآثام والمحظورات جوارحه وسلم عن الانتكاس والانعكاس صفاته فهو الذي يأتي الله تعالى بقلب سليم وهو السلام من العباد القريب في وصفه من السلام المطلق الحق الذي لا مثنوية في صفته
وأعني بالانتكاس في صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه إذ الحق عكسه وهو أن تكون الشهوة والغضب أسير العقل وطوعه فإذا انعكس فقد انتكس ولا سلامة حيث يصير الأمير مأمورا والملك عبدا ولن يوصف بالسلام والإسلام إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده فكيف يوصف به من لم يسلم هو من نفسه

المؤمن
هو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه وسده طرق المخاوف ولا يتصور أمن وأمان إلا في محل الخوف ولا خوف إلا عند إمكان العدم والنقص والهلاك والمؤمن المطلق هو الذي لا يتصور أمن وأمان إلا ويكون مستفادا من جهته وهو الله سبحانه وتعالى
وليس يخفى أن الأعمى يخاف أن يناله هلاك من حيث لا يرى فعينه البصيرة تفيده أمنا منه والأقطع يخاف آفة لا تندفع إلا باليد فاليد السليمة أمان منها وهكذا جميع الحواس والأطراف والمؤمن خالقها ومصورها ومقويها
ولو قدرنا إنسانا وحده مطلوبا من جهة أعدائه وهو ملقى في مضيعة لا تتحرك عليه أعضاؤه لضعفه وإن تحركت فلا سلاح معه وإن كان معه سلاح لم يقاوم أعداءه وحده وإن كان له جنود لم يأمن أن تنكسر جنوده ولا يجد حصنا يأوي إليه فجاء من عالج ضعفه فقواه وأمده بجنوده وأسلحته

وبنى حوله حصنا حصينا فقد أفاده أمنا وأمانا فالبحري أن يسمى مؤمنا في حقه
والعبد ضعيف في أصل فطرته وهو عرضة الأمراض والجوع والعطش من باطنه وعرضة الآفات المحرقة والمغرقة والجارحة والكاسرة من ظاهره ولم يؤمنه من هذه المخاوف إلا الذي أعد الأدوية نافعة ورافعة لأمراضه والأطعمة مزيلة لجوعه والأشربة مميطة لعطشه والأعضاء دافعة عن بدنه والحواس جواسيس منذرة بما يقرب من مهلكاته ثم خوفه الأعظم من هلاك الآخرة ولا يحصنه عنه إلا كلمة التوحيد والله سبحانه وتعالى هاديه إليها ومرغبه فيها حيث قال لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن عذابي فلا أمن في العالم إلا وهو مستفاد بأسباب هو متفرد بخلقها والهداية إلى استعمالها فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فهو المؤمن المطلق حقا تنبيه حظ العبد من هذا الاسم والوصف أن يأمن الخلق كلهم جانبه بل يرجو كل خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك عن نفسه في دينه ودنياه كما قال رسول الله من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأمن جاره بوائقه وأحق العباد باسم المؤمن من كان سببا لأمن الخلق من عذاب الله بالهداية إلى طريق الله عز و جل والإرشاد إلى سبيل النجاة وهذه حرفة الأنبياء والعلماء

ولذلك قال رسول الله إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم خيال وتنبيه
لعلك تقول الخوف على الحقيقة من الله تعالى فلا مخوف إلا إياه فهو الذي خوف عباده وهو الذي خلق أسباب الخوف فكيف ينسب إليه الأمن
فجوابك إن الخوف منه والأمن منه وهو خالق سبب الأمن والخوف جميعا وكونه مخوفا لا يمنع كونه مؤمنا كما أن كونه مذلا لم يمنع كونه معزا بل هو المعز والمذل وكونه خافضا لم يمنع كونه رافعا بل هو الخافض الرافع فكذلك هو المؤمن المخوف لكن المؤمن ورد التوقيف به خاصة دون المخوف

المهيمن
معناه في حق الله عز و جل أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه وكل مشرف على كنه الأمر مستول عليه حافظ له فهو مهيمن عليه والإشراف يرجع إلى العلم والاستيلاء إلى كمال القدرة والحفظ إلى الفعل فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهين ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا لله عز و جل ولذلك قيل إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة تنبيه
كل عبد راقب قلبه حتى أشرف على أغواره وأسراره واستولى مع ذلك على

تقويم أحواله وأوصافه وقام بحفظها على الدوام على مقتضى تقويمه فهو مهيمن بالإضافة إلى قلبه فإن اتسع إشرافه واستيلاؤه حتى قام بحفظ بعض عباد الله عز و جل على نهج السداد بعد اطلاعه على بواطنهم وأسرارهم بطريق التفرس والاستدلال بظواهرهم كان نصيبه من هذا المعنى أوفر وحظه أكثر

العزيز
هو الخطير الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز فكم من شيء يقل وجوده ولكن إذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا وكم من شئ يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزا كالشمس مثلا فإنه لا نظير لها والأرض كذلك والنفع عظيم في كل واحد منهما والحاجة شديدة إليهما ولكن لا يوصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما فلا بد من اجتماع المعاني الثلاثة
ثم في كل واحد من المعاني الثلاثة كمال ونقصان والكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد إذ لا أقل من الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله وليس هذا إلا الله تعالى فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان فيمكن وجود مثلها في الكمال والنفاسة وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء حتى في وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك على الكمال إلا لله عز و جل والكمال في صعوبة المنال أن يستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه وليس ذلك على الكمال إلا لله عز و جل فإنا قد بينا أنه لا يعرف الله إلا الله فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه فيه غيره

تنبيه
العزيز من العباد من يحتاج إليه عباد الله في أهم أمورهم وهي الحياة الأخروية والسعادة الأبدية وذلك مما يقل لا محالة وجوده ويصعب إدراكه وهذه رتبة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ويشاركهم في العز من ينفرد بالقرب من درجتهم في عصره كالخلفاء وورثتهم من العلماء وعزة كل واحد منهم بقدر علو رتبته عن سهولة النيل والمشاركة وبقدر عنائه في إرشاد الخلق

الجبار
هو الذي ينفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد الذي لا يخرج أحد من قبضته وتقصر الأيدي دون حمى حضرته فالجبار المطلق هو الله سبحانه وتعالى فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد ولا مثنوية في حقه في الطرفين تنبيه
الجبار من العباد من ارتفع عن الأتباع ونال درجة الاستتباع وتفرد بعلو رتبته بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به ومتابعته في سمته وسيرته فيفيد الخلق ولا يستفيد ويؤثر ولا يتأثر ويستتبع ولا يتبع ولا يشاهده أحد إلا ويفنى عن ملاحظة نفسه ويصير متشوقا إليه غير ملتفت إلى ذاته ولا يطمع أحد في استدراجه واستتباعه وإنما حظي بهذا الوصف سيد البشر حيث قال لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي وأنا سيد ولد آدم ولا فخر
المتكبر
هو الذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا وكان صاحبها متكبرا حقا ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا لله عز و جل وإن كان ذلك التكبر والاستعظام باطلا ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة كما يراه كان التكبر باطلا ومذموما وكل من رأى العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته كاذبة ونظره باطلا إلا الله سبحانه وتعالى تنبيه
المتكبر من العباد هو الزاهد العارف ومعنى زهد العارف أن يتنزه عما شغل سره عن الحق ويتكبر على كل شيء سوى الحق سبحانه وتعالى فيكون مستحقرا للدنيا والآخرة جميعا مترفعا عن أن يشغله كلاهما عن الحق تعالى
وزهد غير العارف معاملة ومعاوضة فإنه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة فيترك الشيء عاجلا طمعا في أضعافه آجلا وإنما هو سلم ومبايعة ومن استعبدته شهوة المطعم والمنكح فهو حقير وإن كان ذلك دائما وإنما المتكبر من يستحقر كل شهوة وحظ يتصور أن يساهمه البهائم فيها والله أعلم
الخالق البارئ المصور
قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة وأن الكل يرجع إلى الخلق والاختراع ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود فيفتقر إلى تقدير أولا وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا والله سبحانه وتعالى خالق من حيث أنه مقدر وبارئ من حيث أنه مخترع موجد ومصور من حيث أنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب

وهذا كالبناء مثلا فإنه يحتاج إلى مقدر يقدر ما لا بد له منه من الخشب واللبن ومساحة الأرض وعدد الأبنية وطولها وعرضها وهذا يتولاه المهندس فيرسمه ويصوره ثم يحتاج إلى بناء يتولى الأعمال التي عندها يحدث أصول الأبنية ثم يحتاج إلى مزين ينقش ظاهره ويزين صورته فيتولاه غير البناء هذه هي العادة في التقدير والبناء والتصوير وليس كذلك في أفعال الله عز و جل بل هو المقدر والموجد والمزين فهو الخالق البارئ المصور
ومثاله الإنسان وهو أحد مخلوقاته وهو محتاج في وجوده أولا إلى أن يقدر ما منه وجوده فإنه جسم مخصوص فلا بد من الجسم أولا حتى يخصص بالصفات كما يحتاج البناء إلى آلات حتى يبني ثم لا يصلح لبنية الإنسان إلا الماء والتراب جميعا إذ التراب وحده يابس محض لا ينثني ولا ينعطف في الحركات والماء وحده رطب محض لا يتماسك ولا ينتصب بل ينبسط فلا بد أن يمتزج الرطب باليابس حتى يعتدل ويعبر عنه بالطين ثم لا بد من حرارة طابخة حتى يستحكم مزج الماء بالتراب ولا ينفصل فلا يتخلق الإنسان من الطين المحض بل من صلصال كالفخار والفخار هو الطين المعجون بالماء الذي قد عملت فيه النار حتى أحكمت مزاجه ثم يحتاج إلى تقدير الماء والطين بمقدار مخصوص فإنه إن صغر مثلا لم تحصل منه الأفعال الإنسانية بل كان على قدر الذر والنمل فتسفيه الرياح ويهلكه أدنى شيء ولا يحتاج إلى مثل الجبل من الطين فإن ذلك يزيد على قدر الحاجة بل الكافي من غير زيادة ونقصان قدر معلوم يعلمه الله عز و جل
وكل ذلك يرجع إلى التقدير فهو باعتبار تقدير هذه الأمور خالق وباعتبار الإيجاد على وفق التقدير مصور وباعتبار مجرد الإيجاد والإخراج من العدم إلى الوجود بارئ والإيجاد المجرد شئ والإيجاد على وفق التقدير شيء آخر وهذا يحتاج إليه من يبعد رد الخلق إلى مجرد التقدير مع أن له في اللغة

وجها إذ العرب تسمي الحذاء خالقا لتقديره بعض طاقات النعل على بعض ولذلك قال الشاعر
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
فأما اسم المصور فهو له من حيث رتب صور الأشياء أحسن ترتيب وصورها أحسن تصوير وهذا من أوصاف الفعل فلا يعلم حقيقته إلا من يعلم صورة العالم على الجملة ثم على التفصيل فإن العالم كله في حكم شخص واحد مركب من أعضاء متعاونة على الغرض المطلوب منه وإنما أعضاؤه وأجزاؤه السموات والكواكب والأرضون وما بينهما من الماء والهواء وغيرهما وقد رتبت أجزاؤه ترتيبا محكما لو غير ذلك الترتيب لبطل النظام فخصص بجهة الفوق ما ينبغي أن يعلو وبجهة السفل ما ينبغي أن يسفل وكما أن البناء يضع الحجارة أسفل الحيطان والخشب فوقها لا بالاتفاق بل بالحكمة والقصد لإرادة الإحكام ولو قلب ذلك فوضع الحجارة فوق الحيطان والخشب أسفلها لانهدم البناء ولم تثبت صورته أصلا
فكذلك ينبغي أن يفهم السبب في علو الكواكب وتسفل الأرض والماء وسائر أنواع الترتيب في الأجزاء العظام من أجزاء العالم ولو ذهبنا نصف أجزاء العالم ونحصيها ثم نذكر الحكمة في تركيبها لطال الكلام وكل من كان أوفر علما بهذا التفصيل كان أكثر إحاطة بمعنى اسم المصور وهذا الترتيب والتصوير موجود في كل جزء من أجزاء العالم وإن صغر حتى في النملة والذرة بل في كل عضو من أعضاء النملة بل الكلام يطول في شرح صورة العين التي هي أصغر عضو في الحيوان ومن لم يعرف طبقات العين وعددها وهيئاتها وشكلها ومقاديرها وألوانها ووجه الحكمة فيها فلن يعرف صورتها ولم يعرف مصورها

إلا بالاسم المجمل وهكذا القول في كل صورة لكل حيوان ونبات بل لكل جزء من كل حيوان ونبات تنبيه
حظ العبد من هذا الاسم أن يحصل في نفسه صورة الوجود كله على هيئته وترتيبه حتى يحيط بهيئة العالم وترتيبه كله كأنه ينظر إليها ثم ينزل من الكل إلى التفاصيل فيشرف على صورة الإنسان من حيث بدنه وأعضائه الجسمانية فيعلم أنواعها وعددها وتركيبها والحكمة في خلقها وترتيبها ثم يشرف على صفاتها المعنوية ومعانيها الشريفة التي بها إدراكاته وإرادته وكذلك يعرف صورة الحيوانات وصورة النبات ظاهرا وباطنا بقدر ما في وسعه حتى يحصل نقش الجميع وصورته في قلبه وكل ذلك يرجع إلى معرفة صورة الجسمانيات وهي معرفة مختصرة بالإضافة إلى معرفة ترتيب الروحانيات وفيه يدخل معرفة الملائكة ومعرفة مراتبهم وما وكل إلى كل واحد منهم من التصرف في السموات والكواكب ثم التصرف في القلوب البشرية بالهداية والإرشاد ثم التصرف في الحيوانات بالإلهامات الهادية لها إلى مظنة الحاجات
فهذا حظ العبد من هذا الاسم وهو اكتساب الصورة العلمية المطابقة للصورة الوجودية فإن العلم صورة في النفس مطابقة للمعلوم وعلم الله عز و جل بالصور سبب لوجود الصور في الأعيان والصورة الموجودة في الأعيان سبب لحصول الصور العلمية في قلب الإنسان وبذلك يستفيد العبد العلم بمعنى اسم المصور من أسماء الله سبحانه وتعالى ويصير أيضا باكتساب الصورة في نفسه كأنه مصور وإن كان ذلك على سبيل المجاز فإن تلك الصور العلمية إنما تحدث فيه على التحقيق بخلق الله تعالى واختراعه لا بفعل العبد ولكن العبد

يسعى في التعرض لفيضان رحمة الله تعالى عليه ف إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 13 سورة الرعد الآية 11 ولذلك قال إن لربكم في أيام دهركم نفخات من رحمته ألا فتعرضوا لها
وأما الخالق البارئ فلا مدخل للعبد أيضا في هذين الاسمين إلا بنوع من المجاز بعيد ووجهه أن الخلق والإيجاد يرجع إلى استعمال القدرة بموجب العلم وقد خلق الله تعالى للعبد علما وقدرة وله سبيل إلى تحصيل مقدوراته على وفق تقديره وعلمه
والأمور الموجودة تنقسم إلى ما لا يرتبط حصولها بقدرة العباد أصلا كالسماء والكواكب والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك وإلى ما لا حصول لها إلا بقدرة العباد وهي التي ترجع إلى أعمال العباد كالصناعات والسياسات والعبادات والمجاهدات فإذا بلغ العبد في مجاهدة نفسه بطريق الرياضة في سياستها وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيها باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها والترغيب فيها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل إذ يقال لواضع الشطرنج إنه الذي وضعه واخترعه حيث وضع ما لم يسبق إليه إلا أن وضع ما لا خير فيه لا يكون من صفات المدح
وكذلك في الرياضات والمجاهدات والسياسات والصناعات التي هي منبع الخيرات صور وترتيبات يتعلمها الناس بعضهم من بعض ويرتقي لا محالة إلى أول مستنبط وواضع فيكون ذلك الواضع كالمخترع لتلك الصورة والخالق المقدر لها حتى يجوز إطلاق الاسم عليه مجازا

ومن أسماء الله تعالى ما يكون نقلها إلى العبد مجازا وهو الأكثر ومنها ما يكون في حق العبد حقيقة وفي حق الله تعالى مجازا كالصبور والشكور ولا ينبغي أن تلاحظ المشاركة في الاسم وتذهل عن هذا التفاوت العظيم الذي ذكرناه

الغفار
هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التي سترها بإسبال الستر عليها في الدنيا والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة والغفر هو الستر
وأول ستره على العبد أن جعل مقابح بدنه التي تستقبحها الأعين مستورة في باطنه مغطاة بجمال ظاهره فكم بين باطن العبد وظاهره في النظافة والقذارة وفي القبح والجمال فانظر ما الذي أظهره وما الذي ستره
وستره الثاني أن جعل مستقر خواطره المذمومة وإرادته القبيحة سر قلبه حتى لا يطلع أحد على سره ولو انكشف للخلق ما يخطر بباله في مجاري وسواسه وما ينطوي عليه ضميره من الغش والخيانة وسوء الظن بالناس لمقتوه بل سعوا في تلف روحه وأهلكوه فانظر كيف ستر عن غيره أسراره وعوراته
وستره الثالث مغفرته ذنوبه التي كان يستحق الافتضاح بها على ملأ الخلق وقد وعد أن يبدل سيئاته حسنات ليستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته مهما مات على الإيمان تنبيه
حظ العبد من هذا الاسم أن يستر من غيره ما يجب أن يستر منه فقد قال

النبي من ستر على مؤمن عورته ستر الله عز و جل عورته يوم القيامة والمغتاب والمتجسس والمكافئ على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف
وإنما المتصف به من لا يفشى من خلق الله تعالى إلا أحسن ما فيه ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص وعن قبح وحسن فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن فهو ذو نصيب من هذا الوصف كما روي عن عيسى صلوات الله عليه أنه مر مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنه فقالوا ما أنتن هذه الجيفة فقال عيسى عليه السلام ما أحسن بياض أسنانه تنبيها على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن

القهار
هو الذي يقصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالإماتة والإذلال بل الذي لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره ومقدرته عاجز في قبضته تنبيه
القهار
من العباد من قهر أعداءه وأعدى عدو الإنسان نفسه التي بين جنبيه فهي أعدى له من الشيطان الذي قد حذر عداوته ومهما قهر شهوات نفسه فقد قهر الشيطان إذ الشيطان يستهويه إلى الهلاك بواسطة شهواته
وإحدى حبائك الشيطان النساء ومن فقد شهوة النساء لم يتصور أن ينعقل بهذه الأحبولة فكذلك من قهر هذه الشهوة تحت سطوة الدين وإشارة العقل ومهما قهر شهوات النفس فقد قهر الناس كافة فلم يقدر عليه أحد إذ غاية

أعدائه السعي في إهلاك بدنه وذلك إحياء لروحه فإن من مات عن شهواته في حياته عاش في مماته ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين 3 سورة آل عمران الآية 169 و 170

الوهاب
الهبة هي العطية الخالية عن الأعواض والأغراض فإذا كثرت العطايا بهذه الصفة سمي صاحبها وهابا وجوادا ولن يتصور الجود والهبة حقيقة إلا من الله تعالى فإنه الذي يعطي كل محتاج ما يحتاج إليه لا لعوض ولا لغرض عاجل ولا آجل ومن وهب وله في هبته غرض يناله عاجلا وآجلا من ثناء أو مدح أو مودة أو تخلص من مذمة أو اكتساب شرف وذكر فهو معامل معتاض وليس بوهاب ولا جواد فليس العوض كله عينا يتناول بل كل ما ليس بحاصل ويقصد الواهب حصوله بالهبة فهو عوض ومن وهب وجاد ليشرف أو ليثنى عليه أو لئلا يذم فهو معامل وإنما الجواد الحق هو الذي يفيض منه الفوائد على المستفيد لا لغرض يعود إليه بل الذي يفعل شيئا لو لم يفعل لكان يقبح به فهو بما يفعله متخلص وذلك غرض وعوض تنبيه
لا يتصور من العبد الجود والهبة فإنه ما لم يكن الفعل أولى به من الترك لم يقدم عليه فيكون إقدامه لغرض نفسه ولكن الذي يبذل جميع ما يملكه حتى الروح لوجه الله عز و جل فقط لا للوصول إلى نعيم الجنة أو الحذر من عذاب النار أو لحظ عاجل أو آجل مما يعد من حظوظ البشرية فهو جدير بأن يسمى وهابا وجوادا ودونه الذي يجود لينال نعيم الجنة ودونه من

يجود لينال حسن الأحدوثة وكل من لم يطلب عوضا يتناول سمي جوادا عند من يظن أن لا عوض إلا الأعيان
فإن قلت فالذي يجود بكل ما يملكه خالصا لوجه الله تعالى من غير توقع حظ عاجل أو آجل كيف لا يكون جوادا ولا حظ له أصلا فيه
فنقول حظه هو الله تعالى ورضاؤه ولقاؤه والوصول إليه وذلك هو السعادة التي يكتسبها الإنسان بأفعاله الاختيارية وهو الحظ الذي تستحقر سائر الحظوظ في مقابلته
فإن قلت فما معنى قولهم إن العارف بالله تعالى هو الذي يعبد الله عز و جل خالصا لله لا لحظ وراءه فإن كان لا يخلو فعل العبد عن حظ فما الفرق بين من يعبد الله تعالى لله خالصا وبين من يعبده لحظ من الحظوظ فاعلم أن الحظ عبارة عند الجماهير عن الأغراض أو الأعواض المشهورة عندهم ومن تنزه عنها ولم يبق له مقصد إلا الله تعالى فيقال إنه قد برئ من الحظوظ أي عما يعده الناس حظا وهو كقولهم إن العبد يراعي سيده لا لسيده ولكن لحظ يناله من سيده من نعمة أو إكرام والسيد يراعي عبده لا لعبده ولكن لحظ يناله منه بخدمته وأما الوالد فإنه يراعي ولده لذاته لا لحظ يناله منه بل لو لم يكن منه حظ أصلا لكان معنيا بمراعاته
ومن طلب شيئا لغيره لا لذاته فكأنه لم يطلبه فإنه ليس غاية طلبه بل غاية طلب غيره كمن يطلب الذهب فإنه لا يطلبه لذاته بل ليتوصل به إلى المطعم والملبس والمطعم والملبس لا يرادان لذاتهما بل للتوصل بهما إلى جلب اللذة ودفع الألم واللذة تراد لذاتها لا لغاية أخرى وراءها وكذا دفع الألم فيكون الذهب واسطة إلى الطعام والطعام واسطة إلى اللذة واللذة هي الغاية وليست واسطة إلى غيرها وكذلك الولد ليس واسطة في حق الوالد بل مطلوبه سلامة الولد لذات الولد لأن عين الولد حظه

فكذلك من يعبد الله عز و جل للجنة فقد جعل الله سبحانه وتعالى واسطة طلبه ولم يجعله غاية مطلبه وعلامة الواسطة أنه لو حصلت الفائدة دونها لم تطلب كما لو حصلت المقاصد دون الذهب لم يكن الذهب محبوبا ولا مطلوبا فالمحبوب بالحقيقة الغاية المطلوبة دون الذهب ولو حصلت الجنة لمن يعبد الله لأجلها دون عبادة الله عز و جل لما عبد الله فمحبوبه ومطلوبه الجنة إذا لا غير وأما من لم يكن له محبوب سوى الله عز و جل ولا مطلوب سواه بل حظه الابتهاج بلقاء الله تعالى والقرب منه والمرافقة مع الملأ الأعلى المقربين من حضرته فيقال إنه يعبد الله تعالى لله لا على معنى أنه غير طالب للحظ بل على معنى أن الله عز و جل هو حظه وليس يبغي وراءه حظا
ومن لم يؤمن بلذة البهجة بلقاء الله عز و جل ومعرفته والمشاهدة له والقرب منه لم يشتق إليه ومن لم يشتق إليه لم يتصور أن يكون ذلك من حظه فلم يتصور أن يكون ذلك مقصده أصلا فلذلك لا يكون في عبادة الله تعالى إلا كالأجير السوء لا يعمل إلا بأجرة طمع فيها وأكثر الخلق لم يذوقوا هذه اللذة ولم يعرفوها ولا يفهمون لذة النظر إلى وجه الله عز و جل وإنما إيمانهم بذلك من حيث النطق باللسان فأما بواطنهم فإنها مائلة إلى التلذذ بلقاء الحور العين ومصدقة به فقط فافهم من هذا أن البراءة من الحظوظ محال إن كنت تجوز أن يكون الله تعالى أي لقاءه والقرب منه مما يسمى حظا وإن كان الحظ عبارة عما يعرفه الجماهير وتميل إليه قلوبهم فليس هذا حظا وإن كان عبارة عما حصوله أوفى من عدمه في حق العبد فهو حظ

الرزاق
هو الذي خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم وخلق لهم أسباب التمتع بها

والرزق رزقان ظاهر وهي الأقوات والأطعمة وذلك للظواهر وهي الأبدان وباطن وهي المعارف والمكاشفات وذلك للقلوب والأسرار وهذا أشرف الرزقين فإن ثمرته حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوة الجسد إلى مدة قريبة الأمد والله عز و جل هو المتولي لخلق الرزقين والمتفضل بالإيصال إلى كلا الفريقين ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر تنبيه
غاية حظ العبد من هذا الوصف أمران
أحدهما أن يعرف حقيقة هذا الوصف وأنه لا يستحقه إلا الله عز و جل فلا ينتظر الرزق إلا منه ولا يتوكل فيه إلا عليه كما روي عن حاتم الأصم رحمه الله أنه قال له رجل من أين تأكل فقال من خزانته فقال الرجل أيلقي عليك الرزق من السماء فقال لو لم تكن الأرض له لكان يلقيه من السماء فقال الرجل إنكم تقولون الكلام فقال لأنه لم ينزل من السماء إلا الكلام فقال الرجل إني لا أقوى على مجادلتك فقال لأن الباطل لا يقوى مع الحق
الثاني أن يرزقه علما هاديا ولسانا مرشدا معلما ويدا منفقة متصدقة ويكون سببا لوصول الأرزاق الشريفة إلى القلوب بأقواله وأعماله ووصول الأرزاق إلى الأبدان بأفعاله وأعماله وإذا أحب الله عبدا أكثر حوائج الخلق إليه ومهما كان واسطة بين الله وبين العباد في وصول الأرزاق إليهم فقد نال حظا من هذه الصفة قال رسول لله الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيبة به نفسه أحد المتصدقين وأيدي العباد خزائن الله تعالى

فمن جعلت يده خزانة أرزاق الأبدان ولسانه خزانة أرزاق القلوب فقد أكرم بشوب من هذه الصفة

الفتاح
هو الذي ينفتح بعنايته كل منغلق وبهدايته ينكشف كل مشكل فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ويخرجها من أيدي أعدائه ويقول إنا فتحنا لك فتحا مبينا 48 سورة الفتح الآية 1 وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه وجمال كبريائه ويقول ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها 35 سورة فاطر الآية 2 ومن بيده مفاتح الغيب ومفاتيح الرزق فبالحري أن يكون فتاحا تنبيه
ينبغي أن يتعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية وأن يتيسر بمعرفته ما يتعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ليكون له حظ من اسم الفتاح
العليم
معناه ظاهر وكماله أن يحيط بكل شيء علما ظاهره وباطنه دقيقه وجليله أوله وآخره عاقبته وفاتحته وهذا من حيث كثرة المعلومات وهي لا نهاية لها ثم يكون العلم في ذاته من حيث الوضوح والكشف على أتم ما يمكن فيه بحيث لا يتصور مشاهدة وكشف أظهر منه ثم لا يكون مستفادا من المعلومات بل تكون المعلومات مستفادة منه

تنبيه
للعبد حظ من وصف العليم لا يكاد يخفى ولكن يفارق علمه علم الله تعالى في الخواص الثلاث
إحداها المعلومات في كثرتها فإن معلومات العبد وإن اتسعت فهي محصورة في قلبه فأنى يناسب ما لا نهاية له
والثانية أن كشفه وإن اتضح فلا يبلغ الغاية التي لا يمكن وراءها بل تكون مشاهدته للأشياء كأنه يراها من وراء ستر رقيق ولا تنكرن درجات الكشف فإن البصيرة الباطنة كالبصر الظاهر وفرق بين ما يتضح في وقت الإسفار وبين ما يتضح ضحوة النهار
والثالثة أن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء غير مستفاد من الأشياء بل الأشياء مستفادة منه وعلم العبد بالأشياء تابع للأشياء وحاصل بها
وإن اعتاص عليك فهم هذا الفرق فانسب علم متعلم الشطرنج إلى علم واضعه فإن علم الواضع هو سبب وجود الشطرنج ووجود الشطرنج هو سبب علم المتعلم وعلم الواضع سابق على الشطرنج وعلم المتعلم مسبوق ومتأخر فكذلك علم الله عز و جل بالأشياء سابق عليها وسبب لها وعلمنا بخلاف ذلك
وشرف العبد بسبب العلم من حيث أنه من صفات الله عز و جل ولكن العلم الأشرف ما معلومه أشرف وأشرف المعلومات هو الله تعالى فلذلك كانت معرفة الله تعالى أفضل المعارف بل معرفة سائر الأشياء أيضا إنما تشرف لأنها معرفة لأفعال الله عز و جل أو معرفة للطريق الذي يقرب العبد من الله عز و جل أو الأمر الذي يسهل به الوصول إلى معرفة الله تعالى والقرب منه وكل معرفة خارجة عن ذلك فليس فيها كثير شرف

القابض والباسط
هو الذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء يبسط الرزق على الأغنياء حتى لا يبقي فاقة ويقبضه عن الفقراء حتى لا يبقي طاقة ويقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله ويبسطها بما يتقرب إليها من بره ولطفه وجماله تنبيه
القابض الباسط
من العباد من ألهم بدائع الحكم وأوتي جوامع الكلم فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله عز و جل ونعمائه وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من أعدائه كما فعل رسول الله حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة حيث ذكر لهم أن الله عز و جل يقول لآدم عليه الصلاة و السلام يوم القيامة ابعث بعث النار فيقول كم فيقول من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة فلما أصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روح قلوبهم وبسطهم فذكر أنهم في سائر الأمم قبلهم كشامة سوداء في مسك ثور أبيض
الخافض الرافع
هو الذي يخفض الكفار بالإشقاء ويرفع المؤمنين بالإسعاد يرفع أولياءه بالتقريب ويخفض أعداءه بالإبعاد ومن رفع مشاهدته عن المحسوسات والمتخيلات وإرادته عن ذميم الشهوات فقد رفعه إلى أفق الملائكة المقربين ومن قصر مشاهدته على المحسوسات وهمته على ما يشارك

فيه البهائم من الشهوات فقد خفضه إلى أسفل السافلين ولا يفعل ذلك إلا الله تعالى فهو الخافض الرافع تنبيه
حظ العبد من ذلك أن يرفع الحق ويخفض الباطل وذلك بأن ينصر المحق ويزجر المبطل فيعادي أعداء الله ليخفضهم ويوالي أولياء الله ليرفعهم ولذلك قال الله تعالى لبعض أوليائه أما زهدك في الدنيا فقد استعجلت به راحة نفسك وأما ذكرك إياي فقد تشرفت بي فهل واليت في وليا وهل عاديت في عدوا

المعز المذل
هو الذي يؤتي الملك من يشاء ويسلبه ممن يشاء والملك الحقيقي إنما هو في الخلاص من ذل الحاجة وقهر الشهوة ووصمة الجهل فمن رفع الحجاب عن قلبه حتى شاهد جمال حضرته ورزقه القناعة حتى استغنى بها عن خلقه وأمده بالقوة والتأييد حتى استولى بها على صفات نفسه فقد أعزه وآتاه الملك عاجلا وسيعزه في الآخرة بالتقريب ويناديه يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي 89 سورة الفجر الآيات 3027
ومن مد عينه إلى الخلق حتى احتاج إليهم وسلط عليه الحرص حتى لم يقنع بالكفاية واستدرجه بمكره حتى اغتر بنفسه وبقي في ظلمة الجهل فقد أذله وسلبه الملك وذلك صنع الله عز و جل كما يشاء حيث يشاء فهو المعز المذل يعز من يشاء ويذل من يشاء وهذا الذليل هو الذي يخاطب ويقال

له ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية 57 سورة الحديد الآية 14و 15 وهذا غاية الذل وكل عبد استعمل في تيسير أسباب العز على يده ولسانه فهو ذو حظ من هذا الوصف

السميع
هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي فيسمع السر والنجوى بل ما هو أدق من ذلك وأخفى ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يسمع حمد الحامدين فيجازيهم ودعاء الداعين فيستجيب لهم ويسمع بغير أصمخة وآذان كما يفعل بغير جارحة ويتكلم بغير لسان وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان ومهما نزهت السميع عن تغير يعتريه عند حدوث المسموعات وقدسته عن أن يسمع بأذن أو بآلة وأداة علمت أن السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات ومن لم يدقق نظره فيه وقع بالضرورة في محض التشبيه فخذ منه حذرك ودقق فيه نظرك تنبيه
للعبد من حيث الحس حظ في السمع لكنه قاصر فإنه لا يدرك جميع المسموعات بل ما قرب من الأصوات ثم إن إدراكه بجارحة وأداة معرضة للآفات فإن خفي الصوت قصر عن الإدراك وإن بعد لم يدرك وإن عظم الصوت ربما بطل السمع واضمحل
وإنما حظه الديني منه أمران
أحدهما أن يعلم أن الله عز و جل سميع فيحفظ لسانه

والثاني أن يعلم أنه لم يخلق له السمع إلا ليسمع كلام الله عز و جل وكتابه الذي أنزله وحديث رسول الله فيستفيد به الهداية إلى طريق الله عز و جل فلا يستعمل سمعه إلا فيه

البصير
هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان فإن ذلك من التغير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات تنبيه
حظ العبد من حيث الحس من وصف البصر ظاهر ولكنه ضعيف قاصر إذ لا يمتد إلى ما بعد ولا يتغلغل إلى باطن ما قرب بل يتناول الظواهر ويقصر عن البواطن والسرائر
وإنما حظه الديني منه أمران
أحدهما أن يعلم أنه خلق له البصر لينظر إلى الآيات وإلى عجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظرة إلا عبرة قيل لعيسى عليه السلام هل أحد من الخلق مثلك فقال من كان نظره عبرة وصمته فكرة وكلامه ذكرا فهو مثلي
والثاني أن يعلم أنه بمرأى من الله عز و جل ومسمع فلا يستهين بنظره

إليه واطلاعه عليه ومن أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله عز و جل والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان بهذه الصفة فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله عز و جل يراه فما أجسره وما أخسره ومن ظن أن الله تعالى لا يراه فما أظلمه وأكفره

الحكم
وهو الحاكم المحكم والقاضي المسلم الذي لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه ومن حكمه في حق العباد أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى وأن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم ومعنى حكمه للبر والفاجر بالسعادة والشقاوة أنه جعل البر والفجور سببا يسوق صاحبهما إلى السعادة والشقاوة كما جعل الأدوية والسموم أسباب تسوق متناوليها إلى الشقاء والهلاك
وإذا كان معنى الحكمة ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسببات كان المتصف بها على الإطلاق حكما مطلقا لأنه مسبب كل الأسباب جملتها وتفصيلها
ومن الحكم ينشعب القضاء والقدر فتدبيره أصل وضع الأسباب ليتوجه إلى المسببات حكمه ونصبه الأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة التي لا تزول ولا تحول كالأرض والسموات السبع والكواكب والأفلاك وحركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغير ولا تنعدم إلى أن يبلغ الكتاب أجله قضاؤه كما قال تعالى فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها 41 سورة فصلت الآية 12 وتوجيه هذه الأسباب بحركاتها المتناسبة المحدودة المقدرة المحسوبة إلى المسببات الحادثة منها لحظة بعد لحظة قدره فالحكم هو التدبير الأول الكلي والأمر الأزلي الذي هو كلمح البصر والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة والقدر هو توجيه الأسباب

الكلية بحركتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص ولذلك لا يخرج عن قضائه وقدره شيء
ولا تفهم ذلك إلا بمثال ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها يتعرف أوقات الصلوات وإن لم تشاهده فجملة ذلك أنه لا بد فيه من آلة على شكل أسطوانة تحوي مقدارا من الماء معلوما وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة وطرفه الآخر في أسفل ظرف صغير موضوع فوق الأسطوانة المجوفة وفيه كره وتحته طاس بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسمع طنينها ثم يثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقب بقدر معلوم ينزل الماء منه قليلا قليلا فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء فامتد الخيط المشدود بها فحرك الظرف الذي فيه الكره تحريكا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس وتطن وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة
وإنما يتقدر الفصل بين الوقعتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء ويعرف ذلك بطريق الحساب
فيكون نزل الماء بمقدار مقدر معلوم بسبب تقدير سعة الثقب بقدر معلوم
ويكون انخفاض أعلى الماء بذلك المقدار وبه يتقدر انخفاض الآلة المجوفة وانجرار الخيط المشدود بها وتولد الحركة في الظرف الذي فيه الكرة وكل ذلك يتقدر بتقدر سببه لا يزيد ولا ينقص ويمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببا لحركة أخرى وتكون الحركة الأخرى سببا لحركة ثالثة وهكذا إلى درجات كثيرة حتى تتولد منه حركات عجيبة مقدرة بمقادير محدودة
وسببها الأول نزول الماء بقدر معلوم
فإذا تصورت هذه الصورة فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور

أولها التدبير وهو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات والأسباب والحركات حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل وذلك هو الحكم
والثاني إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول وهي الآلة الأسطوانية لتحوي الماء والآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء والخيط المشدود به والظرف الذي فيه الكرة والطاس الذي يقع فيه الكرة وذلك هو القضاء
والثالث نصب سبب يوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة وهو ثقب أسفل الآلة ثقبا مقدر السعة ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماء تؤدي إلى حركة وجه الماء بنزوله ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء ثم إلى حركة الخيط ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة ثم إلى حركة الكرة ثم إلى الصدمة بالطاس إذا وقعت فيه ثم إلى الطنين الحاصل منها ثم إلى تنبيه الحاضرين وإسماعهم ثم إلى حركاتهم في الاشتغال بالصلوات والأعمال عند معرفتهم انقضاء الساعة وكل ذلك يكون بقدر معلوم ومقدار مقدر بسبب تقدر جميعها بقدر الحركة الأولى وهي حركة الماء
فإذا فهمت أن هذه الآلات أصول لا بد منها للحركة وأن الحركة لا بد من تقدرها ليتقدر ما يتولد منها فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدرة التي لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر إذا جاء أجلها أي حضر سببها وكل ذلك بمقدار معلوم وأن الله بالغ أمره إذ جعل الله لكل شيء قدرا فالسموات والأفلاك والكواكب والأرض والبحر والهواء وهذه الأجسام العظام في العالم كتلك الآلات والسبب المحرك للأفلاك والكواكب والشمس والقمر بحساب معلوم كتلك الثقبة الموجبة لنزول الماء بقدر معلوم وإفضاء حركة الشمس والقمر والكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرفة لانقضاء الساعة

ومثال تداعي حركات السماء إلى تغيرات الأرض هو أن الشمس بحركتها إذا بلغت إلى المشرق واستضاء العالم وتيسر على الناس الإبصار فيتيسر عليهم الانتشار في الأشغال وإذا بلغت المغرب تعذر عليهم ذلك فرجعوا إلى المساكن وإذا قربت من وسط السماء وسمت رؤوس أهل الأقاليم حمي الهواء واشتد القيظ وحصل نضج الفواكه وإذا بعدت حصل الشتاء واشتد البرد وإذا توسطت حصل الاعتدال وظهر الربيع وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة وقس بهذه الأمور المشهورات التي تعرفها الغرائب التي لا تعرفها
واختلاف هذه الفصول كلها مقدر بقدر معلوم لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر و الشمس والقمر بحسبان 55 سورة الرحمن / الآية 5 أي حركتهما بحساب معلوم فهذا هو التقدير ووضع الأسباب الكلية هو القضاء والتدبير الأول الذي هو كلمح البصر هو الحكم والله تعالى حكم عدل باعتبار هذه الأمور وكما أن حركة الآلة والخيط والكرة ليست خارجة عن مشيئة واضع الآلة بل ذلك هو الذي أراده بوضع الآلة فكذلك كل ما يحدث في العالم من الحوادث شرها وخيرها نفعها وضرها غير خارج عن مشيئة الله عز و جل بل ذلك مراد الله تعالى ولأجله دبر أسبابه وهو المعني بقوله ولذلك خلقهم 11 سورة هود / الآية 119
وتفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير ولكن المقصود من الأمثلة التنبيه فدع المثال وتنبه للغرض واحذر من التمثيل والتشبيه تنبيه
قد فهمت من المثال المذكور ما إلى العبد من الحكم والتدبير والقضاء والتقدير وذلك أمر يسير وإنما الخطير منه ما إليه في تدبير الرياضيات

والمجاهدات وتقدير السياسات التي تفضي إلى مصالح الدين والدنيا وبذلك استخلف الله عباده في الأرض واستعمرهم فيها لينظر كيف يعملون
وإنما الحظ الديني من مشاهدة هذا الوصف لله تعالى أن يعلم أن الأمر مفروغ منه وليس بالأنف وقد جف القلم بما هو كائن وأن الأسباب قد توجهت إلى مسبباتها وانسياقها إليها في أحيانها وأجالها حتم واجب فكل ما يدخل في الوجود فإنما يدخل بالوجوب فهو واجب أن يوجد وإن لم يكن واجبا لذاته ولكن واجب بالقضاء الأزلي الذي لا مرد له فيعلم أن المقدور كائن وأن الهم فضل فيكون العبد في رزقه مجملا في الطلب مطمئن النفس ساكن الجأش غير مضطرب القلب
فإن قلت فيلزم منه إشكالان
أحدهما أن الهم كيف يكون فضلا وهو أيضا مقدور لأنه قدر له سبب إذا جرى سببه كان حصول الهم واجبا
والثاني أن الأمر إذا كان مفروغا منه ففيم العمل وقد فرغ هو عن سبب السعادة والشقاوة
فالجواب عن الأول أن قولهم المقدور كائن والهم فضل ليس معناه أنه فضل على المقدور خارج عنه بل أنه فضل أي لغو لا فائدة فيه فإنه لا يدفع المقدور ولأن سبب الهم بما يتوقع كونه هو الجهل المحض لأن ذلك إن قدر كونه فالحذر والهم لا يدفعه وهو استعجال نوع من الألم خوفا من وقوع الألم وإن لم يقدر كونه فلا معنى للهم به فبهذين الوجهين كان الهم فضلا
وأما العمل فجوابه قوله اعملوا فكل ميسر لما خلق له

ومعناه أن من قدرت له السعادة قدرت بسبب فيتيسر له أسبابها وهو الطاعة ومن قدرت له الشقاوة والعياذ بالله قدرت بسبب وهو بطالته عن مباشرة أسبابها
وقد يكون سبب بطالته أن يستقر في خاطره إني إن كنت سعيدا فلا أحتاج إلى العمل وإن كنت شقيا فلا ينفعني العمل وهذا جهل فإنه لا يدري أنه إن كان سعيدا فإنما يكون سعيدا لأنه يجري عليه أسباب السعادة من العلم والعمل وإن لم يتيسر له ذلك ولم يجر عليه فهو أمارة شقاوته
ومثاله الذي يتمنى أن يكون فقيها بالغا درجة الإمامة فيقال له اجتهد وتعلم وواظب فيقول إن قضى الله عز و جل لي في الأزل بالإمامة فلا أحتاج إلى الجهد وإن قضى لي بالجهل فلا ينفعني الجهد فيقال له إن سلط عليك هذا الخاطر فهذا يدل على أنه قضى لك بالجهل فإن من قضى له في الأزل بالإمامة فإنما يقضيها بأسبابها فيجري عليه الأسباب ويستعمله بها ويدفع عنه الخواطر التي تدعوه إلى الكسل والبطالة بل الذي لا يجتهد لا ينال درجة الإمامة قطعا والذي يجتهد ويتيسر له أسبابها يصدق رجاؤه في بلوغها إن استقام على جهده إلى آخر أمره ولم يستقبله عائق يقطع عليه الطريق فكذلك ينبغي أن يفهم أن السعادة لا ينالها إلا من أتى الله بقلب سليم وسلامة القلب صفة تكتسب بالسعي كفقه النفس وصفة الإمامة من غير فرق
نعم العباد في مشاهدة الحكم على درجات فمن ناظر إلى الخاتمة أنه بماذا يختم له ومن ناظر إلى السابقة أنه بما قضى له في الأزل وهو أعلى لأن الخاتمة تبع السابقة ومن تارك للماضي والمستقبل هو ابن وقته فهو ناظر إليه راض بمواقع قدر الله عز و جل وما يظهر منه وهو أعلى مما قبله ومن تارك للحال والماضي والمستقبل مستغرق القلب بالحكم ملازم في الشهود وهذه هي الدرجة العليا

العدل
معناه العادل وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله فمن أراد أن يفهم هذا الوصف فينبغي أن يحيط علما بأفعال الله تعالى من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت ثم رجع البصر فما رأى من فطور ثم رجع مرة أخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير وقد بهره جمال الحضرة الربوبية وحيره اعتدالها وانتظامها فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدله تعالى وتقدس
وقد خلق أقسام الموجودات جسمانيها وروحانيها كاملها وناقصها وأعطى كل شيء خلقه وهو بذلك جواد ورتبها في مواضعها اللائقة بها وهو بذلك عدل فمن الأجسام العظام في العالم الأرض والماء والهواء والسموات والكواكب وقد خلقها ورتبها فوضع الأرض في أسفل السافلين وجعل الماء فوقها والهواء فوق الماء والسموات فوق الهواء ولو عكس هذا الترتيب لبطل النظام
ولعل شرح وجه استحقاق هذا الترتيب في العدل والنظام مما يصعب على أكثر الأفهام فلننزل إلى درجة العوام ونقول لينظر الإنسان إلى بدنه فإنه مركب من أعضاء مختلفة كما أن العالم مركب من أجسام مختلفة فأول اختلافه أنه ركبه من العظم واللحم والجلد وجعل العظم عمادا مستبطنا واللحم صوانا له مكتنفا إياه والجلد صوانا للحم فلو عكس هذا الترتيب وأظهر ما أبطن لبطل النظام
وإن خفي عليك هذا فقد خلق للإنسان أعضاء مختلفة مثل اليد والرجل والعين والأنف والأذن فهو بخلق هذه الأعضاء جواد وبوضعها مواضعها الخاصة عدل لأنه وضع العين في أولى المواضع بها من البدن إذ لو خلقها على القفا أو على الرجل أو على اليد أو على قمة الرأس لم يخف ما يتطرق إليه من

النقصان والتعرض للآفات وكذلك علق اليدين من المنكبين ولو علقهما من الرأس أو من الحقو أو من الركبتين لم يخف ما يتولد منه من الخلل وكذلك وضع جميع الحواس في الرأس فإنها جواسيس لتكون مشرفة على جميع البدن فلو وضعها في الرجل اختل نظامها قطعا وشرح ذلك في كل عضو يطول
وبالجملة فينبغي أن تعلم أنه لم يخلق شيء في موضع إلا لأنه متعين له ولو تيامن عنه أو تياسر أو تسفل أو تعلى لكان ناقصا أو باطلا أو قبيحا أو خارجا عن المتناسب كريها في المنظر وكما أن الأنف خلق على وسط الوجه ولو خلق على الجبهة أو على الخد لتطرق نقصان إلى فوائده
وإذا قوي فهمك على إدراك حكمته فاعلم أن الشمس أيضا لم يخلقها في السماء الرابعة وهي واسطة السموات السبع هزلا بل ما خلقها إلا بالحق وما وضعها إلا موضعها المستحق لها لحصول مقاصده منها إلا أنك ربما تعجز عن درك الحكمة فيه لأنك قليل التفكر في ملكوت السموات والأرض وعجائبها ولو نظرت فيها لرأيت من عجائبها ما تستحقر فيه عجائب بدنك وكيف لا وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس وليتك وفيت بمعرفة عجائب نفسك وتفرغت للتأمل فيها وفيما يكتنفها من الأجسام فتكون ممن قال الله عز و جل فيهم سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم 41 سورة فصلت الآية 53 ومن أين لك أن تكون ممن قال فيهم وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض 6 سورة الأنعام الآية 75 وأنى تفتح أبواب السماء لمن استغرقه هم الدنيا واستعبده الحرص والهوى
فهذا هو الرمز إلى تفهيم مبدأ الطريق إلى معرفة هذا الاسم الواحد وشرحه يفتقر إلى مجلدات وكذا شرح معنى كل اسم من الأسامي فإن الأسامي المشتقة من الأفعال لا تفهم إلا بعد فهم الأفعال وكل ما في الوجود من أفعال الله تعالى

ومن لم يحط علما بتفاصيلها ولا بجملتها فلا يكون معه منها إلا محض التفسير واللغة ولا مطمع في العلم بتفصيلها فإنه لا نهاية له وأما الجملة فللعبد طريق إلى معرفتها وبقدر اتساع معرفته فيها يكون حظه من معرفة الأسماء وذلك يستغرق العلوم كلها وإنما غاية مثل هذا الكتاب الإيماء إلى مفاتحها ومعاقد جملها فقط تنبيه
حظ العبد من العدل لا يخفى فأول ما عليه من العدل في صفات نفسه وهو أن يجعل الشهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدين ومهما جعل العقل خادما للشهوة والغضب فقد ظلم هذا جملة عدله في نفسه وتفصيله مراعاة حدود الشرع كلها وعدله في كل عضو أن يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه وأما عدله في أهله وذويه ثم في رعيته إن كان من أهل الولاية فلا يخفى
وربما يظن أن الظلم هو الإيذاء والعدل هو إيصال النفع إلى الناس وليس كذلك بل لو فتح الملك خزانته المشتملة على الأسلحة والكتب وفنون الأموال ولكن فرق الأموال على الأغنياء ووهب الأسلحة للعلماء وسلم إليهم القلاع ووهب الكتب للأجناد وأهل القتال وسلم إليهم المساجد والمدارس فقد نفع ولكنه قد ظلم وعدل عن العدل إذ وضع كل شيء في غير موضعه اللائق به ولو آذى المرضى بسقي الأدوية والفصد والحجامة وبالإجبار على ذلك وآذى الجناة بالعقوبة قتلا وقطعا وضربا كان عدلا لأنه وضعها في مواضعها
وحظ العبد دينا من مشاهدة هذا الوصف الإيمان بأن الله عز و جل عدل أن لا يعترض عليه في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله وافق مراده أو لم

يوافق لأن كل ذلك عدل وهو كما ينبغي وعلى ما ينبغي ولو لم يفعل ما فعله لحصل منه أمر آخر هو أعظم ضررا مما حصل كما أن المريض لو لم يحتجم لتضرر ضررا يزيد على ألم الحجامة وبهذا يكون الله تعالى عدلا والإيمان به يقطع الإنكار والاعتراض ظاهرا وباطنا وتمامه أن لا يسب الدهر ولا ينسب الأشياء إلى الفلك ولا يعترض عليه كما جرت به العادة بل يعلم أن كل ذلك أسباب مسخرة وأنها رتبت ووجهت إلى المسببات أحسن ترتيب وتوجيه بأقصى وجوه العدل واللطف

اللطيف
إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها وما لطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا لله سبحانه وتعالى فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك بل الخفي مكشوف في علمه كالجلي من غير فرق وأما رفقه في الأفعال ولطفه فيها فلا يدخل أيضا تحت الحصر إذ لا يعرف اللطف في الفعل إلا من عرف تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها وبقدر اتساع المعرفة فيها تتسع المعرفة لمعنى اسم اللطيف وشرح ذلك يستدعي تطويلا ثم لا يتصور أن يفي بعشر عشيره مجلدات كثيرة وإنما يمكن التنبيه على بعض جمله
فمن لطفه خلقه الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فيستقل بالتناول بالفم ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ولو في ظلام الليل من غير تعليم ومشاهدة بل يتفقأ البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب في الحال ثم تأخير خلق السن عن أول الخلقة إلى وقت الحاجة للاستغناء في الاغتذاء باللبن

عن السن ثم إنباته السن بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن وإلى أنياب للكسر وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق في رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة ولو ذكر لطفه في تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يحصى عددهم من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها إلى غير ذلك لكان لا يستوفي شرحه
وعلى الجملة فهو من حيث دبر الأمور حكم ومن حيث أوجدها جواد ومن حيث رتبها مصور ومن حيث وضع كل شيء موضعه عدل ومن حيث لم يترك فيها دقائق وجوه الرفق لطيف ولن يعرف حقيقة هذه الأسماء من لم يعرف حقيقة هذه الأفعال
ومن لطفه بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد بسعي خفيف في مدة قصيرة وهي العمر فإنه لا نسبة لها بالإضافة إلى الأبد ومن لطفه إخراج اللبن الصافي من بين الفرث والدم وإخراج الجواهر النفيسة من الأحجار الصلبة وإخراج العسل من النحل والإبريسم من الدود والدر من الصدف وأعجب من ذلك خلقه من النطفة القذرة مستودعا لمعرفته وحاملا لأمانته ومشاهدا لملكوت سمواته وهذا أيضا لا يمكن إحصاؤه تنبيه
حظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله عز و جل والتلطف بهم في الدعوة إلى الله تعالى والهداية إلى سعادة الآخرة من غير إزراء وعنف ومن

غير تعصب وخصام وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسيرة المرضية والأعمال الصالحة فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة

الخبير
هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها وهو بمعنى العليم ولكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ويسمى صاحبها خبيرا تنبيه
حظ العبد من ذلك أن يكون خبيرا بما يجري في عالمه وعالمه قلبه وبدنه والخفايا التي يتصف القلب بها من الغش والخيانة والتطواف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير والتجمل بإظهار الإخلاص مع الإفلاس عنه لا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحاذرها وتشمر لمعاداتها وأخذ الحذر منها فذلك من العباد جدير بأن يسمى خبيرا
الحليم
هو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة 16 سورة النحل الآية 61

تنبيه
حظ العبد من وصف الحليم ظاهر فالحلم من محاسن خصال العباد وذلك مستغن عن الشرح والإطناب

العظيم
اعلم أن اسم العظيم في أول الوضع إنما أطلق على الأجسام يقال هذا جسم عظيم وهذا الجسم أعظم من ذلك الجسم إذا كان امتداد مساحته في الطول والعرض والعمق أكثر منه ثم هو ينقسم إلى عظيم يملأ العين ويأخذ منها مأخذا وإلى ما لا يتصور أن يحيط البصر بجميع أطرافه كالأرض والسماء فإن الفيل عظيم ولكن البصر قد يحيط بأطرافه فهو عظيم بالإضافة إلى ما دونه وأما الأرض فلا يتصور أن يحيط البصر بأطرافها وكذا السماء فذلك هو العظيم المطلق في مدركات البصر
فافهم أن في مدركات البصائر أيضا تفاوتا فمنها ما تحيط العقول بكنه حقيقته ومنها ما تقصر العقول عنه وما تقصر العقول عنه ينقسم إلى ما يتصور أن يحيط به بعض العقول وإن قصر عنه أكثرها وإلى ما لا يتصور أن يحيط العقل أصلا بكنه حقيقته وذلك هو العظيم المطلق الذي جاوز جميع حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وذلك هو الله تعالى وقد سبق بيان ذلك في الفن الأول تنبيه
العظيم من العباد الأنبياء والعلماء الذين إذا عرف العاقل شيئا من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدره وصار مستوفى بالهيبة قلبه حتى لا يبقى فيه متسع

فالنبي عظيم في حق أمته والشيخ في حق مريده والأستاذ في حق تلميذه إذ يقصر عقله عن الإحاطة بكنه صفاته فإن ساواه أو جاوزه لم يكن عظيما بالإضافة إليه وكل عظيم يفرض غير الله عز و جل فهو ناقص وليس بعظيم مطلق لأنه إنما يظهر بالإضافة إلى شيء دون شيء سوى عظمة الله تعالى فإنه العظيم المطلق لا بطريق الإضافة

الغفور
بمعنى الغفار ولكنه بشيء ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنها الغفار فإن الغفار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة مرة بعد أخرى فالفعال ينبئ عن كثرة الفعل والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة والغفران كاملها حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة والكلام عليه قد سبق
الشكور
هو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعيما في الآخرة غير محدود ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال إنه شكر تلك الحسنة ومن أثنى على المحسن أيضا يقال إنه شكر فإن نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا الله عز و جل لأن زياداته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة فإن نعيم الجنة لا آخر له والله سبحانه وتعالى يقول كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية 69 سورة الحاقة الآية 24 وإن نظرت إلى معنى الثناء فثناء كل مثن على فعل غيره والرب عز و جل إذا أثنى على أعمال عباده فقد أثنى على فعل نفسه لأن أعمالهم من خلقه فإن كان الذي أعطى فأثنى شكورا فالذي

أعطى وأثنى على المعطي أحق بأن يكون شكورا وثناء الله تعالى على عباده كقوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات 33 سورة الأحزاب الآية 35 وكقوله نعم العبد إنه أواب 38 سورة ص الآية 30 وما يجري مجراه فكل ذلك عطية منه تنبيه
العبد يتصور أن يكون شاكرا في حق عبد آخر مرة بالثناء عليه بإحسانه إليه وأخرى بمجازاته بأكثر مما صنعه إليه وذلك من الخصال الحميدة قال رسول الله من لم يشكر الناس لم يشكر الله وأما شكره لله عز و جل فلا يكون إلا بنوع من المجاز والتوسع فإنه إن أثنى فثناؤه قاصر لأنه لا يحصي ثناء عليه وإن أطاع فطاعته نعمة أخرى من الله عليه بل عين شكره نعمة أخرى وراء النعمة المشكورة وإنما أحسن وجوه الشكر لنعم الله عز و جل أن لا يستعملها في معاصيه بل في طاعته وذلك أيضا بتوفيق الله وتيسيره في كون العبد شاكرا لربه
وتصور ذلك كلام دقيق ذكرناه في كتاب الشكر من كتاب إحياء علوم الدين فليطلب منه فإن هذا الكتاب لا يحتمله

العلي
هو الذي لا رتبة فوق رتبته وجميع المراتب منحطة عنه وذلك لأن العلي مشتق من العلو والعلو مأخوذ من العلو المقابل للسفل وذلك إما في

درجات محسوسة كالدرج والمراقي وجميع الأجسام الموضوعة بعضها فوق بعض وإما في الرتب المعقولة للموجودات المرتبة نوعا من الترتيب العقلي فكل ما له الفوقية في المكان فله العلو المكاني وكل ما له الفوقية في الرتبة فله العلو في الرتبة والتدريجات العقلية مفهومة كالتدريجات الحسية ومثال الدرجات العقلية هو التفاوت الذي بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص فإذا قدرت شيئا فهو سبب لشيء ثان وذلك الثاني سبب لثالث والثالث لرابع إلى عشر درجات مثلا فالعاشر واقع في الرتبة الأخيرة فهو الأسفل الأدنى والأول واقع في الدرجة الأولى من السببية فهو الأعلى ويكون الأول فوق الثاني فوقية بالمعنى لا بالمكان والعلو عبارة عن الفوقية
فإذا فهمت معنى التدريج العقلي فاعلم أن الموجودات لا يمكن قسمتها إلى درجات متفاوتة في العقل إلا ويكون الحق سبحانه وتعالى في الدرجة العليا من درجات أقسامها حتى لا يتصور أن يكون فوقه درجة وذلك هو العلي المطلق وكل ما سواه فيكون عليا بالإضافة إلى ما دونه ويكون دنيا أو سافلا بالإضافة إلى ما فوقه
ومثال قسمة العقل أن الموجودات تنقسم إلى ما هو سبب وإلى ما هو مسبب والسبب فوق المسبب فوقية بالرتبة فالفوقية المطلقة ليست إلا لمسبب الأسباب وكذلك ينقسم الموجود إلى ميت وحي والحي ينقسم إلى ما ليس له إلا الإدراك الحسي وهو البهيمة وإلى ما له مع الإدراك الحسي الإدراك العقلي والذي له الإدراك العقلي ينقسم إلى ما يعارضه في معلوماته الشهوة والغضب وهو الإنسان وإلى ما يسلم إدراكه عن معارضة المكدرات والذي يسلم ينقسم إلى ما يمكن أن يبتلى به ولكن رزق السلامة كالملائكة وإلى ما يستحيل ذلك في حقه وهو الله سبحانه وتعالى وليس يخفى عليك في هذا

التقسيم والتدريج أن الملك فوق الإنسان والإنسان فوق البهيمة وأن الله عز و جل فوق الكل فهو العلي المطلق فإنه الحي المحيي العالم المطلق الخالق لعلوم العلماء المنزه المقدس عن جميع أنواع النقص فقد وقع الميت في الدرجة السفلى من درجات الكمال ولم يقع في الطرف الآخر إلا الله تعالى فهكذا ينبغي أن تفهم فوقيته وعلوه
فإن هذه الأسامي وضعت أولا بالإضافة إلى إدراك البصر وهو درجة العوام ثم لما تنبه الخواص لإدراك البصائر ووجدوا بينها وبين الأبصار موازنات استعاروا منها الألفاظ المطلقة وفهمها الخواص وأدركوها وأنكرها العوام الذين لم يجاوز إدراكهم عن الحواس التي هي رتبة البهائم فلم يفهموا عظمة إلا بالمساحة ولا علوا إلا بالمكان ولا فوقية إلا به فإذا فهمت هذا فقد فهمت معنى كونه فوق العرش لأن العرش أعظم الأجسام وهو فوق جميع الأجسام والموجود المنزه عن التحديد والتقدر بحدود الأجسام ومقاديرها فوق الأجسام كلها في الرتبة ولكن خص العرش بالذكر لأنه فوق جميع الأجسام فلما كان فوقها كان فوق جميعها وهو كقول القائل الخليفة فوق السلطان تنبيها به على أنه إذا كان فوقه كان فوق جميع الناس الذين هم دون السلطان
والعجب من الحشوي الذي لا يفهم من فوق إلا المكان ومع ذلك إذا سئل عن شخصين من الأكابر وقيل له كيف يجلسان في الصدر والمحافل فيقول هذا يجلس فوق ذاك وهو يعلم أنه ليس يجلس إلا بجنبه وإنما يكون جالسا فوقه لو جلس على رأسه أو مكان مبني فوق رأسه ولو قيل له كذبت ما جلس فوقه ولا تحته ولكنه جلس بجنبه اشمأزت نفسه من هذا الإنكار وقال إنما أعني به فوقية الرتبة والقرب من الصدر فإن الأقرب إلى الصدر الذي هو المنتهى فوق بالإضافة إلى الأبعد ثم لا يفهم من هذا أن كل ترتيب له

طرفان يجوز أن يطلق على أحد طرفيه اسم الفوق والعلو وعلى الطرف الآخر ما يقابله تنبيه
العبد لا يتصور أن يكون عليا مطلقا إذ لا ينال درجة إلا ويكون في الوجود ما هو فوقها وهو درجات الأنبياء والملائكة نعم يتصور أن ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقه وهي درجة نبينا محمد ولكنه قاصر بالإضافة إلى العلو المطلق من وجهين أحدهما أنه علو بالإضافة إلى بعض الموجودات والآخر أنه علو بالإضافة إلى الوجود لا بطريق الوجوب بل يقارنه إمكان وجود إنسان فوقه فالعلي المطلق هو الذي له الفوقية لا بالإضافة وبحسب الوجوب لا بحسب الوجود الذي يقارنه إمكان نقيضه

الكبير
هو ذو الكبرياء والكبرياء عبارة عن كمال الذات وأعني بكمال الذات كمال الوجود وكمال الوجود يرجع إلى شيئين
أحدهما دوامه أزلا وأبدا فكل وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدة وجوده إنه كبير أي كبير السن طويل مدة البقاء ولا يقال عظيم السن فالكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم فإن كان ما طال مدة وجوده مع كونه محدود مدة البقاء كبيرا فالدائم الأزلي الأبدي الذي يستحيل عليه العدم أولى أن يكون كبيرا
والثاني أن وجوده هو الوجود الذي يصدر عنه وجود كل موجود فإن

كان الذي تم وجوده في نفسه كاملا وكبيرا فالذي حصل منه الوجود لجميع الموجودات أولى أن يكون كاملا وكبيرا تنبيه
الكبير من العباد هو الكامل الذي لا تقتصر عليه صفات كماله بل تسري إلى غيره فلا يجالسه أحد إلا ويفيض عليه شيئا من كماله وكمال العبد في عقله وورعه وعلمه فالكبير من عباده هو العالم التقي المرشد للخلق الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ولذلك قال عيسى عليه السلام من علم وعمل فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء

الحفيظ
هو الحافظ جدا ولن يفهم ذلك إلا بعد فهم معنى الحفظ وهو على وجهين
أحدهما إدامة وجود الموجودات وإبقاؤها ويضاده الإعدام والله تعالى هو الحافظ للسموات والأرض والملائكة والموجودات التي يطول أمد بقائها والتي لا يطول أمد بقائها مثل الحيوانات والنبات وغيرهما
والوجه الثاني وهو أظهر المعنيين أن الحفظ صيانة المتعاديات والمتضادات بعضها عن بعض وأعني بهذا التعادي ما بين الماء والنار فإنهما يتعاديان بطباعهما فإما أن يطفئ الماء النار وإما أن تحيل النار الماء إن غلبت الماء بخارا ثم هواء والتضاد والتعادي ظاهر بين الحرارة والبرودة إذ تقهر إحداهما الأخرى وكذلك بين الرطوبة واليبوسة وسائر الأجسام الأرضية مركبة من هذه الأصول المتعادية إذ لا بد للحيوان من حرارة غريزية لو بطلت لبطلت حياته ولا بد له من رطوبة تكون غذاء لبدنه كالدم وما يجري مجراه ولا بد

من يبوسة بها تتماسك أعضاؤه خصوصا ما صلب منها كالعظام ولا بد من برودة تكسر سورة الحرارة حتى تعتدل ولا تحرق ولا تحلل الرطوبات الباطنة بسرعة وهذه متعاديات متنازعات
وقد جمع الله عز و جل بين هذه المتضادات المتنازعة في إهاب الإنسان وبدن الحيوانات والنبات وسائر المركبات ولولا حفظه تعالى إياها لتنافرت وتباعدت وبطل امتزاجها واضمحل تركيبها وبطل المعنى الذي صارت مستعدة لقبوله بالتركيب والمزاج وحفظ الله تعالى إياها بتعديل قواها مرة وبإمداد المغلوب منها ثانيا
أما التعديل فهو أن يكون مبلغ قوة البارد مثل مبلغ قوة الحار فإذا اجتمعا لم يغلب أحدهما الآخر بل يتدافعان إذ ليس أحدهما بأن يغلب أولى من أن يغلب فيتقاومان ويبقى قوام المركب بتقاومهما وتعادلهما وهو الذي يعبر عنه باعتدال المزاج
والثاني إمداد المغلوب منهما بما يعيد قوته حتى يقاوم الغالب ومثاله أن الحرارة تفني الرطوبة وتجففها لا محالة فإذا غلبت ضعفت البرودة والرطوبة وغلبت الحرارة واليبوسة ويكون إمداد الضعيف بالجسم البارد الرطب وهو الماء ومعنى العطش هو الحاجة إلى البارد الرطب فخلق الله تعالى البارد الرطب مددا للبرودة والرطوبة إذا غلبتا وخلق الأطعمة والأدوية وسائر الجواهر المتضادة حتى إذا غلب شيء عورض بضده فانقهر وهذا هو الإمداد وإنما تم ذلك بخلق الأطعمة والأدوية وخلق الآلات المصلحة لها وخلق المعرفة الهادية إلى استعمالها وكل ذلك لحفظ الله عز و جل أبدان الحيوانات والمركبات من المتضادات
وهذه هي الأسباب التي تحفظ الإنسان من الهلاك الداخل وهو متعرض

للهلاك من أسباب خارجة كسباع ضارية وأعداء متنازعة فحفظه من ذلك بما خلق له من الجواسيس المنذرة بقرب العدو وهي طلائعه كالعين والأذن وغيرهما ثم خلق له اليد الباطشة والأسلحة الدافعة كالدرع والترس والقاضية كالسيف والسكين ثم ربما يعجز مع ذلك عن الدفع فأمده بآلة الهرب وهي الرجل للحيوان الماشي والجناح للطائر وكذلك شمل حفظه جلت قدرته كل ذرة في ملكوت السموات والأرض حتى الحشيش الذي ينبت في الأرض يحفظ لبابه بالقشر الصلب وطراوته بالرطوبة وما لا يحفظ بمجرد القشر يحفظه بالشوك النابت منه ليندفع به بعض الحيوانات المتلفة له فالشوك سلاح النبات كالقرون والمخالب والأنياب للحيوانات
بل كل قطرة من ماء فمعها ملك حافظ يحفظها عن الهواء المضاد لها فإن الماء إذا جعل في إناء وترك مدة استحال هواء وسلب الهواء المضاد له صفة المائية عنه ولو غمست الإصبع في ماء ورفعتها ونكستها تدلت منها قطرة ماء تبقى منكسة لا تنفصل مع أن من شأنها الهوي إلى أسفل ولكنها لو انفصلت وهي صغيرة استولى الهواء عليها وأحالها ولا تزال تمكث متدلية حتى يجتمع إليها بقية البلل فتكبر القطرة فتستجري على خرق الهواء بسرعة ولا يستولي الهواء على إحالتها وليس ذلك حفظا منها لنفسها عن معرفة بضعفها وقوة ضدها وحاجة استمدادها من بقية البلل وإنما ذلك حفظ من ملك موكل بها بواسطة معنى متمكن من ذاتها وقد ورد في الخبر أنه لا تنزل قطرة من المطر إلا ومعها ملك يحفظها إلى أن تصل إلى مستقرها من الأرض وذلك حق والمشاهدة الباطنة لأرباب البصائر قد دلت عليه وأرشدت إليه فآمنوا بالخبر لا عن تقليد بل عن بصيرة
والكلام أيضا في شرح حفظ الله تعالى السموات والأرض وما بينهما طويل

كما في سائر الأفعال وبه يعرف هذا الاسم لا بمعرفة الاشتقاق في اللغة وتوهم معنى الحفظ على الإجمال تنبيه
الحفيظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه عن سطوة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان فإنه على شفا جرف هار وقد اكتنفته هذه المهلكات المفضية إلى البوار

المقيت
معناه خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة وإلى القلوب وهي المعرفة فيكون بمعنى الرزاق إلا أنه أخص منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت والقوت ما يكتفى به في قوام البدن
وإما أن يكون معناه المستولي على الشيء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم وعليه يدل قوله عز و جل وكان الله على كل شيء مقيتا 4 سورة النساء الآية 85 أي مطلعا قادرا فيكون معناه راجعا إلى القدرة والعلم أما العلم فقد سبق وأما القدرة فستأتي ويكون بهذا المعنى وصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده لأنه دال على اجتماع المعنيين وبذلك يخرج هذا الاسم عن الترادف
الحسيب
هو الكافي وهو الذي من كان له كان حسبه والله سبحانه

وتعالى حسيب كل أحد وكافيه وهذا وصف لا تتصور حقيقته لغيره فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله عز و جل فإنه وحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها
ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو حسبك فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء فهو حسبك ولا تظنن أن الطفل الذي يحتاج إلى أم ترضعه وتتعهده فليس الله حسيبه وكافيه بل الله عز و جل حسيبه وكافيه إذ خلق أمه وخلق اللبن في ثديها وخلق له الهداية إلى التقامه وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من الالتقام ودعته إليه وحملته عليه فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب والله تعالى وحده هو المتفرد بخلقها لأجله ولو قيل لك إن الأم وحدها كافية للطفل وهي حسبه لصدقت به ولم تقل إنها لا تكفيه لأنه يحتاج إلى اللبن فمن أين تكفيه الأم إذا لم يكن لبن ولكنك تقول نعم يحتاج إلى اللبن ولكن اللبن أيضا من الأم فليس محتاجا إلى غير الأم فاعلم أن اللبن ليس من الأم بل هو والأم من الله سبحانه وتعالى ومن فضله وجوده فهو وحده حسب كل أحد وليس في الوجود شيء وحده هو حسب شيء سواه بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها تتعلق بقدرة الله سبحانه وتعالى تنبيه
ليس للعبد مدخل في هذا الوصف إلا بنوع من المجاز بعيد وبالإضافة إلى بادئ الرأي وسابق الظن العامي أما كونه مجازا فهو أنه إن كان كافيا لطفله

في القيام بتعهده أو لتلميذه في تعليمه حتى لم يفتقر إلى الاستعانة بغيره كان واسطة في الكفاية ولم يكن كافيا لأن الله سبحانه وتعالى هو الكافي إذ لا قوام له بنفسه ولا كفاية له بنفسه فكيف يكون هو كفاية غيره
وأما كونه بالإضافة إلى سابق الظن هو أنه وإن قدر أنه مستقل بالكفاية وليس بواسطة فهو وحده لا يكفي إذ يحتاج إلى محل قابل لفعله وكفايته وهذا أقل الأمور فالقلب الذي هو محل العلم لا بد منه أولا ليكون هو كافيا في التعليم والمعدة التي هي مستقر الطعام لا بد منها لتكون كافية بإيصال الطعام إلى بدنه وهذا مع ما يحتاج إليه من أمور كثيرة لا يحصيها ولا يدخل شيء منها في اختياره فأقل درجات الفعل حاجته إلى فاعل وقابل فالفاعل لا يكفي دون القابل أصلا وإنما صح هذا في حق الله عز و جل لأنه خالق الفعل وخالق المحل القابل وخالق شرائط قبوله وما يكتنفه ولكن بادئ الرأي ربما يسبق إلى الفاعل ولا يخطر بالبال غيره فيظن أن الفاعل حسبه وحده وليس كذلك
نعم الحظ الذي منه للعبد أن يكون الله وحده حسبه بالإضافة إلى همته وإرادته وهو أنه لا يريد إلا الله عز و جل فلا يريد الجنة ولا يشغل قلبه بالنار ليحذر منها بل يكون مستغرق الهم بالله تعالى وحده وإذا كاشفه بجلاله قال ذلك حسبي فلست أريد غيره ولا أبالي فاتني غيره أم لم يفت

الجليل
هو الموصوف بنعوت الجلال ونعوت الجلال هي العز والملك والتقدس والعلم والغنى والقدرة وغيرها من الصفات التي ذكرناها فالجامع لجميعها هو الجليل المطلق والموصوف ببعضها جلالته بقدر ما نال من هذه النعوت فالجليل المطلق هو الله عز و جل فقط فكأن الكبير يرجع إلى كمال الذات

والجليل إلى كمال الصفات والعظيم يرجع إلى كمال الذات والصفات جميعا منسوبا إلى إدراك البصيرة إذا كان بحيث يستغرق البصيرة ولا تستغرقه البصيرة
ثم صفات الجلال إذا نسبت إلى البصيرة المدركة لها سميت جمالا وسمي المتصف به جميلا واسم الجميل في الأصل وضع للصورة الظاهرة المدركة بالبصر مهما كانت بحيث تلائم البصر وتوافقه ثم نقل إلى الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر حتى يقال سيرة حسنة جميلة ويقال خلق جميل وذلك يدرك بالبصائر لا بالأبصار والصورة الباطنة إذا كانت كاملة متناسبة جامعة جميع كمالاتها اللائقة بها كما ينبغي وعلى ما ينبغي فهي جميلة بالإضافة إلى البصيرة الباطنة المدركة لها وملائمة لها ملاءمة يدرك صاحبها عند مطالعتها من اللذة والبهجة والاهتزاز أكثر مما يدركه الناظر بالبصر الظاهر إلى الصورة الجميلة فالجميل الحق المطلق هو الله سبحانه وتعالى فقط لأن كل ما في العالم من جمال وكمال وبهاء وحسن فهو من أنوار ذاته وآثار صفاته وليس في الوجود موجود له الكمال المطلق الذي لا مثنوية فيه لا وجوبا ولا إمكانا سواه ولذلك يدرك عارفه والناظر إلى جماله من البهجة والسرور واللذة والغبطة ما يستحقر معه نعيم الجنة وجمال الصورة المبصرة بل لا مناسبة بين جمال الصورة الظاهرة وبين جمال المعاني الباطنة المدركة بالبصائر
وهذا المعنى كشفنا عنه الغطاء في كتاب المحبة من كتب إحياء علوم الدين
فإذا ثبت أنه جليل وجميل فكل جميل فهو محبوب ومعشوق عند مدرك جماله فلذلك كان الله عز و جل محبوبا ولكن عند العارفين كما تكون الصورة الجميلة الظاهرة محبوبة ولكن عند المبصرين لا عند العميان

تنبيه
الجليل الجميل من العباد من حسنت صفاته الباطنة التي تستلذها القلوب البصيرة فأما جمال الظاهر فنازل القدر

الكريم
هو الذي إذا قدر عفا وإذا وعد وفى وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى وإذا جفي عاتب وما استقصى ولا يضيع من لاذ به والتجأ ويغنيه عن الوسائل والشفعاء فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلف فهو الكريم المطلق وذلك لله سبحانه وتعالى فقط تنبيه
هذه الخصال قد يتجمل العبد في اكتسابها ولكن في بعض الأمور ومع نوع من التكلف فلذلك قد يوصف بالكريم ولكنه ناقص بالإضافة إلى الكريم المطلق وكيف لا يوصف به العبد وقد قال رسول الله لا تقولوا للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم وقيل إنما وصف شجرة العنب بالكرم لأنه لطيف الشجرة طيب الثمرة سهل القطاف قريب المتناول سليم عن الشوك والأسباب المؤذية بخلاف النخل
الرقيب
هو العليم الحفيظ فمن راعى الشيء حتى لم يغفل عنه ولاحظه ملاحظة دائمة لازمة لزوما لو عرفه الممنوع عنه لما أقدم عليه سمي رقيبا فكأنه

يرجع إلى العلم والحفظ ولكن باعتبار كونه لازما دائما بالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن المتناول تنبيه
وصف المراقبة للعبد إنما يحمد إذا كانت مراقبته لربه وقلبه وذلك بأن يعلم أن الله تعالى رقيبه وشاهده في كل حال ويعلم أن نفسه عدو له وأن الشيطان عدو له وأنهما ينتهزان منه الفرص حتى يحملانه على الغفلة والمخالفة فيأخذ منهما حذره بأن يلاحظ مكانهما وتلبيسهما ومواضع انبعاثهما حتى يسد عليهما المنافذ والمجاري فهذه مراقبته

المجيب
هو الذي يقال مسألة السائلين بالإسعاف ودعاء الداعين بالإجابة وضرورة المضطرين بالكفاية بل ينعم قبل النداء ويتفضل قبل الدعاء وليس ذلك إلا لله عز وعلا فإنه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم وقد علمها في الأزل فدبر أسباب كفاية الحاجات بخلق الأطعمة والأقوات وتيسير الأسباب والآلات الموصلة إلى جميع المهمات تنبيه
العبد ينبغي أن يكون مجيبا أولا لربه تعالى فيما أمره ونهاه وفيما ندبه إليه ودعاه ثم لعباده فيما أنعم الله عز و جل عليه بالاقتدار عليه وفي إسعاف كل سائل بما يسأله إن قدر عليه وفي لطف الجواب إن عجز عنه قال الله عز و جل وأما السائل فلا تنهر 93 سورة الضحى الآية

10 - وقال رسول الله لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت وكان حضوره الدعوات وقبوله الهدايا غاية الإكرام والإيجاب منه فكم من خسيس متكبر يترفع عن قبول كل هدية ولا يتبذل في حضور كل دعوة بل يصون جاهه وكبره ولا يبالي بقلب السائل المستدعي وإن تأذى بسببه فلا حظ لمثله في معنى هذا الاسم

الواسع
مشتق من السعة والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة وتضاف أخرى إلى الإحسان وبسط النعم وكيف ما قدر وعلى أي شيء نزل فالواسع المطلق هو الله سبحانه وتعالى لأنه إن نظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته بل تنفد البحار لو كانت مدادا لكلماته وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته وكل سعة وإن عظمت فتنتهي إلى طرف والذي لا ينتهي إلى طرف فهو أحق باسم السعة والله سبحانه وتعالى هو الواسع المطلق لأن كل واسع بالإضافة إلى ما هو أوسع منه ضيق وكل سعة تنتهي إلى طرف فالزيادة عليه متصورة وما لا نهاية له ولا طرف فلا يتصور عليه زيادة تنبيه
سعة العبد في معارفه وأخلاقه فإن كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه وإن اتسعت أخلاقه حتى لم يضيقها خوف الفقر وغيظ الحسد وغلبة الحرص وسائر الصفات فهو واسع وكل ذلك فهو إلى نهاية وإنما الواسع الحق هو الله تعالى
الحكيم
ذو الحكمة والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم وأجل الأشياء هو الله سبحانه وقد سبق أنه لا يعرف كنه معرفته غيره فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي الدائم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليه خفاء ولا شبهة ولا يتصف بذلك إلا علم الله سبحانه وتعالى وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيم وكمال ذلك أيضا ليس إلا لله تعالى فهو الحكيم الحق تنبيه
من عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله عز و جل لم يستحق أن يسمى حكيما لأنه لم يعرف أجل الأشياء وأفضلها والحكمة أجل العلوم وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم ولا أجل من الله عز و جل ومن عرف الله تعالى فهو حكيم وإن كان ضعيف الفطنة في سائر العلوم الرسمية كليل اللسان قاصر البيان فيها إلا أن نسبة حكمة العبد إلى حكمة الله تعالى كنسبة معرفته به إلى معرفته بذاته وشتان بين المعرفتين فشتان بين الحكمتين ولكنه مع بعده عنه فهو أنفس المعارف وأكثرها خيرا ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
نعم من عرف الله كان كلامه مخالفا لكلام غيره فإنه قلما يتعرض للجزئيات بل يكون كلامه كليا ولا يتعرض لمصالح العاجلة بل يتعرض لما ينفع في العاقبة ولما كان ذلك أظهر عند الناس من أحوال الحكيم من معرفته بالله عز و جل ربما أطلق الناس اسم الحكمة على مثل تلك الكلمات الكلية
ويقال للناطق بها حكيم

وذلك مثل قول سيد البشر صلاة الرحمن وسلامه عليه رأس الحكمة مخافة الله وقوله الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله وقوله عليه الصلاة و السلام ما قل وكفى خيرا مما كثر وألهى وقوله من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وقوله عليه أفضل الصلاة كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنعا تكن أشكر الناس وقوله البلاء موكل بالمنطق وقوله من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقوله السعيد من وعظ بغيره وقوله الصمت حكمة وقليل فاعله وقوله القناعة مال لا ينفد وقوله الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله فهذه

الكلمات وأمثالها تسمى حكمة وصاحبها يسمى حكيما

الودود
هو الذي يحب الخير لجميع الخلق فيحسن إليهم ويثني عليهم وهو قريب من معنى الرحيم لكن الرحمة إضافة إلى مرحوم والمرحوم هو المحتاج والمضطر وأفعال الرحيم تستدعي مرحوما ضعيفا وأفعال الودود لا تستدعي ذلك بل الإنعام على سبيل الابتداء من نتائج الود وكما أن معنى رحمته سبحانه وتعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له وهو منزه عن رقة الرحمة فكذلك وده إرادته الكرامة والنعمة وإحسانه وإنعامه وهو منزه عن ميل المودة والرحمة لكن المودة والرحمة لا تراد في حق المرحوم والمودود إلا لثمرتهما وفائدتهما لا للرقة والميل فالفائدة هي لباب الرحمة والمودة وروحهما وذلك هو المتصور في حق الله سبحانه وتعالى دون ما هو مقارن لهما وغير مشروط في الإفادة تنبيه
الودود من عباد الله من يريد لخلق الله كل ما يريده لنفسه وأعلى من ذلك من يؤثرهم على نفسه كمن قال منهم أريد أن أكون جسرا على النار يعبر علي الخلق ولا يتأذون بها وكمال ذلك أن لا يمنعه عن الإيثار والإحسان الغضب والحقد وما ناله من الأذى كما قال رسول الله حيث كسرت رباعيته وأدمي وجهه وضرب اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فلم يمنعه سوء صنيعهم عن إرادته الخير لهم وكما أمر عليا رضي الله عنه حيث

قال إن أردت أن تسبق المقربين فصل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك

المجيد
هو الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل عطاؤه ونوله فكأن شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجدا وهو الماجد أيضا ولكن أحدهما أدل على المبالغة وكأنه يجمع معاني اسم الجليل والوهاب والكريم وقد سبق الكلام فيها
الباعث
هو الذي يحيي الخلق يوم النشور ويبعث من في القبور ويحصل ما في الصدور والبعث هو النشأة الآخرة ومعرفة هذا الاسم موقوفة على معرفة حقيقة البعث وذلك من أغمض المعارف وأكثر الخلق منه على توهمات مجملة وتخيلات مبهمة وغايتهم فيه تخيلهم أن الموت عدم والبعث إيجاد مبتدأ بعد عدم مثل الإيجاد الأول فظنهم أن الموت عدم غلط وظنهم أن الإيجاد الثاني مثل الإيجاد الأول غلط
فأما ظنهم أن الموت عدم فهو باطل بل القبر إما حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنة والميت إما من السعداء وأولئك ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله 3 سورة آل عمران الآية 169 و 170 وإما من الأشقياء وهم أيضا أحياء ولذلك ناداهم رسول الله في وقعة بدر وقال إني وجدت ما وعدني ربي

حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ثم لما قيل له كيف تنادي قوما قد جيفوا قال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكنهم لا يقدرون أن يجيبوا والمشاهدة الباطنة دلت أرباب البصائر على أن الإنسان خلق للأبد وأنه لا سبيل عليه للعدم نعم تارة يقطع تصرفه عن الجسد فيقال مات وتارة يعاد إليه فيقال أحيي وبعث أي أحيي جسده وكشف ذلك بالحقيقة مما لا يحتمله هذا الكتاب
وأما ظنهم أن البعث ليس إيجادا ثانيا وهو مثل الإيجاد الأول فغير صحيح بل البعث إنشاء آخر لا يناسب الإنشاء الأول أصلا وللإنسان نشآت كثيرة وليست هي نشأتين فقط ولذلك قال تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون 56 سورة الواقعة الآية 61 ولذلك قال بعد خلق المضغة والعلقة وغير ذلك ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 23 سورة المؤمنين الآية 14 بل النطفة نشأة من التراب والعلقة نشأة من النطفة والمضغة نشأة من العلقة والروح نشأة من المضغة ولشرف نشأة الروح وجلالته وكونه أمرا ربانيا قال عند ذلك ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 23 سورة المؤمنون الآية 14 وقال تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي 17 سورة الإسراء الآية 85 ثم خلق الإدراكات الحسية بعد خلق أصل الروح نشأة أخرى ثم خلق التمييز الذي يظهر بعد سبع سنين نشأة أخرى ثم خلق العقل بعد خمس عشرة سنة وما يقاربها نشأة أخرى وكل نشأة طور وقد خلقكم أطوارا 71 سورة نوح الآية 14 ثم ظهور خاصية الولاية لمن رزق تلك الخاصية نشأة أخرى ثم ظهور خاصية النبوة بعد نشأة أخرى وهي

نوع من العبث والله سبحانه وتعالى باعث الرسل كما أنه الباعث يوم النشور
وكما أنه يعسر على ابن المهد فهم حقيقة التمييز قبل حصول التمييز ويعسر على المميز فهم حقيقة العقل وما ينكشف في طوره من العجائب قبل حصول العقل فكذلك يعسر فهم طور الولاية والنبوة في طور العقل فإن الولاية طور كمال وراء نشأة العقل كما أن العقل طور كمال وراء نشأة التمييز والتمييز طور كمال وراء نشأة الحواس وكما أن من طباع الناس إنكار ما لم يبلغوه ولم ينالوه حتى إن كل واحد ينكر ما لم يشاهده ولم يحصل له ولا يؤمن بما غاب عنه فمن طباعهم إنكار الولاية وعجائبها والنبوة وغرائبها بل من طباعهم إنكار النشأة الثانية والحياة الآخرة لأنهم لم يبلغوها بعد ولو عرض طور العقل وعالمه وما يظهر فيه من العجائب على المميز لأنكره وجحده وأحال وجوده فمن آمن بشيء مما لم يبلغه فقد آمن بالغيب وذلك هو مفتاح السعادات
وكما أن طور العقل وإدراكاته ونشأته بعيد المناسبة عن الإدراكات التي قبله فكذلك النشأة الآخرة بل أبعد فلا ينبغي أن تقاس النشأة الآخرة بالأولى وهذه النشآت هي أطوار ذات واحدة ومراقيها التي تصعد فيها إلى درجات الكمال حتى تقرب من الحضرة التي هي منتهى كل كمال وتكون عند الله عز و جل بين رد وقبول وحجاب ووصول فإن قبل رقي إلى أعلى العليين وإلا رد إلى أسفل السافلين والمقصود أن لا مناسبة بين النشأتين إلا من حيث الاسم ومن لم يعرف النشأة والبعث لم يعرف معنى اسم الباعث وشرح ذلك يطول فلنتجاوزه

تنبيه
حقيقة البعث ترجع إلى إحياء الموتى بإنشائهم نشأة أخرى والجهل هو الموت الأكبر والعلم هو الحياة الأشرف وقد ذكر الله سبحانه وتعالى العلم والجهل في كتابه العزيز وسماهما حياة وموتا ومن رقى غيره من الجهل إلى المعرفة فقد أنشأه نشأة أخرى وأحياه حياة طيبة فإن كان للعبد مدخل في إفادة الخلق العلم ودعائهم إلى الله تعالى فذلك نوع من الإحياء وهي رتبة الأنبياء ومن يرثهم من العلماء

الشهيد
يرجع معناه إلى العليم مع خصوص إضافة فإن الله عز و جل عالم الغيب والشهادة والغيب عبارة عما بطن والشهادة عما ظهر وهو الذي يشاهد فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم والكلام في هذا الاسم يقرب من الكلام في العليم والخبير فلا نعيده
الحق
هو في مقابلة الباطل والأشياء قد تستبان بأضدادها وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا وإما حق مطلقا وإما حق من وجه باطل من وجه فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا والواجب بذاته هو الحق مطلقا والممكن بذاته الواجب بغيره هو حق من وجه باطل من وجه فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل وهو من جهة غيره مستفيد للوجود فهو من هذا الوجه الذي يلي مفيد الوجود موجود فهو من ذلك الوجه حق ومن جهة نفسه باطل فلذلك قال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه 28 سورة

القصص الآية 88 وهو كذلك أزلا وأبدا ليس ذلك في حال دون حال لأن كل شيء سواه أزلا وأبدا من حيث ذاته لا يستحق الوجود ومن جهته يستحق فهو باطل بذاته حق بغيره وعند هذا تعرف أن الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يأخذ كل حق حقيقته
وقد يقال أيضا للمعقول الذي صادف به العقل الموجود حتى طابقه إنه حق فهو من حيث ذاته يسمى موجودا ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقا فإذا أحق الموجودات بأن يكون حقا هو الله تعالى وأحق المعارف بأن تكون حقا هيمعرفة الله عز و جل فإنه حق في نفسه أي مطابق للمعلوم أزلا وأبدا ومطابقته لذاته لا لغيره لا كالعلم بوجود غيره فإنه لا يكون إلا ما دام ذلك الغير موجودا فإذا عدم عاد ذلك الاعتقاد باطلا وذلك الاعتقاد أيضا لا يكون حقا لذات المعتقد لأنه ليس موجودا لذاته بل هو موجود لغيره
وقد يطلق ذلك على الأقوال فيقال قول حق وقول باطل وعلى ذلك فأحق الأقوال قولك لا إله إلا الله لأنه صادق أبدا وأزلا لذاته لا لغيره
فإذا يطلق الحق على الوجود في الأعيان وعلى الوجود في الأذهان وهو المعرفة وعلى الوجود الذي في اللسان وهو النطق فأحق الأشياء بأن يكون حقا هو الذي يكون وجوده ثابتا لذاته أزلا وأبدا ومعرفته حقا أزلا وأبدا والشهادة له حقا أزلا وأبدا وكل ذلك لذات الموجود الحقيقي لا لغيره تنبيه
حظ العبد من هذا الاسم أن يرى نفسه باطلا ولا يرى غير الله عز

وجل حقا والعبد إن كان حقا فليس حقا بنفسه بل هو حق بالله عز و جل فإنه موجود به لا بذاته بل هو بذاته باطل لولا إيجاد الحق له فقد أخطأ من قال أنا الحق إلا بأحد التأويلين
أحدهما أن يعني أنه بالحق وهذا التأويل بعيد لأن اللفظ لا ينبىء عنه ولأن ذلك لا يخصه بل كل شيء سوى الحق فهو بالحق
التأويل الثاني أن يكون مستغرقا بالحق حتى لا يكون فيه متسع لغيره وما أخذ كلية الشيء واستغرقه فقد يقال إنه هو كما يقول الشاعر
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
ويعني به الاستغراق
وأهل التصوف لما كان الغالب عليهم رؤية فناء أنفسهم من حيث ذاتهم كان الجاري على لسانهم من أسماء الله تعالى وفي أكثر الأقوال والأحوال هو الحق لأنهم يلحظون الذات الحقيقية دون ما هو هالك في نفسه
وأهل الكلام لما كانوا أبعد في مقام الاستدلال بالأفعال كان الجاري على لسانهم في الأكثر اسم البارئ الذي هو بمعنى الخالق
وأكثر الخلق يرون كل شيء سواه فيستشهدون عليه بما يرونه وهم المخاطبون بقوله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء 7 سورة الأعراف الآية 185
والصديقون لا يرون شيئا سواه فيستشهدون به عليه وهم المخاطبون بقوله تعالى أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد 41 سورة فصلت الآية 53

الوكيل
هو الموكول إليه الأمور ولكن الموكول إليه ينقسم إلى من يوكل إليه بعض الأمور وذلك ناقص وإلى من يوكل إليه الكل وليس ذلك إلا الله سبحانه وتعالى والموكول إليه ينقسم إلى من يستحق أن يكون موكولا إليه لا بذاته ولكن بالتفويض والتوكيل وهذا ناقص لأنه فقير إلى التفويض والتولية وإلى من يستحق بذاته أن تكون الأمور موكولة إليه والقلوب متوكلة عليه لا بتولية وتفويض من جهة غيره وذلك هو الوكيل المطلق والوكيل أيضا ينقسم إلى من يفي بما وكل إليه وفاء تاما من غير قصور وإلى من لا يفي بالجميع والوكيل المطلق هو الذي الأمور موكولة إليه وهو ملي بالقيام بها وفي بإتمامها وذلك هو الله تعالى فقط وقد فهمت من هذا مقدار مدخل العبد في معنى هذا الاسم
القوي المتين
القوة تدل على القدرة التامة والمتانة تدل على شدة القوة والله سبحانه وتعالى من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوي ومن حيث إنه شديدة القوة متين وذلك يرجع إلى معاني القدرة وسيأتي ذلك
الولي
هو المحب الناصر ومعنى وده ومحبته قد سبق ومعنى نصرته ظاهر فإنه يقمع أعداء الدين وينصر أولياءه قال الله سبحانه وتعالى الله ولي الذين آمنوا وقال تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم

محمد الآية 11 أي لا ناصر لهم وقال عز و جل كتب الله لأغلبن أنا ورسلي 58 سورة المجادلة الآية 21 تنبيه
الولي من العباد من يحب الله عز و جل ويحب أولياءه وينصره وينصر أولياءه ويعادي أعداءه ومن أعدائه النفس والشيطان فمن خذلهما ونصر أمر الله تعالى ووالى أولياء الله وعادى أعداءه فهو الولي من العباد

الحميد
هو المحمود المثنى عليه والله عز و جل هو الحميد بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدا ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلو والكمال منسوبا إلى ذكر الذاكرين له فإن الحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال تنبيه
الحميد من العباد من حمدت عقائده وأخلاقه وأعماله وأقواله كلها من غير مثنوية وذاك هو محمد ومن يقرب منه من الأنبياء ومن عداهم من الأولياء والعلماء وكل واحد منهم حميد بقدر ما يحمد من عقائده وأخلاقه وأعماله وأقواله وإذا كان لا يخلو أحد عن مذمة ونقص وإن كثرت محامده فالحميد المطلق هو الله تعالى
المحصي
هو العالم ولكن إذا أضيف العلم إلى المعلومات من حيث يحصي

المعلومات ويعدها ويحيط بها سمي إحصاء والمحصي المطلق هو الذي ينكشف في علمه حد كل معلوم وعدده ومبلغه
والعبد وإن أمكنه أن يحصي بعلمه بعض المعلومات فإنه يعجز عن حصر أكثرها فمدخله في هذا الاسم ضعيف كمدخله في أصل العلم

المبدئ المعيد
معناه الموجد لكن الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمي إبداء وإذا كان مسبوقا بمثله سمي إعادة والله سبحانه وتعالى بدأ خلق الناس ثم هو الذي يعيدهم أي يحشرهم والأشياء كلها منه بدأت وإليه تعود وبه بدأت وبه تعود
المحيي المميت
هذا أيضا يرجع إلى الإيجاد ولكن الموجود إذ كان هو الحياة سمي فعله إحياء وإذا كان هو الموت سمي فعله إماتة ولا خالق للموت والحياة إلا الله سبحانه وتعالى فلا مميت ولا محيي إلا الله عز و جل وقد سبقت الإشارة إلى معنى الحياة في اسم الباعث فلا نعيده
الحي
هو الفعال الدراك حتى إن من لا فعل له أصلا ولا إدراك فهو ميت وأقل درجات الإدراك أن يشعر المدرك بنفسه فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت فالحي الكامل المطلق هو الذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه وجميع الموجودات تحت فعله حتى لا يشذ عن علمه مدرك ولا عن فعله مفعول وذلك الله عز و جل فهو الحي المطلق وكل حي سواه

فحياته بقدر إدراكه وفعله وكل ذلك محصور في قلة ثم إن الأحياء يتفاوتون فيه فمراتبهم بقدر تفاوتهم كما سبقت الإشارة إليه في مراتب الملائكة والإنس والبهائم

القيوم
اعلم أن الأشياء تنقسم إلى ما يفتقر إلى محل كالأغراض والأوصاف فيقال فيها إنها ليست قائمة بأنفسها وإلى ما يحتاج إلى محل فيقال إنه قائم بنفسه كالجواهر إلا أن الجوهر وإن قام بنفسه مستغنيا عن محل يقوم به فليس مستغنيا عن أمور لا بد منها لوجوده وتكون شرطا في وجوده فلا يكون قائما بنفسه لأنه يحتاج في قوامه إلى وجود غيره وإن لم يحتج إلى محل
فإن كان في الوجود موجود يكفي ذاته بذاته ولا قوام له بغيره ولا يشترط في دوام وجوده وجود غيره فهو القائم بنفسه مطلقا فإن كان مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به فهو القيوم لأن قوامه بذاته وقوام كل شيء به وليس ذلك إلا الله سبحانه وتعالى
ومدخل العبد في هذا الوصف بقدر استغنائه عما سوى الله تعالى
الواجد
هو الذي لا يعوزه شيء وهو في مقابلة الفاقد ولعل من فاته ما لا حاجة به إلى وجوده لا يسمى فاقدا والذي يحضره ما لا تعلق له بذاته ولا بكمال ذاته لا يسمى واجدا بل الواجد من لا يعوزه شيء مما لا بد منه وكل ما لا بد منه في صفات الإلهية وكمالها فهو موجود لله سبحانه وتعالى فهو بهذا

الاعتبار واجد وهو الواجد المطلق ومن عداه إن كان واجدا لشيء من صفات الكمال وأسبابه فهو فاقد لأشياء فلا يكون واجدا إلا بالإضافة

الماجد
بمعنى المجيد كالعالم بمعنى العليم لكن الفعيل أكثر مبالغة وقد سبق معناه
الواحد
هو الذي لا يتجرأ ولا يثنى
أما الذي لا يتجزأ فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فيقال إنه واحد بمعنى أنه لا جزء له وكذا النقطة لا جزء لها والله تعالى واحد بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته
وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلا فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم متجزئة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن أن يكون لها نظير فإن كان في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفردا لا يتصور أن يشاركه غيره فيه أصلا فهو الواحد المطلق أزلا وأبدا
والعبد إنما يكون واحدا إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى
الصمد
هو الذي يصمد إليه في الحوائج ويقصد إليه في الرغائب إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على يده ولسانه حوائج خلقه فقد أنعم عليه بحظ من معنى هذا الوصف لكن الصمد المطلق هو الذي يقصد إليه في جميع الحوائج وهو الله سبحانه وتعالى
القادر المقتدر
معناهما ذو القدرة لكن المقتدر أكثر مبالغة والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء متقدرا بتقدير الإرادة والعلم واقعا على وفقهما والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وليس من شرطه أن يشاء لا محالة فإن الله قادر على إقامة القيامة الآن لأنه لو شاء أقامها فإن كان لا يقيمها لأنه لم يشأها ولا يشاؤها لما جرى في سابق علمه من تقدير أجلها ووقتها فلذلك لا يقدح في القدرة والقادر المطلق هو الذي يخترع كل موجود اختراعا يتفرد به ويستغني فيه عن معاونة غيره وهو الله تعالى
وأما العبد فله قدرة على الجملة ولكنها ناقصة إذ لا يتناول إلا بعض الممكنات ولا يصلح للاختراع بل الله تعالى هو المخترع لمقدورات العبد بواسطة قدرته مهما هيأ له جميع أسباب الوجود لمقدوره وتحت هذا غور لا يحتمل مثل هذا الكتاب كشفه
المقدم والمؤخر
هو الذي يقرب ويبعد ومن قربه فقد قدمه ومن أبعده فقد أخره وقد قدم أنبياءه وأولياءه بتقريبهم وهدايتهم وأخر أعداءه بإبعادهم وضرب الحجاب بينه وبينهم والملك إذا قرب شخصين مثلا ولكن جعل أحدهما أقرب إلى نفسه يقال قدمه أي جعله قدام غيره

والقدام تارة يكون في المكان وتارة يكون في الرتبة وهو مضاف لا محالة إلى متأخر عنه ولا بد فيه من مقصد هو الغاية بالإضافة إليه يتقدم ما يتقدم ويتأخر ما يتأخر والمقصد هو الله سبحانه وتعالى والمقدم عند الله تعالى هو المقرب فقد قدم الملائكة ثم الأنبياء ثم الأولياء ثم العلماء وكل متأخر فهو مؤخر بالإضافة إلى ما قبله مقدم بالإضافة إلى ما بعده والله سبحانه وتعالى هو المقدم والمؤخر لأنك إذا أحلت تقدمهم وتأخرهم على توفيرهم وتقصيرهم وكمالهم في الصفات ونقصهم فمن الذي حملهم على التوفير بالعلم والعبادة بإثارة دواعيهم ومن الذي حملهم على التقصير بصرف دواعيهم إلى ضد الصراط المستقيم وذلك كله من الله تعالى فهو المقدم والمؤخر والمراد هو التقديم والتأخير في الرتبة وفيه إشارة إلى أنه لم يتقدم من تقدم بعلمه وعمله بل بتقديم الله عز و جل إياه وكذلك المتأخر وقد صرح بذلك قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون 21 سورة الأنبياء الآية 101 وقوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم 32 سورة السجدة الآية 13 تنبيه
حظ العبد من صفات الأفعال ظاهر فلذلك قد لا نشتغل بإعادته في كل اسم حذرا من التطويل إذ فيما ذكرناه تعريف لطريق الكلام

الأول والآخر
اعلم أن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولا وآخرا جميعا بل إذا نظرت إلى

ترتيب الوجود ولاحظت سلسلة الموجودات المترتبة فالله تعالى بالإضافة إليها أول إذ الموجودات كلها استفادت الوجود منه وأما هو فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره
ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت مراتب منازل السائرين إليه فهو آخر إذ هو آخر ما يرتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته والمنزل الأقصى هو معرفة الله سبحانه وتعالى فهو آخر بالإضافة إلى السلوك أول بالإضافة إلى الوجود فمنه المبدأ أولا وإليه المرجع والمصير آخرا

الظاهر الباطن
هذان الوصفان أيضا من المضافات فإن الظاهر يكون ظاهرا لشيء وباطنا لشيء ولا يكون من وجه واحد ظاهرا وباطنا بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله سبحانه وتعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانةالعقل بطريق الاستدلال فإن قلت أما كونه باطنا بالإضافة إلى إدراك الحواس فظاهر وأما كونه ظاهرا للعقل فغامض إذ الظاهر ما لا يتمارى فيه ولا يختلف الناس في إدراكه وهذا مما قد وقع فيه الريب الكثير للخلق فكيف يكون ظاهرا فاعلم أنه إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره فظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره وكل ما جاوز حده انعكس على ضده
ولعلك تتعجب من هذا الكلام وتستبعده ولا تفهمه إلا بمثال
فأقول لو نظرت إلى كلمة واحدة كتبها كاتب لاستدللت بها على كون الكاتب عالما قادرا سميعا بصيرا واستفدت منه اليقين بوجود هذه

الصفات بل لو رأيت كلمة مكتوبة لحصل لك يقين قاطع بوجود كاتب لها عالم قادر سميع بصير حي ولم يدل عليه إلا صورة كلمة واحدة وكما تشهد هذه الكلمة شهادة قاطعة بصفات الكاتب فما من ذرة في السموات والأرض من فلك وكوكب وشمس وقمر وحيوان ونبات وصفة وموصوف إلا وهي شاهدة على نفسها بالحاجة إلى مدبر دبرها وقدرها وخصصها بخصوص صفاتها بل لا ينظر الإنسان إلى عضو من أعضاء نفسه وجزء من أجزائه ظاهرا وباطنا بل إلى صفة من صفاته وحالة من حالاته التي تجري عليه قهرا بغير اختياره إلا ويراها ناطقة بالشهادة لخالقها وقاهرها ومدبرها وكذلك كل ما يدركه بجميع حواسه في ذاته وخارجا من ذاته
ولو كانت الأشياء مختلفة في الشهادة يشهد بعضها ولا يشهد بعضها لكان اليقين حاصلا للجميع ولكن لما كثرت الشهادات حتى اتفقت خفيت وغمضت لشدة الظهور ومثاله أن أظهر الأشياء ما يدرك بالحواس وأظهرها ما يدرك بحاسة البصر وأظهر ما يدرك بحاسة البصر نور الشمس المشرق على الأجسام الذي به يظهر كل شيء فما به يظهر كل شيء كيف لا يكون ظاهرا
وقد أشكل ذلك على خلق كثير حتى قالوا الأشياء الملونة ليس فيها إلا ألوانها فقط من سواد وحمرة فأما أن يكون فيها مع اللون ضوء ونور مقارن للون فلا وهؤلاء إنما نبهوا على قيام النور بالمتلونات بالتفرقة التي يدركونها بين الظل وموضع النور وبين الليل والنهار فإن الشمس لما تصور غيبتها بالليل واحتجابها بالأجسام المظلمة بالنهار انقطع أثرها عن المتلونات فأدركت التفرقة بين المتأثر المستضيء بها وبين المظلم المحجوب عنها فعرف وجود النور بعدم النور إذا أضيف حالة العدم إلى حالة الوجود فأدركت التفرقة مع بقاء الألوان في الحالتين ولو أطبق نور الشمس كل الأجسام الظاهرة لشخص ولم تغب الشمس حتى يدرك التفرقة لتعذر عليه معرفة كون النور

شيئا موجودا زائدا على الألوان مع أنه أظهر الأشياء بل هو الذي به يظهر جميع الأشياء
ولو تصور لله تعالى وتقدس عدم أو غيبة عن بعض الأمور لانهدت السموات والأرض وكل ما انقطع نوره عنه ولأدركت التفرقة بين الحالتين وعلم وجوده قطعا ولكن لما كانت الأشياء كلها متفقة في الشهادة والأحوال كلها مطردة على نسق واحد كان ذلك سببا لخفائه فسبحان من احتجب عن الخلق بنوره وخفي عليهم بشدة ظهوره فهو الظاهر الذي لا أظهر منه وهو الباطن الذي لا أبطن منه تنبيه
لا تتعجبن من هذا في صفات الله تعالى وتقدس فإن المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن فإنه ظاهر إن استدل عليه بأفعاله المرتبة المحكمة باطن إن طلب من إدراك الحس فإن الحس إنما يتعلق بظاهر بشرته وليس الإنسان إنسانا بالبشرة المرئية منه بل لو تبدلت تلك البشرة بل سائر أجزائه فهو هو والأجزاء متبدلة ولعل أجزاء كل إنسان بعد كبره غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره فإنها تحللت بطول الزمان وتبدلت بأمثالها بطريق الاغتذاء وهويته لم تتبدل فتلك الهوية باطنة عن الحواس ظاهرة للعقل بطريق الاستدلال عليها بآثارها وأفعالها

البر
هو المحسن والبر المطلق هو الذي منه كل مبرة وإحسان والعبد إنما يكون برا بقدر ما يتعاطاه من البر ولا سيما بوالديه وأستاذه وشيوخه
روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه رأى رجلا قائما عند ساق

العرش فتعجب من علو مكانه فقال يا رب بم بلغ هذا العبد هذا المحل فقال إنه كان لا يحسد عبدا من عبادي على ما آتيته وكان بارا بوالديه هذا بر العبد فأما تفصيل بر الله تعالى وإحسانه إلى خلقه فيطول شرحه وفي بعض ما ذكرناه ما ينبه عليه

التواب
هو الذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما يظهر لهم من آياته ويسوق إليهم من تنبيهاته ويطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه فرجعوا إلى التوبة فرجع إليهم فصل الله تعالى بالقبول تنبيه
من قبل معاذير المجرمين من رعاياه وأصدقائه ومعارفه مرة بعد أخرى فقد تخلق بهذا الخلق وأخذ منه نصيبا
المنتقم
هو الذي يقصم ظهور العتاة وينكل بالجناة ويشدد العقاب على الطغاة وذلك بعد الإعذار والإنذار وبعد التمكين والإمهال وهو أشد للانتقام من المعاجلة بالعقوبة فإنه إذا عوجل بالعقوبة لم يمعن في المعصية فلم يستوجب غاية النكال في العقوبة تنبيه
المحمود من انتقام العبد أن ينتقم من أعداء الله تعالى وأعدى الأعداء

نفسه وحقه أن ينتقم منها مهما قارفت معصية أو أخلت بعبادة كما نقل عن أبي يزيد رحمه الله أنه قال تكاسلت نفسي علي في بعض الليالي عن بعض الأوراد فعاقبتها بأن منعتها الماء سنة فهكذا ينبغي أن يسلك سبيل الانتقام

العفو
هو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو قريب من الغفور ولكنه أبلغ منه فإن الغفران ينبئ عن الستر والعفو ينبئ عن المحو والمحو أبلغ من الستر تنبيه
وحظ العبد من ذلك لا يخفى وهو أن يعفو عن كل من ظلمه بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسنا في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة بل ربما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم وإذا تاب عليهم محا سيئاتهم إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له وهذا غاية المحو للجناية
الرؤوف
ذو الرأفة والرأفة شدة الرحمة فهو بمعنى الرحيم مع المبالغة فيه وقد سبق الكلام عليه
مالك الملك
هو الذي ينفذ مشيئته في مملكته كيف شاء وكما شاء إيجادا وإعداما وإبقاء وإفناء والملك هاهنا بمعنى المملكة والمالك بمعنى القادر التام

القدرة والموجودات كلها مملكة واحدة وهو مالكها وقادرها وإنما كانت الموجودات كلها مملكة واحدة لأنها مرتبطة بعضها ببعض فإنها وإن كانت كثيرة من وجه فلها وحدة من وجه ومثاله بدن الإنسان فإنه مملكة لحقيقة الإنسان وهي أعضاء كثيرة مختلفة ولكنها كالمتعاونة على تحقيق غرض مدبر واحد فكانت مملكة واحدة فكذلك العالم كله كشخص واحد وأجزاء العالم كأعضائه وهي متعاونة على مقصود واحد وهو إتمام غاية الخير الممكن وجوده على ما اقتضاه الجود الإلهي ولأجل انتظامها على ترتيب متسق وارتباطها برابطة واحدة كانت مملكة واحدة والله تعالى مالكها فقط
ومملكة كل عبد بدنه خاصة فإذا نفذت مشيئته في صفات قلبه وجوارحه فهو مالك مملكة نفسه بقدر ما أعطي من القدرة عليها

ذو الجلال والإكرام
هو الذي لا جلال ولا كمال إلا وهو له ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه فالجلال له في ذاته والكرامة فائضة منه على خلقه وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر وتتناهى وعليه دل قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم 17 سورة الإسراء الآية 70
الوالي
هو الذي دبر أمور الخلق ووليها أي تولاها وكان مليا بولايتها وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل وما لم يجتمع جميع ذلك فيه لم ينطلق اسم الوالي عليه ولا والي للأمور إلا الله سبحانه وتعالى فإنه المتفرد بتدبيرها أولا والمنفذ للتدبير بالتحقيق ثانيا والقائم عليها بالإدامة والإبقاء ثالثا
المتعالي
بمعنى العلي مع نوع من المبالغة وقد سبق معناه
المقسط
هو الذي ينتصف للمظلوم من الظالم وكما له في أن يضيف إلى إرضاء المظلوم إرضاء الظالم وذلك غاية العدل والإنصاف ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى
ومثاله ما روي عن النبي أنه بينما هو جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أضحكك قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من هذا فقال الله عز و جل رد على أخيك مظلمته فقال يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء فقال عز و جل للطالب كيف تصنع بأخيك لم يبق من حسناته شيء فقال يا رب فليحمل عني من أوزاري ثم فاضت عينا رسول الله بالبكاء وقال إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم قال فيقول الله عز و جل للمتظلم ارفع بصرك فانظر في الجنان فقال يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق أو لأي شهيد قال الله عز و جل هذا لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملكه قال بماذا يا رب قال بعفوك عن أخيك قال يا رب قد عفوت عنه قال الله عز و جل خذ بيد أخيك فأدخله الجنة ثم قال اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تبارك وتعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة

فهذا سبيل الانتصاف والإنصاف ولا يقدر على مثله إلا رب الأرباب وأوفر العباد حظا من هذا الاسم من ينتصف أولا من نفسه ثم لغيره من غيره ولا ينتصف لنفسه من غيره

الجامع
هو المؤلف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادات
أما جمع الله المتماثلات فكجمعه الخلق الكثير من الإنس على ظهر الأرض وكحشره إياهم في صعيد القيامة
وأما المتباينات فكجمعه بين السموات والكواكب والهواء والأرض والبحار والحيوانات والنبات والمعادن المختلفة كل ذلك متباين الأشكال والألوان والطعوم والأوصاف وقد جمعها في الأرض وجمع بين الكل في العالم وكذلك جمعه بين العظم والعصب والعرق والعضلة والمخ والبشرة والدم وسائر الأخلاط في بدن الحيوان
وأما المتضادات فكجمعه بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في أمزجة الحيوانات وهي متنافرات متعاديات وذلك أبلغ وجوه الجمع
وتفصيل جمعه لا يعرفه إلا من يعرف تفصيل مجموعاته في الدنيا والآخرة وكل ذلك مما يطول شرحه تنبيه
الجامع من العباد من جمع بين الآداب الظاهرة في الجوارح وبين الحقائق الباطنة في القلوب فمن كملت معرفته وحسنت سيرته فهو الجامع ولذلك قيل الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه وكان الجمع بين الصبر

والبصيرة متعذر لذلك ترى صبورا على الزهد والورع لا بصيرة له وترى ذا بصيرة لا صبر له والجامع من جمع بين الصبر والبصيرة والسلام

الغني المغني
الغني هو الذي لا تعلق له بغيره لا في ذاته ولا في صفات ذاته بل يكون منزها عن العلاقة مع الأغيار فمن تتعلق ذاته أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يتوقف عليه وجوده أو كماله فهو فقير محتاج إلى الكسب ولا يتصور ذلك إلا لله سبحانه وتعالى
والله عز و جل هو المغني أيضا ولكن الذي أغناه لا يتصور أن يصير بإغنائه غنيا مطلقا فإن أقل أموره أنه محتاج إلى المغني فلا يكون غنيا بل يستغني عن غير الله بأن يمده بما يحتاج إليه لا بأن يقطع عنه أصل الحاجة والغني الحقيقي هو الذي لا حاجة له إلى أحد أصلا والذي يحتاج ومعه ما يحتاج فهو غني بالمجاز وهو غاية ما يدخل في الإمكان في حق غير الله سبحانه وتعالى
وأما فقد الحاجة فلا ولكن إذا لم يبق حاجة إلا إلى الله تعالى سمي غنيا ولو لم يبق له أصل الحاجة لما صح قوله تعالى والله الغني وأنتم الفقراء 47 سورة محمد الآية 38 ولولا أنه يتصور أن يستغني عن كل شيء سوى الله عز و جل لما صح لله تعالى وصف المغني
المانع
هو الذي يرد أسباب الهلاك والنقصان في الأديان والأبدان بما يخلقه من الأسباب المعدة للحفظ وقد سبق معنى الحفيظ وكل حفظ فمن ضرورته

منع ودفع فمن فهم معنى الحفيظ فهم معنى المانع والمنع إضافة إلى السبب المهلك والحفظ إضافة إلى المحروس عن الهلاك وهو مقصود المنع وغايته إذ المنع يراد للحفظ والحفظ لا يراد للمنع فكل حافظ مانع وليس كل مانع حافظا إلا إذا كان مانعا مطلقا لجميع أسباب الهلاك والنقص حتى يحصل الحفظ من ضرورته

الضار النافع
هو الذي يصدر منه الخير والشر والنفع والضر وكل ذلك منسوب إلى الله تعالى إما بواسطة الملائكة والإنس والجمادات أو بغير واسطة فلا تظنن أن السم يقتل ويضر بنفسه وأن الطعام يشبع وينفع بنفسه وأن الملك والإنسان والشيطان أو شيئا من المخلوقات من فلك أو كوكب أو غيرهما يقدر على خير أو شر أو نفع أو ضر بنفسه بل كل ذلك أسباب مسخرة لا يصدر منها إلا ما سخرت له
وجملة ذلك بالإضافة إلى القدرة الأزلية كالقلم بالإضافة إلى الكاتب في اعتقاد العامي وكما أن السلطان إذا وقع بكرامة أو عقوبة لم ير ضرر ذلك ولا نفعه من القلم بل من الذي القلم مسخر له فكذلك سائر الوسائط والأسباب وإنما قلنا في اعتقاد العامي لأن الجاهل هو الذي يرى القلم مسخرا للكاتب والعارف يعلم أنه مسخر في يده لله سبحانه وتعالى وهو الذي الكاتب مسخر له فإنه مهما خلق الكاتب وخلق له القدرة وسلط القدرة وسلط عليه الداعية الجازمة التي لا تردد فيها صدر منه حركة الأصابع والقلم لا محالة شاء أم أبى بل لا يمكنه أن لا يشاء فإذا الكاتب بقلم الإنسان ويده هو الله تعالى وإذا عرفت هذا في الحيوان المختار فهو في الجماد أظهر
النور
هو الظاهر الذي به كل ظهور فإن الظاهر في نفسه المظهر لغيره يسمى نورا ومهما قوبل الوجود بالعدم كان الظهور لا محالة للوجود ولا ظلام أظلم من العدم فالبريء عن ظلمة العدم بل عن إمكان العدم المخرج كل الأشياء من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود جدير بأن يسمى نورا والوجود نور فائض على الأشياء كلها من نور ذاته فهو نور السموات والأرض وكما أنه لا ذرة من نور الشمس إلا وهي دالة على وجود الشمس المنورة فلا ذرة من موجودات السموات والأرض وما بينهما إلا وهي بجواز وجودها دالة على وجوب وجود موجدها وما ذكرناه في معنى الظاهر يفهمك معنى النور ويغنيك عن التعسفات المذكورة في معناه
الهادي
هو الذي هدى خواص عباده أولا إلى معرفة ذاته حتى استشهدوا بها على الأشياء وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته حتى استشهدوا بها على ذاته وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في قضاء حاجاته فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله والفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه وأحواها وأبعدها عن أن يتخللها فرج ضائعة وشرح ذلك يطول وعنه عبر قوله تعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى 20 سورة طه الآية50 وقال تعالى والذي قدر فهدى 87 سورة الأعلى الآية 3
والهداة من العباد الأنبياء والعلماء الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الأخروية وهدوهم إلى صراط الله المستقيم بل الله الهادي لهم على ألسنتهم وهم مسخرون تحت قدرته وتدبيره
البديع
هو الذي لا عهد بمثله فإن لم يكن بمثله عهد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في كل أمر راجع إليه فهو البديع المطلق وإن كان شيء من ذلك معهودا فليس ببديع مطلق ولا يليق هذا الاسم مطلقا إلا بالله سبحانه وتعالى فإنه ليس له قبل فيكون مثله معهودا قبله وكل موجود بعده فحاصل بإيجاده وهو غير مناسب لموجده فهو بديع أزلا وأبدا
وكل عبد اختص بخاصية في النبوة أو الولاية أو العلم لم يعهد مثلها إما في سائر الأوقات وإما في عصره فهو بديع بالإضافة إلى ما هو منفرد به وفي الوقت الذي هو منفرد فيه
الباقي
هو الموجود الواجب وجوده بذاته ولكنه إذا أضيف في الذهن إلى الاستقبال سمي باقيا وإذا أضيف إلى الماضي سمي قديما والباقي المطلق هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ويعبر عنه بأنه أبدي
والقديم المطلق هو الذي لا ينتهي تمادي وجوده في الماضي إلى أول ويعبر عنه بأنه أزلي وقولك واجب الوجود بذاته متضمن لجميع ذلك وإنما هذه الأسامي بحسب إضافة هذا الوجود في الذهن إلى الماضي والمستقبل
وإنما يدخل في الماضي والمستقبل المتغيرات لأنهما عبارتان عن الزمان ولا يدخل في الزمان إلا التغير والحركة إذ الحركة إنما تنقسم إلى ماض ومستقبل والمتغير يدخل في الزمان بواسطة التغير فما جل عن التغير والحركة فليس في زمان فليس فيه ماض ومستقبل فلا ينفصل فيه القدم عن البقاء بل الماضي والمستقبل إنما يكون لنا إذ مضى علينا وفينا أمور وستتجدد أمور ولا بد من أمور تحدث شيئا بعد شيء حتى تنقسم إلى ماض قد انعدم وانقطع وإلى راهن حاضر وإلى ما يتوقع تجدده من بعد فحيث لا تجدد ولا انقضاء فلا زمان

وكيف لا والحق سبحانه وتعالى قبل الزمان وحيث خلق الزمان لم يتغير من ذاته شيء وقبل خلق الزمان لم يكن للزمان عليه جريان وبقي بعد خلق الزمان على ما عليه كان ولقد أبعد من قال البقاء صفة زائدة على ذات الباقي وأبعد منه من قال القدم وصف زائد على ذات القديم وناهيك برهانا على فساده ما لزمه من الخبط في بقاء البقاء وبقاء الصفات وقدم القدم وقدم الصفات

الوارث
هو الذي يرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك وذلك هو الله سبحانه وتعالى إذ هو الباقي بعد فناء الخلق وإليه مرجع كل شيء ومصيره وهو القائل إذ ذاك لمن الملك اليوم 40 سورة غافر الآية 16 وهو المجيب لله الواحد القهار 40 سورة غافر الآية 16 وهذا بحسب ظن الأكثرين إذ يظنون لأنفسهم ملكا وملكا فينكشف لهم ذلك اليوم حقيقة الحال وهذا النداء عبارة عن حقيقة ما ينكشف لهم في ذلك الوقت
فأما أرباب البصائر فإنهم أبدا مشاهدون لمعنى هذا النداء سامعون له من غير صوت ولا حرف موقنون بأن الملك لله الواحد القهار في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة وكذلك كان أزلا وأبدا وهذا إنما يدركه من أدرك حقيقة التوحيد في الفعل وعلم أن المنفرد بالفعل في الملك والملكوت واحد وقد أشرنا إلى ذلك في أول كتاب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فليطلب منه فإن هذا الكتاب لا يحتمله
الرشيد
هو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سنن السداد من غير إشارة مشير وتسديد مسدد وإرشاد مرشد وهو الله سبحانه وتعالى

ورشد كل عبد بقدر هدايته في تدابيره إلى ما يشاكل الصواب من مقاصده ودينه ودنياه

الصبور
هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه بل ينزل الأمور بقدر معلوم ويجريها على سنن محدود لا يؤخرها على آجالها المقدورة لها تأخير متكاسل ولا يقدمها على أوقاتها تقديم مستعجل بل يودع كل شيء في أوانه على الوجه الذي يجب أن يكون وكما ينبغي وكل ذلك من غير مقاساة داع على مضادة الإرادة
وأما صبر العبد فلا يخلو عن مقاساة لأن معنى صبره هو ثبات داعي الدين أو العقل في مقابلة داعي الشهوة أو الغضب فإذا تجاذبه داعيان متضادان فدفع الداعي إلى الإقدام والمبادرة ومال إلى باعث التأخير سمي صبورا إذ جعل باعث العجلة مقهورا وباعث العجلة في حق الله سبحانه معدوم فهو أبعد عن العجلة ممن باعثه موجود ولكنه مقهور فهو أحق بهذا الاسم بعد أن أخرجت عن الاعتبار تناقض البواعث ومصابرتها بطريق المجاهدة
خاتمة لهذا الفصل واعتذار
اعلم أنه إنما حملني على ذكر هذه التنبيهات ردف هذه الأسامي والصفات قول رسول الله تخلقوا بأخلاق الله تعالى وقوله عليه الصلاة و السلام إن لله كذا وكذا خلقا من تخلق بواحد منها دخل الجنة وما تداولته ألسنة الصوفية من كلمات تشير إلى ما ذكرناه لكن على وجه يوهم عند غير المحصل شيئا من معنى الحلول والاتحاد وذلك غير مظنون بعاقل فضلا عن المتميزين بخصائص المكاشفات ولقد سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي يحكي عن شيخه أبي القاسم الكركاني قدس الله روحهما أنه قال إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك وهو بعد في السلوك غير واصل وهذا الذي ذكره إن أراد به شيئا يناسب ما أوردناه فهو صحيح ولا يظن به إلا ذلك ويكون في اللفظ نوع من التوسع والاستعارة فإن معاني الأسماء هي صفات الله تعالى وصفاته لا تصير صفة لغيره ولكن معناه أنه يحصل له ما يناسب تلك الأوصاف كما يقال فلان حصل علم أستاذه وعلم الأستاذ لا يحصل للتلميذ بل يحصل له مثل علمه
وإن ظن ظان أن المراد به ليس ما ذكرناه فهو باطل قطعا فإني أقول قول القائل إن معاني أسماء الله سبحانه وتعالى صارت أوصافا له لا يخلو إما أن يعني به عين تلك الصفات أو مثلها فإن عنى به مثلها فلا يخلو إما عنى به مثلها مطلقا من كل وجه وإما أنه عنى به مثلها من حيث الاسم والمشاركة في

عموم الصفات دون خواص المعاني فهذان قسمان وإن عنى به عينها فلا يخلو إما أن يكون بطريق انتقال الصفات من الرب إلى العبد أو لا انتقال فإن لم يكن بالانتقال فلا يخلو إما أن يكون باتحاد ذات العبد بذات الرب حتى يكون هو هو فتكون صفاته وإما أن يكون بطريق الحلول وهذه أقسام ثلاثة وهو الانتقال والاتحاد والحلول وقسمان مقدمان
فهذه خمسة أقسام الصحيح منها قسم واحد وهو أن يثبت للعبد من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم ولكن لا تماثلها مماثلة تامة كما ذكرناه في التنبيهات
وأما القسم الثاني وهو أن يثبت له أمثالها على التحقيق فمحال فإن من جملته أن يكون له علم محيط بجميع المعلومات حتى لا يعزب عنه ذرة في الأرض ولا في السموات وأن يكون له قدرة واحدة تشمل جميع المخلوقات حتى يكون هو بها خالق الأرض والسموات وما بينهما وكيف يتصور هذا لغير الله تعالى وكيف يكون العبد خالق السموات والأرض وما بينها وهو من جملة ما بينهما فكيف يكون خالق نفسه ثم إن ثبتت هذه الصفات لعبدين يكون كل واحد منهما خالق صاحبه فيكون كل واحد خالقا من خلقه وكل ذلك ترهات ومحالات
وأما القسم الثالث وهو انتقال عين صفات الربوبية فهو أيضا محال لأن الصفات يستحيل مفارقتها للموصوفات وهذا لا يختص بالذات القديمة بل لا يتصور أن ينتقل عين علم زيد إلى عمرو بل لا قيام للصفات إلا بخصوص الموصوفات ولأن الانتقال يوجب فراغ المنتقل عنه فيوجب أن تعرى الذات التي عنها انتقال الصفات الربوبية فتعرى عن الربوبية وصفاتها وذلك أيضا ظاهر الاستحالة

وأما القسم الرابع وهو الاتحاد فذلك أيضا أظهر بطلانا لأن قول القائل إن العبد صار هو الرب كلام متناقض في نفسه بل ينبغي أن ينزه الرب سبحانه وتعالى عن أن يجري اللسان في حقه بأمثال هذه المحالات ونقول قولا مطلقا إن قول القائل إن شيئا صار شيئا آخر محال على الإطلاق لأنا نقول إذا عقل زيد وحده وعمرو وحده ثم قيل إن زيدا صار عمروا واتحد به فلا يخلو عند الاتحاد إما أن يكون كلاهما موجودين أو كلاهما معدومين أو زيد موجودا وعمرو معدوما أو بالعكس ولا يمكن قسم وراء هذه الأربعة
فإن كانا موجودين فلم يصر عين أحدهما عين الآخر بل عين كل واحد منهما موجود وإنما الغاية أن يتحد مكانهما وذلك لا يوجب الاتحاد فإن العلم والإرادة والقدرة قد تجتمع في ذات واحدة ولا تتباين محالها ولا تكون القدرة هي العلم ولا الإرادة ولا يكون قد اتحد البعض بالبعض
وإن كان معدومين فما اتحدا بل عدما ولعل الحادث شيء ثالث
وإن كان أحدهما معدوما والآخر موجودا فلا اتحاد إذ لا يتحد موجود بمعدوم
فالاتحاد بين شيئين مطلقا محال وهذا جار في الذوات المتماثلة فضلا عن المختلفة فإنه يستحيل أن يصير هذا السواد ذاك السواد كما يستحيل أن يصير هذا السواد ذلك البياض أو ذلك العلم والتباين بين العبد والرب أعظم من التباين بين السواد والبياض والجهل والعلم
فأصل الاتحاد إذا باطل وحيث يطلق الاتحاد ويقال هو هو لا يكون إلا بطريق التوسع والتجوز اللائق بعادة الصوفية والشعراء فإنهم لأجل تحسين موقع الكلام من الإفهام يسلكون سبيل الاستعارة كما يقول الشاعر

أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
وذلك مؤول عند الشاعر فإنه لا يعني به أنه هو تحقيقا بل كأنه هو فإنه مستغرق الهم به كما يكون هو مستغرق الهم بنفسه فيعبر عن هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز
وعليه ينبغي أن يحمل قول أبي يزيد رحمه الله حيث قال انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فإذا أنا هو ويكون معناه أن من ينسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها فلا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له همة سوى الله سبحانه وتعالى وإذا لم يحل في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقا به يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقا وفرق بين قولنا كأنه هو وبين قولنا هو هو لكن قد يعبر بقولنا هو هو عن قولنا كأنه هو كما أن الشاعر تارة يقول كأني من أهوى وتارة يقول أنا من أهوى وهذه مزلة قدم فإن من ليس له قدم راسخ في المعقولات ربما لم يتميز له أحدهما عن الآخر فينظر إلى كمال ذاته وقد تزين بما تلألأ فيه من حلية الحق فيظن أنه هو فيقول أنا الحق
وهو غالط غلط النصارى حيث رأوا ذلك في ذات المسيح عيسى عليه السلام فقالوا هو الإله بل هو غلط من ينظر إلى مرآة قد انطبع فيها صورة متلونة بتلونه فيظن أن تلك الصورة هي صورة المرآة وأن ذلك اللون لون المرآة وهيهات بل المرآة في ذاتها لا لون لها وشأنها قبول صور الألوان على وجه يتخايل إلى الناظرين إلى ظاهر الأمور أن ذلك صورة المرآة حتى إن الصبي إذا رأى إنسانا في المرآة ظن أن الإنسان في المرآة فكذلك القلب خال عن الصور في نفسه وعن الهيئات وإنما هيآته قبول معاني الهيئات والصور والحقائق فما يحله يكون كالمتحد به لا أنه متحد به تحقيقا ومن لا يعرف

الزجاج والخمر إذا رأى زجاجة فيها خمر لا يدرك تباينهما فتارة يقول لا خمر وتارة يقول لا زجاجة كما عبر عنه الشاعر حيث قال
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وقول من قال منهم أنا الحق فإما أن يكون معناه معنى قول الشاعر
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ...
وإما أن يكون قد غلط في ذلك كما غلط النصارى في ظنهم اتحاد اللاهوت بالناسوت
وقول أبي يزيد رحمه الله إن صح عنه سبحاني ما أعظم شأني إما أن يكون ذلك جاريا على لسانه في معرض الحكاية عن الله عز و جل كما لو سمع وهو يقول لا إله إلا أنا فاعبدني لكان يحمل على الحكاية وإما أن يكون قد شاهد كمال حظه من صفة القدس على ما ذكرنا في الترقي بالمعرفة عن الموهومات والمحسوسات وبالهمة عن الحظوظ والشهوات فأخبر عن قدس نفسه وقال سبحاني ورأى عظم شأنه بالإضافة إلى شأن عموم الخلق فقال ما أعظم شأني وهو مع ذلك يعلم أن قدسه وعظم شأنه بالإضافة إلى الخلق ولا نسبة له إلى قدس الرب تعالى وتقدس وعظم شأنه ويكون قد جرى هذا اللفظ في سكره وغلبات حاله فإن الرجوع إلى الصحو واعتدال الحال يوجب حفظ اللسان عن الألفاظ الموهمة وحال السكر ربما لا يحتمل ذلك فإن جاوزت هذين التأويلين إلى الاتحاد فذلك محال قطعا فلا ينظر إلى مناصب الرجال حتى يصدق بالمحال بل ينبغي أن يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال
وأما القسم الخامس وهو الحلول فذلك يتصور أن يقال إن الرب

تبارك وتعالى حل في العبد أو العبد حل في الرب تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين وهذا لو صح لما أوجب الاتحاد ولا أن يتصف العبد بصفات الرب فإن صفات الحال لا تصير صفة المحل بل تبقى صفة للحال كما كان ووجه استحالة الحلول لا يفهم إلا بعد فهم معنى الحلول فإن المعاني المفردة إذا لم تدرك بطريق التصور لم يمكن أن يفهم نفيها أو إثباتها فمن لا يدري معنى الحلول فمن أين يدري أن الحلول موجود أو محال
فنقول المفهوم من الحلول أمران
أحدهما النسبة التي بين الجسم وبين مكانه الذي يكون فيه وذلك لا يكون إلا بين جسمين فالبريء عن معنى الجسمية يستحيل في حقه ذلك
والثاني النسبة التي بين العرض والجوهر فإن العرض يكون قوامه بالجوهر فقد يعبر عنه بأنه حال فيه وذلك محال على كل ما قوامه بنفسه فدع عنك ذكر الرب تعالى وتقدس في هذا المعرض فإن كل ما قوامه بنفسه يستحيل أن يحل فيما قوامه بنفسه إلا بطريق المجاورة الواقعة بين الأجسام فلا يتصور الحلول بين عبدين فكيف يتصور بين العبد والرب
وإذا بطل الحلول والانتقال والاتحاد والاتصاف بأمثال صفات الله سبحانه وتعالى على سبيل الحقيقة لم يبق لقولهم معنى إلا ما أشرنا إليه في التنبيهات وذلك يمنع من إطلاق القول بأن معاني أسماء الله تعالى تصير أوصافا للعبد إلا على نوع من التقييد خال عن الإيهام وإلا فمطلق هذا اللفظ موهم
فإن قلت فما معنى قوله إن العبد مع الاتصاف بجميع ذلك سالك لا واصل فما معنى السلوك وما معنى الوصول على رأي هذا القائل فاعلم أن السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد في جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه سبحانه وتعالى إلا أنه

مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول وإنما الوصول هو أن ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقا به فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همته فلا همة له سواه فيكون كله مشغولا بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة أو باطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البداية وإنما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول عنده
فإن قلت كلمات الصوفية بناء على مشاهدات انفتحت لهم في طور الولاية والعقل يقصر عن درك ذلك وما ذكرتموه تصرف ببضاعة العقل فاعلم أنه لا يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته نعم يجوز أن يظهر ما يقصر العقل عنه بمعنى أنه لا يدركه بمجرد العقل مثاله أنه يجوز أن يكاشف الولي بأن فلانا سيموت غدا ولا يدرك ذلك ببضاعة العقل بل يقصر العقل عنه ولا يجوز أن يكاشف بأن الله سبحانه وتعالى غدا سيخلق مثل نفسه فإن ذلك يحيله العقل لا أنه يقصر عنه وأبعد من ذلك أن يقول إن الله تبارك وتعالى سيجعلني مثل نفسه وأبعد منه أن يقول إن الله عز و جل سيصيرني نفسه أي أصير أنا هو لأن معناه أني حادث والله تعالى وتقدس يجعلني قديما ولست خالق السموات والأرضين والله يجعلني خالق السموات والأرضين وهذا معنى قوله نظرت فإذا أنا هو إذا لم يؤول ومن صدق بمثل هذا فقد انخلع عن غريزة العقل ولم يتميز عنده ما يعلم عما لا يعلم فليصدق بأنه يجوز أن يكاشف ولي بأن الشريعة باطلة وأنها إن كانت حقا فقد قلبها الله باطلا وأنه جعل جميع أقاويل الأنبياء كذبا وإن من قال يستحيل أن ينقلب الصدق كذبا فإنما يقوله ببضاعة العقل فإن انقلاب الصدق كذبا ليس بأبعد من انقلاب الحادث قديما والعبد ربا ومن لم يفرق بين ما أحاله العقل وبين ما لا يناله العقل فهو أخس من أن يخاطب فليترك وجهله

الفصل الثاني من المقاصد والغايات في بيان وجه رجوع هذه الأسامي الكثيرة
إلى ذات وسبع صفات على مذهب أهل السنة
لعلك تقول هذه أسماء كثيرة وقد منعت الترادف فيها وأوجبت أن يتضمن كل واحد معنى آخر فكيف يرجع جميعها إلى سبع صفات فاعلم أن الصفات إن كانت سبعا فالأفعال كثيرة والإضافات كثيرة والسلوب كثيرة ويكاد يخرج جميع ذلك عن الحصر ثم يمكن التركيب من مجموع صفتين أو صفة وإضافة أو صفة وسلب أو سلب وإضافة ويوضع بإزائه اسم فتكثر الأسامي بذلك وكان مجموعها يرجع إلى ما يدل منها على الذات أو على الذات مع سلب أو على الذات مع إضافة أو على الذات مع سلب وإضافة أو على واحد من الصفات السبع أو على صفة وسلب أو على صفة وإضافة أو على صفة فعل أو على صفة فعل وإضافة أو سلب فهذه عشرة أقسام
الأول ما يدل على الذات كقولك الله ويقرب منه اسم الحق إذا أريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود
الثاني ما يدل على الذات مع سلب مثل القدوس والسلام والغني والأحد ونظائره فإن القدوس هو المسلوب عنه كل ما يخطر بالبال ويدخل في الوهم والسلام هو المسلوب عنه العيوب والغني هو المسلوب عنه الحاجة والأحد هو المسلوب عنه النظير والقسمة

الثالث ما يرجع إلى الذات مع إضافة كالعلي والعظيم والأول والآخر والظاهر والباطن ونظائره فإن العلي هو الذات التي هي فوق سائر الذوات في المرتبة فهي إضافة والعظيم يدل على الذات من حيث تجاوز حدود الإدراكات والأول هو السابق على الموجودات والآخر هو الذي إليه مصير الموجودات والظاهر هو الذات بالإضافة إلى دلالة العقل والباطن هو الذات مضافة إلى إدراك الحس والوهم وقس على هذا غيره
الرابع ما يرجع إلى الذات مع سلب وإضافة كالملك والعزيز فإن الملك يدل على ذات لا تحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء والعزيز هو الذي لا نظير له وهو ما يصعب نيله والوصول إليه
الخامس ما يرجع إلى صفة كالعليم والقادر والحي والسميع والبصير
السادس ما يرجع إلى العلم مع إضافة كالخبير والشهيد والحكيم والمحصي فإن الخبير يدل على العلم مضافا إلى الأمور الباطنة والشهيد يدل على العلم مضافا إلى ما يشاهد والحكيم يدل على العلم مضافا إلى أشرف المعلومات والمحصي يدل على العلم من حيث يحيط بمعلومات محصورة معدودة التفصيل
السابع ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة كالقهار والقوي والمقتدر والمتين فإن القوة هي تمام القدرة والمتانة شدتها والقهر تأثيرها في المقدور بالغلبة
الثامن ما يرجع إلى الإرادة مع إضافة أو مع فعل كالرحمن والرحيم والرؤوف والودود فإن الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى قضاء حاجة المحتاج الضعيف والرأفة شدة الرحمة وهي مبالغة في الرحمة والود يرجع إلى الإرادة مضافا إلى الإحسان والإنعام وفعل الرحيم يستدعي محتاجا وفعل الودود

لا يستدعي ذلك بل الإنعام على سبيل الابتداء يرجع إلى الإرادة مضافا إلى الإحسان وقضاء حاجة الضعيف وقد عرفت وجه ذلك فيما تقدم
التاسع ما يرجع إلى صفات الفعل كالخالق والبارئ والمصور والوهاب والرزاق والفتاح والقابض والباسط والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل والمغيث والمجيب والواسع والباعث والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والمقدم والمؤخر والوالي والبر والتواب والمنتقم والمقسط والجامع والمانع والمغني والهادي ونظائره
العاشر ما يرجع إلى الدلالة على الفعل مع زيادة كالمجيد والكريم واللطيف فإن المجيد يدل على سعة الإكرام مع شرف الذات والكريم كذلك واللطيف يدل على الرفق في الفعل
فلا تخرج هذه الأسامي وغيرها عن مجموع هذه الأقسام العشرة فقس بما أوردناه ما لم نورده فإن ذلك يدل على وجه خروج الأسامي عن الترادف مع رجوعها إلى هذه الصفات المحصورة المشهورة

الفصل الثالث في بيان كيفية رجوع ذلك كله إلى ذات واحدة على مذهب
المعتزلة والفلاسفة
وهذا الفصل وإن كان لا يليق بهذا الكتاب ولكن أودعته هذه الكلمات على الإيجاز بحكم الالتماس فمن شاء أن لا يثبته في الكتاب فليفعل فإنه غير مهم في هذا الكتاب
فأقول هؤلاء وإن أنكروا الصفات ولم يثبتوا إلا ذاتا واحدة فلم ينكروا الأفعال ولا كثرة السلوب ولا كثرة الإضافات فما رددناه من الأسامي إلى هذه الأقسام فهم عليها مساعدون
أما الصفات السبع التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام فيرجع جميع ذلك عندهم إلى العلم ثم العلم يرجع إلى الذات وبيانه أن السمع عندهم عبارة عن علمه التام المتعلق بالأصوات والبصر عبارة عن علمه التام المتعلق بالألوان وسائر المبصرات والكلام عندهم يرجع إلى فعله وهو ما يخلقه من الكلام في جسم من الجمادات عند المعتزلة ويرجع عند الفلاسفة إلى سماع يخلقه في ذات النبي حتى يسمع هو كلاما منظوما من غير أن يكون له وجود من خارج كما يسمعه النائم ويضاف ذلك إلى الله تعالى على معنى أنه لم يحصل ذلك فيه بفعل الآدميين وأصواتهم وأما الحياة فعبارة عندهم عن علمه بذاته لأن كل ما يشعر بذاته فيقال إنه حي وما لا يشعر بذاته لا يسمى حيا

ولم يبق إلا الإرادة والقدرة ومعنى إرادته عندهم أنه تعالى وتقدس يعلم وجه الخير ونظامه فيوجده كما يعلمه ويكون علمه بالشيء سببا لوجود ذلك الشيء وإذا علم وجه الخير في شيء فيحصل ولم يكن فيه كراهة كان راضيا والراضي قد يسمى مريدا فكانت الإرادة ترجع إلى العلم مع عدم الكراهة وأما القدرة فمعناها أنه يفعل إذا شاء ولا يفعل إذا شاء وفعله معلوم ومشيئته ترجع إلى علمه بوجه الخير ومعناه أن ما علم أن الخير في وجوده فيوجد منه وما علم أن الخير في أن لا يوجد فلا يوجد منه ولا يحتاج وجود نظام الخير إلا إلى علمه بوجه الخير ولا يحتاج ما لا يوجد في أن لا يوجد إلا عدم العلم بكون الخير فيه فالنظام المعقول هو سبب النظام الموجود والنظام الموجود تبع النظام المعقول
وزعموا أن علمنا إنما يحتاج في تحقيق المعلوم إلى القدرة لأن فعلنا إنما يكون بجارحة فلا بد أن تكون الجارحة سليمة وموصوفة بالقوة وأما هو فلا يفعل بجارحة فيكفي علمه بوجود المعلوم فترجع القدرة أيضا إلى العلم
ثم زعموا أن العلم أيضا يرجع إلى ذاته لأنه يعلم ذاته بذاته فيكون العلم والعالم والمعلوم واحدا وإنما يعلم غيره من ذاته لأنه يعلم ذاته مبدأ كل موجود فيعلم سائر الموجودات من ذاته على سبيل التبعية فلا يوجب ذلك كثرة في ذاته
وزعموا أن نسبة علم الواحد وهو ذاته إلى كثرة المعلومات كنسبة علم الحاسب مثلا حيث يقال له ما ضعف الاثنين وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهكذا مثلا عشر مرات فإنه قبل أن يفصل تلك الأضعاف في ذاته فله يقين حاصل بأنه عالم به وذلك اليقين هو مبدأ التفصيل إذا اشتغل بتفصيله وذلك اليقين خطة واحدة لها نسبة إلى سائر أضعاف الاثنين بل إلى

تضعيفاته التي لا نهاية لها من غير تفصيل وكما أن تضعيف الاثنين يستمر إلى كثرة على التدريج فكذلك الموجودات أيضا عندهم فيها ترتيب ولا كثرة في أولها ثم يتداعى إلى الكثرة على التدريج
وشرح ذلك وإبطاله مما يطول وليستظهر في ذلك بما ذكرناه في كتاب التهافت فإنه كالخارج عن مقصود هذا الكتاب والله أعلم

الفن الثالث في اللواحق والتكميلات وفيه فصول ثلاث
الفصل الأول في بيان أن أسماء الله تعالى من حيث التوقيف غير مقصورة على
تسعة وتسعين
بل ورد التوقيف بأسام سواها إذ في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه إبدال لبعض هذه الأسامي بما يقرب منها وإبدال بما لا يقرب فأما الذي يقرب فالأحد بدل الواحد والقاهر بدل القهار والشاكر بدل الشكور والذي لا يقرب كالهادي والكافي والدائم والبصير والنور والمبين والجميل والصادق والمحيط والقريب والقديم والوتر والفاطر والعلام والملك والأكرم والمدبر والرفيع وذي الطول وذي المعارج وذي الفضل والخلاق
وقد ورد أيضا في القرآن ما ليس متفقا عليه في الروايتين جميعا كالمولى والنصير والغالب والقريب والرب والناصر ومن المضافات كقوله تعالى شديد العقاب و قابل التوب وغافر الذنب و مولج الليل في النهار ومولج النهار في الليل و مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي
وقد ورد في الخبر أيضا السيد إذ قال رجل لرسول الله يا سيد فقال السيد هو الله عز و جل وكأنه قصد المنع من المدح في الوجه وإلا فقد قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر والديان أيضا قد ورد وكذا الحنان والمنان وغير ذلك مما لو تتبع في الأحاديث لوجد

ولو جوز اشتقاق الأسامي من الأفعال فستكثر هذه الأسامي المشتقة لكثرة الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى في القرآن كقوله تعالى يكشف السوء 27 سورة النمل الآية 62 ويقذف بالحق 34 سورة سبأ الآية 38 ويفصل بينهم 22 سورة الحج الآية 17 و32 سورة السجدة الآية 25 وقضينا إلى بني إسرائيل 17 سورة الإسراء الآية 4 فيشتق له من ذلك الكاشف والقاذف بالحق والفاصل والقاضي
ويخرج ذلك عن الحصر وفيه نظر سيأتي
والغرض أن نبين أن الأسامي ليست هي التسعة والتسعين التي عددناها وشرحناها ولكنا جرينا على العادة في شرح تلك الأسامي فإنها هي الرواية المشهورة وليست هذه التعديدات والتفصيلات المروية عن أبي هريرة في الصحيحين إنما الذي تشتمل عليه الصحاح قوله إن لله سبحانه وتعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة أما بيان ذلك وتفصيله فلا
ومما وقع عليه الاتفاق بين الفقهاء والعلماء من الأسامي المريد والمتكلم والموجود والشيء والذات والأزلي والأبدي وإن ذلك مما يجوز إطلاقه في حق الله سبحانه وتعالى وورد في الحديث لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى لكن قولوا جاء شهر رمضان وكذلك ورد عن رسول الله أنه قال ما أصاب أحدا هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن

ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عز و جل همه وحزنه وأبدل مكانه فرحا وقوله استأثرت به في علم الغيب عندك يدل على أن الأسماء غير محصورة فيما وردت به الروايات المشهورة وعند هذا ربما يخطر ببالك طلب الفائدة في الحصر في تسعة وتسعين ولا بد من ذكرها

الفصل الثاني في بيان فائدة الإحصاء والتخصيص بتسعة وتسعين
وفي هذا الفصل أنظار في أمور فلنوردها في معرض الأسئلة
فإن قال قائل أسماء الله سبحانه وتعالى هل تزيد على تسعة وتسعين أم لا فإن زادت فما معنى هذا التخصيص ومن يملك ألف درهم لا يجوز أن يقول القائل إن له تسعة وتسعين درهما لأن الألف وإن اشتمل على ذلك ولكن تخصيص العدد بالذكر يفهم نفي ما وراء المعدود وإن كانت الأسامي غير زائدة على هذا العدد فما معنى قوله أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فإن هذا صريح في أنه استأثر ببعض الأسامي وكذلك قال في رمضان إنه من أسماء الله تعالى وكذلك كان السلف يقولون فلان أوتي الاسم الأعظم وكان ينسب ذلك إلى بعض الأنبياء والأولياء وذلك يدل على أنه خارج عن التسعة والتسعين
فنقول إن الأشبه أن الأسامي زائدة على تسعة وتسعين لهذه الأخبار وأما الحديث الوارد في الحصر فإنه يشتمل على قضية واحدة لا على قضيتين وهو كالملك الذي له ألف عبد مثلا فيقول القائل إن للملك تسعة وتسعين عبدا من استظهر بهم لم يقاومه الأعداء فيكون التخصيص لأجل حصول الاستظهار بهم إما لمزيد قوتهم وإما لكفاية ذلك العدد في دفع الأعداء من غير حاجة إلى زيادة لا لاختصاص الوجود بهم

ويحتمل أن تكون الأسامي غير زائدة على هذا العدد ويكون لفظ الخبر مشتملا على قضيتين إحداهما أن لله تعالى تسعة وتسعين اسما والثاني أن من أحصاها دخل الجنة حتى لو اقتصر على ذكر القضية الأولى كان الكلام تاما وعلى المذهب الأول لا يمكن الاقتصار على ذكر القضية الأولى
وذا هو الأسبق إلى الفهم من ظاهر هذا الحصر ولكنه بعيد من وجهين
أحدهما أن هذا يمنع أن يكون من الأسامي ما استأثر الله به في علم الغيب عنده وفي الحديث إثبات ذلك
والثاني أنه يؤدي إلى أن يختص بالإحصاء نبي أو ولي ممن أوتي الاسم الأعظم حتى يتم العدد به وإلا فيكون ما أحصى وراء ذلك ناقصا عن العدد أو كان الاسم خارجا عن العدد فيبطل به الحصر
والأظهر أن رسول الله ذكر هذا في معرض الترغيب للجماهير في الإحصاء والاسم الأعظم لا يعرفه الجماهير
فإن قيل فإذا كان الأظهر أن الأسامي زائدة على تسعة وتسعين فلو قدرنا مثلا أن الأسامي ألف وأن الجنة تستحق بإحصاء تسعة وتسعين منها فهي تسعة وتسعون بأعيانها أو تسعة وتسعون أيها كان حتى إن من بلغ ذلك المبلغ في الإحصاء استحق دخول الجنة وحتى إن من أحصى ما رواه أبو هريرة مرة دخل الجنة ولو أحصى أيضا ما اشتملت الرواية الثانية عليه أيضا دخل الجنة إذا قدرنا أن جميع ما في الروايتين من أسماء الله تعالى
فتقول الأظهر أن المراد به تسعة وتسعون بأعيانها فإنها إذا لم تتعين لم تظهر فائدة الحصر والتخصيص فإن قول القائل إن للملك مئة عبد من استظهر بهم لم يقاومه عدو إنما يحسن مع كثرة عبيد الملك إذا اختص مئة من

بينهم بمزيد قوة وشوكة فأما إذا حصل ذلك بأي مئة كان من جملة العبيد لم يحسن نظم الكلام
فإن قيل فما بال تسعة وتسعين من الأسماء اختصت بهذه القضية مع أن الكل أسماء الله سبحانه وتعالى
فنقول الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فيكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها فتختص بزيادة شرف
فإن قيل فاسم الله الأعظم داخل فيها أم لا فإن لم يدخل فكيف يختص مزيد الشرف بما هو خارج عنها وإن كان داخلا فيها فكيف ذلك وهي مشهورة والاسم الأعظم يختص بمعرفته نبي أو ولي وقد قيل إن آصف إنما جاء بعرش بلقيس لأنه كان قد أوتي الاسم الأعظم وهو سبب كرامات عظيمة لمن عرفه
فنقول يحتمل أن يقال إن اسم الله الأعظم خارج عن هذا العدد الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه ويكون شرف هذه الأسامي المعدودة بالإضافة إلى جميع الأسماء المشهورة عند الجماهير لا بالإضافة إلى الأسماء التي يعرفها الأولياء والأنبياء ويحتمل أن يقال إنها تشتمل على اسم الله الأعظم ولكنه مبهم فيها لا يعرفه بعينه إلا ولي إذ ورد في الخبر عن النبي أنه قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم 2 سورة البقرة الآية 163 وفاتحة آل عمران آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم 3 سورة آل عمران الآية 1 وروي أن رسول الله سمع رجلا يدعو وهو يقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك

أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى
فإن قيل فما سبب تخصيص هذا العدد من بين سائر الأعداد ولم لم يبلغ مئة وقد قارب ذلك
قلنا فيه احتمالان
أحدهما أن يقال لأن المعاني الشريفة بلغت هذا المبلغ لا لأن العدد مقصود ولكن وافقت المعاني هذا العدد كما أن الصفات عند أهل السنة سبع وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام لا لأنها سبع ولكن صفات الربوبية لا تتم إلا بها
والثاني وهو الأظهر أن السبب فيه بيان ما ذكره رسول الله حيث قال مئة إلا واحدة والله وتر يحب الوتر وإلا أن هذا يدل على أن هذه الأسامي هي بالتسمية الإرادية الاختيارية لا من حيث انحصار صفات الشرف فيها لأن ذلك يكون لذاته لا بالإرادة ولا يقول أحد إن صفات الله سبحانه وتعالى سبع لأنه وتر ويحب الوتر بل ذلك لذاته وإلهيته والعدد فيه غير مقصود بل ليس وجود ذلك بقصد قاصد وإرادة مريد حتى يقصد الوتر دون غيره وهذا يكاد يؤيد الاحتمال الذي ذكرناه وهو أن الأسامي التي سمى الله سبحانه وتعالى بها نفسه هي تسعة وتسعون لا غير وأنه إنما لم يجعلها مئة لأنه يحب الوتر وسنشير إلى ما يؤيد هذا الاحتمال

فإن قيل فهذه الأسماء التسعة والتسعون هل عدها رسول الله وأحصاها قصدا إلى جمعها أو ترك جمعها إلى من يلتقطها من الكتاب والسنة والأخبار الدالة عليه
فنقول الأظهر وهو الأشهر أن ذلك مما أحصاه رسول الله وجمعها قصدا إلى جمعها وتعليمها على ما نقله أبو هريرة رضي الله عنه إذ ظاهر الكلام هو الترغيب في الإحصاء وذلك مما يعسر على الجماهير إذا لم يذكره رسول الله على سبيل الجمع وهذا يدل على صحة رواية أبي هريرة رضي الله عنه وقد قبل الجماهير روايته المشهورة التي أجرينا شرحنا على منوالها
وقد تكلم أحمد البيهقي على رواية أبي هريرة وذكر أنها من رواية من فيه ضعف وأشار أبو عيسى الترمذي في مسنده إلى شيء من ذلك ويدل على ضعف هذه الرواية سوى ما ذكره المحدثون ثلاثة أمور
أحدها اضطراب الرواية عن أبي هريرة إذ عنه روايتان وبينهما تباين ظاهر في الإبدال والتغيير
والثاني أن روايته ليست تشتمل على ذكر الحنان والمنان ورمضان وجملة من الأسامي التي وردت الأخبار بها
والثالث أن الذي أورد في الصحيح هذا القدر وهو قوله إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة
وأما ذكر الأسامي فلم تورد في الصحيح بل وردت به رواية غريبة وفي إسنادها ضعف وهذا القدر الظاهر يدل على أن الأسامي لا تزيد على هذا العدد وإنما حملنا على الميل عن الظاهر خروج بعض هذه الأسامي عن رواية أبي

هريرة فإن ضعفنا الرواية التي فيها عدد الأسامي اندفع عنها جملة من الإشكالات
فإنا نقول الأسامي هي تسعة وتسعون فقط سمى الله سبحانه وتعالى بها نفسه ولم يكملها مئة لأنه وتر يحب الوتر ويدخل في جملتها الحنان والمنان وغيرهما ولا يمكن معرفة جميعها إلا بالبحث في الكتاب والسنة إذ يصح جملة منها في كتاب الله سبحانه وتعالى وجملة في الأخبار ولم أعرف أحدا من العلماء اعتنى بطلب ذلك وجمعه سوى رجل من حفاظ المغرب يقال له علي بن حزم فإنه قال رحمه الله صح عندي قريب من ثمانين اسما يشتمل عليها الكتاب والصحاح من الأخبار والباقي ينبغي أن يطلب من الأخبار بطريق الاجتهاد وأظن أنه لم يبلغه الحديث الذي فيه عدد الأسامي وإن كان بلغه فكأنه استضعف إسناده إذ عدل عنه إلى الأخبار الواردة في الصحاح وإلى التقاط ذلك منها وعلى هذا فمن أحصاها أي جمعها وحفظها نال تعبا شديدا في اجتهاده فبالحري أن يدخل الجنة وإلا فإحصاء ما وردت الرواية به مرة واحدة سهل على اللسان نعم قد ورد في بعض الألفاظ الصحاح من حفظها دخل الجنة والحفظ يحوج إلى مزيد تعب
فهذا ما يظهر لي من الاحتمالات في هذا الحديث وأكثر ذلك مما لم يتعرض له وهي أمور اجتهادية لا تعلم إلا بتخمين فإنها خارجة عن مجاري العقول والله أعلم

الفصل الثالث في أن الأسامي والصفات المطلقة على الله عز و جل هل تقف على التوقيف أم تجوز بطريق العقل
والذي مال إليه القاضي أبو بكر أن ذلك جائز إلا ما منع منه الشرع أو أشعر بما يستحيل معناه على الله سبحانه وتعالى فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز والذي ذهب إليه الأشعري أن ذلك موقوف على التوقيف فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى ما هو موصوف بمعناه إلا إذا أذن فيه والمختار عندنا أن نفصل ونقول كل ما يرجع إلى الاسم فذلك موقوف على الإذن وما يرجع إلى الوصف فذلك لا يقف على الإذن بل الصادق منه مباح دون الكاذب ولا يفهم هذا إلا بعد فهم الفرق بين الاسم والوصف
فنقول الاسم هو اللفظ الموضوع للدلالة على المسمى فزيد مثلا اسمه زيد وهو في نفسه أبيض وطويل فلو قال له قائل يا طويل يا أبيض فقد دعاه بما هو موصوف به وصدق ولكنه عدل عن اسمه إذ اسمه زيد دون الطويل والأبيض وكونه طويلا أبيض لا يدل على أن الطويل اسمه بل تسميتنا الولد قاسما وجامعا لا يدل على أنه موصوف بمعاني هذه الأسماء بل دلالة هذه الأسماء وإن كانت معنوية عليه كدلالة قولنا زيد وعيسى وما لا معنى له بل إذا سميناه عبد الملك فلسنا نعني به أنه عبد الملك ولذلك نقول عبد الملك اسم مفرد كعيسى وزيد وإذا ذكر في معرض الوصف كان مركبا وكذلك عبد الله لذلك يجمع فيقال عبادلة ولا يقال عباد الله

وإذا فهمت معنى الاسم فاسم كل أحد ما سمى به نفسه أو سماه به وليه من أبيه أو سيده والتسمية أعني وضع الاسم تصرف في المسمى ويستدعي ذلك ولاية والولاية للإنسان على نفسه أو على عبده أو على ولده فلذلك تكون التسميات إلى هؤلاء ولذلك لو وضع غير هؤلاء اسما على مسمى ربما أنكره المسمى وغضب على المسمي وإذا لم يكن لنا أن نسمي إنسانا أي لا نضع له اسما فكيف نضع لله تعالى اسما وكذلك أسماء رسول الله معدودة وقد عدها وقال إن لي أسماء أحمد ومحمد والمقفي والماحي والعاقب ونبي التوبة ونبي الرحمة ونبي الملحمة وليس لنا أن نزيد على ذلك في معرض التسمية بل في معرض الإخبار عن وصفه فيجوز أن نقول إنه عالم ومرشد ورشيد وهاد وما يجري مجراه كما نقول لزيد إنه أبيض طويل لا في معرض التسمية بل في معرض الإخبار عن وصفه فيجوز أن نقول إنه عالم ومرشد ورشيد وهاد وما يجري مجراه كما نقول لزيد إنه أبيض وطويل لا في معرض التسمية بل في معرض الإخبار عن صفته وعلى الجملة فهذه مسألة فقهية إذ هو نظر في إباحة لفظ وتحريمه
فنقول أما الدليل على المنع من وضع اسم لله سبحانه وتعالى هو المنع من وضع اسم لرسول الله لم يسم به نفسه ولا سماه به ربه تعالى ولا أبواه وإذا منع في حق الرسول بل في حق آحاد الخلق فهو في حق الله أولى وهذا نوع قياس فقهي تبنى على مثله الأحكام الشرعية
وأما دليل إباحة الوصف فهو أنه خبر عن أمر والخبر ينقسم إلى صدق وكذب والشرع قد دل على تحريم الكذب في الأصل فالكذب حرام إلا بعارض ودل على إباحة الصدق فالصدق حلال إلا بعارض وكما أنه يجوز لنا

أن نقول في زيد إنه موجود فكذلك في حق الله تعالى ورد به الشرع أو لم يرد ونقول إنه قديم وإن قدرنا أن الشرع لم يرد به وكما أنا لا نقول لزيد إنه طويل أشقر لأن ذلك ربما يبلغ زيدا فيكرهه لأن فيه إيهام نقص فكذلك لا نقول في حق الله سبحانه وتعالى ما يوهم نقصا البتة فأما ما لا يوهم نقصا أو يدل على مدح فذلك مطلق ومباح بالدليل الذي أباح الصدق مع السلامة عن العوارض المحرمة
ولذلك قد يمنع من إطلاق لفظ فإذا قرن به قرينة جوزناه فلا يجوز أن يقال لله سبحانه وتعالى يا زارع يا حارث ويجوز أن يقال من وطئ فأمنى فليس هو الحارث وإنما الله تعالى وتقدس هو الحارث ومن بث البذر فليس هو الزارع إنما الله هو الزارع ومن رمى فليس هو الرامي وإنما الله هو الرامي كما قال تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى 8 سورة الأنفال الآية 17 ولا نقول لله سبحانه وتعالى يا مذل ونقول يا معز يا مذل فإنه إذا جمع بينهما كان وصف المدح إذ يدل على أن طرفي الأمور بيديه
وكذلك في الدعاء ندعو الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى كما أمرنا به وإذا جاوزنا الأسامي دعوناه بصفات المدح والجلال فلا نقول يا موجود يا محرك يا مسكن بل نقول يا مقيل العثرات يا منزل البركات يا ميسر كل عسير وما يجري مجراه كما أنا إذا نادينا إنسانا فإما أن نناديه باسمه أو بصفة من صفات المدح كما نقول يا شريف يا فقيه ولا نقول يا طويل يا أبيض إلا إذا قصدنا الاستحقار وأما إذا استخبرنا عن صفاته أخبرنا بأنه أبيض اللون أسود الشعر ولا يذكر ما يكرهه إذا بلغه وإن كان صدقا لعارض الكراهة وإنما يكره ما يقدر فيه نقصا

فكذلك إذا استخبرنا عن محرك الأشياء ومسكنها ومسودها ومبيضها قلنا هو الله سبحانه وتعالى ولا نتوقف في نسبة الأفعال والأوصاف إليه إلى إذن وارد فيه على الخصوص بل الإذن قد ورد شرعا في الصدق إلا ما يستثنى عنه بعارض والله تعالى هو الموجود والموجد والمظهر والمخفي والمسعد والمشقي والمبقي والمفني وكل ذلك يجوز إطلاقه وإن لم يرد فيه توقيف
فإن قيل فلم لا يجوز أن يقال له العارف والعاقل والفطن والذكي وما يجري مجراه
قلنا إنما المانع من هذا وأمثاله ما فيه من إيهامات وما فيه إيهام لا يجوز إلا بالإذن كالصبور والحليم والرحيم فإن فيه إيهاما ولكن الإذن قد ورد به وأما هذا فلم يرد به الإذن والإيهام فيه أن العاقل هو الذي له معرفة تعقله أي تمنعه إذ يقال عقله عقله والفطنة والذكاء يشعران بسرعة الإدراك لما غاب عن المدرك والمعرفة قد تشعر بسبق نكرة فلا يمنع عن إطلاق شيء منه إلا شيء مما ذكرناه فإن حقق لفظ لا يوهم أصلا بين المتفاهمين ولم يرد الشرع بالمنع منه فإنا نجوز إطلاقه قطعا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب