كتاب : كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة
المؤلف : نخبة من العلماء

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بقلم معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المشرف العام على المجمع .
الحمد لله رب العالمين ، القائل في كتابه الكريم { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل : 125] . والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، القائل : « بلغوا عني ولو آية » [ البخاري : 3461] .
أما بعد : فإنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله- في إيصال الخير إلى عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، بدءًا بالعناية بكتاب الله ، والعمل على تيسير نشره ، وترجمة معانيه ، وتوزيعه بين المسلمين ، والراغبين في دراسته من غيرهم ، ثم نشر ما ينفع المسلمين في جميع شؤون حياتهم الدينية والدنيوية .
وإيمانًا من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية ، بأهمية الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة فإنه يسرها أن تقدم كتاب :
(( أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة ))

وذلك لتبصير المسلمين في أمور العقيدة التي هي أساس الإيمان ، لقوله صلى الله صلى الله عليه وسلم : « إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله » [ البخاري : 52] ، وستتبعه إن شاء الله تعالى سلسلة من الكتب في الحديث ، والفقه ، والذكر والدعاء ، والتي نرجو من الله العلي القدير أن ينفع بها عموم المسلمين .
وبهذه المناسبة يسرني أن أشكر الإخوة الذين قاموا بإعداد الكتاب (تأليفًا ، ومراجعة ، وصياغة) جهدهم المخلص ، وللأمانة العامة للمجمع حسن اهتمامها ومتابعتها ، وأدعو الله تعالى أن يحفظ هذه البلاد راعية للدين ، وحامية للعقيدة الصحيحة في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين ، وسمو ولي عهده الأمين ، وسمو النائب الثاني ، حفظهم الله ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة ، وجعل أمَّتنا -أمَّة الإسلام- خيرَ أمَّة ، وبعث فينا رسولًا منَّا يتلو علينا آياته ويزكينا ، ويعلِّمنا الكتاب والحكمة ، والصلاة والسلام على مَن أرسله الله للعالمين رحمة ، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه .

أما بعد : فإنَّ الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات : 56) . ولذا كان التوحيد والعقيدة الصحيحة المأخوذةُ من منبعها الأصلي وموردها المبارك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي الغاية لتحقيق تلك العبادة ، فهي الأساس لعمارة هذا الكون ، وبفقدها يكون فساده وخرابه واختلاله ، كما قال الله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } (الأنبياء : 22) ، وقال سبحانه : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } (الطلاق : 12) ، إلى غير ذلك من الآيات .

ولما كان غير ممكن للعقول أن تستقلَّ بمعرفة تفاصيل ذلك بعث الله رسلَه وأنزل كتبَه ؛ لإيضاحه وبيانه وتفصيله للناس حتى يقوموا بعبادة الله على علم وبصيرة وأسسٍ واضحةٍ ودعائم قويمةٍ ، فتتابع رسلُ الله على تبليغه ، وتوالوا في بيانه ، كما قال سبحانه : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } (فاطر : 24) ، وقال سبحانه : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } (المؤمنون : 44) ، أي يتبع بعضُهم بعضًا إلى أن ختمهم بسيِّدهم وأفضلهم وإمامهم نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فبَلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمَّة ، وجاهد في الله حقَّ جهاده ودعا إلى الله سرًّا وجهرًا ، وقام بأعباء الرسالة أكملَ قيام ، وأوذيَ في الله أشدَّ الأذى ، فصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولم يزل داعيًا إلى الله هاديًا إلى صراطه المستقيم حتى أظهر الله به الدِّين ، وأتم به النِّعمة ، ودخل الناس بسبب دعوته في دين الله أفواجًا ، ولم يَمُت صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدِّين وأتمَّ به النِّعمة ، وأنزل في ذلك سبحانه قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (المائدة : 3) .
فبيَّن صلوات الله وسلامه عليه الدين كلَّه أصوله وفروعه ، كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله : " مُحال أن يُظنَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد " .
وقد كان صلى الله عليه وسلم داعيةً إلى توحيد الله وإخلاص الدِّين لله ونبذ الشرك كلِّه كبيرِه وصغيره شأن جميع المرسلين ؛ إذ أنَّ الرسلَ كلَّهم متَّفقون على ذلك ، متضافرون على الدعوة إليه ، بل هو منطلقُ دعوتهم وزبدة رسالتهم وأساس بعثتهم ، يقول الله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل : 36) ، وقال :

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء : 25) ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (الزخرف : 45) ، وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (الشورى : 13) .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال : « الأنبياء إخوة لعلَّات ، أمَّهاتُهم شتَّى ودينُهم واحد » (1) ، فالدِّين واحدٌ ، والعقيدة واحدةٌ ، وإنَّما حصل التنوُّعُ بينهم في الشرائع ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (المائدة : 48) .
_________
(1) صحيح البخاري (3443) ، وصحيح مسلم (2365) .

ولذا ينبغي أن يكون متقرِّرا لدى كلِّ مسلم وواضحا لدى كلِّ مؤمن أنَّ العقيدة لا مجال فيها للرأي والأخذ والعطاء ، وإنَّما الواجب على كلِّ مسلم في مشارق الأرض ومغاربها أن يعتقد عقيدة الأنبياء والمرسلين ، وأن يؤمن بالأصول التي آمنوا بها ودعوا إليها دون تشكُّكٍ أو تردُّدٍ ، { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (البقرة : 285) .
فهذا شأنُ المؤمنين ، وهذا سبيلهم : الإيمان والتسليم والإذعان والقبول ، وعندما يكون المؤمن كذلك ترافقه السلامة ، ويتحقق له الأمن والأمان ، وتزكو نفسُه ، ويطمئنُّ قلبُه ، ويكون بعيدًا تمام البعد عمَّا يقع فيه ضلَّال الناس بسبب عقائدهم الباطلة من تناقض واضطراب وشكوك وأوهام وحَيرة وتذبذب .

والعقيدة الإسلامية الصحيحة بأصولها الثابتة وأسسها السليمة وقواعدها المتينة هي - دون غيرها - التي تحقِّق للناس سعادتهم ورفعتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة ؛ لوضوح معالمها ، وصحَّة دلائلها ، وسلامة براهينها وحججها ، ولموافقتها للفطرة السليمة ، والعقول الصحيحة ، والقلوب السويَّة .
ولهذا فإنّ العالَمَ الإسلامي كلّه في أشدِّ الحاجة إلى معرفة هذه العقيدة الصافية النقيَّة ؛ إذ هي قطبُ سعادته الذي عليه تدور ، ومستقر نجاته الذي عنه لا تحور .

وفي هذا المؤلّف الوجيز يجد المسلم أصولَ العقيدة الإسلامية وأهمَّ أسسها وأبرزَ أصولها ومعالمها ممَّا لا غنى لمسلم عنه ، ويجد ذلك كله مقرونا بدليله ، مدعَّمًا بشواهده ، فهو كتاب مشتمل على أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة ، وهي أصول عظيمة موروثة عن الرسل ، ظاهرة غاية الظهور ، يمكن لكل مميِّز من صغير وكبير أن يُدركها بأقصر زمان وأوجز مدَّة ، والتوفيق بيد الله وحده . وبهذه المناسبة نتقدم بالشكر الجزيل للذين ساهموا في إعداد هذا الكتاب وهم : الدكتور صالح بن سعد السحيمي ، والدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد ، والدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي . كما نشكر اللذين قاما بمراجعته وصياغته وهما : الدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي ، والدكتور أحمد بن عطية الغامدي .
وإنَّا لنرجوه سبحانه أن ينفع به عمومَ المسلمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الأمانة العامة
لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف

تمهيد

لا يخفى على كل مسلم أهمية الإيمان ، وعظم شأنه ، وكثرة عوائده وفوائده على المؤمن في الدنيا والآخرة ، بل إن كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على تحقق الإيمان الصحيح ، فهو أجل المطالب ، وأهم المقاصد ، وأنبل الأهداف ، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة ، وينجو من المكاره والشرور والشدائد ، وينال ثواب الآخرة ونعيمها المقيم وخيرها الدائم المستمر الذي لا يحول ولا يزول .
قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل : 97) . وقال تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } (الإسراء : 19) .

وقال تعالى : { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا } (طه : 75) . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا }{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } (الكهف : 107 ، 108) . والآيات في هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرة .
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإيمان يقوم على الأصول الستة ، وهي : الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، وقد جاء ذكر هذه الأصول في القرآن الكريم والسنة النبوية في مواطن عديدة . منها :
1 - قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي }{ نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء : 136) .

2 - وقوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة : 177) .
3 - وقوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (البقرة : 285) .
4 - وقوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ( القمر : 49) .
5 - وثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب المشهور بحديث جبريل « أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن الإيمان ، قال : ( أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره » (1) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (1).

فهذه أصول ستة عظيمة يقوم عليها الإيمان ، بل لا إيمان لأحد إلا بالإيمان بها ، وهي أصول مترابطة متلازمة ، لا ينفك بعضها عن بعض ، فالإيمان ببعضها مستلزم للإيمان بباقيها ، والكفر ببعضها كفر بباقيها .
ولذا كان متأكدا في حق كل مسلم أن تعظم عنايته واهتمامه بهذه الأصول علما وتعلما وتحقيقا .
وفيما يلي بيان ما يتعلق بالأصل الأول من هذه الأصول وهو الإيمان بالله .

الفصل الأول : توحيد الربوبية
المبحث الأول : معناه وأدلته من الكتاب والسنة والعقل والفطرة.
أولا : تعريفه:
أ- لغة : الربوبية مصدر من الفعل ربب ، ومنه الربُّ ، فالربوبية صفة الله ، وهي مأخوذة من اسم الرب ، والرب في كلام العرب يطلق على معان : منها المالك ، والسيد المطاع ، والمُصْلِح .
ب- أما في الاصطلاح : فإن توحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله .
ومنها الخلق والرزق والسيادة والإنعام والملك والتصوير ، والعطاء والمنع ، والنفع والضر ، والإحياء والإماتة ، والتدبير المحكم ، والقضاء والقدر ، وغير ذلك من أفعاله التي لا شريك له فيها ، ولهذا فإن الواجب على العبد أن يؤمن بذلك كله .
ثانيا : أدلته :

أ- من الكتاب : قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (لقمان : 10 ، 11) . وقوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } (الطور : 35)
ب- من السنة : ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه مرفوعا وفيه : (السيد الله تبارك وتعالى . . ) . وقد ثبت في الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما : . . . « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف » (1) .
_________
(1) سنن الترمذي (2516) ، ومسند أحمد (1 / 307) ، وقد حسن الحديث الترمذي وصححه ، وصححه الحاكم .

ج- دلالة العقل : دل العقل على وجود الله تعالى وانفراده بالربوبية وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم ، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه . وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان :
الطريق الأول : النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو ما يعرف بـ (دلالة الأنفس) ، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (الذاريات : 21) ، وقال تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } (الشمس : 7) ، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله لأرشده ذلك إلى أن له ربا خالقا حكيما خبيرا ؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يخلق النطفة التي كان منها ؟ أو أن يحولها إلى علقة ، أو يحول العلقة إلى مضغة ، أو يحول المضغة عظاما ، أو يكسو العظام لحما ؟

الطريق الثاني : النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعرف بـ (دلالة الآفاق) ، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالة على ربوبيته ، قال الله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ }{ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (فصلت : 53) .
ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض ، وما اشتملت عليه السماء من نجوم وكواكب وشمس وقمر ، وما اشتملت عليه الأرض من جبال وأشجار وبحار وأنهار ، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هذا الكون كله بهذا النظام الدقيق ؛ دله ذلك على أن هناك خالقا لهذا الكون ، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه ، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق ، وأنها صحائف آيات ، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه وأدلة على وحدانيته .

وقد جاء في بعض الآثار أن قوما أرادوا البحث مع الإمام أبي حنيفة في تقرير توحيد الربوبية ، فقال لهم رحمه الله : " أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام وغيره بنفسها وتعود بنفسها ، فترسو بنفسها وترجع ، كل ذلك من غير أن يديرها أحد ؟ " .
فقالوا : " هذا محال لا يمكن أبدا . فقال لهم : إذا كان هذا محالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله ؟ " .
فنبه إلى أن اتساق العالم ودقة صنعه وتمام خلقه دليل على وحدانية خالقه وتفرده .

المبحث الثاني :
بيان أن الإقرار بهذا التوحيد وحده لا ينجي من العذاب .
إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة كما تقدم ؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته ، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام ، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية .
ولذا يقول الله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (يوسف : 106) ، والمعنى أي : ما يقر أكثرهم بالله ربا وخالقا ورازقا ومدبرا- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تعطي ولا تمنع .
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء ، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله وهم مشركون " .
وقال عِكْرِمَة : " تسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله ، وهم يعبدون غيره " .

وقال مجاهد : " إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره " .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد : " ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربُّه ، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه ، وهو يشرك به ، ألا ترى كيف قال إبراهيم : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ }{ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ }{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء : 75- 77) " (1) .
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة ، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله ربا خالقا رازقا مدبرا ، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء يدعونهم ويستغيثون بهم وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم .
_________
(1) انظر : تفسير ابن جرير (7 / 312- 313) .

وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (العنكبوت : 61) ، وقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } (العنكبوت : 63) ، وقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } (الزخرف : 87) ، وقوله تعالى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ

فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } (المؤمنون : 84- 89) .
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه ، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه ، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا استقلالا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا تسمع ولا تبصر ، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له ، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك ، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق والرب وما عداه مربوب ، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط ، يشفعون لهم بزعمهم عند الله ويقربونهم إليه زلفى ؛ ولذا قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) ، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا .

ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون وتوعدهم بالنار والخلود فيها واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة .
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله ، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له ، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة . فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال .

المبحث الثالث :
مظاهر الانحراف في توحيد الربوبية
بالرغم من أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطر ، مجبولة عليه النفوس ، متكاثرة على تقريره الأدلة ، إلا أنه وجد في الناس من حصل عنده انحراف فيه ، ويمكن تلخيص مظاهر الانحراف في هذا الباب فيما يلي :
1 - جحد ربوبية الله أصلًا وإنكار وجوده سبحانه ، كما يعتقد ذلك الملاحدة الذين يسندون إيجاد هذه المخلوقات إلى الطبيعة ، أو إلى تقلب الليل والنهار ، أو نحو ذلك { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } (الجاثية : 24) .
2- جحد بعض خصائص الرب سبحانه وإنكار بعض معاني ربوبيته ، كمن ينفي قدرة الله على إماتته أو إحيائه بعد موته ، أو جلب النفع له أو دفع الضر عنه ، أو نحو ذلك .
3- إعطاء شيء من خصائص الربوبية لغير الله سبحانه ، فمن اعتقد وجود متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون من إيجاد أو إعدام أو إحياء أو إماتة أو جلب خير أو دفع شر أو غير ذلك من معاني الربوبية فهو مشرك بالله العظيم .

المبحث الأول :
أدلته ، وبيان أهميته
المطلب الأول : أدلّتُه .
لقد تضافرت النصوص وتظاهرت الأدلة على وجوب إفراد الله بالألوهية ، وتنوعت في دلالتها على ذلك :
1 - تارة بالأمر به ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة : 21) ، وقوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (النساء : 36) ، وقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (الإسراء : 23) ، ونحوها من الآيات .
2 - وتارة ببيان أنه الأساس لوجود الخليقة والمقصود من إيجاد الثقلين ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات : 56) .
3 - وتارة ببيان أنه المقصود من بعثة الرسل كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل : 36) ، وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء : 25) .

4 - وتارة ببيان أنه المقصود من إنزال الكتب الإلهية ، كما في قوله تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } (النحل : 2) .
5 - وتارة ببيان عظيم ثواب أهله وما أعد لهم من أجور عظيمة ونعم كريمة في الدنيا والآخرة ، كما قال الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ }{ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام : 82) .
6 - وتارة بالتحذير من ضده ، وبيان خطورة مناقضته ، وذكر ما أعد سبحانه من عقاب أليم لمن تركه ، كقوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة : 72) ، وقوله تعالى : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } (الإسراء : 39) .
إلى غير ذلك من أنواع الأدلة المشتملة على تقرير التوحيد والدعوة إليه والتنويه بفضله وبيان ثواب أهله وعظم خطورة مخالفته .

والسنة النبوية كذلك مليئة بالأدلة على هذا التوحيد وأهميته ، من ذلك :
1 - ما رواه البخاري في صحيحه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري ما حقهم عليه ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أن لا يعذبهم » (1) .
2 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا نحو اليمن قال له : « إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات » . . . . ، الحديث ، رواه البخاري (2) .
3 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار » ، رواه البخاري (3) .
4 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » ، رواه مسلم (4) .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
_________
(1) صحيح البخاري (7373).
(2) صحيح البخاري (7372) .
(3) صحيح البخاري (4497) .
(4) صحيح مسلم (93) .

المطلب الثاني : بيان أهميته وأنه أساس دعوة الرسل .
لا ريب أن توحيد الألوهية هو أعظم الأصول على الإطلاق وأكملها وأفضلها وألزمها لصلاح الإنسانية ، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله ، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه ، وبوجوده يكون الصلاح ، وبفقده يكون الشر والفساد ، ولذا كان هذا التوحيد زبدة دعوة الرسل وغاية رسالتهم وأساس دعوتهم ، يقول الله تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل : 36) ، وقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء : 25) .

وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة أن توحيد الألوهية هو مفتاح دعوة الرسل ، وأن كل رسول يبعثه الله يكون أول ما يدعو قومه إليه توحيد الله وإخلاص العبادة له ، قال الله تعالى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا }{ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (الأعراف : 65) ، وقال تعالى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (الأعراف : 73) ، وقال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (الأعراف : 85) .

المطلب الثالث : بيان أنه محور الخصومة بين الرسل وأممهم .
تقدم أن توحيد العبادة هو مفتتح دعوات الرسل جميعهم ، فما من رسول بعثه الله إلا وكان أول ما يدعو قومه إليه هو توحيد الله ، ولذا كانت الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم في ذلك ، فالأنبياء يدعونهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، والأقوام يصرون على البقاء على الشرك وعبادة الأوثان إلا من هداه الله منهم .
قال الله تعالى عن قوم نوح عليه السلام : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } (نوح : 23-24) ، وقال عن قوم هود عليه السلام : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (الأحقاف : 22) ، { قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } (هود : 53) .

وقال عن قوم صالح عليه السلام : { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } (هود : 62) .
وقال عن قوم شعيب عليه السلام : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } (هود : 87) .
وقال عن كفار قريش : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }{ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }{ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ } (ص : 4-7) .

وقال : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا }{ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا }{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا }{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } (الفرقان : 41- 44) .
فهذه النصوص وما جاء في معناها تدل أوضح دلالة أن المعترك والخصومة بين الأنبياء وأقوامهم إنما كان حول توحيد العبادة والدعوة إلى إخلاص الدين لله .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله » (1) .
وثبت في الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرُم ماله ودمه وحسابه على الله » (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (52) ، وصحيح مسلم برقم (22).
(2) صحيح مسلم برقم (23) .

المبحث الثاني :
وجوب إفراد الله بالعبادة ، وتحته مطالب
المطلب الأول : معنى العبادة والأصول التي تُبنى عليها .
العبادة في اللغة : الذل والخضوع ، يقال : بعير معبد ، أي : مذلل ، وطريق معبد : إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام .
وشرعا : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
وسيأتي ما يوضح ذلك عند ذكر بعض أنواع العبادة .
وهي تبنى على ثلاثة أركان :
الأول : كمال الحب للمعبود سبحانه ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (البقرة : 165) .
الثاني : كمال الرجاء ، كما قال تعالى : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } (الإسراء : 57) .
الثالث : كمال الخوف من الله سبحانه ، كما قال تعالى : { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } (الإسراء : 57) .

وقد جمع الله سبحانه بين هذه الأركان الثلاثة العظيمة في فاتحة الكتاب في قوله سبحانه : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، فالآية الأولى فيها المحبة ؛ فإن الله منعم ، والمنعم يُحبُّ على قدر إنعامه ، والآية الثانية فيها الرجاء ، فالمتصف بالرحمة ترجى رحمته ، والآية الثالثة فيها الخوف ، فمالك الجزاء والحساب يخاف عذابه .
ولهذا قال تعالى عقب ذلك : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، أي : أعبدك يا رب هذه الثلاث : بمحبتك التي دل عليها : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، ورجائك الذي دل عليه : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، وخوفك الذي دل عليه : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } .
والعبادة لا تقبل إلا بشرطين :
1 - الإخلاص فيها للمعبود ؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا الخالص لوجهه سبحانه ، قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (البينة : 5) ، وقَال تعالى : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } (الزمر : 3) ، وقال تعالى : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } (الزمر : 14) .

2 - المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا الموافق لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر : 7) ، وقَال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (النساء : 65) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (1) (أي مردود عليه) .
فلا عبرة بالعمل ما لم يكن خالصا لله صوابا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (هود : 7 ، الملك : 2) : " أخلصه وأصوبه " ، قيل : يا أبا علي ، وما أخلصه وأصوبه ؟ قال : " إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا ، والخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة " (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (2697) .
(2) حلية الأولياء : (8 / 95) .

ومن الآيات الجامعة لهذين الشرطين قوله تعالى في آخر سورة الكهف : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110) .

المطلب الثَاني : ذكر بعض أنواع العبادة .
العبادة أنواعها كثيرة ، فكل عمل صالح يحبه الله ويرضاه قولي أو فعلي ظاهر أو باطن فهو نوع من أنواعها وفرد من أفرادها ، وفيما يلي ذكر بعض الأمثلة على ذلك :
1 - فمن أنواع العبادة : الدعاء ، بنوعيه دعاء المسألة ، ودعاء العبادة .
قال الله تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (غافر : 14) ، وقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (الجن : 18) ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ }{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } (الأحقاف : 5- 6) .
فمن دعا غير الله عز وجل بشيء لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو حيا أو ميتا ، ومن دعا حيا . بما يقدر عليه مثل أن يقول : يا فلان أطعمني ، أو يا فلان اسقني ، ونحو ذلك فلا شيء عليه ، ومن دعا ميتا أو غائبا . بمثل هذا فإنه مشرك ؛ لأن الميت والغائب لا يمكن أن يقوم . بمثل هذا .

والدعاء نوعان : دعاء المسألة ودعاء العبادة .
فدعاء المسألة ، هو سؤال الله من خيري الدنيا والآخرة ، ودعاء العبادة يدخل فيه كل القربات الظاهرة والباطنة ؛ لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله من ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها .
وكل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله والثناء على الداعين يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة .
2 ، 3 ، 4 - ومن أنواع العبادة : المحبة والخوف والرجاء ، وقد تقدم الكلام عليها وبيان أنها أركان للعبادة .
5 - ومن أنواعها : التوكل ، وهو الاعتماد على الشيء .
والتوكل على الله : هو صدق تفويض الأمر إلى الله تعالى اعتمادا عليه وثقة به مع مباشرة ما شرع وأباح من الأسباب لتحصيل المنافع ودفع المضار ، قال الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (المائدة : 23) ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق : 3) .
6 ، 7 ، 8- ومن أنواع العبادة : الرغبة والرهبة والخشوع .

فأما الرغبة : فمحبة الوصول إلى الشيء المحبوب ، والرهبة : الخوف المثمر للهرب من المخوف ، والخشوع : الذل والخضوع لعظمة الله بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي ، قال الله تعالى في ذكر هذه الأنواع الثلاثة من العبادة : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } (الأنبياء : 90) .
9 - ومن أنواعها : الخشية ، وهي الخوف المبني على العلم بعظمة من يخشاه وكمال سلطانه ، قال الله تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } (البقرة : 150) .
{ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } (المائدة : 3) . 10- ومنها الإنابة ، وهي الرجوع إلى الله تعالى بالقيام بطاعته واجتناب معصيته ، قال الله تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } (الزمر : 54) .
11 - ومنها : الاستعانة ، وهي طلب العون من الله في تحقيق أمور الدين والدنيا ، قال الله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس : « إذا استعنت فاستعن بالله » (1) .
_________
(1) سنن الترمذي (2516) ، ومسند أحمد (1 / 307) ، وقد حسن الحديث الترمذي وصححه الحاكم .

12 - ومنها : الاستعاذة ، وهي طلب الإعاذة والحماية من المكروه ، قال الله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }{ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وقال تعالى { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }{ مَلِكِ النَّاسِ }{ إِلَهِ النَّاسِ }{ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } .
13 - ومنها الاستغاثة ، وهو طلب الغوث ، وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك ، قال الله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } (الأنفال : 9) .
14 - ومنها الذبح ، وهو إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه الخصوص تقربا إلى الله ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام : 162) ، وقال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (الكوثر : 2) .
15 - ومنها النذر ، وهو إلزام المرء نفسه بشيء ما ، أو طاعة لله غير واجبة ، قال الله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } (الإنسان : 7) .
فهذه بعض الأمثلة على أنواع العبادة ، وجميع ذلك حق لله وحده لا يجوز صرف شيء منه لغير الله .

والعبادة بحسب ما تقوم به من الأعضاء على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : عبادات القلب ، كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة والخشية والرهبة والتوكل ونحو ذلك .
القسم الثاني : عبادات اللسان ، كالحمد والتهليل والتسبيح والاستغفار وتلاوة القرآن والدعاء ونحو ذلك .
القسم الثالث : عبادات الجوارح ، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والجهاد ، ونحو ذلك .

المبحث الثالث :
حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على أمته ؛ لتكون عزيزة منيعة محققة لتوحيد الله عز وجل ، مجانبة لكل الوسائل والأسباب المفضية لما يضاده ويناقضه ، قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة : 128) .
وقد أكثر صلى الله عليه وسلم في النهي عن الشرك وحذر وأنذر وأبدأ وأعاد وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة ملة إبراهيم التي بعث بها من كل ما قد يشوبها من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص ، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، فأقام الحجة ، وأزال الشبهة ، وقطع المعذرة ، وأبان السبيل .
وفي المطالب التالية عرض يتبين من خلاله حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده كل طريق يفضي إلى الشرك والباطل .
المطلب الأول : الرقى .
أ- تعريفها : الرقى جمع رقية ، وهي القراءة والنفث طلبا للشفاء والعافية ، سواء كانت من القرآن الكريم أو من الأدعية النبوية المأثورة .

ب- حكمها : الجواز ، ومن الأدلة على ذلك ما يلي :
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : « كنا نرقي في الجاهلية فقلنا : يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك » ، رواه مسلم (1) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين (2) والحمة (3) والنملة » (4) " ، رواه مسلم (5) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل » ، رواه مسلم (6) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال : (أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما) » ، رواه البخاري ومسلم (7) .
ج- شروطها : ولجوازها وصحتها شروط ثلاثة :
الأول : أن لا يعتقد أنها تنفع لذاتها دون الله ، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو محرم ، بل هو شرك ، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله .
الثاني : أن لا تكون بما يخالف الشرع كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله أو استغاثة بالجن وما أشبه ذلك ، فإنها محرمة ، بل شرك .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2200) .
(2) «العين» إصابة العائن غيره بعينه بقدر الله .
(3) «الحمة» بحاء مهملة مضمومة ثم ميم مخففة : وهي السم ، ومعناه : أذن في الرقية من كل ذات سم ، مثل لدغة الثعبان ، أو العقرب أو نحوهما .
(4) «النملة» بفتح النون وإسكان الميم : قروح تخرج من الجنب .
(5) صحيح مسلم برقم (2196) .
(6) صحيح مسلم برقم (2199) .
(7) صحيح البخاري برقم (5743) ، وصحيح مسلم برقم (2191) .

الثالث : أن تكون مفهومة معلومة ، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة فإنها لا تجوز .
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله : أيرقي الرجل ويسترقي ؟ فقال : " لا بأس بذلك ، بالكلام الطيب " .
د- الرقية الممنوعة : كل رقية لم تتوفر فيها الشروط المتقدمة فإنها محرمة ممنوعة ، كأن يعتقد الراقي أو المرقي أنها تنفع وتؤثر بذاتها ، أو تكون مشتملة على ألفاظ شركية وتوسلات كفرية وألفاظ بدعية ، ونحو ذلك ، أو تكون بألفاظ غير مفهومة كالطلاسم ونحوها .

المطلب الثاني : التمائم .
أ- تعريفها : التمائم جمع تميمة ، وهي ما يعلق على العنق وغيره من تعويذات أو خرزات أو عظام أو نحوها لجلب نفع أو دفع ضر ، وكان العرب في الجاهلية يعلقونها على أولادهم يتقون بها العين بزعمهم الباطل .
ب- حكمها : التحريم ،
بل هي نوع من أنواع الشرك ؛ لما فيها من التعلق بغير الله ؛ إذ لا دافع إلا الله ، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » ، رواه أبو داود والحاكم (1) .
وعن عبد الله بن عكيم رضي الله عنه مرفوعا : « من تعلق شيئا وكل إليه » ، رواه أحمد والترمذي والحاكم (2) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : « من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » ، رواه أحمد والحاكم (3) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من علق تميمة فقد أشرك » ، رواه أحمد (4) . فهذه النصوص وما في معناها في التحذير من الرقى الشركية التي كانت هي غالب رقى العرب فنهي عنها لما فيها من الشرك والتعلق بغير الله تعالى .
_________
(1) سنن أبي داود برقم (3883) ، ومستدرك (4 / 241) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
(2) مسند أحمد (4 / 310) ، وسنن الترمذي برقم (2072) ، ومستدرك الحاكم (4 / 241) وصححه الحاكم .
(3) مسند أحمد (4 / 154) ، ومستدرك الحاكم ( 4 / 240) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
(4) مسند أحمد (4 / 156) ، وصححه الحاكم (4 / 244) وقال عبد الرحمن بن حسن ورواته ثقات .

ج- وإذا كان المعلق من القرآن الكريم ، فهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم ، فذهب بعضهم إلى جواز ذلك ، ومنهم من منع ذلك ، وقال لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء ، وهو الصواب لوجوه أربعة :
1- عموم النهي عن تعليق التمائم ، ولا مخصص للعموم .
2- سدا للذريعة ، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن .
3- أنه إذا علق فلا بد أن يمتهن المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ، ونحو ذلك .
4- أن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة ، وهي القراءة به على المريض فلا تتجاوز .

المطلب الثالث : لبس الحلقة والخيط ونحوها .
أ- الحلقة قطعة مستديرة من حديد أو ذهب أو فضة أو نحاس أو نحو ذلك ، والخيط معروف ، وقد يجعل من الصوف أو الكتان أو نحوه ، وكانت العرب في الجاهلية تعلق هذا ومثله لدفع الضر أو جلب النفع أو اتقاء العين ، والله تعالى يقول : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (الزمر : 38) ، ويقول تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } (الإسراء : 56) .
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال : ما هذه ؟ قال : من الواهنة ، فقال : انزعها ؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، انبذها عنك ، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » ، رواه أحمد (1) .
_________
(1) المسند (4 / 445) ، وقال البوصيري إسناده حسن وقال الهيثمي رجاله ثقات .

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : (أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (يوسف : 106) (1) .
ب- حكم لبس الحلقة والخيط ونحو ذلك ، محرم فإن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله فهو مشرك شركا أكبر في توحيد الربوبية ؛ لأنه اعتقد وجود خالق مدبر مع الله تعالى الله عما يشركون .
وإن اعتقد أن الأمر لله وحده وأنها مجرد سبب ، ولكنه ليس مؤثرا فهو مشرك شركا أصغر لأنه جعل ما ليس سببا سببا والتفت إلى غير ذلك بقلبه ، وفعله هذا ذريعة للانتقال للشرك الأكبر إذا تعلق قلبه بها ورجا منها جلب النعماء أو دفع البلاء .
_________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (7 / 2207) .

المطلب الرابع : التبرك بالأشجار والأحجار ونحوها .
التبرك هو طلب البركة ، وطلب البركة لا يخلو من أمرين :
1 - أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم ، مثل القرآن ، قال الله تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } (الأنعام : 92 ، 155) ، فمن بركته هدايته للقلوب وشفاؤه للصدور وإصلاحه للنفوس وتهذيبه للأخلاق ، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة .
2 - أن يكون التبرك بأمر غير مشروع ، كالتبرك بالأشجار والأحجار والقبور والقباب والبقاع ونحو ذلك ، فهذا كله من الشرك .
فعن أبي واقد الليثي قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة (1) يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } (الأعراف : 138) ، لتركبن سنن من كان قبلكم » ، رواه الترمذي وصححه (2) .
_________
(1) السدرة : شجرة ذات شوك .
(2) سنن الترمذي برقم (2180 ) .

فقد دل هذا الحديث على أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار ونحوها من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك ، ولهذا أخبر في الحديث أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون ، وأولئك طلبوا إلها كما لهم آلهة ، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد ؛ لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك ، واتخاذ إله غير الله شرك واضح .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : « لتركبن سنن من كان قبلكم » إشارة إلى أن شيئا من ذلك سيقع في أمته صلى الله عليه وسلم ، وقد قال ذلك عليه الصلاة والسلام ناهيا ومحذرا .

المطلب الخامس : النهي عن أعمال تتعلق بالقبور .
لقد كان الأمر في صدر الإسلام على منع زيارة القبور لقرب عهدهم بالجاهلية حماية لحمى التوحيد وصيانة لجنابه ، ولما حسن الإيمان وعظم شأنه في الناس ورسخ في القلوب واتضحت براهين التوحيد وانكشفت شبهة الشرك جاءت مشروعية زيارة القبور محددة أهدافها موضحة مقاصدها .
فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » ، رواه مسلم (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « زوروا القبور فإنها تذكر الموت » (2) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة » (3) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ؛ فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هجرا » (4) .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (977) .
(2) صحيح مسلم برقم (975) .
(3) مسند أحمد (3 / 38) ، ومستدرك الحاكم (1 / 531) .
(4) مستدرك الحاكم (1 / 532) .

وعن بريدة رضي الله عنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية » ، رواه مسلم (1) .
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أن مشروعية زيارة القبور بعد المنع من ذلك إنما كانت لهدفين عظيمين وغايتين جليلتين :
الأولى : التزهيد في الدنيا بتذكر الآخرة والموت والبلى ، والاعتبار بأهل القبور مما يزيد في إيمان الشخص ويقوي يقينه ويعظم صلته بالله ، ويذهب عنه الإعراض والغفلة .
الثانية : الإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم والترحم عليهم وطلب المغفرة لهم وسؤال الله العفو عنهم .
هذا الذي دل عليه الدليل ، ومن ادعى غير ذلك طولب بالحجة والبرهان .
ثم إن السنة قد جاءت بالنهي عن أمور عديدة متعلقة بالقبور وزيارتها ، صيانة للتوحيد وحماية لجنابه ، يجب على كل مسلم تعلمها ليكون في أمنة من الباطل وسلامة من الضلال ، ومن ذلك :
1 - النهي عن قول الهجر عند زيارة القبور .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (975) .

وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تقولوا هجرا » ، والمراد بالهجر كل أمر محظور شرعا ، ويأتي في مقدمة ذلك الشرك بالله بدعاء المقبورين وسؤالهم من دون الله والاستغاثة بهم وطلب المدد والعافية منهم ، فكل ذلك من الشرك البواح والكفر الصراح ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة صريحة في المنع من ذلك والنهي عنه ولعن فاعله ، ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول : « ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إنِّي أنهاكم عن ذلك » (1) . فدعاء الأموات وسؤالهم الحاجات وصرف شيء من العبادة لهم شرك أكبر ، أما العكوف عند القبور وتحري إجابة الدعاء عندها ومثله الصلاة في المساجد التي فيها القبور فهو من البدع المنكرة .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (2) .
2 - الذبح والنحر عند القبور .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (532) .
(2) صحيح البخاري برقم (1330) ، وصحيح مسلم برقم (531) .

فإن كان ذلك تقربا إلى المقبورين ليقضوا حاجة للشخص فهو شرك أكبر وإن كان لغير ذلك فهو من البدع الخطيرة التي هي من أعظم وسائل الشرك لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا عقر في الإسلام » ، قال عبد الرزاق : « كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة » (1) .
3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7- رفعها زيادة على التراب الخارج منها ، وتجصيصها ، والكتابة عليها ، والبناء عليها ، والقعود عليها .
فكل ذلك من البدع التي ضلت بها اليهود والنصارى وكانت من أعظم ذرائع الشرك ، فعن جابر رضي الله عنه قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه ، وأن يزاد عليه ، أو يكتب عليه » . رواه مسلم ، وأبو داود ، والحاكم (2) .
8 - الصلاة إلى القبور وعندها .
فعن أبي مرثد الغنوي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها)) ، رواه مسلم (3) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأرض كلها مسجد ، إلا المقبرة والحمام » . رواه أبو داود والترمذي (4) .
9 - بناء المساجد عليها .
_________
(1) سنن أبي داود لرقم (3222) .
(2) صحيح مسلم برقم (970) ، وسنن أبي داود برقم (3225) ، ورقم (3226) ، ومستدرك الحاكم (1 / 525) .
(3) صحيح مسلم برقم (972) .
(4) سنن أبي داود برقم (492) ، وسنن الترمذي برقم (317) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .

وهو بدعة من ضلالات اليهود والنصارى وتقدم حديث عائشة : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .
10 - اتخاذها عيدا .
وهو من البدع التي جاء النهي الصريح عنها لعظم ضررها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تتخذوا قبري عيدا (1) ، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا ، وحيثما كنتم فصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني » ، رواه أبو داود وأحمد (2) .
11 - شد الرحال إليها .
وهو أمر منهي عنه لأنه من وسائل الشرك فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومسجد الأقصى » . رواه البخاري ومسلم (3) .
_________
(1) العيد هو الذي يعود ويتكرر مثل عيد الفطر وعيد الأضحى ، فكون الإنسان يكرر الزيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم من أجل السلام فكأنه يتخذه عيدا ، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، أمر المسلم أن يصلي ويسلم عليه وهو في أي مكان كان لأن لله ملائكة سياحين يبلغون الرسول السلام وهذا من يسر هذا الدين إذ ليس باستطاعة كل مسلم أن يأتي إلى المدينة.
(2) سنن أبي داود برقم (2042) ، ومسند أحمد (2 / 367) .
(3) صحيح البخاري برقم (1189) ، وصحيح مسلم (1397) .

المطلب السادس : التوسل .
أ- تعريفه : التوسل مأخوذ في اللغة من الوسيلة ، والوسيلة والوصيلة معناهما متقارب ، فالتوسل هو التوصل إلى المراد والسعي في تحقيقه .
وفي الشرع يراد به التوصل إلى رضوان الله والجنة ؛ بفعل ما شرعه وترك ما نهي عنه .
ب- معنى الوسيلة في القرآن الكريم :
وردت لفظة " الوسيلة " في القرآن الكريم في موطنين :
1 - قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة : 35) .
2 - قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } (الإسراء : 57) .
والمراد بالوسيلة في الآيتين ، أي : القربة إلى الله بالعمل بما يرضيه ، فقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى الوسيلة فيها القربة ، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن البصري وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد (1) .
_________
(1) تفسير ابن كثير (2 / 50) .

وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال : " نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن ، فأسلم الجنيون ، والإنس الذين يعبدونهم لا يشعرون " (1) .
وهذا صريح في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة والعبادات الجليلة ، ولذلك قال : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله وينالون به مرضاته من الأعمال الصالحة المقربة إليه .
ج- أقسام التوسل :
ينقسم التوسل إلى قسمين : توسل مشروع ، وتوسل ممنوع .
1 - التوسل المشروع : هو التوسل إلى الله بالوسيلة الصحيحة المشروعة ، والطريق الصحيح لمعرفة ذلك هو الرجوع إلى الكتاب والسنة ومعرفة ما ورد فيهما عنها ، فما دل الكتاب والسنة على أنه وسيلة مشروعة فهو من التوسل المشروع ، وما سوى ذلك فإنه توسل ممنوع .
والتوسل المشروع يندرج تحته ثلاثة أنواع :
_________
(1) صحيح مسلم برقم (3030) . وصحيح البخاري رقم (4714) .

الأول : التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى أو صفة من صفاته العظيمة ، كأن يقول المسلم في دعائه : اللهم إني أسألك بأنك الرحمن الرحيم أن تعافيني ، أو يقول : أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي وترحمني ، ونحو ذلك .
ودليل مشروعية هذا التوسل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 180) .
الثاني : التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به العبد ، كأن يقول : اللهم بإيماني بك ، ومحبتي لك ، واتباعي لرسولك اغفر لي ، أو يقول : اللهم إني أسألك بحبي لنبيك محمد صلى الله عليه وسلم وإيماني به أن تفرج عني ، أو أن يذكر الداعي عملا صالحا ذا بال قام به فيتوسل به إلى ربه ، كما في قصة أصحاب الغار الثلاثة التي سيرد ذكرها .
ويدل على مشروعيته قوله تعالى : { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران : 16) ، وقوله تعالى : { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (آل عمران : 53) .

ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار الثلاثة كما يرويها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر ، فأووا إلى غار فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق ، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه ، فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز فذهب وتركه ، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا ، وأنه أتاني يطلب أجره ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فسقها ، فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر ، فإنها من الفرق ، فساقها ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ، فانساخت (1) عنهم الصخرة ، فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عليهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما ، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما ، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك
_________
(1) فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه ، كما في حديث سالم .

من خشيتك ففرج عنا ، فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء ، فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي ، وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت ، فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها ، فلما قعدت بين رجليها فقالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقمت وتركت المائة دينار ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ، ففرج الله عنهم فخرجوا » . رواه البخاري (1) .
الثالث : التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابة دعائه ، كأن يذهب المسلم إلى رجل يرى فيه الصلاح والتقوى والمحافظة على طاعة الله ، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج كربته وييسر أمره .
ويدل على مشروعية هذا النوع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بدعاء عام ودعاء خاص .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3465) .

ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : « أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول صلى الله عليه وسلم قائما فقال : يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل ، فادع الله يغيثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال : اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، قال أنس : ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة (1) ولا شيئا ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ، ثم أمطرت ، قال : والله ما رأينا الشمس ستا ، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فادع الله يمسكها ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والجبال والظراب ومنابت الشجر ، قال : فانقطعت ، وخرجنا نمشي في الشمس » . قال شريك : فسألت أنسا : أهو الرجل الأول ؟ قَال : لا أدري (2) .
_________
(1) سحاب متفرق .
(2) صحيح البخاري برقم (1013) ، وصحيح مسلم رقم (897) .

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما « ذكر أن في أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وقال : ( هم الذي لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) قام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : (أنت منهم) » (1) . ومن ذلك حديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أويسا القرني وفيه قال : « فاسألوه أن يستغفر لكم » .
وهذا النوع من التوسل إنما يكون في حياة من يطلب منه الدعاء ، أما بعد موته فلا يجوز ؛ لأنه لا عمل له .
2 - التوسل الممنوع : هو التوسل إلى الله تعالى بما لم يثبت في الشريعة أنه وسيلة ، وهو أنواع بعضها أشد خطورة من بعض ، منها :
1 - التوسل إلى الله تعالى بدعاء الموتى والغائبين والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات ونحو ذلك ، فهذا من الشرك الأكبر الناقل من الملة .
2 - التوسل إلى الله بفعل العبادات عند القبور والأضرحة بدعاء الله عندها ، والبناء عليها ، ووضع القناديل والستور ونحو ذلك ، وهذا من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد ، وهو ذريعة مفضية إلى الشرك الأكبر .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (5705) ، وصحيح مسلم برقم (218) .

3 - التوسل إلى الله بجاه الأنبياء والصالحين ومكانتهم ومنزلتهم عند الله ، وهذا محرم ، بل هو من البدع المحدثة ؛ لأنه توسل لم يشرعه الله ولم يأذن به . قال تعالى : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } (يونس : 59) ولأن جاه الصالحين ومكانتهم عند الله إنما تنفعهم هم ، كما قال الله تعالى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (النجم : 39) ، ولذا لم يكن هذا التوسل معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقد نص على المنع منه وتحريمه غير واحد من أهل العلم :
قال أبو حنيفة رحمه الله : (( يكره أن يقول الداعي : أسألك بحق فلان أو بحق أوليائك ورسلك أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام)) .
د- شبهات وردها في باب التوسل .
قد يورد المخالفون لأهل السنة والجماعة بعض الشبهات والاعتراضات في باب التوسل ؛ ليتوصلوا بها إلى دعم تقريراتهم الخاطئة ، وليوهموا عوام المسلمين بصحة ما ذهبوا إليه ، ولا تخرج شبهات هؤلاء عن أحد أمرين :
الأول : إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة يستدل بها هؤلاء على ما ذهبوا إليه ، وهذه يفرغ من أمرها بمعرفة عدم صحتها وثبوتها ، ومن ذلك :

1 - حديث : « توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم » ، أو « إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم » ، وهو حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا هو في شيء من كتب الحديث .
2 - حديث : « إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور » ، أو « فاستغيثوا بأهل القبور » ، وهو حديث مكذوب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء .
3 - حديث : « لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه » ، وهو حديث باطل مناقض لدين الإسلام ، وضعه بعض المشركين .
4 - حديث : « لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال : يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال : غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك » (1) ، وهو حديث باطل لا أصل له ، ومثله حديث : « لولاك ما خلقت الأفلاك » .
فمثل هذه الأحاديث المكذوبة والروايات المختلقة الملفقة لا يجوز لمسلم أن يلتفت إليها فضلا عن أن يحتج بها ويعتمدها في دينه .
_________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ج 1 / 88 ح 25 .

الثاني : أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم يسيء هؤلاء فهمها ويحرفونا عن مرادها ومدلولها ، ومن ذلك :
1 - ما ثبت في الصحيح : « أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، قال : فيسقون » (1) .
ففهموا من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه ومكانته عند الله عز وجل ، وأن المراد بقوله : « كنا نتوسل إليك بنبينا [أي بجاهه] فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا » [أي بجاهه] .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1010) .

وهذا ولا ريبِ فهم خاطئ وتأويل بعيد لا يدل عليه سياق النص لا من قريب ولا من بعيد ؛ إذ لم يكن معروفا لدى الصحابة التوسل إلى الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه ، وإنما كانوا يتوسلون إلى الله بدعائه حال حياته كما تقدم بعض هذا المعنى ، وعمر رضي الله عنه لم يرد بقوله : « إنا نتوسل إليك بعم نبينا » أي ذاته أو جاهه ، وإنما أراد دعاءه ، ولو كان التوسل بالذات أو الجاه معروفا عندهم لما عدل عمر عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه ، بل ولقال له الصحابة إذ ذاك كيف نتوسل بمثل العباس ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق ، فلما لم يقل ذلك أحد منهم ، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه ، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل لا بذاته .
وبهذا يتبين أن الحديث ليس فيه متمسك لمن يقول بجواز التوسل بالذات أو الجاه .

2 - حديث عثمان بن حنيف : « أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي ، اللهم فشفعه في » ، رواه الترمذي وأحمد وقال البيهقي إسناده صحيح (1) .
ففهموا من الحديث أنه يدل على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين ، وليس في الحديث ما يشهد لذلك ، فإن الأعمى قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره ، فقال له : « إن شئت صبرت وإن شئت دعوت » ، فقال : فادعه ، إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في الحديث المصرحة بأن هذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بذاته أو جاهه ؛ ولذا ذكر أهل العلم هذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب ، فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره ولهذا أورده البيهقي في دلائل النبوة (2) .
_________
(1) سنن الترمذي برقم (3578) ، ومسند أحمد (4 / 138) .
(2) دلائل النبوة للبيهقي (6 / 167) .

وأما الآن وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن مثل هذا لا يمكن أن يكون لتعذر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأحد بعد الموت ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له » ، رواه مسلم (1) .
والدعاء من الأعمال الصالحة التي تنقطع بالموت .
وعلى كل فإن جميع ما يتعلق به هؤلاء لا حجة فيه ؛ إما لعدم صحته ، أو لعدم دلالته على ما ذهبوا إليه .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (1631) .

المطلب السابع : الغلو .
أ- تعريفه : الغلو في اللغة هو مجاوزة الحد ، بأن يزيد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق .
وفي الشرع : هو مجاوزة حدود ما شرع الله لعباده سواء في العقيدة أو العبادة .
ب- حكمه : التحريم ؛ لما جاء من النصوص في النهي عنه والتحذير منه وبيان سوء عواقبه على أهله في العاجل والآجل . قال الله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } (النساء : 171) .
وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (المائدة : 77) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والغلو ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين » ، رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هلك المتنطعون » ، قالها ثلاثا ، رواه مسلم (2) .
_________
(1) المسند (1 / 347) ، والمستدرك (1 / 638) .
(2) صحيح مسلم برقم (2670) .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، إنما أنا عبد الله ورسوله » ، رواه البخاري (1) .
والمراد هذا الحديث ، أي : لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية والألوهية ، وإنما أنا عبد الله فصفوني بما وصفني به ربي ، وقولوا : عبد الله ورسوله ، فأبى الضلال إلا مخالفة لأمره وارتكابا لنهيه وناقضوه أعظم المناقضة فغلوا فيه وبالغوا في إطرائه وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه ، فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وشفاء الأمراض ونحو ذلك مما هو مختص بالله وحده لا شريك له ، وكل ذلك من الغلو في الدين .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3445) .

المبحث الرابع :
الشرك والكفر وأنواعهما
وفيه مطالب
ما من ريب أن في معرفة المسلم للشرك والكفر وأسبابهما ووسائلهما وأنواعهما فوائد عظيمة ، إذا عرفها معرفة يقصد من ورائها السلامة من هذه الشرور والنجاة من تلك الآفات ، والله سبحانه يحب أن تعرف سبيل الحق لتحب وتسلك ، ويحب أن تعرف سبل الباطل لتجتنب وتبغض ، والمسلم كما أنه مطالب بمعرفة سبيل الخير ليطبقها ، فهو كذلك مطالب بمعرفة سبل الشر ليحذرها ، ولهذا ثبت في الصحيحين عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال : « كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني » (1) .
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
والقرآن الكريم مليء بالآيات المبينة للشرك والكفر والمحذرة من الوقوع فيهما ، والدالة على سوء عاقبتهما في الدنيا والآخرة ، بل إن ذلك مقصد عظيم من مقاصد القرآن الكريم والسنة المطهرة ، كما قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام : 55) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7084) ، وصحيح مسلم برقم (1847) .

وفيما يِلي ذكر لبعض المطالب المهمة المتعلقة بهذا الجانب .
المطلب الأول : الشرك .
أ- تعريفه : يطلق الشرك في اللغة على التسوية بين الشيئين .
وله في الشرع معنيان : عام وخاص .
1 - المعنى العام : تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائصه سبحانه ، ويندرج تحته ثلاثة أنواع :
الأول : الشرك في الربوبية ، وهو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الربوبية ، أو نسبة شيء منها إلى غيره ، كالخلق والرزق والإيجاد والإماتة والتدبير لهذا الكون ونحو ذلك .
قال تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } (فاطر : 3) .
الثاني : الشرك في الأسماء والصفات ، وهو تسوية غير الله بالله في شيء منها ، والله تعالى يقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ( الشورى : 11 ) .
الثالث : الشرك في الألوهية ، وهو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الألوهية ، كالصلاة والصيام والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحو ذلك .

قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } (البقرة : 165) .
2- المعنى الخاص : وهو أن يتخذ لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويسأله الشفاعة كما يسأل الله ويرجوه كما يرجو الله ، ويحبه كما يحب الله ، وهذا هو المعنى المتبادر من كلمة " الشرك " إذا أطلقت في القرآن أو السنة .
ب- الأدلة على ذم الشرك وبيان خطره .
لقد تنوعت دلالة النصوص على ذم الشرك والتحذير منه وبيان خطره وسوء عاقبته على المشركين في الدنيا والآخرة .
1 - فقد أخبر الله سبحانه أنه الذنب الذي لا يغفره إلا بالتوبة منه قبل الموت ، فقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء : 48) .
2 - ووصفه بأنه أظلم الظلم ، فقال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ( لقمان : 13 ) .
3 - وأخبر أنه محبط للأعمال ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (الزمر : 65) .

4 - ووصفه بأن فيه تنقصا لرب العالمين ومساواة لغيره به ، فقال تعالى : { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ }{ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء : 96- 98) .
5 - وأخبر أن من مات عليه يكون مخلدا في نار جهنم ، فقال تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة : 72) .
إلى غير ذلك من أنواع الأدلة ، وهي كثيرة جدا في القرآن الكريم .
ج- سبب وقوع الشرك :
إن أصل الشرك وسبب وقوعه في بني آدم هو الغلو في الصالحين المعظمين ، وتجاوز الحد في إطرائهم ومدحهم والثناء عليهم ، قال الله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } (نوح : 23- 24) .

فهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح لما ماتوا جعلوا لهم أصناما على صورهم وسموها بأسمائهم قاصدين بذلك تعظيمهم وتخليد ذكرهم وتذكر فضلهم إلى أن آل بهم الأمر إلى عبادتهم .
ويشهد لهذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ (ونسخ العلم) (1) العلم عبدت " (2) .
_________
(1) أي علم تلك الصور بخصوصها .
(2) صحيح البخاري برقم (4920) .

روى ابن جرير الطبري عن محمد بن قيس عند قوله تعالى : وقالوا لا تذرن آلهتك الآية ، قال : " كانوا قوما صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون هم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم " (1) . فجمعوا بين فتنتين :
الأولى : العكوف عند قبورهم .
الثانية : تصوير صورهم ونصبها في مجالسهم والجلوس إليها .
فبهذا وقع الشرك لأول مرة في تاريخ البشرية فهما أعظم وسائل الشرك في كل زمان ومكان .
د- أنواع الشرك : ينقسم الشرك إلى قسمين : أكبر وأصغر .
1 - الشرك الأكبر : هو اتخاذ ند مع الله يعبد كما يعبد الله ، وهو ناقل من ملة الإسلام محبط للأعمال كلها ، وصاحبه إن مات عليه يكون مخلدا في نار جهنم لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابها .
أنواع الشرك الأكبر : وينقسم الشرك الأكبر إلى أربعة أنواع :
_________
(1) تفسير الطبري (12 / 254) .

1 - شرك الدعوة ، أي الدعاء ، وذلك أن الدعاء من أعظم أنواع العبادة ، بل هو لب العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الدعاء هو العبادة » ، رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح (1) ، قال الله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (غافر : 60) .
ولما ثبت أن الدعاء عبادة ، فصرفه لغير الله شرك ، فمن دعا نبيا أو ملكا أو وليا أو قبرا أو حجرا أو غير ذلك من المخلوقين فهو مشرك كافر ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } (المؤمنون : 117) .
_________
(1) مسند أحمد (4 / 267) ، وسنن الترمذي برقم (2969) .

ومن الأدلة على أن الدعاء عبادة وأن صرفه لغير الله شرك قوله تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } (العنكبوت : 65) ، فأخبر عن هؤلاء المشركين بأنهم يشركون بالله في رخائهم ، ويخلصون له في كربهم وشدتهم ، فكيف بمن يشرك بالله في الرخاء والشدة عياذا بالله .
2 - شرك النية والإرادة والقصد ، وذلك أن ينوي بأعماله الدنيا أو الرياء أو السمعة ، إرادة كلية كأهل النفاق الخلص ، ولم يقصد بها وجه الله والدار الآخرة ، فهو مشرك الشرك الأكبر ، قال الله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (هود : 15-16) .
وهذا النوع من الشرك دقيق الأمر بالغ الخطورة .

3 - شرك الطاعة ، فمن أطاع المخلوقين في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، ويعتقد ذلك بقلبه أي أنه يسوغ لهم أن يحللوا ويحرموا ويسوغ له ولغيره طاعته في ذلك مع علمه بأنه مخالف لدين الإسلام فقد اتخذهم أربابا من دون الله وأشرك بالله الشرك الأكبر .
قال الله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (التوبة : 31) .
وتفسير الآية الذي لا إشكال فيه : طاعة العلماء والعباد في المعصية (أي في تبديل حكم الله) لا دعاؤهم إياهم ، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله فقال : لسنا نعبدهم ؟ فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية (في تبديل حكم الله) ، فقال : « أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه » ، قال : بلى . قال : « فتلك عبادتهم » ، رواه الترمذي وحسنه ، والطبراني في المعجم الكبير (1) .
_________
(1) سنن الترمذي برقم (3095) ، والمعجم الكبير للطبراني (17 / 92) .

4 - شرك المحبة ، والمراد محبة العبودية المستلزمة للإجلال والتعظيم والذل والخضوع التي لا تنبغي إلا لله وحده لا شريك له ، ومتى صرف العبد هذه المحبة لغير الله فقد أشرك به الشرك الأكبر ، والدليل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (البقرة : 165) .
2- النوع الثاني من أنواع الشرك ، الشرك الأصغر :
وهو كل ما كان ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه أو ما جاء في النصوص تسميته شركا ولم يصل إلى حد الأكبر ، وهو يقع في هيئة العمل وأقوال اللسان . وحكمه تحت المشيئة كحكم مرتكب الكبيرة .
ومن أمثلته ما يلي :
أ- يسير الرياء ، والدليل ما رواه الإمام أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال : (الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء » (1) .
_________
(1) مسند أحمد (5 / 428) ، قال المنذري إسناده جيد ، الترغيب والترهيب (1 / 48) ، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ، مجمع (1 / 102) .

ب- قول : " ما شاء الله وشئت " ، روى أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان » (1) .
ج- قول : " لولا الله وفلان " ، أو قول : " لولا البط لأتانا اللصوص " ، ونحو ذلك ، روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال : " الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلانة وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لأصحابه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان ، لا تجعل فيها فلانا ، هذا كله به شرك " (2) .
الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر :
بين الشرك الأكبر والأصغر فروق عديدة ، أهمها ما يلي :
1 - أن الشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة ، وأما الأصغر فتحت المشيئة .
2- أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال ، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه .
_________
(1) سنن أبي داود برقم (4980) ، قال الذهبي في مختصر البيهقي (1 / 140 / 2) إسناده صالح .
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1 / 62) .

3- أن الشرك الأكبر مخرج لصاحبه من ملة الإسلام ، وأما الشرك الأصغر فلا يخرجه منها .
4- أن الشرك الأكبر صاحبه خالد في النار ومحرمة عليه الجنة ، وأما الأصغر فكغيره من الذنوب .

المطلب الثاني : الكفر .
أ- تعريفه : الكفر لغة يطلق على الستر والتغطية .
وشرعا : ضد الإيمان ، وهو : عدم الإيمان بالله ورسوله ، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب ، بل عن شك وريب ، أو إعراض عن ذلك حسدا وكبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة .
ب- أنواع الكفر :
الكفر نوعان : كفر أكبر ، وكفر أصغر .
فالكفر الأكبر هو الموجب للخلود في النار ، والأصغر موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود .
أولا : الكفر الأكبر .
وهو خمسة أنواع :
أ- كفر التكذيب ، وهو اعتقاد كذب الرسل عليهم السلام ، فمن كذبهم فيما جاؤوا به ظاهرا أو باطنا فقد كفر ، والدليل قوله تعالى :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } (العنكبوت : 68) .

2 - كفر الإباء والاستكبار ، وذلك بأن يكون عالما بصدق الرسول ، وأنه جاء بالحق من عند الله ، لكن لا ينقاد لحكمه ولا يذعن لأمره ، استكبارا وعنادا ، والدليل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (البقرة : 34) .
3 - كفر الشك ، وهو التردد ، وعدم الجزم بصدق الرسل ، ويقال له كفر الظن ، وهو ضد الجزم واليقين .
والدليل قوله تعالى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا }{ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا }{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا }{ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } (الكهف : 35- 38) .

4 - كفر الإعراض ، والمراد الإعراض الكلي عن الدين ، بأن يعرض بسمعه وقلبه وعلمه عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والدليل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ } (الأحقاف : 3) .
5 - كفر النفاق ، والمراد النفاق الاعتقادي بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر (1) ، والدليل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } (المنافقون : 3) .
والنفاق على ضربين :
1 - نفاق اعتقاد وهو كفر أكبر ناقل من الملة وهو ستة أنواع : تكذيب الرسول ، أو تكذيب بعض ما جاء به ، أو بغض الرسول ، أو بغض ما جاء به ، أو المسرة بانخفاض دين الرسول ، أو الكراهية لانتصار دين الرسول .
2 - ونفاق عملي وهو كفر أصغر لا ينقل من الملة ، إلا أنه جريمة كبيرة وإثم عظيم ، ومنه ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث حيث قال : « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر » متفق عليه (2) .
_________
(1) مدارج السالكين (1 / 346) .
(2) صحيح البخاري برقم (34) ، وصحيح مسلم برقم (58) .

وقال عليه الصلاة والسلام : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان » ، رواه البخاري (1) .
ثانيا : الكفر الأصغر
وهو لا يخرج صاحبه من الملة ولا يوجب الخلود في النار وإنما عليه الوعيد الشديد ، وهو كفر النعمة ، وجميع ما ورد في النصوص من ذكر الكفر الذي لا يصل إلى حد الكفر الأكبر . ومن الأمثلة عليه :
ما ورد في قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ }{ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (النحل : 112) .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « اثنتان في الناس هما بهم كفر ، الطعن في النسب والنياحة على الميت » ، رواه مسلم (2) .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » ، رواه البخاري ومسلم (3) .
فهذا وأمثاله كفر دون كفر وهو لا يخرج من الملة الإسلامية .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (33) .
(2) صحيح مسلم برقم (67) .
(3) صحيح البخاري برقم (121) ، وصحيح مسلم برقم (65) .

لقوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات : 9 ، 10) ، فسماهم الله عز وجل مؤمنين مع الاقتتال .
ولقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (النساء : 48) ، فدلت الآية الكريمة على أن كل ذنب دون الشرك تحت المشيئة أي إن شاء الله عذبه بقدر ذنبه وإن شاء عفا عنه من أول وهلة ، إلا الشرك به فإن الله لا يغفره كما هو صريح في الآية وقوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة : 72) .

المبحث الخامس :
ادعاء علم الغيب وما يلحق به
الغيب هو كل ما غاب عن العقول والأنظار من الأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة ، وقد استأثر الله عز وجل بعلمه واختص نفسه سبحانه بذلك .
قال الله تعالى : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (النمل : 65) ، وقال تعالى : { لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (الكهف : 26) ، وقال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } (الرعد : 9) .
فلا يعلم الغيب أحد إلا الله ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عمن هو دونهما .

قال الله تعالى عن نوح عليه السلام : { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } (هود : 31) ، وقال تعالى عن هود عليه السلام : { قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ } (الأحقاف : 23) ، وقال تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } (الأنعام : 50) ، وقال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (البقرة : 31- 32) .

ثم إنه سبحانه قد يطلع بعض خلقه على بعض الأمور المغيبة عن طريق الوحي ، كما قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا }{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا }{ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } (الجن : 26-28) ، وهذا من الغيب النسبي الذي غاب علمه عن بعض المخلوقات دون بعض ، أما الغيب المطلق فلا يعلمه إلا هو سبحانه ، ومن ذا الذي يدعي علمه وقد استأثر الله به .
ولهذا فإن الواجب على كل مسلم أن يحذر من الدجاجلة والكذابين المدعين لعلم الغيب المفترين على الله ، الذين ضلوا في أنفسهم وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ، كالسحرة والكذابين والمنجمين ، وغيرهم .
وفيما يلي عرض لجملة من أعمال هؤلاء التي يدعون بها علم الغيب ، ويضلون بها عوام المسلمين وجهالهم ، ويفسدون بها عقيدتهم وإيمانهم .
1 - السحر : وهو في اللغة ما خفي ولطف سببه .

وفي الاصطلاح هو عزائم ورقى وعقد يؤثِّر في القلوب والأبدان ، فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه بإذن الله ، وهو كفر ، والساحر كافر بالله العظيم ، وما له في الآخرة من خلاق ، قال الله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (البقرة : 102) .

ومنه النفث في العقد ، قال الله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }{ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ }{ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }{ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } .
2 - التنجيم : وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية التي لم تقع ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اقتبس علما من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » ، رواه أبو داود (1) .
3 - زجر الطير والخط في الأرض : فعن قطن بن قبيصة عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « العيافة والطيرة والطرق من الجبت » (2) ، أي من السحر ، والعيافة زجر الطير والتفاؤل والتشاؤم بأسمائها وأصواتها وممرها ، والطرق الخط يخط في الأرض ، أو الضرب بالحصى وادعاء علم الغيب .
4 - الكهانة : وهي ادعاء علم الغيب ، والأصل فيها استراق الجن السمع من كلام الملائكة فتلقيه في أذن الكاهن .
_________
(1) سنن أبي داود برقم (3905) .
(2) سنن أبي داود برقم (3907) ، ومسند أحمد (3 / 477) .

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » رواه أبو داود وأحمد والحاكم (1) .
5 - كتابة حروف أبا جاد : وذلك بأن يجعل لكل حرف منها قدرا معلوما من العدد ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة ، ثم يحكم عليها بالسعود أو النحوس ونحو ذلك .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوم يكتبون أبا جاد ، وينظرون في النجوم : ((ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق)) ، رواه عبد الرزاق في المصنف (2) .
6 - القراءة في الكف والفنجان ونحو ذلك مما يدعي به بعض هؤلاء معرفة الحوادث المستقبلة من موت وحياة وفقر وغنى وصحة ومرض ونحو ذلك .
7 - تحضر الأرواح : ويزعم أربابه أنهم يستحضرون أرواح الموتى ويسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب وغير ذلك ، وهو نوع من الدجل والشعوذة الشيطانية ، ويراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على الجهال وأكل أموالهم بالباطل والتوصل إلى دعوى علم الغيب .
8 - التطير : وهو التشاؤم بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرها ، وهذا باب من الشرك وهو من إلقاء الشيطان وتخويفه .
_________
(1) سنن أبي داود (3904) ، ومسند أحمد (2 / 429) ، المستدرك (1 / 50) قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
(2) المصنف (11 / 26) .

فعن عمران بن حصين مرفوعا : « ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » ، رواه البزار (1) .
والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين ، ويمنحهم الفقه في الدين ، ويعيذهم من خداع المجرمين وتلبيس أولياء الشياطين .
_________
(1) مسند البزار (9 / 52) (3578) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 117) رجاله رجال الصحيح .

الفصل الثالث
توحيد الأسماء والصفات
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث :
التمهيد : الإيمان بالأسماء والصفات وأثر ذلك على
المسلم.
المبحث الأول : تعريفه وأدلته .
أولا : تعريفه .
ثانيا : المنهج الحق في إثباته .
ثالثا : أدلة هذا المنهج .
المبحث الثاني : أمثلة تطبيقية لإثبات الأسماء
والصفات في ضوء الكتاب والسنة.
المبحث الثالث : قواعد في باب الأسماء والصفات .
التمهيد
الإيمان بالأسماء والصفات
وأثر ذلك في سلوك المسلم
إن للإيمان بأسماء الله وصفاته آثارا عظيمة في نفس المسلم وتحقيقه لعبادة ربه . فمن آثارها تلك المعاني التي يجدها العبد في عبوديته القلبية التي تثمر التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه ، وحفظ جوارحه ، وخطرات قلبه ، وضبط هواجسه حتى لا يفكر إلا فيما يرضي الله تعالى ، ويحب لله وفي الله ، به يسمع ، وبه يبصر ، ومع ذلك هو واسع الرجاء وحسن الظن بربه .
هذه المعاني وغيرها مما يتعلق بالإيمان بمعاني الأسماء والصفات تثمر العبودية الظاهرة والباطنة على تفاوت بين شخص وآخر وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

فلاسمه "الغفار" أثره العظيم في محبته وعدم اليأس من رحمته ولاسمه " شديد العقاب " أثره الكبير في خشيته وعدم الجرأة على محارمه . وهكذا لأسمائه الأخرى وصفاته آثارها بحسب دلالاتها المتنوعة في نفس المسلم واستقامته على شرع الله بل وتحقيق محبته في القلوب التي هي أساس سعادة المسلم في الدنيا والآخرة ، ومفتاح كل خير وأعظم عون للعبد على عبادته لربه على أكمل الوجوه إذ الأعمال الظاهرة تخف وتثقل على النفس بحسب المحبة القلبية لله تعالى .
فإكمال العمل وتحسينه على ما أراد الله منوط بالمحبة القلبية لله . والمحبة منوطة بمعرفة الله بأسمائه وصفاته . ولهذا كان أعظم الناس عبادة لله رسل الله الذين هم أعظم الناس محبة له وأعرفهم به .

المبحث الأول
تعريف توحيد الأسماء والصفات وأدلته
أولا : تعريفه :
توحيد الأسماء والصفات : هو إثبات ما أثبت الله لنفسه ، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونفي ما نفى الله عن نفسه ، ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات والإقرار لله تعالى بمعانيها الصحيحة ودلالاتها واستشعار آثارها ومقتضياتها في الخلق .
ثانيًا : المنهج في إثباته :
يقوم المنهج الحق في باب الأسماء والصفات على الإيمان الكامل والتصديق الجازم بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
والتحريف : هو التغيير وإمالة الشيء عن وجهه . وهو قسمان :
1 - تحريف لفظي . وذلك بالزيادة في الكلمة أو النقص أو تغيير حركة في الكلمة كتحريف كلمة استوى في قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) إلى استولى . قال صاحب النونية :

نون اليهود ولام جهمي هما ... في وحي رب العرش زائدتان

2 - تحريف معنوي . وذلك بتفسير اللفظ على غير مراد الله ورسوله منه كمن فسر " اليد " لله تعالى بالقوة أو النعمة . فإن هذا تفسير باطل لا يدل عليه الشرع ولا اللغة .

والتعطيل : هو نفي صفات الله تعالى كمن زعم أن الله تعالى لا يتصف بصفة .
والفرق بين التحريف والتعطيل هو أن التحريف نفي المعنى الصحيح الذي دلت عليه النصوص واستبداله بمعنى آخر غير صحيح أما التعطيل فهو نفي المعنى الصحيح من غير استبدال له بمعنى آخر .
والتكييف : تعيين كيفية الصفة والهيئة التي تكون عليها كفعل بعض المنحرفين في هذا الباب الذين يكيفون صفات الله فيقولون كيفية يده : كذا وكذا ، وكيفية استوائه على هيئة كذا وكذا . فإن هذا باطل إذ لا يعلم كيفية صفات الله إلا هو وحده وأما المخلوقون فإنهم يجهلون ذلك ويعجزون عن إدراكه .
والتمثيل : هو التشبيه كمن يقول لله سمع كسمعنا ووجه كوجوهنا تعالى الله عن ذلك .
وينتظم المنهج الحق في باب الأسماء والصفات في ثلاثة أصول من حققها سلم من الانحراف في هذا الباب . وهي :
الأصل الأول : تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين .
الأصل الثاني : الإيمان . بما سمى ووصف الله به نفسه وبما سماه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته .

الأصل الثالث : قطع الطمع عن إدراك حقيقة كيفية صفات الله تعالى لأن إدراك المخلوق لذلك مستحيل .
فمن حقق هذه الأصول الثلاثة فقد حقق الإيمان الواجب في باب الأسماء والصفات على ما قرره الأئمة المحققون في هذا الباب .
ثالثًا : أدلة هذا المنهج :
دلت الأدلة من كتاب الله تعالى على تقرير هذا المنهج .

فمن الأدلة على الأصل الأول : وهو تنزيه الرب عز وجل عن مشابهة المخلوقين ، قول الله تبارك وتعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى : 11) . ومقتضى الآية نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق من كل وجه مع إثبات السمع والبصر لله عز وجل وفي هذا إشارة إلى أن ما يثبت لله من السمع والبصر ليس كما يثبت للمخلوقين من هاتين الصفتين مع كثرة من يتصف بهما من المخلوقين . وما يقال في السمع والبصر يقال في غيرهما من الصفات . واقرأ قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } . أورد ابن كثير في تفسير الآية ما رواه البخاري في التوحيد (13 / 372) والإمام أحمد في المسند (6 / 46) عن عائشة رضي الله عنها قالت : " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع فأنزل الله عز وجل { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } . . . . إلى آخر الآية " . (1) .
_________
(1) ابن كثير (8 / 60) .

ومن الأدلة أيضًا قول الله تعالى : { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (النحل : 74) . قال الطبري في تفسير الآية : " فلا تمثلوا لله الأمثال ولا تشبهوا له الأشباه فإنه لا مثل له ولا شبه " (1) .
وقال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } (مريمَ : 65) قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها : " هل تعلم للرب مثلًا أو شبيهًا " .
ومن الأدلة لهذا الأصل : قول الله تبارك وتعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (الإخلاص : 4) قال الطبري : " ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء " .
_________
(1) الطبري (7 / 621) .

ومن الأدلة على الأصل الثاني : وهو الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته ، قول الله عز وجل : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (البقرة : 255) . وقوله تعالى : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (الحديد : 3) . وقوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ

الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الحشر : 22- 24) .
ومن السنة حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول : « اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدَّيْن وأغْنِنا من الفقر » (1) . والنصوص في تقرير هذا الباب كثيرة تجل عن الحصر .
وأما الأصل الثالث وهو قطع الطمع عن إدراك كيفية صفات الله تبارك وتعالى فقد دل عليه قول الله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (طه : 110) . قال بعض أهل العلم في معنى الآية : " لا إحاطة للعلم البشري برب السماوات والأرض فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها " .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2713) .

ومن الأدلة لهذا الأصل أيضًا قول الله تعالى : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } (الأنعام : 103) قال بعض العلماء في معرض حديثه عن الآية : " وهذا يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به فإن الإدراك وهو الإحاطة بالشيء قدر زائد على الرؤية فالرب يرى في الآخرة ولا يدرك كما يعلم ولا يحاط بعلمه " . وينبغي للعاقل أن يعلم أن للعقل حدا يصل إليه ولا يتعداه كما أن للسمع والبصر حدا ينتهيان إليه ، فمن تكلف ما لا يمكن أن يدرك بالعقل كالتفكر في كيفية صفات الله ، فهو كالذي يتكلف أن يبصر ما وراء الجدار أو يسمع الأصوات في الأماكن البعيدة جدا عنه .

المبحث الثاني
أمثلة تطبيقية لإثبات الأسماء والصفات
في ضوء الكتاب والسنة
دل الكتاب والسنة على إثبات الأسماء والصفات للرب عز وجل في مواطن كثيرة من أوجه متعددة وفي سياقات متنوعة .
والأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والسنة كثيرة جدًّا دونت فيها الكتب والمصنفات وعد أهل العلم الكثير منها . ونذكر هنا طائفة منها على سبيل التمثيل لا الحصر .
فمن أسماء الله تعالى:
الحي والقيوم :
وقد دل على هذين الاسمين الكتاب والسنة . فمن الكتاب قول الله تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (البقرة : 255) . ومن السنة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد وتشهد ودعا فقال في دعائه : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد دعا باسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى » (1) .
الحميد :
_________
(1) رواه الحاكم برقم (1856) وقال : صحيح على شرط مسلم ووفقه الذهبي .

وقد دل عليه قول الله عز وجل : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } (البقرة : 267) . ومن السنة حديث كعب بن عُجْرَة في التشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أن يقولوا : « اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد » . . . ) (1) .
الرحمن والرحيم :
وقد دل عليهما قول الله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (الفاتحة : 2 ، 3) .
ومن السنة أمر النبي صلى الله عليه وسلم كاتبه يوم الحديبية عند كتابة الصلح بينه وبين المشركين أن يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) (2) .
الحليم :
ودليله من القرآن قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } (فاطر : 41) . ومن السنة حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : « لا إله إلا الله العظيم الحليم » . . ) الحديث . (3) .
ومن صفات الله :
القدرة :
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3370) ، ومسلم برقم (406) .
(2) صحيح البخاري برقم (2731) .
(3) رواه البخاري برقم (6345) ، ومسلم برقم (2730) .

وهي صفة ذاتية لله تعالى ثابتة بالكتاب والسنة . ومعنى ذاتية : أي ملازمة لذات الله لا تنفك عنه سبحانه . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة : 20) . ومن السنة حديث عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ضع يدك على الذي تألم من جسدك ، وقل : بسم الله ثلاثًا وقل ، سبع مرات : (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر » (1) .
الحياة :
وهي من صفات الله الذاتية . وهي مشتقة من اسمه الحي وقد تقدم ذكر الأدلة عليها .
العلم :
صفة ذاتية لله تعالى وثبوتها بالكتاب والسنة . قال تعالى : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } (البقرة : 255) . ومن السنة حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في الاستخارة : « اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك » . . . ) (2) .
الإرادة :
_________
(1) رواه مسلم برقم (2202) .
(2) رواه البخاري برقم (6382) .

وهي صفة فعلية ثابتة بالكتاب والسنة . والصفات الفعلية هي المتعلقَة بمشيئة الله وقدرته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها . قال تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } (الأنعام : 125) . ومن السنة حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا أراد الله بقوم عذابًا ، أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم » (1) .
العلو :
وهو صفة ذاتية ثابتة بالكتاب والسنة . قال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } (الأعلى : 1) . وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } (النحل : 50) . ومن السنة حديث أبي هريرة المتقدم في المبحث الأول في الذكر عند النوم وفيه : ( . . . « اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء » . . . ) (2) .
الاستواء :
_________
(1) رواه مسلم برقم (9287) .
(2) رواه مسلم برقم (2713) .

وهو صفة فعلية لله تعالى ثابتة بالكتاب والسنة . قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) . وعن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه » (1) . ومعنى الاستواء في لغة العرب : العلو والارتفاع ، والاستقرار والصعود واستواء الله تعالى على عرشه استواء يليق بجلاله .
الكلام :
وهو صفة ذاتية باعتبار النوع وصفة فعلية باعتبار أفراد الكلام فهو سبحانه يتكلم متى شاء وكيف شاء بكلام مسموع ، وقد دل على صفة الكلام الأدلة من الكتاب والسنة . قال تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء : 164) ، { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } (الأعراف : 143) .
ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « احتج آدم وموسى فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنة . قال له آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده » . . . ) الحديث . (2) .
الوجه :
_________
(1) رواه الذهبي في العلو برقم (119) وقال : رواته ثقات ، رواه الخلال في كتاب السنة .
(2) رواه البخاري برقم (6614) ، ومسلم برقم (2652) .

وهو صفة ذاتية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة . قال تعالى : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } (البقرة : 272) . وقوله : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } (الرحمن : 27) ، ومن السنة حديث جابر بن عبد الله قال : (لما نزلت : هذه الآية { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بوجهك » . فقال : { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بوجهك » . قال { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } (الأنعام : 65) . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا أيسر » (1) .
اليدان :
_________
(1) رواه البخاري برقم (7406) .

وهي صفة ذاتية خبرية لله عز وجل وثبوتها بالكتاب والسنة . قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } (المائدة : 64) . وقوله تعالى : { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (ص : 75) . ومن السنة حديث أبي موسى الأشعري الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها » (1) .
العينان :
وهي صفة ذاتية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة . فمن الكتاب قول الله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } (طه : 39) . وقوله تعالى : { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } (هود : 37) . ومن السنة حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله لا يَخْفى عليكم إن اللهّ ليس بأعور وأشار بيده إلى عينيه ، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأنّ عينه عنبة طافية » (2) .
القدم :
_________
(1) رواه مسلم برقم (2759) .
(2) رواه البخاري برقم (7407) ، ومسلم برقم (2933) .

وهي صفة ذاتية ثابتة للرب عز وجل بالأحاديث الصحيحة . ومن ذلك حديث أبي هريرة في تحاجج الجنة والنار وفيه : ( . . . « فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله ، تقول قط قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض » . . . ) (1) . وفي بعض الروايات في الصحيحين « فيضع قدمه عليها » . . . ) (2) .
وأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة كثيرة لا تحصى وإنما هذه أمثلة ويجب على المسلم إثباتها لله تبارك وتعالى على ما يليق بجلاله وكماله ، كما أثبتها الله لنفسه في كتابه ، وهو أعلم بنفسه من خلقه ، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته وهو أعلم الخلق بربه وأكملهم نصحًا وأفصحهم وأبلغهم بيانًا وأتقاهم وأخشاهم له ، وليحذر من تعطيل الله من صفاته أو تشبيهها بصفات المخلوقين لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى : 11) .
_________
(1) رواه البخاري برقم (4850) ومسلم برقم (2846) .
(2) رواه البخاري برقم (4848 ، 4849) ومسلم برقم (2848) .

المبحث الثالث
قواعد في باب الأسماء والصفات
القاعدة الأولى : القول في الصفات كالقول في الذات
وبيانها : أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ، ولا أفعاله . فإذا كان لله ذات حقيقية لا تماثل الذوات بلا خلاف فكذلك الصفات الثابتة له في الكتاب والسنة ، هي صفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات فالقول في الذات والصفات من باب واحد .
وهذه قاعدة عظيمة يناقش بها من ينكر الصفات مع إثباته الذات فإن إثبات الذات للرب عز وجل محل إجماع الأمة .
فإذا قال قائل : لا أثبت الصفات لأن في إثباتها تشبيهًا لله بخلقه .
يقال له : أنت تثبت لله ذاتًا حقيقية وتثبت للمخلوقين ذواتًا أفليس هذا تشبيهًا على قولك !! فإن قال : إنما أثبت ذاتًا لله لا تشبه الذوات ولا يسعه غير هذا . قيل له يلزمك هذا في باب الصفات فإن كانت الذات لا تشبه الذوات وهو حق فكذلك صفات الذات الإلهية لا تشبه الصفات . فإن قال : كيف أثبت صفة لا أعلم كيفيتها . قلنا : له كما تثبت ذاتًا لا تعلم كيفيتها .

القاعدة الثانية : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر .
وشرحها : أن القول في بعض صفات الله من حيث الإثبات والنفي كالقول في البعض الآخر وهذه القاعدة يخاطب بها من يثبت بعض الصفات وينكر البعض الآخر . فإذا كان الرجل يثبت بعض الصفات كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها ويجعل ذلك كله حقيقة ثم ينازع في صفة المحبة والرضا والغضب وغيرها ، ويجعل ذلك مجازًا فيقال له : لا فرق بين ما أثبته وبين ما نفيته فالقول في أحدهما كالقول في الآخر . فإن كنت تثبت له حياة وعلمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا لا تشبه ما يثبت للمخلوقين الذين يتصفون بهذه الصفات فكذلك يلزمك أن تثبت له محبة ورضًا وغضبًا كما أخبر هو عن نفسه من غير مشابهة للمخلوقين وإلا وقعت في التناقض .

القاعدة الثالثة : الأسماء والصفات توقيفية
أسماء الله وصفاته توقيفية لا مجال للعقل فيها وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد فيها ولا ينقص لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات فوجب الوقوف على النص . قال تعالى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (الإسراء : 36) . وقد كان أئمة الإسلام على هذا المنهج . قال الإمام أحمد رحمه الله : (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث) . وقرر بعض أهل العلم أن العلم بالشيء حتى يُمكن وصفه له ثلاثة طرق : إما رؤيتَه ، أو رؤية مثيله ، أو وصفه ممن يعرفه . وعِلْمُنَا بِرَبِّنا وأسمائه وصفاته محصور في الطريق الثالث وهو وصفه ممن يعرفه وليس أحد أعلم بالله من الله ثم رسله الذين أوحى إليهم وعلمهم فوجب لزوم طريق الوحي في أسماء الله وصفاته إذ لم نر ربنا في الدنيا فنصفه وليس له مثيل من خلقه فيوصف بوصفه ، تعالى ربنا وتقدس .

القاعدة الرابعة : أسماء الله كلها حسنى
أسماء الله كلها حسنى أي بالغة في الحسن غايته . قال تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } (الأعراف : 180) وذلك لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول وهو الله عز وجل ولأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه لا احتمالا ولا تقديرًا .
مثال ذلك : (الحي) اسم من أسماء الله تعالى متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال . الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها . ومثال آخر : (العليم) اسم من أسماء الله تعالى متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان . قال تعالى { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } (طه : 52) العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال خلقه . كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } (غافر : 19) .
والحسن في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراد ، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى آخر كمال فوق كمال .

مثال ذلك : (العزيز الحكيم) فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرًا فيكون كل منهما دالا على الكمال الخاص الذي يقتضيه وهو العزة في العزيز والحكم والحكمة في الحكيم . والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن العزة لله تعالى مقرونة بالحكمة فعزته لا تقتضي ظلمًا وجورًا كما يكون من بعض أعزاء المخلوقين فإن بعضهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل . هذا والله أعلم .
وفي ختام هذا الباب نشير إلى جملة من الفوائد والثمرات التي يجنيها المسلم بتحقيقه لهذا الأصل العظيم وهو الإيمان بالله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته . فمن ذلك :
1 - أن العبد ينال بذلك سعادة الدنيا والآخرة ، بل إن السعادة في الدارين متوقف الحصول عليها على الإيمان بالله ، فحظ العبد منها بحسب حظه من إيمانه بربه وأسمائه وصفاته وألوهيته .
2 - أن إيمان العبد بربه وأسمائه وصفاته هو أعظم أسباب خوفه سبحانه وخشيته وتحقيق طاعته ، فكلما كان العبد بربه أعرف كان إليه أقرب ، ومنه أخشى ، ولعبادته أطلب ، وعن معصته ومخالفته أبعد .

3 - أن العبد ينال بذلك طمأنينة قلبه ، وراحة نفسه ، وأنس خاطره ، والأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة . والله تعالى يقول { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (الرعد : 28) .
4 - أنَّ نيل ثواب الآخرة متوقف على الإيمان بالله وصحته ، فبتحقيقه وتحقيق لوازمه ينال العبد ثواب الآخرة فيدخل جنة عرضها السماء والأرض فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وينجو من النار وعذابها الشديد ، وأعظم من ذلك كله أن يفوز برضى الرب سبحانه فلا يسخط عليه أبدًا ، ويتلذذ يوم القيامة بالنظر إلى وجهه الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة .
5 - أن الإيمان بالله هو الذي يصحح الأعمال ويجعلها مقبولة ، فبفقده لا تقبل بل ترد على صاحبها وإن كثرت وتنوعت ، قال تعالى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (المائدة : 5) . وقال تعالى { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } (الإسراء : 19) .

6 - أن الإيمان الصحيح بالله يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه علمًا وعملًا ، ويكسب العبد الاستعداد التام لتلقي المواعظ النافعة والعبر المؤثرة ، ويوجب سلامة الفطرة ، وحسن القصد ، والمبادرة إلى الخيرات ، ومجانبة المحرمات والمنكرات ، ولزوم الأخلاق الحميدة ، والخصال الكريمة ، والآداب النافعة .

7 - أنَّ الإيمان بالله ملجأ المؤمنين في كل ما يلم لهم من شرور وحزن وأمن وخوف وطاعة ومعصية وغير ذلك من الأمور التي لا بد لكل أحد منها ، فعند المحاب والسرور يلجؤون إلى الإيمان بالله فيحمدون الله ويثنون عليه ويستعملون نعمته فيما يحب ، وعند المكاره والأحزان يلجؤون إلى الإيمان بالله فيتسلون بإيمانهم وما يترتب عليه من الأجر والثواب ، وعند المخاوف والأحزان يلجؤون إلى الإيمان بالله فتطمئن قلوبهم ويزداد إيمانهم وتعظم ثقتهم بربهم ، وعند الطاعات والتوفيق للأعمال الصالحات يلجؤون إلى الإيمان بالله فيعترفون بنعمته عليهم ، ويحرصون على تكميلها ، ويسألونه الثبات عليها والتوفيق لقبولها ، وعند الوقوع في شيء من المعاصي يلجؤون إلى الإيمان بالله فيبادرون إلى التوبة منها والتخلص من شرورها وأوضارها ، فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم ملجؤهم إلى الإيمان بالله وحده .

8- أن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته توجب محبة الله في القلوب إذ أن أسماء الله وصفاته كاملة من كل وجه والنفوس قد جبلت على حب الكمال والفضل فإذا تحققت محبة الله في القلوب انقادت الجوارح بالأعمال وتحققت الحكمة التي خلق العبد من أجلها وهي عبادة الله .
9- أن العلم بالأسماء والصفات يورث قوة اليقين بانفراد الله تعالى بتصريف شؤون الخلق وانفراده بذلك لا شريك له وهذا مما يحقق صدق التوكل على الله في جلب المصالح الدينية والدنيوية وفي ذلك فلاح العبد ونجاحه فمن توكل على الله فهو حسبه .
10- إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم ، فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا ، وهي إما علم بما كونه ، وإما علم بما شرعه ، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه . فمن أحصى أسماء الله كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم .

الباب الثاني :
بقية أركان الإيمان
وفيه خمسة فصول :
الفصل الأول:
الإيمان بالملائكة
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول : تعريف الملائكة وأصل خلقتهم وصفاتهم وبعض خصائصهم .
المبحث الثاني : منزلة الإيمان بهم وكيفيته وأدلة ذلك .
المبحث الثالث : وظائفهم .
المبحث الأول
تعريف الملائكة وأصل خلقتهم ، وصفاتهم ، وخصائصهم
تعريفهم :
الملائكة : جمع مَلَك . أخذ من (الأَلُوكِ) وهي : الرسالة .
وهم : خلق من مخلوقات الله ، لهم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل والتمثل والتصور بالصور الكريمة ، ولهم قوى عظيمة ، وقدرة كبيرة على التنقل ، وهم خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله ، قد اختارهم الله واصطفاهم لعبادته والقيام بأمره ، فلا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون .
أصل خلقهم :
والمادة التي خلق الله منها الملائكة هي " النور " . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خلقت الملائكة من نور . وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » (1) . والمارج هو : اللهب المختلط بسواد النار .
صفاتهم :
قد تضمن الكتاب والسنة الكثير من النصوص المبينة صفات الملائكة وحقائقها فمن ذلك :
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2996) .

أنهم موصوفون بالقوة والشدة . كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } (التحريم : 6) . وقال تعالى في وصف جبريل عليه السلام { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) . وقال في وصفه أيضا { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } (التكوير : 20) .
وهم موصوفون بعظم الأجسام والخلق . ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وقد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى قوله تعالى { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } (التكوير : 23) فقال : « إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض » (1) .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته ، وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم » (2) ، قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (177) .
(2) مسند الإمام أحمد : (1 / 395) ، (6 / 294) .

وروى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام » (1) قال الهيثمي في المجمع : رجاله رجال الصحيح .
ومن صفاتهم أنهم يتفاوتون في الخلق والمقدار فهم ليسوا على درجة واحدة ، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له ستمائة جناح . قال تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } (فاطر : 1) .
ومن صفاتهم الحسن والجمال فهم على درجة عالية من ذلك . قال تعالى في حق جبريل عليه السلام { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } (النجم : 5 ، 6) قال ابن عباس رضي الله عنهما ( ذو مرة : ذو منظر حسن) وقال قتادة : (ذو خلق طويل حسن) .
_________
(1) سنن أبي داود : (5 / 96) ، برقم (4727) .

وقال تعالى مخبرا عن النسوة عند رؤيتهن ليوسف عليه السلام : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } (يوسف : 31) وإنما قلن ذلك لما هو مقرر عند الناس من وصف الملائكة بالجمال الباهر .
ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها أنهم كرام أبرار . قال تعالى { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس : 15 ، 16) . وقال عز وجل { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }{ كِرَامًا كَاتِبِينَ } (الانفطار : 10 ، 11) .
ومن صفاتهم الحياء لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق عثمان رضي الله عنه : « ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة » (1) .
ومن صفاتهم أيضا العلم . قال تعالى في خطابه للملائكة { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ }{ ما لا تعلمون } (البقرة : 30) فأثبت الله عز وجل للملائكة علمًا وأثبت لنفسه علمًا لا يعلمونه . وقال تعالى في حق جبريل عليه السلام { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) قال الطبري : (علم محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن جبريل عليه السلام) أ . هـ ، وهذا متضمن وصف جبريل بالعلم والتعليم .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2401) .

إلى غير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة من صفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة الدالة على علو شأنهم وسمو منازلهم عليهم السلام .
خصائصهم :
للملائكة عليهم السلام خصائص وصفات قد اختصهم الله تعالى بها ، وامتازوا بها عن الجن والإنس وسائر المخلوقات . فمنها :
أن مساكنهم في السماء وإنما يهبطون إلى الأرض تنفيذًا لأمر الله في الخلق وما أسند إليهم من تصريف شؤونهم . قال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } (النحل : 2) وقال تعالى : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } (الزمر : 75) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون » (1) . والنصوص في هذا كثيرة جدًّا يصعب حصرها هنا .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (555) وصحيح مسلم برقم (632) .

ومن خصائصهم أنهم لا يوصفون بالأنوثة ، قال تعالى منكرا على الكفار ذلك : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } (الزخرف : 19) . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } (النجم : 27) .
ومن خصائصهم أنهم لا يعصون الله في شيء ، ولا تصدر منهم الذنوب ، بل طبعهم الله على طاعته ، والقيام بأمره : كما قال تعالى في وصفهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم : 6) . وقال أيضا { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } (الأنبياء : 27) .

ومن خصائصهم أيضا أنهم لا يفترون عن العبادة ولا يسأمون . قال تعالى : { وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ }{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } (الأنبياء : 19 ، 20) . وقال في آية أخرى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } (فصلت : 38) .
فهذه بعض خصائص الملائكة التي اختصهم الله بها دون الثقلين من الإنس والجن . وبالجملة فالملائكة جنس آخر ، يتميزون في أصل خلقتهم وتكوينهم عن الإنس والجن . كما أن لكل من الإنس والجن خصائصهما التي يتميز بها أحد الجنسين عن الآخر والله أعلم .

المبحث الثاني
منزلة الإيمان بالملائكة وكيفيته وأدلة ذلك
منزلة الإيمان بهم :
الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان في الدين الإسلامي ، لا يتحقق الإيمان إلا به . وقد نص الله على ذلك في كتابه . وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته .
قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } (البقرة : 285) فأخبر أن الإيمان بالملائكة مع بقية أركان الإيمان مما أنزله على رسوله وأوجبه عليه وعلى أمته وأنهم امتثلوا ذلك .
وقال تعالى في آية أخرى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة : 177) . فجعل الإيمان بهذه الخصال دليل البرِّ- والبرُّ اسم جامع للخير- وذلك أن هذه الأشياء المذكورة هي أصول الأعمال الصالحة ، وأركان الإيمان التي تتفرع منها سائر شعبه .

كما أخبر الله عز وجل في مقابل هذا أن من كفر بهذه الأركان فقد كفر بالله : فقال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء : 136) فأطلق الكفر على من أنكر هذه الأركان ، ووصفه بالبعد في الضلال . فدل ذلك أن الإيمان بالملائكة ركن عظيم من أركان الإيمان وأن تركه مخرج من الملة .

وقد دلت السنة كذلك على هذا . وهو ما جاء موضحًا في حديث جبريل المشهور الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : « بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت . قال : فعجبنا له ، يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر . وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان . قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربَّتها . وأن ترى

الْحُفاة العُراة ، العَالة ، رِعاءَ الشاء ، يتطاولون في البنيان . قال : ثم انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي : يا عمر ! أتدري من السائل ؟ قلتَ : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل ، أتاكم يعلمكم دينكم » (1) .
فهذا حديث عظيم اشتمل على أصول الدين ومراتبه كلها وهو منهج فريد في تعليم هذا الدين جاء على طريقة الحوار بين الرسول الملكي ، أفضل الملائكة وهو جبريل عليه السلام وبين الرسول الإنسي أفضل البشر ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فينبغي للمسلمين أن يعنوا بهذا الحديث العظيم وأن يستمدوا منهجهم في التعلم والتعليم منه كما كان على ذلك السلف رضوان الله عليهم . وقد تضمن الحديث ذكر الملائكة وأن الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان وهو المقصود هنا . . والله أعلم .
كيفية الإيمان بالملائكة :
الإيمان بالملائكة يتضمن عدة أمور لا بد للعبد من تحقيقها حتى يتحقق له الإيمان بالملائكة وهي :
1 - الإقرار بوجودهم والتصديق بهم كما دلت على ذلك النصوص المتقدمة من أن الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان فلا يتحقق الإيمان إلا بذلك .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (8) .

2 - الإيمان بأنهم خلق كثير جدًّا لا يعلم عددهم إلا الله تعالى كما دلت على ذلك النصوص . قال تعالى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } (المدثر : 31) .
أي لا يعلم جنود ربك وهم الملائكة إلا هو وذلك لكثرتهم . قال بذلك بعض السلف .
وجاء في حديث الإسراء الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( . . . « ثم رفع لي البيت المعمور ، فقلت : يا جبريل ! ما هذا ؟ قال : هذا البيت المعمور . يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم » (1) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها » (2) . فدل الحديثان على كثرة الملائكة ، فإذا كان البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه وإنما يأتي غيرهم ، وجهنم يأتي بها يوم القيامة هذا العدد من الملائكة ، فكيف بغيرهم من الملائكة الموكلين بأعمال أخرى ممن لا يعلم عددهم إلا خالقهم تبارك وتعالى .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3207) ، ومسلم برقم (164) ، واللفظ لمسلم .
(2) صحيح مسلم برقم (2842) .

3 - الإقرار لهم بمقاماتهم العظيمة عند ربهم وكرمهم عليه وشرفهم عنده كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ }{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } (الأنبياء : 26 ، 27) . وقال جل وعلا { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس : 15 ، 16) . فوصفهم بأنهم مكرمون منه سبحانه . وقال تعالى في حقهم { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } (فصلت : 38) فوصفهم بأنهم عنده وهذا تشريف لهم ، مع مقام التعبد له بلا سآمة . كما أنه تعالى أقسم بهم في غير موطن من كتابه وهذا لشرفهم عنده . فقال : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا }{ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا }{ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } (الصافات : 1-3) . وقال عز وجل : { فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا }{ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا } (المرسلات : 4 ، 5) . وشواهد صور إكرام الملائكة وتنوع أساليبها وتعدد سياقاتها من كتاب الله كثيرة لا تخفى على متدبر مما يحتم تقرير هذا في الشرع والله أعلم .

4 - اعتقاد تفاضلهم وعدم تساويهم في الفضل والمنزلة عند الله على ما دلت على ذلك النصوص : قال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (الحج : 75) . وقال عز وجل : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } (النساء : 172) فأخبر أن منهم مصطفين بالرسالة ومقربين ، فدل على فضلهم على غيرهم . وأفضل الملائكة : المقربون مع حملة العرش . وأفضل المقربين الملائكة الثلاثة الوارد ذكرهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يفتتح به صلاة الليل فيقول : « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة » . . ) (1) .
_________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند : 6 / 156 ، والنسائي في السنن : 3 / 173 ، برقم (1625) ، ونحوهما مسلم في الصحيح ، برقم (770) ، وابن ماجه ، برقم (1357) .

وأفضل الثلاثة جبريل عليه السلام وهو الموكل بالوحي ، فشرفه بشرف وظيفته . وقد ذكره الله في كتابه بما لم يذكر غيره من الملائكة ، وسماه بأشَرف الأسماء ، ووصفه بأحسن الصفات . فمن أسمائه الروح : قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } (الشعراء : 193) . وقال عز وجل : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } (القدر : 4) . وقد ورد هذا الاسم مضافًا إلى الله تعالى إضافة تشريف . قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } (مريم : 17) . وورد مضافًا إلى القدس ، قال تعالى { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (النحل : 102) والقدس هو الله على الصحيح من أقوال المفسرين . ومما جاء في وصفه قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }{ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }{ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } (التكوير : 19- 21) . وقال تعالى { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } (النجم : 5 ، 6) فوصفه الله تعالى بأنه رسول وأنه كريم عنده ، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه ، وأنه مطاع في السماوات ، وأنه أمين على الوحي وأنه ذو

مرة (أي مظهر حسن) .

5 - موالاتهم والحذر من عداوتهم لقوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) فدخل الملائكة في هذه الآية لأنهم مؤمنون قائمون بطاعة ربهم كما أخبر الله عنهم { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم : 6) . وأخبر جل وعلا عن موالاة الملائكة لرسوله وللمؤمنين فقال : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } (التحريمَ : 4) وقال عز وجل : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } (الأحزاب : 43) . وقال : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } (فصلتَ : 30) . فوجبت موالاة الملائكة على المؤمنين لموالاتهم لهم ونصرهم وتأييدهم واستغفارهم لهم . وقد حذر الله تعالى من عداوة الملائكة فقال : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }

(البقرة : 98) . فأخبر أن عداوة الملائكة موجبة لعداوة الله وسخطه ، وذلك لأنهم إنما يصدرون عن أمره وحكمه ، فمن عاداهم فقد عادى ربه .

6 - الاعتقاد بأن الملائكة خلق من خلق الله لا شأن لهم في الخلق والتدبير وتصريف الأمور ، بل هم جند من جنود الله يعملون بأمر الله ، والله تعالى هو الذي بيده الأمر كله لا شريك له في ذلك . كما أنه لا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لهم ، بل يجب إخلاص العبادة لخالقهم وخالق الخلق أجمعين ، الذي لا شريك له في ربوبيته وألوهيته ولا مثيل له في أسمائه وصفاته . وقد بين الله تعالى ذلك فقال عز من قائل : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران : 80) . وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ }{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }{ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } (الأنبياء : 26-29) . فأخبر سبحانه أنه لم يأمر

بعبادتهم وكيف يأمر بعبادتهم وهي كفر بالله العظيم ثم أبطل تعالى دعوى من زعم أن الملائكة بنات الله ونزه نفسه عن ذلك ، وبين أنهم عباد مكرمون بكرامته لهم عاملون بأمره مشفقون من خشيته وأنهم لا يملكون الشفاعة لأحد إلا من رضي الله عنه من أهل التوحيد . ثم ختم السياق ببيان جزاء من ادعى الألوهية منهم وأن جزاءه جهنم ، فظهر من ذلك أهم عباد مربوبون لا حول لهم ولا قوة إلا بربهم وخالقهم .
7 - الإيمان المفصل بمن جاء التصريح بذكرهم من الملائكة على وجه الخصوص في الكتاب والسنة : كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ومالك ، وهاروت وماروت ، ورضوان ، ومنكر ونكير ، وغيرهم ممن جاءت النصوص بتسميتهم . وكذلك من جاءت النصوص بالإخبار عنه بالوصف : كرقيب وعتيد ، أو بذكر وظيفته : كملك الموت وملك الجبال ، أو من جاءت النصوص بذكر وظائفهم في الجملة : كحملة العرش ، والكرام الكاتبين والموكلين بحفظ الخلق ، والموكلين بحفظ الأجنة والأرحام ، وطواف البيت المعمور ، والملائكة السياحين ، إلى آخر من أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم .

فيجب الإيمان بذلك إيمانا مفصلا على نحو ما جاء في النصوص من أسمائهم وصفاتهم ، ووظائفهم ، وأخبارهم ، والتصديق بكل ذلك مما سيأتي بيانه في المبحث القادم إن شاء الله تعالى .
فهذه جملة ما يجب اعتقاده في حق الملائكة الكرام مما دلت عليه النصوص الشرعية والله تعالى أعلم .

المبحث الثالث
وظائف الملائكة
الملائكة جند من جنود الله تعالى ، أسند الله إليهم كثيرًا من الأعمال الجليلة ، والوظائف الكبيرة ، وأعطاهم القدرة على تأديتها على أكمل وجه . وهم بحسب ما هيأهم الله تعالى له ووكلهم به على أقسام :
فمنهم الموكل بالوحي من الله تعالى إلى رسله عليهم الصلاة والسلام وهو جبريل عليه السلام ، قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } ( الشعراء : 193- 195) وقد تقدم أنه أفضل الملائكة وأكرمهم على الله ، وقد وصفه الله بالقوة والأمانة على تأدية مهمته .
ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم في صورته التي خُلق عليها إلا مرتين ، وبقية الأوقات يأتيه في صورة رجل . رآه مرة بالأفق من ناحية المشرق وفي ذلك يقول الله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } (التكوير : 23) . ورآه مرة ثانية ليلة الإسراء في السماء وهذا ما أخبر الله عنه بقوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }{ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى }{ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } (النجم : 13- 15) .

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير الآيتين المتقدمتين فقال : « إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين . رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عِظَمُ خَلْقِه ما بين السماء إلى الأرض » (1) .
ومنهم الموكل بالقطر والنبات وهو ميكائيل عليه السلام وقد ورد ذكره في القرآن . قال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (البقرةَ : 98) وهو ذو مكانه عالية ، ومنزلة رفيعة عند ربه ، ولذا خصه الله هنا بالذكر مع جبريل ، وعطفهما على الملائكة ، مع أنهما من جنسهم لشرفهما ، من قبيل عطف الخاص على العام . وكذا ورد ذكره في السنة على ما تقدم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل أنه يقول : « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل » . . ) (2) . ولذا قال العلماء إن هؤلاء الثلاثة المذكورين هم أفضل الملائكة .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (177) .
(2) رواه الإمام أحمد في المسند : 6 / 156 ، والنسائي في السنن : 3 / 213 ، برقم (1625) ، ونحوهما مسلم في الصحيح برقم (770) ، وابن ماجه برقم (1357) .

ومنهم الموكل بالصُّور وهو إسرافيل عليه السلام وهو ثالث الملائكة المفضلين المتقدم ذكرهم . وهو أحد حملة العرش . والصور : قرن عظيم ينفخ فيه . روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : « جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما الصور ؟ فقال : قرن ينفخ فيه » (1) ورواه أيضا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي . (2) .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينظر متى يؤمر ، قال المسلمون : يا رسول الله فما نقول ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا » (3) قال الترمذي حديث حسن . وصححه غيره من أهل العلم .
_________
(1) المسند : 2 / 162 ، 192 .
(2) المستدرك : 2 / 506 ، 4 / 589 ، واللفظ للحاكم .
(3) المسند : 3 / 7 ، وسنن الترمذي 4 / 620 ، برقم (2431) ، 5 / 372- 373 ، برقم (3243) .

وينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث . قال تعالى : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } (النمل : 87) . وهذه هي نفخة الفزع وقد دل على النفختين الأخريين قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } (الزمر : 68) .
ومنهم الموكل بقبض الأرواح وهو ملك الموت قال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } (السجدة : 11) .
ولملك الموت أعوان من الملائكة ، يأتون العبد بحسب عمله ، وإن كان محسنًا ففي أحسن هيئة ، وإن كان مسيئًا ففي أشنع هيئة .
قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } (الأنعام : 61) .

ومنهم الموكل بالجبال وهو ملك الجبال ، وقد ورد ذكره في حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف في بداية البعثة ودعوته إياهم وعدم استجابتهم له وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال . فسلم عليّ ثم قال : يا محمد . فقال : ذلك فيما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا » (1) . والأخشبان : هما جبلا مكةَ : أبو قبيس والذي يقابله .
ومنهم الملك الموكل بالرحم على ما دل عليه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عز وجل وكَّل ملكًا يقول : يا ربِّ! نطفة . يا ربِّ! علقة . يا ربِّ مضغة . فإذا أراد أن يقضي خلقه ، قال : أذكر أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ فيكتب في بطن أمه » (2) .
_________
(1) صحيح البخاري ، برقم (3231) ، ومسلم برقم (1795) .
(2) صحيح البخاري برقم (318) ، ومسلم برقم (2646) .

ومنهم حملة العرش قال تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } (غافر : 7) .
وقال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } (الحاقة : 17) . قال بعض العلماء : الذين حول العرش هم الملائكة (الكروبيون) وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة (1) .
ومنهم خزنة الجنة . قال تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } (الزمر : 73) . وقال تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } (الرعد : 23) .
_________
(1) تفسير ابن كثير (7 / 120) .

ومنهم خزنة النار عياذاَ بالله منها وهم الزبانية ورؤساؤهم تسعة عشر . قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ } (غافر : 49) . وقال تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ }{ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } (العلق : 17 ، 18) . وقال تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } (المدثر : 30 ، 31) .
وقال تعالى : { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } (الزخرف : 77) . وقد جاء في السنة ذكر مالك وأنه خازن النار ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له ، ففي صحيح البخاري من حديث سَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيت الليلة رجلين أتياني فقالا : الذي يوقد النار مالك خازن النار ، وأنا جبريل ، وهذا ميكائيل » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3236) .

ومنهم زوار البيت المعمور : يدخل في كل يوم منهم البيت المعمور سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه على ما ثبت من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( . . . « ثم رفع لي البيت المعمور ، فقلت : يا جبريل! ما هذا ؟ قال : هذا البيت المعمور . يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم » (1) .
ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر فقد روىَ الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا » . . . ) (2) قال العلماء : وهؤلاء الملائكة زائدون عن الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق .
وقد ثبت أيضًا أنهم يبلغون النبي صلى الله عليه وسلم من أمته السلام لما روى أحمد والنسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله عز وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام » (3) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3207) ، ومسلم برقم (164) واللفظ لمسلم .
(2) صحيح البخاري برقم (6408) ، ومسلم برقم (2689) واللفظ للبخاري .
(3) المسند : 1 / 452 ، وسنن الترمذي : 3 / 43 ، برقم (1282) ، واللفظ لأحمد .

ومنهم الكرام الكاتبون وعملهم كتابة أعمال الخلق وإحصاؤها عليهم . قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }{ كِرَامًا كَاتِبِينَ }{ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } (الانفطار : 10- 12) وقال تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (ق : 17 ، 18) قال مجاهد في تفسير الآية : ملك عن يمينه وآخر عن يساره فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير ، وأما الذي عن شماله فيكتب الشر .
ومنهم الموكلون بفتنة القبر وسؤال العباد في قبورهم وهما مُنْكَر ونَكِير . وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة . أخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان ، فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعًا » . (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (1374) ، ومسلم برقم (2870) ، واللفظ للبخاري .

وأخرج الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قبر الميت أو قال أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل » . . . ) (1) الحديث . قال الترمذي حديث حسن .
فهؤلاء هم أشهر من جاءت النصوص بذكر وظائفهم وأسمائهم من الملائكة ممن يتعين على العبد الإيمان بهم والتصديق بمدلولات النصوص في حقهم والله تعالى أعلم .
ثمرات الإيمان بالملائكة :
وللإيمان بالملائكة ثمراته العظيمة على المؤمن فمن ذلك :
1- العلم بعظمة خالقهم عز وجل وكمال قدرته وسلطانه .
2- شكر الله تعالى على لطفه وعنايته بعباده حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم وغير ذلك مما تتحقق به مصالحهم في الدنيا والآخرة .
3- محبة الملائكة على ما هداهم الله إليه من تحقيق عبادة الله على الوجه الأكمل ونصرتهم للمؤمنين واستغفارهم لهم .
_________
(1) سنن الترمذي : 3 / 385 ، برقم (1073) ، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : 7 / 386 ، برقم (3117) ، واللفظ للترمذي .

الفصل الثاني :
الإيمان بالكتب المنزلة
وفيه تمهيد وأربعة مباحث :
ال

تمهيد في تعريف الوحي لغة وشرعا وبيان أنواعه
.
المبحث الأول : حكم الإيمان بالكتب وأدلته .
المبحث الثاني : كيفية الإيمان بالكتب .
المبحث الثالث : بيان أن التوراة والإنجيل وبعض الكتب الأخرى دخلها التحريف وسلامة القرآن من ذلك .
المبحث الرابع : الإيمان بالقرآن وخصائصه .
تمهيد
في تعريف الوحي لغة وشرعا وبيان أنواعه
التعريف اللغوي :
الوحي في اللغة : هو الإعلام السريع الخفي .
ويطلق الوحي على : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام . وكل ما ألقيته على غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان وهو لا يختص بالأنبياء ولا بكونه من عند الله تعالى .
والوحي بمعناه اللغوي يتناول :
1 - الإلهام الفطري للإنسان كالوحي لأم موسى . قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } (القصص : 7) .
2 - الإلهام الغريزي للحيوان كالوحي إلى النحل . قال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } (النحل : 68) .

3 - الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء ، كإيحاء زكريا لقومه . قال تعالى { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } (مريم : 11) .
4 - وسوسة الشيطان وتزيين الشر في نفوس أوليائه . قال تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } (الأنعام : 121) .
5 - ما يلقيه الله تعالى إلى ملائكته من أمر ليفعلوه . قال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } (الأنفال : 12) .
التعريف الشرعي :
هو " إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة " .
أنواع الوحي :
لتلقي الوحي من الله تعالى طرق بينها الله تعالى بقوله في سورة الشورى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (الشورى : 51) . فأخبر الله تعالى أن تكليمه ووحيه للبشر يقع على ثلاث مراتب :

المرتبة الأولى : الوحي المجرد وهو ما يقذفه الله في قلب الموحى إليه مما أراد بحيث لا يشك فيه أنه من الله . ودليله قوله تعالى : { إِلَّا وَحْيًا } (الشورى : 51) . ومثال ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي وابن ماجه في سننه وغيرهم (1) . وألحق بعض أهل العلم بهذا القسم رؤى الأنبياء في المنام كرؤيا إبراهيم عليه السلام على ما أخبر الله عنه في قوله : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } (الصافات : 102) . وكرؤى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية البعثة على ما روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » (2) .
_________
(1) موارد الظمآن (1084 ، 1085) ، والمستدرك (2 / 4) ، وسنن ابن ماجه (2144) ، وابن أبي الدنيا في القناعة ، والبيهقي في شعب الإيمان (المغني عن حمل الأسفار : 419 ، 895) والبغوي ج14 / 304 برقم (4112) .
(2) صحيح البخاري برقم (3) ، وبنحوه في صحيح مسلم برقم (160) .

المرتبة الثانية : التكليم من وراء حجاب بلا واسطة كما ثبت ذلك لبعض الرسل والأنبياء كتكليم الله تعالى لموسى على ما أخبر الله به في أكثر من موضع من كتابه . قال تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء : 164) . وقال : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } (الأعراف : 143) . وكتكليم الله لآدم . قال تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } ( البقَرة : 37) . وكتكليم الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على ما هو ثابت في السنة . ودليل هذه المرتبة من الآية قوله تعالى : { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } ( الشورى : 51) .
المرتبة الثالثة : الوحي بواسطة الملك . ودليله قوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } (الشورى : 51) . وهذا كنزول جبريل عليه السلام بالوحي من الله على الأنبياء والرسل .

والقرآن كله نزل بهذه الطريقة تكلم الله به ، وسمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل ، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } (الشعراء : 192- 194) . وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } (النحل : 102) .
ولجبريل عليه السلام في تبليغه الوحي لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحوال :
1 - أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها ولم يحصل هذا إلا مرتين كما تقدم تقريره في الفصل السابق . (1) .
2 - أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس فيذهب عنه وقد وعى الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال .
3 - أن يتمثل له جبريل في صورة رجل ويخاطبه بالوحي كما مر في حديث جبريل السابق في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن مراتب الدين . (2) .
_________
(1) انظر ص113 .
(2) انظر ص106 .

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحالتين الأخيرتين في إجابته للحارث بن هشام لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال . وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول » (1) متفق عليه . ومعنى فصم : أي أقلع وانكشف .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (2) ، ومسلم برقم (2333) .

المبحث الأول
حكم الإيمان بالكتب وأدلته
تعريف الكتب :
الكتب جمع كتاب . والكتاب مصدر كتب يكتب كتابا ، ثم سمي به المكتوب والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيها كما في قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } (النساء : 153) يعني صحيفة مكتوباَ فيها .
والمراد بالكتب هنا : الكتب والصحف التي حوت كلام الله تعالى الذيَ أوحاه إلى رسله عليهم السلام . سواء ما ألقاه مكتوبا كالتوراة ، أو أنزله عن طريق الملك مشافهة فكتب بعد ذلك كسائر الكتب .
حكم الإيمان بالكتب :
الإيمان بكتب الله التي أنزل على رسله كلها ركن عظيم من أركان الإيمان وأصل كبير من أصول الدين ، لا يتحقق الإيمان إلا به . وقد دل على ذلك الكتاب والسنة .

فمن الكتاب قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء : 136) . فأمر الله عباده المؤمنين في الآية بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه . فأمرهم بالإيمان بالله ورسوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن ، والكتاب الذي أنزل من قبل وهو جميع الكتب المتقدمة : كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، ثم بين في ختام الآية أن من كفر بشيء من أركان الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا وخرج عن قصد السبيل ومن أركان الإيمان المذكورة الإيمان بكتب الله .

وقال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة : 177) . فأخبر عز وجل أن حقيقة البر : هو الإيمان بما ذكر من أركان الإيمان ، والعمل بخصال البر الواردة في الآية بعد هذا . وذكر من أركان الإيمان : " الإيمان بالكتاب " قال ابن كثير : هو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء . حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب (1) .
_________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 297 .

ولتقرير الإيمان بالكتب كلها أمر الله عباده المؤمنين أن يخاطبوا أهل الكتاب بقوله تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (البقرة : 136) . فتضمنت الآية إيمان المؤمنين بما أنزل الله عليهم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل على أعيان الرسل المذكورين في الآية ، وما أنزل على بقية الأنبياء في الجملة وأنهم لا يفرقون بين الرسل في الإيمان ببعضهم دون بعض فانتظم ذلك الإيمان بجميع الرسل وكل ما أنزل الله عليهم من الكتب .
والآيات في تقرير هذا من كتاب الله كثيرة .

وأما السنة فقد دلت كذلك على وجوب الإيمان بالكتب . وأن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان ، دل على ذلك حديث جبريل ، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته : الإيمان بالكتب مع بقية أركان الإيمان . وقد تقدم الحديث بنصه في الفصل السابق فأغنى عن إعادته هنا (1) .
فتقرر بهذا وجوب الإيمان بالكتب والتصديق بها جميعها ، واعتقاد أنها كلها من الله تعالى أنزلها على رسله بالحق والهدى والنور والضياء ، وأن من كذب بها أو جحد شيئا منها فهو كافر بالله خارج من الدين .
ثمرات الإيمان بالكتب :
وللإيمان بالكتب آثاره العظيمة على المؤمن فمن ذلك :
1- شكر الله تعالى على لطفه بخلقه وعنايته بهم حيث أنزل إليهم الكتب المتضمنة إرشادهم لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة .
2- ظهور حكمة الله تعالى حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها ، وكان خاتم الكتب القرآن العظيم مناسبا لجميع الخلق في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة .
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين ، وعجز المخلوقين عن الإتيان بمثل كلامه .
_________
(1) انظر ص106 .

المبحث الثاني
كيفية الإيمان بالكتب
الإيمان بكتب الله يشتمل على عدة جوانب دلت النصوص على وجوب اعتقادها وتقريرها لتحقيق هذا الركن العظيم من أركان الإيمان . وهي :
1 - التصديق الجازم بأنها كلها منزلة من الله عز وجل ، وأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره ، وأن الله تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد سبحانه . قال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } (آل عمران : 2- 4) .
فأخبر الله عز وجل أنه أنزل هذه الكتب المذكورة وهي : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن من عنده وهذا يدل على أنه هو المتكلم بها وأنها منه بدأت لا من غيره ، ولذا توعد في نهاية السياق من كفر بآيات الله بالعذاب الشديد .

وقال مخبرًا عن التوراة { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } (المائدة : 44) فبين أنه تعالى هو الذي أنزل التوراة وأن ما فيها من الهدى والنور منه سبحانه . وقال تعالى في سياق آخر مبينًا أن التوراة من كلامه وذلك في معرض إخباره عن اليهود { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } (البقرة : 75) فكلام الله الذي سمعوه ثم حرفوه هو التوراة . قاله السُّدِّي وابن زيد وجمع من المفسرين .
وقال تعالى في الإنجيل { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } (المائًدة : 47) أي من الأوامر والنواهي التي هي من كلام الله .

وقال في القرآن الكريم : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ( هود : 1) . وقال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } (النمل : 6) . وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (النحل : 102) . وقال تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (التوبة : 6) . وإنما أمروا أن يسمعوا القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله على الحقيقة .
2 - الإيمان بأنها دعت كلها إلى عبادة الله وحده وقد جاءت بالخير والهدى والنور والضياء . قال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } (آل عمران : 79) . فبين الله أنه ما ينبغي لأحد من البشر ، آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة ، أن يأمر الناس أن يتخذوه إلها من دون الله . وذلك أن كتب الله إنما جاءت بإخلاص العبادة لله وحده .

وقال تعالى مبينًا أن كتبه جاءت بالحق والهدى { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ } (آل عمران : 3 ، 4) . وقال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } (البقرة : 213) . وقال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } (المائًدة : 44) . وقال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } (المائدة : 46) . وقال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ }{ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (البقرة : 185) . إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة أن كتب الله تعالى قد جاءت بالهدى والنور من الله تعالى .

3 - الإيمان بأن كتب الله يصدق بعضها بعضًا فلا تناقض بينها ولا تعارض كما قال تعالى في القرآن { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة : 48) . وقال في الإنجيل : { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } (المائدة : 46) . فيجب الإيمان بهذا واعتقاد سلامة كتب الله من كل تناقض أو تعارض ، وهذا من أعظم خصائص كتب الله عن كتب الخلق وكلام الله عن كلام الخلق فإن كتب المخلوقين عرضة للنقص والخلل والتعارض كما قال تعالى في وصف القرآن { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء : 82) .
4 - الإيمان بما سمى الله عز وجل من كتبه على وجه الخصوص ، والتصديق بها ، وبإخبار الله ورسوله عنها . وهذه الكتب هي :

أ) التوراة : وهي كتاب الله الذي آتاه موسى عليه السلام . قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } (القصص : 43) . وفي حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا : ( . . . « فيأتون إبراهيم فيقول : لست هُنَاكم ويذكر خطيئته التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما » (1) ، وقد ألقى الله التوراة على موسى مكتوبة في الألواح وفي ذلك يقول سبحانه { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (الأعراف : 145) . قال ابن عباس (يريد ألواح التوراة) . وفي حديث احتجاج آدم وموسى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ( . . . « قال له آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده » أخرجاه في الصحيحين من طرق كثيرة (2) . والتوراة هي أعظم كتب بني إسرائيل وفيها تفصيل شريعتهم وأحكامهم التي أنزلها الله على موسى وقد كان على العمل بها أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى كما قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7410) ، ومسلم برقم (193) .
(2) صحيح البخاري برقم (6614) ، ومسلم برقم (2652) ، وفي إحداها : « وكتب لك التوراة بيده » .

التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } (المائدة : 44) . وقد أخبر الله في كتابه عن تحريف اليهود للتوراة وتبديلها على ما سيأتي بسط هذا في المبحث القادم إن شاء الله .
ب) الإنجيل : وهو كتاب الله الذي أنزله على عيسى ابن مريم عليهما السلام . قال تعالى : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } (المائدة : 46) .
وقد أنزل الله الإنجيل مصدقا للتوراة وموافقا لها كما تقدم في الآية السابقة .
قال بعض العلماء (1) : لم يخالف الإنجيل التوراة إلا في قليل من الأحكام مما كانوا يختلفون فيه كما أخبر الله عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } (آل عمران : 50) .
_________
(1) تفسير ابن كثير (2 / 36) .

وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن التوراة والإنجيل نصا على البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } (الأعراف : 157) .
وقد لحق الإنجيل من التحريف ما لحق التوراة ، كما سيأتي بيانه في المبحث القادم بحول الله .
ج) الزبور : وهو كتاب الله الذي أنزله على داود عليه السلام . قال تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } (السماء : 163) . قال قتادة في تفسير الآية : " كنا نحدث أنه دعاء علمه الله داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود " .

د) صحف إبراهيم وموسى : وقد جاء ذكرها في موضعين من كتاب الله ، الأول في سورة النجم في قول الله تعالى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى }{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (النجم : 36-39) . والثاني في سورة الأعلى ، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }{ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى }{ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (الأعلى : 14- 19) . فأخبر الله عز وجل عن بعض ما جاء في هذه الصحف من وحيه الذي أنزله على رسوليه إبراهيم وموسى عليهما السلام . والعلم عند الله .

هـ) القرآن العظيم : وهو كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه ، وهو آخر كتب الله نزولا وأشرفها وأكملها ، والناسخ لما قبله من الكتب وقد كانت دعوته لعامة الثقلين من الإنس والجن . قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة : 48) ومهيمنًا : أي شهيدًا على ما قبله من الكتب وحاكما عليها . وقال تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } (الأنعام : 19) . وقال عز وجل : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان : 1) . وللقرآن أسماء كثيرة أشهرها : القرآن ، والفرقان ، والكتاب ، والتنزيل ، والذكر .
فيجب الإيمان بهذه الكتب على ما جاءت به النصوص ، من ذكر أسمائها ، ومن أنزلت فيهم ، وكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها ، وما قُصَّ علينا من أخبار أهلها .

5 - الاعتقاد الجازم بنسخ جميع الكتب والصحف التي أنزلها الله على رسله ، بالقرآن الكريم ، وأنه لا يسع أحدًا من الإنس أو الجن ، لا من أصحاب الكتب السابقة ، ولا من غيرهم ، أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغير ما جاء فيه أو يتحاكموا إلى غيره . والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة . قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان : 1) . وقال عز وجل : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }{ يَهْدِي بِهِ }{ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ( المائدة : 15 ، 16) .

وقال تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بالقرآن { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } (المائدة : 48) . وقال أيضا { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (المائدة : 49) .
ومن السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : « أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ، ما وسعه إلا أن يتبعني » رواه أحمد والبزار والبيهقي (1) وغيرهم وهو حديث حسن بمجموع طرقه . ومعنى متهوكون : متحيرون .
فهذا ما يجب اعتقاده في كتب الله على سبيل الإجمال وسيأتي تفصيل ما يجب اعتقاده في القرآن على وجه الخصوص في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى .
_________
(1) مسند الإمام أحمد : 3 / 387 ، وكشف الأستار : 134 ، وشعب الإيمان للبيهقي : (177) .

المبحث الثالث
بيان أن التوراة والإنجيل وبعض الكتب الأخرى
المنزلة دخلها التحريف وسلامة القرآن من ذلك
تحريف أهل الكتاب لكلام الله :
أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم عن تحريف أهل الكتاب لكتب الله المنزلة عليهم وتغييرها وتبديلها .
قال تعالى في حق اليهود : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة : 75) . وقال عز وجل : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } (النساء : 46) .
وقال تعالى مخبرا عن النصارى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ( المائدة : 14 ، 15) .

فدلت الآيات على تحريف اليهود والنصارى كتب الله المنزلة عليهم .
وقد كان هذا التحريف بالزيادة تارة وبالنقص تارة أخرى .
فدليل الزيادة قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة : 79) .
ودليل النقص قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } (المائدة : 15) . وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } (الأنعام : 91) .
تحريف التوراة والإنجيل وأدلة ذلك :
هذا ما جاء في تحريف أهل الكتاب لكلام الله وكتبه في الجملة . وأما التوراة والإنجيل خاصة فقد دلت الأدلة مما تقدم وغيرها على وقوع التحريف فيهما .

فمن أدلة تحريف التوراة قوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } (الأنعام : 91) . وجاء في تفسير الآية : (أي تجعلون الكتاب الذي جاء به موسى في قراطيس تضعونه فيها ليتم لكم ما تريدونه من التحريف والتبديل وكتم صفة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه) .
وقال تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } (البقرة : 75) قال السدي في تفسير الآية : (هي التوراة حرفوها) . وقال ابن زيد : (التوراة التي أنزلها عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا) .

ودليل تحريف الإنجيل قوله تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى }{ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (المائدة : 14-15) . قال بعض أئمة التفسير في تفسير الآية الأخيرة : (أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على اللهّ فيه ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه (1) .
فدلت هذه الآيات على وقوع التحريف والتبديل في التوراة والإنجيل . ولهذا اتفق علماء المسلمين على أن التوراة والإنجيل قد دخلهما التحريف والتغيير .
سلامة القرآن من التحريف وحفظ الله له وأدلة ذلك :
_________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 63 .

أما القرآن العظيم فهو سليم مما طرأ على الكتب السابقة من التحريف والتبديل وهو محفوظ من كل ذلك بحفظ الله له وصيانته إياه كما أخبر الله عن ذلك بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر : 9) . قال الطبري في تفسير الآية : " قال وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه (1) " . كما أخبر الله في آيات أخرى عن تمام إحكامه للقرآن وتفصيله وتنزيهه من كل باطل فقال عز من قائل : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ }{ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42) . وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ( هود : 1) . وقال عز وجل : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } (القيامة : 16 ، 17) .
_________
(1) تفسير ابن جرير 14 / 7 .

فدلت هذه الآيات على كمال حفظ الله للقرآن لفظا ومعنى بدءا بنزوله إلى أن يأذن الله برفعه إليه سليما من كل تغيير أو تبديل . إذ تكفل بتعليمه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم جمعه في صدره وبيانه له وتفسيره في سنته المطهرة ، ثم ما هيأ الله له بعد ذلك من عدول الرجال الذين حفظوه في الصدور والسطور ، عبر الأجيال والقرون ، فبقي سليما منزها من كل باطل ، يقرؤه الصغار والكبار ، على مختلف الأعصار والأمصار ، غضا طريا كما أنزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .

وقد نبه العلماء في هذا المقام إلى سر لطيف ونكتة بديعة تتعلق بجواز التحريف على التوراة وعدم جوازه على القرآن على ما روى أبو عمرو الداني عن أبي الحسن المنتاب قال : (كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق فقيل له : لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } (المائدة : 44) فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم . وقال في القرآن { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر : 9) فلم يجز التبديل عليهم . قال : فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية فقال : " ما سمعت كلاما أحسن من هذا " .

المبحث الرابع
الإيمان بالقرآن وخصائصه
تعريف القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي والفرق بينهما :
القرآن الكريم : هو كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا ، وأنزله على رسوله وحيا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا ، وأيقنوا أنه كلام الله حقيقة ، سمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل ، ونزل به على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه المنقول بالتواتر المفيد للقطع واليقين المكتوب في المصاحف المحفوظ من التغيير والتبديل . (1) .
والحديث القدسي : هو ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه باللفظ والمعنى ونقل إلينا آحادا أو متواترا ولم يبلغ تواتر القرآن (2) .
ومثاله حديث أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : « يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا » (3) .
والحديث النبوي : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف . (4) .
_________
(1) الطحاوية 1 / 172 . مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ، ص21 ، وقواعد التحديث لجمال الدين القاسمي ص65 .
(2) انظر قواعد التحديث لجمال الدين القاسمي ص65 .
(3) رواه مسلم برقم (2577) .
(4) مصطلح الحديث لابن عثيمين ص7 ، وقواعد التحديث للقاسمي ص61-62 .

والفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي : أن القرآن متعبد بتلاوته معجز في نظمه متحدى به ، يحرم مسه لمحدث ، وتلاوته لنحو جنب ، وروايته بالمعنى ، وتتعين قراءته في الصلاة ، ويؤجر قارئه بكل حرف منه حسنة والحسنة بعشر حسنات . بخلاف الحديث القدسي والحديث النبوي فإنما ليسا كذلك .
والفرق بين الحديث القدس والنبوي : أن الحديث القدسي من كلام الله بلفظه ومعناه بخلاف الحديث النبوي فهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنى ، وأن الحديث القدسي أفضل من الحديث النبوي وذلك لفضل كلام الله على كلام المخلوقين . (1) .
خصائص الإيمان بالقرآن :
الإيمان بكتب الله ركن عظيم من أركان الإيمان على ما تقدم تقريره ، ولما كان القرآن العظيم هو الكتاب الناسخ للكتب السابقة والمهيمن عليها والمتعبد به لعامة الثقلين بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزول هذا الكتاب عليه ، اختص الإيمان به بخصائص ومميزات لا بد من تحقيقها للإيمان به بالإضافة إلى ما تم تقريره من مسائل في تحقيق الإيمان بالكتب إجمالا . وهذه الخصائص هي :
_________
(1) انظر قواعد التحديث للقاسمي ص65- 66 .

ا- اعتقاد عموم دعوته وشمول الشريعة التي جاء بها لعموم الثقلين من الجن والإنس لا يسع أحدًا منهم إلا الإيمان به ولا أن يعبدوا الله إلا بما شرع فيه . قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان : 1) . وقال تعالى مخبرًا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } (الأنعام : 19) . وقال تعالى إخبارًا عن الجن : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا }{ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } (الجن : 1 ، 2) .

2 - اعتقاد نسخه لجميع الكتب السابقة فلا يجوز لأهل الكتاب ولا لغيرهم أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغيره ، فلا دين إلا ما جاء به ، ولا عبادة إلا ما شرع الله فيه ، ولا حلال إلا ما أحل فيه ، ولا حرام إلا ما حرم فيه ، قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } (آل عمران : 85) . وقال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } (النساء : 105) . وقد تقدم في حديث جابر بن عبد الله نهي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن قراءة كتب أهل الكتاب وقوله : ( . . . « والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني » (1) .
_________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند : 3 / 387 ، وغيره .

3 - سماحة الشريعة التي جاء بها القرآن ويسرها ، بخلاف الشرائع في الكتب السابقة . فقد كانت مشتملة على كثير من الآصار ، والأغلال التي فرضت على أصحابها . قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف : 157) .

4 - أن القرآن هو الكتاب الوحيد من بين الكتب الإلهية الذي تكفل الله بحفظ لفظه ومعناه من أن يتطرق إليه التحريف اللفظي أو المعنوي . قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر : 9) . وقال تعالى : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت : 42) . وقال عز وجل مبينًا تكفله بتفسيره وتوضيحه على ما أراد وشرع : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (القيامة : 17-19) . قال ابن كثير في تفسير الآية الأخيرة : " أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا " . وقد هيأ الله تعالى لحفظ كتابه من العلماء الجهابذة من قاموا بذلك خير قيام ، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، فحفظوا لفظه وفهموا معناه ، واستقاموا على العمل به ، ولم يَدَعوا مجالا من مجالات خدمة القرآن وحفظه إلا وألفوا فيه المؤلفات المطولة ، فمنهم من ألف في تفسيره ، ومنهم من ألف في رسمه وقراءاته ، ومنهم من ألف في محكمه

ومتشابهه ، ومنهم من ألف في مكيه ومدنيه ، ومنهم من ألف في استنباط الأحكام منه ، ومنهم من ألف في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من ألف في أسباب نزوله ، ومنهم من ألف في أمثاله ، ومنهم من ألف في إعجازه ، ومنهم من ألف في غريبه ، ومنهم من ألف في إعرابه ، إلى غير ذلك من المجالات التي تجسد من خلالها حفظ الله لكتابه بما هيأ له هؤلاء العلماء من خدمة كتابه وعلومه حتى بقي محفوظًا يقرأ ويفسر غضًّا طريًّا كما أنزل .

5 - أن القرآن الكريم مشتمل على وجوه كثيرة من الإعجاز شارك فيها غيره من الكتب المنزلة ، وهو في الجملة المعجزة العظمى وحجة الله البالغة الباقية التي أيد بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى قيام الساعة ، على ما روى الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة » (1) . ومن صور إعجاز القرآن حسن تأليفه وفصاحته وبلاغته وقد وقع التحدي للإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو ببعضه على مراتب ثلاث : فقد تحداهم الله على أن يأتوا بمثله فعجزوا وما استطاعوا . قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ }{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } (الطور : 33 ، 34) . وقال عز وجل مقررًا عجزهم عن ذلك { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (الإسراء : 88) . ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فما
_________
(1) صحيح البخاري برقم (4981) ، ومسلم برقم (152) .

قدروا . قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (هود : 13) . ثم تحداهم مرة ثالثة بأن يأتوا بسورة منه فما استطاعوا . قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (يونس : 38) . فثبت بهذا إعجاز القرآن على أبلغ وآكده ، لما عجز الخلق عن معارضته بأدنى مراتب التحدي ، وهو الإتيان بسورة من مثله ، وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات .
6 - أن الله تعالى بين في القرآن كل شيء مما يحتاج له الناس في أمر دينهم ، ودنياهم ، ومعاشهم ، ومعادهم . قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل : 89) . وقال تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (الأنعام : 38) . قال ابن مسعود رضي الله عنه : " أنزل في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء قد بين لنا في القرآن " .

7 - أن الله تعالى يسر القرآن للمتذكر والمتدبر وهذا من أعظم خصائصه . قال تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر : 17) . وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ص : 29) . قال مجاهد في تفسير الآية الأولى : " يعني هونَّا قراءته " . وقال السدي : " يسرنا تلاوته على الألسن " . وقال ابن عباس : " لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله " (1) . وقد ذكر الطبري وغيره من أئمة التفسير أن تيسير القرآن يشمل تيسير اللفظ للتلاوة وتيسير المعاني للتفكر والتدبر والاتعاظ (2) ، وهو كذلك كما هو ملاحظ ومشاهد .
_________
(1) تفسير ابن كثير 8 / 453 .
(2) تفسير ابن جرير 27 / 96 .

8 - أن القرآن تضمن خلاصة تعاليم الكتب السابقة وأصول شرائع الرسل . قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة : 48) . وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (الشورى : 13) .
9 - أن القرآن مشتمل على أخبار الرسل والأمم الماضية وتفصيل ذلك بشكل لم يسبق إليه كتاب قبله . قال تعالى : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } (هود : 120) . وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } (هود : 100) . وقال تعالى : { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } (طه : 99) .

10 - أن القرآن هو آخر كتب الله نزولا وخاتمها والشاهد عليها . قال تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } (آل عمران : 3 ، 4) . وقال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ }{ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة : 48) .
فهذه بعض خصائص القرآن الكريم على سائر الكتب الأخرى مما لا يتحقق الإيمان به إلا باعتقادها وتحقيقها علمًا وعملًا . والله تعالى أعلم .

الفصل الثالث :
الإيمان بالرسل
ويحتوي على أحد عشر مبحثًا :
المبحث الأول : حكم الإيمان بالرسل وأدلته .
المبحث الثاني : تعريف النبي والرسول والفرق بينهما .
المبحث الثالث : كيفية الإيمان بالرسل .
المبحث الرابع : ما يجب علينا نحو الرسل .
المبحث الخامس : أولو العزم من الرسل .
المبحث السادس : خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته مع بيان أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق .
المبحث السابع : ختم الرسالة وبيان أنه لا نبي بعده .
المبحث الثامن : الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم حقيقته وأدلته .
المبحث التاسع : القول الحق في حياة الأنبياء عليهم السلام .
المبحث العاشر : معجزات الأنبياء والفرق بينها وبين كرامات الأولياء .
المبحث الحادي عشر : الولي والولاية في الإسلام .
المبحث الأول
حكم الإيمان بالرسل وأدلته
الإيمان برسل الله تعالى واجب من واجبات هذا الدين وركن عظيم من أركان الإيمان . وقد دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة .

قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } (البقَرة : 285) . فذكر الله تعالى الإيمان بالرسل في جملة ما آمن به الرسول والمؤمنون ، من أركان الإيمان . وبين أنهم في إيمانهم بالرسل لا يفرقون بينهم فيؤمنوا ببعضهم دون بعض ، بل يصدقون بهم جميعًا .
وقد بين الله في كتابه حكم من ترك الإيمان بالرسل . فقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا }{ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } (النساء : 150 ، 151) . فأطلق الكفر على من كذب بالرسل أو فرق بينهم بالإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم . ثم قرر أن هؤلاء هم الكافرون حقًّا أي الذين تحقق كفرهم وتقرر صراحة .

كما بين الله في مقابل ذلك في السياق نفسه ما عليه أهل الإيمان من ذلك فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (النساء : 152) . فوصفهم بالإيمان بالله ورسله كلهم من غير تفريق بين الرسل في الإيمان ببعضهم دون بعض وإنما يعتقدون أنهم مرسلون من الله تعالى .
وأما السنة فدلت كذلك على ما دل عليه الكتاب من أن الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان وقد دَلّ على ذلك حديث جبريل المتقدم بنصه في مبحث " الإيمان بالملائكة " وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان فقال : « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر » . . . ) (1) الحديث . فذكر الإيمان بالرسل مع بقية أركان الإيمان الأخرى الواجب على المسلم تحقيقها واعتقادها .
_________
(1) تقدم ص113 .

وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في التهجد عند قيام الليل أنه كان يقول : « اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، والساعة حق » . . . ) (1) .
فشهادة النبي صلى الله عليه وسلم أن النبيين حق ضمن ما ذكر من أصول الإيمان العظيمة كالإيمان بالله وبوجود الجنة والنار وقيام الساعة وتقديمه ذلك بين يدي دعائه وقيامه دليل على أهمية الإيمان بالرسل والأنبياء ومكانته في الدين .
فتقرر وجوب الإيمان بالرسل وأنه من أعظم دعائم هذا الدين ومن أكبر خصال الإيمان وأن من كذب بالرسل أو بأحد منهم فإنه كافر بالله العظيم كفرًا صريحًا بجحده هذا الركن العظيم من أركان الإيمان .
ثمرات الإيمان بالرسل :
إذا تحقق الإيمان بالرسل ترك آثاره الطيبة وثماره اليانعة على المؤمن فمن ذلك :
1 - العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام للهداية والإرشاد .
2 - شكر الله على هذه النعمة الكبرى .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7499) .

3 - محبة الرسل وتوقيرهم والثناء عليهم بما يليق بهم لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده ، ولما قاموا به من تبليغ رسالة الله لخلقه وكمال نصحهم لأقوامهم وصبرهم على أذاهم .

المبحث الثاني
تعريف النبي والرسول والفرق بينهما
النبي في اللغة : مشتق من النبأ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة . قال تعالى : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ }{ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } (النبأ : 1 ، 2) . وسمي النبي نبيًّا لأنه مُخبرٌ من الله ، ويُخْبِرُ عن الله فهو مُخبَر ومُخبِر .
وقيل النبي مشتق من النباوة : وهي الشيء المرتفع .
وسمي النبي نبيًّا على هذا المعنى : لرفعة محله على سائر الناس . قال تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } (مريم : 57) .
والرسول في اللغة : مشتق من الإرسال وهو التوجيه . قال تعالى مخبرًا عن ملكة سبأ : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } (النمل : 35) .
وقد اختلف العلماء في تعريف كل من النبي والرسول في الشرع على أقوال أرجحها :
أن النبي : هو من أوحى الله إليه بما يفعله ويأمر به المؤمنين .
والرسول : هو من أوحى الله إليه وأرسله إلى من خالف أمر الله ليبلغ رسالة الله .
والفرق بينهما :
أن النبي هو من نبأه الله بأمره ونهيه ليخاطب المؤمنين ويأمرهم بذلك ولا يخاطب الكفار ولا يرسل إليهم .

وأما الرسول فهو من أرسل إلى الكفار والمؤمنين ليبلغهم رسالة الله ويدعوهم إلى عبادته .
وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فقد كان يوسف على ملة إبراهيم ، وداود وسليمان كانا على شريعة التوراة وكلهم رسل . قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } (غافر : 34) . وقال تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا }{ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء : 163 ، 164) .

وقد يطلق على النبي أنه رسول كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } (الحج : 52) فذكر الله عز وجل أنه يرسل النبي والرسول . وبيان ذلك أن الله تعالى إذا أمر النبي بدعوة المؤمنين إلى أمر فهو مرسل من الله إليهم لكن هذا الإرسال مقيد . وأما الإرسال المطلق فهو بإرسال الرسل إلى عامة الخلق من الكفار والمؤمنين .

المبحث الثالث
كيفية الإيمان بالرسل
الإيمان بالرسل هو اعتقاد ما أخبر الله به عنهم في كتابه وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في سنته إجمالا وتفصيلا .
فالإيمان المجمل :
هو التصديق الجازم بأن الله تعالى بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دون الله . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل : 36) . وبأنهم جميعهم صادقون ، بارون ، راشدون ، كرام بررة ، أتقياء أمناء ، هداة مهتدون . قال تعالى : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } (يس : 52) . وقال تعالى بعد أن ذكر طائفة كبيرة من الأنبياء والرسل : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } (الأنعام : 87 ، 88) .

وبأنهم كلهم كانوا على الحق المبين ، والهدى المستبين جاءوا بالبينات من ربهم إلى أقوامهم . قال تعالى حكاية عن أهل الجنة : { لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (الأعراف : 43) . وقال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (الحديد : 25) .
وبأن أصل دعوتهم واحدة وهي الدعوة إلى توحيد الله وأما شرائعهم فمختلفة . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء : 25) . وقال عز وجل : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (المائدة : 48) .
وبأنهم قد بلغوا جميع ما أرسلوا به البلاغ المبين ، فقامت بذلك الحجة على الخلق . قال تعالى : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } (الجن : 28) . وقال تعالى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) .

ويجب الإيمان بأن الرسل بشر مخلوقون ، ليس لهم من خصائص الربوبية شيء . وإنما هم عباد أكرمهم الله بالرسالة . قال تعالى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } (إبراهيم : 11) . وقال تعالى عن نوح : { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } (هود : 31) . وقال عز وجل آمرًا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } (الأنعام : 50) .

ومما يجب اعتقاده أيضًا في حق الرسل أنهم منصورون مؤيدون من الله ، وأن العاقبة لهم ولأتباعهم . قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر : 51) . كما يجب اعتقاد تفاضل الرسل على ما أخبر عز وجل في قوله تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } (البقرة : 253) .
فيجب الإيمان بكل هذا وبكل ما جاء في الكتاب والسنة عن الرسل على وجه العموم إيمانًا مجملًا .
وأما الإيمان المفصل :
فيكون بالإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته منهم ، إيمانًا مفصلًا على نحو ما جاءت به النصوص من ذكر أسمائهم وأخبارهم وفضائلهم وخصائصهم .

والمذكورون في القرآن من الأنبياء والرسل خمسة وعشرون . ورد ذكر ثمانية عشر منهم في قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ }{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } (الأنعام : 83-86) . وورد ذكر الباقين في مواضع أخرى من القرآن . قال تعالى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } (الأعراف : 65) .

وقال : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } (الأًعراف : 73) . وقال : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } (الأعراف : 85) . وقال : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا } (آل عمران : 33) . وقال : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } (الأنبياء : 85) . وقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 29) . فيجب الإيمان بهؤلاء الأنبياء والمرسلين إيمانًا مفصلًا ، والإقرار لكل واحد منهم بالنبوة أو الرسالة على ما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم .

كما يجب اعتقاد صحة ما جاءت به النصوص من ذكر فضائلهم وخصائصهم وأخبارهم ، كاتخاذ الله إبراهيمَ ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم خليلين لقوله تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } (النساء : 125) . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا » أخرجه مسلم (1) . وكتكليم الله تعالى لموسى لقوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء : 164) . وكذلك تسخير الجبال والطير لداود يسبحن بتسبيحه ، قال تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } (الأنبياء : 79) . وإلانة الحديد لداود كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } (سبأ : 10) . وتسخير الرياح لسليمان تسير بأمره ، وتسخير الجن له يعملون بين يديه ما يشاء ، قال تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } (سبأ : 12) . وتعليم سليمان
_________
(1) صحيح مسلم برقم (532) .

منطق الطير ، قال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } (النمل : 16) .
كما يجب الإيمان على وجه التفصيل بما قص الله عز وجل في كتابه من أخبار الرسل مع أقوامهم ، وما جرى بينهم من الخصومة ، ونصر الله لرسله وأتباعهم . كقصة موسى مع فرعون ، وإبراهيم مع قومه ، وقصص نوح وهود وصالح وشعيب ولوط مع أقوامهم . وما قص الله علينا في شأن يوسف مع إخوته وأهل مصر ، وقصة يونس مع قومه ، إلى آخر ما جاء في كتاب الله من أخبار الأنبياء والرسل ، وكذلك ما جاء في السنة فيجب الإيمان به إيمانًا مفصلًا بحسب ما جاءت به النصوص .
وبذلك يتحقق الإيمان بالرسل بقسميه المجمل والمفصل . والله تعالى أعلم .

المبحث الرابع
ما يجب علينا نحو الرسل
يجب على الأمة تجاه الرسل حقوق عظيمة بحسب ما أنزلهم الله من المنازل الرفيعة في الدين ، وما رفعهم الله إليه من الدرجات السامية الجليلة عنده ، وما شرفهم به من المهمات النبيلة وما اصطفاهم به من تبليغ وحيه وشرعه لعامة خلقه . ومن هذه الحقوق :

1 - تصديقهم جميعًا فيما جاءوا به ، وأنهم مرسلون من ربهم ، مبلغون عن الله ما أمرهم الله بتبليغه لمن أرسلوا إليهم وعدم التفريق بينهم في ذلك . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (النساء : 64) . وقال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (المائًدة : 92) . وقال عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا }{ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } (النساء : 150 ، 151) . فيجب تصديق الرسل فيما جاءوا به من الرسالات وهذا مقتضى الإيمان بهم .

ومما يجب معرفته أنه لا يجوز لأحد من الثقلين متابعة أحدٍ من الرسل السابقين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث للناس كافة ، إذْ أن شريعته جاءت ناسخة لجميع شرائع الأنبياء قبله فلا دين إلا ما بعثه الله به ولا متابعة إلا لهذا النبي الكريم . قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ }{ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران : 85) . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سبأ : 28) . وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } . . . (الأعراف : 158) .
2 - موالاتهم جميعًا ومحبتهم والحذر من بغضهم وعداوتهم .

قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (المائدة : 56) . وقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) . فتضمنت الآية وصف المؤمنين بموالاة بعضهم لبعض فدخل في ذلك رسل الله الذين هم أكمل المؤمنين إيمانًا وعليه فإن موالاتهم ومحبتهم في قلوب المؤمنين هي أعظم من موالاة غيرهم من الخلق لعلو مكانتهم في الدين ورفعة درجاتهم في الإيمان . ولذا حذر الله من معاداة رسله وعطفها في الذكر على معاداة الله وملائكته وقرن بينهما في العقوبة والجزاء . فقال عز من قائل : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (البقرة : 98) .

3 - اعتقاد فضلهم على غيرهم من الناس ، وأنه لا يبلغ منزلتهم أحد من الخلق مهما بلغ من الصلاح والتقوى إذ الرسالة اصطفاء من الله يختص الله بها من يشاء من خلقه ولا تنال بالاجتهاد والعمل . قال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (الحج : 75) . وقال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } (الأنعام : 83) . إلى أن قال بعد ذكر طائفة كبيرة من الأنبياء والمرسلين : { وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } (الأنعام : 86) . وقد تقدم نقل هذا السياق في المبحث الأول من هذا الفصل .

كما دلت السنة أيضًا على أن منزلة الرسل لا يبلغها أحد من الخلق لما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى » (1) وفي رواية للبخاري : « من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب » (2) . قال بعض شراح الحديث : " إنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته " . وبيّن العلماء : " أن ما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة وخص يونس بالذكر لما ذكر الله من قصته في القرآن الكريم كقوله تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } (الأنبياء : 87 ، 88) . وقوله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } . . . الآيات (الصافات : 139-148) " .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3416) ، ومسلم برقم (2376) ، واللفظ للبخاري .
(2) صحيح البخاري برقم (4604) .

4 - اعتقاد تفاضلهم فيما بينهم وأنهم ليسوا في درجة واحدة بل فضل الله بعضهم على بعض . قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } (البقَرة : 253) . قال الطبري في تفسير الآية : " يقول تعالى ذكره : هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض ، فكلمت بعضهم كموسى صلى الله عليه وسلم ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة " . فإنزال كل واحد منهم منزلته في الفضل والرفعة بحسب دلالات النصوص من جملة حقوقهم على الأمة .
5 - الصلاة والسلام عليهم فقد أمر الله الناس بذلك وأخبر الله بإبقائه الثناء الحسن على رسله وتسليم الأمم عليهم من بعدهم . قال تعالى عن نوح : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ }{ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } (الصافات : 78 ، 79) . وقال عن إبراهيم : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ }{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } (الصافات : 108 ، 109) . وقال عن موسى وهارون : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ }{ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } (الصافات : 119 ، 120) .

وقال تعالى : { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } (الصافات : 181) . قال ابن كثير : " قوله تعالى { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } (الصافات : 79) مفسرًا لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه جميع الطوائف " . وقد نقل الإمام النووي إجماع العلماء على جواز الصلاة على سائر الأنبياء واستحبابها . قال : " أجمعوا على الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك أجمع من يعتد به على جوازها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالا وأما غير الأنبياء فالجمهور على أنه لا يصلى عليهم ابتداء " .
فهذه طائفة مما يجب للرسل من حقوق على هذه الأمة مما دلت عليه النصوص وقرره أهل العلم . والله تعالى أعلم .

المبحث الخامس
أولو العزم من الرسل
أولو العزم من الرسل هم : ذوو الحزم والصبر . قال تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } (الأحقاف : 35) .
وقد اختلف العلماء فيهم . فقيل المراد بأولي العزم هم جميع الرسل . و" من " في قوله { مِنَ الرُّسُلِ } لبيان الجنس لا للتبعيض . قال ابن زيد : " كل الرسل . كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبيًّا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل " .
وقيل هم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم . قال ابن عباس : " أولو العزم من الرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى " . وبهذا القول قال مجاهد وعطاء الخراساني ، وعليه كثير من متأخري أهل العلم .
وقد ذكر الله هؤلاء الخمسة مجتمعين في موطنين من كتابه وبه استدل لهذا القول . الأول في سورة الأحزاب . قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (الأحزاب : 7) . والثاني في سورة الشورى .

قال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (الشورى : 13) . قال بعض المفسرين : " ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة ومن أولي العزم من الرسل " .
وهؤلاء الخمسة هم أفضل الرسل وخيار بني آدم . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : (خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم وصلى الله وسلم عليهم أجمعين) (1) .
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم على ما أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع » (2) .
_________
(1) أخرجه البزار انظر كشف الأستار (3 / 114) ، والهيثمي في المجمع (8 / 255) وقال : « رجاله رجال الصحيح » ، والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، المستدرك للحاكم : 2 / 546 .
(2) أخرجه مسلم برقم (2278) ، وأبو داود : 5 / 38 ، برقم (4673) .

المبحث السادس
خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته
مع بيان أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق
أولا : خصائصه صلى الله عليه وسلم :
لقد خص الله تبارك وتعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بكثير من الخصائص والمناقب التي فضله بها على غيره من المرسلين وميزه عن سائر العالمين . ومن هذه الخصائص :

1 - عموم رسالته لكافة الثقلين من الجن والإنس فلا يسع أحدًا منهم إلا اتباعه والإيمان برسالته . قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } (سبأ : 28) . وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان : 1) . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " العالمين : الجن والإنس " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون » (1) . وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار » (2) .
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (523) .
(2) أخرجه مسلم برقم (153) .

2 - أنه خاتم الأنبياء والمرسلين كما دلت على ذلك النصوص . قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } (الأحزاب : 40) . وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين » (1) . ولهذه النصوص أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على هذه العقيدة كما أجمعت على تكفير من ادعى النبوة بعده صلى الله عليه وسلم ووجوب قتل مدعيها إن أصر على ذلك . قال الألوسي : " وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب ، وصدعت به السنة ، وأجمعت عليه الأمة ، فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر " .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3535) ، ومسلم برقم (2286) ، واللفظ للبخاري .

3 - أن الله أيده بأعظم معجزة وأظهر آية وهو القرآن العظيم ، كلام الله المحفوظ من التغيير والتبديل ، الباقي في الأمة إلى أن يأذن الله برفعه إليه . قال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (الإسراء : 88) . وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (العنكبوت : 51) . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » (1) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (4981) ، ومسلم برقم (152) .

4 - أن أمته خير الأمم وأكثر أهل الجنة . قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران : 110) . وعن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : « إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله » (1) . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة فقال : ( أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ) . قلنا : نعم . قال : ( أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ) . قلنا نعم . قال : ( أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة ) . قلنا : نعم . قال : ( والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر ) » (2) .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند : 4 / 447 ، والترمذي وقال حديث حسن ، والترمذي : 5 / 226 ، برقم (3001) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
(2) صحيح البخاري برقم (6528) ، ومسلم برقم (221) .

5 - أنه سيد ولد آدم يوم القيامة . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع » (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2278) . وتقدم صفحة 109 .

6 - أنه صاحب الشفاعة العظمى وذلك عندما يشفع لأهل الموقف في أن يقضي بينهم ربهم بعد أن يتدافعها أفضل الرسل وهي المقام المحمود المذكور في قوله تعالى : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } (الإسراء : 79) . وقد فسر المقام المحمود بالشفاعة جمع من الصحابة والتابعين منهم حذيفة وسلمان وأنس وأبو هريرة وابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم . وقال قتادة : " كان أهل العلم يرون المقام المحمود هو شفاعته يوم القيامة " . وقد دلت السنة كذلك على شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف كما جاء ذلك في حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر اعتذار آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عن قبول الشفاعة وكلهم يقول : (لست هناك) إلى أن قال : « فيأتونني فأنطلق ، فأستأذن على ربي فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال لي : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع » . . ) (1) الحديث .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3340) ، ومسلم برقم (193) .

7 - أنه صاحب لواء الحمد وهو لواء حقيقي يختص بحمله يوم القيامة ، ويكون الناس تبعا له وتحت رايته واختص به لأنه حمد الله بمحامد لم يحمده بها غيره . ذكر هذا بعض أهل العلم . وقد دلت السنة على اختصاصه بهذه الفضيلة العظيمة . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه ، إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر » (1) .
8 - أنه صاحب الوسيلة ، وهي درجة عالية في الجنة ، لا تكون إلا لعبد واحد ، وهي أعلى درجات الجنة . فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى عليه الله بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة » (2) .
إلى غير ذلك من خصائصه ومناقبه صلى الله عليه وسلم ، الدالة على علو درجته عند ربه ، وسمو مكانته في الدنيا والآخرة ، وهي كثيرة جدا .
_________
(1) أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح ، سنن الترمذي 5 / 587 ، برقم (3615) ، وبنحوه الإمام أحمد في المسند : 3 / 2.
(2) رواه مسلم برقم (384) .

ثانيا : حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته :

حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كثيرة وقد تقدم ذكر بعضها فيما يجب على الأمة من حقوق عامة تجاه الرسل قاطبة . وفيما يلي عرض لبعض حقوقه الخاصة على أمته ، وهي : 1- الإيمان المفصل بنبوته ورسالته واعتقاد نسخ رسالته لجميع الرسالات السابقة . ومقتضى ذلك : تصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع . وقد دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة . قال تعالى : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا } (التغابن : 8) . وقال تعالى : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف : 158) . وقال عز وجل : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر : 7) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على

الله » (1) .
2 - وجوب الإيمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح للأمة ، فما من خير إلا ودل الأمة عليه ورغبها فيه ، وما من شر إلا ونهى الأمة عنه وحذرها منه . قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (المائدة : 3) . وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( . . « وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها ونهارها سواء » (2) . وقد شهد للنبي بالبلاغ أصحابه في أكبر مجمع لهم يوم أن خطبهم في حجة الوداع خطبته البليغة فبين لهم ما أوجب الله عليهم وما حرم عليهم وأوصاهم بكتاب الله إلى أن قال لهم : « وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون » . قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : « اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات » (3) . وقال أبو ذر رضي الله عنه : (لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما) (4) . والآثار في هذا كثيرة عن السلف رحمهم الله .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (25) ، ومسلم برقم (22) .
(2) سنن ابن ماجه (المقدمة) : 1 / 4 ، برقم (5) .
(3) أخرجه مسلم من حديث جابر عبد الله في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، برقم (1218) .
(4) أخرجه أحمد في المسند : 5 / 153 .

3 - محبته صلى الله عليه وسلم وتقديم محبته على النفس وسائر الخلق . والمحبة وإن كانت واجبة لعموم الأنبياء والرسل إلا أن لنبينا صلى الله عليه وسلم مزيد اختصاص بها ولذا وجب أن تكون محبته مقدمة على محبة الناس كلهم من الأبناء والآباء وسائر الأقارب بل مقدمة على محبة المرء لنفسه . قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (التوبة : 24) . فقرن الله محبة رسوله صلى الله عليه وسلم بمحبته عز وجل وتوعد من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله - توعدهم بقوله : { فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده

والناس أجمعين » (1) . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك » . فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الآن يا عمر » (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (15) ، ومسلم برقم (44) .
(2) رواه البخاري من حديث عبد الله بن هشام برقم (6632) .

4 - تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلاله . فإن هذا من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم التي أوجبها الله في كتابه . قال تعالى : { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } (الفتح : 9) . وقال تعالى : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف : 157) . قال ابن عباس : " تعزروه : تجلوه . وتوقروه : تعظموه " . وقال قتادة : " تعزروه : تنصروه . وتوقروه : أمر الله بتسويده " . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (الحجرات : 1) . وقال عز وجل : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } (النور : 63) . قال مجاهد : " أمرهم أن يدعوه يا رسول الله في لين وتواضع ولا يقولوا يا محمد في تجهم " . وقد ضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثال في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم . قال أسامة بن شريك : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير " . وتعظيم النبي

صلى الله عليه وسلم واجب بعد موته كتعظيمه في حياته . قال القاضي عياض : " واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وتوقيره وتعظيمه ، لازم كما كان حال حياته ، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديثه وسنته ، وسماع اسمه وسيرته ، ومعاملة آله وعترته ، وتعظيم أهل بيته وصحابته " .

5 - والصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم والإكثار من ذلك كما أمر الله بذلك . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (الأحزاب : 56) . قال المبرد : " أصل الصلاة : الترحم . فهي من الله رحمة . ومن الملائكة رقة واستدعاء للرحمة من الله " . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا » (1) . وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي » (2) . والصلاة والسلام وإن كانت مشروعة في حق الأنبياء كلهم كما تقدم فهي متأكدة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ومن أعظم حقوقه على أمته وهي واجبة عليهم ولذا ذكرناها هنا من جملة حقوقه الخاصة على أمته . وقد صرح العلماء بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونقل بعضهم الإجماع على ذلك . قال القاضي عياض : " اعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على الجملة ، غير محدد بوقت لأمر الله تعالى بالصلاة عليه ، وحمله الأئمة
_________
(1) رواه مسلم برقم (384) .
(2) رواه الترمذي 5 / 551 رقم (3546) وقال حديث حسن صحيح وأحمد في المسند : 1 / 201 .

والعلماء على الوجوب وأجمعوا عليه " .
6 - الإقرار له بما ثبت في حقه من المناقب الجليلة والخصائص السامية والدرجات العالية الرفيعة على ما تقدم بيان بعضها في أول هذا المبحث وغير ذلك مما دلت عليه النصوص . والتصديق بكل ذلك والثناء عليه به ونشره في الناس ، وتعليمه للصغار وتنشئتهم على محبته وتعظيمه ومعرفة قدره الجليل عند ربه عز وجل .
7 - تجنب الغلو فيه والحذر من ذلك فإن في ذلك أعظم الأذية له صلى الله عليه وسلم . قال تعالى آمرًا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الأمة بقوله : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110) . وبقوله : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } (الأنعام : 50) .

فأمر اللهّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرر للأمة أنه مرسل من الله ليس له من مقام الربوبية شيء وليس هو بمَلَك إنما يتبع أمر ربه ووحيه . كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو فيه والتجاوز في إطرائه ومدحه . ففي صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله » (1) . والإطراء : هو المدح بالباطل ومجاوزة الحد في المدح ذكره ابن الأثير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعض الكلام فقال : ما شاء الله وشئت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله وحده » (2) . فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه وإنزاله فوق منزلته ، مما يختص به الرب عز وجل . وفي هذا تنبيه إلى غير ما ذكر من أنواع الغلو فإن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم محرم بشتى صوره وأشكاله .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3445) ، وبنحوه الإمام أحمد في المسند : 1 / 23 .
(2) رواه الإمام أحمد في المسند : 1 / 214 ، وبنحوه ابن ماجه في السنن برقم (2117) .

ومن صور الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم التي تصل إلى حدّ الشرك ، التوجه له بالدعاء فيقول القائل : يا رسول الله افعل لي كذا وكذا . فإن هذا دعاء والدعاء عبادة لا يصح صرفها لغير الله . ومن صور الغلو فيه صلى الله عليه وسلم الذبح له أو النذر له أو الطواف بقبره أو استقبال قبره بصلاة أو عبادة فكل هذا محرم لأنه عبادة وقد نهى الله عن صرف شيء من أنواع العبادة لأحد من المخلوقين فقال عز وجل : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (الأنعام : 162 ، 163) .

8 - ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم محبة أصحابه وأهل بيته وأزواجه وموالاتهم جميعًا والحذر من تنقصهم أو سبهم أو الطعن فيهم بشيء فإن الله قد أوجب على هذه الأمة موالاة أصحاب نبيه وندب من جاء بعدهم إلى الاستغفار لهم وسؤال الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم . فقال بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر : 10) . وقال تعالى في حق قرابة رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (الشورى : 23) . جاء في تفسير الآية : " قل لمن اتبعك من المؤمنين لا أسألكم على ما جئتكم به أجرًا إلا أن تودوا قرابتي " . وأخرج مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا في الناس فقال : « أما بعد ألا أيها الناس . فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب

فيه الهدى والنور . فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به » . فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : « وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي » (1) . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى أهل بيته وأن يعرف لهم قدرهم وحقهم ، لقربهم منه وشرفهم . كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه خيرًا ونهى عن سبّهم وتنقصهم فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » (2) أخرجه الشيخان . وقد كان من أعظم أصول أهل السنة التي اجتمعت عليه كلمتهم محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته وأزواجه وما كانوا يعدون الطعن فيهم إلا علامة الزيغ والضلال . قال أبو زرعة : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق " . وقال الإمام أحمد : " إذا رأيت رجلًا يذكر أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي بسوء) فاتهمه على الإسلام " .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2408) .
(2) صحيح البخاري برقم (3673) ، ومسلم برقم (2541) ، واللفظ للبخاري .

فهذه بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته على سبيل الإيجاز والاختصار والله تعالى الهادي لنا ولإخواننا على تأديتها والعمل بها .

ثالثًا : بيان أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق :
دلت السنة على إمكانية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأن من رآه في المنام فقد رآه .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من رآني في المنام فقد رآني . فإن الشيطان لا يتمثل بي » (1) أخرجه مسلم . وفي لفظ آخر أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، ولا يتمثل الشيطان بي » (2) قال البخاري قال ابن سيرين : " إذا رآه في صورته " . وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من رآني في النوم فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي » (3) رواه مسلم .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2266) .
(2) صحيح البخاري برقم (6993) ، ومسلم برقم (2266) .
(3) مسلم برقم (2268) .

فدلت الأحاديث على صحة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأن من رآه فرؤياه صحيحة لأن الشيطان لا يتصور في صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ينبغي أن يتنبه إلى أن الرؤية الصحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن يُرى على صورته الحقيقية المعروفة من صفاته ، وإلا فلا تكون الرؤية صحيحة ولذا قال ابن سيرين : " إذا رآه في صورته " كما تقدم النقل عنه من صحيح البخاري . ولذا أورد البخاري قول ابن سيرين بعد ذكر الحديث على سبيل التفسير لمعنى الرؤية في الحديث . ويشهد لهذا ما أخرجه الحاكم من طريق عاصم بن كليب : حدثني أبي قال : قلت لابن عباس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام . قال : صفه لي . قال : ذكرت الحسن بن علي فشبهته به . قال : إنه كان يشبهه (1) . قال ابن حجر سنده جيد .
وعن أيوب قال : " كان محمد - يعني ابن سيرين - إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : صف لي الذي رأيته . فإن وصف له صفة لا يعرفها قال : لم تره " نقله ابن حجر في الفتح وقال : سنده صحيح .
_________
(1) المستدرك : 4 / 393 ، وصححه ووافقه الذهبي .

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من رآني في المنام فسيراني في اليقظة » ، فللعلماء في تفسير الرؤية في اليقظة أقوال أشهرها ثلاثة :
الأول : أنها على التشبيه والتمثيل وقد دل على هذا ما جاء في رواية مسلم من حديث أبي هريرة وفيها : « فكأنما رآني في اليقظة » .
الثاني : أنها خاصة بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه .
الثالث : أنها تكون يوم القيامة . فيكون لمن رآه في المنام مزيد خصوصية على من لم يره في المنام . هذا والله تعالى أعلم .

المبحث السابع
ختم الرسالة وبيان أنه لا نبي بعده
تقدم الحديث عن هذه المسألة مع ذكر الأدلة عليها عند الحديث عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين والحديث عن ختم الرسالة هنا هو من جانب آخر وهو أثر هذه العقيدة على دين المسلمين وثمرة تقريرها عليهم . فمن ثمار هذه العقيدة :
1 - استقرار التشريع وكمال الدين لدى الأمة وأثر ذلك الكبير في حياة الأمة ولذا امتن الله على هذه الأمة بذلك في قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (المائدة : 3) .

وقد كان نزول هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قبل وفاته بأشهر بعد أن أكمل الله له التشريع . ولذا كان اليهود يغبطون المسلمين على هذه الآية على ما أخرج الشيخان أن رجلا من اليهود جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال : (آية في كتابكم تقرؤوها لو نزلت علينا معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا) . قال وأي آية ؟ قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) . وقد أبرز النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقة في صورة محسوسة وذلك بتشبيهه الرسالات قبله بقصر أكمل وأحسن بناؤه إلا موضع لبنة ، فكانت بعثته موضع تلك اللبنة ختم بها البناء ، وفي هذا تقرير ظاهر إلى أنه لم يبق مجال للزيادة في هذا الدين خاصة ولا الرسالات عامة كما أنه لا يمكن الزيادة في ذلك القصر بعد أن اكتمل بناؤه . وقد تقدم الحديث بنصه في المبحث السابق ضمن الحديث عن خصائص النبي صلى الله علي وسلم فليراجع في موضعه . (2) .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (45) ، ومسلم برقم (3017) .
(2) انظر ص170 .

2 - ثقة الأمة بعدم نسخ هذا الدين وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ببعثه نبيا آخر " ومعنى ختم النبوة بنبوته عليه الصلاة والسلام أنه لا تبتدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشرعته ، وأما نزول عيسى عليه السلام وكونه متصفا بنبوته السابقة فلا ينافي ذلك ، على أن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم دون شريعته المتقدمة لأنها منسوخة فلا يتعبد إلا بهذه الشريعة أصولا وفروعا " .

3 - القطع بتكذيب كل مدع للنبوة بعده عليه الصلاة والسلام دون نظر أو تأمل ، وهذا من أبرز ثمرات الإيمان بعقيدة ختم النبوة التي تحصل بها العصمة للأمة من اتباع من ادعى النبوة من الدجالين الكذابين ، ولهذا كان التنبيه على هذا الأمر العظيم هو من أعظم مقاصد النبي صلى الله عليه وسلم في تقريره اعتقاد ختم النبوة به وذلك بإخباره عن خروج كذابين ثلاثين في هذه الأمة كلهم يدعي النبوة ثم تقريره أنه لا نبي بعده تحذيرا للأمة من تصديقهم واتباعهم . كما جاء هذا في حديث ثوبان صلى الله عليه وسلم في الفتن مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه : ( . . . « وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي » (1) .
_________
(1) سنن الترمذي 4 / 499 وقال حديث حسن صحيح ، وبنحوه أبو داود عن أبي هريرة سنن أبي داود 4 / 329 برقم (4333- 4334) .

4 - ظهور فضل الأمراء والعلماء من هذه الأمة حيث جعل سياسة الأمة في الدين والدنيا لهم بخلاف بني إسرائيل فإنهم كانت تسوسهم الأنبياء . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء تكثر ) . قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : ( فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) » (1) . فكان مقام الخلفاء في الأمة مقام الأنبياء في بني إسرائيل في سياسة الناس وقيادتهم . وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها » (2) . وواقع الأمة يشهد بهذا فلا يزال أمر الدين والدنيا محفوظا بالخلفاء والأمراء والعلماء الذين يسوسون الناس بالشرع ، ولا يزال الله تعالى يجدد لهذه الأمة ما اندرس من معالم دينها على مر العصور والدهور بالأئمة المجددين الذين ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، فدين الله بهم قائم غضا طريا على تطاول عهد البعثة وتقادم زمن الرسالة . وذلك فضل الله على هذه
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3455) ، وصحيح مسلم برقم (1842) ، واللفظ له .
(2) رواه أبو داود 4 / 313 برقم (4291) ، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، المستدرك 4 / 522 .

الأمة عامة ومن شرفه بهذا المقام خاصة .
وعلى كل حال فعقيدة ختم النبوة وآثارها في الدين من أبرز خصائُص هذه الأمة التي أكسبتها قوة الإيمان بدينها وصدق اليقين به ورسوخ القدم في الثبات عليه ، إلى أن يأتي أمر الله .

المبحث الثامن
الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم حقيقته وأدلته
تعريف الإسراء لغة وشرعا :
الإسراء في اللغة : من السرى وهو : سير الليل أو عامته . وقيل : سير الليل كله .
ويقال : سريت ، وأسريت . ومنه قول حسان :

أسرت إليك ولم تكن تسري ...

والإسراء إذا أطلق في الشرع يراد به : الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى بيت المقدس بإيليا ورجوعه من ليلته .
حقيقة الإسراء وأدلته :
والإسراء آية عظيمة أيد الله بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة حيث أسري به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبا على البراق بصحبة جبريل عليه السلام حتى وصل بيت المقدس ، فربط البراق بحلقة باب المسجد ، ثم دخل المسجد وصلى فيه بالأنبياء إماما ، ثم جاءه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار اللبن على الخمر فقال له جبريل : هديت للفطرة . وقد دل على الإسراء الكتاب والسنة .
قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الإسراء : 1) .

ومن السنة حديث أنس بن مالك الذي أخرجه مسلم في صحيحه من طريق ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أتيت بالبراق " وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه " قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس . قال : فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء ، قال : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن . فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : اخترت الفطرة » (1) . ثم ذكر بقية الحديث وعروجه إلى السماء . وقد دل على الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث منها ما جاء في الصحيحين ومنها ما جاء في السنن وغيرها وقد رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جمع من الصحابة نحو الثلاثين رجلا ثم تناقلها عنهم مالا يحصي عدهم إلا الله من رواة السنة وأئمة الدين .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (162) .

وقد اتفقت كلمة علماء المسلمين سلفا وخلفا وانعقد إجماعهم على صحة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حق . نقل الإجماع على ذلك القاضي عياض في (الشفاء) والسفاريني في (لوامع الأنوار) . والإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم وجسده ، يقظة لا مناما . فهذا هو الذي دلت عليه النصوص الصحيحة وعليه عامة الصحابة وأئمة أهل السنة والمحققين من أهل العلم .

قال ابن أبي العز الحنفي : (وكان من حديث الإسراء : أنه أسري بجسده في اليقظة على الصحيح من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . ) . وقال القاضي عياض مقررا أن هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم : (وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة ، وهذا هو الحق ، وهو قول ابن عباس وجابر ، وأنس ، وحذيفة ، وعمر ، وأبي هريرة ، ومالك بن صعصعة ، وأبي حبة البدري ، وابن مسعود ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن المسيب ، وابن شهاب ، وابن زيد ، والحسن ، وإبراهيم ، ومسروق ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن جريج ، وهو دليل قول عائشة ، وهو قول الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين ، وقول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين) .

وقال أحد المحققين الأفذاذ في نقده لقول من زعم أن الإسراء مرتان : (والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة . ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ثم يقول : (أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ، ثم يحطها عشرا عشرا) .
المعراج وحقيقته :
الحديث عن المعراج هو قرين الحديث عن الإسراء في النصوص وكلام أهل العلم ولذا كان من المناسب التعريف به تتميما للفائدة .

والمعراج : مفعال من العروج . أي الآلة التي يعرج فيها ، أي يصعد . وهو منزلة السلم لكن لا نعلم كيفيته . والمقصود بالمعراج عند الإطلاق في الشرع : هو صعود النبي صلى الله عليه وسلم بصحبة جبريل عليه السلام من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ثم باقي السماوات إلى السماء السابعة ورؤية الأنبياء في السماوات على منازلهم وتسليمه عليهم وترحيبهم به ، ثم صعوده إلى سدرة المنتهى ، ورؤيته جبريل عندها على الصورة التي خلقه الله عليها ، ثم فرض الله عليه الصلوات الخمس تلك الليلة وتكليم الله له بذلك ثم نزوله إلى الأرض . وكان المعراج ليلة الإسراء على الصحيح .

وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المعراج . أما الكتاب فقد جاء فيه ذكر بعض الآيات العظيمة التي حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كقوله تعالى : { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى }{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }{ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى }{ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى }{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى }{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى }{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } (النجم : 12-18) . فذكر الله تعالى في هذا السياق الآيات العظيمة التي أكرم بها رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كرؤيته جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى ، ورؤيته سدرة المنتهى وقد غشاها ما غشاها من أمر الله . قال ابن عباس ومسروق " غشيها فراش من ذهب " .

وقد جاء في السنة خبر المعراج مفصلا في أكثر من حديث منها حديث أنس المتقدم في قصة الإسراء والذي سبق نقل ما يتعلق بالإسراء منه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل . فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير » . (ثم ذكر عروجه إلى السماوات وملاقاته الأنبياء إلى أن قال) : « ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة ، إذا ثمارها كالقلال . قال : فلما غشيها من الله ما غشيها تغيرت . فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها . فأوحى الله إلي ما أوحى . ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم . فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم . قال : فرجعت إلى ربي . فقلت : يا رب خفف على أمتي . فحط عني خمسا . فرجعت إلى موسى . فقلت : حط عني خمسا . قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين

ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال : يا محمد . إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة » . . ) (1) الحديث . أخرجه مسلم وقد جاء خبر المعراج بألفاظ متقاربة من حديث مالك بن صعصعة وأبي ذر وابن عباس في الصحيحين وغيرهما .
تنبيه :
الإسراء والمعراج من الآيات العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم والواجب على المسلم اعتقاد صحتهما وأنهما منقبتان عظيمتان اختص الله بهما نبينا صلى الله عليه وسلم من بين الرسل ولا يشرع للمسلم الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج كما لا تشرع لهما صلاة خاصة كما يفعله بعض عوام المسلمين ، بل كل ذلك بدع منكرة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها أحد من السلف ولم يقل بها أحد ممن يقتدي به في العلم .
وقد بين العلماء من أهل السنة أن صلاة ليلة سبع وعشرين من شهر رجب وأمثالها : (من البدع التي أحدثت في دين الله ، وأنه عمل غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع) . وقد قال صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (2) أي مردود عليه .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (162) .
(2) صحيح مسلم برقم (2697) .

المبحث التاسع
القول في حياة الأنبياء عليهم السلام
دلت الأدلة على موت الأنبياء إلا ما وردت النصوص باستثنائه كعيسى عليه السلام فإنه لم يمت بعد وإنما رفع إلى الله تعالى حيا على ما سيأتي بيانه .
فمن الأدلة على موت الأنبياء قوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } (البقرة : 133) . وقال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } (غافر : 34) . وقال تعالى عن سليمان عليه السلام : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } (سبأ : 14) . وقال تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } (الزمر : 30) . قال بعض المفسرين نعيت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه ونعيت إليهم أنفسهم ففي الآية الإعلام للصحابة بأنه يموت . وقال تعالى مخبرا عن موت كل نفس مخلوقة : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } (آل عمران : 185) .

فدلت هذه الآيات على موت الأنبياء وأنهم يموتون كما يموت بقية البشر إلا ما أخبر به الله عز وجل عن عيسى عليه السلام من رفعه إليه كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (آل عمران : 55) . فدلت الآية على رفع الله تعالى لعيسى بجسده وروحه إلى السماء وأنه لم يمت ، وأما الوفاة المذكورة في الآية في قوله تعالى { مُتَوَفِّيكَ } فقد جاء في تفسير الآية أن : " توفيه هو رفعه إليه " ، وإلى ذلك ذهب ابن جرير الطبري . وأكثر المفسرين على أن الوفاة المذكورة هي النوم ، كما قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } (الزمر : 42) .

فتقرر بهذا أن عيسى حي الآن في السماء لم يمت ، وقد أخبر الله عن موته قبل قيام الساعة . قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } (النساء : 159) . والموت المذكور هنا هو موت عيسى عليه السلام في آخر الزمان بعد أن ينزل من السماء فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة في نزول عيسى في آخر الزمان وقد جاءت تلك الأحاديث في الصحيحين وغيرهما .

وممن قيل إنه لم يمت من الأنبياء إدريس عليه السلام ، فقد ذكر بعض أهل العلم أنه لم يمت وإنما رفعه الله كما رفع عيسى عليه السلام واستدلوا لذلك بقوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا }{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } (مريم : 56 ، 57) . فعن مجاهد قال : إدريس رفع فلم يمت كما رفع عيسى . وعن ابن عباس قال : رفع إلى السماء فمات بها . وقال آخرون : رفع إلى السماء الرابعة والعلم في ذلك عند الله تعالى . وإنما القصد حصول الخلاف بين أهل العلم في موت إدريس من عدمه ، هذا مع القطع بأنه إن لم يمت فلا بد أن يموت لعموم قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } .

وأما ما عدا عيسى وإدريس عليهما السلام من الرسل فلم يقل أحد من أهل العلم المعتد بقولهم في الأمة بحياة أحد منهم لما تقدم من النصوص وللواقع المشاهد من موتهم . لكن جاء في بعض النصوص ما أشكَل فهمه على البعض في هذا الباب مثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث المعراج من رؤيته لبعض الرسل في السماء وتكليمه لهم على ما جاء في حديث أنس الذي أخرجه الشيخان وفيه : « ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه . . قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا . فإذا أنا بآدم ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه . قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا . فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما . فرحبا بي ودعوا لي بخير » (1) إلى آخر الحديث وقد ذكر فيه رؤيا يوسف في السماء الثالثة وإذا هو أعطي شطر الحسن ورؤياه إدريس في السماء الرابعة وهارون في السماء الخامسة وموسى في السماء السادسة ورؤيته إبراهيم في السماء
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3570) ، ومسلم برقم (162) .

السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور وأنهم كلهم رحبوا به ودعوا له بخير .
ومثل ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس » . . . ) (1) الحديث .
ففهم بعض الناس من هذه النصوص ومن غيرها مما يماثلها عدم موت الأنبياء فاستدلوا بها على ما اعتقدوه من حياة الأنبياء . والحق أن الأنبياء ماتوا إلا ما وردت به النصوص في حق عيسى عليه السلام وما اختلف فيه من أمر إدريس عليه السلام . وأما من عداهما فقد دلت النصوص على موتهم قطعا ولا شك في ذلك . وقد سبق نقل الأدلة عليه . وأما ما جاء في الأحاديث من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن رؤية الرسل ليلة المعراج وما جاء في معناه من النصوص الأخرى فحق ولا تعارض بين النصوص في ذلك . وذلك أن الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم هي أرواح الرسل مصورة في صور أبدانهم ، وأما أجسادهم فهي في الأرض إلا من جاءت النصوص برفعهم ، وهذا هو الذي عليه الأئمة المحققون من أهل السنة .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3239) ، ومسلم برقم (165) .

قال أحد الأئمة الراسخين في تحقيق هذه المسألة : (وأما رؤيته غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء لما رأى آدم في السماء الدنيا ، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في الثالثة وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، أو بالعكس ، فهذا رأي أرواحهم مصورة في صور أبدانهم . قد قال بعض الناس : لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور ، وهذا ليس بشيء . لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده ، وكذلك قيل في إدريس . وأما إبراهيم وموسى ، وغيرهما فهم مدفونون في الأرض) .
وعلى أنه ينبغي أن يقرر هنا أن الله تعالى كما أكرم رسله برفع أرواحهم إلى السماء فهي تنعم على ما شاء الله فإنه حفظ أجسادهم في الأرض ، وحرم على الأرض أن تأكل أجسادهم على ما ثبت ذلك من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي » . فقالوا : يا رسول الله . وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ قال : يقول : بليت . قال : « إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء » (1) .
_________
(1) رواه أحمد في المسند : 4 / 8 وأبو داود في السنن 1 / 443 برقم (1047) والدارمي في السنن 1 / 307 برقم (1580) ، وقال الإمام النووي إسناده صحيح .

وبهذا يتبين الحق في هذه المسألة المهمة وما يجب على المسلم اعتقاده فيها والله تعالى أعلم .

المبحث العاشر
معجزات الأنبياء والفرق بينها وبين كرامات الأولياء
التعريف بالمعجزة :
المعجزة : مأخوذة من العجز . وهو عدم القدرة .
جاء في القاموس : ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم ما أعجز به الخصم عند التحدي والهاء للمبالغة .
والمعجزة في الاصطلاح : أمر خارق للعادة يجري على أيديَ الأنبياء للدلالة على صدقهم مع سلامة المعارضة .
فقولنا : خارق للعادة : أخرج ما ليس بخارق للعادة مثل ما يصدر من الأنبياء من الأفعال والأحوال الطبيعية فهي ليست بمعجزات . وقولنا : يجري على أيدي الأنبياء : أخرج الأمور الخارقة التي تجري على أيدي الأولياء فهي ليست بمعجزات وإنما هي كرامات ، لمتابعتهم للأنبياء ويخرج من باب أولى ما يأتي به السحرة والكهان من الشعبذة فهذه لا تصدر إلا من شرار الخلق . وقولنا للدلالة على صدقهم مع سلامة المعارضة : أخرج ما يدعيه المتنبئون الكذابون من الأمور الخارقة وكذلك السحرة فإنها لا تسلم من المعارضة بل يعارضها أمثالهم من السحرة لأنها من قبيل السحر والشعبذة .
أمثلة لبعض معجزات الأنبياء :
ومعجزات الأنبياء كثيرة :

فمن معجزات صالح عليه السلام أن قومه طلبوا منه أن يخرج لهم من صخرة عينوها له ناقة ثم حددوا صفات الناقة فدعا ربه بذلك فأمر الله تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة على الوجه الذي طلبوا (1) . يقول الله تعالى في ذلك : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (الأعراف : 73) .
ومن معجزات إبراهيم عليه السلام جعل الله النار التي أشعلها قومه لتعذيبه وإهلاكه ثم ألقوه فيها بردا وسلاما عليه . قال تعالى : { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } (الأنبياء : 68- 70) .
_________
(1) تفسير ابن كثير (3 / 436) .

ومن معجزات موسى عليه السلام العصا التي كانت تتحول إلى حية عظيمة إذا ألقاها إلى الأرض . قال تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى }{ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى }{ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى }{ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى }{ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } (طه : 17- 21) . ومن معجزات موسى أيضا أنه كان يدخل يده في درع قميصه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء تتلألأ كالقمر من غير سوء . قال تعالى : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى } (طه : 22) .
ومن معجزات عيسى عليه السلام أنه يصنع من الطين ما يشبه الطيور ثم ينفخ فيها فتكون طيورا بإذن الله ، ويمسح الأكمه -وهو الأعمى- والأبرص فيبرآن بإذن الله ، وينادي الموتى في قبورهم فيجيبون بإذن الله . قال تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي } (المائدة : 110) .

ومن معجزات نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم القرآن العظيم وهو أعظم معجزات الرسل على الإطلاق . قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة : 23) . وقال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (الإسراء : 88) . ومن معجزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم انشقاق القمر عندما سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم آية فانشق القمر شقين فرآه أهل مكة ورآه غيرهم . قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }{ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } ( القمر : 1 ، 2) . ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام الإسراء والمعراج . قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } (الإسراء : 1) .

ومعجزات الرسل كثيرة خصوصا معجزات نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فإن الله أيده بكثير من الآيات والبراهين التي لم تجتمع لنبي قبله وما سقته هنا إنما هو للتمثيل فقط .
التعريف بالكرامة :
الكرامة : أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة لها تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح .
فقولنا : أمر خارق للعادة : أخرج ما كان على وفق العادة من أعمال .
وغير مقرون بدعوى النبوة : أخرج معجزات الأنبياء .
ولا هو مقدمة لها : أخرج الإرهاص وهو كل خارق تقَدم النبوة .
ويظهر على يد عبد ظاهر الصلاح . . : أخرج ما يجري على أيدي السحرة والكهان فهو سحر وشعبذة .
وكرامات الأولياء كثيرة منها ما ثبت في حق بعض الصالحين من الأمم الماضية . ومن ذلك ما أخبر الله به عن مريم عليها السلام . قال تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } (آل عمران : 37) .
ومنها : ما أخبر الله به عن أهل الكهف على ما قص الله ذلك في كتابه .