كتاب : أُصُول السُنَّة
تأليف : الحافظ أبي بكر عبدالله بن الزبير الحُميديُّ

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه , مباركاً عليه كما يحب ويرضى وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا أما بعد:
فهذه الرسالة "أصول السُنَّة" لإمام قدوة من أئمة السلف أهل السنة والجماعة أصحاب الحديث ممن يعوَّلُ على نقله وقوله في ذلك .
إنه الإمام العلَم أحدُ أعيان رواة البخاري , ومن طبقة إمام السُنَّة أحمد ابن حنبل أبو بكر الحُميديُّ صاحب "المسند" المشهور قد ذيل بها" مسنده " وختم بها ونعمت الخاتمة , فهي على إيجازها وصغر
حجمها , تضمنت جملاً عظيمة في الإعتقاد,تعد في أبرز القضايا التي اختلف فيها أهل القبلة .
ورأيت نشرها مستقلة لتيسير الوقوف عليها ولأضيف بها برهاناً
آخر على صحّة اعتقاد أهل السُنَّة والحديث وسلامته من بدع أهل الكلام وأضرابهم والله تعالى أسأل أن يعم نفعها بمنه وكرمه .
وكتبه أبو محمد عبد الله بن يوسف الجديع
التعريف بالمؤلف (1)
هو الحافظ الإمام الفقيه أبو بكر عبدُ الله بن الزّبير بن عيسى القُرشيُّ الأسديُّ الحُميديُّ سمع العلم من خلق كثير , منهم : وكيعُ بن الجرَّاح , و الوليد بن مُسْلم ويعلى بن عبيد ومروان الفزاري .
ولازم سفيان بن عُيينة فأكثر عنه , حتى قال الشافعيُّ : " كان يحفظ لسفيان بن عُيينة عشرة آلاف حديث " .
وقال أبو حاتِمْ الرازيُّ : " أثبت الناس في ابن عيينة وهو رئيس أصحاب ابن عيينة , وهو ثقة إمام " .
ووصفه بالإمامة أحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , والبخاري , وكان من أعيان الشافعي بمكة .

حمل عنه العلم كثيرون , منهم : البخاري , واحتج به في " الصحيح " , وهو أول رجل في كتابه , روى عنه في صدره حديث : " الأعمال بالنيات " ومنهم : الرازيان : أبو زرعة وأبوحاتِمْ , ومحمد بن يحيى الذهلي , ويعقوب بن سفيان , وراوي مسنده عنه بشر بن موسى الأسدي .
مات بمكة سنة (219هـ) رحمه الله .
***
هذه الرسالة
النسخة المعتمدة في التحقيق :
هذه الرسالة ـ كما أشرت في الافتتاح ـ ذَيَّلَ بها الحميدي " مسندَه" المعروف , وهو مطبوع بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي سنة (1963م) .
وقد اعتمدت لإخراج هذه العقيدة نسخة خطية قيمة من " المسند " , من محفوظات دار الكتب الظاهرية بدمشق , والواقعة تحت رقم (حديث ـ541) , وقد فرغ من نسخها سنة (689 هـ) .
وهذه النسخة وقعت للشيخ الأعظمي بأخرة , والكتاب يطبع , ولم يتهيأ له اعتمادها أصلاً , وإن منا قابل عليها نسخته التي اعتمد لها أصولاً متأخرة أقدمها يعود تاريخ نسخه إلى سنة (1150 هـ) .
***
نسبة الرسالة إلى مصنفها :
صحة هذه الرسالة عن مؤلفها كصحة " مسنده " , وصحته عند أهل الحديث في غنى عن الإستدلال.
كما تلقاها أئمة السُنَّة بالقبول , واعتمدوها في حكاية اعتقاد السلف , فمن ذلك :
1. ذكرها الإمام موفق الدين ابن قدامة في : " ذم التأويل " ( النص : 93) , بإسناده إلى أبي علي الصواف , راوي " المسند " عن بشر بن موسى , عن الحميدي , قال : " أصول السُنَّة ... فذكر أشياء , ثم قال ونطق به القرآن ..." فذكر ما سيأتي في الفقرة (7ـ8) .
2. شيخ الإسلام ابن تيمية , حيث قال : " وثبت عن الحميدي أبي بكر عبدالله بن الزبير أنه قال : أصول السُنَّة , فذكر أشياء " فساق مثل ما ذكر ابن قدامة (مجموع الفتاوى 4/6) .
3. وكذا نقل النص نفسه من هذه الرسالة الإمام ابن القيم في " اجتماع الجيوش الإسلامية " (ص : 68) .
4. والحافظ الذهبي في :
* تذكرة الحفاظ : (2/414) , بإسناده عن ابن قدامة , كما تقدم .

* العلو : (ص : 133) كالذي قبله .
* الأربعين في صفات رب العالمين (النص : 75) , نقلاً عن آخر " المسند ".
اسم الرسالة :
ورد في أولها بعد الفراغ من " المسند " العنوان التالي " أصول السُنَّة ".ثم " حَدَّث بها بشر بن موسى عن الحميدي " فأثبته اسماً للرسالة .
التعليق عليها :
علقت على الرسالة تعليقات اقتضاها الحال .
والله المستعان .
نص الرسالة :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1ـ السُنَّة : أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن ذلك كله فضل من الله عزوجل (2)
2ـ وأن الإيمان قول وعمل , يزيد وينقص , ولا ينفع قول إلا بعمل , ولا عمل و قول إلا بنية ، ولا قول وعمل بنية إلا بسنة .
3ـ والترحم على أصحاب محمد ( كلهم ، فإن الله عز وجل قال : ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ? [الحشر 10]
فلم يؤمر (3) إلا بالإستغفارٍ لهم ، فمن يسبهم أو ينقصهم أو أحداً منهم , فليس على السُنَّة ، وليس له في الفئ حق ، أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال : " قسم الله ـ تعالى ـ الفئ فقال : ? لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ? [الحشر 8] قال : ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ? [الحشر 10] الآية , فـ ( من ) (4) لم يقل هذا لهم , فليس ممن له الفيء(5) .
4ـ والقرآن : كلام الله (6) .
سمعت سفيان(7)يقول لي: القرآن كلام الله ، ومن قال (مخلوق) فهو مبتدع ، لم نسمع أحداً يقول هذا.
5ـ وسمعت سفيان يقول : الإيمان قول وعمل , ويزيد وينقص . فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة : يا أبا محمد لا تقل : ينقص . فغضب , وقال :" اسكت يا صبي ، بل حتى لا يبقى منه شئ (8).

6ـ والإقرار بالرؤية بعد الموت (9) .
7ـ وما نطق به القرآن والحديث , مثل : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ? [ المائدة 64] , ومثل : ?السَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ? [الزمر :67] , وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره . نقف على ما وقف عليه القرآن والسُنَّة .
8 ـ ونقول : ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه :5] ومن زعم غير هذا فهو معطل جَهْمِيُّ .
9ـ وأن لا نقول كما قالت الخوراج :" من أصاب كبيرةً فقد كفر " .
10ـ ولا تكفير بشئ من الذنوب ، إنما الكفر في ترك الخمس(10) التي قال رسول الله (: " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " (11).
فأما ثلاث منها فلا يناظر تاركه : من لم يتشهد ، ولم يصل ، ولم يصم , لأنه لا يؤخر من هذا شئ عن وقته ؛ ولا يجزئ من قضاه بعد تفريطه فيه عامداً عن وقته .
فأما الزكاة , فمتى ما أداها , أجزأت عنه , وكان آثماً في الحبس .
وأما الحج , فمن وجب عليه ، ووجد السبيل إليه , وجب عليه , ولا يجب عليه في عامه ذلك حتى لا يكون له منه بد , متى أداه , كان مؤدياً , ولم يكن آثماً في تأخره إذا أداه , كما كان آثماً في الزكاة ؛ لأن الزكاة حقُّ لمسلمين مساكين , حبسه عليهم ,فكان آثماً حتى وصل إليهم . وأما الحج , فكان فيما بينه وبين ربه , إذا أداه , فقد أدى , وإن هو مات , وهو واجد مستطيع , ولم يحج , سأل الرجعة إلى الدنيا أن يحج (12) ويجب لأهله أن يحجوا عنه , ويرجوا أن يكون ذلك مؤدّياً عنه , كما لو كان عليه دين فقضي عنه بعد موته .
***
(1) انظر ترجمته في " تهذيب الكمال للمزّي" : (14/512) , " سير أعلام النبلاء للذهبي " : (10/616) .

(1) يصدق ذلك حديث صهيب عند مسلم في " صحيحه " رقم (2999) , قال : قال رسول الله ( : (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ).
(2) في الأصل : (يؤمن) وهو تصحيف , وكذا أشار الأعظمي إلى تصويبه.
(3) زيادة من المطبوع لا بد منها.
(4) صحيح عن مالك , وقد أخرجه اللالكائي في " اعتقاد أهل السُنَّة " رقم : (2400) , من طريق معن بن عيسى , قال : سمعت مالك بن أنس يقول : من سب أصحاب رسول الله (فليس له في الفيء حق , يقول الله عز وجل : ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا? الآية , هؤلاء أصحاب رسول الله ( الذين هاجروا معه , ثم قال ?وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ? الآية , هؤلاء الأنصار , ثم قال ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ? فالفيء لهؤلاء الثلاثة , فمن سب أصحاب رسول الله ( فليس من هؤلاء الثلاثة , و لا حق له في الفيء .
قلت وإسناده صحيح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وهذا معروف عن مالك وغير مالك من أهل العلم , كأبي عُبيد القاسم بن سلام " ( منهاج السُنَّة : 2/20)
(1) على الحقيقة بحروفه ومعانيه , وهذه العقيدة أبرز ما اختلفت فيه طوائف أهل القبلة , وقد شرحت ذلك مفصلاً في كتابي ( العقيدة السلفية في كلام رب البرية ) فارجع إليه.
(2) هو ابن عيينة.
(3) أخرجه الآجري في " الشريعة " : ص (117) , أخبرنا خلف بن عمرو العُكْبري و اللالكائي في " اعتقاد أهل السنة " رقم (1745) , من طريق حنبل بن إسحاق , كلاهما عن المصنف به.

(4)أي رؤية ربهم تبارك وتعالى , والأخبار في هذه العقيدة صحيحة متواترة جمعها كثير من الأئمة أفردها منهم الآجرّي , وابن الأعرابي , والدارقطني , وغيرهم .
(5)لا خلاف بين أهل الإسلام في كفر من تارك الشهادتين وكذا لاخلاف بينهم في كفر من جحد وجوب واحد من الأركان الأربعة الأخرى , إذا بلغته الحجة لكن اختلفوا في تارك هذه الأربعة ترك عمل , على مذاهب .
وانظر : كتاب " الإيمان " لشيخ الإسلام ابن تيمية : (ص 245 , 287 , 354) و " مجموع الفتاوى " : (7/608 ـ 616) .
(6) متفق عليه من حديث عبدالله بن عمر .
(6) ورد هذا المعنى في حديث لا يصح , أخرجه عبد بن حميد : (رقم 693) , المنتخب , وعند الترمذي في " جامعه " عقب برقم (3313) , وابن جرير في تفسيره : (28/118) , والطبراني في " الكبير " : (12/114ـ115) , وابن عدي في " الكامل " : (7/2670) , من طريق أبي جناب الكلبي , عن الضحاك بن مزاحم , عن ابن عباس , قال : قال رسول الله ( : (من كان عنده مال يبلغه الحج ، أو عنده مال تجب فيه الزكاة ، فلم يزكه ، سأل الرجعة عند الموت ) قالوا : يا ابن عباس ، إنما كنا نرى هذا للكافر . قال : أنا أقرأ عليكم بذلك قرآناً ، ثم قرأ : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ? حتى بلغ ? فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ?. اللفظ لعبد بن حميد .
قلت : وإسناده ضعيف , لثلاث علل :
الأولى : أبو جناب هذا ـ وهو يحيى بن أبي حية ـ ضعيف الحديث , ليس بالقوي , وكان قبيح التدليس .
والثانية : الضحاك لم يسمع من ابن عباس .
والثاثلة : اختلف فيه على أبي جَنَاب رفعاً ووقفاً .
فرواه الثوري , وعمر وعلي , عنه مرفوعاً , ورواه جعفر بن عون ـ كما أخرجه الترمذي (رقم 3313) , وسفيان بن عيينة ـ كما ذكره الترمذي أيضاً عنه موقوفاً قلت : فإذا ضممت إلى هذه الثلاث تدليس أبي جَنَاب أتممت أربعاً