كتاب : حز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر
المؤلف : شيث بن إبراهيم بن حيدرة أبو الحسن

بسم الله الرحمن الرحيم 

قال الشيخ الفقيه الإمام حجة الاسلام ضياء الدين أبو الحسن شيث بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة غفر الله له وعفا عنه
الحمد لله ناصر الحق ومعيله وخاذل الباطل ومتبعيه والصلاة على إمام الهدى محمد المصطفى وعلى آله اهل الصدق والوفى ومن ولاهم وبهديهم اهتدى وسلامه وتحياته عليهم إلى يوم الجزاء
سألت نور الله باطنك بأنوار الإيمان وزين ظاهرك بوظائف الاسلام واستعملك في الدنيا بمتابعة السنة وأسعدك في الأخرى بجواره في الجنة ولا سلبك في المحيا ثوب التقوى واكرمك في الحسنى بطيب المثوى عند المجاورة وجريان المذاكرة أن انتزع الآيات التي في كتاب الله تعالى المتضمنة إقامة الحجة على صحة إعتقاد اهل السنة في إرادة الكائنات المنوطة بخلق أفعال العباد وانها متعلقة بمشيئة وإرادته دون خلقه
وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع إكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وتقديره وإلهامه وتوفيقه فله الخلق والأمر والتقدير والتدبير والتيسير والتعسير وبيده الهداية والاضلال والطاعة والعصيان والكفر والايمان
ولا يجري في ملكه وملكوته خير او شر نفع أو ضر فوز او خسر حياة أو موت غنى او فقر حلو او مر سر او جهر وفاء او غدر نصح او مكر عرف او نكر حركة أو سكون قيام او قعود قبض أو بسط إيمان او كفر إلا بإرادته ومشيئته وعلمه وقدرته

فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما روى ان قدريا دخل على الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فقال له يا ابن بنت رسول الله تعالى الله عن الفحشاء فقال له جعفر الصادق يا أعرابي وجل ربنا ان يكون في ملكه ما لا يشأ فقال القدري يا ابن بنت رسول الله أيحب ربنا ان يعصى قال يا أعرابي أفيعصى ربنا قهرا قال يا ابن بنت رسول الله أرأيت إن صدني الهدى فسلك بي طريق الردى أحسن بي أم أساء فقال عليه السلام إن منعك شيئا هو لك فقد ظلم وأساء وإن منعك شيئا هو له فإنه يختص برحمته من يشاء فأفحم القدري وبهت ولم يجد جوابا وهذا كلام حجته فيه فما يحتاج إلى بيان ولا إقامة برهان ولكن لا ينتفع به إلا من خلقه الله للجنة فأما من خلقه للنار فلا يسمعه ولا يلج في جوانح قلبه لأن الله تعالى لم يخلق له سمعا يعيه به ولا بصيرة ولا فهما فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم إذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل
وقال تعالى ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير قال سبحانه إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا

ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم
وقال في آخرين يريد الله الا يجعل لهم حظا في الآخرة
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم
ثم قال واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
وقال تعالى والله يدعوا إلى دار السلام فعم بالدعوة ثم قال ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فخص بالهداية
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في شأن من كان حريصا على هدايته أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون ثم كرر الدعاء لقومه وأظهر الشفقة عليهم وهم معرضون عن إجابته
أنزل اللع تعالى عليه وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين
ثم تمنوا عليه أماني وأقسموا بالله لئن أتاهم ما يتمنون ليؤمنن به فأنزل الله

على نبيه صلى الله عليه و سلم مجيبا لهم عن تمنيهم وقسمهم فقال تعالى واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
ثم لما كان خبيرا بحالهم وعالما بمالهم أنزل على نبيه صلى الله عليه و سلم في شأنهم تبا لهم ووعيدا وتقريعا وتهديدا وتخريسا عليهم وتنكيلا فقال
ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون
وقال تعالى عقيب هذه الآيات وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروروا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون
فانظر كيف جزم وقطع بأنه لو فعل لهم ما تمنوه لما آمنوا إلا ان يشاء الله وكذلك ما يفعله شياطين الإنس والجن بالأنبياء وعداوتهم لهم وما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فقال ولو شاء ربك ما فعلوه فعلق ما صدر من غرورهم وعداوتهم للأنبياء عليهم السلام بمشيئته جل جلاله ومثله قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب

والذين امنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء الله فأنظر إلى الأنبياء عليهم السلام كيف تفطنوا لقدر الله وأن جميع الكائنات منوطة بمشيئة الله سبحانه ولذلك قال بعض الموحدين مساكين القدرية خالفوا في اعتقادهم قول الله سبحانه وهو ربهم وخالقهم ومالكهم وإليه مآلهم ومرجعهم وخالفوا الملائكة الذين هم خاصة الله والعارفون بالله وصفاته وهم أحق بمعرفة الإله جل جلاله وبصفاته وأحكامه في خلقه وهم القائلون مع ذلك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك انت العليم الحكيم وخالفوا أنبياء الله وهم خزنة وحيه والمصطفون من خلقه وخالفوا أهل الجنة وخالفوا أهل النار وخالفوا شيخهم في الضلال إبليس ورجعوا في إعتقادهم إلى سوء رأيهم وما زين لهم ولم يجدو محيصا ولو شاء الله ما فعلوه
أما مخالفتهم لقول الله تعالى
فإنه سبحانه يقول ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
وقول الله تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله

وقوله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان
ثم مدحهم على ما خلقه فيهم وحببه إليهم وزينه في قلوبهم وما كرهه إليهم وهو من عظيم كرمهه وإحسانه وفضله وامتنانه كما يفعله ملوك الدنيا مع خواصهم فيما تشاهده العيان ينعم عليه بحسن الملبوس والزينة في المركوب والخيل المسومة والسلاح وآلة الحرب المحملة فإذا عرض عليه الجنود والجيوش في يوم الزينه وأعجبه زي بعض خواصه استحسنه وقال ما رأيت في الجيوش وزي العساكر أطرف من فلان ولا أزين من زيه
وإذا حسن من المخلوق هذا القول فهو من خالق الخلق وأعمالهم أحسن وأحسن فقس على ذلك جميع ما ورد في القرآن من الثناء الجميل على صاحبه والكل من صنع الله وخلقه مثل قوله التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله
وقوله تعالى إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعللانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور
ألهمهم لفعل الخير والأعمال الصالحة من تلاوة كتابه الكريم وإقام الصلاة ونفقة المال وهو الذي أعطاهم جميع ذلك ويسرهم له ويسره عليهم ثم تفضل

عليهم ومدحهم عليه وشكرهم ثم سمى ما يجازيهم به على ذلك أجرا ومن أين يستحق العبد المربوب المخلوق المملوك على خالقه وربه ومالكه وإلهه ومعبوده أجرا لولا جميل إحسانه وعظيم إمتنانه وجزيل كرمه وعطائه لا عدمنا ذلك الفضل العظيم والطول الجسيم
وقال تعالى في آخر هذه السورة ما يوافق أولها ويزيده وضوحا لمن أراد الله به خيرا وفهمه كتابه يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين
وقال تعالى من يهد الله فهوالمهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا
والآيات في مثل هذا الفن لا تحصى قد ذكرها الشيخ الفقيه الإمام الأوحد أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الجباب رحمه الله عليه فيما أملاه علي وهو كتاب الاملاءله في مجلدين وأما قول الملائكة فقالت لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحيكيم

وأما قول الأنبياء عليهم السلام
فقد قال شعيب إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وقال نوح عليه السلام ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون
وقال إبراهيم لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين
وقال الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين الآية أفرده بالهداية كما أفرده بالخلق والرزق والشفاء والأمانة والاحياء والمغفرة يوم اللقاء والأمامية والقدرية في هذه الآيات يؤمنون ببعضها ويكفرون

ببعضها بيد أنه لو قيل لهم من خلق إبراهيم الأواه لقالوا خلقه الله ولو قيل لهم من أطعمه وسقاه لقالوا هو الله ولو قيل لهم من أمرضه وشفاه لقالوا هو الله ولوقيل لهم فمن أماته وأحياه لقالوا هو الله ولو قيل لهم من يغفر له يوم يلقاه لقالوا هو الله ولوقيل فمن الذي إلى الإيمان هداه قالوا ولم يستحيوا هو الذي هدى نفسه ولم يهده الله ونفوا عن الله سبحانه هدايته لإبراهيم وهداية المهتدين أجميعن وأثبتوا له جميع ما تضمنت له هذه الآيات فليت شعري من الذي قصر قدرة الرب سبحانه وإرادته على بعض المقدورات والمرادات أله مع الله آله دون الله تعالى الله عما يشركون
وهكذا فعلت الحشوية إذ قيل لهم أنتم تقولون معنا إن الاله جل جلاله يعلم بغير قلب ويبطش بغير جارحة ويخلق بغير آلة ويسمع بغير أصمخة وآذان ويبصر بغير حدقة وأجفان فما باله أيضا يتكلم بغير صوت وحرف فيكون كلامه سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم فضل كلام الله على كلام البشر كفضل الله على خلقه ووجدنا فضل الله على خلقه في قوله تعالى ليس كمثله شيء فيجب أن يكون ليس كمثل كلامه كلام وإذا كان عندهم أن كلام الله صوت وحرف وكلام المخلوقين صوت وحرف فقد صار كلامه مثل كلام المخلوقين فلا فضل لكلامه على كلام البشر وعرضوا كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم للكذب في قوله عليه السلام فضل كلام الله على كلام البشر كفضل الله على خلقه
وكذلك ما قاله شعيب في الآية المتقدمة وهي قوله وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا

وقال موسى عليه السلام إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فأغفر لنا
فهذا قول أنبيائه وهم أعرف خلق الله بربهم وبصفاته وكل ما ينطقون به فهو مستفاد من بارئهم كما قال تعالى في الأخبار عن المصطفى صلى الله عليه و سلم وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
الا ترى أن موسى صلى الله على نبينا وعليه حيث قال لربه في مناجاته إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء
إنما استفاد ذلك من قوله تعالى في شأن قومه الذين عبدوا العجل الذين اتخذه السامري لهم من الحلي وقالوا هذا إلهكم وإله موسى وكان في حال المناجاة فقال له ربه فإنا قد فتنا قومك من بعدك فلما رجع إلى قومه ورأى العجل منصوبا للعبادة وله خوار قال إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء

وأما قول أهل الجنة
فإنهم قالوا لما دخلوها الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهتدي لولا أن هدانا الله واما قول أهل النار
فإنهم قالوا لما اختصموا ما حكاه الله عنهم حيث قال سبحانه
وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا ام صبرنا ما لنا من محيص
وفي قوله تعالى وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا إلى قوله قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين
والمعتزلة يقولون إن هداية الله لعباده إرسال الرسل وإنزال الكتب وهذه الآية تكذبهم وتذري عليهم في إعتقادهم في الآيات التي في هذا الكتاب أيضا حيث قالوا لو هدانا الله لهديناكم فإن كانت الهداية إرسال الرسل وإنزال الكتب فقد هداهم الله فلم قالوا لو هدانا الله لهديناكم
فتدبر الاثنين جميعا يظهر لك فساد إعتقادهم من كل وجه وأحمد الله واشكره على الإسلام والسنة والهداية والتوفيق

وأما قول شيخهم إبليس الذي اطاعوه في كل ما زينه لهم ولم يطاوعوه في هذه المسألة فإنه قال
رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجميعن
والإمامية منهم يلقنون أولادهم في حال الصغر فيقولون لهم ما أحمق السنة يعتقدون أن الله هو الذي يضل ويهدي ويزين المعاصي للعاصي وإنما الإنسان هو الذي يفعل بنفسه ما يشاء دون خالقه ويوردون على الصبي حكاية عن إبليس اللعين وآدم عليه السلام إبتدعوها من تلقاء أنفسهم لم تكن قط اجتمع آدم صلى الله على نبينا وعليه وإبليس يوما فقال آدم عليه السلام لإبليس لولا أنت اغويتني ما عصيت ربي قالوا فقال إبليس يا آدم فمن أغواني أنا حتى عصيت ربي وقصدهم ان يتلقف أبناؤهم هذه إن الله سبحانه لما أمر إبليس بالسجود أراد سجوده فخالف إبليس امر الله وعصى واستكبر وأبى كما أخبرالله سبحانه عنه ولو كان مطيعا لسجد قلت له فقد امر الخليل إبراهيم عليه السلام بذبح الولد ولم يرد ذبحه ولو أراد ذبحه كما أمره لذبحه وهو نبي معصوم مطيع لله تعالى منزه عن المخالفة وعن الجهل بما أمره الله تعالى وعن الجهل بصفات الله تعالى
ولا يشك أحد أن إبراهيم أعرف بالله وبصفاته من القدرية والمعتزلة والإمامية فقال ما أمره قط وإنما رأى مناما قلت منامات الأنبياء وحي وحق وهي من أمر الله سبحانه وقد أمره في المنام بذبح ولده عليه السلام ووجه آخر
إن إسماعيل نبي كريم على الله ومعصوم عن الخطأ والزلل فيما ينطق به من أحكام الله وقد قال لأبيه إبراهيم عليهما السلام حين قال له يا بني إني أرى

في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى فأجابه بقوله افعل ما تؤمر وحاشاه أن يقول لأبيه الخليل إفعل ما تؤمر وهو لم يؤمر ولكان إبراهيم يقول يا بني ما أمرت وإنما رأيت في النوم أني أذبحك فأخذ يدندن ويتلعثم ويجمجم ويقول قد وجد للذبح والتأم حلقه وهذ منه حركة المذبوح وخجل المحجوج ولهذا سمينا الرسالة الذابحة للكلاب النابحة وقد سيمنا هذا الكتاب باسم مشتق منه في المعنى فسميناه حز الغلاصم في إفحام المخاصم كل هذا فرارا من الإنقياد للحق وحسدا لمن عثر عليه دونه وحرصا على تصحيح إعتقاده إن الإرادة هي نفس الأمر والباطل لا يقبل البصيرة أبدا ولا يتمشى أبدا كيف يكون الذبح قد وجد والله تعالى يقول وفديناه بذبح عظيم فلا معنى للفداء إن كان الذبح قد وجد وكان هذا القائل إماما عظيما عندهم كبير الشأن يزعم ويذبحون أنه لا تفلج له حجة ولا تقصم له عروة
وما أحسن ما جرى بين مجوسي وقدري وهما في إعتقاد هذه الأمة سواء لأن المجوس يقولون بآلهين ويسمون الثنوية لذلك وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول فيه القدرية مجوس هذه الأمة من حيث أنهم جعلوا مع الله شركاء كثيرا فالخلق عندهم خالقون لأفعالهم حسنها وقبيحها والمجوس يجعلون مع الله شريكا واحدا يخلق الشر لا غير وهؤلاء يقلون إن الخلق يخلقون إيمانهم وكفرهم وطاعتهم وعصيانهم
ولقد جرت هذه المسألة للشيخ الفقيه الإمام الرشيد جمال الفقهاء ابي الطاهر

إسماعيل بين مكي بن عوف أعزه الله في مجلس رضوان بن الوحشي وهو سلطان مصر مع رجل من كبار الأمامية يقال له ابن الصغير سأله رضوان أن يتكلم معه في هذه المسألة
قال الشيخ الفقيه أبو طاهر في كتاب صنفه لرضوان هذا فيه الرد على الإمامية يقال له كفاية المقتصد ونهاية المجتهد قرأته عليه رضي الله عنه وهو كتاب مفيد جدا أودع مناظرته معه في هذا الكتاب يقول فيه سألته عن خلق الأفعال التي تصدر عن العباد أهي خلق الله أو خلق لهم قال رضي الله عنه فسألته بلفظ القرآن لعله يتنبه أو يستحي فقلت له هل من خالق غير الله ففكر ساعة ثم قال الله خالق أفعاله والانسان خالق أفعاله قال فقلت إنفرد الانسان لخلق أفعاله واستبد بها قال نعم قال فقلت له يا هذا لقد أشركت بالله فقال ومن أين أشركت بالله وتطاول لها رضوان وأصغى إلى ما ألقي فقلت من جملة أفعال الانسان وهو أشرف من سائر المخلوقات كلها الجواهر وبقية الأعراض فقد صار ما خلقه الانسان أشرف مما خلقه الله تعالى والله يقول
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم عل بعض سبحان الله عما يصفون
وإذا كان الإنسان هو خالق الإيمان وهو أفضل واشرف من بقية المخلوقات فقد ذهب الانسان بما خلق وذهب الله بما خلق وعلا الإنسان على رب العباد جل ذلك الجلال أن توزن صفاته بميزان عقل الإمامية واهل الاعتزال فتأمل راشدا هذا السؤال وهذا الجواب وهذا الإفحام في هذا المقام

رجعنا إلى ما جرى بين المجوسي والقدري
فإن هذا الكلام جرى في عرض ما اوردناه لأنه يشاكله فاستوفينا المقصود فيه قال القدري للمجوسي ما لك لا تسلم فقال المجوسي حتى يريد الله فقال القدري قد اراد الله ولكن إبليس اللعين لا يدعك فما أحسن جواب المجوسي للقدري قال إن كان الله يريد إسلامي ولم يرده إبليس فكان الذي اراده إبليس دون ما أراده الله فأنا مع أقواهما فبهت القدري وهذا دليل التمانع في إقامة الدليل على توحيد الله تعالى لأن العلماء فرضوا هذه المسألة على من يقول أن للعالم إلهين بأن قالوا لو كان للعالم إلهان لكان أحدهما إذا اراد حياة جسم ما وأراد الآخر إماتته فإن تم مراد أحدهما دون الآخر فهو الإله حقا لنفوذ إرادته ومشيئته والآخر ليس بإله لقصور مشيئته وعجزه ومحال أن يتم مرادهما جميعا لاستحالة الجمع بين الضدين فلا يكون الجسم حيا ميتا في حال واحد أبدا فلا بد أن ينفذ مراد احدهما دون الآخر فالذي تم مراده وغلبت مشيئته هو الإله فاعلم ذلك وكرره فهو عند العلماء النظار دليل التوحيد وهو دليل التمانع وهو مضمون قوله تعالى فيما أرشدنا إليه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقال آخر
مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الرب سبحانه بالعدل وسموا نفسوهم العدلية فوصفوه بالعجز وذلك أن قول القدرية وإعتقادهم أن الله سبحانه أراد من خلقه أجميعن الايمان والطاعة وأن إبليس أراد منهم الكفر والعصيان وإذا تأملت مرادات إبليس في الدنيا وجدتها أكثر من مرادات الله سبحانه فإذا كان الله تعالى قد

أراد من الكفار والعصاة الإيمان والطاعة فما كانت وأراد منهم إبليس العصيان والكفر فكان ما أرداه فقد نفذت مشيئة إبليس وإرادته ولم تنفذ مشيئة الله وإرادته فقول الناس إذن كافة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن باطل والصحيح على قولهم وسوء إعتقادهم أن يقول القائل ما شاء إبليس كان وما شاء الله لم يكن ونستغفر الله من تسطير هذه الكلمات ولكن حاكي الكفر ليس بكافر ولله الحمد على نعمة الإسلام والسنة
فمن رد ولاية الرب سبحانه إلى صورة لو ردت إلى زعيم بلدة لاستنكف أن تنسب إليه وذلك أن زعيم بلدة إذا علم أن معه في بلده معاندا له إذا أراد أمرا أراد المعاند نقيضه ثم يتم مراد المعاند دون مراد الزعيم وهو يعلم معاندة معانده ولا ينكر عليه ولا يمنعه من عناده ولا ينفيه من بلده ولا يقتله فهو عاجز عنه والله يتعالى أن يوصف بالعجز أو الجور ولو كان كذلك لخرج عن الإلهية وانعزل عن الربوبية ولم يكن إلها مطاعا وهذا هو دليل التوحيد الذي قدمنا ذكره فافهم
والقدرية إنما ضلت في هذه المسألة من حيث قاست عدل الله تعالى على عدل عباده فإن عباده مأمورون ومنهيون ومملوكون ومربوبون وليس لهم ملك يتصرفون فيه إلا بإذن مالكهم فما سوغه لهم ساغ لهم التصرف فيه وما لم يأذن لهم بالتصرف فيه ولو كان ملكهم لم يسغ لهم ذلك وقد شرع لهم جل وعلا أن من تصرف في ملكي بغير إذني أو ملك أحد من خلقي بغير إذنه فقد ضل ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ومن تصرف في ملك الله بغير إذنه فقد ظلم وتعدى ولو كان تصرفه في عبد من عبيده يقيد ما أذن له مالكه على الحقيقة فإنه سبحانه قد أذن له أن يتصرف في عبده تصرفا خاصا لا عاما فلا يجوز له أن يقطع يده ولا يفقأ عينه ولا يجيعه ولا يضربه ولا ينكحه فمتى فعل شيئا من هذا وأشبهاهه فقد تعدى وظلم وجار وعصى وخالف واستوجب العقوبة على ذلك من

المالك الحقيقي المشرع الذي ارسل إليه وإلى سائر خلقه الرسل وحد لهم الحدود وأمر ونهى ووعد وأوعد
بل إذا قتل الإنسان نفسه أدخله النار وقال له لم تعديت على ملكي وتصرفت فيه بغير إذاني فلأدخلنك ناري ولأوجبن عليك سخطي
والقدرية يذهلون عن هذه الأمور الالهية والحكمة الربانية ويقيسون عدل الخالق على عدل المخلوق فما كان منهم قبيحا عندهم فمثله عندهم من الله قبيح وهو سبحانه لا يسئل عما يفعل وهم يسألون ولا يقاس عدله بعدل العباد كما قال أبو حامد الغزالي إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ولا يتصور الظلم من الله سبحانه فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما فكل ما سواه من جن وإنس وملك وشيطان وسماء وارض وحيوان ونبات وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس حادث إخترعه بقدرته بعد أن لم يكن فإذا تصرف في ملكه كيف يقال له ظلمت ولو أنه سبحانه حيث خلق أبانا آدم عليه السلام من قطعة من الطين أعاده إلى النار فمن ذا الذي يقول أنه ظلمه وهو مالكه وموجده ومحدثه جل ربنا وتقدس عما يضيفه إليه الملحدون وتعالى علوا كبيرا
واعلم رحمك الله ويسر لك فهم كتابه العزيز وسره في قدره وحكمه في خلقه وتصاريفه في تدبيره إنك إذا تأملت آيتين من الكتاب العزيز فكفتاك إحداهما
قوله تعالى قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
والأخرى قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى

فافهم فإن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي ولا فاعل سواه ولا خالق إلا هو قال الله سبحانه والله خلقكم وما تعملون أي خلقكم وعملكم
وافهم أنه جل وعز الفاعل على الحقيقة وغيره فاعل على المجاز وأنه يتصرف في نسبة أفعال خلقه التي خلقها تارة ينسبها إلى من اكتسبها وظهرت للناظرين منهم فيقول سبحانه جذاء بما كانوا يعملون ويقول يعلمون ما تفعلون والله يعلم ما تصنعون وشبه ذلك كثير
وتارة ينسبها إلى نفسه لنه خالقها فيقول سبحانه
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون نحن نقص عليك أحسن القصص
ويقول فإذا قرأناه فاتبع قرآنه
جاء في التفسير فإذا قرأه جبريل فاتبع قراءته

وكذلك قوله يوم ينفخ في الصور والأمة وجيمع الأمم مجموعون على أن الذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام فإذا تمدح جل وعز نسب فعلك إليه وما رميت إذ رمت ولكن الله رمى وإذا أراد مديحك أو شكرك أو تبكيتك أو ذمك قال جزاء بما كانوا يعملون و التائبون العابدون وكذلك أمرنا إذا دعونا أن ندعوه بأسمائه الحسنى فقال ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها
فنقول يا هادي الخلق اغفر لي ولا نقول يا مضل الخلق ويا كاشف الضر ولا نقول يا هازم المؤمنين يوم حنين ولا ياقاتل المؤمنين يوم أحد وهكذا تأدب معه أنبياؤه عليهم السلام فقال إبراهيم عليه السلام الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين ثم قال وإذا مرضت فهو يشفين
وقال تعالى بيدك الخير ولم يقل بيدك الخير والشر
وحكي عن بعض العارفين أنه بينما هو يناجي ربه ويقول في مناجاته يا رب أنت شئت وقضيت وحكمت وكتبت فنودي هذا أدب التوحيد فأين أدب العبيد

فقال العارف وأنا عصيت وأنا اجترأت وأنا خالفت فسمع هاتفا يقول وأنا سترت وأنا صفحت وأنا غفرت فافهم هذا السر فإنه لا يعقله إلا العالمون
أعني هذا وما قدمته من أنه يتصرف في أفعال خلقه كيف يشاء لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون
فإنه قيل إنه لا يليق بإلهيته وعدله وجوده أن أن يعذب خلقه لأجل ما فعله فيهم من الاضلال والكفر والعصيان وقد قال
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها
فالجواب أن تقول من ههنا غلطتم وظننتم أن الله يعذب خلقه بكفرهم ومعاصيهم ونحن نقول أنه لا يعاقب ولا يعذب إلا بحق الملك وجعل الكفر والعصيان علامة على الكافر والعاصي ولتصح المعاملة بين المؤمنين والكافرين فيوالي أولياءه ويعادي أعداءه ويجاهد الكفار ويعز المؤمنين كما وصف أصحاب نبيه عليه السلام فقال تعالى
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين أشداء على الكفار رحماء بينهم
وتصح المناكحة والموارثة والعيادة والموادة وسائر معاملات الشرع فاعلم ذلك
والدليل على أن الله سبحانه لا يعذبهم إلا بكونه عبيده وملكه قول عيسى صلى الله عليه و سلم فيما حكاه الله عنه إذ يقول إن تعذبهم فإنهم عبادك ولم يقل عصوك وانظر

إلى قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
نستفد منه أنه سبحانه لولا أن له أن يعذبهم قبل مجيء الرسل الحق الملك لما تمدح بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفي ضمن الآية مافي ضمن قوله تعالى ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصبرين وهو سبحانه يعلم قبل أن يبلوهم فتدبره ومن تصرف في ملكه لا يقال أنه ظالم لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه والظلم أيضا أن يتعدى المكلف ما حد له مالكه
فإن كان مع الله شريك وله ملك دون الله فيتصرف الله سبحانه في ملك شريكه بغير إذنه فهو ظالم وإن كان الله سبحانه مالك الأعيان ومالك الكونين وبيده ملكوت كل شيء وملكوت السموات والأرض ولا شريك معه في ملكه ولا يتصور الظلم منه تعالى أبدا فإنه تعالى لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما ولا فوقه رب يحد له حدودا حتى إذا خالف حدا من حدوده كان ظالما كما قال من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون تعالى الله عو ذلك علوا كبيرا بل هو سبحانه يعذب من يشاء من خلقه بما شاء من عذابه
قال الله تعالى في محكم كتابه قال عذابي أصيب به من أشاء ولم يقل من عصى فإياك ثم إياك أن تقيس الدب بالعبد والخالق بالمخلوق فتزل عن صراط ربك المستقيم وتقع في طريق الشيطان الرجيم الذي قاس بعقله قياسا واحدا فزل عن طريق الله فهلك مع الهالكين ونسب هذا الطريق إليه فسمي طريق الشيطان الرجيم وذلك أنه فكر في نفسه وقال النار أشرف من الطين لأن النار

نورانية والطين من الظلمة فإنا خير من آدم لأن النار خير من الطين
ولو علم أن الخير من كان عند الله خيرا لأطاع ربه كما أطاعت الملائكة أجمعون ولكن جعله الله لأهل الشقاء سببا فاحتج بهذا الاحتجاج وارتكب هذا اللجاج فهلك هلاك الأبد بسوء نظره وفساد قياسه ولو شاء سحانه لعصمه وزين في قلبه الطاعة كما زينها للملائكة أو تاب عليه وعفا عنه كما عفا وتاب على آدم نبيه ولكن قد أعلمتك أنه يتصرف في في ملكه كيف يشاء وهذا معنى وصفة بأنه ماكر ومستدرج ومخادع
قال أبو طالب المكي رحمة الله عليه في كتابه المسمى قوت القلوب يغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الحقير لبلايا من ملك بعمله ولا ييأس مسرف على نفسه من عفوه وبهذا يتحقق المكر في حقه
وقال أيضا أوحى الله تعالى إلى نبي أو قال لنبي قل لفلان كم ذنب واجهتني به غفرته لك أهلك في دونه أمة من الأمم
وقال إن لله عبدين إشتركا في المخالفة آدم وإبليس هذا لا تأكل فأكل وهذا أسجد فما سجد فتاب على آدم واجتباه ولعن إبليس وجزاه
قال ويشترك في المعصية الواحدة المكان الواحد جماعة فيغفر لبعضهم ويعذب في الدنيا بعضهم ويتوب على بعضهم ويؤخر لعقوبة الآخرة بعضهم ويبدل بعد التوبة لبعضهم سيئاتهم حسنات
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا يقال لما فعلت هذا ولا كيف فعلت وكل من سواه يسئل لم فعل ولم ترك لأن الآمر المكلف يسئله ولا مالك مع الله ولا دون الله ولا فوق الله فيسئله عن أمره أو حدوده والتصرف في ملكه بغير إذنه فلا يتصور الظلم من الله أبدا فاعلم
قال أبو طالب ولقد عددت لأخوة يوسف الصديق عليهم السلام وفي قوله

تعالى حكاية عنهم اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم إلى آخر القصة
نيفا وأربعين ذنبا صفح عنها وغفرها لهم ولم يحتمل لإبليس ذنبا واحدا وقد قيل إنه عبد الله ثمانين ألف سنة ولم يبق في السموات السبع موضع شبر إلا سجد لله فيه فأحبط الله جميع حسناته وقرباته وسائر أعماله في طول مدته وأخذه بذنب واحد
ولم يحتمل لبلعمر بن باعوراء ذنبا واحدا فسلبه بالإيمان والتوحيد وحديثه مشهور وفي الكتب مذكور فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
وفكر بعضهم في قوله تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين فلقي سمنون فسأله عنها فتأوه وأنشا يقول ويقبح سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا
فقال السائل يا سمنون سألتك عن آية في كتاب الله فأجبتني ببيت من الشعر فقال له سمنون أنشدته لتعلم أن في أقل قليل أدل دليل ثم قال له يا هذا إمهاله لهم مع مكره مكر بهم قلت صدق سمنون ألا تراه قد قال في موضع آخر ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فأنظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجميعن وفيما هدد الله به الثقلين قوله تعالى سنفرغ لكم اية الثقلان

سأل بعضهم عن مخرج هذا الكلام في حق الله تعالى وقال هل الله تعالى في شغل حتى يفرغ منه فقيل له إنما هذا على معنى الإمهال لا على معنى الاشتغال فإن سبحانه كل يوم هو في شأن ولا يشغله شان عن شأن ومخرج هذا الخطاب الوعيد والتهديد أي سنعمد إلى مجازاتكم بعد أن أمهلناكم وأملينا لكم
فمن قاس فعل الرب الآمر المالك على فعل المربوب المأمور المملوك كان كمن قاس ذات الرب على ذات العبد فجعل إلهه شبهه ومثله جسما مصورا محدودا مقدرا وجوهرا متحيزا وكما لا يجوز قياس الذات على الذات فكذلك لا تقاس الصفات على الصفات فإنه سبحانه يتعالى عن مشابهة خلقه من كل الجهات ولولا ما سبق به الكتاب على ألسنة أنبيائه عليهم السلام من تنعيم المؤمنين وتعذيب الكافرين لجاز له بحق الملك أن يدخل الكل منهم الجنة أو يدخلهم أجمعين النار ولا يكون سحانه ظالما ولا من الحكمة خارجا
قال الله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
وقال حكاية عن عيسى صلى الله عليه و سلم إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الفقيه أبو حفص عمر الذهبي رحمة الله عليه ظفرت البارحة بأية
من كتاب الله تعالى هي أحب إلي من مائة ألف قلت ما هي قال القدرية والمعتزلة والامامية يقولون إن الله تعالى يعذب خلقه بذنوبهم ولا يجوز في حكمته أن يغفر لهم ومتى غفر لهم فليس بحكيم فأكذبهم الله تعالى في هذه الآية كما ترى إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
فتبينها وتدبرها تعرف مقدارها ومقدار المبتهج بها وهو الفقيه أبو حفص رحمة الله عليه

وقد ورد في القرآن العظيم قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة أي تعم الصالح والطالح فلولا أنه يتصرف في ملكه كيف شاء لما حسن منه ذلك
فاعلم ولا تقيس الخالق على المخلوق ولا المالك على المملوك والسر في هذا والله أعلم أن تسمية الرب سبحانه تتلقى من جهة الشرع لا من جهة العقل فما سمى به نفسه سماه به خلقه فنسميه ماكرا وجبارا ومتكبرا وناسيا ومخادعا مزيفا ومستدرجا لورود الشرع بها وهي صفات ذم في حق أنفسنا إذ قلنا فلان جبار متكبر ماكر مخادع وناس ومستدرج ولا نسمي الإله سبحانه عاقلا فقيها أديبا شاعرا لبيبا ذكيا فطنا لعدم ورودها شرعا وإن كانت في حقنا صفات مدح وكمال فلا تقاس الملائك بالحدادين كما قال أبو حامد الغزالي رحمة الله عليه ولا الاله الخالق بالمخلوقين جل الله وتعالى عن التشبيه والتمثيل فإن قيل أنتم تقولون إن الرب يأمر عباده بأمر وهو يريد منهم خلاقه أمر إبليس بالسجود ولم يرد سجوده وأمر فرعون بالإيمان وهو يريد أن يموت على كفره وكذلك سائد الكفار والعصاة أجمعين وهذا لا يتصور من العاقل كيف يجوز للحكيم أن يأمر عبده بأمر وهو لا يريد امتثاله ومن فعل ذلك عد سفيها خارجا عن الحكمة والعاقل منا لو فعل ذلك لعد سفيها خارج من حزب العقلاء وهذا لا يتصور من عاقل ولا حكيم أن يفعله وأنتم تقولون يا معشر السنة إن كل من مات على الكفر والعصيان وقد أرسل إليه رسولا وأمره بالإيمان والطاعة إنه لم يرد إيمانه ولا طاعته فكيف يتصور هذا فأقيموا لأنفسكم من هذا القول الذي لا يتصور لعاقل

قلنا قد ثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن الله تعالى يتصرف في ملكه كيف يشاء ولا يتصور منه ظلم أبدا لأنه إنما يتصرف في ملكه لا في ملك لغيره فلا يلزمنا إعتراضكم وقد مهدنا هذه القاعدة وإنما يبقى استبعادكم أن يقع الأمر من الحكيم لخلقه وهو لا يريد امتثال أمره ونحن نقطع استبعادكم بصورة نفرضها يشهد العقلاء أنها حسنة وأن الآمر حكيم فيما امر به وفيما أراده مخالفا لأمره
فنقول لو أنعم السلطان على بعض خواصه بمملوك وهبه له وأكرمه بأن يكون خادما له تشريفا له فأهانه وضربه وطرده فدخل الخادم على السلطان باكيا شاكيا فقال أنعمت بي على من يجهل قدري ولا يعرف مقدار نعمتك عليه فأهانني وضربني وطردني وفي إهانتي إهانتك أيها الملك فغضب السلطان لذلك وقال علي بفلان فأحضر بين يديه فعتب عليه وقال أكرمتك بمملوكي يخدمك فأهنته وضربته وطردته
قال ايها الملك عذري فيما فعلت واضح فقال أوضح عذرك وإلا انتقمت منك فقال ما أمرته قط بأمر فامتثله فأغضبني فطردته فقال الملك إستحق العقوبة والنكال ولكن قد صرت له خصما فلا أقبلك عليه إلا بدليل أو شهادة فقال ايها الملك أحضره إلي بين يديك وأنا آمره بأمر فإن امتثله فقد كذبت في قولي واستحققت النكال والعقوبة وإن لم يمتثل أمري فقد صح عند الملك عذري والملك مخير بعد ذلك فعند ذلك أرسل الملك من أحضر الغلام وأمره سيده بأمر فيا أيها السامعون العقلاء المنصفون تدبروا هذه القضية وقولوا ما عندكم فيها هل السيد يريد امتثال أمره أم لا يريد امتثال أمره فإن كان يريد امتثال أمره فقد عرض نفسه للهلاك وإن كان قد أمره وهو لا يريد امتثال أمره بما لا يريد وهو عاقل حكيم وقد أمر أمرا جزما وهو لا يريد وقوع المأمور به ولا يعد عند سائر العقلاء سفيها ولا خارجا عن الحكمة بل لو ارد وقوع المأمور به لعد سفيها مجنونا فإذا كان هذا في مخلوق والحس شاهده والعقلاء تستحسنه ولا تستبعده فمن استبعد أن يقع نظيره من المالك الحقيقي الذي لا مالك فوقه يأمره ويزجره ولا حكيم مثله فما أجهله بحقائق الأمور ما أجهله وقد قيل رمتني بدائها وانسلت

فإن قالوا فقد أفسدتم مذهب القائلين بأن الإدارة نفس الأمر وعنيتم أن الحكيم يصح منه أن يأمر بما لا يريد وصورتها الصورة المذكورة في العيد مع سيده إذا أمره وهو لا يريد امتثال أمره ويتبين منها وجود الأمر مع عدم الإرادة وهذا هو حقيقة الغير من أن يوجد أحدهما مع عدم الآخر فإذا ثبت هذا وقلتم إن الله تعالى أمر الكفار أن يؤمنوا ولم يرد إيمانهم فما كان منهم إيمان ولا وجد وقلتم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فقد وقع كفرهم ووجد فإذن قد أراده الله فكيف يصبح من الحكيم العدل أن يريد أمر فإذا كان ما أرد عاقب المكتسب له عليه وهذا مالا يصح وجوده من الحكيم ولا يتصور البتة ولو فعله لخرج عن الحكمة وصار سفيها جائرا وليست هذه صفة العاقل منا فكيف الاله الحيكم العدل
وكذلك إذا اراد العاقل منا من عبده أمرا ففعله العبد فعاقبه السيد على وجود مراده كان ظالما معرضا للوم كافة العقلاء
قلنا هذا ذهول منكم وغفلة عما أوردناه ونورد من ذلك أنا قدمنا أن الله سبحانه لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ولا يتصور الظلم من الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما ومن ذلك أيضا أنه قد ثبت أن الإرادة غير الأمر ونحن لا نقول أن الله تعالى أمر الكفار بالكفر وعاقبهم على ما أمرهم به بل نقول أن الله تعالى يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر فلم يبق إلا استبعادكم من كون الحكيم يعاقب على ما أراد وقلتم أنه لا يتصور ولا يفعله الحكيم أبدا قلنا نحن نفرض صورتين ذكرهما علماؤنا رضي الله عنهم في جواز وقوع العقوبة من الحكيم العدل على ما أراده ولا يعد سفيها ولا خارجا عن الحكمة ولا يلومه العقلاء على العقوبة
أما الصورة الأولى فأن يكون للعاقل منا عبيد وفيهم عبد مخالف لسيده وسالكا للطرائق الذميمة وهو يمقته ويبغضه ويتمنى أن لو أراحه الله منه بموت أو

بمن يقتله وعلم الناس ذلك فيه فقتل ذلك الغلام بعض مماليكه فبلغه قتله ففرح به وسر ثم وجد قاتله فأنكر عليه قتله الغلام وقال له كيف تقتل غلامي بغير إذني فقال سيدي والله ما قتلته إلا لأريحك منه لأنك تمقته وعلمت مرادك فيه فأرحت الدنيا منه وأرحتك من سوء فعله فأمر بقتله وهذه عقوبة قد وجدت من عاقل حكيم عادل وهي عقوبة على ماأراده وتمناه ومع ذلك لم يخرج من حزب العقلاء ولا عن الحكمة ولايلومه أحد بل لو تركه لعرض نفسه لخطر المطالبة من إلهه ومالكه على ترك القصاص فإنه الذي امر بقتل النفس بالنفس فكيف بمالك لا آمر فوقه يأمره ويزجره ويحد له الحدود وهويتصرف في ملكه تصرفا كليا ولا يخاف مطالبة ولا عقوبة ولالوما ولا حجرا وهو لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون والصورة الثانية في ملكين يملكان الدنيا كل منها في مملكته فخرج
أحدهما على الآخر وجهز العساكر والجيوش إلى بلاد الملك الآخر فدهمه بغتة ووصل إلى أطراف بلاده والملك غافل عنه فلما صح عنده خبره نهض إليه ولم تكن عساكره وجيوشه مجتمعة وخاف أن يصل إليه فتوجه مع من حضره من جنده فشاهد جيشا عرمرما وعساكر عظيمة هائلة لا يطيق ملاقاته فلاطفه ولاينه بكل كلام رقيق وهاداه وجامله حتى استحى منه ورجع عن بلاده وقد هادنه سنة لا يؤذيه ولايغير على بلاده فلما انصرف عنه عائدا إلى بلاده ومملكته رجعت عساكر الملك التي كانت غائبة وهرعت إليه من كل فج عميق فرأى ما أعجبه فتمنى أن لو نقض الهدنة بأمر يحدث ليجد السبيل إلى نقض العهد وفسخ الهدنة التي بينه وبينه فاتفق أن غلاما لهذا الملك خالف عليه ونافق وخرج عليه ثائرا فسمع به ذلك الملك الآخر فجهز إليه جيشا يتنصح بقتله إلى الملك فلقيه الجيش فقتل الغلام فوصل الخبر إلى الملك بقتل غلامه الثائر عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم جيش ذلك الجيش العظيم إلى الملك وتقدمت رسائله إليه تقول له فسخت ما بيني وبينك بقتل غلامي فبعث إليه ما قتلته إلا في طاعتك فقال له يا هذا ما أمرتك بقتله ولابد من لقائك واستبيح بلادك وقتلك فلم يشعر ذلك الملك حتى وطيء بلاده

وقتله وملك بلاده ووجد السبيل إلى ذلك كله بقتل الغلام الذي كان يتمنى قتله قبلغ مناه ونال ما تمناه ومع ذلك حسن عند العقلاء النهوض إليه وقتله ولم يلم عليه ولاذم في فعله بل أتته الوفود من الخلائق يهنونه بالظفر بذلك الملك وببلاده ولم يخرج عن الحكمة ولا عد سفيها في فعله ولتعرض فعله الآن على عقلك وعلى عقل جميع العقلاء فافهم هذه الأمثلة تتصور عندك كيفية إجراء أقدار الله في خلقه وينقطع عنك شغب الخالين عن العلم فليس من جهل كمن علم وقال الله تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال الله تعالى لنبيه عليه السلام وقل رب زدني علما وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء
بل ما خلق الله السموات والأرضين وما بينهما إلا لأجل العلم كما قال تعالى الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير لا على رأي القدرية الذين يقولون إن الله تعالى إنما هو قادر على أفعاله دون أفعال خلقه سددك الله وأرشدك

بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الشيخ الفقيه الإمام الأوحد ضياء الدين أبو الحسن شيث بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة غفر الله له وعفا عنه ثم أني لما عرضت ما سنح به الخاطر في مسائل القدر وخلق أفعال البشر علىالأمير الأجل المكرم الأمين نجم الدين أعلا الله في الفردوس الأعلى درجته وأسبغ عليه في الدنيا والآخرة نعمته وافق مقصوده ومرغوبه وأشار إلى أن اتبعه بانتزاع الآيات الكتابية الواردة في هذا الفن على ترتيب سور القرآن سورة سورة فلاح لي من علو همته وتوقد قريحته أنه لا يرضى بالاقتصار عن الاختصار دون التوغل في الغايات والتطلع إلى اقصى النهايات لغرض له لم أطلع عليه ولم يوم إليه فسارعت إلى تلقي أمره بالسمع والطاعة وبذلت في تلبية دعوته جهد الاستطاعة وابتدأت بأم القرآن تيمنا بها لأنها المقصود تلاوتها في كل فرض ونفل وفرع وأصل وهي بعد

فاتحة الكتاب
فأقول ومنه العون والتوفيق والإلهام والتسديد قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم فاعلم أن وجه الدليل على القدرية والمعتزلة والامامية من هذه الآية أن إرادة الانسان كافية في صدور أفعاله منه كانت طاعة أو معصية لأن الانسان عندهم خالق لأفعاله فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه وقد أكذبهم اللع تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك

تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وهم اليهود ولا الضالين وهم النصارى
فكما سألوه أن يهديهم سألوه أن لا يضلهم وكذلك يدعون فيقولون ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا فتأمل راشدا هذه النكتة فهي هادمة لأصولهم هاتكة لأستارهم

سورةالبقرة من ذلك قوله تعالى
إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ثم بين سبحانه المانع لهم من الإيمان فقال تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فاعتبروا أيها السامعون وتعجبوا أيها المتفكرون من عقول القدرية
فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا
وقد طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل علىأبصارهم غشاوة فمتى يهتدون أو من يهديهم من بعد الله إذ أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم ومن يضلل الله فما له من هاد

وفيها قوله تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وفيها قوله وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل علىالملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله أي بقضاء الله فليت شعري ما يقول القدري في نسبة ذلك كله إلى الله الواحد القهار
وفيها قوله تعالى وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
تأمل ما دعا به هذان النبيان الكريمان على الله تعالى حيث تبرآ من الحول والقوة وسألا ربهما أن يجعلهما مسلمين والقدرية تزعم أن كل واحد منهم قادر أن يجعل نفسه مسلما مؤمنا إن شاء ذلك واختاره ولا يفتقر في هذا الفعل إلى ربه وكذلك سألا لذريتهما من بعدهما هذا السؤال وسألا التوبةأيذا وعندهم أن العبد إن شاء تاب وإن شاء لم يتب وكأنهم يكفرون بقوله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا

وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
وبقوله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلىربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله
وقوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

سورة آل عمران ليس فيها شيء مما قدمنا عثرت عليه سوى الآية المذكورة في
أم القرآن والله أعلم
سورة النساء فمما ورد فيها
وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك
فأنكر عليهم قولهم ورد عليهم فقال لنبيه عليه السلام قل كل من عند الله
فنفى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أضافوه إليه من السيئة وقال قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يعني القرآن كما قال الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها أوردنا هذه الآية لأن

السنة والقدرية يتجاذبونها كل يدعي أنها حجة له على ما ذهب إليه ووجه إحتجاجهم بها أن القدرية يقلون أن الحسنة ها هنا هي الطاعة والسيئة هي المعصية قالوا وقد نسب المعصية في قوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك إلى الانسان دون الله تعالى فهذا وجه تعلقهم بها
ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى قل كل من عند الله قالوا فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال والعوام من الفريقين جميعا لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية ههنا وليست كذلك الله أعلم والقدرية إن قالوا ما أصابك من حسنة أي من طاعة فمن الله ليس هذا إعتقادهم لأن إعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء
وايضا لو كان لهم فيها حجة لكان يقول ما أصبت من حسنة وماأصبت من سيئة لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ولا يضافان إليه إلا بفعله لهما ولا يفعل غيره إنما الحسنة والسيئة في هذه الآية ما ذكره المفسرون للآية قالوا الحسنة ها هنا الخصب والسيئة الجدب وقيل الحسنة السلامة والأمن والسيئة الأمراض والخوف وقيل الحسنة الغنى والسيئة الفقر وقيل الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر والسيئة البلية والشدة وهي القتل والهزيمة يوم أحد
قوله يقولوا هذه من عندك يا محمد أي بسوء تدبيرك وهو قول ابن عباس رضي الله عنه

وقيل من عندك أي بشؤمك الذي لحقنا بك
قالوه على جهة التطير قال الله تعالى قل كل من عند الله أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله أي بقضاء الله وقدره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله
ثم قال ما أصابك من حسنة فمن الله أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه والخطاب للنبي عليه السلام والمراد به أمته كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وقد قيل الخطاب للانسان والمراد به الجنس كما قال والعصر إن الإنسان لفي خسر أي إن الناس لفي خسر ألا تراه استثنى منهم فقال إلا الذين آمنوا ولا يستثني إلا من جملة أو جماعة وعلى قول من قال الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر والسيئة ما أصابهم يوم أحد
فكأنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحموا

ظهره ولا يبرحوا من مكانهم فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم ولم يكن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرماة أحد إلا صاحب الراية حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم فوقف حتى استشهد مكانه وقتل يومئذ من المسلمين سبعون واستشهد حمزة عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقتل من المشركين يوم بدر سبعون وأسر سبعون فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة يعني يوم أحد قد اصبتم مثليها يعني يوم بدر قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم
ولا يجوز أن تكون الحسنة ها هنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية إذ لو كان كما قالوا لقال ما أصبت كما قدمنا
إذ هو عنه الفعل عندهم والكسب عندنا وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلايجزى إلا مثلها
وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في الآية التي في الأعراف وهي قوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب سنة بعد سنة حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل أتباعنا

لك وطاعتنا إياك على ما كانت العرب عليه من زجر الطير تتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من جهة اليمين فرد الله عليهم بقوله تعالى ألا إنما طائرهم عند الله يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق
فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه إلى النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله
كما قال ألا إنما طائرهم عند الله وكما قال وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله أي بقضاء الله وقدره وعلمه أيضا وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته كما قال تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة
وقال وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال وشر الشرور إبليس اللعين والله تعالى خلقه وقد سلطه على خلقه وتفضل سبحانه على من شاء من خلقه بالعصمة والهداية والتوفيق والرشاد

ولقد ورد في الأخبار أن قدريا حضر عند ابن عباس رضي الله عنه وهو
يتكلم في تفسير القرآن والناس يسألونه فقال يا ابن عباس لي مولى هو قادر على هدايتي وعصمتي وتوفيقي وإرشادي فمنعني الهداية والعصمة والتوفيق والارشاد أليس قد ظلمني وأساء إلي فتفطن له ابن عباس فقال موافقا لجعفر الصادق رضي الله عنهما في جوابه للقدري الذي قال له تعالى الله أن يخلق الفحشاء الخبر الذي قدمناه في صدر الكتاب يا هذا إن منعك مولاك الهداية والعصمة والتوفيق والارشاد وهي حق وجب لك فقد ظلم وأساء وإن كانت الهداية والارشاد والعصمة والتوفيق حقا له فإنه يختص برحمته من يشاء وفيها أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ولا أحد يضل نفسه ولا يضله غيره من المخلوقين وإنما المضل الهادي هو الله وحده دون جميع خلقه من الانس والجن والملائكة والشياطين وسائر الخلق أجمعين ومن نسب إليه منهم ضلال فإنما نسب إليه مجازا لا حقيقة إذ كان هو السبب الظاهر للخلق كما قال تعالى
فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري
وفيها ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء

سورة المائدة من ذلك قوله تعالى
ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا جاء في التفسير إضلاله أولئك الذين لم يرد الله

أن يطهر قلوبهم جاء في التفسير يطهر قلوبهم أي بالاسلام لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
وفيها ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

سورة الأنعام فيها آيات بينات دون السور التي تذكر والمذكورات قبل من ذلك
قوله تعالى وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت ان تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين جاء في التفسير ولو شاء الله لخلقهم مؤمنين ردا على القدرية ثم قال إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله جاء في التفسير إنما يستجيب لدعائك يا محمد الذين فتح الله اسماعهم إلى سماع الحق فيقبلون ما يسمعونه وهم المؤمنون والموتى

يبعثهم الله أي والكفار الذين هم في عدد الموتى لأنهم لا يسمعون ولا يعقلون لإعراضهم عن سماع الحق قلت قال الله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ثم قال ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون لأنه سبحانه خلقهم كافرين وكتب عليهم أنهم لا يؤمنون
وقال الحسن ومجاهد في قوله تعالى والموتى يبعثهم الله المعنى أن الكفار مثل الموتى والله يوفق من يشاء إلى الإيمان بالله ورسوله فيكون ذلك بعثهم من موتهم
قلت وهذا كما قال الله تعالى يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم شبه الكفر بالموت والإيمان بالحياة كما شبه الكافر بالظلمات والإيمان بالنور في قوله تعالى لتخرج الناس من الظلمات إلى النور
وكما قال تعالى او من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها والخارج منها هو الذي بعثه الله من موته بالكفر إلى حياته بالإيمان فافهم ذلك كله فهو بين كما ترى وفيها قوله والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشاء

الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وهذا كما تقدم شرحه في اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة وكما تقدم في الآية التي قبل هذه من ذكر الظلمات وذكر من أصمه الله عن سماع الخير فاعلمه
وفيها قوله تعالى اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون
وفي قوله زينا لكل أمة عملهم كفاية وبيان
ثم قال وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم أية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم انها إذا جاءت لا يؤمنون وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
ثم قال ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم

كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون
ثم قال وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون
وفيها فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا إحتججت على إمامي بهذه الآية فقال من هو الذي يشرح صدره للإسلام ومن هو الذي يجعل صدره ضيقا حرجا قلت هو الله تعالى ألا تراه يقول في أول الآية فمن يرد الله فقال ليس الأمر كما قلت فقلت له فمن الذي يفعل ذلك قال رايت الضمير الذي في يشرح وفي يجعل هو يعود على من وهو الذي يفعل الشرح والضيق ولا يعود الضمير على الله كما زعمت فقلت له فهب أنك أعدت الضمير على من دون الله حتى يصح مذهبك فما تصنع في قوله تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ليس ها هنا إسم مع الله يمكنك أن تموه به على الغر الجهول والغافل الذهول فبهت ولم يحر جوابا ثم قلت له أجب عما ألزمتك أو تب إلى الله من هذا الإعتقاد الفاسد فقال حتى أسئل عنه ومرت الليالي والأيام ووجدته مرارا ولم يجب بشيء وهذه عادة من ينزه الله في كتابه

فقال تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأوليه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
فقد اوردنا له آية لا تتشابه عليه وليس فيها ضمير ولا ضميران يلتبس احدهما بالآخر وتتجاذب المتنازعان طرفيهما ولا يشرك الرب في تسمية بالله أحد من خلقه كما قال تعالى
هل تعلم له سميا
وفيها سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
ثم لم يقنع جل وعلا بهذا الإقرار منهم حيث جعلوا إشراكهم بالله منوطا بمشيئة الله سبحانه حتى أقام بذلك الحجة عليهم وعلى القدرية معهم فقال تعالى عقيب ذلك قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

سورة الأعراف فيها قوله تعالى حكاية عن إبليس
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم فإبليس احسن إعتقادا من القدرية حيث نسب إغواءه إلى بارئه وخالقه دون نفسه والقدرية تقول إن ضللت فأنا الذي أضل نفسي وأنا خالق لفعلي وإغوائي وضلالي وقد أبا ذلك مقدمهم في الضلال والاضلال إبليس اللعين ونسب الاغواء إلى من خلقه فيه وزينه له حتى غوى واغوى وضل وأضل وقد أخبر الله عن اللعين الرجيم بأن ليس له من الأمر شيء حيث قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر فالتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون
ثم قال إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله
وكما قال تعالى في سورة البقرة ما ذكرناه عن هاروت وماروت إذ قال سبحانه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله
وفيها قوله تعالى في أهل الجنة ونزعنا ما في صدورهم من غل تجزي من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

وفيها قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال لو كنا كاريهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وقد تقدم ذكرها في صدر الكتاب
وفي هذه الآية نكتة تهدم أصل المبتدعة والامامية وتحز غلاصم المعتزلة والقدرية وهي أنهم يقولون أن إرادة الله نفس أمره وأمره نفس إرادته وفرعوا عليه أنه لا يأمر إلا ما يشاء ويريد ولا يريد من خلقه إلا ما أمرهم به وشاءه لهم واحتجوا بقوله إن الله لا يأمر بالفحشاء فلا يريدها فخرج من ذلك كله أن الله لم يرد معصية العصاة ولا كفر الكفار هذه قاعدة مذهبهم وقد اكذبهم الله تعالى على ألسنة أنبيائه عامة وعلى لسان شعيب في هذه الآية خاصة في قوله تعالى عنهم حيث قال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا إلى قوله وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وملتهم الكفر وقد علقه بمشيئته سبحانه كما ترى
ومنها قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من

تشاء أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين
وفيها قوله تعالى من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون وقد تقدمت هذه الآية في صدر الكتاب
وفيها من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانم يعمهون

سورة الأنفال قوله تعالى
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم
هذه الآية وإن أحتج بها بعض الأصحاب على خلق أفعال العباد فقد شرحها الفقيه أبو القاسم في كتاب الاملاء وقال في آخر كلامه إنها واردة في معاتبة المسلمين وأعلمهم أنه سبحانه الذي أمدهم بالملائكة فقتل الله المشركين بهم وأوصلوا رمي النبي بالحصباء إلى أعينهم فهزمهم الله ورماهم بالملائكة على نحو قوله تعالى قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم

وكما قال الشاعر ... رمى بك الله برجيها فهدمها ... ولو رمى بك غير الله لم يصب ...
وفيها يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه أمرهم بالاستجابة لله وللرسول وأعلمهم أنه يحول بين المرء وقلبه فمتى يستجيب إذن لافي التنزيل اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قيل في التوراة وسأقسي قلبه فلا يؤمن

سورة التوبة فيها قوله تعالى
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين
وفيها يقول في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فذمهم الله حيث تخلفوا عنه في الغزاة
وعند القدرية انهم مستحقون للذم لأنهم قعدوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن نصرته فما الحيلة في قوم خلق الله فيهم التثبيط والقعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجب علىقول هذا عند القدرية أن يعذروهم أيضا لأن الله خلق فيهم القعود وزينه لهم حيث قال تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ولو حمل الأمر في قوله

اقعدوا على ظاهره لكانوا مأمورين بالقعود وكانوا طائعين وممدوحين بامتثال الأمر ولكن ليس أمرهم سبحانه بالقعود وإنما خلق فيهم القعود وكذلك قوله كره الله انبعاثهم وقوله فثبطهم هو الفاعل لذلك كله والله خلقكم وما تعملون
والقدرية ما عرفوا الله حق معرفته ولا قدروا الله حق قدره فبعدا لهم وسحقا فما أجهلهم بصفات الله خالقهم وما أنكرهم لأفعال ربهم ومالكهم فسبحان الله عما يصفون وجل جلاله عما يأفكون

سورة يونس عليه السلام قوله تعالى
إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل اءية حتى يروا العذاب الأليم
وقالت القدرية من اراد أن يؤمن آمن لأن الحول والقوة والاختيار بيده
وقال ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ولم يبق بعد هذا للقدرية كلام وهذا حديثه مع سيد الأولين والآخرين لحرصه على إيمانهم أخبره جل جلاله أن ما هذا إليك ولا إليهم إنما هو معقود بمشيئة الله تعالى ومنوط بإرادته كما قال له في موضع آخر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
وكما قال له لما عظم عليه إعراضهم عنه وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء

فتأتيهم بئاية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين
وفيها يقول سبحانه وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون
والقدرية ترد على الله قوله هذ وتقول ولو أراد أن يؤمن لآمن والخير بيده دون بارئه فسبحان الله عما يقولون وتعالى علوا كبيرا

سورة هود عليه السلام يقول فيها في قصة نوح عليه السلام
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما ياتيكم به الله إن شاء وما انتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون
وفيها يقول ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
تأمل هذه الآية والتفت إلى قسمه سبحانه لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فليت شعري لو اتفق الناس وتراضوا على أن يؤمنوا كما زعم

القدرية والمعتزلة أن الإنسان مالك لاختياره فإن شاء آمن وإن شاء كفر وإن شاء أطاع وإن شاء عصى فما يفعلون بقسم الله سبحانه أكان الله يحنث في يمينه عندهم أو كان يوصف بالكذب في خبره على مقتضى مذهبهم وهو مستحيل في حقه جل ذلك الجلال أن توزن صفاته بميزان أهل القدر والاعتزال أو يضطروا إلى قول أهل الحق فيقولون لا بد أن يصدق خبره ويبر قسمه فيؤمن ويطيع من أراد إيمانه وطاعته ويكفر ويعصي من أراد كفره ومعصيته فتتم إذن كلمته بالثواب والعقاب ويملأ الجنة ممن سبقت له من الله الحسنى وجهنم ممن حقت عليه كلمة العذاب ويضل الله من هو مسرف مرتاب

سورة يوسف عليه السلام قوله تعالى
وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم
وقال فيها كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
فيا لله ويا للعجب أيعجز الله تعالى أن يصرف الزنا عن كل من هم به كما صرفه عن يوسف أم هو قادر على ذلك فسوءة لهم ما أجهلهم بصفات الله أرادوا أن يصفوا ربهم بالعدل فوصفوه بالعجز
وقال في نقيض ذلك وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ولما دعاه الملك وأرسل إليه رسولا ليخرجه من السجن فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن

أيديهن إن ربي بكيدهن عليم
جاء في القصة أن جبريل عليه السلام قال له يا يوسف ما لك لم تجب لما دعاك الملك لتخرج من السجن قال يوسف عليه السلام أردت أن أبرأ عند الملك قبل لقائه وهو مضمون قوله تعالى ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب فقال له جبريل عليه السلام يا يوسف ولا جبر هممت حتى عصمك الله فعندها قال وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
ومثله في القرآن كثير قال الله تعالى ولا يزالون مختلفين إلامن رحم ربك ولذلك خلقهم

سورة الرعد فيها قوله تعالى
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم
ثم قال قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار القدرية تزعم في إعتقادها أن لله شركاء من الخلق كثيرا خلقوا كخلقه بيان ذلك أنهم يعتقدون أن

أفعال العباد خلق لهم انفردوا بها دون بارىء النسم وموجد الخلق بعد العدم ويزعمون أن الخالقين كثير ويحتجون بقوله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين
ويقولون لولا أن ثم خالقين كثيرا وأن الله أحسنهم خلقا لما قال فتبارك الله أحسن الخالقين وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية بقوله تعالى أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه وذلك أن حركة الارتعاش في يد العبد هم موافقون لنا أنها خلق الله تعالى دون العبد لأنها واقعة بقدرة الله وإرادته ولا قدرة للعبد عليها ولا إرادة فإذا أراد العبد أن يحرك يده باختياره وإرادته حركة تشبه الارتعاش قالوا هذه خلق للعبد لأنها وقعت بقدرته وإرادته فقد جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق علهم فأكذبهم الله تعالى فقال قل الله خالق كل شيء بمعنى هو المنفرد بخلق جميع الأجسام والأعراض كلها وخالق أفعال خلقه كما قال والله خلقكم وماتعملون ثم قال وهو الواحد القهار واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في أفعاله قهار لجميع خلقه داخلون تحت قدرته والسماوات مطويات بيمينه ومقهورون في قبضته وتحت سلطانه قهر اقتدار لا إله إلا هو الواحد القهار
واعلم أن هؤلاء الذين لم يؤتوا إلا من قلة الفهم وعمي البصائر ظنوا أن الخلق لايكون إلابمعنى الإختراع والايجاد والابتداع تعالى الله أن يكون معه شريك في ملكه وسلطانه وجبروته أويكون أحد خالقا لشيء سواه وإنما الخلق في هذه الآية

بمعنى التقدير ولا يكون التقدير إلا في الأجسام وأول الآية يدل عليه حيث قال ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما والتقدير جار في هذا كله كما قال هذا المعنى مفسرا في قوله تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم
ثم قال فقدرنا فنعم القادرون على قراءة نافع والكسائي بالتشديد فاعلم
ثم قال ثم أنشأناه خلقاء اخر فتبارك الله أحسن الخالقين أي المقدرين وليس كل صانع إذ قدر في صنعته تقديرا يقع ذلك على وفق تقديره وإرادته يتبين لك ذلك من تقدير كل صانع في صنعته وإنما يأتي على وفق تقدير الله العظيم الخبير وهذا المعنى معروف في اللغة
قال الشاعر ... ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري ... وقال آخر ...
ولا ثبط بأيدي الخالقين ولا ... ايدي الخوالق إلا جيد الأدم

وفي كلام الحجاج بن يوسف على المنبر يهدد أهل العراق حين قدم أميرا عليهم في خطبته المشهورة التي يقول فيها إني والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت أي لا أقدر إلا قطعت
وفيا يقول الله سبحانه أفلم يايئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
وفيها يقول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد

سورة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى
الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم
هذه آيات بينات في الرد على القدرية من تأملها علم مضمونها قوله تعالى لتخرج الناس من الظلمات إلى النور أي من ظلمات الكفر إلى نور

الايمان وذلك بإذن ربهم أي بتوفيقه وهدايته وكما قال تعالى وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله أي بتوفيق الله وقيل بقضائه فلا تجهد نفسك يا محمد في طلب هدايتهم ثم قال من بعد قل انظروا ماذاا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون أي عن قوم سبق لهم من الله الشقاء وانظروا إلى قوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انظر إلى أسباب الهداية كيف مهدها لهم إرسل الرسل وانزال الكتب وكونها بلسان المرسل إليهم وكونه سبحانه قصد بذلك التبيين لهم ثم بعد ذلك كله اضل من شاء وهدى من شاء
كما قال تعالى فيما أوردناه متقدما والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء
وكما قال تعالى يا أيها الذين أمنو استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم
ثم قال واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فاعلم
قوله تعالى وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاؤا للذين استكبروا

إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص
وقد تقدم القول في هذه الآية فانظر إلى أهل النار كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار
كما قالوا في موضع آخر ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون وفي موضع آخر كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلآ في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
قال الله تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير
فاعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا
قال الله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم

ومن ذلك قوله تعالى وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتم
ثم قال وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم وصدق إبليس في هذا القول كما قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فمن عصمه الله من الشيطان لم يجعل له عليهم سلطانا ومن خلق الله فيه الغواية تبعه كما قال إلا من اتبعك من الغاوين
وفيها يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء
وفيها وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني ان نعبد الأصنام
كما قدمنا قوله في البقرة حيث قال ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية
ثم قال بعد ذلك رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي

فانظر إلى هذا النبي المكرم على الله وهو خليله دون خلقه كيف يتضرع إلى مولاه فمرة يقول واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ومرة يقول واجنبني وبني أن نعبد الأصنام
ومرة يقول رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي على نحو قوله فيما قدمناه اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وفي هذه السورة يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء أي يضل من يشاء فلا يوفقه ويهدي من يشاء فيوفقه وقوله ويضل الله الظالمين أي لا يوفقهم في الحياة الدنيا إلى الإيمان هكذا جاء في تفسير هذه الآية

سورة الحجر قوله سبحانه حكاية عن إبليس
قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين قال لأغوينهن كما أغويتني فاعلم
سورة النحل قوله تعالى
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر
ولو شاء لهداكم أجمعين قال ابن عباس رضي الله عنه وعلى الله بيان الهدى من الضلال ولو شاء لهداكم إلى الهدى أجميعن وهو الصراط المستقيم وفيها قوله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل وما لهم من ناصرين
انظر إلى قوله تعالى إن تحرص على هداهم والنبي صلى الله عليه و سلم أفصح من نطق بالضاد وهو سيد الأولين والآخرين وأبلغ الواعظين وصاحب المعجزات والآيات والبراهين واشتد حرصه على إيمان من لم يؤمن من قومه وذهبت نفسه عليهم حسرات والله تعالى يقول له فإن الله لا يهدي من يضل وأكده بقوله وما لهم من ناصرين كما قال ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وقوله أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
وفي هذه السورة ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من

يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون

سورة بني اسرائيل فيها قوله تعالى
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه وفيها وقوله تعالى فسجدوا إلا إبليس قال ءأسجد لمن خلقت طينا إلى قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
كما قال تعالى فيما أوردناه في قصة يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إلهين وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم فلو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض من حملة العرش وجميع المقربين والملائكة والناس اجمعين والأنبياء والرسل عليهم السلام أن يهدوا من أضل الله فلا يستطيعون كما أنهم لو اجتمعوا على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك فمنه الخير والشر والنفع والضر ومنه الإيمان والكفر ومنه التوفيق والخذلان لا إله إلا هو الواحد القهار وفيها وإن كادوا يعني الكفار ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك
لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد

كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ومن تدبر هذه الآيات وتفكر فيها عرف سر القدر إن شاء الله فلا أجل من المصطفى ولا أعلى ولا أسنى ونرى هذه السياسة وهذا الناموس وهذه الحكمة وهذا الجلال وهذا السلطان وهذا الجبروت وهذا الملك وهذا الملكوت أظهر سر قدره في خير خلقه فما تقول القدرية في جهال الخلق وعوامهم كيف يحكمون عليهم أنهم مالكون لأنفسهم وخالقون لأفعالهم ومستغنون في هدايتهم عن مالكهم وبارئهم يفعلون ما يشاءون دون مشيئة إلههم فيخالفون أهل الحق أجمعين ويشاءون وإن لم يشأ الله رب العالمين خلافا لآيات الكتاب المبين حيث نطق بقوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
وقوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما

سورة الكهف قوله تعالى
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
انظر كيف خلق لهم الزينة في الدنيا ليختبرهم ويصيدهم بها وبلذاتها وشهواتها وزبرجها وجبرتها حتى لقد تفكر في أمرها وحبائلها بعض العارفين فبكى وقال كيف الحيلة وقد نصب لنا الشرك ليصيدنا فالله المستعان على ما أبلانا وأنشد الناظر في هذا المعنى وأحسن فيما تغنى

نصبوا اللحم للبزاة على ذروتي عدن ... ثم لاموا البزاة أن جعلوا فيهم الرسن ... أبرزوا وجهك المليح ثم لاموا من افتتن ... لو أرادوا صلاحنا نقبوا وجهك الحسن ...
وأنشد آخر ... هي الدنيا إذا اكتملت وطاب نعيمها قتلت ... فلا تركن لزهرتها فباللذات قد شغلت ... وكن منها على حذر وخف منها إذا اعتدلت ...
وتفكر الآخر فيما سبق به القضاء والقدر وبكى على ما حكم به المولى وسطر وقال كيف الحيلة في إرضاء من غضب في الأزل من غير ما سبق ها هنا تسكب العبرات وتذوب بالمهج بالحسرات وتجري الدموع الجاريات على ما فات وسبقت به السابقات وفيها قوله تعالى من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وفيها ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا
وهذا بين الوضوح لمن أراد الرشاد ومن يضلل الله فما له من هاد

سورة الأنبياء عليهم السلام فيها قوله تعالى
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين
فطره الله على الرشد والاسترشاد حتى ساقه الدليل إلى معرفة فاطر السماوات وخالق العباد حتى لقد تعرض سائل لبعض السادة من العارفين في مجلس معقود ومشهد مشهود فقال له كيف يقول الله تعالى
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إبراهيم عليه السلام رأى كوكبا فقال هذا ربي ثم تبين له أنه ليس بإله فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالين فتبين له أنه ليس بإله فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريىء مما تشركون
وهذا ما أشرنا إليه من الرشد الذي أتاه الله من قبل أي في بدء أمره فأجابه العارف بجواب لم يصل إليه فهمه فقال السائل أعد علي الجواب فأعاد عليه ولكن بغير تلك العبارة فلم يفهم كلامه فقال له بعبارة أخرى فلم يبلغه فهمه فقال له العارف ما الذي قرأت من العلوم حتى أخاطبك على قدر فهمك فقد قال الحكيم كل لكل أحد بمكيال علمه وزن له بميزان فهمه وإلا وقع التناحر والانكار لتفاوت المعيار فقال له السائل لم اقرأ علما ولا حصلت أدبا فقال فما تحسن من الصنائع والتجارات قال ولا حاولت قط صناعة ولا اتخذت تجارة فقال له يا هذا أتحسن نوعا من اللعب فقال له أنا أحسن لعب الشطرنج فقال

له باسم الله فاسمع إذن واصغ إلى مثالي إعلم يا هذا أن الله سبحانه بسط لابراهيم خليله رقعة القدرة وصف عليها ميادين الحكمة فبرز البيدق وهو كوكب سماء الدست فقال له الخليل يا هذا كيف سيرك وكيف أخذك فقال أسير معتدلا وأخذ معوجا فقال لا أحب الآفلين فبرز الفرزان وهو قمر سماه الدست فقال له الخليل يا هذا كيف سيرك وكيف أخذك فقال أسير معوجا وأخذ معوجا فقال عليه السلام لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فبرزت الشاة وهي شمس سماء الدست فقال الخليل عليه السلام يا هذه كيف سيرك وكيف أخذك فقالت المثلي يقال له هذا أنا أسير كيف شئت وأخذ كيف شئت فقال الخليل عليه السلام هذا ربي هذا أكبر ثم قال يا هذه أتعترض لك الآفات قالت نعم أحضر في بيت وأضرب شاه مات فعند ذلك قال الخليل وجهت وجهي للذي فطر السماوات فهذا النظر الصحيح أدركه الخليل برشده الذي آتاه الله من قبل وقصه ووصفه الرب بقوله وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه

سورة الحج فيها قوله تعالى
وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد
وعلق وجود الهداية بإرادته سبحانه فهو المهدي لا هادي سواه
سورة النور فيها قوله تعالى
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما
زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم

الغوث الغوث من قوم يعتقدون أن الله جل جلاله يكذب في التبجح في هذه الآية والله المستعان عليهم وإليه مرجعهم ومآلهم وعليه عقابهم ونكالهم
وفيها الله نور السماوات والأرض أي هادي أهل السماوات والأرض ثم ضرب المثال لنوره جل ذلك الجلال فقال مثل نوره كمشكواة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس لما مثل إيمان المؤمنين وهدايته بالنور كذلك مثل أعمال الكفار بالظلمات فقال والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوافه حسابه والله سريع الحساب
ثم قال أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

مثل الله سبحانه في كتابه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة ومثل الإيمان بالحياة والكفر بالموت كما تقدم شرحه

سورة القصص قوله تعالى
وجعلنهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وقال في نقيض هؤلاء الأئمة وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين
هو جل وعلا جعل هؤلاء بهذه الصفات وهؤلاء بنقيض تلك الصفات ليتحقق أنه رب الأرباب وخالق الأرضين والسماوات وانظر إلى هذه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية قال وجعلناهم إئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعاناهم في هذه الدنيا لعنة واللعنة الطرد والابعاد عن مقدمات السعادة وعن أسباب السلامة ومع ذلك فقد علم سبحانه وعلمه قديم لا يتبدل ولا يتغير إن فرعون وملأه وأعوانه وأله لا يؤمنون لأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ولوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ومع ذلك كله أرسل الله إلى فرعون موسى وأخاه هارون وقال لهما اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى

وقد شرحناه فيما تقدم فانظر إلى هذا الجلال الأعظم والسلطان الأهيب منه المكر والاستدراج والهداية والاضلال والكفر والإيمان والطاعة والعصيان وبهذه الأوصاف يتحقق أنه الاله الموجود والرب المعبود والمالك المقصود لا يسئل عما يفعل وهم يسألون فمن قاس الاله على المألوه والرب على المربوب والخالق على المخلوق والمالك على المملوك والآمر على المأمور والناهي على المنهي والمكلف على المكلف فهو تائه في بحر الضلال وخارج عن حزب العقلاء داخل في غمار الجهال الأغبياء وعمي عن إدراك الصواب ذاهل عن صفات ذي الجلال قاصر عن درك العبودية في عقله المختصر وعلمه المحتقر أن يدرك سر الإله في خلقه ويقيس أحكامه سبحانه على مقتضى عقله وهل هو في ضرب المثال إلا بمنزلة الطفل الصغير الذي ينكر فعل الكبير العاقل المميز العالم الخبير العارف بالأمور الدنيوية والأخروية الذي هو في منزلة النبوة ومحل الرسالة وسياسة الخلق أجمعين وعارف بالصنائع الدقيقة والجليلة فيتسجهل هذا الصغير رأيه ويعمقه ويصوب رأي نفسه وعقله إذا أنكر العاقل عليه لعبه بالقذر واخذه للحية يجعلها في فمه أو الوزغة أو العقرب فإذا نهاه ذلك الرجل الكامل العاقل في جميع ما شرحناه استجهله واستحمقه وبكى وظن نفسه أنه أكمل عقلا منه وأفضل وأصوب رأيا وأنبل فهذه صفة القدرية والامامية مع خالقهم ولله المثل الأعلى وإنما ضرب الأمثال يقرب المعاني البعيدة إلى فهم القاصرين والمتقاعدين عن رتبة أهل البصائر والمتميزين كما ضر الله تعالى أقل الأشياء مثلا لنوره في قوله تعالى الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكواة كما قدمناه في إيمان المؤمن وما بعده في أعمال الكفار ولقد حكى عن الطائي الشاعر أنه أنشد قصيدة في مجلس بعض الخلفاء يمدحه فيها حتى جاء إلى قوله

إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم احنف في ذكاء إياس ...
فنظر الحاضرون بعضهم إلى بعض إزراء عليه وانكارا لفعله إذ شبه أمير المؤمنين بصعاليك العرب فتفطن في حال إنشاده لمقصودهم وعلم ما جال في خواطرهم فجاش صدره وقهقهت رويته فقال على البديهة هذين البيتين وهما ... لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا شرودا في الندى والياس ... لافالله قد ضرب الاقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس ...
فتفقدت القصيدة فلم يوجد هذان البيتان فيها وإنما تصفح القرآن من ساعته بعين قلبه ونظم هذين البيتين ببديهيته من تلقي لبه
وفي هذه السورة يقول الله سبحانه إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين
ذكر في التفسير أن قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنها خصت ابا طالب وعمت ولكن الله يهدي من يشاء خصت هذه عمه العباس وعمت وبعد ذلك كله يقول الله تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون

سورة الروم فيها آيتان قاصمتان لظهور القدرية الذين يعتقدون أن مع الله تعالى شركاء خلقوا كخلقه أوردهما الله سبحانه في ضرب المثل ليظهر قباحة الشركة فيما استأثر الله به لكل عاقل ولله المثل الأعلى وهما قوله تعالى
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ثم قال بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين

سورة السجدة قوله تعالى
ولو شئنا لآتيانا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين والقدرية تقول في هذه الآية وغيرها من الآيات التي علق فيها الهداية بمشيئته إن ذلك لو كان منه لكان على طريق الالجاء قالوا ونحن نقول ذلك وإن الله تعالى لو شاء أن يلجيء الكفار إلى الإيمان بالله لفعل ذلك لكن لا يحسن منه فعله لأنه ينقض الغرض المجري بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يستحق إلابما يفعله المكلف باختياره

وقالت الامامية منهم في قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم فلا يجب على الله عندنا هداية الكل إليها قالوا بل الواجب هداية المعصومين فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان
فنقول قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها أخبر سبحانه إن لو شاء لآتى كل نفس هداها الذي هو نافع لها في معادها والهدى النافع في المعاد هو الإيمان والطاعة الواقع على جهة الاختيار لا على جهة الاضطرار وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين ما فيه كفاية لا سيما في كتاب الاملاء للشيخ الفقيه العالم الأوحد أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحباب رحمة الله عليه فإنه كلام ممتع في الكلام عليهم في هذا الفن في كل آية أوردت حجة عليهم أو شبهة لهم فاطلبه تظفر بالمطلوب إن شاء الله تعالى
والذي لا بد منه في هذه اللمحة المختصرة أن يقال فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء لأن الالجاء هو الإكراه والإجبار فصار ذلك يؤدي إلى مذهب الجبرية وهو مذهب رذل عندنا وعندكم فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله إلى الإيمان والطاعة على طريقة الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع إختيارا لا جبرا قال الله تعالى لمن شاء منكم ان يستقيم وقال تعالى فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا تم عقب هاتين الآيتين بقوله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله

فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم ونفى أن يشاءوا إلا أن يشاء الله ولهذا أفرطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم معذوف بمشيئته تعالى فقالوا الخلق مجبورون في طاعتهم كلها إلتفاتا منهم إلى قوله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوف بمشيئة العباد فقالوا الخلق خالقون لأفعالهم إلتفاتا منهم إلى قوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية وخير الأمور أوساطها وذلك أن أهل الحق قالوا نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه بما كنا قدمناه في صدر الكتاب وهو أنا ندرك تفرقه بينه بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الانسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته وبين حركة الاختيار إذا حرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش ومن لا يفرق بين الحركتين حركة الاختيار وحركة الارتعاش وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده لمشاهدته وإدراك حاسته فهو معتوه في عقله ومختل في حسه وخارج من حزب العقلاء
هذا هو الحق المبين وهو طريق بين طريقي الافراط والتفريط وكلا طرفي قصد الأمور ذميم وبهذا الاعتبار إختار أهل النظر من العلماء أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله عز و جل وهو قوله سبحانه لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وظهر لك من هذا أن إكتسابات العباد خلق لله تعالى دونهم وكسب لهم دون الله تعالى لأن الكسب لا يتصور من الله تعالى لتعلقه بالقدرة الحادثة ولا يتصور الخلق من المخلوقين لعدم علمهم بتفاصيل ما يصدر منهم ولما قام من الدليل أن لا خالق إلا الله وللفقيه أبي القاسم رحمة الله عليه في هذه المسألة تصنيف ممتع بين فيه حقيقة الكسب أملاه علي فاطلبه
وقد قامت الأدلة البراهينية في الآيات الكتابية أن الله سبحانه خالق كل شيء وأن كلا من عند الله وأن الله خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن

والله خلقكم وما تعملون أي وعملكم و وزينا لكل أمة عملهم و حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم و لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان
وأمثالها في القرآن كثير وقول النبي صلى الله عليه و سلم كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله قال أتدرون ما تفسيرها لا حول عن معصية الله ولا قوة على طاعة الله إلا بالله وقوله عليه السلام إن الله خالق كل صانع وصنعته
وشبه هذه المسألة مسألة الكلام أنه حرف وصوت واختلفوا في إجراء صفة الكلام على الله تعالى فقالت الحشوية هو من صفات الله تعالى هربا من أن يجعلوه محدثا وقالت المعتزلة هو من صفات أفعاله هربا من أن يجعلوا الصوت والحرف قديما فوصفت الحشوية ربها بأنه في أزل أزله متكلم بصوت وحرف وقالت المعتزلة إن كلام محدث مخلوق فلزمهم أن يكون جل جلاله قبل أن يحدث كلامه إما ساكتا وإما أخرس وكلاهما صفتا ذم تعالى الله عن قبولهما وكونه متكلما صفة كمال وهو أحق أن يوصف بها ويلزم المعتزلة لما أحدث كلامه إما أن يكون أحدثه في ذاته فيصير محلا للحوادث وإذا كان محلا للحوادث وجب أن يكون محدثا وإم أن يكون خلقه وأحدثه لا في مل وهذا يوجب قيام الصفة بنفسها لا في محل وهو مستحيل وإما أن يكون خلق كلامه وأحدثه في غيره كما قال بعضهم خلقه في الشجرة فيلزمهم أن تكون الشجر هي المكلمة لموسى عليه السلام وأن تكون هي القائلة أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وهو باطل أيضا وإنما أعمت قلوبهم أنه وردت في كتاب الله تعالى لم يفقهوا وهي قوله تعالى

ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ولايشك عاقل أن القرآن محدث التنزيل ولم ينزل القرآن على محمد صلى الله عليه و سلم إلا نجوما شيء بعد شيء في نيف وعشرين سنة
فالله يقول لنبيه عليه السلام ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ووجدك ضالا فهدى وقوله بعد النبوة والرسالة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم حتى

نسخت بقوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآيات الواردات فيه صلى الله عليه و سلم وفي المؤمنين وفي المشركين إلى قوله وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا فلو كانت هذه الآيات نزلت عليه أولا لما قال وما أدري ما يفعل بي ولا بكم وهذه جهالة من أهل الاعتزال بصفات ذي الجلال والكمال
والحشوية أصابوا الحق من حيث قالوا أنه متكلم في أزله بكلام قديم أزلي كسائر صفاته الذاتية وأخطأوا في قولهم أن كلامه صوت وحرف والمعتزلة أخطأوا في قولهم إن كلام الله صوت وحرف واصابوا في كونهم نزهوا ذات الله عن الحرف والصوت ولكنه تنزيه فيه عدم التنزيه فلزم منه جميع ما ذكرناه
ومذهبنا هو الحق المبين وهو مذهب بين طريقي الافراط من المعتزلة والتفريط من الحشوية وهو أن الله تعالى متكلم بكلام أزلي قديم كسائر صفاته وأن حقيقة الكلام أنه معنى قائم بالنفس وليس بحرف ولا صوت وإنما يستدل عليه بالحروف والأصوات ليفهم الغير تارة للحاضر إذا كان يفهم لغتنا وبلغته تارة إذا كان عجميا وتارة بالحروف وحدها إذا كان غائبا وإن كان حاضرا وهو أخرس فيستدل على الكلام القائم بذاتنا له بالإشارة والإيماء ولا يطيق احد من البشر أن يوصل كلامه القائم بذاته إلى إفهام غيره من الخلق إلا بالحروف والأصوات فأما ربنا جل وعلا فيكلم خلقه على ثلاثة أنحاء أما إلهاما كالخضر عليه السلام وإما من وراء حجاب كموسى عليه السلام وإما بإرسال رسول كمحمد صلى الله عليه و سلم قال الله

تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فأين الحرف والصوت ها هنا وأين اشتبه عليهم في تكليم موسى وإرسال الرسول فما في إلهام الخضر عليه السلام إشتباه والحمد لله فليتأمل ففيها شفاء للصدور
وكذلك لايطيق البشر أن يتلو كلام الله تعالى فإنما يسرناه بلسانك تأمل قوله يسرناه ففيه معنى الصنع وقوله بلسانك ففيه معنى لغة الغرب
وكذلك قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا ففي جعلناه معنى صيرناه وفي قوله عربيا معنى اللغة وقال تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر فانظر إلى
فضل الله سبحانه ولطفه بخلقه وعظيم كلامه في طي حروف وأصوات هي صفات أنفسهم كما يصنع الخلق في إفهام كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم إلى بواطن البهائم فيما يراد من تقديمها وتأخيرها ومشيها ووقوفها وشربها الماء بوسيلة صفات البهائم من النقر والصفير والأصوات التي تشاكلها
وكذلك الطفل الصغير فيما يخاطب به عند الزجر والتخويف والترغيب والتفهيم في الأشياء المضرة المفزعة والأشياء الملذة الحسنة بنوع من الألفاظ المشاكلة لفهمه فصارت الحروف والأصوات والكتابة تعظم وتوقر وتحترم إذا كتب بها كلام الله أو تلي وإذا لم يكتب بها إلا الشعر وكلام المخلوقين لم يكن لها حرمة ولا تعظيم ولا توقير ولا يوجب ذلك قدمها كحجارة البيت العتيق قطعت من الجبل

فبنيت بها الكعبة فعظمت بالطواف حولها ولا يقربها حائض ولا جنب ولا من على غير وضوء
فكذلك المصحف لا يمسه إلا المطهرون ولا يسافر به إلى أرض العدو إحتراما لكلام الله تعالى ولا يوجب ذلك قدم المصحف كما لا يوجب قدم الكعبة ولا قدم الحجر الأسود الذي يعظم ويقبل ويلتزم
وكذلك تعظيم الأنبياء واحترامهم لا يوجب قدمهم فما أعظم جهل الحشوية وما أحمقهم وصارت الحروف والأصوات والكتابة كأنها جسد لروح كلام الله وصار كلام الله كأنه روح الأجساد الحروف والأصوات والكتابة وما أحسن ما تفطن له بعض الشعراء حيث قال ... إن الكلام لفي الفؤاد وأنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ...
وقد أخبر عن المعنيين جميعا بقوله تعالى واسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور وبقوله تعالى وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ثم قال ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ألا تراهم كيف لما دخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم غشاوة في التحية بالنطق بلسانهم وأخبر الله عن كلامهم الموجود في بواطنهم بقوله تعالى وقولون في أنفسهم وبقوله تعالى بما نقول
واعلم بعد ذلك كله أن المعتزلة إنما تلقوا إعتقادهم في كلام الله تعالى من العقل المحض والحشوية تلقوا إعتقادهم في كلام الله تعالى من ظاهر الشرع

المحض ومن العرف الجاري به العادة فيما يتخاطب به الخلق فظنوا أن كلام الله مثل كلامهم فحكموا على الغائب عنهم بالشاهد عندهم ومن قاس الغائب على الشاهد فقد أخطأ عند جماعة المتكلمين واهل العقل أجميعن فلا يحمل علم العالم على جهل الجاهل وكونهم يقولون لا يفهم كلاما إلا صوتا وحرفا فكلام العوام ومن لا يدري شيئا ولا يعرف أحقيقة لا ولا مجازا وسبب ذلك كله عدم ممارستهم للعلماء بل لطلبة العلم من أهل الكلام فهؤلاء فرطوا وأولئك أفرطوا وأهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقا بين طريقي الافراط والتفريط وسنضرب لك مثالا يقرب من إفهام القاصرين ذكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون فنقول لذوي العقول مثال العقل العين الباصرة مثال الشرع الشمس المضيئة فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود والأحمر من الأخضر والأصفر ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد ابدا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة ومثال من استعمل الشرع دون العقل مثال من خرج نهارا جهارا وهو أعمى أو مغمض العينين يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض فلا يدرك الآخر شيئا ابدا ومثال من استعمل العقل والشرع جميعا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر مفتوح العينين والشمس ظاهرة مضيئة فما أجدره وأحقه ان يدرك الألوان على خقائقها ويفرق بين اسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها
فنحن بحمد الله السالكون لهذه الطريق وهي الطريق المستقيم وصراط الله المبين ومن زل عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعبة عن اليمين والشمال
قال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

وقال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويبتع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وقال النبي صلى الله عليه و سلم تفرقت بنو اسرائيل على أثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين يزيد عليهم ملة واحدة كلها في النار إلا واحدة فسألوه عن هذه الواحدة فقال ما أنا عليه وأصحابي
فالله تعالىيثبتنا عليها ولا يحيد بنا عنها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وسألت بعض العلماء العارفين ما هذه الفرقة التي زادت في فرق أمة محمد صلى الله عليه وسلسم فقال رايت في كلام المحققين الباحثين العرافين أن هذه الفرقة الزائدة في هذه الأمة قوم يتعرضون العلماء ويعادون الفقهاء ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة ففتشت فوجدت ذلك صحيحا فلله الحمد وله المنة فإنما أطلنا الكلام هنا لأن هذه الآية ومثلها من الآيات في القرآن كثير تتضمن تعليق الهداية بمشيئة الرب سبحانه فأوضحنا القول فيها بما يقتضي إيصال المقصود منها إلى فهم القاصر والتارك النظر في علم الكلام ونقرب من إفهام العوام والله الموفق للصواب

سورة الملائكة عليهم السلام قوله تعالى
أفمن زين له سوء علمه فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون وقد تقدم ذكرها
سورة يس فيها قوله تعالى
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إلى قوله وسواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
سورة الصافات قوله تعالى
وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إلى قوله تعالى قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون تأمل قوله أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ولا يستريب في أن الله خلق الخلق وأعمالهم لأنهم كانوا ينحتون الأصنام ويعبدونها من دون الله فأزرى عليهم وبكتهم لأن النحت فعلهم وعملهم وقد اخبرك الله أنه خلقهم وعملهم ومن عملهم ايضا سجودهم للأصنام وهي عبادتهم لها فأزرى عليهم وقال انا خلقتكم وخلقت أعمالكم وهو نحتكم للأصنام وسجودكم لها فكيف تعبدون ما تنحتون وأنا الخالق لكم ولأعمالكم فأنتم ملكي وأعمالكم خلقي فكيف تعبدون غيري بما خلقته فيكم مع كونكم خلقي وملكي على نحو قوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد هي الاراب

السبعة وهي الوجه واليدان والرجلان والركبتان فكأنه سبحانه يقول هذه الاراب خلقي وملكي وكيف تسجدون عليها لغيري
فاعتبر الاثنين وتأملهما واجل فكرك فيهما فلا عبادة كالتفكر سحاب يمطر الحكمة فتفكر في آيات الكتاب وفي آيات صنعه تعثر على الصواب

سورة الزمر يقول فيها
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار وفيها يقول أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ثم قال الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد
وفيها يقول ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام
سورة المؤمن قوله تعالى
ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله
فما له من هاد
سورة الشورى قوله تعالى
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير
جريا على سنته فيما تقدم من الآيات ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وكذلك الآية التي في آخر السورة ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل
قال تعالى في موضع آخر ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه لأنه قال تعالى ألا يعلم من خلق فافهم راشدا هذه النكت توفق إن شاء الله
سورة الجاثية فيها قوله
افرءيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون هذه الآية ذابحة لحلوق القدرية والامامية ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد ومن يضلل الله فما له من هاد
سورة الحجرات في أولها قوله تعالى
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون لا إله إلا الله ولا شريك مع الله في خلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم فإنه الواحد القهار يخلق ما يشاء ويختار وفي آخرها قوله تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين
سورة القمر سمعت الشيخ الفقيه أبا حفص عمر الذهبي رحمة الله عليه يقول
إذا كان يوم القيامة تسحب القدرية في النار على وجوههم ويقال لهم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر ووجدت في كتاب

التحصيل للمهدي في قوله تعالى إن المجرمين في ضلال وسعر قيل المجرمون في هذه الآية القدرية وفيه يقول قال أبو هريرة جاء مشركو العرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقنه بقدر
وتشبه هذه الآية قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
وقبلها ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم الآية

سورة المجادلة فيها قوله تعالى
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
والقدرية يقولون إنهم يمحون ما كتب الله في قلوبهم إذا هموا وأرادوا وهذه مغالبة تعالى الله في جلال تعاليه علوا كبيرا
بل قال سبحانه قبل هذه الآية كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز وهذا هو الحق المبين لمن هداه الله ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
سورة الملك قوله تعالى
وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
استدل على علمه سبحانه بخلق أفعال العباد ففيها رد على القدرية والمعتزلة والحشوية وذلك أن فيها دلالة على خلق أفعال العباد وعلى علمه سبحانه وعلى أن القول يكون تارة في النفس وتارة بالصوت والحرف فاعلم
وفي سورة ن قوله في شان يونس عليه السلام
لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين جريا على عادته مع الأنبياء عليهم السلام فيما تقدم
سورة المدثر قوله تعالى في شأن الوليد بن المغيرة المخزومي
سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر لما نزلت الآية قال أبو جهل يا معشر قريش أتعجزون وأنتم الملأ أن يكفيني كل مائة منكم رجلا واحدا إن محمدا يزعم أن ليس يعذب في النار إلا تسعة عشر فأنزل الله تعالى عقيب ذلك وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين

كفروا ليستقين الذين اوتوا الكتاب يعني اليهود والنصارى لأن ذلك في كتابهم المنزل على نبيهم ويزداد الذين آمنوا إيمانا بما وجدوا عند أهل الكتاب موافقا لما عندهم في كتابهم ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب أي لا يشركون فيما أنزل عليهم في كتابهم والمؤمنون أيضا كذلك فيما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم وليقول الذين في قلوبهم مرض يعني المنافقين والكفرون يعني قريشا ماذا أراد الله بهذا مثلا فأجابهم الله سبحانه بقوله تعالى كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو قال في التفسير أي كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين كذلك يضل الله من يشاء من خلقه فيخذله عن إصابة الحق ويهدي من يشاء فيوفقه للحق
وفي التنزيل قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورى فمنهم من يقول ايكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون فتأمل أن آية واحدة يضل بها قوما ويهدي بها آخرين بل يزيدهم بها إيمانا وهم يستبشرون كهذه الآية التي قال فيها

ليستبقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا والكتاب لمن تأمله يشد بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض
وفيها كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره ثم قال وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة هل أتى على الانسان فيها قوله تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلنه سميعا بصيرا إنا هدينه السبيل إما شاكرا وأما كفورا وفي آخرها
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما

سورة التكوير قوله تعالى
لمن شاء منكم أن يستقيم ثم قال وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
سورة الشمس وضحاها قوله تعالى
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
ذا احتج محتج بهذه الآية على القدرية وهي قوله قد أفلح من زكاها أي من زكى الله نفسه وقد خاب من دساها قال الضمير في زكى يعود على من ولا يعود على الله كما فعلوا في الضمير في قوله تعالى أفمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
كما تقدم من قولهم أن الضمير في يشرح وفي يجعل يعود على من ولا يعود على الله تعالى فيقال لمن قال ذلك فما تصنع في الآية التي قبلها وهي قوله تعالى فألهمها فجورها وتقواها ويشد هذا القول النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه المقتبس من الكتاب العزيز اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
وكذلك قوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد اأبدا ولكن الله يزكي من يشاء
سورة والليل إذا يغشى قوله تعالى
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واسستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى حدثنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحباب رضي الله عنه باسناده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه علي بن أبي طالب عليه السلام قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد قال فأتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصره فنكس راسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء فقال عليه السلام إعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ صلى الله عليه و سلم فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
والقدرية تقول إنما ذلك من الله تعالى على طريق الجزاء فيقال لهم من مذهبكم أن الله تعالى يجب عليه مراعاة الأصلح لعباده فما باله عرضهم للنار بتيسير عمل العسرى اما كان ييسر عليهم طريق التوبة والإنابة والصلاح والفلاح فيكون ذلك اصلح لهم وذلك عندكم هو واجب على الله أن يفعله

لعباده وإلا خرج عن الحكمة وانعزل عن الإلهية وما باله أن لم يفعل لهم ذلك ما أماتهم أطفالا قبل أن يبلغوا الحلم فيبخلوا بالمال ينفقونه في سبيل الله ويستغنون عن ربهم فلم يرغبوا في العمل بطاعته ولم يكذبوا بالحسنى وإذا فعل لهم ذلك وأماتهم صغارا أدخلهم الجنة كما قال تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم فإذا دخلوا إلى الجنة ونظروا إلى أهل الأعمال في عليين قالوا يا ربنا ما بالك لم تعطنا كما أعطيت أهل عليين فيقول هؤلاء أهل الأعمال الصالحة وأنتم متم صغارا لم تبلغوا ولم تعملوا فيقولون يا ربنا فأنت أمتنا صغارا ولم تنظر لنا بالأصلح ولو أبقيتنا حتى نبلغ الحلم لعملنا كما عمل أهل عليين فجازينا كما جازيتهم فيقول لهم علمت أنكم إذا بلغتم كفرتم وعصيتم فأدخلكم النار فنظرت لكم بالمصلحة فأمتكم صغارا فأدخلتكم الجنة وهذا هو الأصلح لكم فعند ذلك ينادي أهل النار من دركات لظى واجواره يا ربنا لو أمتنا صغارا كان الأصلح لنا أن نكون مع أطفال أهل الجنة في أقل منازلها فيخصم الرب جل جلاله على مذهب المعتزلة ويتعالى حكم ذلك الجلال أن يوزن بميزان اهل الاعتزال

سورة والضحى فيها قوله
الم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى
ثم أمره بثلاثة في مقابلة هذه الثلاثة فقال سبحانه 2 في مقابلة الم يجدك يتيما فآوى فأما اليتيم فلا تقهر وقال في مقابلة ووجدك ضالا فهدى وأما السائل فلا تنهر فمن استرشدك فارشده ومن سألك فأجبه

ولا تنهره وقال في مقابلة ووجدك عائلا فأغنى وأما بنعمة ربك فحدث فإذا فعل ذلك فقد قام بشكر ما أتاه الله من نعمة التي أولاه إياها فتفهم راشدا إن شاء الله
كذلك أيضا عدد عليه نعمة الله في الم نشرح لك صدرك إلى قوله ورفعنا لك ذكرك مم ألزمه بشكر ذلك فقال فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب

سورة الفلق قوله تعالى
من شر ما خلق والقدرية تقول ما خلق الله شرا كما يقول المجوس ولهذا قال رسول الله صلى اله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة وذلك أن من المجوس من يقول بالتثنية فيقولون للعالم إلهان أحدهما يخلق الخير والأنوار وهو الرحمن والآخر يخلق الشر والظلمة وهو الشيطان وأنها اختلفا ثم تهادنا إلى وقت مخصوص معلوم يعبرون عنه بالقيامة ويسمون بالثنوية والمانوية ينسبون إلى ماني المجوسي الذي كان في زمان كسرى وهم الذين عناهم المتنبي بقوله

وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب ... وقاك ردى الأعداء يسري عليهم وزادك فيه ذو الدلال المحجب ...
يقول للمدوح إنك تفعل الخيرات في ظلام الليل وتنال الظفر بأعدائك في الليل ومن مذهب الثنوية أن الظلام ليس فيه ولا عنده خير وأنت أيها الممدوح قد نصرت على أعدائك ونلت المطلوب من مرادك في ظلام الليل وهذه الأحوال تكذب المانوية الذين يقلون تلك المقالة وشر الشرور إبليس اللعين والله خالقه وبث الشر منه وقيل لقدري كيف يقول ما خلق الله شرا وهو سبحانه يقول من شر ما خلق فقال لست أقرؤها هكذا قيل له فكيف تقرؤها فقال من شر ما خلق فينون شرا ويجعل ما نفيا فتعجبوا يا أولي الألباب من هذا العجب العجاب يفسدون القرآن ويخالفون ربهم حتى يصلحوا إعتقادهم ومذهبهم
وفيما أخذناه عن سيدنا الفقيه الشيخ ابي القاسم رضي الله عنه ما أخبرنا به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه يا أبا بكر لو أراد الله ان لا يعصى لما خلق إبليس

فصل في ذم القدرية
مما أورده الشيخ الفقيه ابو القاسم رحمه الله في كتاب الاملاء له الذي املاه علي وأنا أكتب من ذلك ما حدثنا به بإسناده إلى رافع بن خديج مما حمله سعيد بن المسيب ذكر ذلك عمرو بن شعيب قال كنا عند سعيد بن المسيب فذكروا رجالا يقولون قدر الله كل شيء ما خلا الأعمال قال فوالله ما رأيت سعيدا غضب غضبا قط أشد منه يومئذ حتى هم بالقيام ثم أنه سكن فقال أتتكلمون به والله لقد سمعت فيهم حديثا كفى بهم شرا ويحهم لو يعلمون قال فقلت يرحمك الله يا أبا محمد فما هو قال فنظر إلي وقد سكت بعض غضبه فقال حدثني رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى قال فقلت جعلت فداك يا رسول الله كيف ذلك قال تقرون ببعض وتكفرون ببعض قال قلت جعلت فداك يا رسول الله فكيف يقولون قال يجعلون إبليس عدلا لله في خلقه وقوته ورزقه ويقلون الخير من الله والشر من إبليس قال فيكفرون بالله ثم يقرأون على ذلك الكتاب فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة قال فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة في زمانهم يكون ظلم السلطان فيا له من ظلم وحيف واثراه ثم يبعث الله تعالى طاعونا فيفنى عامتهم ثم يكون الخسف فقل من ينجو منه المؤمن يومئذ قليل فرحه شديد غمه قال يكون المسخ فيسمخ الله عامة أولئك قردة وخنازير قال ثم يخرج الدجال على أثر ذلك قريبا ثم بكى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بكينا لبكائه ثم قلنا ما هذا البكاء يا رسول الله قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم رحمة لهم الأشقياء فإن منهم المتعبد ومنهم المجتهد مع أنهم ليسوا بأول من سبق إلى هذا القول وضاق بحمله ذرعا إن عامة من هلك من بني إسرائيل بالتكذيب أنه قال فقلت يا رسول الله فقل لي كيف الإيمان بالقدر فقال أن تؤمن بالله وحده وانه لا يملك احد معه ضرا ولا نفعا وتؤمن بالجنة والنار وتعلم ان الله تعالى خلقهما قبل الخلق ثم خلق خلقه فجعل من شاء منهم إلى الجنة ومن شاء إلى

النار عدلا منه كل ذلك كل يعمل بما قد فرغ منه وهو صائر إلى ما خلق له فقلت صدق الله ورسوله
ثم ذكر الفقيه طرق هذا الحديث وشرحه فالتمسه في كتاب الاملاء له تجده إن شاء الله
ومن ذلك قال الفقيه ما رواه أبو هريرة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم قال الفقيه فهذا الخبر في ذم القدرية إذ هو صلى الله عليه و سلم لا ينهى عن مجالسة أهل الدين إقتداء لما علمه الله تعالى إذ يقول في سورة مكية وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين
وقد بين الله سبحانه عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمره الله إذ يقول في سورة مدنية وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم أيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
فبين سبحانه بقوله وقد نزل عليكم في الكتاب ما كان أمرهم به من قوله في السورة المكية فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ثم بين في هذه السورة المدنية أن مجالسة من هذه صفته لحوق به في إعتقاده وقد ذهب قوم من أئمة هذه الأمة إلى هذا المذهب وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن

المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا ينهى عن مجالستهم فإن انتهى وإلا ألحق بهم يعنون في الحكم قيل لهم فإنه يقول إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم قالوا ينهى عن مجالستهم فإن لم ينته ألحق بهم
قال وفيما رواه أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مجوس العرب وإن صاموا وصلوا القدرية
وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم
قال وروي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون في آخر أمتي قوم يتفقهون في دين الله ويقرأون كتاب الله كما يشرب الماء البارد لا يجاوز تراقيهم يكذبون بأقدار الله عز و جل هم مجوس أمتي هم مجوس أمتي هم مجوس أمتي
وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لكل أمة مجوسا وإن مجوس هذه الأمة القدرية فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم
قال وروى أبو الزبير مرسلا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله جل وعز إن مرضوا فلا تعودوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وخرج أبو داود حديث ابن عمر فيهم الذي سقناه وخرج عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوهم وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال

خبر غيلان القدري ومثله على كفره بالقدر
ونورد ها هنا خبر غيلان القدري ومثله على كفره بالقدر قال بعض المصنفين الأخبار قال عون بلغ أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان أن غيلان القدري يتكلم في القدر فبعث إليه ونهاه فقال يا أمير المؤمنين إبعث إلي من يكلمني ويناظرني بين يديك فإن ظفر بي فاقتلني وإن ظفرت به فما لك علي من سبيل قال فبعث أمير المؤمنين إلى الأوزاعي فأتاه فأخبره بما قال غيلان القدري فقال له خاطبه وناظره وحاججه فوالله لئن ظفرت به لأقتلنه فقال له الأوزاعي تسألني أو أسألك فقال له القدري سلني ولا تكثره فقال له الاوزاعي أسألك عن أربعة أشياء وبعدها أربعة أخرى هل علمت ان الله قضى على ما نهى عنه فقال له قضى على ما نهى عنه ما عندي من هذا علم فقال له الأوزاعي هل علمت أن الله حال دون ما أمر به فقال القدري هذه أعظم من الأولى ما عندي من هذا علم فقال الأوزاعي هل علمت أن الله أعان على ما حرم فقال القدري هذه أعظم من الإثنتين ما عندي من هذا علم فأمر به هشام فقتل ثم قال هشام للأوزاعي يا أبا عمرو تكلمت ففسره قال الاوزاعي سألته عن ثلاث كلمات من كتاب الله تعالى قلت له هل علمت أن الله تعالى قضى على ما نهى عنه نهى آدم عليه السلام عن أكل الشجرة وقضى عليه بأكلها وقلت له هل علمت أن الله حال دون ما أمر به أمر إبليس بالسجود وحال بينه وبين ذلك وقلت له هل علمت أن الله عز و جل أعان على ما حرم حرم الميتة وأعان المضطر على أكلها ثم قال هشام أخبرني عن الرابعة ما هي قال كنت أقول له أخبرني عن

مشيئتك أهي متفقة مع مشيئة الله أو مشيئتكم دون مشيئة الله تعالى فأيهما أجابني فيه حل دمه ثم قال هشام للأوزاعي فأخبرني عن الأربعة الأخرى ما هي وما كنت تقول له قال الأوزاعي كنت أقول له أخبرني عن الله عز و جل خلقك كما يشاء أو كما شئت قال فكان يقول كما شاء ثم أقول له أخبرني عن الله عز و جل يرزقك إذ شئت أو إذا شاء فإنه كان يقول إذا شاء ثم اقول له أخبرني عن الله عز و جل يتوفاك إذا شئت أو إذا شاء فإنه كان يقول إذا شاء ثم اقول له فإذا توفاك أين مصيرك حيث شئت أو حيث شاء فإنه كان يقول حيث شاء ثم قال الأوزاعي يا أمير المؤمنين من لم يمكنه أن يحس خلقه ولا يزيد في رزقه ولا يؤخر في أجله ولا يصير نفسه حيث شاء فأي شيء في يديه من المشيئة قال هشام صدقت يا أبا عمرو قوله فأيها أجاب به حل دمه تفسيره كلام علي عليه السلام لقدري إن زعمت أنك تملكه مع الله فقد جعلت مع الله مالكا وإن زعمت أنك تملكه دون الله فقد جعلت من دون الله مالكا قال الأوزاعي يا أمير المؤمنين إن القدرية ما رضوا بقول الله عز و جل ولا بقول الملائكة ولا بقول الأنبياء عليهم السلام الخبر الذي أوردناه في صدر الكتاب وبينا فيه ما قال الله عز و جل وما قالت الملائكة إلى آخر الخبر إلا أنه قال في هذا الخبر أما قول الله عز و جل فإنه قال فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ومر إلى آخره على ما كنا شرحناه واما حديث علي عليه السلام مع القدري فإن عليا عليه السلام مر بنفر من أصحابه فقالوا له يا أمير المؤمنين إن هذا يقول ان أفعاله تكون بمشيئته فقال له علي عليه السلام اخبرني هل ملكك الله شيئا فأنت تملكه ام لا فقال نعم ملكني صلاتي وصيامي وحجي وجهادي وعتق رقيقي وطلاق نسائي فقال علي عليه السلام أشيئا مع الله تملكه أم شيئا دون الله تملكه قال إني لا أسمع فقال علي عليه السلام إني لأتكلم بلسان عربي مبين إن زعمت أنك تملكه مع الله فقد جعلت مع الله مالكا وإن زعمت أنك تملكه من دون الله فقد جعلت من دون الله مالكا

وفي رواية قال علي عليه السلام وأيها قلت أخذت الذي فيه عيناك فبهت وانقطع وسأل عليا عليه السلام بعض أصحابه فقال يا امير المؤمنين أرأيت أفعالنا هي خلق لله أم لنا فقال الله خلقها وأنت تعملها لا تسأل عن هذا احد غيري
قال الفقيه أبو القاسم كل ذلك وردت عنه عليه السلام بالأسانيد الصحاح والأقوال الواضحة تأمل قوله الله خلقها وأنت تعملها أخبرك أن الله خالقها وأنه خالق كل شيء ولا خالق سواه قوله وأنت تعملها إشارة إلى ما شرحناه أولا لك في معرفة الكسب وما يصدر من الإنسان على وجه المحاولة له والإيثار كما ورد في القرآن بما كنتم تعملون وبما كنتم تكسبون ويعلم ما تفعلون كما تقول هذا لونك وهذه صحتك وهذا أيضا فعلك وعملك وكسبك لكل ما حاولته وآثرته على الترك فعند المحاولة أجرى العادة وطرد السنة أن يخلق القدرة عليه ويخلق لك الفعل الاختياري المخالف لحركة الارتعاش التي ليست هي بمحاولتك ولا إرادتك ولا مقرونة بقدرتك وكذلك الزج في الصبب إذا كنت قائما على جبل عال وقدامك صبب إلى أسفل الجبل وزجك زاح من علو الجبل في ذلك الصبب او تعاطيت إن خطوت خطوات ثم هبته فأردت الوقوف والرجوع فلم تجد لذلك سبيلا فانظر إلى حركاتك ونقل أقدامك هل هي واقعة بحسب إرادتك ومشيئتك وقدرتك أو بخلاف ذلك وإنك لتفرق الآن بين من يقطع المسافة إختيارا او بين من يقطعها سحبا او زجا كحركة الارتعاش وحركة تماثلها في يدك واقعة بمشيئتك واختيارك والكل من الفعلين خلق لله وإنما أحدهما وقع بقدرة الله لا بقدرتك وبمشيئة الله لا بمشيئتك والآخر وقع بقدرة الله ومشيئته لكن مع محاولة منك وإيثار فنسب إليك بهذا الوجه فيقال هذا عملك وفعلك وكسبك كما يقال هذا لونك وصحتك وشبعك وريك وما اشبهه فصار ما يكتسبه الإنسان خلقا لله دون الإنسان وكسبا للانسان دون الله والكسب محال وجوده من الله كما أن الخلق والإيجاد محال وجوده من الإنسان فاعلم

وسنورد لك إن شاء الله تعالى فصلا من كلام الفقيه أبي القاسم في هذا المعنى إن شاء الله تعالى
ثم ان الفقيه وفقه الله أشار إلى خبر القدري مع جعفر الصادق رضي الله عنه في قوله يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم تعالى الله أن يخلق الفحشاء فأجابه وجل ربنا ان يكون في ملكه ما لا يشاء الخبر الذي قدمناه في صدر الكتاب فإنقال قائل فإذا قلتم إن حركة الإرتعاش لم تقترن بها قدرة العبد واقترنت قدرته بالحركة الاختيارية فقد صارت القدرة مؤثرة في مقدورها وصار العبد شريكا مع الله في إحداث مقدوراته الاختيارية التي تسمونها كسبا
فالجواب إنا نقول إن تعلق القدرة بالمقدور كتعلق سائر الصفات به وإن تعلقها به لا يقتضي إنشاء المقدور وإبداعه ولا إبداع وصف فيه كما ان العلم يتعلق بالمعلوم ولا يقتضي حدوثه معنى فيه وهذه الإرادة تتعلق بالمراد ولا تؤثر في إبداعه ولا إبداع معنى فيه وهذه الرؤية تتعلق بالمرىء فلا تحدثه الرؤية ولا تحدث معنى فيه ولا تؤثر فيه وهذا السمع يتعلق بالمسموع ولا يؤثر فيه ولا في وصف له فيقال هذا معلوم لفلان ومراد له ومرىء له ومسموع فكذلك يقال هذا مقدور لفلان لتعلق قدرته به لا غير وهو تعلق اقتران لا تعلق إحداث وهذه أوصاف كلها معقولة كما ترى من غير أن تقتضي إحداث المقدور ولا إحداث وصف فيه غير أن القدرة تعلقها بالمقدور مخالفة للعلم والإرادة والإدراك كما أن العلم مخالف في تعلقه للإدراك والإرادة والقدرة فاعلم ذلك وقد نجز المقصود ولله المنة

فصل
وقد رأيت سلك الله بك طريق هدايته ان أنقل لك فصلا مقنعا أملاه الشيخ الفقيه أبو القاسم علي بمكة حرسها الله عندما سأله سائل عن القدر وما يجب على المكلف إعتقاده فيه فقال رضي الله عنه من الحق المبين الذي لا ريب فيه واليقين الذي لا شك يعتريه إن الله تعالى خالق كل محدث ومبدع كل مخترع لما دل عليه من الدلائل العقلية والشرعية
اما العقلية فجهل المختار منا للفعل بتفاصيل إرادته ومراداته ولا بد من معرفة المريد بمراده ليتحقق اختياره له ولا يصح ان يكون خالقا بالاختيار على ما شرحناه في مسألة الكسب وفي غير موضع وأما الشرعية فأولها قال الله سبحانه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
فأخبر أن تيسير الأعمال إنما هو به وقال سبحانه ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها فبين أن الفجور والتقوى بإلهامه للفاجر والتقي وقال تعالى هو الذي خلقكم ومنكم كافر ونكم مؤمن فأخبر أنه خلقهم

كفارا ومؤمنين كما قال فأخرجنا به ثمرات مختلفة ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف الوانه كذلك فبين أنه خلق ألوانها كما خلق ذواتها وقال تعالى واختلاف ألسنتكم وألوانكم فأبان أنه خلق اللغات والخطاب وجعل وجود ذلك دلالة عليه سبحانه وإنما يدل عليه سبحانه فعله كما أن فعل غيره يدل على فاعله وقال تعالى والله خلقكم وما تعملون أي خلقكم وأعمالكم وقوله ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
وأما السنة فأكبر من أن تحصى وأقرب ذلك قوله صلى الله عليه و سلم إن الله خالق كل صانع وصنعته فنص على أنه خالق الصنعة كما انه خالق الصانع وقوله عليه السلام تم العلم وجف القلم وأمور تقضى في كتاب قد خلا فأخبر ان القضاء جار بحسب ما كتب في الكتاب الاول قبل خلق الخلق وقولهم فففيما العمل يا رسول الله فقال أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقازة وكقوله في

كيفية الإيمان بالقدر لما سئل عن كيفية الإيمان به قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك وان تعلم أن الله خلق الجنة وخلق منازل أهلها فيها قبل خلقهم وخلق النار وخلق منازل أهلها فيها قبل كونهم
وقوله صلى الله عليه و سلم إن خلق احدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله عز و جل ملكا فيؤمر باربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وأشقي ام سعيد ومثله قول ابن عباس رضي الله عنه في قصة الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا لا تغفل عنه نكته النكت مذهب هؤلاء المذبذبين إنهم يعتقدون أن الله تعالى حكيم فلا يصدر منه لأحد من خلقه ظلم فيخرج عن الحكمة ولا يظلم مثقال ذرة ونحن نقول أنه كيف ما تصرف في خلقه فلا ينسب إليه ظلم لأنه تصرف في ملكه بما شاء كيف شاء فالظلم لا يتصور منه
وفي أمره للخضر عليه السلام بقتل الصبي وهو دون البلوغ جور عظيم وظلم كبير على مقتضى مذهبهم وقول علي عليه السلام وقد سئل عن أفعال العباد في خلقها قال الله خلقها وأنت عملتها لا تسئل عن هذا أحد غيري فنص علي خلق الله تعالى للأعمال وعلى نسبتها إلى العبد بأنها عمله من حيث الاكتساب وكانت نسبة العمل إلى العبد على حد نسبة اللون الموجود فيه والشبع والري والصحة والسقم فالموت والحياة له فيقال لونه وشبعه وريه وصحته وسقمه كذلك يقال عمله
والفرق بين هذه وتلك بالإضافة إلى العبد ان الله خلق في العبد صفة متعلقة بحركاته وسكناته وصلاته واجتهاده واكتسابه ولم يجعل لتلك

الصفة تعلقا بلونه وحياته وموته وشبعه وريه وهي الصفة التي يفرق بها الإنسان حسا بين كونه قاطعا للمسافة سحبا وجذبا ودفعا وزجا وبين قطعه لها اختيارا وإيثارا وبحسب المشيئة إذا تحققت هذه الجملة فاعلم أن الشرع رتب على العبد مطالبات بأفعاله التي هي اكتسابه كما بيناه أمراوزجرا وندبا ولم يرتب هذه المطالبات في القسم الآخر والذي هو ملازم له لا بمحاولة منه ثم اجرى العادة وطرد السنة أنه متى حاول الفعل الذي هو اكتسابه واختاره اعطاه القدرة وخلق معها الفعل الذي حاوله ومتى آثر الترك وفعل الضد فعل له ذلك على حسب اختياره العادة جارية وسنة مطردة وأجرى التكليف والأمر والنهي على هذا النحو ولأجله حسن الامتنان بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها واجرى التكليف كذلك فإذا تقرر هذا فاعلم إذن أن الذي كلف الله سبحانه العباد تكليفان
أحدهما الإيمان بالقدر وصفته كما وصفه صلى الله عليه و سلم في قوله وإن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وتحقيق هذا الايمان أن يدفع عن نفسك لو وليت ولولا فلا تقول ليتني فعلت كذا إذ المقدور لا بد كائن وأمر الله على كل حال نافذ وكذا فلا تقول لو كان كذا لكان كذا فلا يكون إلا ما شاء الله وما قضاه وما قدره وأمضاه وكذا أيضا فلا تقول لولا كذا لكان كذا لأن أمر الله نافذ وقضاؤه وقدره ماضيان هذا كله فيما ليس عندك فيه من الله خبر فإنه سبحانه قدر الأشياء على جهتين مطلقة ومعلقة
فالمطلقة كما أبدع الأشياء لا من شيء فقال لما شاء منها كن فكان
والمعلقة كقوله تعالى ولولا رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم

تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما
وقول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر رضي الله عنه يا ابا بكر لو اراد الله ان لا يعصى لما خلق إبليس فأعلمنا الله سبحانه كيفية جريان قدره في تخليق هذا المخلوق وهو تعذيب المشركين من أهل مكة على أي وجه يكون وأنه لا يكون إلا بشرط وإن المؤمنين والمؤمنات من بينهم ومثله ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون وقوله ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء
وأمثال هذه الآيات وحسن من الله سبحانه ذلك لعلمه بمجاري أقداره وكيف جرى تقديره في خلقه وحسن هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلمه ذلك من الله تعالى بالوحي في قوله لو اراد الله ان لا يعصى لما خلق إبليس أو لم يخلق إبليس أو كما قال عليه السلام واستقام ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ولم يستقم لغيره لجهل الغير بعلم الله وتقديره وهو معنى نهيه عليه السلام عن الخوض في سر القدر وقد فسر النبي صلى الله عليه و سلم في خبر الفارسين والحطاب اللذين اخذ أحدهما مال الآخر وقتل الآخر الحطاب ووحيه سبحانه إلى نبيه ان ابا هذا أخذ مال أبي صاحبه فرددن عليه ماله وأن الحطاب قتل أبا القاتل فاقدته به ولا تعارضني في قدري

وكذلك الخبر الأخر عن أحد عباد بني إسرائيل عندما رأى بعض العصاة قد ارتكب بعض المعاصي فقال والله لا يغفر الله لهذا ابدا فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان قل للعابد أنت المتالي علي لا أغفر قد غفرت له وأحبطت عملك فاستأنف العمل فلم يكن لأحد الخوض في تعيين قدر الله تعالى إلا بالوحي منه سبحانه فهذا أحد التكليفين وهو إقامة الإيمان بالقدر على حدوده
وأما التكليف الثاني فالتزام أحكام الشريعة أقداما وإنكفافا فإذا نهانا الشرع عن تناول السمائم والتوجي بالحدائد انزجرنا عن ذلك ولانقول لعل الأجل لم يحضر والسيوف مأمورة ولا صاد إلا الله ولعل الجاري في قدر الله دوام البقاء ولا يكون إلا المقدور فالحال في التكوين هذا لكن لا بد من إعطاء النهي الشرعي حقه والانكفاف عن المهلكات في العادة وكذلك في الوقوف عن امتثال الأوامر وترك التوجه إلى الحج مثلا في أوانه حين تعين التكليف وترك النهوض إلى الصلوات إعتمادا على ان الله سبحانه إذا قضى الأثر بموضوع فلا بد من بلوغه وإذا قدر النهوض إلى الصلاة فلا بد من وقوعه فلا بد من النهوض للقيام بحقوق العبادات على ما جرت به العادات فمن أخل بذلك أخل بواجب العبادة وهو تكليف يجري على الجوارح والأعضاء
ومن هذا الجنس قول القائل إن قدر أني من أهل السعادة فقد حصلت وإن قدر علي الشقاوة فلا ينفعني العناء الناجز وترك الشهوات التي النفس إليها تائقة فأكون قد جمعت على نفسي بلاءين حرمانها شهواتها ومحبوباتها في العاجل وحرمانها بما جرى عليها القضاء في الأجل فليس الحال على ذلك والقدر نافذ على كل الأحوال والقيم بحقوق الواجبات
والتكاليف هو وظيفة الحاضر وهو معنى قوله صلى الله عليه و سلم لمن قال له أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال لا إعملوا وسددوا وقاربوا فكل ميسر لما خلق له

فأمرنا بالعمل للقيام بحقوق التكليف والنهوض بحق امتثال الاوامر الشرعية والانكفاف عن الزواجر الواردة في الشريعة فإياك أن يختلط عليك ترك احد التكليفين والاخلال بإحدى العبادتين فتقيم حقوق التكليف في الإيمان بالقدر إيمانا لا يتعارك معه الشكوك في استدفاع ضرا وساتجلاب سراء وندم على ترك الفعل لأجل فوات مطلوب فالتشكيك في شيء منه قادح في الإيمان بالقدر وإخلال بهذه الوظيفة من التكليف وإياك أن تقدم على المهالك أو تتعرض للمعاصي او المعاطب للاستيناس بهذا الإيمان فتخل بالقيام بحقوق العبادة في الامتناع مما اوجب الشرع الامتناع منه فأعط كلا العبادتين حقها في الاعتقاد والتصديق وذلك في الاقدام والانزجار فحيئذ تكون قد نهضت بواجب الإيمان والطاعات وهذا المعنى هو الذي أشار إليه صلى الله عليه و سلم بقوله اعملوا وسددوا وقاربوا فحث على القيام بحقوق التكليف في العمل ثم قال فكل ميسر لما خلق له كأنه يقول وإياك أن تظن انك لما أمرت بالتشديد والمقارنة إنما أمرت بذلك لتجري عليك المقادير بحسب هواك في استجلاب النفع ودفع الضرر ولكن تيقن ان الأمر يجري عليك بحسب إرادة الله سبحانه فيك وإجرائه قدره عليك بأن لا تيسر إلا لما خلقت له من خير أو شر ومعافاة او بلاء أو إيمان أو كفر فاعرف هذه الجملة فهي مما يكثر غلط الخائضين في هذا الفن فيه سددك الله وأرشدك وشرح للإيمان صدرك ويسر لطاعته حركاتك وسكناتك وغفر لنا ولك ولسائر المسلمين والحمد لله وصلواته على محمد وآله وسلامه
قال الشيخ الفقيه أبو القاسم رضي الله عنه مجموع ما اشتمل عليه هذا القول أن الله تعالى ألزم كل مكلف تكليفين
أحدهما إعتقاد وهو الإيمان بجريان القدر بحسب تقدير الله والثاني إقامة العبادات فلا تخل بالعبادات لأجل الاعتقاد ولا بالاعتقاد لإقامة العبادات فحينئذ يكون المكلف قد نهض بوظيفة التكليفين وقام بحقوق العبادتين هذا آخر كلام الفقيه يC

فصل
يا من استبعد أن تكون أفعال العباد خلقا لبارىء العباد إنفرد بخلقها دون خلقه أتريد أن تشاهد خلق الله لها ضرورة ولا يلحقك شك ولا ارتياب في أن الله خالق أفعال العباد فقد ارشدك مولاك أن كنت تعقل فقال وفي أنفسكم أفلا تبصرون تأمل قراءتك القرآن وأنت تحفظه حفظا بليغا هل إذ قرأت تعرف نظم الكلم بعضها إلى بعض وضم الحروف بعضها إلى بعض حتى إذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم تقصد الكلمة فتجعله حذاء الكلمة التي قبلها والحرف حذاء الحدف الذي قبله فتبتديء بالباء ثم بالسين ثم بالميم قاصدا إلى ذلك حتى تنتهي إلى آخر ما تقرأه والله إنك لتعلم من نفسك وكل قارىء مثلك ذهولك عن ترتيب الحروف والكلم شيئا فشيئا والدليل على ذلك وأنت تعلمه أنك تقرأ الآية والسورة وأنت ساه ذاهل لاه تأمل قولي لك قراءتك تجد ما قلته لك ونبهتك عليه لا يعتريك فيه ريب ولا شك وإن غالطت نفسك وقلت أنا الذي أتى بالكلم وأرضفها وبالحروف وأنظمها فالحس يكذبك والمشاهدة تخجلك وهو إذا وقفت في أثناء محفوظاتك وتتحير فلا تعرف ما بعد الموقوف عليه ولا جرى لسانك بل كأنك لم تحفظه قط وربما قطعت القراءةوركعت ثم أخذت المصحف فتنظر الكلمة التي غربت عليك فتخرجها ثم تعود إلى قراءك أو إسترشدت قارئا إن كان حاضرا فإذا عرفك الآية أخذت تتعجب من نفسك وربا قرأتها مرة أخرى فوقفت عليها ولم يفتح لك بما بعدها كما وقفت اولا ثم تجتهد في أن تعرفها وتقول قد ردها علي فلان يوم كذا أو يلحقك هذا في أيسر السور المحفوظات ولا وقفت فيه قط لا سيما وقد جاء في تفسير قوله تعالى لا تحرك به لسانك الآية إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا جاءه جبريل يقرئه القرآن يستعجل صلى الله عليه و سلم قصدا منه أن يضبطه ولا ينفلت منه فأوحى الله إليه لا تحرك به لسانك تتعجل به

إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه
وقال في موضع آخر سنقرئك فلا تنسى
وهذا يشبه ما قرره الشيخ الفقيه أبو القاسم رحمة الله عليه في الدليل القاطع على أفعال العباد وفي مسئلة الكسب له وفي كتاب الاملاء وفي غير موضع من كلامه وبينه في حركة اليد الاختيارية دون حركة الارتعاش فإن القدرية وافقونا في حركة الارتعاش أنها خلق الله تعالى وخالفوا في حركة الاختيار لأجل إقترانها بقدرة العبد وإرادته فقالوا هذه من خلقنا دون الله تعالى
قال الفقيه لا يصح لفاعل شيء أن يكون فاعلا على الجملة غير فاعل له على التفصيل والفاعل لهذه الحركة الاختيارية لا يصح ان يكون خالقا لها إلا بعد القصد إلى كل جزء فيها والفاعل المحرك منا ذاهل عن تفاصيل أجزائها غير عارف بكمية أعداد أجزائها ومراداته منها وكيفياتها ومن أنصف من نفسه أقر بالعجز عن ذلك كله ولو سئل القدري عن جملتها وهو المحرك ليده وقيل له إن كنت خالقا لها وفاعلا لها على زعمك فهل تعلم أجزء الحركة على التفصيل حتى تعلم كم جوهر قطعته وكم حركة قامت بتلك الأجزاء بهم ومن أين ابتدأت الحركة بما قطعته من الأحياز وإلى أي موضع انتهت ووقفت اليد عنه وأين جهة إرتفاعها وأين جهة إنخفاضها وإن كنت أنت خلقتها وأنت فاعلها فحرك يدك حركة مثلها في أعداد أجزائها وإعداد وحركتها القائمة بها وابتدأ في حيث ابتدأت أولا وقف حيث انتهت يدك أولا ولا تعلي يدك فوق الجهة التي كانت أولا ولا تخفضها عنهاولا اليد مسرعة في حركتها بل على نحو الحركة الأولى وقيل له إن كنت تعلم ذلك كله فاذكره صادقا فإن أنصف قال ما أعلم شيئا من ذلك فيقال فابحث عن من يعلم ذلك كله على النحو الذي شرحناه فأن وجدناه فذلك هو الفاعل للحركة الموجد لها دون غيره ولا تجد ذلك إلا الواحد القهار لا إله إلا هو الخالق لكل شيء وهو الواحد القهار حقا وقد نطق به الكتاب العزيز

قل من رب السموات والأرض قل هو الله قل أفتاخذتم من دونه أولياء لا
يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار
وفي حكاية عن الجنيد رحمة الله عليه قيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب وهو إمام وقته في علم الأصول رضي الله عنه أنت تتكلم على كلام كل أحد وها هنا رجل يقال له الجنيد فانظر هل تعترض عليه أم لا فحضر حلقته فسأل عبد الله الجنيد عن التوحيد فأجابه فتحير عبد الله في كلامه وحسن جوابه وقال أعد علي ما قلته فعاد ولكن لا بتلك العبارة فقال عبد الله هذا شيء أجدني لم أحفظه فأعد علي به مرة أخرى فأعاد بعبارة اخرى فقال عبد الله ليس يمكنني حفظ ما تقول أمله علي فقال إن كنت أجريه فأنا أمليه وقام عبد الله وقال بفضله واعترف بعلو شأنه فانظر وتأمل كلامه إلى آخر ما أسده وأبلغه وما أدله على ما قلناه في هذا الفصل عند قراءة القارىء للقرآن على ما قدمناه وبيناه وبما أحسن هذا الجواب وما اسده وما ابلغه وما أعلاه في تفهيم مقصودنا حيث قال ابن كلاب ليس يمكنني حفظ ما تقول أمله علي فقال له الجنيد إن كنت أجريه فأنا أمليه وما أسرع بديهته وأسد مقالته يتصاغر عنده روية اهل الأصول والبلغاء والفصحاء ولو أجبت عنها بملء صحيفتين وثلاث وأربع لما بلغت مبلغ هاتين الكلمتين في إفهام من يقول إني خالق لفعلي والله ولي التوفيق التوفيق من أراد من خلقه

ونختم كتابنا هذا بدعاء نتيمن به وهو دعاء لبعض العارفين مشاكل لمضمون كتابنا هذا لعل الله يستجيب لنا ولعل يدعو به داع عند الوقوف عليه فيصادف ساعة رأفة ورحمة وإجابة لدعوة أخ في الله حسن إعتقاده فينا فيرحمنا الله بحسن نيته وقبول دعوته وهذ هو الدعاء
اللهم إني لم اعصك معاندة لك ولكنها مقاديرك التي قدرتها علي ولا حجة لي في ذلك بل الحجة البالغة لك اللهم إني لم أعمل الحسنا ت إلا بما أعطيت ولم أعمل السيئات إلا بما قضيت فلولا عطاؤك لكنا من الخاسرين ولولا قضاؤك لكنا من الفائزين فجد بما اعطيت على ما قضيت حتى تغفر هذا بهذا يا ارحم الراحمين اللهم إني أعوذ بك من ضر ينزل بي يضطرني إلى معصيتك ويحول بيني وبين أداء فرضك وأعوذ بك أن أقول الحق أريد به سواك وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك وأعوذ بك أن يكون احد أسعد مني بما أعطيتني وأعوذ بك أن تجعلني عبرة للعالمين وعلكا في أفواه الماضغين برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم أبين رجائي وخوفي حتى لا أرجوك إلا خائفا ولا أخافك إلا راجيا اللهم اجعل ثمرة خوفي منك الاقلاع عن معصيتك وثمرة رجائي فيك الاسراع إلى طاعتك يا ارحم الراحمين والصلاة على سيد المرسلين محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين إلى يوم الدين