كتاب : لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة المؤلف : عبدالملك بن عبدالملكبن يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وهو حسبي وكفى الحمد لله العليم القاهر الحكيم الذي وجب له القدم واستحال في تعاليه تجويز العدم والصلاة على النبي مبيد الباطل وموضح الحق بواضحات الدلائل هذا وقد استدعيتم أرشدكم الله عز و جل ذكر لمع من الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة فاستخرت الله تعالى في إسعافكم بمناكم والله المستعان وعليه التكلان

1 -

العالم وحدوثه
الأصل في حدوث العالم ووجود الصانع
اعلموا وفقكم الله أن الأولى تقديم عبارات اصطلح الموحدون عليها ابتغاء منهم لجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ الوجيزة فما أطلقوه العالم فإن قيل ما العالم ولم سمي العالم عالما قلنا العالم عند سلف الأمة عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى وعند خلف الأمة عبارة عن الجوهر والأعراض فأما قوله لم سمي العالم عالما فأما العالم فمشتق من العلم والعلامة وإنما سمي العلم علما لأنه أمارة منصوبة على وجود صاحب العلم

فكذلك العالم بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى فإن قيل ما حد الجوهر وما حقيقة العرض قلنا الجوهر قد ذكرت له حدودا شتى غير أنا نقتصر على ثلاثة منها فنقول الجوهر المتحيز وقيل الجوهر ماله حجم وقيل الجوهر ما يقبل العرض فأما العرض فقد قيل ما يقوم بالجوهر وقيل ما يطرأ على الجواهر كالألوان والطعوم والروائح والعلوم والقدر والإرادات الحادثة وأضدادها والحياة والموت وقيل العرض ما يستحيل عليه البقاء ثم أعلم أن الموجود ينقسم إلى قديم وحادث فالقديم هو الموجود الذي لا أول لوجوده والحادث هو الموجود الذي له أول فإن قيل ما الدليل على حدوث العالم قلنا الدليل عليه أن أجرام العالم وأجسامها لا تخلو عن الأعراض الحادثة وما لا يخلو عن الحادث حادث

السؤال على هذا الكلام من أربعة أوجه الأول لا نسلم ثبوت الأعراض ولئن سلمنا ثبوت الأعراض فلا نسلم حدوثها ولئن سلمنا حدوثها فلا نسلم استحالة خلو الجوهر عن هذه الأعراض الحادثة والرابع لم قلت إن ما لا يخلو عن الحادث حادث أما السؤال الأول إنكار ثبوت الأعراض الدليل على ثبوت الأعراض أن العاقل إذا رأى جوهرا ساكنا ثم رآه متحركا فقد أدرك التفرقة الضرورية 118 وبين هاتين الحالتين وتلك التفرقة لا تخلو إما أن ترجع إلى ذات الجوهر أو إلى معنى زائد على الجوهر استحال أن يقال ترجع التفرقة إلى ذات الجوهر لأن الجوهر في الحالتين متحد والشيء لا يخالف نفسه فلا يقع الافتراق إلا بين ذاتين فصح ووضح بذلك أن التفرقة راجعة إلى معنى زائد على الجوهر وذلك هو العرض الذي ادعيناه

والسؤال الثاني منع حدوث الأعراض والدليل على حدوث الأعراض أنا نرى الأعراض المتضادة تتعاقب على محالها فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ونعلم حدوث السابق منها من حيث عدمت إذ لو كانت قديمة لاستحال عدمها لأن القدم ينافي العدم وإن ما ثبت له القدم استحال عليه العدم والدليل على استحالة تعري الجواهر عن الأعراض أن الجواهر شاغلة للأحياز والجواهر الشاغلة للأحياز غير مجتمعة ولا مفترقة بحال بل باضطرار يعلم أنها لا تخلو عن كونها مجتمعة أو مفترقة وذلك يقضي باستحالة خلوها عن الاجتماع والافتراق وكذلك نعلم ببديهة العقول استحالة تعري الأجرام عن الاتصاف بالتحرك والسكون واللبث في المحال والزوال والانتقال وكل ذلك يوضح استحالة تعري الجواهر عن الأعراض

والدليل على استحالة حوادث لا أول لها أن حقيقة الحادث ماله أول وإذن كان حقيقة كل حادث أن يكون له أول فبان كثرة الحوادث لا تخرج عن حقيقتها فيكون للكل أول وهذا كالجوهر فإن حقيقة الجوهر كونه متحيزا فبالكثرة لا يخرج عن حقيقته ويكون الكل متحيزا فكذلك ههنا إذا ثبتت الأعراض وثبت حدوثها وثبت استحالة تعري الجواهر عنها وبطل قول الدهري بأن الحوادث لا أول لها فيترتب على ذلك أن الجواهر لا تسبق الأعراض الحادثة وما لا يسبق الحادث حادث على الاضطرار من غير حاجة إلى نظر وافتكار والدليل على أن العالم له صانع

أنه قد صح حدوث العالم بالدلالة التي ذكرناها والحادث جائز الوجود إذا يجوز تقدير وجوده بدلا عن عدمه ويجوز تقدير عدمه بدلا عن وجوده فلما اختص بالوجود الممكن بدلا عن العدم الجائز افتقر إلى مخصص وهو الصانع تعالى ويستحيل أن يكون مخصص العالم طبيعة كما صار إليه الطائعيون ويستحيل أن يكون علة موجبة كما صار إليه الأوائل لأن تلك الطبيعة لا تخلو إما أن تكون قديمة أو حادثة فإن كانت قديمة لزم قدم آثارها فإن الطبيعة عند مثبتها لا اختيار لها وهي موجبة آثارها عند ارتفاع الموانع وقد صح حدوثها

وإن كانت الطبيعة حادثة افتقرت إلى طبيعة أخرى ثم الكلام في تلك الطبيعة كالكلام في تلك الطبيعة كالكلام في هذه الطبيعة وينساق هذا القول إلى إثبات حوادث لا أول لها وقد تبين بطلان ذلك فوضح بذلك أن مخصص العالم صانع مختار موصوف بالاقتدار والاختيار

2 -

الله وصفاته
11 -
 فصل
صانع العالم أزلي الوجود قديم الذات لا مفتتح لوجوده ولا مبتدأ لثبوته والدليل عليه أنه تعالى لو كان حادثا لشارك الحوادث في الافتقار إلى محدث ثم الكلام في محدثه ينزل منزلة الكلام فيه ويتسلسل القول ويؤدي ذلك إلى إثبات حوادث لا أول لها وقد سبق بطلان ذلك
فصل
صانع العالم حي عالم بجميع المعلومات قادر على جميع المقدورات فإنا ببداهة العقول تعلم استحالة صدور الأفعال من العاجز عنها وكذلك يستيقن كل لبيب أن الأفعال المحكمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإتقان وإحكام لا تصدر إلا من عالم بها ومن جوز صدور خط منظوم على ترتيب معلوم من غير عالم بالخط كان من المعقول خارجا وفي تيه الجهل والجا وإذا ثبت كون صانع العالم عالما قادرا فبالاضطرار يعلم كونه حيا إذ يستحيل أن يتصف بالعلم والقدرة ميت أو جماد وتجويز ذلك مراغمة وعناد

فصل صانع العالم مريد على الحقيقة عند أهل الحق وأنكر الكعبي كونه مريدا على الحقيقة وزعم أنه تعالى لو وصف بكونه مريدا لأفعال نفسه فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها ولو وصف بكونه مريدا لبعض أعمال العباد فالمراد بذلك أنه أمر بها وزعم أن كون الإله عالما بوقوع الحوادث في أوقاتها على خصائص صفاتها يغني عن تعلق الإرادة بها وهذا باطل إذ لو أغنى كونه عالما عن كونه مريدا لأغنى كونه عالما عن كونه قادرا وليس كذلك وأيضا قد وافقونا على افتقار أفعال المحدثين إلى إرادتهم

ذهب معتزلة البصرة إلى أن الباري تعالى مريد بإرادة حادثة ثابتة لا في محل والذي قالوه باطل لأن الحوادث إنما افتقرت إلى إرادة لحدوثها ولو كانت الإرادة حادثة لافتقرت أيضا إلى إرادة أخرى لحدوثها ثم يؤدي إثبات ذلك إلى إثبات إرادات لا نهاية لها فإذا بطلت هذه المذاهب لم يبق بعد ذلك إلا القطع بما صار إليه أهل الحق من وصف الباري سبحانه وتعالى بكونه مريدا بإرادة قديمة أزلية

فصل
صانع العالم سميع وبصير متكلم إذ قد ثبت كونه حيا والحي لا يخلو عن الاتصاف بالسمع والبصر والكلام وأضدادها وأضداد هذه الصفات نقائص والرب سبحانه وتعالى يتقدس عن سمات النقص فصل الرب سبحانه وتعالى باق واجب الوجود إذ قد ثبت بما قدمناه قدمه والقديم يستحيل عدمه باتفاق من العقلاء وذلك يصرح بكونه باقيا 119و مستمر الوجود
فصل
صانع العالم واحد عند أهل الحق والواحد الحقيقي هو الشيء الذي لا ينقسم والدليل على وحدانية الإله أنا لو قدرنا إلهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين وإرادة الثاني للثاني فلا يخلو من أمور ثلاثة إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ إرادتهما أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر واستحال أن تنفذ إرادتهما لاستحالة اجتماع الضدين واستحال أيضا ألا تنفذ إرادتهما لتمانع الإلهين وخلو المحل عن كلا الضدين

فإذا بطل القسمان تعين الثالث وهو أن تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر فالذي لا تنفذ إرادته فهو المغلوب المقهور المستكره والذي نفذت إرادته فهو الإله القادر على تحصيل ما يشاء فإن قيل لم لا يجوز أن يتوافقا أبدا ولا يختلفا قط قلنا إن لم نجوز اختلافهما في الإرادة كان محالا إذ وجود أحدهما ووجود صفاته يستحيل أن يمنع الثاني من أن يريد ما يصح إرادته عند تقدير الانفراد والعاجز منحط عن رتبة الربوبية وذلك مضمون قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا أي لتناقضت أحكامهما عند تقدير القادرين على الكمال فصل القديم الباري سبحانه وتعالى عالم بعلم قديم قادر بقدرة قديمة حي بحياة قديمة

وذهب لمعتزلة إلى أن الباري تعالى عن قولهم حي عالم قادر بنفسه وليس له قدرة ولا علم ولا حياة دليلنا في المسألة أن نقول قد تقرر في العقول أن ما يعلم به المعلوم علم فلو علم الباري تعالى المعلوم بنفسه لكان نفسه علما إذ كل متعلق بمعلوم تعلق إحاطة به علم وقد تحكمت المعتزلة في صفات الباري تعالى فزعمت أنه عالم حي قادر بنفسه مريد بإرادة حادثة فلو عكس عاكس ما قالوه وزعم أنه عالم بعلم حادث مريد بنفسه لم يجدوا بين ما اعتقدوه وبين ما ألزموه فصلا فإن قالوا لو كان الباري تعالى مريدا بنفسه لكان مريدا لكل مراد

كما أنه تعالى لما كان عالما بنفسه كان عالما بكل معلوم قلنا هو باطل على فساد مذهبكم ومعتقدكم بكون الباري تعالى قادرا فإن ذلك من صفات النفس عندكم ثم يختص كون الإله قادرا عندكم ببعض المقدورات ولا يتصف الرب عز و جل بالاقتدار على مقدورات العباد وقد صرحت نصوص من كتاب الله تعالى بإثبات الصفات منها قوله تعالى وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وقال عز من قائل أنزله بعلمه وقال سبحانه متمدحا مثنيا على نفسه إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين

أثبت لنفسه القوة وهي القدرة باتفاق المفسرين

فصل
وقد ذكرنا أن الباري تعالى متكلم فاعلم أن كلامه قديم أزلي لا مبتدأ لوجوده وذهب المعتزلة والنجارية والزيدية والإمامية والخوارج إلى أن كلام الله تعالى حادث 119 -وامتنعت طوائف من هؤلاء من إطلاق القول بكونه مخلوقا فسموه حادثا ومحدثا وأطلق المتأخرون من المعتزلة قولهم بكونه مخلوقا والدليل على قدم كلام الله تعالى أنه لو كان حادثا لم يخل من أمور ثلاثة

إما أن يقوم بذات الباري تعالى أو يقوم بجسم من الأجسام أو يقوم لا بمحل بطل قيامه به إذ يستحيل قيام الحوادث بذات الباري تعالى فإن الحوادث لا تقوم إلا بحادث وبطل قيام كلامه بجسم إذ يلزم أن يكون المتكلم ذلك الجسم ويبطل قيام الكلام لا بمحل فإن الكلام الحادث عرض من الأعراض ويستحيل قيام الأعراض بأنفسها إذ لوجاز ذلك في ضرب منها لزم في سائرها فصل الكلام الحقيقي شاهدا حديث النفس

وهو الذي تدل عليه العبارات المتواضع عليها وقد تدل عليه الخطوط والرموز والإشارات وكل ذلك أمارات على الكلام القائم بالنفس ولذلك قال الأخطل إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن الشواهد على ذلك من كتاب الله عز و جل في الإخبار عن المنافقين قوله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية ونحن نعلم أن الله تعالى لم يكذبهم في إقرارهم وإنما يكذبهم فيما تجنه سرائرهم و تكنه ضمائرهم

إذا ثبت أن القائم بالنفس كلام وليس هو حروفا منتظمة ولا أصواتا مقطعة من مخارج الحروف فليستيقن العاقل أن الكلام القديم ليس بحروف ولا أصوات ولا ألحان ولا نغمات فإن الحروف تتوالى وتترتب ويقع بعضها مسبوقا ببعض وكل مسبوق حادث

فصل
وكلام الله تعالى مقروء بألسنة القراء محفوظ بحفظ الحفظة مكتوب في المصاحف على الحقيقة والقراءة أصوات القارئين ونغماتهم

وهي من الأفعال التي يؤمر بها وينهي عنها ويثاب المكلف عليها وقد يعاقب على تركها وكلام الله تعالى وهو المعلوم المفهوم منها والحفظ صفة الحافظ والمحفوظ كلام الله عز و جل والكتابة أحرف منظومة وأشكال مرقومة وهي حوادث والمفهوم منها كلام الله تعالى كما أن الله تعالى مكتوب معلوم مذكور وهو غير ذكر الذاكرين وعلم العالمين وكتابة الكاتبين

باب ذكر ما يستحيل في أوصاف الباري تعالى يشتمل على فصول
وجملة القول فيه أن كل ما يدل على الحوادث وعلى سمة النقص فالرب يتعالى ويتقدس عنه وهذه الجملة 120و تتبين بفصول تشتمل على تفصيلات منها أن الرب تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة لا تحيط به الأقطار ولا تكتنفه الأقتار ويجل عن قبول الحد والمقدار

والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها متحيز وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر فإذا ثبت تقدس الباري عن التحيز والاختصاص بالجهات فيرتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان وملاقاة أجرام وأجسام فإن سئلنا عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قلنا المراد ب الاستواء القهر والغلبة والعلو ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له ومنه قول الشاعر قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق

فصل
الرب سبحانه وتعالى يتقدس عن قبول الحوادث وانفق على ذلك أهل الملل والنحل وخالف إجماع الأمة طائفة نبغوا من سجستان لقبوا بالكرامية فزعموا أن الحوادث تطرأ على ذات الباري تعالى عن قولهم وهذا نص مذهب المجوس والدليل على استحالة قيام الحوادث بذات الباري تعالى أنها لو قامت به لم يخل عنها وما لم يخل عن الحوادث حادث
إرادة الله وإرادة العبد
فصل
الحوادث
كلها تقع مرادة لله تعالى نفعها وضرها وخيرها وشرها وذهبت المعتزلة ومن تبعهم من أهل الأهواء إلى أن الواجبات والمندوبات من الطاعات مرادة لله تعالى وقعت أو لم تقع والمعاصي والفواحش تقع والله تعالى كاره لها غير مريد لوقوعها وهي تقع على كره والمباحات وما لا يدخل تحت التكليف من أفعال البهائم والمجانين تقع وهو لا يريدها ولا يكرهها وإذا دللنا على أن الرب سبحانه وتعالى خالق لجميع الحوادث فيترتب على ذلك أنه مريد لما خلق قاصد إلى إبداع ما اخترع

ثم نقول قد قضت العقول بأن قصور الإرادة وعدم نفوذ المشيئة من أصدق الأمارات الدالة على سمات النقص والاتصاف بالعجز والقصور ومن ترشح للملك ثم كان لا ينفذ مراده في أهل مملكته عد ضعيف المنة ومضاع الفرصة فإذا كان ذكل يزري على من ترشح للملك فكيف يجوز ذلك في صفة ملك الملوك ورب الأرباب فإن قالوا الرب سبحانه وتعالى قادر على أن يرد الخلائق إلى طاعته قهرا وقسرا ويظهر آية تظل رقاب الجبابرة لها خاضعة

قلنا من فاسد أصلكم أنه لا يجوز في حكمه إجبار الخلائق على الطاعات واضطرارهم إلى الخيرات ولا يريد منهم الإيمان إجبارا وإنما يريده منهم اختيارا فما يريده لا يقدر عليه وما لا يقدر عليه لا يريده وقد أجمع سلف الأمة وخلفها على كلمة لا يجحدها معتز إلى الإسلام وهي قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والآيات الشاهدة لأهل الحق لا تحصى كثرة ومنها قوله تعالى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى 120ظ ومنها قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ومنها قوله تعالى ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة . . . إلى آخر الآية

فإن احتجوا بقوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر فالجواب أن نقول أراد الله تعالى بالعباد الموفقين لطاعته المخلصين لعبادته وهو مثل قوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله وإنما أراد الأولياء الأتقياء من العباد الذين لم يرد لهم الرب الكفر لم يكفروا وربما يحتجون بقوله تعالى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء إلى قوله . . . حتى ذاقوا بأسنا ووجه الدليل من الآية أن الله رد على الكفار قولهم لو شاء الله ما أشركنا

فالجواب أن نقول الله تعالى إنما رد عليهم لأنهم قالوا ما قالوه مستهزئين مما راه في الحق وردا لحجة الله تعالى والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر الآية قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

4 -

رؤية الله
فصل
مذهب أهل الحق أن الباري تعالى مرئي ويجوز أن يراه الراؤون بالأبصار وذهب المعتزلة إلى أنه سبحانه وتعالى يستحيل أن يرى وصار الأكثرون منهم إلى أن الباري تعالى لا يرى نفسه والدليل على جواز الرؤية عقلا أن الرب سبحانه وتعالى موجود وكل موجود مرئي وبيان ذلك أنا نرى الجواهر والألوان شاهدا

فإن رئي الجوهر لكونه جوهرا لزم ألا يرى الجوهر وإن رئيا لوجودهما لزم أن يرى كل موجود والباري سبحانه وتعالى موجود فصح أن يرى فإن قالوا إنما يرى ما يرى لحدوثه والرب تعالى أزلي قديم الذات فلا يرى فالجواب من وجهين أحدهما أن نقول كلامكم هذا نقض عليكم لجواز رؤية الطعوم والروائح والعلوم وخوها فإنها حوادث وعندكم يستحيل أن نرى ثم الجواب الحقيقي أن نقول

ثم الحدوث ينبئ عن موجود مسبوق بعدم والعدم السابق لا يصحح الرؤية فانحصر التصحيح في الوجود فدل على أن كل موجود صح أن يرى ويستدل على جواز الرؤية وأنها ستكون في الجنان وعدا من الله صدقا وقولا منه حقا بقوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة والنظر إذا عدي ب إلى اقتضى رؤية البصر فإن عارضونا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار قلنا فمن أصحابنا من قال الرب تعالى يرى ولا يدرك فإن الإدراك ينبئ عن

الإحاطة ودرك الغاية والرب تعالى مقدس عن الغاية والنهاية فإن عارضونا بقوله تعالى في جواب موسى عليه السلام لن تراني فزعموا أن لن يقتضي النفي على التأييد قلنا هذه الآية من أوضح الأدلة على جواز الرؤية فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جوازها ضالا أو كافرا وكيف يعتقد 121و ومالا يجوز على الله تعالى من اصطفاه الله تعالى لرسالته واجتباه لنبوته وخصصه بتكريمه وشرفه بتكليمه وجعله أفضل أهل زمانه وأيده ببرهانه ويجوز على الأنبياء الريب في أمر يتعلق بعلم الغيب أما ما يتعلق بوصف الباري عز وعلا فلا يجوز الريب عليهم

فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسى عليه السلام جوازه جائز لكن ظن أن ما اعتقد جوازه يجيبه إليه ناجزا فيرجع النفي في الجواب إلى السؤال وما سأل موسى عليه السلام ربه رؤية في الدنيا لينصرف النفي إليها والجواب نزل على قضية الخطاب

5 -

الرب والخلق
فصل
الرب سبحانه متفرد بخلق المخلوقات فلا خالق سواه ولا مبدع غيره وكل حادث فالله تعالى محدثه وقالت المعتزلة المحدثون يخترعون أفعالهم بقدرهم ويخلقونها والرب سبحانه وتعالى غير موصوف بالاقتدار على أفعال العباد والدليل على تفرد الرب تعالى بالخلق قوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى تمدح بالخلق وأثنى على نفسه بذلك ولو شاركه فيه

غيره لبطلت فائدة التمدح وكذلك يستدل بقوله تعالى خالق كل شيء فاعبدوه وقوله تعالى قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ثم الدليل من حيث العقل على أن الرب تعالى منفرد بالإيجاد والاختراع أن الأفعال دالة على علم فاعلها والأفعال الصادرة من العباد لا يحيطون بمعظم صفاتها ولو كانوا خالقين لها لكانوا محيطين بجملة صفاتها فصل العبد غير مجبر على أفعاله بل هو قادر عليها مكتسب لها والدليل على إثبات القدرة للعبد أن العاقل يفرق بين أن ترتعد يده وبين أن يحركها قصدا ومعنى كونه مكتسبا أنه قادر على فعله وإن لم تكن قدرته مؤثرة في إيقاع المقدور وذلك بمثابة الفرق بين ما يقع مرادا وبين ما يقع غير مراد وإن كانت الإرادة لا تؤثر في المراد

فصل
لا يجب على الله تعالى شيء وما أنعم به فهو فضل منه وما عاقب به فهو عدل منه ويجب على العبد ما يوجبه الله تعالى عليه ولا يستفاد بمجرد العقول وجوب شيء بل جميع الأحكام المتعلقة بالتكاليف متلقاة من قضية الشرع وموجب السمع والدليل على أنه لا يجب على الله شيء أن حقيقة الواجب ما يستوجب اللوم بتركه والرب سبحانه وتعالى يتعالى عن التعرض لذلك والذي يوضح ذلك أن طاعات المكلفين تجب عند المعتزلة شكرا لله تعالى على ما أولاه من آلائه فإن كانت الطاعات واجبة عوضا من النعم يستحيل أن يستحق مؤدي الواجب ثوابا ولو جاز أن يستحق العبد على أداء الواجب عوضا لجاز أن يستحق الرب على الثواب شكرا وإن كان مستحقا

فصل

القول في إثبات النبوات
لله تعالى أن يرسل الرسل ويبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين وأنكرت البراهمة النبوة ومنعوا جواز انبعاث الرسل وقالوا إن جاءت الرسل بما يدرك عقلا لم يكن في إرسالهم فائدة وكان في قضايا العقل مندوحة عن غيرها وإن جاءت الرسل بما لا يدرك عقلا فلا يقبل ما يخالف العقل قلنا الشرع يرشد إلى ما لا يستدرك بمحض العقول ولا يرد بما يقضي العقل بخلافه وإذا لم يكن في إرسال الرسل استحالة أو خروج عن الحقيقة فيجب الحكم بجوازه

6 -

الرسالة والنبوة والمعجزة
فصل
إنما يثبت صدق مدعي النبوة بالمعجزات وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة 121ظ المستمرة وظاهرها على حسب دعوى النبوة هو تحديه ويعجز عن الإتيان بأمثالها الذين يتحداهم النبي ووجه دلالتها على صدق النبي أنها تنزل منزلة التصديق بالقول ونظيرها في الشاهد أن يتصدى ملك للناس ويأذن لهم بالولوج عليه فلما احتفوا به وأخذ كل مجلسه قام لأهل الجمع قائم وقال يا أيها الملأ إني رسول الله إليكم وقد ادعيت الرسالة بمرأى منه ومسمع وآية الرسالة أن الملك يخالف عادته ويقوم ويقعد إذا استدعيته

ثم يقول يا أيها الملك صدقني وقم واقعد فإذا فعل الملك ما استدعاه منه كان ذلك تصديقا نازلا منزلة قوله صدقت فصل الدليل على ثبوت نبوة نبينا محمد عليه الصلاة و السلام المعجزات ومن آياته القرآن وفيه وجوه من الإعجاز منها ما اختص به من الجزالة والنظم الخارج عن جميع أساليب أوزان كلام العرب وتحدى العرب بأن يعارضوا سورة منه وذكر أنهم لو عارضوها لبطلت دعواه وانكف عن التعرض لهم فحاولوا معارضته وهم اللد البلغاء واللسن الفصحاء في نيف وعشرين سنة فلم يتأت لهم معارضة

من وجوه الإعجاز إشتمال القرآن على قصص الأولين مع القطع بأن النبي عليه السلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ولم يعهد في جميع زمانه متعاطيا لدراسة كتب الأولين وتعملها ولم يسبق له نهضة يتوقع في مثلها دراسة الكتب ثم اشتمل القرآن على غيوب متعلقة بالمستقبل كما اتفق إنباء القرآن عنها

فصل
ولرسول الله عليه السلام آيات و معجزات سوى القرآن كانفلاق القمر وتسبيح الحصى وإنطاق العجماء ونبع الماء من بين الأصابع ونحوها فصل كل ما جوزه العقل وورد به الشرع وجب القضاء بثبوته فمما ورد الشرع به

عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ورد الروح إلى الميت في قبره ومنها الصراط والميزان والحوض والشفاعة للمذنبين كل ذلك حق والجنة والنار مخلوقتان في وقتنا قال الله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين

7 -

الإمامة
فصل
إمامة المسلمين
وأمير المؤمنين من بعد رسول الله عليه الصلاة و السلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر الفاروق بعده ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وما نص النبي عليه السلام على إمامة أحد بعده وتوليته إذا لو نص على ذلك لظهر وانتشر كما اشتهرت تولية رسول الله سائر ولاته وكما اشتهر كل أمر خطير

وإذا ثبت أن الإمامة لم تثبت نصا لأحد دل أنها ثبت أختيارا ثم المسلمون أجمعوا على إمامة أبي بكر رضي الله عنه وانقادوا بأجمعهم له من غير مخالفة وكذلك جرى الأمر في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومعاوية وإن قاتل عليا فإنه كان لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه وإنما كان يطلب قتلة عثمان رضي الله عنه ظانا أنه مصيب وكان مخطئا وعلي رضي الله عنهم وعنه 122 ومتمسك بالحق

فصل
الخلفاء الراشدون لما ترتبوا في الإمامة فالظاهر ترتيبهم في الفضيلة فخير الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين إذ المسلمون كانوا لا يقدمون

للإمامة أحدا تشهيا منهم وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره فصل لا يصلح للإمامة إلا من تجتمع فيه شرائط أحدها أن يكون قرشيا فإن رسول الله عليه السلام قال الأئمة من قريش والآخر أن يكون مجتهدا من أهل الفتوى وأن يكون ذا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الأمور وإيالتها وأن يكون حرا ورعا في دينه وكل هذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله عليه السلام وقد قال عليه السلام سنة الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا وكانت أيام الخلفاء هذا القدر والله الهادي