كتاب : معارج القدس في مدراج معرفة النفس
المؤلف : محمد بن محمد بن محمد الغزالي أبو حامد

مقدمة في معاني الالفاظ المترادفة على النفس وهي أربعة النفس والقلب والروح والعقل
أما النفس فتطلق بمعنيين أحدهما أن يطلق ويراد به المعنى الجامع للصفات المذمومة وهي القوى الحيوانية المضادة للقوى العقلية وهو المفهوم عند اطلاق الصوفية فيقال من أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك واليه الإشارة بقول نبينا عليه السلام أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك
والثاني أن يطلق ويراد به حقيقة الآدمي وذاته فإن نفس كل شيء حقيقته وهو الجوهر الذي هو محل المعقولات وهو من عالم الملكوت ومن عالم الأمر على ما نبين نعم تختلف أسماؤها باختلاف أحوالها العارضة عليها فإن اتجهت إلى صواب الصواب ونزلت عليها السكينات الآلهية وتواترت عليها نفحات فيض الجود الإلهي فتطمئن إلى ذكر الله عز و جل وتسكن إلى المعارف الإلهية وتطير إلى أعلى أفق الملكية فيقال نفس مطمئنة قال الله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وان كانت مع قواها

وجنودها في حراب وقتال وشجار ونزاع وكانت الحرب بينهما سجالا فتارة لها اليد عليها وتارة للقوى عليها اليد فلا تكون حالها مستقيمة فتارة تنزع إلى جانب العقول فتتلقى المعقولات وتثبت على الطاعات وتارة تستولي عليها القوى فتهبط إلى حضيض منازل البهائم فهذه النفس نفس لوامة وهذه النفس هي حالة أكثر الخلق فإن من ارتفع إلى أفق الملائكة حتى تحلى بالعلوم والفضائل النفسية والأعمال الحسنة فهو ملك جسماني لارتفاعه عن الإنسانية وعدم مشاركته للبشر إلا بالصورة التخطيطية ولهذا قال تعالى ماهذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم
ومن اتضع حتى صار في حضيض البهائم فلو تصور كلب أو حمار منتصب القامة متكلم لكان هو اياه لانسلاخه عن الفضائل الانسانية وعدم مشاركته للانسان إلا بالصورة التخطيطية وهذه هي النفس الأمارة بالسوء
فجلهم إذا فكرت فيهم ... حمير أو كلاب أو ذئاب
وهو من الأنس المذكورين في قوله تعالى شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يا أشباه الرجال ولا رجال فمثل هذه النفس تراه أبدا عبدا لحجر أو مدر أو بهيمة أو ضعينة وهذا هو الذي أخبر الله سبحانه عنه فقال إن النفس لأمارة بالسوء
أما القلب فيطلق أيضا بمعنيين أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في جوف الإنسان من جانب اليسار وقد عرف ذلك بالتشريح وهو مركب الدم الأسود ومنبع البخار الذي هو مركب الروح الطبي الحيواني

وهذا يكون لجميع الحيوانات وليس بخاص للانسان وهو الذي يفنى بالموت جميع الحواس بسببه
والثاني هو الذي نحن بصدد بيانه هو الروح الانساني المتحمل لأمانة الله المتحلي بالمعرفة المركوز فيه العلم بالفطرة الناطق بالتوحيد بقوله بلى فهو أصل الآدمي ونهاية الكائنات في عالم المعاد قال الله تعالى قل الروح من أمر ربي وقال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
وقال نبينا عليه السلام إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن الخ وحيثما ورد في الشرع القلب فيراد به ما نحن بصدد بيانه وان أطلق في موضع على اللحم الصنوبري فلأنه متعلقه الخاص وأول متعلقه كما قال النبي إن جوف ابن آدم لمضغة اذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد الا وهي القلب
أما الروح فيطلق ويراد به البخار اللطيف الذي يصعد من منبع القلب ويتصاعد إلى الدماغ بواسطة العروق أيضا إلى جميع البدن فيعمل في كل موضع بحسب مزاجه واستعداده عملا وهو مركب الحياة فهذا البخار كالسراج والحياة التي قامت به كالضوء وكيفية تأثيره في البدن ككيفية تنوير السراج أجزاء البيت ويطلق ويراد به المبدع الصادر من أمر الله تعالى الذي هو محل العلوم والوحي والالهام وهو من جنس الملائكة مفارق للعالم الجسماني قائم بذاته على ما نبين
ويطلق أيضا ويراد به الروح الذي في مقابلة جميع الملائكة وهو المبدع الأول وهو روح القدس

ويطلق أيضا ويراد به القرآن وعلى الجملة فهو عبارة عما به حياة ما على الجملة
أما العقل فيطلق ويراد به العقل الاول وهو الذي يعبر عنه بالعقل في قول النبي أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر أي أقبل حتى تستكمل بي وأدبر حتى يستكمل بك جميع العالم دونك وهو الذي قال الله تعالى له وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي ولا أفضل منك بك آخذ وبك أعطي الحديث وهو الذي يعبر عنه بالقلم كما قال عليه السلام ان أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال وما أكتب قال ما هو كائن الى يوم القيامة من عمل وأثر ورزق وأجل فكتب ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة
والاطلاق الثاني أن يطلق ويراد به النفس الإنسانية والإطلاق الثالث أن يطلق ويراد به صفة النفس وهو بالنسبة إلى النفس كالبصر بالنسبة إلى العين وهي بواسطته مستعدة لادراك المعقولات كما أن العين بواسطة البصر مستعدة لادراك المحسوسات وهو الذي قال رسول الله فيه عن ربه عزوجل وعزتي وجلالي لأكمننك فيمن أحببت
ونحن حيث أطلقنا في هذا الكتاب لفظ النفس والروح والقلب والعقل فنريد به النفس الانسانية التي هي محل المعقولات

بيان اثبات النفس على الجملة
النفس أظهر من أن تحتاج الى دليل في ثبوتها فان جميع خطابات الشرع تتوجه لا على معدوم بل على موجود حي يفهم الخطاب ولكن نحن نستظهر في بيانه فنقول من المعلوم الذي لا يرتاب فيه إن الأشياء مهما اشتركت في شيء وافترقت في شيء آخر فإن المشترك فيه غير المفترق فيه ونصادف كافة الأجسام مشتركة في أنها أجسام يمكن أن يفرض فيها أبعاد ثلاثة متقاطعة ثم نصادفها بعد ذلك مفترقة بالتحرك والادراك فإن كان تحركها لأجل جسميتها فينبغي أن يكون كل جسم متحركا لأن الحقائق لا تختلف وما يجب لنوع يجب لجميع ما يشاركه في ذلك النوع وتلك الحقيقة وان كان لمعنى وراء الجسمية فقد ثبت على الجملة مبدأ للفعل فذلك المبدأ هو النفس إلى أن يتبين انه جوهر أو عرض مثال ذلك أنا نرى الأجسام النباتية تغتذي وتنمو وتولد المثل وتتحرك حركات مختلفة من التشعيب والتعريق فهذه المعاني ان كانت للجسمية فينبغي أن تكون جميع الأجسام كذلك وان كانت لغير الجسمية بل لمعنى زائد فذلك المعنى يسمى نفسا نباتية ثم الحيوان فيه ما في النبات ويحس ويتحرك بالإرادة ويهتدي إلى مصالح نفسه وله طلب لما ينفع وهرب عما يضر فنعلم قطعا أن فيه معنى زائدا على الأجسام النباتية ثم نجد الانسان

فيه جميع ما في النبات والحيوان من المعاني ويتميز بادراك الأشياء الخارجة عن الحس مثل أن الكل أعظم من الجزء فيدرك الجزئيات بالحواس الخمس ويدرك الكليات بالمشاعر العقلية ويشارك الحيوان في الحواس ويفارقه في المشاعر العقلية فإن الانسان يدرك الكلي من كل جزئي ويجعل ذلك الكلي مقدمة قياس ويستنتج منه نتيجة فلا الادراك الكلي ينكر ولا المدرك لذلك يجحد ولا العرض ولا الجسم القابل لعرض ولا النبات ولا الحيوان غير الانسان يدرك الكلي حتى يقوم به الكلي فينقسم بأقسام الجسم إذ الكلي له وحده خاصة من حيث هو كلي لا ينقسم البتة فلا يكون للانسان المطلق الكلي نصف وثلث وربع فقابل الصورة الكلية جوهر لا جسم ولا عرض في جسم ولا وضع له ولا أين له فيشار إليه بل وجوده وجود عقلي أخفى من كل شيء عند الحس وأظهر من كل شيء للعقل فثبت بهذا وجود النفس وثبت على الجملة أنه جوهر وثبت أنه منزه عن المادة والصور الجسمانية
تقسيم يظهر فيه مباديء الأفعال
فنقول كل مبدأ يصدر منه فعل فاما أن يكون له شعور بفعله أو لم يكن فان لم يكن له شعور فأما أن يكون فعله متحدا على نسق واحد وإما أن يكون مختلفا وإن كان له شعور فاما أن يكون تعقل أو لم يكن فان كان له تعقل فاما أن يكون فعله متحدا على نسق واحد وإما أن يكون مختلفا فهذه خمسة أقسام فما كان فعله متحدا وليس له شعور فذلك المبدأ يسمى مبدأ طبيعيا كما في الأجسام الثقيلة من الهبوط وفي الخفيفة من الصعود وان كان فعله مختلفا وليس له شعور فهو النفس النباتي فان النبات يتحرك حركات مختلفة

وان كان له شعور وليس له تعقل فهو النفس الحيواني وان كان له تعقل ومع التعقل اختيار في الفعل والترك فهو النفس الإنساني وان كان له تعقل وفعله على نهج واحد غير مختلف فهو النفس الفلكي
رسوم النفوس الثلاثة
فنرسم النفوس الثلاثة بمراسمها فإن شرائط الحد الحقيقي متعذر الوجود ههنا بل وفي كل الموجودات
فنقول أما النفس النباتية فهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتغذى وينمو ويولد المثل
وأما النفس الحيوانية فهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة
وأما النفس الانسانية فهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفاعيل بالأختيار العقلي والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية
وقولنا الكمال الأول أي من غير واسطة كمال آخر لأن الكمال قد يكون أولا وقد يكون ثانيا
وقولنا لجسم طبيعي أي غير صناعي لا في الأذهان بل في الأعيان
وقولنا آلي أي ذي آلات يستعين بها ذلك الكمال الأول في تحصيل الكمالات الثانية والثالثة ولفظ الكمال أولى من لفظ القوة لأن القوة تكون بالنسبة إلى ما يصدر عنها من الأفعال أو بالقياس إلى ما تقبله من الصور المحسوسة والمعقولة واطلاق لفظ القوة عليهما يكون باشتراك الاسم فيكون الحد مشتملا على لفظ مشترك وإن عني بالحد أحدهما كان الحد ناقصا

ولفظ الكمال يشمل القوتين بالتواطؤ فهو أولى فان قيل إنه صورة كان ذلك بالاضافة إلى المادةالتي تحلها فيجتمع منهما جوهر نباتي أو حيواني
ولفظ الكمال بالقياس إلى جملة الجواهر ولاستكمال الجنس به نوع محصل في الأنواع وهو نسبة الخاص إلى الشيء العام الغير البعيد من جوهره فهو أولى من لفظ الصورة ويجب أن يعلم أنه إذا قيل نفس أي اطلق على صورة الفلك وعلى صورة النبات والحيوان والانسان فإنما يقال باشتراك الاسم فان النفوس الفلكية ليست تفعل بآلات ولا الحياة فيها حياة التغذي والنمو ولا احساسها احساس الحيوان ولا نطقها نطق الانسان

بيان أن النفس جوهر وذلك ثابت من جهة الشرع والعقل
أما الشرع فجميع خطابات الشرع تدل على أن النفس جوهر وكذلك العقوبات الواردة في الشرع بعد الممات تدل على أن النفس جوهر فان الألم وإن حل بالبدن فلأجل النفس ثم للنفس عذاب آخر يخصه وذلك كالخزي والحسرة وألم الفراق وكذلك ما يدل على بقائه على ما سنبين فيما بعد إن شاء الله تعالى
وأما من حيث العقل فمن وجهين وجه عام يمكن اثباته مع كل أحد ووجه خاص يتفطن له أهل الخصوص والانصاف
أما الأول فهو أن يعلم أن حقيقة الانسان ليس عبارة عن الجسم فحسب فانه انما يكون انسانا إذا كان جوهرا وأن يكون له امتداد في أبعاد تفرض طولا وعرضا وعمقا وأن يكون مع ذلك ذا نفس وأن تكون نفسه نفسا يغتذي بها ويحس ويتحرك بالإرادة ومع ذلك يكون بحيث يصلح لأن يتفهم المعقولات ويتعلم الصناعات ويعملها إن لم يكن عائق من خارج لا من جهة الانسانية فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها ذات واحدة هي ذات الانسان فاذا ثبت بهذا أن حقيقة الانسان لا تكون عرضا لأن الأعراض يجوز أن

تتبدل والحقيقة بعينها باقية فان الحقائق لا تتبدل فإذا ما هو ثابت فيك مذ كنت فهو نفسك ومايطرأ عليك ويزول فهو الأعراض
وأما الوجه الثاني وهو البيان الخاص فهو الذي يصلح لأهل الفطانة ومن فيه لطف الفهم والاصابة فهو انك إذا كنت صحيحا مطرحا عنك الآفات مجنبا عنك صدمات الهوى وغيرها من الطوارق والآفات فلا تتلامس أعضاؤك ولا تتماس أجزاؤك وكنت في هواء طلق أي معتدل ففي هذه الحالة أنت لا تغفل عن إنيتك وحقيقتك بل وفي النوم أيضا فكل من له فطانة ولطف وكياسة يعلم أنه جوهر وانه مجرد عن المادة وعلائقها وانه لا تعزب ذاته عن ذاته لأن معنى التعقل حصول ماهية مجردة للعاقل وذاته مجردة لذاته فلا يحتاج إلى تجريد وتقشير وليس ههنا ماهية ثم معقولية بل ماهيته معقوليته ومعقوليته ماهيته وهذه نكتة نفيسة عظيمة وستقف عليها ان شاء الله اشرح من هذا
ثم الدليل على صحة هذا البيان الخاص أنه لو لم يكن المدرك والمشعور به هو حقيقتك أي نفسك بل يكون هو البدن وعوارضه لكان لا يخلو إما ان يكون الشعور به جملة بدنك أو بعضه وبطل أن تكون الجملة لأن الانسان في الفرض المذكور قد يكون غلا عن جملة البدن وهو مدرك نفسه وان كان بعضا منه فلا يخلو إما أن يكون ظاهرا أو باطنا فان كان ظاهرا فهو مدرك بالحس والنفس غير مدركة بالحس كيف ونحن في الفرض المذكور قد أغفلنا الحواس عن أفعالها وفرضنا أن الاعضاء لا تتماس وان كان النفس والذات عضوا باطنا من قلب أو دماغ فلا يجوز أيضا لأن الأعضاء الباطنة انما يوصل اليها بالتشريح فثبت أن مدركك ليس شيئا من هذه الأشياء فانك قد لا تدركها وتدرك ذاتك ضرورة فما ألجئت إلى ادراكه ضرورة لا يكون قطعا ما لا يدرك إلا بالنظر فاذا ثبت بهذا أن ذاتك ليس من عداد ماتدركه بالحس أو مما يشبه الحس بوجه من الوجوه

زيادة ايضاح من جهة الادراك
فنقول إنك تدرك في جميع الأحوال ذاتك فماذا تدرك فإنه لا بد من مدرك فلا يخلو إما أن يكون أحد مشاعرك ظاهرا أو عقلك أو قوة غير مشاعرك فإن كان عقلك فلا يخلو إما أن يكون ذلك الادراك بوسط أو بقياس أو بقوة متوسطة بين الادراك والنفس أو بغير وسط وما أظنك تفتقر في ذلك الى وسط فإنه لو كان ثم وسط لما أدركت ذاتك 4فانه لا وسط بين ذاتك وشعورك بذاتك فبقي أن تدرك بغير وسط واذا كان كذلك فلا يخلو إما أن يكون ذلك الادراك بمشاعرك أو بذاتك ولا يتصور أن يكون بمشاعرك فإن الحواس لا تدرك إلا الأجسام وما يتعلق بالأجسام من الألوان والنغمات وغير ذلك فبقي أنك تدرك ذاتك بذاتك فمن هذا ثبت أنك جوهر مفارق
وهذا البيان الخاص إما ضائع وإما قاطع ضائع للمغفلين الذين لم يلحظوا إلا بعين السخط فإن من يلحظ مقدمة بعين السخط كان الشك أسرع اليه من الماء الى الحدور أما للمستبصرين فهو قاطع
فإن قال قائل إنما أثبت ذاتي بوسط وذلك الوسط هو فعل من أفعالي فأستدل بأفعالي على وجود النفس فالجواب عن هذا من وجهين أحدهما ان هذا لا يتمشى في الفرض المذكور فانا جعلناك بمعزل عن الأفعال ومع هذا تثبت ذاتك وانيتك والثاني ان هذا الفعل إما ان تثبته فعلا مطلقا فيجب ان تثبت به فاعلا مطلقا لا نفسك وان أثبته فعلا مطلقا فيجب ان تثبت به فاعلا مطلقا لا نفسك وإن اثبته فعلك وخصصته بالاضافة فقد اثبت اولا نفسك وادركت اولا ذاتك فإنك اخذت ذاتك جزءا من فعلك والشعور بالجزء قبل الشعور بالكل اولا اقل من ان يكون معه فذاتك إذا مثبتة معه او قبله لا به وهذا فصل لطيف يبتنى عليه باب من المعرفة شريف كما سنذكر ان شاء الله تعالى

بيان أن النفس ليس لها مقدار ومساحة ولا تدرك حسا ولا يدركها جسم وأن إدراكها لا يكون بآلات جسمانية في حال
وهذا أدق واعصى على الأذهان الزائغة عن الجادة الآلفة بالخيالات والموجودات الحسية ولنا أن نتوسل إلى هذا المقصود ببراهين قاطعة ودلائل واضحة

البرهان الأول
أن نقول معلوم إنا نتلقى المعقولات وندرك الأشياء التي لا تدخل في الحس والخيال والمعقول متحد فلوحل في منقسم لانقسم المتحد وهذا محال وتحقيقه هو أنه لو كان النفس ذا مقدار وحل فيه معقول فأما أن يحل في شيء منقسم أو في شيء غير منقسم ومعلوم أن غير المنقسم انما هو طرف الخط وهو نهاية مالا تميز لها في الوضع عن الخط والمقدار الذي هي متصلة به حتى يستقر فيها شيء من غير أن يكون في شيء من ذلك الخط بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها وانما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار كذلك انما يجوز أن يقال بوجه ما أنه يحل فيها طرف شيء حال في المقدار الذي هي طرفه متقدر بالعرض فكما أنه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات

وكانت النقطة حينئذ ذات جهتين جهة منها تلي الخط وجهة منها مخالفة له مقابلة فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه
والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد ويؤدي هذا إلى أن تكون النقطة متشافعة في الخط إما متناهية وإما غير متناهية وهذا أمر قد بان في موضعه استحالته ونشير إلى رمز منه فنقول إن النقطتين حينئذ اللتين تطبقان بنقطة واحدة من جنبتيها إما أن تكون هذه النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأولية أن يكون كل واحدة منهما يختص بشيء من الوسطى يماسه فتنقسم حينئذ الوسطى وهذا محال وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط وجميع النقط كنقطة واحدة وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة المنفصلة عن الخط فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف ونهاية بها ينفصل عنها فتلك النقطة تكون مباينة لهذه في الوضع
وقد وضعت النقط كلها مشتركة في الوضع هذا خلف فقد بطل إذا أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم فبقي أن يكون من الجسم شيئا منقسما فلنفرض صورة معقولة في شيء منقسم فإذا فرضنا في الشيء المنقسم انقساما عرض للصورة أن تنقسم فحينئذ لايخلو إما ان يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين فاذا كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس بهما إلا أن يكون ذلك الشيء شيئا يحصل فيهما من جهة المقدار والزيادة في العدد لا من جهة الصورة فتكون حينئذ الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما وليس كل صورة معقولة شكلا وتصير حينئذ الصورة خيالية لا عقلية
وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال إن كل واحد من الجزأين هو بعينه الكل في المعنى لأن الثاني إذا كان غير داخل في معنى الكل فيجب أن نضع في الابتداء لمعنى الكل هذا الواحد لا كليهما وان كان داخلا في معناه فمن البين

الواضح أن الواحد منهما وحده ليس يدل على نفس معنى التمام وان كانا غير متشابهين فلينظر كيف يمكن أن تكون الصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة فإنه ليس يمكن أن تكون الاجزاء الغير المتشابهة إلا أجزاء الحد التي هي الأجناس والفصول ويلزم من هذا محالات منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالقوة غير متناهية
وقد صح أن الأجناس والفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوة غير متناهية ولأنه ليس يمكن أن يكون توهم القسمة يفرز الجنس والفصل بل مما لا نشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تميزا في المحل أن ذلك التميز لا يتوقف على توهم القسمة فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل ايضا غير متناهية وقد صح أن الأجناس والفصول أو أجزاء الحد للشيء الواحد متناهية من كل وجه ولو كانت غير متناهية بالفعل ههنا لكانت توجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية بالفعل وأيضا لتكن القسمة وقعت من جهة فأفرزت من جانب جنسا ومن جانب فصلا فلو غيرنا القسمة كان يقع منها في جانب نصف جنس ونصف فصل أو كان ينقلب وكان فرضنا الوهمي يدور مقام الجنس والفصل فيه على أن ذلك أيضا لا يغني فانه يمكننا أن نوقع قسما في قسم وأيضا كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط فإن ههنا معقولات هي أبسط المعقولات ومبادىء التركيب في سائر المعقولات فليس لها لا أجناس ولا فصول ولا هي منقسمة في الكم ولا هي منقسمة في المعنى كالوحدة والعلة وغير ذلك فاذا ليس يمكن أن تكون الأجزاء المفروضة فيه أجزاء متشابهة كل واحد منها هو في معنى الكل وإنما يحصل الكل بالاجتماع فقط ولا أيضا يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم تبين أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم ولا أيضا قوة في جسم فيلحقه ما يلحق الجسم من الانقسام ثم يتبعه سائر المحالات

البرهان الثاني
أن نقول القوة العقلية هو ذات تجرد المعقولات عن الكم

المحدود والأين والوضع وسائر عوارض الجسم فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هي مجردة عنه أبالقياس إلى الشيء المأخوذ منه أو بالقياس إلى الشيء الآخذ أعني هذه الذات المعقولة تتجرد عن الوضع في الوجود الخارجي أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل ومحال أن يكون كذلك في الوجود الخارجي فبقي أن يكون انما هو مفارق للوضع والأين عند وجوده في العقل فإذا إذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع وبحيث يقع اليها إشارة تجزؤ وانقسام أو شيء مما أشبه هذا المعنى فلا يمكن أن يكون في جسم

البرهان الثالث
إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة التي لأشياء غير منقسمة في المعنى في مادة منقسمة ذات جهات فلا يخلو إما أن لا تكون لها ولا لشيء من أجزائها التي تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى الشيء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المتجرد عن المادة أو تكون تلك النسبة لكل واحد من أجزائها التي تفرض أو تكون لبعضها دون بعض فان لم يكن لشيء منها نسبة فليست لبعضها ولا لكلها لا محالة نسبة فينبغي أن لاتدرك وأن لا يكون بين هذا المعقول ومعقول آخر فرق وليس كذلك فانا نجد تفرقه ضرورية وان كان لبعضها دون بعض نسبة فالبعض الذي لا نسبة له ليس هو من معناه في شيء ويلزم أن يكون الشيء الواحد مجهولا ومعقولا بالقياس إلى البعضين وهذا محال وإن كان لكل جزء يفرض نسبة فإما أن تكون لكل جزء يفرض نسبة إلى الذات المعقول بأسرها أو إلى جزء من الذات المعقول فإن كان لكل جزء يفرض إلى الذات بأسرها نسبة فليست الأجزاء إذا أجزاء معنى المعقول بل كل واحد منها معقول في نفسه مفرد وان كان كل جزء له نسبة غير نسبة الآخر إلى الذات فمعلوم أن الذات منقسمة في المعقول وقد وضعناها غير منقسمة هذا خلف ومن هذا تبين أن الصورة المنطبعة في

المادة لا تكون إلا اشباحا لأمور جزئية منقسمة لكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة أو بالقوة إلى جزء منها
فان قيل منشأ التلبيس في هذا البرهان قولكم إن المعنى المعقول ان كان له نسبة إلى بعض الذات فيكون البعض الآخر ليس من معنى المعقول في شيء ونحن هكذا نقول فإن المدرك منا هو جزء وذلك الجزء لا ينقسم وهو المسمى بالجوهر الفرد
قلنا أنتم بين أمرين إما ان تقولوا نسبة المعقول إلى بعض منقسم أو إلى بعض غير منقسم فإن كاننسبته إلى بعض منقسم فاذا قسمنا يلزم انقسام المعقول ويعود البرهان الأول بعينه وان قلتم ينتسب إلى جزء لا ينقسم فكل جزء من الجسم منقسم وقد برهنا على ذلك وله براهين هندسية ليس ههنا موضع ذكرها

البرهان الرابع
أن نقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها انما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وان لا تعقل الآلة وان لا تعقل انها عقلت فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة وليس بينها وبين آلتها آلة ولا بينها وبين أنها عقلت آلة لكنها تعقل ذاتها وآلتها والتي تدعى آلتها وأنها عقلت فإذا تعقل بذاتها لا بالآلة وأيضا لا يخلو إما أن يكون تعقلها آلتها إما لوجود ذات صورة آلتها وإما أخرى مخالفة لها وهي صورة أيضا فيها وفي آلتها أو لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما التي كانت تعقل لوجود صورة آلتها وان كان لوجود صورة غير تلك الصورة فإن المغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد والأعراض وإما لاختلاف ما بين الكلي والجزئي والمجرد عن المادة والوجود في المادة وليس ههنا اختلاف مواد وأعراض فإن المادة واحدة والاعراض واحدة وليس ههنا

اختلاف بالتجريد والوجود في المادة فإن كليهما في المادة وليس ههنا اختلاف الخصوص والعموم لأن أحدهما انما يستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها وهذا المعنى لا يختص بأحدهما دون الآخر وأما ذات النفس فانها تدرك دائما وجودها لا شيئا من الأجسام التي معها وفيها ولا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى معقولة غير صورة آلتها فان هذا أشد استحالة لأن الصورة المعقولة إذا حلت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته أو لما تلك الصورة مضافة اليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضا صورة شيء مضاف اليها بالذات لأن ذات هذه الآلة جوهر ونحن انما نأخذ ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف البتة فهذا برهان عظيم على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك للآلة التي هي آلته في الإدراك ولهذا فان الحس انما يحس شيئا خارجيا ولا يحس ذاته ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصه بأنه لا محالة له دون غيره إلا أن يكون الحس يورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ إنما يحكي خيالا مأخوذا عن الحس غير مضاف عنده إلى شيء حتى لو لم تكن آلته كذلك لم يتخيله

البرهان الخامس
مركب من مجموع دلائل واضحة وشواهد لائحة من أحاط علما يقينيا تيقن قطعا أن النفس ليست بجسم ولا تحل الأجسام
وطريقه أن نقول إن النفس لو كانت جسما فلا يخلو إما أن تكون حالة في البدن أو خارجة البدن فإن كانت خارجة البدن فكيف تؤثر وتصرف في هذا الجسم وكيف يكون قوام البدن بها وكيف تتصرف في المعارف العقلية في الملك والملكوت فتعرف الأول الحق وتسافر في العرفان العقلي وتستوفي المعقولات في ذاتها وإن كانت حالة في البدن فلا يخلو إما أن تكون حالة بجميع البدن أو ببعضه فإن كانت حالة بجميع البدن فكان ينبغي إذا قطع

منه طرف أن تنتقص أو تنزوي وتنتقل من عضو إلى عضو فتارة تمتد بامتداد الأعضاء وتارة تتقلص بذبول الأعضاء وهذا كله محال عند من له غريزة صحيحة وفطنة مستقيمة طاهرة عن شوائب الخيال وان كانت حالة في بعض البدن فذلك البعض منقسم إما بالفعل أو بالفرض فينبغي أن تنقسم النفس إلى أن تنتهي بالأقسام إلى أقل شيء وأحقره وهذا معلوم إحالته على البديهة فكيف يكون كذلك حال النفس التي هي محل المعارف وبه شرف الانسان على جميع الحيوانات وهو المستعد للقاء الله تعالى وهو المخاطب وهو المثاب وهو المعاقب وهو الذي إذا زكاه الانسان أفلح وإذا دساه خاب وخسر وهو خلاصة الموجودات وزبدة الكائنات في عالم العود وهو الذي يبقى بعد موت البدن وهو الذي كان متحليا بالمعارف وصل إلى السعادة الأبدية فرحا مستبشرا بلقاء الله تعالى أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله فمن كان له أدنى مسكة من العقل يعلم أن الجوهر الذي هذا محله ومنزلته لا يكون حالا في البدن ولا يكون جزءا من البدن لا دم ولا بخار ولا مزاج ولا غيره وأيضا فإنك تعلم أن نفسك مذ كنت لم تتبدل ومعلوم أن البدن وصفات البدن كلها تتبدل إذ لو لم تتبدل لكان لا يغتذي لأن التغذي أن يحل بالبدن بدل ما تحلل فاذا نفسك ليس من البدن وصفاته في شيء
وأيضا لو كانت النفس الانسانية منطبعة في البدن لكان ضعف فعلها مع ضعف البدن لكنها لا تضعف مع ضعف البدن فثبت أنها غير منطبعة فيه ودليل عدم الضعف المشاهدة فإن بعد الأربعين تكون القوة البدنية في انحطاط والقوة العقلية في الزيادة والارتفاع

وأما الذي يتوهم من أن النفس تنسى ولاتفعل فعلها مع مرض البدن وعند الشيخوخة وان ذلك بسبب أن فعلها لا يتم إلا بالبدن فظن غير ضروري ولا حق وذلك أنه بعد ما صح لنا أن النفس تفعل بذاتها يجب أن يطلب السبب في هذا فان كان قد يمكن أن يجتمع أن للنفس فعلا بذاتها وانها أيضا تترك فعلها مع مرض البدن ولا تفعل من غير تناقض فليس لهذا الاعتراض اعتبار
فنقول إن النفس له فعلان فعل له بالقياس إلى البدن وهو السياسة وفعل بالقياس إلى ذاته وإلى مبادئه وهو التعقل وهما متعاندان متمانعان فإنه إذا اشتغل باحدهما انصرف عن الآخر ويصعب عليه الجمع بين الأمرين وشواغله من جهة البدن الاحساس والتخيل والشهوات والغضب والخوف والغم والوجع وأنت تعلم هذا بأنك إذا أخذت تفكر في معقول تعطل عليك كل شيء من هذه إلا أن تغلب وتقسر النفس بالرجوع الى جهاتها
وأنت تعلم أن الحس يمانع النفس عن التعقل إذا أكبت على المحسوس من غير أن يكون أصاب آلة التعقل أو ذاتها آفة بوجه وتعلم أن السبب في ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل فلهذا السبب ما يتعطل أفعال العقل عند المرض ولو كانت الصورة المعقولة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى اكتساب من الرأس وليس الأمر كذلك فإنه قد تعود النفس إلى ملكتها وهيأتها عاقلة بجميع ما عقلته بحاله فقد كانت إذا كلها معها إلا أنها كانت مشغولة عنه وليس اختلاف جهتي فعل النفس فقط يوجب في أفعاله التمانع بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب هذا بعينه فان الخوف يغفل عن الوجع والشهوة تصد عن الغضب والغضب يصرف عن الخوف والسبب في جميع ذلك واحد وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد وكلها قوى النفس الواحدة وهي ملكها والقوى رعيتها وجنودها فاذا ليس يجب اذا لم يفعل شيء فعله عند اشتغاله بحالة لشيء أن لا يكون فاعلا فعله إلا عند وجود ذلك الشيء

ولنا أن نتوسع في بيان هذا الباب لأن هذا الباب من أصعب أبواب النفس إلا أنه بعد بلوغ الكفاية ننسب الازدياد إلى تكلف ما لا نحتاج اليه فقد ظهر من أصولنا التي قررنا أن النفس ليست منطبعة في البدن ولا قائمة به فيجب أن تكون علاقتها مع البدن علاقة التدبير والتصرف والله تعالى ولي الهداية والتوفيق

القوى الحيوانية
والقوى الحيوانية تنقسم محركة ومدركة والمحركة إما أن تكون محركة على أنها باعثة على الفعل أو على أنها فاعلة والباعثة إما أن تكون على جذب النفع أو على دفع الضر والباعثة على جذب النفع هو الذي يعبر عنه بالشهوة وهو الذي اذا ارتسم في الخيال معنى يعلم أنه خبر عنده أو يظن يبعث القوة الفاعلة على جذب ذلك النفع
وأما الباعثة على دفع الضر فهي التي يعبر عنها بالغضب وهي القوة التي اذا ارتسم في الخيال ما يعلم أو يظن أنه يضر تبعث على تحريك يدفع به ذلك الضرر أو المؤذي طلبا للانتقام والغلبة
وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوطار والرباطات المتصلة بالأعضاء الى نحو جهة المبدأ أو ترخيها فتصير الأوطار والرباطات الى خلاف جهة المبدأ وهذه القوة هي التي يعبر عنها بالقدرة والباعثة هي الإرادة
وتحرير هذا هو أن كل فعل اختياري يدخل في الوجود فلا يدخل ما لم يأت إليه رسول القدرة وهو ذلك المعنى المودع في العضلات والقدرة لا تنبعث من وطنها ومكامنها بل كأنها في دعة ورفاهية ما لم يأت اليها رسول الإرادة

أما إرادة جذب النفع أو ازالة الأذى والدفع والارادة لا تنتهض من مكانها ولا تخرج من مكامنها ما لم يأت اليها رسول العلم فاذا أتى وجزم الحكم انبعثت الإرادة ولا تجد بدا من الانقياد والاذعان وإذا جزمت الارادة الحكم انبعثت القدرة لتحريك الأعضاء فلا تجد محيصا وخلاصا من الامتثال والارتسام بموجب رسمها واذا جزمت القدرة الحكم تحركت الأعضاء بحيث لا تجد محيصا من الحركة فما دام رسول العلم مترددا تكون الإرادة مترددة وما دامت الإرادة مترددة تكون القدرة مترددة وما دامت القدرة مترددة فالأفعال لا تدخل في الوجود ولا تظهر على الأعضاء فاذا اتصل الحكم الجزم وجدت الأفعال زيادة تحقيق
اعلم أن الحركة الاختيارية التي هي خاصية الحيوان لها مبدأ ووسط وكمال
أما المبدأ فحاجة الناقص الى الكمال واشتياق الطالب
وأما الكمال فنيل المطلوب وبينهما وسط وهو السلوك الطلبي فالحركات الاختيارية التي للحيوان هي حركات مكانية فعلية الى جهات مختلفة عن علم وشعور وطلب بخلاف حركات النبات فإنها لما كانت غير اختيارية توجهت الى جهات مختلفة من غير علم وشعور وطلب للخير وحركاتها تكون حركة النمو والذبول والحركات الاختيارية للانسان حركات فكرية وحركات قولية وحركات فعلية وإنما جهات اختلافها بخلاف حركات الحيوان فإنها عدمت قسمين منها وهي الفكرية والقولية والحركة النباتية احتاجت الى حسن تعهد وتشذيب حتى تصل الى كمالها المطلوب وهو الثمرة وتوليد المثل
أما الثمرة فللانتفاع بشخصه وأما توليد المثل فللانتفاع بنوعه فلا يخلو وجوده في الكون عن نفع جزئي بشخصه وعن نفع كلي بنوعه
والحركة الحيوانية احتاجت أيضا إلى حسن رعاية وتسخير حتى تصل الى

كمالها المطلوب وهو الانتفاع بشخصه حملا وركوبا وأكلا وحراثة والانتفاع بنوعه سوما وتوليدا وانتاجا فلا يخلو وجوده في الكون عن نفع جزئي بشخصه وعن نفع كلي بنوعه
وأما الحركة الانسانية فاحتاجت الى حسن عناية وتكليف بتأييد وتسديد وتعريف فان الحركة الفكرية يدخلها حق وباطل فيجب أن يختار الحق دون الباطل والحركات القولية يدخلها صدق وكذب فيجب أن يختار الصدق دون الكذب والحركات الفعلية يدخلها خير وشر ويجب أن يختار الخير دون الشر ولن يتحقق هذا الاختيار إلا من تأييد وتسديد وتعريف
فأما التأييد فيظهر أثره في الأفعال حتى يختار من الحركات الفعلية الخير ويترك الشر وأما التسديد فيظهر أثره في الأقوال حتى يختار من الحركات القولية الصدق ويترك الكذب واما التعريف فيظهر اثره في الأفكار حتى يختار من الحركات الفكرية الحق ويترك الباطل
وإنما هذه المراتب الثلاثة مقدرة على المراتب الثلاثة العلوية التي يعبر عنها تارة بالملائكة المؤيدين وتارة بالجدود الروحانيين وتارة بالحروف والكلمات في عليين وكما أن الحركات النباتية احتاجت إلى تشذيب والحركات الحيوانية إلى تهذيب كذلك احتاجت الحركات الانسانية إلى تأديب
ومن صفت اختياراته في حركاته الثلاث عن شائبة الباطل والكذب والشر من كل وجه فهو الذي يحق له أن يقول أدبني ربي فأحسن تأديبي وهو الذي يستحق أن يؤدب غيره ويهذب ويزكي ويطهر ويعلم ويذكر لقوله تعالى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون

القوى المدركة
وهي منقسمة بالقسمة الأولى قسمين مدركة من ظاهر ومدركة من باطن والمدركة من الظاهر تنقسم خمسة أقسام وهي الحواس الخمس فنذكرها ونذكر كيفية تأديتها الى الحس المشترك
اعلم أن أول الحواس اتصالا بالحيوان وأعمها لجميع الحيوانات وأسراها في بدن الحيوان هي حاسة اللمس وهي قوة مبثوثة في جميع بشرات الحيوان ولحمه وعرقه وعصبه يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والصلابة والرخاوة واللين والخشونة والخفة والثقل والحامل لها جسم لطيف في شباك العصب يسمى روحا ويستمد من القلب والدماغ وشرط ادراكه أن يستحيل كيفية البشرة إلى ضد المدرك من الحرارة والبرودة وغيرهما حتى يصير مدركا ولذلك لا يدرك إلا ماهو أبرد منه أو أسخن أو أخشن أو ألين والمثل قلما يدرك والمدركات مختلفة وهي مع اختلافها تستند الى مدرك واحد وعند قوم قوة اللمس جنس لأربعة أنواع من القوى إحداها حاكمة في التضاد بين الحار والبارد والثانية حاكمة في التضاد بين الرطب واليابس والثالثة حاكمة في التضاد بين الصلب واللين والرابعة حاكمة في التضاد بين الخشن والأملس وربما يزيدون على ذلك وهي الطليعة الأولى للنفس ولا يخلو جزء

من البشرة عن قوة اللمس ولا يوجد حيوان إلا وفيه قوة اللمس
والحكمة في القوة اللمسية هي أن الحكمة الإلهية لما اقتضت أن يكون حيوان يتحرك بالارادة مركبا من العناصر وكان لا يؤمن عليه اضرار الأمكنة المتعاقبة عليه عند الحركة أيد بالقوة اللمسية حتى يهرب بها من المكان الغير الملائم ويقصد بها المكان الملائم
ثم يليها من الحواس حاسة الشم ولما كان مثله من الحيوانات لا تستغني جبلته عن التغذي وكان اكتسابه للغذاء بتصرف ارادي وكان من الأطعمة ما لا يوافقه ومنها ما يوافقه أيد بالقوة الشمية اذا كانت الروائح تدل الحيوان على الأغذية الملائمة دلالة قوية
وحاسة الشم قوة مبثوثة في زائدتي الدماغ كحلمتي الثدي ويدرك بها الروائح المختلفة الطيبة منها والكريهة والحامل لها أيضا جسم لطيف في الحلمتين والممد لها الهواء اللطيف لا على أنه ينقل الرائحة من المتروح إلى الحاسة فقط بل على أنه يستحيل إليه بالمجاورة كما يستحيل بمجاورة النار والمبرد والهواء بلطافته أسرع قبولا للروائح منه للحرارة والبرودة وهذه القوة في الحيوانات أشد وأكثر وأول ما يتصل بالجنين بعد قوة اللمس هو قوة الشم ولهذا تحفظ الأم عن الروائح الكريهة وأن لاتشم شيئا من المطعومات إلا أكلته حتى لا يظهر خلل في الجنين وقد يظن أن النملة تحس بحس الشم حبا من الحبوب فتخرج من البيت فتطلبه وتصل اليه وان كان من وراء جدار وليس ذلك شما مجردا بل هو حس وقوة في حس وكيف لا والمطلوب ربما لا تكون له رائحة وقد يعبر كثيرا عن الحس بالشم وفي الخبر الأرواح جنود مجندة تشام كما تشام الخيل فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وإنما المراد بالتشام الاحساس
اما حاسة الذوق فهي أيضا طليعة تعرف الطعوم الموافقة والمنافية وهي قوة

مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الاجرام المماسة لها المخالطة للرطوبة العذبة التي فيه مخالطة محيلة فانها تأخذ طعم ذي الطعم وتستحيل اليه وربما تحيله اليها وكلما اتصل الطعم بذلك العصب ادركه العصب وهي التي تتلو الشم وتتصل هذه القوة بالجنين بعد قوة الشم فتظهر فيه عند الولادة فيتحرك الجنين ويحرك لسانه ويلعق نفسه بنفسه
اما حاسة البصر ووجه منفعتها فان الحيوان المتحرك بالارادة لما كان تحركه إلى بعض المواضع كمواقد النيران وعن بعض المواضع كقلل الجبال وشطوط البحار ربما يؤدي الى الاضرار به اوجبت العناية الإلهية اعطاء القوة المبصرة في اكثر الحيوان وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من اشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل الى سطوح الأجسام الصقيلة
ولا تظن أنه ينفصل من المتلون شيء ويصل الى العين ولا أن ينفصل من العين شعاع فيمتد الى المتلون لكن يحدث صورة في الصقيل المستعد لقبول الصورة بشرط المقابلة المخصوصية وتوسط الشفاف فإذا حصلت الصورة في الجليدية أفضت إلى العصبة المجوفة التي فيها روح هو جسم لطيف مثل ما تقع الصورة على الماء الراكد فيفضي الى ملتقى الأنبوبتين المتصلتين بالعينين في مقدمة الدماغ فيدرك الحس المشترك من الصورتين المتحدتين صورة واحدة وإلا كان يجب أن يرى شيئين إذ الصورة في الجليدية صورتان ولما كانت الرطوبة الجليدية كروية والذي يقابل من سطح الكرة انما يقابلها بالمركز على خطوط موهومة خارجة من السطح الى المركز فحيثما قربت المسافة بين الرائي والمرئي كانت الخطوط أكثر والشكل المخروط منها الى المركز أقصر والزاوية أكبر وحيثما بعدت المسافة كانت الخطوط أقل والشكل المخروط منها الى المركز أطول والزاوية اصغر وذلك بسبب رؤية البعيد صغيرا والقريب على هيئته

وأما حاسة السمع فهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى اليه بتموج الهواء المنضغط من قرع أو قلع انضغاطا بعنف يحدث منه صوت يتأدى الى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويحركه بشكل حركته فتماس الأمواج المختلفة تلك العصبة فتتأدى بها الى الحس المشترك
وقيل إن تلك العصبة مفروشة في أقصى الصماخ ممدودة مد الجلد على الطبل إلا أنها على دقة نسج العنكبوت وصلابة الجلد المدبوغ
وقيل إنها أعصاب كأوتار العود ممدودة في جوانب الصماخ وتتحرك تلك الأوتار بتحرك الهواء الراكد فيه فيحصل منه طنين وانما يتحرك على ترتيب تعاقب الحروف والأصوات واختلافها في الرفع والخفض والخفة والثقل والدقة والغلظ وكما أن الضياء شرط في الأبصار كذلك الهواء في السمع
والسمع انما يسمع من محيط الدائرة والبصر انما يبصر على خط مستقيم على أن تلك الخطوط المستقيمة تخرج من المحيط وتصل الى المركز من الكرة المدورة حتى ظن ظانون أن تلك الخطوط أشعة منبعثة من البصر الى القاعدة أو صور مقبوضة من القاعدة الى البصر وكلا الوجهين خطأ كما ذكرناه
والقوة السامعة تلي المبصرة في النفع ووجه منفعتها أن الأشياء الضارة والنافعة قد يستدل عليها بخاص أصواتها فأوجبت العناية الإلهية وضع القوة السامعة في أكثر الحيوان على أن منفعة هذه القوة في النوع الناطق من الحيوان تكاد تفوق الثلاث
وأما القوى المدركة من باطن فتنقسم بالقسمة الأولى ثلاثة أقسام منها ما يدرك ولا يحفظ ومنها ما يحفظ ولا يعقل ومنها ما يدرك ويتصرف ثم المدرك إما أن يدرك الصورة أو المعنى والحافظ إما أن يحفظ الصورة أو المعنى والمتصرف تارة يتصرف في الصورة وتارة في المعنى والمدرك تارة

يكون له ادراك أولي من غير واسطة وقد يكون له ادراك ولكن بواسطة مدرك آخر
والفرق بين الصورة والمعنى أن الصورة نعني بها في هذا المقام ما يدركه الحس الظاهر ثم يدركه الحس الباطن من غير أن يكون للحس الظاهر فيه مدخل فهذه تقاسيم المدركات على الجملة
أما تفصيلها وبيان اثباتها ومحالها فالمدرك للصورة هو الحس المشترك ويسمى بنطاسيا وخازنة الخيال والمدرك للمعنى القوة الوهمية وخازنها الحافظة والذاكرة والذي يدرك ويعقل هو القوة المتخيلة وما لا يعقل ما ذكرناه من الوهم والحس
أما بيان اثباتها فهو بحسب الوجدان أما اثبات الحس المشترك فهو أنك تبصر القطر النازل خطا مستقيما والنقطة الدائرة بسرعة خطا مستديرا كله على سبيل المشاهدة لا على سبيل التخيل ولو كان المدرك هو البصر الظاهر لكان يرى القطر كما هو عليه والنقطة كما هي عليها فانه لا يدرك إلا المقابل النازل وذلك ليس بخط فعلمنا أن ثم قوة أخرى ارتسم فيها هيئة ما رأى أولا وقبل ان تمحي تلك الهيئة لحقتها أخرى واخرى فرآها خطا مستقيما او خطا مستديرا والدليل عليه أنه لو اديرت النقطة لا بسرعة لترى نقطا متفرقة فعندك إذا قوة قبل البصر إليها يؤدي البصر ما يشاهده وعندها تجتمع المحسوسات فتدركها وكذلك الانسان يحس من نفسه انه اذا أبصر شخصا او سمع كلاما ادرك المبصر شخصا واحدا وادرك المسموع كلاما واحدا وما في العين عنده شخصان أعني شبحين في العينين وكلامين في الأذنين فعلم يقينا أن محل الادراك أمر وراء العينين والأذنين فالقوة المدركة لهما قوة واحدة اجتمعت عندها الصورتان أعني الشبحين في العينين على اتفاقهما والمدركان أعني المبصر والمسموع على اختلافهما فتلك القوة مجمع المتماثلات والمختلفات فسميناها الحس المشترك إذ لا

تكون النفس مدركة إلا بهذه القوة وسميناها اللوح إذ لا تجتمع المحسوسات إلا في هذه القوة وليس لها إلا الادراك فقط وانما يكون الارتسام والحفظ لقوة اخرى ومن خواص هذه القوة استحضار المحسوسات في الحواس أولا ثم إدراكها ثانيا ومن خواصها انها تدرك الجزئيات الشخصية دون الكليات العقلية ومن خواصها انها تحس باللذة والألم من المتخيلات كما تحس بالألم واللذة من المحسوسات الظاهرة
وأما بيان القوة الخيالية فانا نعلم أنا اذا رأينا شيئا وغبنا عنه أو غاب عنا بقيت صورته فينا كأنا نشاهدها ونراها فهي تحفظ مثل المحسوسات بعد الغيبوبة وبهاتين القوتين يمكنك ان تحكم أن هذا الطعم لغير صاحب هذا الكون وان لصاحب هذا الكون هذا الطعم فان القاضي بهذين الحكمين لا يمكنه القضاء مالم يحضره المقضي عليهما
وأما بيان القوة الوهمية فان الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك من الاشخاص الجزئية المحسوسة معاني جزئية غير محسوسة كما تدرك الشاة أن هذا الذئب عدوها والعداوة والمحبة غير محسوستين وتحكم عليهما كما تحكم على المحسوس فعلمنا ان هذه لقوة اخرى وللقوة الوهمية في الانسان أحكام خاصة منها حملها النفس ان تمنع وجود أشياء لا تتخيل ولا ترتسم في الخيال مثل الجواهر العقلية التي لا تكون في حيز ومكان ومنها اثبات الخلاء محيطا بالعالم ومنها موافقة المبرهن على تسليم المقدمات ثم مخالفته في النتيجة
وقد قيل إن القوة الوهمية هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلي ولكن حكما تخيليا مقرونا بالأشياء الجزئية والصور الحسية

وعنها يصدر أكثر الأفعال الحيوانية
وأما بيان القوة الحافظة فانا نعلم انا إذا أدركنا المعاني الجزئية لا تغيب عنا بالكلية فانا نتذكرها ونستحضرها بأدنى تأمل فعلمنا أن لهذه المعاني خازنا يحفظها فتلك هي الحافظة ما دامت باقية فيها فإذا غابت واستعادت فهي الذاكرة ونسبة الحافظة الى المعاني كنسبة المصورة الى المحسوسات المتصورة في الحس المشترك
وأما بيان قوة التخيل فانا نعلم انا يمكننا أن ندرك صورة ثم نفصل ونركب ونزيد وننقص وندرك معنى فنلحقه بالصورة فهذا التصرف لغير ما ذكر من القوى ومن شأن هذه القوة ان تعمل بالطبع عملا منتظما أو غير منتظم وانما ذلك لتستعملها النفس على أي نظام تريده ولو لم يكن كذلك لكان أمرا طبيعيا غير مفتن ولما كان للانسان أن يتعلم الصناعات المختلفة والنقوش العجيبة والخطوط المنظومة ليكون مطبوعا على فعل واحد كسائر الحيوانات فهذه القوة تستعملها النفس في التركيب والتفصيل تارة بحسب العقل العملي وتارة بحسب العقل النظري وهي في ذاتها تركب وتفصل ولا تدرك وإذا استعملتها النفس في أمر عقلي سميت مفكرة وإذا أكبت على فعلها الطبيعي سميت متخيلة والنفس تدرك ما تركبه وتفصله من الصور بواسطة الحس المشترك وما تركبه وتفصله من الصور بواسطة القوة الوهمية
واما محال هذه القوى فاعلم أن هذه قوى جسمانية فلا بد لها من محال جسمانية خاصة واسم خاص فالحس المشترك آلتها ومحلها الروح المصبوب في مبادىء عصب الحس لا سيما في مقدم الدماغ
وأما القوة المصورة وتسمى الخيال فآلتها الروح المصبوب في البطن الأول من الدماغ ولكن في جانبه الأخير

وأما القوة الوهمية فمحلها وآلتها الدماغ كله ولكن الأخص بها التجويف الأوسط لا سيما في جانبه الأخير
وأما القوة المتخيلة فسلطانها في الجزء الأول من التجويف الأوسط وكأنها قوة ما للوهم وبتوسط الوهم للعقل
وأما البواقي من القوى وهي الذاكرة والحافظة فسلطانها في حيز الروح الذي في التجويف الأخير وهو آلتها وإنما هدي الناس الى القضاء بأن هذه هي الآلات وانها مختلفة المحال بحسب اختلاف القوى وأن الفساد إذا اختص بتجويف أورث الآفة فيه ثم اعتبار الواجب في حكمة الصانع الحكيم تعالى أن يقدم الأقنص للجرماني ويؤخر الأقنص للروحاني ويقعد المتصرف فيهما حكما واسترجاعا للمثل المنمحية عن الجانبين في الوسط جلت قدرته

القوى الخاصة بالنفس الانسانية
أما النفس الانسانية الناطقة قتقسم قواها أيضا إلى قوة عاملة وإلى قوة عالمة وكل واحدة من القوتين تسمى عقلا باشتراك الأسم فالعاملة قوة هي مبدأ تحريك لبدن الانسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالروية على مقتضى آراء تخصها اصطلاحية ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة واعتبار بالقياس إلى نفسها وقياسها إلى القوة الحيوانية النزوعية أن يحدث منها فيها هيئات تخص الانسان يهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء وما أشبه ذلك
وقياسها إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واستنباط الصنائع الانسانية وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة مثل إن الكذب قبيح والظلم قبيح والصدق حسن والعدل جميل وعلى الجملة جميع تفاصيل الشريعة فهو تفصيل هذه المشهورات المتولدة بين العقل النظري والعملي وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة التي نذكرها حتى لا تنفعل عنها البتة بل تنفعل هي عنها وتكون

مقموعة دونها لئلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية وهي التي تسمى رذائل الأخلاق بل يجب أن تكون غير منفعلة البتة وغير منقادة بل متسلطة مستولية فتكون لها فضائل الأخلاق
وقد يجوز أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية أيضا ولكن إن كانت هي الغالبة يكون لها هيئة فعلية ولهذه هيئة انفعالية فيكون شيء واحد يحدث منه خلق في هذا وخلق في ذلك وان كانت هي المغلوبة تكون لها هيئة انفعالية ولهذا هيئة فعلية غير غريبة ويكون الخلق واحدا وله نسبتان وانما كانت الأخلاق عند التحقيق لهذه القوة لأن النفس الإنسانية كما ظهر جوهر واحد وله نسبة وقياس إلى جنبتين جنبة هي تحته وجنبة هي فوقه وله بحسب كل جنبة قوة تنظم بها العلاقة بينه وبين تلك الجنبة
فهذه القوة العملية هي القوة التي لها بالقياس إلى الجنبة التي دونها هي البدن وسياسته
وأما القوة النظرية فهي القوة التي بالقياس إلى الجنبة التي فوقها لتنفعل وتستفيد منها وتقبل عنها فكأن للنفس منا وجهين وجه إلى البدن ويجب أن يكون هذا الوجه غير قابل البتة أثرا من جنس مقتضى طبيعة البدن ووجه إ لى المباديء العالية والعقول بالفعل ويجب أن يكون هذا دائم القبول عما هنالك والتأثر منه وبه كمال النفس فإذا القوة النظرية لتكميل جوهر النفس والقوة العملية لسياسة البدن وتدبيره على وجه يفضي به إلى الكمال النظري اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
وأما القوة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة فان كانت مجردة بذاتها فذاك وان لم تكن فانها تصيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء وسنوضح هذا بعد

وهذه القوة النظرية لها إلى هذه الصور نسب وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة قابلا له وقد يكون بالفعل والقوة تقال على ثلاثة معان بالتقديم والتأخير
فيقال قوة للاستعداد المطلق الذي لا يكون خرج منه شيء بالفعل ولا أيضا حصل مابه يخرج وهذا كقوة الطفل علىالكتابة
ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل إلا ما يمكن به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة كقوة الصبي الذي ترعرع عرف الدواة والقلم وبسائط الحروف على الكتابة
ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة وحدث معه أيضا كمال الاستعداد بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى الاكتساب بل يكفيه أن يقصد فقط كقوة الكاتب المستكمل للصناعة إذا كان لا يكتب
والقوة الأولى تسمى قوة مطلقة هيولانية والقوة الثانية تسمى قوة ممكنة وملكة والقوة الثالثة كمال القوة فالقوة النظرية إذا تارة تكون نسبتها إلى الصور المجردة التي ذكرناها نسبة ما بالقوة المطلقة وذلك متى تكون هذه القوة للنفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذي بحسبها وحينئذ تسمى عقلا هيولانيا وهذه القوة التي تسمى عقلا هيولانيا موجودة لكل شخص من النوع ولكن على السواء وفيها ترتب وتفاضل فيه خلاف بين الحكماء
وانما سميت هيولانية تشبيها بالهيولى الأولى التي ليست بذاتها ذات صورة من الصور وهي موضوعة لكل صورة وتارة نسبة ما بالقوة الممكنة وهي أن تكون الهيولانية قد حصل فيها من المعقولات الأولى التي يتوصل منها إلى المعقولات الثانية أعني بالمعقولات الأولى المقدمات التي بها يقع التصديق لا بالاكتساب ولا أن يشعر بها المصدق أنه كان يجوز له أن يخلو عن التصديق

بها وقتا البتة مثل اعتقادنا أن الكل أعظم منالجزء أو أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية وهذه هي التي تسمى العلوم الضرورية فما دام انما حصل فيه من العقل هذا القدر فقط يسمى عقلا ممكنا أو عقلا بالملكة ويجوز أن تسمى عقلا بالفعل بالنسبة إلى الأولى وقد تكون أقوى من ذلك بان يكون قد حصل له من المعقولات النظرية بحيث يمكنه أن يتوصل بها إلى المعقولات الثانية ويجوز أن تكون نسبة ما بالقوة الكمالية وهو أن يكون قد حصل فيها أيضا الصور المعقولة المكتسبة بعد المعقولة الأولية إلا أنه ليس يطالعها ويرجع اليها بالفعل بل كأنها عنده مخزونة فمتى شاء طالع تلك الصورة بالفعل وعقلها وعقل أنه عقلها وتسمى عقلا بالفعل لأنه يعقل متى شاء بلا اكتساب تكلف وتجشم وإن كان يجوز أن تسمى عقلا بالقوة بالقياس إلى ما بعده
وتارة تكون نسبته نسبة ما بالفعل المطلق وهو أن تكون الصورة المعقولة حاضرة فيه وهو يطالعها بالفعل ويعقلها بالفعل ويعقل أنه يعقلها بالفعل فيكون حينئذ عقلا مستفادا وهذا هو العقل القدسي وانما سمي مستفادا لأنه سيتضح أن العقل بالقوة انما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو دائم الفعل وانه إذا اتصل به العقل بالقوة نوعا من الاتصال انطبع فيه بالفعل نوع من الصورة تكون مستفادة من خارج فهذه أيضا مراتب القوى التي تسمى عقلا نظرية وعند العقل المستفاد يتم الجنس الحيواني والنوع الانساني وهناك تكون القوة الانسانية تشبهت بالمبادىء الأولية للوجود كله وسيأتي زيادة شرح للعقل المستفاد القدسي في النبوة

بيان اختلاف الناس في العقل الهيولاني الذي هو الاستعداد المطلق
إعلم أن الحكماء اختلفوا في هذا الاستعداد هل هو متشابه في جميع أشخاص النوع أم مختلف فقالت جماعة إنها متشابهة في هذا الاستعداد وانما

الاختلاف راجع الى استعمال ذلك الأمر المستعد في نوع من العلم دون نوع فيخرج إلى الفعل فيظهر الاختلاف
وقالت جماعة إنها مختلفة الاستعداد على حسب اختلاف الأمزجة وما يخرج منها إلى الفعل فانما يخرج ذلك على حسب ذلك الاستعداد وليس حكمها حكم الهيولى في أنها قابلة لكل صورة فإن الهيولى الأولى قابلة للصورة الأولى وهي الجسمية وهي متشابهة في جميع الأجسام ثم تقبل بواسطتها صورة صورة على حسب تركبها من الصورة الثانية والهيولى الثانية ولهذا لم يكن للهيولى الأولى وجود في ذاتها دون الصورة الأولى ولا للجسم المطلق وجود دون أن يكون إما نارا أو هواء أو غير ذلك والأمر ههنا بخلاف ذلك فان النفس لها وجود محقق واستعداد لذلك الوجود فيجب أن يكون مختلفا بحسب اختلاف الموضوع
وإن قيل إن النفس الانسانية متشابهة في النوع وسلم ذلك فلا شك أنها مختلفة في الشخص والعين بحسب اختلاف العوارض المشخصة فيختلف الاستعداد في العقل الهيولاني على حسب ذلك فان النفس انما تفيض من المباديء على قدر الاستعداد فكلما كان المزاج أعدل كانت النفس أشرف وينضاف اليه طوالع الكواكب واجرام السماوات فاذا كما أن النفس وان كانت متحدة في النوع فبينها تفاضل وترتب فكذلك الاستعداد مترتب على شرف النفس فرب نفس نبي يستغني عن الفكرة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ورب نفس غبي لا يعود عليه الفكر برادة وهذا الرأي أقوى وأقرب إلى مناهج الشرع

مراتب العقل من الكتاب الالهي
اعلم أن الله تعالى ذكر هذه المراتب في آية واحدة فقال الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
فالمشكاة مثل للعقل الهيولاني فكما أن المشكاة مستعدة لان يوضع فيها النور فكذلك النفس بالفطرة مستعدة لأن يفيض عليها نور العقل ثم إذا قويت أدنى قوة وحصلت لها مباديء المعقولات فهي الزجاجة فإن بلغت درجة تتمكن من تحصيل المعقولات بالفكرة الصائبة فهي الشجرة لأن الشجرة ذات أفنان فكذلك الفكرة ذات فنون فإن كانت أقوى وبلغت درجة الملكة فان حصل لها المعقولات بالحدس فهي كالزيت فإن كانت أقوى من ذلك فيكاد زيتها يضيء فإن حصل له المعقولات كأنه يشاهدها ويطالعها فهو المصباح ثم إذا حصلت له المعقولات فهو نور على نور نور العقل المستفاد على نور العقل الفطري ثم هذه الأنوار مستفادة من سبب هذه الأنوار بالنسبة اليه كالسراج

بالنسبة إلى نار عظيمة طبقت الأرض فتلك النار هي العقل الفعال المفيض لأنوار المعقولات على الأنفس البشرية وان جعلت الآية مثالا للعقل النبوي فيجوز لأنه مصباح يوقد من شجرة أمرية مباركة نبوية زيتونة أمية لا شرقية طبيعية ولا غربية بشرية يكاد زيتها يضيء ضوء الفطرة وان لم تمسه نار الفكرة نور من الأمر الربوبي على نور من العقل النبوي يهدي الله لنوره من يشاء

تظاهر العقل والشرع وافتقار أحدهما الى الآخر
اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لم يتبين إلا بالعقل فالعقل كالأس والشرع كالبناء ولن يغني أس ما لم يكن بناء ولن يثبت بناء ما لم يكن أس
وأيضا فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر فلهذا قال تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه
وأيضا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن زيت لم يحصل السراج وما لم يكن سراج لم يضىء الزيت وعلى هذا نبه الله سبحانه بقوله تعالى الله نور السموات والأرض إلى قوله نور على نور فالشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل وهما متعاضدان بل متحدان ولكون الشرع عقلا من خارج سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع من

القرآن نحو قوله تعالى صم بكم عمي فهم لا يعقلون ولكون العقل شرعا من داخل قال تعالى في صفة العقل فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم فسمى العقل دينا ولكونهما متحدين قال نور على نور أي نور العقل ونور الشرع
ثم قال يهدي الله لنوره من يشاء فجعلها نورا واحدا فالشرع إذا فقد العقل لم يظهر به شيء وصار ضائعا ضياع الشعاع عند فقد نور البصر والعقل إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور عجز العين عند فقد النور
واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته نحو أن يعلم جملة حسن اعتقاد الحق وقول الصدق وتعاطي الجميل وحسن استعمال المعدلة وملازمة العفة ونحو ذلك من غير أن يعرف ذلك في شيء والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته ويبين ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء
وعلى الجملة فالعقل لا يهدي إلى تفاصيل الشرعيات والشرع تارة يأتي بتقرير ما استقر عليه العقل وتارة بتنبيه الغافل واظهار الدليل حتى يتنبه لحقائق المعرفة وتارة بتذكير العاقل حتى يتذكر ما فقده وتارة بالتعليم وذلك في الشرعيات وتفصيل أحوال المعاد فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة

والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة ومن عدل عنه فقد ضل سواء السبيل وإلى العقل والشرع أشار بالفضل والرحمة بقوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا وعنى بالقليل المصطفين الاخيار

حقيقة الادراك ومراتبه في التجريد
إعلم أن الادراك أخذ صورة المدرك وبعبارة أخرى الادراك أخذ مثال حقيقة الشيء لا الحقيقة الخارجية فان الصورة الخارجية لا تحل المدرك بل مثال منها فان المحسوس بالحقيقة ليس هو الخارج بل ما تمثل في الحاس فالخارج هو الذي المحسوس انتزع منه والمحسوس هو الذي وقع في الحال فشعر به ولا معنى لشعوره إلا وقوعه فيه وانطباعه به وكذلك المعقول هو مثال الحقيقة المرتسم في النفس لأن العقل يجرده عن جميع العوارض واللواحق الغريبة ان كان يحتاج إلى التجريد
وأما مراتب الادراكات في التجريد فاعلم أولا أن المدرك الذي يفتقر إلى تجريد لا يخلو في الوجود الخارجي عن لواحق غريبة وأعراض غاشية من قدر وكيف وأين ووضع فإن الانسان مثلا له حقيقة وهو الحي الناطق وتلك الحقيقة عامة لأشخاص النوع ولا تكون في الوجود تلك الحقيقة لا خاصة ولا عامة إلا مع لواحق غريبة فان الانسان لو كان عاما لما كان زيد الخاص انسانا ولو كان خاصا بأن يكون زيد هو الانسان لكونه زيدا لما كان عمرو انسانا لأن الشيء إذا كان لذاته ما وجد لغيره
فإذا فهمت هذا فاعلم أن مراتب المدركات مختلفة في التجريد عن هذه الغواشي واللواحق وهو على أربع مراتب

الأولى انما هي الحس فانه يجرد نوعا من التجريد إذ لا تحل في الحاس تلك للصورة بل مثال منها إلا أن ذلك المثال انما يكون إذا كان الخارج على قدر مخصوص وبعد مخصوص ويناله مع تلك الهيئة والوضع فلو غاب عنه أو وقع له حجاب لا يدركه
المرتبة الثانية ادراك الخيال وتجريده أتم قليلا وأبلغ تحصيلا فإنه لا يحتاج إلى المشاهدة بل يدرك مع الغيبوبة إلا أنه يدرك مع تلك اللواحق والغواشي من الكم والكيف وغير ذلك
المرتبة الثالثة إدراك الوهم وتجريده أتم وأكمل مما سبق فإنه يدرك المعنى عن اللواحق وغواشي الأجسام كالعداوة والمحبة والمخالفة والموافقة إلا أنه لا يدرك عداوة كلية ومحبة كلية بل يدرك عداوة جزئية بأن يعلم أن هذا الذئب عدو ومهروب عنه وإن هذا الولد صديق معطوف عليه
المرتبة الرابعة إدراك العقل وذلك هو التجريد الكامل عن كل غاشية وجميع لواحق الأجسام بل جناب ادراكه منزه عن أن يحوم به لواحق الاجسام من القدر والكيف وجميع الاعراض الجسمية ويدرك معنى كليا لا يختلف بالاشخاص فسواء عنده وجود الاشخاص وعدمها وسواسية لديه القرب والبعد بل ينفذ في أجزاء الملك والملكوت وينزع الحقائق منها ويجردها عما ليس منها هذا ان كان يحتاج المدرك الى تجريد فإن كان منزها عن لواحق الاجسام مبرا عن صفاتها فقد كفى المؤنة فلا يحتاج إلى أن يفعل به فعلا بل يدركه كما هو

سؤالات وانفصالات تحتها نفائس من العلوم
السؤال الأول فان قيل قد قلتم فيما سبق إن النفس قد يكون له استعداد محض بالنسبة إلى المعقول وقد قلتم إن كل مجرد عن لواحق المواد فهو عقل بالفعل فما أرى هذا إلا تناقضا فان كان النفس مجردا فهو عقل بالفعل وان لم يكن مجردا فليس بعقل
فان قلتم إنه عقل بالفعل وانما لا يدرك المعقول لاشتغاله بالبدن فكيف كان يكون البدن تابعا له خادما في كثير من الأشياء وكيف يكون معينا له على التردد في ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج من الفكر الخالية وكيف يكون تابعا عائقا
قلنا ليس كل مجرد كيفما كان هو عقل بالفعل أي تكون المعقولات حاصلة له دفعة بل المجرد التام هو الذي لا تكون المادة سببا لحدوثه بوجه من الوجوه ولا سببا لهيئة من هيئاته ولا لتشخصه وقولك كيف يكون تابعا وعائقا هذا غير مستبعد فقد يكون الشيء ممكنا من شيء وعائقا عنه فالبدن قد يعين النفس في كثير من الأشياء على ما سيتلى عليك وقد يكون عائقا عن

كثير من الأشياء على ما سيتلى عليك وقد يكون عائقا عن كثير من الاشياء وذلك إذا أكبت على الشهوات ومقتضى صفات البدن واشتغلت بالحواس الظاهرة والباطنة السؤال الثاني
فان قيل قد قيل إن النفس إذا حصلت فيها الصورة المعقولة لا يبطل استعدادها ومعلوم أن الاستعداد مع حصول الصورة بالفعل لا يجتمعان
قلنا هذا نوع مغالطة وعماية فان الاستعداد انما يكون بالنسبة إلى ما لم يحصل لا بالنسبة إلى ما حصل وما يحصل لنا من المعقولات غير متناه ولا يحصل دفعة ما دامت النفس مشغولة بالبدن أو بما صحبها من عوارض البدن بل انما يحصل بقدر ما يكتسب وبقدر ما يفيض عليها من هداية الله وأنوار رحمته
نعم قد تكون النفس في الاستفاضة والاستعداد مختلفة فنفس كأنه زيت يضيء ولو لم تمسسه نار فتطلع على جلايا من المعقولات غير محصورة دفعة واحدة فيكون الفيض به متواصلا متواليا متواترا غير مفقود وأخرى له تفكر كثيرا لا يرجع الفكر عليه برادة واخرى متوسطة بينهما وفي تلك الأوساط تفاوت وأعداد ومراتب لا تحصى وفيها يتفاوت الناس رفعة ودرجة وعزا وذكرا وقربا من الله تعالى السؤال الثالث
فإن قيل معلوم إن النفس انما تطلع على المعقولات بواسطة ملك يسمى عقلا يفيض منه المعقولات على النفس البشرية وهي انما تتصل به بواسطة مطالعة الصور في الخيال أعني الفكر والنظر وترتيب المقدمات بعضها على بعض وهذا انما يكون إذا كان الجسم والخيال باقيا فإذا تعطل الخيال بالموت فكيف تتصل

به حتى يفيض عليه حقائق المعقولات وقد قلتم إن البدن عائق فإذا فارق البدن يطلع على المعقولات ويتصل به دوام الفيض فكيف يكون هذا
قلنا اعلم أن النفوس مختلفة فنفس مشرق صاف عن الكدورات يتلألأ فيه أنوار العلوم مؤيد من عند الله ثاقب الحدس ذكي الذهن لا يحتاج إلى الفكر والنظر بل يفيض عليه من أنوار العلوم بواسطة الملأ الأعلى ما يشاء من المعقولات مع براهينها بل ولو لم يشأ حتى كأنه من كثرة ما يستولي عليه من المعقولات يشرق على خياله وحسه فهذا النقش من المعقول يأتي المحسوس والمخيل فيحاكيه بما يناسبه من الأمثلة فيخبر عنه فهذا في جلابيب البدن كأنه قد نضاها واتصل بعالم القدس فسواء عنده مفارقة البدن وملابسته فإنه يستعمل البدن لا البدن يستعمله وينتفع به البدن لا هو ينتفع بالبدن ويخرج العقول إلى الفعل لا انه يخرج إلى الفعل فهذا هو العقل القدسي النبوي ونفس أخرى انما تصل إلى العلوم وحقائق المعقولات بواسطة البدن وقواه واكتسابه العلوم بواسطة المقدمات الخيالية ولكن هذا انما يكون ما دام ملابسا للبدن فإذا فارق البدن وكان مستقلا مستوسقا وكان قد حصل له استعداد بالغ وزيته قد صفي ونفسه قد هذب فإذا فارق اتصل ولا يحتاج إلى الخيال والفكر بل يكون عائقا وكثيرا ما يصير المعين عائقا إذا استغنى عنه وتفاوت هذا الصنف الوسط من النفوس كثير وفيه تتفاوت السعادة والرفعة والقربة من الله تعالى ونفس تكون متشبثة بالاقناعات الواهية والخيالات المتداعية فإذا فارقت البدن تكون الخيالات متشبثة بها فأما أن يبقى فيها أو يتخلص بعد حين السؤال الرابع
فإن قيل قد قيل إن النفس قد تطالع الصور الخيالية وهي في أجسام والنفس مفارقة لا تحاذي الأجسام ولا توازيها فكيف يكون هذا

قلنا هذا انما يشكل أن لو كان يأخذها خيالية جسمانية أما إذا كان يأخذها مجردة فليس فيه إشكال وقولك بأنها مفارقة والصور جسمانية هذا صحيح ولكن معلوم ان بين النفس والبدن علاقة معقولة يتأثر أحدهما عن الآخر ولهذا إذا تذكر النفس جانب القدس اقشعر البدن ويقف شعره وكذلك النفس تتأثر عن مقتضيات البدن من الغضب والشهوة والحس وغير ذلك فالنفس مهما طالعت الصور الخيالية على الوجه الذي يليق بها فانه يتأثر عنها وإذا تأثر عنها استعد لأن يفيض عليه المطلوب رحمة من الله ولطفا به ولهذا قال عليه الصلاة و السلام ان لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها فينبغي أن تكون النفس متعرضة لنفحات فضل الله حتى يفيض عليها إذ ليس في جود الجواد الحق بخل وليس بيدنا تحصيل المعقولات بل التعرض لتلك النفحات ثم استعداد التعرض أيضا موهبة إلهية لا تنال بيد الاكتساب السؤال الخامس
فإن قيل معلوم إن النفس تعقل المعقولات مترتبة مفصلة وقد قيل إن ما يعقل المعقولات المترتبة المفصلة فليس ببسيط واحد من كل وجه وقد ثبت أن ما يدرك المعقولات كيفما كان يكون مجردا لا تقدير للانقسام فيه فالنفس إما أن تكون صورة مادية فتكون جسمانية فينبغي أن لا تدرك المعقولات أو تكون مجردا مفارقا فيكون إدراكها لا على الترتيب والتفصيل وليس بين الحالتين مرتبة أخرى
قلنا صدقت فيما قلت النفس تدرك المعقولات مفصلة ومرتبة وما يدرك المعقولات مفصلة مرتبة فليس له وحدة صرفة وتجريد محض إذ هو بالنسبة إلى بعض المعقولات بالقوة ففيه ما بالقوة وفيه ما بالفعل فالواحد الحق هوالله سبحانه فلا جرم ليس له شيء منتظر لا ذاته ولا صفاته ويكون التركيب منفيا عنه من كل وجه قولا وعقلا وقدرا ما سواه فلا يخلو عن تركيب ما وان كان من حيث

العقل لا تركيبا جسمانيا أو متوهما حتى أن العقل الذي هو المبدع الأول لا يكون واحدا صرفا بل فيه اعتباران ولهذا صدر منه أكثر من الواحد السؤال السادس
فان قيل إذا حصلت الصورة المعقولة للنفس استحضرت النفس تلك الصورة فهل تحتاج إلى إدراك آخر انها أدركت أو حصلت لها الصورة المعقولة المجردة
قلنا لا بل نفس الادراك وإنما هو حصول الصورة مجردة للنفس فإن حصلت فقد أدركتها وإلا فيعد غير مدرك ولا واسطة بينهما ولا يحتاج إلى إدراك آخر فإنه يتسلسل السؤال السابع
فان قيل النفس في تحصيل المعقولات تفزع إلى القوة المفكرة فتستعملها في ترتيب المقدمات واستنتاج المطالب وهذا انما يكون في اليقضة إذا أقبلت عليها وفي النوم تتعطل المخيلة وكذا بعد الموت فكيف يحصل بعد ذلك المعقول
قلنا أولا غير مسلم إن القوة المفكرة تبطل في النوم وان النفس تتعطل عن ذلك بل كثيرا ما تستولي النفس على المتخيلة إذا كانت خالية عن شواغل الحواس فتغصبها وتستعملها في مطالبها ولهذا ينكشف كثير من المعقولات في النوم
نعم الغالب أن المتخيلة تستولي في النوم ولا تطيع النفس وتجد الحس المشترك خاليا فتنقش فيه الصورة ولهذا يحتاج أكثر الرؤيا إلى التعبير ثم النفس قد تحتاج في المعقول إلىالمفكرة بل يكون قوي الحدس زاكي النفس

فيحصل له المعقولات ابتداء فإن لم تحصل ابتداء فعقب شوق إلى تحصيل معقول فيفيض عليه المعقولات فان عجز عن ذلك ولا يكون له القوة الحدسية القدسية فحينئذ تفزع إلى الفكر واستعمال التخيل في استنباط المعقول السؤال الثامن
فإن قيل قد سلف إن النفس تدرك المعاني الكلية المجردة وتدرك نفسها وهي جزئية فكيف يكون هذا
قلنا تدرك المجردات عن لواحق الأجسام وعوارض المواد سواء كان كليا أو جزئيا ونفسك وان كان جزئيا ولكن هو مجرد عن صفات الأجسام فتشعر بنفسك إنما لا تدرك نفسك الأجسام إلا بآلة جسمانية أما نفسك فليست بجسمانية وادراك نفسك لنفسك ليس إلا حصول حقيقتها لها فإن حقيقتها المجردة حاصلة لها وليس ذلك مرتين فإن حقيقتها واحدة ليست مرتين وقد بينا أنه لا معنى للمعقول إلا حصول مجرد للعاقل وليس كل معقول يحصل لشيء كيف كان يكون معقولا بل مع شرط زائد وهو أن يكون مجردا ولا نعني بقولنا حقيقتنا حاصلة لنا بالوجود فان الوجود يكون لكل شيء
ومن هذا تتنبه لسر عظيم وهو أن الحقيقة التي لنا لا يشاركنا فيها غيرنا من الحيوانات فإن حقيقتنا المجردة غير حاصلة لها ولا نعني أيضا ان أصل حقيقتنا بالقياس إلى نفسه أنه موجود الوجود الذي له ثم بالقياس إلى نفسه أنه معقول بزيادة أمر فإن حقيقة النفس لا يعرض لها مرة شيء ومرة ليس ذلك الشيء وهي واحدة في وقت واحد فليس لكونها معقولة زيادة شرط على كونها موجودة الوجود الذي لها بل زيادة شرط على الوجود مطلقا وهو أن وجودها وماهيتها أنها معقولة حاصلة لها في نفسها ليس لغيرها
وهذا أجل ما أعرفه في هذه الفصول والبيانات ويحتاج إلى تصور ورسوخ في

النفس فإن الأمور التصديقية لا يمكن أن يخبر عنها ما لم تصور في النفس ولم تترسخ فإذا تمكنت النفس من التصور سارعت إلى التصديق
وينبغي على هذا الفصل معرفة جميع الصفات الآلهية لأن صفاته كلها اعتبارات واضافات وسلوب وليست زائدة علىالذات ولا توجب كثرة في الذات السؤال التاسع
فإن قيل إن كان التعقل هو أن يحصل للعاقل حقيقة المعقول فإذا يحصل لنا إذا عقلنا الإله والعقول بصور حقائقها فلكل إذا منها حقيقتان فلم لا يجوز أن يحصل لذواتنا أيضا حقيقتان وهناك يجوز
قلنا إذا أمكننا أن نعقل المفارقات بصور حقائقها في نفوسنا فيكون لها حقيقتان حقائق في أنفسها لأنفسها وهي بها مفارقة وحقائق متصورة فينا فهي لنا وهي أعراض وأمثلة لتلك الحقائق فإن العلوم بالجواهر لا يكون جواهر بل تكون في الأذهان عوارض وفي أنفسها جواهر ثم إنا نشعر بذواتنا وليس شعورنا بها إلا حصول حقيقتنا لنا من غير واسطة وإلا فيحصل دور وذلك أنا إذا قلنا تعقلنا ذاتنا وأردنا بها إدراكا ومثالا غير حصول الحقيقة فانما يكون تعقلا ان لو حصل حقيقته لنا وانما تحصل الحقيقة ان لو تعقلنا وليس يتعلق الكلام بالتعقل أو الشعور بل بكل إدراك كان فانه ملاحظة لحقيقة الشيء لا من حيث هي خارجة ولو كانت المدركات هي الخارجة لم تكن الأمور المعدومة معقولة بل هي فينا وليست الملاحظة وجودا لها ثانيا بل نفس انتقاشها فينا وإلا لتسلسل إلى غير النهاية إلا أنا على سبيل التوسع نقول نلاحظ حقائقها تشبها بالمحسوسات على مجرى العادة وعند التحقيق المحسوسات أيضا

ملاحظتها حصول حقائقها التي هي بها محسوسة لنا حتى تصير الخارجة بها ملاحظة السؤال العاشر
فان قال قائل إحسب أنا نعقل ذواتنا ولكن لم يتبين بعد أنه هل يجوز أن نعقل بآلة جسمانية أم لا وهل القوة العقلية في جسم أم لا فلم لا يجوز أن نحصل القوة العقلية في الجسم فتشعر بها القوة الوهمية كما أن القوة العاقلة تشعر بالقوة الوهمية فلا تكون ذات القوة العقلية حاصلة لذاتها بل لغيرها كما أن القوة الوهمية ليست حاصلة لذاتها بل مثلا للقوة العقلية
قلنا فينا أولا قوة ندرك بها المعاني الكلية وأخرى بها ندرك الجزئيات والقوة التي ندرك بها الكلي تدرك بما يدرك به الكلي وذلك سمه ما شئت لكنا نسميه القوة العقلية ولا يخلو إما أن يعتبر الشعور أو الادراك العقلي أما الادراك العقلي فقد عرف ما يوجبه واما الشعور فأنت انما تشعر بهويتك بذاتك لا ببعض قواك إذ لو شعرت ذاتك ببعض قواك كحس أو تخيل أو توهم لم يكن المشعور هو الشاعر وأنت مع شعورك بذاتك تشعر أنك إنما تشعر بنفسك فأنت الشاعر وأنت المشعور
ثم ان كان الشاعر بنفسك قوة غير ذاتك فلا يخلو إما أن تكون قائمة في نفسك أو في جسم فان كانت قائمة في نفسك فيكون وجود نفسك لقوة نفسك فيرجع على نفسها مع القوة ولا يكون لغيرها وان كانت تلك القوة قائمة في جسم ونفسك غير قائمة في ذلك الجسم فيكون الشاعر ذلك الجسم بتلك القوة لشيء مفارق ولا يكون هناك شعور بذاتك بوجه ولا إدراك لذاتك بخصوصيتها بل يكون جسم ما يحس بشيء غيره كما تحس ببدنك على أن إدراك القوة الجسمانية الجوهر المفارق محال وإن كانت نفسك بتلك القوة قائمة في ذلك الجسم فقد بينا استحالة ذلك فإنه يلزم أن تكون النفس

وقوتها وجودهما لغيرهما فلا تكون النفس بتلك القوة تدرك ذاتها ولا ذلك الجسم لأن ماهية القوة والنفس معا لغيرهما وهو ذلك الجسم وان كان جوهر النفس هو القوة التي بها يدرك فليسا يفترقان السؤال الحادي عشر
فإن قيل وما يدرينا أن شعورنا بذاتنا هو تعقلنا له فعسى هو ادراك آخر لا يقتضي ذلك الادراك أن تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بل هو أثر على وجه ما حصل لنا من ذاتنا فلا يكون ذلك الأثر هو بعينه حقيقة الذات فلا يمتنع أن يكون لنا حقيقة وجود يحصل منها لنا أثر فنشعر بذلك فلا يكون الأثر هو الحقيقة فلا يكون قد حصل لنا ذاتنا لذاتنا
قلنا من لا يتصور حقيقة ماهيته فليس يعقل ماهيته وليس الإدراك إلا تحقق حقيقة الشيء من حيث يدرك وهو معنى الشيء بالقياس إلى لفظه
وقوله يحصل لنا أثر فنشعر بذلك الأثر فلا يخلو إما أن يجعل الشعور نفس حصول الأثر أو شيئا يتبع حصول الأثر فان كان نفس حصول الأثر فقوله فنشعر بذلك الأثر لا معنى له بل هو اسم آخر وقول آخر مرادف له فإن كان الشعور شيئا يتبعه فاما أن يكون حصول معنى ماهية الشيء أو غيره فإن كان غيره فيكون الشعور هو تحصيل ما ليس ماهية الشيء ومعناه وان كان هو هو فتكون ماهية الذات تحتاج في أن يحصل لها ماهية الذات إلى أثر آخر به تحصل ماهية الذات يحصلها أثر فليست متأثرة بل متكونة وان كانت ماهية الذات تحصل ثانيا بحال آخر من التجريد أو نزع بعض ما يقارنها من العوارض أو زيادة تضاف اليها فيكون المعقول هو الذي بحال أخرى وكلامنا في نفس الماهية وجوهرها الثابت في الحالين

السؤال الثاني عشر
فإن قال قائل قد ذكرتم إن المانع عن التعقل هو المادة والاشتغال بالبدن فما الدليل على أن المانع هو المادة وأنه محصور فيها
قلنا من علم الذات العاقلة حقيقة علم أن المانع هو المادة وذلك لأن الذات التي تتجلى فيها حقائق الأشياء هي الجوهر المجرد عن غواشي الأجسام وليس فيه ما يكون بالقوة وكل جوهر هذا حقيقته فانه يتأثر ولا ينفعل عن الغواشي الغريبة فان تأثر عن غاش غريب فيكون بسبب المادة لأن المادة هي التي تغشى لها غرائب وعوارض فاذا كل ما يكون عقلا فانه متحقق الذات مجرد عن المواد ولا ينفعل ولا يتأثر ولا يكون ما فيه بالقوة وكل ما يكون له يكون دفعة واحدة السؤال الثالث عشر
فان قيل ما ذكرتموه هدم لقاعدة عظيمة فان مساق هذا الكلام يقتضي أن يكون نفسنا جوهرا ماديا فانه معلوم أنه يقبل المعقولات شيئا فشيئا ويتأثر وينفعل عن الغواشي الغريبة فلو لم يكن جوهرا ماديا فينبغي أن لا يتأثر ويحصل له المعقولات دفعة ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك
قلنا غفلت عن دقيقة فإنا قلنا كل ما يكون عقلا يكون متحقق الذات ولا ينفعل وهذا موجبة كلية فعكسها يكون موجبة جزئية وهو أن بعض ما يكون متحقق الذات ولا ينفعل يكون عقلا ولا يلزم ان نفسنا تكون جوهرا متحقق الذات بريا عن لواحق المادة وعن صفات الأجسام
نعم إنما يقبل المعقولات شيئا فشيئا بسبب انه يحتاج في كثير من المعقولات في أكثر النفوس إلى الاستعانة بالبدن ولا يطاوعه البدن ولا يشايعه

في مقصوده فتنبتر عليه مقاصده ومطالبه وان طاوعه في لمحة فيكون كبرق خاطف فيعقبه ما يشوش عليه فكره وينغص وقته فنسأل الله التأييد والتسديد والرشاد إلى سواء السبيل السؤال الرابع عشر
فإن قيل قد قلتم إن ذاتك إذا كانت حاصلة لك فهي معقولة لك ودليله ان الذات إما ان تكون حاصلة لغيرك أو ليس لغيرك فان لم تكن حاصلة لغيرك فتكون حاصلة لك وما يدرينا فلعلها حاصلة لا لغيره ولا لذاته
قلنا هذا روم درجة بين النفي والاثبات ولا واسطة ثم لو لم تكن ذاتك لك لما قلت ذاتي ونفسي لأنه لو كان لغيرك لما قبل هذه الاضافة ثم التحقيق فيه وهو سر عظيم وفتح باب من خزائن العلوم هو أن كل شيء حقيقته الصرفة لا توجد متعينة بلا لوازم تتعين بها فهو من حيث حقيقته شيء ومن حيث أنه ملزوم لوازم شيء وبالجملة إذا أخذت الحقيقة مع اللوازم شيء وهو إنما يتعين لا بأنه حقيقة بل من حيث أنه ملزوم لوازم فبتلك اللوازم يتعين فإذا تكون حقيقة الذات في نفسها لا بشرط آخر شيء ومن حيث هو متعين شيء فتكون هناك غيرية تقبل الاضافة والنسبة والله المرشد السؤال الخامس عشر
فإن قيل قد ذكرتم إن للنفس ملكة بها تتمكن من تحصيل المعقولات فهذه الملكة التي بها تستحصل الصور المعقولة ان كانت قوة طارئة على النفس فالنفس مركبة وقد أقمتم البرهان على أنه واحد ليس بمركب ثم لا يصح البرهان بعد ذلك على أنها لا تفسد بالموت وان لم تكن قوة طارئة عليها بل استكمالا فتكون من حيث تؤثر تتأثرو من حيث تفعل تنفعل ثم ما البرهان على انها ليست قوة طارئة وانها استكمال وكيف حل هذا السؤال ان كان استكمالا

قلنا إعلم ان النفس في ذاتها جوهر ليس بمركب الذات إذا أخذ مع تلك الملكة الحاصلة والاستكمال انما يكون من خارج فليس هو من حيث يؤثر يتأثر ولا من حيث يفعل ينفعل وكأن هذا الاستكمال يفعل في جوهر النفس صورا فهو من حيث أنه يتصور بها النفس استكمال ومن حيث انه يتمكن بها من الاطلاع على صور أخرى معقولة قوة ومن حيث هي لازمة لا مقومة ولا طارئة السؤال السادس عشر
فان قيل قد أثبتم بالبرهان أن النفس من المفارقات فكيف تنتفع بالبدن وما فيه من الحس والخيال وكيف تكتسب العلوم بواسطة قوة التخيل وتحصل الفضائل وتكتسب الرذائل بواسطة القوى البدنية وكيف تؤثر الطاعات والمواظبة على العبادة في التنوير والتصفية وكيف تؤثر المعاصي والانهماك في الشهوات حتى يرتقي منها ظلمات إلى النفس فيبطل بها الاستعداد الفطري
قلنا هذا سؤال شريف والانفصال عنه أشرف منه وإعطاء البرهان في ذلك مشكل وإنما الطريق فيه الوجدان والعرفان يقينا والنفس خلقت بالفطرة مستعدة للعلوم والعلوم تحصل فيها بالتدريج فلا بد من استعمال الفكر والخيال كما قدمنا وكما نذكر بعد ذلك من انتفاع النفس بالقوى
اما تأثير الطاعات والمعاصي في التنوير والاظلام فذلك لأن سعادة النفس وكمال جوهرها ان تكون مولية وجهها شطر الحق معرضة عن الحواس منخرطة في سلك القدس مستديمة لشروق نور الحق في سرها فكل ما يكون مانعا من ذلك يكون حاطا لها عن درجتها وتقدر بقدر ما تعرض عن حضرة الجلال والالتفات إلى جانب القدس باتباع الشهوات تعرض عنها الأنوار الآلهية

وكلما كانت ادرب بالمعقولات كانت إلى السعادة أقرب فالنفس لها قرب وبعد فقربها بقدر العلوم وتحصيل الفضائل وبعدها بالجهل وتحصيل الرذائل
وبهذا يتبين سر أنوار إتباع رسول الله في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله فان له خاصية عظيمة في تنوير القلب فان القلب إنما يتجلى فيه جلايا الحقائق بأن يكون معدلا مصقلا منورا وتصقيله بالتوجه إلى جناب القدس وبالأعراض عن مقتضى الشهوات وتعديله بالأخلاق الحسنة الموافقة للسنة وتنويره بالذكر ووظائف العبادات ولا دليل أقوى في هذا من التجربة والوجدان فكل من ليس له سبيل اليه بالعرفان ولا بالوجدان فينبغي ان يصدق به فانه درجة الإيمان والله الموفق

منشأ الفضائل والرذائل
اعلم أن أكثر الفضائل والرذائل انما تنشأ من ثلاث قوى في الانسان قوة التخيل وقوة الشهوة وقوة الغضب فهذه الثلاثة معينات للنفس ومثبطات زيادة تبصرة
أما القوة المتخيلة فهي ذات وجهين أحدهما يلي جانب الحس ويقبل منه الصور المحسوسة كما يؤدي اليها الحس حقيقة أو مجازا
أما الحقيقة فالصورة التي هي في نفسها كذلك وأما المجاز فكالصورة التي ليست في نفسها كذلك لكنها ترى كذلك مثل السراب والصدى والمتحرك الذي هو ساكن وكالساكن الذي هو متحرك والخيال يتخيلها كذلك
والوجه الثاني يلي جانب العقل ويقبل به الصورة المعقولة كما يؤدي اليه الفكر العقلي حقا وباطلا
أما الحق فكالصورة التي هي في نفسها كذلك وأما الباطل فكالصورة التي ليست في نفسها كذلك لكنها ترى كذلك كالشبهات والضلالات والسحر والكهانة فان الأذهان كثيرا ما تزيغ عن الجادة فترى الخطأ صوابا والصواب

خطأ ولهذا قيل أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه والتدبير أن لا يعتمد عليها ما لم يزنها بالقوانين المنطقية والبراهين اللائحة ثم قد تقع الصور في التخيل دفعة واحدة كالمرآة المقابلة للمرآة تقع الصورة في أحديهما كما تقع في الثانية دفعة وذلك إذا كانت الصورة وقعت في البصر الحاس أولا
أما المسموعات بالسمع فتقع فيه على ترتيب وتدريج على حسب تعاقب الحروف والكلمات وأما من جانب العقل فالمعقولات قد تقع فيه دفعة واحدة كالمرايا المتقابلة وذلك لأن العلوم منتقشة في ذوات النفوس السماوية فاذا اتصلت به النفس الانسانية تقع منها فيها الصور بقدر جلائها واستعدادها وسيأتي شرح هذا بعد ذلك في النبوة والرسالة ثم ان كان ذلك حقا فهو وحي والهام وحدس والوحي هو أن يرى صورة الملك وفي الإلهام والحدس لا يرى وان كان باطلا فهو سحر وكهانة وعرافة وقد يقع فيه أي في النفس على ترتيب وتدريج بحسب المقدمات القياسية وذلك إن كانت يقينية فهو برهان وحجة وان كانت مشهورة محمودة عند قوم فهو خطابي وإن كانت إلزامات على خصم فهو جدلي وان كانت كاذبة ظاهرة الكذب فهو سوفسطائي وان كانت مخيلة فهو شعري
ثم إن غلب على الخيال جانب الحس شبه كل معقول بمحسوس وإن غلب عليه العقل شبه كل محسوس بمعقول فخيال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرى من المحسوس المعنى المعقول وهو ما كان صدوره منه أو وروده عليه ومرجعه اليه فيرى شخصا في هذا العالم ويحكم عليه أنه تفاحة من الجنة وشخصا قطعت يده في سبيل الله نبت له جناحان يطير بهما في الجنة وشخصا قتل في سبيل الله حيا قائما يرزق فرحا مستبشرا بما آتاه الله من فضائله وعلى العكس من ذلك يرى من المعقول محسوسا ومن الروحاني جسمانيا هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم فتمثل لها بشرا سويا ثم من قوة اشراق نور خياله

ونور روحه يشرق أيضا على من يناسبه في تلك القوة والاستعداد فيراه كما رأى النبي فالتخيل إذا فيصل بين العالمين وحاجز بين البحرين ومفصل بين الحكمين ولولاه لما بقي محسوس ومعقول للانسان ولا كانت الصورة والمعنى مدركين بمدرك الحس والبرهان
وقوة التخيل ليست متشابهة في أصناف الناس بل هي مترتبة متفاضلة وربما تكون متضادة فمن ذلك ما يناسب الروحانيين من الملائكة ويكون مهبطهم اليه ونزولهم عليه وظهورهم له وتأثيرهم فيه وتمثلهم به حتى تكلم الشخص بكلامهم وتكلموا بلسانه ورأى الشخص بأبصارهم وأبصروا بعينيه وسمع بأسماعهم وسمعوا بآذانه وهم ملائكة يمشون في الأرض مطمئنين ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
ومن ذلك ما يناسب الشياطين من الأبالسة ويكون مهبطهم اليه وظهورهم له وتأثيرهم فيه وتمثلهم به حتى إذا ظهروا عليه تكلم الشخص بكلامهم وتكلموا بلسانه ورأى الشخص بأبصارهم وابصروا بعينيه وسمع بآذانهم وسمعوا بأذنيه وهم شياطين الانس يمشون في الأرض متوهجين هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وحيثما كانت استقامة في حال الخيال كان منزل الملائكة وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين
أما القوة الشهوية ففيها أيضا مضرة ومنفعة وهي أصعب إصلاحا من سائر القوى لأنها أقدم القوى وجودا في الانسان وأشدها به تشبثا وأكثرها منه تمكنا فانها تولد معه وتو جد فيه وفي الحيوان الذي هو جنسه بل فى

النبات الذي هو كجنس جنسه ثم توجد فيه قوة الحمية ثم آخرا توجد فيه قوة الفكر والنطق والتمييز ولا يصير الانسان خارجا من جملة البهائم وأسر الهوى إلا باماتة الشهوات أو بقهرها وقمعها إن لم يمكنه إماتته إياها فهي التي تضره وتعزه وتعوقه وتصرفه عن طريق الآخرة وتثبطه ومتى قمعها أو أماتها صار الإنسان حرا نقيا بل إلهيا ربانيا فتقل حاجاته ويصير غنيا عما في يدي غيره وسخيا بما في يده ومحسنا في معاملاته
وأما منفعتها فهي أن هذه الشهوة مهما أدبت فهي المبلغة للسعادة وجوار رب العزة حتى لو تصورت مرتفعة لما أمكن الوصول إلى الآخرة وذلك أن الوصول إلى الآخرة بالعبادة ولا سبيل إلى العبادة إلا بالحياة الدنيوية ولا سبيل إلى الحياة الدنيوية إلا بحفظ البدن ولا سبيل لحفظه إلا باعادة ما يتحلل منه ولا سبيل إلى اعادة ما يتحلل منه إلا بتناول الأغذية ولا يمكن تناول الأغذية إلا بالشهوة
وأيضا فان الدنيا مزرعة الآخرة وقوام عمارة الأرض وتزجيه المعاش بهذه الشهوة فلو تصورت مرتفعة لاختل نظام الدين والدنيا وارتفعت المعاملات من بين الناس وارتفعت الشريعة والسياسة فاذا هذه القوة الشهوية مثل عدو يخشى مضرته من وجه ويرجى منفعته من وجه ومع عداوته لا يستغنى عن الاستعانة به فحق العاقل أن يأخذ نفعه ولا يركن اليه ولا يعتمد عليه الا بقدر ما ينتفع به وما أصدق في ذلك قول المتنبي
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
ومن نوافذ الحيل في قمع هذه الشهوة أن يتسلط بقوة الحمية على قوة

الشهوة حتى تنقمع ولا تميل إلى مذام الأخلاق وسفسافها كما أن الطريق في قمع الغضب وسورته أن يتسلط بخلابة الشهوة على القوة الغضبية حتى تكسر استشاطتها أو غلواؤها فانها تنقاد للمطامع وعوارض الحاجات ومن الطريق في معالجة أفراط الشهوة حتى يكسرها كسرا ويزبرها زبرا مطالعة فضائل قلة الأكل من الأخبار والآثار والوقوف على فوائد قلة الأكل من صفاء القلب واتقاد القريحة ونفاذ البصيرة ومواتاة الفكر الموصل إلى المعرفة والاستبصار بحقائق الحق ورقة القلب وصفائه الذي به يتهيأ لأدراك لذة المناجاة والتأثر بالذكر ومن الانكسار والذل وزوال البطر والمرح والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى وأن لا ينسى بلاء الله وعذابه ولا ينسى أهل البلاد
ومن فوائد قلة الأكل كسر الشهوة الداعية إلى المعاصي والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء ومن فوائد قلة الأكل دفع النوم ودوام السهر وتيسر المواظبة علىالعبادة ومن فوائدها صحة البدن ودفع الأمراض المنغصة للعيش المانعة من العبادات المشوشة لقوة الفكر ومن فوائدها خفة المؤنة والتحلي بعز القناعة والاستغناء عن الناس الذي هو مظنة الاخلاص والعز ومن فوائدها أن يتمكن من الايثار والبذل والسماحة والتصدق علىاليتامى والمساكين
وعلى الجملة مفتاح الزهد والعفة والورع قلة الأكل وقمع الشهوة ومفتاح الدنيا وباب الرغبة فيها استرسال الشهوة بموجب الطبع وهذه القوة الشهوية لها شعبتان احداهما شهوةالبطن والثانية شهوة الفرج فشهوة البطن ليبقى الشخص بعينه وشهوة الفرج ليبقى بنسله وأعقابه ونوعه ولكن فيها من

الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم تزم بزمام التقوى ولم ترد إلى حد الاعتدال ولو لم تكن هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال ولما كانت النساء حبائل الشيطان وجميع الفواحش من هذه الشهوة إذا كانت مفرطة وجميع الفضائح منها إذا كانت خامدة مفرطة كالعنة والخنوثة
والمحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انبساطها وانقباضها ومهما أفرطت فكسرها بالجوع وبالنكاح وغض البصر وقلة الاهتمام بها وشغل النفس بالعلوم واكتساب الفضائل فبهذا تندفع
أما القوة الغضبية فانها شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة وانها المستكنة في ضمن الفؤاد استكنان النار تحت الرماد ويستخرجها الكبر الدفين من قلب كل جبار عنيد كما يستخرج النار من الحديد وقد انكشف لأولي الأبصار بنور اليقين أن الانسان ينزع منه عرق إلى الشيطان الرجيم اللعين فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال خلقتين من نار وخلقته من طين فإن شأن الطين السكون والرقاد وقبول الآثار وشأن النار التلظي والاشتعال والحركة والاضطراب والصعود وعدم قبول الآثار ومن نتائج الغضب الحقد والحسد وكثير من أخلاق السوء ومقيضها ومنشؤها مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد
وفي هذه القوة إفراط واستيلاء يجذب إلى المهالك والمعاطب وفيها تفريط وخمود يقصر عن المحامد من الصبر والحلم والحمية والشجاعة ومن الاعتدال يحصل أكثر محامد الأخلاق من الكرم والنجدة وكبر النفس والاحتمال والحلم

والثبات والشهامة والوقار والأسباب المهيجة للغضب هي الزهو والعجب والمرح والهزل والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق ردية مذمومة شرعا وعقلا ولا خلاص عن الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من ازالة أسبابها بأضدادها حتى يقهر الغضب ويرد إلى حال الاعتدال وهذا شأن المداواة حسا وعقلا

أمهات الفضائل
الفضائل وان كانت كثيرة فيجمعها أربع تشمل شعبها وأنواعها وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة
فالحكمة فضيلة القوة العقلية والشجاعة فضيلة القوة الغضبية والعفة فضيلة القوة الشهوية والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب فيها فبها تتم جميع الأمور ولذلك قيل بالعدل قامت السماوات والأرض فلنشرح هذه الأمهات وما يتولد منها وينطوي من الأنواع تحتها
أما الحكمة فنعني بها ما عظمها الله تعالى في قوله ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما أراده رسول الله حيث قال الحكمة ضالة المؤمن وهي منسوبة إلى القوة العقلية وقد عرفت فيما سبق ان للنفس قوتين إحداهما تلي جهة فوق وهي التي بها تتلقى حقائق العلوم الكلية الضرورية والنظرية من الملأ الأعلى وهي العلوم اليقينية الصادقة أزلا وأبدا لا تختلف باختلاف الأعصار والأمم كالعلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وأصناف خلقه وتدبيره لملكه وملكوته وأحوال الإبداء والإعادة خلقا وأمرا وأحوال المعاد من السعادة والشقاوة وعلى الجملة جميع حقائق العلوم

والقوة الثانية هي التي تلي جهة تحت أعني جهة البدن وتدبيره وسياسته وبها تدرك النفس الخيرات في الأعمال وتسمى العقل العملي وبها يسوس قوى نفسه ويسوس أهل منزله وأهل بلده
واسم الحكمة لها من وجه كالمجاز لأن معلوماتها كالزيبق تنقلب ولا تثبت وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ومن معلوماتها أن بذل المال فضيلة وقد يصير رذيلة في بعض الأوقات وفي حق بعض الاشخاص فلذلك كان اسم الحكمة بالأول أحق وان كان بالثاني أشهر وهذا الثاني كالكمال والتتمة للأول وهذه هي الحكمة الخلقية والأولى هي الحكمة العلمية النظرية ونعني بالحكمة الخلقية حالة وفضيلة للنفس العاقلة بها تسوس القوة الغضبية والشهوية وتقدر حركاتهما على الحد الواجب في الانقباض والانبساط وهي العلم بصواب الأفعال وتدبير أحوال هذا العالم مستمد من العقل النظري فالعقل النظري يستمد من الملائكة الكليات والعقل العملي يستمد من العقل النظري الجزئيات ويسوس البدن بواجب الشرع وهذا على مثال العقل والنفس وأجرام السماء فان العقل يدرك الكليات وليس فيه ما في القوة وتدرك النفس منها الكليات وبواسطة الكليات تدرك الجزئيات فيحرك السماوات فيتحرك من تحريكها العناصر فيتولد منها المركبات وكذلك عقلنا يستمد من الملائكة الكليات ويفيض الكليات على العقل العملي والعقل العملي بواسطة البدن وقوة التخيل يدرك جزئيات عالم البدن فيحركها بواجب الشرع فيتولد منها الاخلاق الجميلة
وهذه الفضيلة الخلقية يكتنفها رذيلتان الخب والبله
أما الخب فهو طرف إفراطها وزيادتها وهو حالة يكون الإنسان بها ذا مكر وحيلة بإطلاق الغضبية والشهوية لتتحركا إلى المطلوب حركة زائدة على قدر الواجب

وأما البله فهو طرف تفريطها ونقصانها عن الاعتدال وهو حالة للنفس تقصر بالغضبية والشهوية عن القدر الواجب ومنشؤه بطء الفهم وقلة الاحاطة بصواب الأفعال ويندرج تحت فضيلة الحكمة حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وصواب الظن
أما رذيلة الخب فيندرج تحتها الدهاء والجربزة وأما رذيلة البله فيندرج تحتها الغمارة والحمق والجنون
أما الشجاعة فهي فضيلة القوة الغضبية بكونها قوية الحمية ومع قوة الحمية منقادة للعقل المتأدب بالشرع في إقدامها وإحجامها وهي وسط بين رذيلتين مطيفتين بها وهما التهور والجبن
فالتهور لطرف الزيادة علىالاعتدال وهي الحالة التي بها يقدم الإنسان على الأمور المخطرة التي يجب في العقل الاحجام عنها
وأما الجبن فطرف النقصان وهي الحالة التي بها تنقبض حركة القوة الغضبية عن القدر الواجب فتصرف عن الإقدام حيث يجب الإقدام ومهما حصلت هذه الأخلاق صدرت منها هذه الأفعال أي يصدر من خلق الجبن الاحجام لا في محله ومن التهور الإقدام لا في محله وهما خلقان مذمومان
ومن الشجاعة يصدر الاقدام والاحجام حيث يجب وكما يجب وهو الخلق الحسن المحمود واياه أراد بقوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم فلا الشدة في كل مقام محمودة ولا الرحمة بل المحمود ما يوافق معيار العقل والشرع فمتى حصل له ذلك فلينتظر فان كان طبعه مائلا إلى النقصان الذي هو الجبن فليتعاطى أفعال الشجعان تكلفا ومواظبة عليها حتى يصير له بالاعتياد

طبعا وخلقا فيفيض منه أفعال الشجعان بعد ذلك طبعا وإن كان مائلا إلى طرف الزيادة وهو التهور فليشعر نفسه بعواقب الأمور وبعظم أخطارها وليتكلف الاحجام إلى أن يعود إلى الاعتدال أو ما يقرب منه فإن الوقوف على حقيقة حد الاعتدال شديد ولو تصور ذلك لارتحلت النفس عن البدن وليس معها علاقة منها فكانت لا تتعذب أصلا بالتأسف على ما يفوته منها وكان لا يتكدر عليه ابتهاجه بما يتجلى له من جمال الحق وجلاله ولكن لما عسر ذلك جاء في قوله تعالى وان منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا
وقال عليه السلام شيبتني سورة هود وأخواتها وأراد به قوله تعالى فاستقم كما أمرت فان الامتداد على الصراط المستقيم في طلب الوسط بين هذه الأطراف شديد وهو أدق من الشعر وأحد من السيف كما وصف من حال الصراط في الدار الآخرة ومن استقام علىالصراط في الدنيا استقام عليه في الآخرة بل يكون في الآخرة مستقيما إذ يموت المرء علىما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك يجب في كل ركعة من الصلاة سورة الفاتحة المشتملة على قوله تعالى إهدنا الصراط المستقيم فانه أعز الأمور وأعصاها على الطالب ولو كلف ذلك في خلق واحد لطال العناء فيه فكيف وقد كلفنا ذلك في جميع الأخلاق مع خروجها عن الحصر كما سيأتي ولا مخلص عن هذه المخاطرات إلا بتوفيق الله ورحمته ولذلك قال عليه الصلاة و السلام الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
فنسأل الله العظيم أن يمدنا بتوفيقه لنتجاوز الأخطار في هذه الدار ولا نخدع بدواعي الاغترار فهذا هذا ثم ما يندرج تحت فضيلة الشجاعة فهو الكرم والنجدة وكبر النفس والاحتمال والحلم والثبات والنبل والشهامة والوقار

أما رذيلة التهور فيندرج تحتها البذخ والجسارة والتقبح والاستشاطة والتكبر والعجب
وأما رذيلة الجبن فيندرج تحتها النذالة والنكول وصغر النفس والهلع والانفراط والتخاسس والمهانة
أما العفة فهي فضيلة القوة الشهوية وهي انقيادها على يسر وسهولة للقوة العقلية حتى يكون انقباضها وانبساطها بحسب إشارتها ويكتنفها رذيلتان الشره وخمود الشهوة والشره هو افراط الشهوة إلى المبالغة في اللذات التي تستقبحها القوة العقلية وتنهي عنها والخمود هو قصور الشهوة عن الانبعاث إلى ما يقتضي العقل تحصيله وهما مذمومان كما أن العفة التي هي الوسط محمودة وعلى الانسان ان يراقب شهوته فالغالب عليها الافراط لا سيما إلى الفرج والبطن وإلى المال والرياسة وحب الثناء والافراط في ذلك نقصان وانما الكمال في الاعتدال ومعيار الاعتدال العقل والشرع وذلك بأن يعلم الغاية المطلوبة من خلق الشهوة والغضب مثلا بأن يعلم ان شهوة الطعام انما خلقت لتبعث على تناول الغذاء الذي يسد بدل ما يتحلل من أجزاء بدنه بالحرارة الغريزية حتى يبقى البدن حيا والحواس سليمة فيتوصل بالبدن إلى نيل العلوم ودرك حقائق الامور ويتشبه بالطبقة العالية بالاضافة اليه وهي الملائكة وبها كمالها وسعادتها ومن عرف هذا كان قصده من الطعام التقوى علىالعبادة دون التلذذ به فيقتصر ويقتصد به لا محالة ولا يشتد اليه شرهه
ويعلم أن شهوة الجماع خلقت فيه لتكون باعثة له على الجماع الذي هو سبب بقاء النوع الإنساني فيطلب النكاح للولد والتحصن لا للعب والتمتع وإن تمتع ولعب كان باعثا عليه التآلف والاستمالة الباعثة على حسن الصحبة وإدامة النكاح ويقتصر من الأنكحة على القدر الذي لا يعجز عن القيام بحقوقه ومن عرف ذلك سهل عليه الاقتصار وعند ذلك لا يقيس نفسه بصاحب الشرع إذ كان لا يشغله كثرة الأنكحة عن ذكر الله تعالى وكان لا يلزمه طلب الدنيا

لأجل الزواج ومن ظن أن ما لا يضر صاحب الشرع لا يضره كان كمن يظن أن ما لا يغير البحر الخضم من النجاسات لا يغير كوزا مغترفا من البحر وكم أحمق يتكايس فيقايس نفسه به مقايسة الملائكة بالحدادين فيهلك من حيث لا يدري نعوذ بالله من عمى البصيرة هذا كله حكم العفة
وأما ما يندرج تحت فضيلة العفة ورذيلتها ففضائل العفة الحياء والمسامحة والتصبر والسخاء وحسن التقدير والانبساط والدماثة والانتظام والقناعة والهدوء والورع والطلاقة والمساعدة وحسن الهيئة أعني الزينة الواجبة التي لا رعونة فيها
وأما الرذائل المندرجة تحت رذيلتي العفة وهما الشره وكلال الشهوة فهي الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتيكة والكزارة والمجانة والعبث والتحاشي والشكاسة والملق والحسد والشماتة
وأما العدالة فهي حالة للقوى الثلاثة في انتظامها على التناسب تحت الترتيب الواجب في الاستعلاء مع الانقياد فليس هو جزءا من الفضائل بل هو عبارة عن جملة الفضائل فانه مهما كان بين الملك وجنوده ورعيته ترتيب محمود بكون الملك بصيرا قاهرا وكون الجنود ذوي قوة وطاعة وكون الرعية ضعفاء سلسي القياد قيل إن العدل قائم في البلد ولن ينتظم العدل بأن يكون بعضهم بهذه الصفات دون كلهم كذلك العدل في مملكة البدن بين هذه الصفات والعدل في أخلاق النفس يتبعه لا محالة العدل في المعاملة والسياسة ويكون كالمتفرع منه ومعنى العدل الترتيب المستحسن إما في الأخلاق وإما في حقوق المعاملات وإما في أجزاء ما به قوام البلد والعدل في المعاملة وسط بين رذيلتي الغبن والتغابن وهو أن يأخذ ماله أخذه ويعطي ماله إعطاؤه والغبن أن يأخذ ما ليس له والتغابن أن يعطي في المعاملة ما ليس عليه حمد ولا أجر والعدل في السياسة أن يرتب أجزاء المدينة الترتيب المشاكل لترتيب أجزاء النفس حتى تكون المدينة في ائتلافها وتناسب أجزائها وتعاون أركانها علىالغرض المطلوب

من الاجتماع كالشخص الواحد فيوضع كل شيء موضعه وينقسم سكانه إلى مخدوم لا يخدم وإلى خادم ليس بمخدوم وإلى طبقة يخدمون من وجه ويخدمون من وجه كما يكون في قوى النفس فان بعضها مخدوم لا يخدم كالعقل المستفاد وبعضها خادم لا يخدم كالقوة الدافعة للفضلات وبعضها خادم من وجه ومخدوم من وجه كالمشاعر الباطنة ولا يكتنف العدل رذيلتان بل رذيلة الجور المقابل له إذ ليس بين الترتيب وعدم الترتيب وسط وبمثل هذا الترتيب والعدل قامت السموات والأرض حتى صار العالم كله كالشخص الواحد متعاون القوى والأجزاء مترتب التقدم والتأخر بتقديم المقدم الحق وتأخير المؤخر الحق جلت عظمته وعظمت قدرته
وشرح ذلك الترتيب من الروحاني المطلق والجسماني المطلق وما بين الروحاني والجسماني وتقسيم العالم إلى مؤثر لا يتأثر كالعقول وإلى متأثر لا يؤثر كالأجسام وإلى متأثر مؤثر كالنفوس فإنها تقبل من العقول وتوصل إلى السماوات وكل ذلك بتقدير العزيز العليم جل جلاله وعظم برهانه وتم سلطانه فالعدالة جامعة لجميع الفضائل والجور المقابل لها جامع لجميع الرذائل والله ولي التوفيق إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الافراط والتفريط حتى إذا حصل ذلك كله كمل كمالا يقربه إلى الله تعالى تقريبا بالرتبة بحسب قرب الملائكة المقربين من الله فلله البهاء الأعظم والكمال الأتم وكل موجود فمشتاق إلىالكمال الممكن له وهو غايته المطلوبة فان ناله التحق بأفق العالم الذي هو فوقه وإن حرم عنه اطرح إلى الحضيض الذي تحته فالإنسان بين أن ينال الكمال فليلتحق في القرب من الله بأفق الملائكة وذلك سعادته أو يقبل على ما هو مشترك بينه وبين البهائم من رذائل الشهوة والغضب فينحط إلى درجة البهائم ويهلك هلاكا مؤبدا وهو شقاوته أعاذنا الله منها بفضله

مثال القلب بالاضافة الى العلوم
اعلم أن مثال القلب الذي هو عبارة عن الروح المدبر لجميع الجوارح المخدوم من جميع القوى والأعضاء بالاضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالاضافة إلى صور المتلونات فكما أن للمتلون صورة ومثالا لتلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل فيها فكذلك لكل معلوم حقيقة وتلك الحقيقة صورته فتنطبع في المرآة أعني مرآة القلب فتتضح فيه وكما أن المرآة غير وصورة الأشخاص غير وحصول مثالها في المرآة غير فهي ثلاثة أمور ويحتاج إلى أمر رابع وهو نور بواسطته تنكشف الصورة في المرآة وتظهر فكذلك ههنا أربعة أمور القلب وحقائق الأشياء وحصول نقش الحقائق في القلب وحضوره فيه ونور به تنكشف الحقائق في القلب وهو في الشرع عبارة عن جبريل عليه السلام وفي عبارة الحكماء عبارة عن العقل بواسطته تفيض العلوم علىالأرواح البشرية فالعالم عبارة عن القلب الذي يحل فيه مثال حقائق الأشياء والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة والنار والشعاع عبارة عن الملك الموكل بافاضة العلوم علىالقلوب البشرية وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصور لخمسة أمور أحدها لنقصان صورته كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل والثاني لخبثه وصدئه وكدورته وان كان تام الشكل والثالث لكونه معدولا به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة والخامس

الجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذي بها شطر الصورة وجهتها فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن يتجلى فيه حقيقة الأمور كلها وانما خلت القلوب عنها لهذه الأسباب الخمسة
أولها نقصان في ذاته كقلب الصبي فانه لا يتجلى فيه حقائق المعلومات لنقصانه أو كروح ناقص في أصل الفطرة فان النفوس وان كانت نوعا واحدا ولكن في هذا النوع تفاوت عظيم وعرض واسع
والثاني لكدورة المعاصي والخبث الذي تراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات فان ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمنع ظهور الحق فيه كالشمس التي ينكسف بعضها أوكلها فيذهب نورها وبهاؤها بقدر ظلمتها واليه الاشارة بقوله عليه السلام من قارب ذنبا فارقه عقل لا يعود اليه أبدا أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها أبدا إذ غايته أن يتبعها بحسنة تمحوها فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها فالاقبال على طاعة الله تعالى والاعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ولهذا قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال عليه الصلاة و السلام من عمل بما ورثه الله علم ما لا يعلم
الثالث أن يكون معدولا به عن جهة الحقيقة المطلوبة فان قلب المطيع الصالح وان كان صافيا فانه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس يحاذي بمرآته شطر المطلوب بل ربما يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو تهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في الحضرة الربوبية والحقائق الخفية ولا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرا فيها أو مصالح المعيشة ان كان متفكرا فيها وإذا كان تقيد الهم بالطاعات وتفصيلها مانعا عن انكشاف

جلية الحق فما ظنك في صرف الهم إلى الشهوات واللذات الدنيوية وعلائقها وزخارفها فكيف لا يمنع عن الكشف الخفي
الرابع الحجاب فان المطيع القاهر لشهواته المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونها محجوبة عليه باعتقاد سبق اليه في ضد الحق منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن يحول ذلك بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد
وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السماوات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق
الخامس الجهل بالجهة التي منها يقع العثور على المطلوب فان طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بتذكر العلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء استخرج مطلوبه بطريق الاعتبار وتحصيل المجهول من المعلوم الذي سبق وهذا هو القانون المنطقي
فان المنطق آلة قانونية تعصمه مراعاتها من أن يضل في فكره فإذا حكم القوانين وطرق التفكر فعند ذلك يعثر على جهة المطلوب فتتجلى حقيقة المطلوب لقلبه فان العلوم المطلوبة ليست فطرية لا تحتاج إلى تجشم الاستدلال والنظر والاعتبار بل لا تقنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة فكل علم نظري لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص وشكل معلوم من الاشكال القياسية حمليا أو شرطيا متصلا أو منفصلا فيحصل من ازدواجهما علم ثالث يسمى النتيجة عند حصولها والمطلوب قبل حصولها فالجهل بتلك الأمور

وبتلك المقدمات وبكيفية الازدواج والترتيب المفضي إلى المطلوب تصورا أو تصديقا هو مانع من العلم
وهكذا كالمرآة إذا لم تحاذها شطر الصورة فلا تقع فيها الصورة وكذلك إذا حرف عن جهة الصور ففي اقتناص العلوم طرق عجيبة وازورارات وتحريفات خفية أعجب مما ذكرنا في المرآة ويعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور وإلا فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق وان كان بينها تفاوت كثير لأنه أمر رباني شريف كما ذكرناه فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف واليه الأشارة بقوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السماوات والأرضين والجبال بها صار مطيقا لحمل أمانة الله تعالى وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد للأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطها عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرنا ولذلك قال عليه الصلاة و السلام كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وقول رسول الله لولا الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء اشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلب وبين الملكوت
وفي الخبر قال الله تعالى لم يسعني أرضي وسمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوديع وفي الخبر أنه قيل من خير الناس فقال كل مؤمن محموم القلب فقيل وما محموم القلب فقال هو التقي النقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ولذلك قال عمر رضي الله عنه رأى قلبي ربي إذا كان قد رفع الحجاب بالتقوى ومن ارتفع الحجاب بينه وبين قلبه تجلت صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرضها السموات والأرض

بل أكثر سعة من السماوات والأرض فان الجنة وان كانت واسعة الأطراف متباعدة الاكناف فهي متناهية وأما عالم الملكوت وهي معرفة الحقائق والاسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بادراك البصر فلا نهاية لها
نعم الذي يلوح للقلب منه أيضا مقدار متناه ولكنه في نفسه بالإضافة إلى علم الله تعالى لا نهاية له وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة يسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة محيطة بكل الموجودات إذ ليس في الوجود شيء سوى الله وافعاله ومملكته وعبيده من أفعاله فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنة بعينه عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق وتكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله تعالى وصفاته وأفعاله وانما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه ومراد تزكيته حصول أنوار المعارف فيه وهو المراد بقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام وبقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
نعم هذا له مراتب فيها تتفاوت العلماء والحكماء وكل واحد له مقدار معلوم وغايته درجة الأنبياء الذين تتلألأ أنوار الحقائق في قلوبهم وينكشف لهم اسرار الملك والملكوت في صفائح أرواحهم على أتم ظهور واجلى بيان وفقنا الله لاتباعهم في جميع أفعالهم وأحوالهم وأخلاقهم أمثلة القلب مع جنوده وله ثلاثة أمثلة
الأول نقول مثل نفس الانسان في بدنه كمثل وال في مدينته ومملكته فان البدن مملكة النفس وعالمه ومستقرة ومدينته وقواه وجوارحه بمنزلة الصناع والعملة والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل والشهوة له كعبد سوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة والغضب والحمية له

كصاحب شرطة والعبد الجالب للميرة كذاب مكار مخادع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في كل تدبير يدبره حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته في آرائه ساعة فكما أن الوالي في مملكته متى استشار في تدبيراته لوزيره معرضا عن اشارة العبد الخبيث بل يستدل باشاراته على أن الصواب في نقيض رأيه وادب صاحب شرطته وأسلسه لوزيره وجعله مؤتمرا له مسلطا من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره حتى يكون العبد مسوسا لا سايسا ومأمورا مدبرا لا آمرا مدبرا استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه فكذلك النفس متى استعانت بالعقل وأدبت القوة الغضبية وسلطتها على الشهوة واستعانت باحديهما على الاخرى فتارة بأن تقلل من تيه الغضب وغلوائه بخلابة الشهوة واستدراجها وتارة بقمع الشهوة وبقهرها بتسليط القوة الغضبية عليها وتقبيح مقتضياتها اعتدلت قواه وحسنت أخلاقه ومن عدل عن هذا الطريق كان كمن قال الله سبحانه فيه أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وقال تعالى واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وقد ذكرنا كيفية تهذيب هذه الجنود في الفصل المتقدم
المثال الثاني ان البدن كالمدينة والعقل اعني القوة المدركة كملك مدبر لها وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة كجنوده وأعوانه وأعضاؤه كرعية والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته فصار بدنه كرباط وثغر ونفسه كمقيم فيه مرابط فان جاهد عدوه فهزمه وقهره على ما يجب حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال تعالى فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره وانتقم منه عند لقاء الله تعالى فيقال له يوم القيامة يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن

ولم تؤو الضالة ولم تجبر الكسير اليوم أنتقم منك كما ورد في الخبر وإلى هذه المجاهدة أشاروا بقولهم رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
المثال الثالث مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه فمتى كان الفارس حاذقا وفرسه مروضا وكلبه مؤدبا معلما كان جديرا بالنجح ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحا والكلب عقورا فلا فرسه ينبعث تحته منقادا ولا كلبه يسترسل باشارته مطيعا فهو خليق بأن يعطب فضلا من أن لا ينال ما طلب وانما خرق الفارس مثل جهل الانسان وقلة حكمته وكلال بصيرته وجماح الفرس مثل لغلبة شهوته خصوصا شهوة البطن والفرج وعقر الكلب مثل لغلبة الغضب واستيلائه وغلوائه وزعارته

ئ

النفس وحاجتها الى البدن
اعلم أن القوى الحيوانية قد تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد الحس عليها الجزئيات فيحدث لها من الجزئيات أمور أربعة
أحدها انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي وجوده فيحدث للنفس عن ذلك مباديء التصور عن استعمالها الخيال والوهم مثل الجنس والفصل والعرض العام والعرض الخاص
والثاني ايقاع النفس مناسبات بين هذه الكليات المفردة على مثال سلب وايجاب فما كان التأليف فيه ذاتيا بينا بنفسه أخذه وما كان ليس كذلك تركه إلى مصادفة الواسطة
الثالث تحصيل المقدمات التجريبية وهو أن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع ما كان حكمه بالايجاب والسلب أو تال موجب الاتصال أو مسلوبه أو موجب العناد أو مسلوبه وليس ذلك في بعض الأحايين دون بعض على المساواة بل دائما حتى تسكن النفس على أن طبيعة هذا المحمول أن يكون فيه هذه النسبة إلى هذا الموضوع والتالي أن يلزم هذا المقدم أو ينافيه لذاته لا بالاتفاق فيكون ذلك اعتقادا حاصلا من حس وقياس أما الحس فلأجل

مشاهدة ذلك وأما القياس فلأنه لو كان اتفاقا لما وجد دائما أو في الأكثر وهذا كالحكم بان السقمونيا مسهل للصفراء بطبعه لاحساسنا ذلك كثيرا وبقياسنا انه لو كان لا على الطبع بل بالاتفاق لوجد في بعض الأحايين
الرابع الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر فالنفس الانسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المباديء للتصور والتصديق ثم إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها فان تعرض لها من القوى التي دونها بأن يشغلها شغلته عن فعله وأضرت بفعله إلا في أمور تحتاج فيها إليها النفس خاصة بأن تعود إلى القوى الخيالية مرة أخرى لاقتناص مبدأ غير الذي حصل أو معاونة باحضار خيال وهذا يقع في الابتداء كثيرا ولا يقع بعده إلا قليلا
وأما إذا استكملت النفس وقويت فانها تنفرد بأفاعيلها على الاطلاق وتكون القوى الخيالية والحسية وسائر القوة البدنية غير صارفة لها عن فعلها بل شاغلة لها
ومثال ذلك إن الانسان قد يحتاج إلى دابة وآلات ليتوصل بها إلى المقصد فإذا وصل اليه ثم عرض من الاسباب ما يحول عن مقارنته صار السبب الموصل بعينه عائقا

بيان أن هذه القوى كيف يرأس بعضها بعضا وكيف يخدم بعضها بعضا
فانك تجد العقل المستفاد رئيسا مطلقا ويخدمه الكل وهو الغاية القصوى ثم العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة والعقل الهيولاني لما فيه من الاستعداد يخدم العقل بالملكة ثم العقل العملي يخدم جميع هذا لأن العلاقة البدنية لأجل تكميل العقل النظري والعقل العملي هو مدبر تلك العلاقة ثم العقل العملي يخدمه الوهم والوهم يخدمه قوتان قوة بعده وقوة قبله

فالقوة التي بعده هي القوة التي تحفظ ما أداه الوهم والقوة التي قبله هي جميع القوى الحيوانية ثم المتخيلة يخدمها قوتان مختلفتا المأخذ فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار لأنها تبعثها علىالتحريك والقوة الخيالية تخدمها بقبول التركيب والتفصيل فيما فيها من صورها ثم هذان رئيسان لطائفتين أما القوة الخيالية فيخدمها بنطاسيا وبنطاسيايخدمها الحواس الخمس وأما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة والغضب والشهوة والغضب تخدمها القوة المحركة بالفعل وإلى ههنا تنتهي القوى الحيوانية ثم القوى الحيوانية بالجملة تخدمها النباتية وأولها وأرأسها المولدة ثم المربية تخدم المولدة ثم الغاذية تخدمها جميعا ثم القوى الطبيعية الأربع تخدم هذه وهي الهاضمة وتخدمها من جهة الماسكة ومن جهة الجاذبة وتخدمها جميعها الدافعة وتخدم جميعها الكيفيات الأربع لكن الحرارة تخدمها البرودة وتخدم كليهما الرطوبة واليبوسة وهناك آخر درجات القوى

الأرواح البشرية حادثة
حدثت عند استعداد النقطة لقبول النفس من واهبها كما قال الله تعالى فاذا سويته ونفخت فيه من روحي كما حدثت الصورة في المرآة لحدوث الصقالة وان كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقالة وتلخيص البرهان أن الأرواح لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما كثيرة وإما واحدة وباطل وحدتها وكثرتها فباطل وجودها وانما استحال وحدتها لأنها بعد التعلق بالأبدان إما أن تبقى على وحدتها أو تكثرها ومحال وحدتها وكثرتها فمحال وجودها وانما استحال وحدتها بعد التعلق بالأبدان لعلمنا ضرورة بأن ما يعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو ولو كان الجوهر العاقل منهما واحد لاستحال اجتماع المتضادين فيه كما يستحيل في زيد وحده ونحن نعني بالروح العاقل كما ذكرنا ومحال كثرتها لأن الواحد انما لا يستحيل أن يتثنى وأن ينقسم إذا كان ذا مقدار كالأجسام فالجسم الواحد ينقسم فانه ذو مقدار فله بعض فيتبعض أما ما لا بعض له ولا مقدار فكيف ينقسم أما تقدير كثرتها قبل التعلق بالأبدان فمحال لأنها إما أن تكون متماثلة أو مختلفة وكل ذلك محال وانما استحال التماثل لأن وجود المثلين محال في الاصل ولهذا يستحيل وجود سوادين في محل واحد وجسمين في مكان واحد لأن الاثنينية تستدعي مغايرة ولا مغايرة ههنا وسوادان في محلين جائز لأن هذا يفارق ذلك في المحل إذا اختص هذا بمحل لا يختص به

الآخر وكذلك يجوز سوادان في محل واحد في زمانين إذ لهذا وصف ليس للآخر وهو الافتراق بهذا الزمان الخاص فليس في الوجود مثلا مطلقا بل بالاضافة كقولنا زيد وعمرو مثلان في الانسانية والجسمية وسواد الحبر والغراب مثلان في السوادية ومحال تغايرها لأن التغاير نوعان
أحدهما باختلاف النوع والماهية كتغاير النار والماء وتغاير السواد والعلم
الثاني بالعوارض التي لا تدخل في الماهية كتغاير الماء الحار للماء البارد فان كان تغاير الأرواح البشرية بالنوع والماهية فمحال لأن الأرواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة وهي نوع واحد لأن الحد وهو الحيوان الناطق يشملها وان كانت متغايرة بالعوارض فمحال لأن الحقيقة الواحدة انما تتغاير عوارضها إذا كانت متعلقة بالأجساد منسوبة اليها بنوع ما ولا تعلق لها بالاجسام قبل وجود الأبدان فكان الاختلاف محالا إذ الاختلاف في أجزاء الجسم ضرورة ولو كان في القرب من السماء والبعد منه مثلا أما إذا لم يكن كذلك كان الأختلاف والتغاير محالا وهذا ربما يحتاج تحقيقه إلى مزيد بيان ولكن في هذا القدر تنبيه عليه
فان قيل فكيف تكون حال الأرواح بعد مفارقة الأجسام ولا تعلق لها بالاجسام فكيف تكثرث وتغايرت
فالجواب أن نقول لأنها اكتسبت بعد التعلق بالأبدان أوصافا مختلفة من العلم والجهل والصفاء والكدرة وحسن الأخلاق وقبحها فبقيت بسببها متغايرة فعقلت كثرتها بخلاف ما قبل الاجساد فانه لا سبب لتغايرها فقد اتضح أن النفس تحدث كما تحدث مادة بدنية صالحة لاستعمالها إياها ويكون البدن آلة ومملكة لها ويكون للنفس الحادثة في جوهرها هيئة نزاع طبيعي إلى الاشتغال بذلك البدن خاصة والاهتمام بأحواله والانجذاب اليه وتلك الهيئة تكون

مقتضية لاختصاصها بذلك البدن ولا بد أن تكون مناسبة له مناسبة خاصة لصلوح سياسة بدن خاص دون آخر وان خفيت علينا تلك المناسبة بعينها فان تلك المناسبات غير محصورة ولا ظاهرة والله سبحانه وتعالى يتولى أسرارها وسرائرها
فان قيل لا نسلم بأن النفوس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى ولسنا نسلم أن الأنواع انما تتكثر من جهة النسبة إلى المادة والمكان والزمان فحسب بل الماديات انما تتكثر بالمقادير والكائنات الزمانية والنفوس الإنسانية ليست بمادية في ذاتها وانما نسبتها إلى المادة بوجه التدبير والتصرف لا بوجه الانطباع في المادة حتى يستدعي مكانا مميزا وزمانا مميزا والتدبير والتصرف لا يوجب تعددا ذاتيا فان الواحد يجوز أن يكون متصرفا في أشياء والعدد الكثير يجوز أن يكون متصرفا في شيء واحد فهذه النسبة لذاتها لا توجب الكثرة في الذات
قلنا الدليل على أن النفوس الإنسانية متفقة النوع ما ذكرناه وهو أن حد الانسان يشملها وهو الحي الناطق وما شمله حد النوع فهو متفق في النوع والدليل على أن أسباب التكثر ما ذكرته أن الأشياء التي ذواتها حقائق فقط انما تكثرها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة ما اليها وإلى أزمنتها فقط فاذا كانت مجردة لم تقترن بذلك فمحال أن يكون بينهما مغايرة وتكثر
وأما قولهم إن النفس الإنسانية ليست بمادية فتتمايز بالمادة فمسلم لكنها ذات نسبة إلىالمادة أي نسبة كانت وان لم تكن نسبة الانطباع فنسبة التدبير والتصرف وهذه النسبة مؤثرة في التمييز كافية فيقال إن النفس الإنسانية ملك تلك المدينة الفاضلة
فان قيل لا نسلم إن الأسباب المكثرة محصورة فيما ذكرتم من أقسام الحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو النسبة اليها فماالدليل على الحصر أليست

المفارقات متغايرة الذوات والحقائق ولا حوامل لها ولا قوابل ولا مكان ولا زمان وانما تتمايز وتتغاير بحقائقها الذاتية وانما نوعها في شخصها أعني في ذاتها فهلا قلتم في النفوس الانسانية انها تتغاير بخواصها أو بأمر آخر سوى الحوامل أليست النفوس بعد المفارقة تتغاير بالعدد وتقولون انها تتغاير بما اكتسبت من الأبدان من الأخلاق والعلوم وقلتم يكفيها في التمييز هيئة انها كانت نفس البدن الفلاني ولئن كان هذا القدر كافيا في التمييز فهلا كان كافيا في التمييز هيئة انها ستكون نفس البدن الفلاني فان الانطباع في البدن ليس بشرط
قلنا في المفارقات قد قام الدليل على انها متغايرة الحقائق أما النفوس البشرية فيشملها حد واحد كما ذكرنا وانما يمكن وجودها وتعددها بعد المفارقة بهيئات وأخلاق اكتسبت من الأبدان وقبل الاتصال بالبدن لا يمكن أن تكتسب من الأبدان شيئا إذ لا أبدان وما لا يكون ليس له تأثير فانا نعلم قطعا انها بعد الاتصال بالبدن انما تكمل بمعاونة البدن وتكتسب فضائل ورذائل من العلاقة البدنية فقبل البدن لا علاقة فلا اكتساب فلا تغاير فثبت انها تحدث مع البدن
فان قيل أحلتم وجود النفوس البشرية قبل الأبدان ببيان ما ذكرتم من انها لا تتصور قبل الأبدان ونحن نورد اشكالين واقعين على نحو وجودها متصلة بالأبدان وحادثة مع حدوث الأبدان وذلك لأنه من المسلم بيننا أن النفوس الإنسانية ليست مادية ولا منطبعة في مادة وما هذا سبيله فليس حدوثه على تدريج شيء بعد شيء أو زمان بعد زمان بل يكون وجوده ابداعيا محضا ووجود البدن ليس بابداعي محض بل على تدريج شيء بعد شيء واستحالة جزء بعد جزء فأي جزء بعينه انتهت النوبة اليه في الاستحالة حتى يحدث عنده النفس ويتصل به وليس جزءا بعينه إلا ويمكن حدوث النفس قبله بلحظة أو بعده بلحظة ولو قلتم انها تحدث عند كمال الاستعداد فيقال وكمال الاستعداد ليس يحصل بغتة ودفعة بل على تدريج كمال بعد كمال وقد

بان انها كمال واحد يحصل ابداعا لا تدريج فيه ثم ان الاستعداد وكمال الاستعداد انما يشترط فيما هو صورة مادية أعني منطبعة في المادة فيكون الاستعداد سببا ما بوجه ما لحصول الصورة فيه من واهب الصور ولا يشترط ذلك في النفوس التي ليست منطبعة في مادة اصلا ولا علاقة بينها وبين القوى المادية إلا علاقة التدبير والتصرف في المملكة فالتصرف فيه كيف يكون سببا لوجوب المتصرف المدبر فيه والمدبر اولى بان يكون متقدما في الوجود على المملكة واشتراط الاستعداد لقبول الصورة حتى توجد الصورة في المستعد غير واشتراط الاستعداد لقبول تصرف النفس غير فان الاستعداد الأول يصلح سببا لوجود النفس بوجه ما بل هو سبب لقبول تصرفه فيه إما ليفيده كمالا أو ليستفيد منه فائدة وهذا إشكال عظيم
فالجواب عنه كلمة واحدة فان العلم نكتة واحدة كثرها الجهل فنقول لا ارتياب في ان النفوس إبداعية وانها ليست منطبعة في المادة وانما تحدث من مبدعها عند كمال الاستعداد الذي عبر عنه في التنزيل بقوله فاذا سويته ومبدعها أعلم بكمال الاستعداد وليس في طاقة القوى البشرية الاحاطة بتفاصيل الاستعدادات ولكن على الجملة نعلم أن الصور تفيض من مبدعها وواهبها كما يقتضيها جود الجواد المحض عن كمال العلم المحيط بتفاصيل المعلومات فيعطي كل مستحق ما يستحقه وكل قاصر ما يكمله بل ماهيات الأشياء واستعداداتها من جوده الفياض بواسطة الأسباب المعطية للاستعدادات الخاصة من الأجرام العنصرية وامتزاجاتها وحركات السماوات واجرامها وأشكالها وخواصها وفيض العقول علىالنفوس وافاضة النفوس طلبا للاستكمال تحريكا للسماوات فالكل من جود الجواد الحق الذي يعطي كل حقيقة وجودها وهو أعلم بكمال الاستعداد وأي استعداد يستحق أي صورة وعلوم البشر قاصر عن ادراك ذلك وإذا بلغ الكلام إلى الله سبحانه فينقطع سؤال لم كما ينقطع مطلب ما لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون

الاشكال الثاني إن النفوس إذا كانت متشابهة في النوع فائضة من واهب الصور وليس في فيضانه اختلاف فمن أين يجب أن يكون كل نفس حادثة ذات هيئة نزاعية طبيعية إلى الاشتغال ببدن مخصوص والاهتما باحواله ومن أين يلزم أن يكون لها مناسبة خاصة تصلح لسياسة بدن خاص دون بدن فان كانت هذه الهيئة لازمة لذاتها فهي متخصصة بهذه الهيئة قبل وجود البدن وإن كانت هذه الهيئة تكتسب هذه الهيئة من البدن فكيف يسبق الموجب على الموجب وكيف تكون تلك الهيئة نزاعية طبيعية
وجملة القول ان لم تكن هيئة مختصة فلم اختصت ببدن دون بدن وان كانت الهيئة طبيعية على حالتها فهي المخصصة لذاتها بعد الاتفاق في النوع وإن كانت مكتسبة من خارج وهو إما هذا البدن أو غيره فليتحقق لها وجود حتى تكتسب الهيئة المخصصة وكل ذلك محال ثم اختلاف المناسبات والهيئات تستدعي اختلاف الأسباب وواهب الصور واحد في ذاته أحدي الافاضة فلا اختلاف هناك ولا تأثير لاختلاف الأمزجة في اختلاف هيئات النفوس إذ لا انطباع ولا حلول ولااتصال بين المجردات وبين الامزجة بخلاف النفوس النباتية والنفوس الحيوانية والصور الجسمانية والصور الطبيعية فان اختلاف النفوس والصور لاختلاف موادها وصورها مقدرة على استعداداتها
وحل هذا الاشكال أن تقول نعم أن المناسبات والهيئات المختلفة تستدعي أسبابا مختلفة واسباب الاستعدادات وأسباب الامتزاجات وجميع ما يحدث في العالم العنصري منوطة بالحركات السماوية وحتى الاختيارات والارادات فانها لا محالة أمور تحدث بعد ما لم تكن ولكل حادث بعد ما لم يكن علة وسبب حادث وينتهي ذلك الى الحركة ومن الحركات إلى المستديرة فجميع الاستعدادات تابعة للحركات السماوية ثم الحركات المستديرة مستندة إلى اختيارات النفوس الفلكية والكل يستند إلى العقل الآلهي المستعلي علىالكل الذي منه ينشعب المقدورات فالجود الإلهي بواسطة العقول

والنفوس والحركات السماوية يعطي كل مادة استعدادها لصورة خاصة والنفوس لا تحدث بالاستعداد الخاص بل عند الاستعداد الخاص وفرق بين ان تحصل عنده أو به
ثم الهيئة النزاعية في النفس انما تكون بعد الاتصال بها فاذا حدوث النفس له صفة في الفاعل وصفة في القابل أما صفة الفاعل فالجود الإلهي الذي هو ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل ماله قبول الوجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة وان أضفت هذا الفيض إلى الوسائط فواهب الصور
ومثاله فيضان نور الشمس على كل قابل للاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما والقابل للاستنارة هي المتلونات دون الهواء الذي لا لون له
وأما صفة القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل بالتسوية كما قال سويته ومثال صفة القابل صقالة الحديد فان المرآة التي ستر الصدأ وجهها لا تقبل الصورة وان كانت محاذية للصورة وإذا اشتغل المصقل بتصقيلها فكلما حصلت الصقالة حدثت فيها الصورة من ذي الصورة المحاذية لها فكذلك إذا حصل الاستواء والاستعداد في النطفة حدثت فيها النفس من واهبها وخالقها من غير تغير في الواهب بل إنما حدث الروح الآن لا قبله لتغير المحل بحصول الإستواء الآن لا قبله كما أن الصورة فاضت من ذي الصورة على المرآة في حكم الوهم من غير تغير في الصورة ولكن كان لا تحصيل من قبل لأن الصورة ليست مهيئة لأن تنطبع في المرآة لكن لأن المرآة لم تكن صقيلة
فان قيل فاذا كانت الأرواح حادثة مع الأجساد فما معنى قوله خلق الله الأرواح قبل الاجساد بألفي عام وقوله عليه السلام أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وقوله عليه السلام كنت نبيا وآدم لمنجدل بين الماء والطين

قلنا شيء من هذا لا يدل على قدم الروح بل على حدوثه وكونه مخلوقا نعم ربما دل بظاهره على تقديم وجوده على الجسد كما ظن جماعة من الحكماء وأمر الظواهر هين فان تأويلها ممكن والبرهان القاطع لا يدرأ بالظواهر بل يسلط على تأويل الظواهر كما في ظواهر الآيات المتشابهات في حق الله تعالى
أما قوله عليه السلام خلق الله الأرواح قبل الأجساد أراد بالأرواح أرواح الملائكة وبالاجساد العالم من العرش والكرسي والسموات والكواكب والهواء والماء والأرض وكما أن أجساد الآدميين بجملتهم صغيرة بالاضافة إلى جرم الأرض وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير ثم لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكه ولا لفلكه إلى السموات التي فوقه ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيه السموات والأرض والكرسي صغير بالاضافة إلى العرش فاذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الاجساد فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح البشر بالاضافة الى أرواح الملائكة كأجسادهم بالاضافة إلى أجساد العالم ولو انفتح لك باب معرفة الملكية لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة ولأرواح الملائكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبته ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان بخلاف الأرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع أما الملائكة فكل واحد نوع برأسه وهو كل ذلك النوع واليه الإشارة بقوله تعالى وما منا الا له مقام معلوم وبقوله عليه السلام إن الراكع منهم لا يسجد والقائم لا يركع وانه ما من واحد إلا وله مقام معلوم فلا تفهمن إذا من الأرواح والأجساد المطلقة إلا أرواح الملائكة وأجساد العالم
وأما قوله عليه الصلاة و السلام أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وقوله عليه السلام نحن الآخرون والسابقون وقد قال عليه السلام أول ما خلق الله القلم وقال أول ما خلق الله العرش وقال أول

ما خلق الله جوهر محمد وغير ذلك فكشف الغطاء عن هذا من وجوه تحت كل وجه فوائد لطيفة ولطائف من الحكمة قلما تسطر في الكتب
الوجه الأول انا شاهدنا الموجودات كلها بشهادة الحس والعقل على ترتب وتفاضل في النوع والشخص
أما في المركبات التي هي أقرب إلى حواسنا فالمعادن والنباتات والحيوان والإنسان على تفاضل وانتهى ذلك بالانسان وانتهى الانسان بالشخص الواحد الأفضل من الكل كالنبي في زمانه والولي في كل زمان
وأما في البسائط الجسمانية أعني المتشابهة الاجزاء فهي أيضا على تفاضل في الجوهر والحيز والعظم والحركة والأفضل من الكل الجرم الأقصى وهو الذي عبر عنه التنزيل بالعرش والكرسي الذي وسع السماوات والأرض
وأما في البسائط الروحانية أعني المجردة عن المواد المنزهة عن المكان والزمان ففيها ترتب وتفاضل فما كان أشد قوة وأوسع علما وإحاطة وأبلغ في الوحدة وأشبه بكمال الربوبية كان في المقام الأعلى والمرتبة الأقصى ولا بد أن ينتهي بواحد فان المترتبات المتفاضلات إن لم تنته بواحد أوجب ذلك الحكم بالتسلسل وذلك محال فالمترتبات في كل قسم انتهت بواحد هو مبدؤها
وربما يعبر لسان النبوة عن ذلك الواحد بانه أول ما خلق الله تعالى فالروحانيات انتهت بروح القدس أو العقل الفعال أو شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو أول المبدعات ثم ينزل بالترتب والتفاضل كما قيل أول ما خلق الله عزو جل العقل ثم النفس ثم الهيولي أو ما روي في الخبر ان أول ما خلق الله عز و جل القلم ثم اللوح ثم الظلمة الخارجة
وأما الجسمانيات فقد انتهت بالجرم الأقصى وهو ما روي أن أول ما

خلق الله العرش ثم الكرسي وأما في المركبات فقد انتهت بجوهر النبوة وأكملها وأفضلها جوهر محمد وذلك ما روي إن أول ما خلق الله تعالى جوهر محمد فقد وجدت لكل مقال مجالا ولكل مذهب محملا ومساغا ثم الأولية في كل صنف منها هل هي أولية بالزمان أو أولية بالمكان أو أولية بالذات أعني العلة الفاعلية أو الكمالية فذلك مطلب آخر سهل التناول قريب المأخذ والمجتنى
الوجه الثاني إن المبادىء تساق إلى الكمالات حتى لو لم يكن كمال لم يكن مبدأ كما لو لم يكن مبدأ لم يكن كمال وان المعقولات تظهر بالمحسوسات وكما أن كمال جلال الحق انما يظهر بأفعاله وصنائعه وكذلك الأمر الحق انما يظهر بخلقه وكذلك العقل انما يظهر بالنفس والنفس انما تظهر بالطبيعة والطبيعة إنما تظهر بالجسم الكلي وكذلك جميع الموجودات إنما يظهر بالانسان حتى يكون جسمه وطبيعته مظهر الجسم والطبيعة ونفسه وعقله مظهر النفس والعقل وتسليمه مظهر الأمر الحق فيظهر به جلال الباري تعالى وإكرامه
ويصح ان يقال لولاك ما خلقت الافلاك فهو الخلاصة من الخليقة والصفوة من البرية وهو الكمال والغاية والسدرة المنتهى وهو أول ماخلق وآخر ما بعث كما ذكره عليه السلام
الوجه الثالث ان الطبيعة المسخرة تؤثر في إعداد المادة لقبول فيض الأمر والعقل والنفس حتى يحصل في المركبات باستصفاء العناصر واستخلاص اللباب من المواد وابتلاء الامشاج من المزاج طبقة بعد طبقة واستصفاء بعد استصفاء حتى يحصل في المركبات الجزئية شخص في مقابلة العقل الكلي بل هو شخص العقل أو عقل الشخص وذلك هو نبى زمانه فيكون العود به كما كان البدء اليه فيضاهي صاحب المبدأ صاحب الكمال وتكون النهاية هي الرجوع إلى

البداية ويكون أول الفكر آخر العمل ويظهر معنى قول النبي الآخرون السابقون
الوجه الرابع كما ابتدأ الدين والشريعة من آدم عليه السلام واستكمل نوع كمال بنوح عليه السلام ونوع كمال بموسى عليه السلام ونوع كمال بعيسى عليه السلام ونوع كمال بالمصطفى عليه السلام وابتدأ العود من المصطفى في دار الجزاء ولذلك قال أنا أول من ينشق عنه الأرض وأنا العاقب وانا الحاشر يحشر الناس على قدمي

بقاء النفس
ونذكر أنها لا تموت بموت البدن ثم نذكر انها لا تفنى مطلقا ونذكر برهانه من المنقول والمعقول
أما المنقول فقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ومعلوم أن من كان حيا مرزوقا فرحا مستبشرا به لا يكون ميتا معدوما وكذلك قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء وقال رسول الله أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة وقد ترسخ في جميع عقائد أهل الإسلام هذا فان رسول المغفرة والرحمة لمن يكون باقيا لا لمن يكون فانيا وكذلك اهداء الصدقة فاعتقادهم انها تصل اليه وكذلك المنامات فكل ذلك دليل على أنها باقية
وقد ذكرنا ان النفس ليست منطبعة في البدن بل لها العلاقة مع البدن بالتصرف والتدبير والموت انقطاع تلك العلاقة أعنى تصرفاتها وتدبيراتها عن البدن وانما يموت الروح الحيواني وهوبخار لطيف ينشأ من القلب ويتصاعد إلى الدماغ ومن الدماغ بواسطة العروق إلى جميع البدن وفي كل موضع ينتهي اليه يفيد فائدة من الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة فذلك الروح لا ينقى وإذا بطل ذلك الروح بطل مايتبعه من الحواس الظاهرة والباطنة والقوى المحركة

أما البرهان العقلي فلأن كل شيء يفسد بفاسد شيء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق وكل متعلق بشيء آخر نوعا من التعلق فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود أو تعلق المتأخر عنه في الوجود أو تعلق المتقدم عليه في الوجود الذي هو قبله في الذات لا في الزمان فان كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافيء في الوجود وذلك أمر ذاتي له لا عرضي فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه فليس لا النفس ولا البدن بجوهر ولكنهما جوهران
وإن كان ذلك أمرا عرضيا لا ذاتيا فان فسد أحدهما بطل العارض الآخر من الاضافة ولم يفسد الذات بفساده وإن كان تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود فالبدن علة للنفس في الوجود والعلل أربع فاما أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود وإما أن يكون علة قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم وإما أن يكون علة صورية وإما ان يكون علة كمالية ومحال أن يكون علة فاعلية فان الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا وانما يفعل بقواه ولو كان بذاته يفعل لا بقواه لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل
ثم القوى الجسمانية كلها إما أعراض وإما صور مادية ومحال أن يفيد الأعراض أو الصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ووجود جوهر مطلق ومحال أيضا أن يكون علة قابلية فقد برهنا وبينا أن النفس ليست منطبقة في البدن بوجه من الوجوه فلا يكون إذا البدن متصورا بصورة النفس لا بحسب البساطة ولا على سبيل التركيب بأن يكون جزءا من أجزاء البدن يتركب فتحدث النفس ومحال أن تكون علة صورية للنفس او كمالية فان الأولى ان يكون الأمر بالعكس فاذا ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية
نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس فانه إذا حدث بدن يصلح ان يكون

آلة لنفس ومملكة له أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية او حدث عنها ذلك فان احداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد محال ومع ذلك فانه يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد لما بيناه ولأنه لا بد لكل كائن بعد ما لم يكن من ان يتقدمه مادة فيكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبة اليه كما تبين في العلوم الأخر ولأنه لو كان يجوز أن تكون نفس جزئية تحدث ولم يحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شيء معطل في الطبيعة المسخرة المبلغة كل شيء من العنصريات إلى كمالها وغايتها ولكن اذا حدث التهيؤ للنسبة والاستعداد للآلة فيلزم حينئذ أن يحدث من الجود الآلهي الفياض بواسطة العلل المفارقة شيء هو النفس وليس إذا وجب حدوث شيء مع حدوث شيء وجب ان يبطل مع بطلانه وانما يكون ذلك إذا كان ذات الشيء قائما بذلك الشيء وفيه
وقد تحدث أمور عن أمور وتبطل تلك الأمور وتبقى هي إذا كانت ذاتها غير قائمة فيها وخصوصا إذا كان مفيد الوجود لها شيئا آخر غير الذي انما هو تهيأ افادة وجوده مع وجوده ومفيد وجود النفس شيء غير الجسم كما بينا وإلا هو قوة في جسم بل هو لا محالة أيضا جوهر غير جسم فاذا كان وجوده من ذلك الشيء ومن البدن يحصل وقت استحقاقه الوجود فقط فليس له تعلق في نفس الوجود بالبدن ولا البدن علة له إلا بالعرض فلا يجوز إذا ان يقال إن التعلق بينهما على نحو يوجب أن يكون الجسم متقدم الذات على النفس
وأما القسم الثالث مما كنا ذكرنا في الابتداء وهو ان يكون تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم في الوجود فاما ان يكون التقدم مع ذلك زمانا فيستحيل ان يتعلق به وجوده وقد تقدمه في الزمان وإما ان يكون التقدم في الذات لا في الزمان لأنه في الزمان لا يفارقه وهذا النحو من التقدم هو أن يكون الذات المتقدمة كلما توجد يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخر في الوجود وحينئذ لا يوجد

أيضا هذا المتقدم في الوجود إذا فرض المتأخر قد عدم لا لأن فرض عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم ولكن لأن المتأخر لا يجوز ان يكون عدم إلا وقد عرض أولا بالطبع للمتقدم ما اعدمه فحينئذ عدم المتأخر فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم ولكن فرض عدم المتقدم نفسه لأنه إنما افترض المتأخر معدوما بعد أن عرض للمتقدم إن عدم في نفسه وإذا كان كذلك فيجب ان يكون السبب المعدم يعرض في جوهر النفس فيفسد معه البدن وان لا يكون البتة يفسد بسبب يخصه لكن فساد البدن بسبب يخصه من تغير المزاج او التركيب فباطل ان تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات ثم تفسد بالبدن البتة فليس إذا بينهما هذا التعلق وإذا كان الأمر على هذا فقد بطل انحاء التعلق كلها وبقي ان لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن بل تعلقه في الوجود بالجود الإلهي بواسطة المبادىء الأخر التي لا تستحيل ولا تبطل

النفس لا تفنى مطلقا
نقول إن النفس لا يتطرق اليها الفناء والعدم والفساد والهلاك وذلك ان كل شيء من شأنه ان يفسد بسبب ما ففيه قوة ان يفسد وقبل الفساد فيه فعل ان يبقى ومحال ان يكون من جهة واحدة وفي شيء واحد قوة ان يفسد وفعل ان يبقى بل تهيؤه للفساد ليس لفعل ان يبقى فان معنى القوة مغاير لمعنى الفعل واضافة هذه القوة مغايرة لأضافة هذا الفعل لأن اضافة ذلك إلى الفساد واضافة هذا إلى البقاء فاذا لأمرين مختلفين في الشيء يوجد هذان المعنيان وهذا انما يكون في الأشياء المركبة أو الأشياء البسيطة في المركبة وأما في الاشياء البسيطة المفارقة الذات فلا يجوز فيها هذان الامران
ونقول بوجه مطلق أنه لا يجوز ان يجتمع في شيء احدي الذات هذان المعنيان وذلك لان كل شيء يبقى وله قوة ان يفسد فله قوة ان يبقى لأن

بقاءه ليس بواجب ضروري وإذا لم يكن واجبا كان ممكنا والامكان طبيعة القوة فإذا يكون له في جوهره قوة ان يبقى وفعل ان يبقى وفعل ان يبقى منه لا محالة ليس هو قوة ان يبقى منه وهذا بين فيكون إذا فعل ان يبقى منه امرا يعرض للشيء الذي له قوة ان يبقى منه فتلك القوة لا تكون لذات ما بالفعل بل للشيء الذي يعرض له ان يبقى بالفعل لا بوجود ذاته
فلزم من هذا ان تكون ذاته مركبة من شيء كان به ذاته موجودا بالفعل وهو الصورة في كل شيء ومن شيء حصل له هذا الفعل وفي طباعه قوته وهو مادته فان كانت النفس بسيطة مطلقة لم ينقسم إلى مادة وصورة وان كانت مركبة فلنترك المركب ولننظر في الجوهر الذي هو مادته ولنصرف القول إلى نفس مادته ولنتكلم فيها
ونقول إن تلك المادة إما ان تنقسم هكذا دائما ونثبت الكلام دائما وهذا محال وإما ان لا يبطل الشيء الذي هو الجوهر والسنخ وكلامنا في هذا الشيء الذي هو السنخ والاصل لا في شيء يجتمع منه ومن شيء آخر فبين أن كل شيء هو بسيط غير مركب أو هو أصل مركب وسنخه فهو غير مجتمع فيه فعل ان يبقى وقوة ان يعدم بالقياس إلى ذاته فاذا كانت فيه قوة أن يعدم فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى وإن كان فيه فعل ان يبقى وان يوجد فليس فيه قوة ان يعدم فبين إذا ان جوهر النفس ليس فيه قوة ان يفسد
وأما الكائنات التي تفسد فان الفاسد منها هو المركب المجتمع وقوة ان تفسد وان تبقى ليس في المعنى الذي به المركب واحد بل في المادة التي هي بالقوة قابلة كلا الضدين فليس إذا في الفاسد المركب لا قوة ان يبقى ولا قوة ان يفسد فلم يجتمعا فيه
وأما المادة فاما ان تكون باقية لا بقوة تستعد بها للبقاء كما يظن قوم وإما ان تكون باقية بقوة بها تبقى وليس لها قوة ان تفسد بل قوة ان تفسد شيء

آخر فيها يحدث والبسائط التي في المادة فان قوة فسادها هو في المادة لا في جوهرها والبرهان الذي يوجب ان كل كائن فاسد من جهة تناهي قوة النفي والبطلان انما يوجب فيما كونه من مادة وصورة ويكون في مادته قوة ان يبقى فيه هذه الصورة وقوة ان تفسد هي فيهما معا فقد بان إذا ان النفس لا تفسد البتة وإلى هذا سقنا كلامنا والله ولي التوفيق

اثبات العقل المفارق الفعال والعقل المنفعل في النفوس الانسانية ومراتب
العقول
واثبات العقل الفعال من حيث الشرع أظهر من ان يثبت لوروده جليا في النصوص
كقوله تعالى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وكقوله تعالى انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين وكقوله وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا
وأما من حيث العقل فمن وجوه الأول ما ذكرناه قبل ذلك من ترتب الموجودات وتفاضلها وانها في أجسام البسائط تنتهي إلى العرش وفي الروحانيات إلى العقل والنفس وفي المركبات إلى جوهر محمد وقد بسطنا ذلك الفصل فلا نعيده
الوجه الثاني قد بان لك ان المرتسم بالصورة العقلية غير جسم ولا في جسم لأن الجسم ينقسم وما في الجسم ايضا والصور العقلية كلية متحدة لا تنقسم فلو حلت جسما لانقسمت وانقسامها محال فحلولها في الجسم وما في الجسم محال
وانت تعلم ان المرتسم بالصورة التي قبلها اعني الوهم والخيال والحس

قوى مركوزة في الأجسام وان الصورة إذا كانت حاصلة في القوى ولم تغب عنها وان الانسان يدرك صورا عقلية ثم تغيب عنه وان أراد ان يعود اليها يعود على قرب من غير تكلف اكتساب بل يحتاج إلى الاقبال عليها فهذه الصور العقلية التي غابت إما أن تكون قد انعدمت فينبغي ان يحتاج إلى الاكتساب كما كان أولا يحتاج إليه وان لم تنعدم فاما ان تكون في النفس أو في البدن او خارجا فان كانت في النفس فينبغي ان تكون شاعرة بها عاقلة لأنه لا معنى للتعقل إلا حصول تلك الصورة في النفس ولا يجوز ان تكون في البدن لما ذكرنا ان المعقولات لا تحل الأجسام وما في الاجسام وان كانت خارجة فاما ان تكون قائمة بنفسها أو تكون في جوهر آخر شأنه إفاضة المعقولات على الأنفس البشرية ولا يجوز ان تكون قائمة بنفسها لأن المعاني قيامها بالجوهر فلا تقوم بنفسها فبقي أن تكون في الجوهر المفيض للمعقولات فثبت بهذا وجود ملك شأنه ما ذكرناه وذلك هو العقل الفعال وهو روح القدس
ثم الدليل على ان التعقل لا يكون غير التمثل فانها لو غابت عنها ثم عاودتها لا يحصل غير التمثيل فلو كان هذا التمثيل ثابتا للنفس كانت شاعرة بها عاقلة لها فيجب ان تكون الصورة قد زالت عن النفس زوالا ما وهذا بخلاف ما يدركه الوهم ثم يغيب عنها فان للقوة الوهمية خازنا يحفظ مدركاتها فمتى غابت عن الوهم والتفت اليها اخذ منه المعاني التي استفادت من الصور
نعم لاننكر ان الزوال يكون على قسمين فتارة يزول عن القوة الدراكة ويتحفظ في قوة اخرى كالخازن لها وتارة يزول عن القوة وعن الخازن ففي الوجه الثاني يحتاج إلى تجشم كسب جديد وعلىالأول لا يحتاج الى كسب بل إلى التفاوت ومطالعة للخزانة من غير تجشم كسب وفي المعقولات يحتمل القسمين ولكن قد بينا انه لا خازن لها لا في النفس ولا في البدن فبقي ان يكون شيئا خارجا إذا وقع بين نفوسنا وبينه اتصال ما ارتسم منه فيها الصور العقلية الخاصة بذلك الاستعداد لأحكام خاصة

وإذا اعرضت النفس عنه إلى ما يلي العالم الجسداني او الى صورة اخرى انمحى ما تمثل اولا كأن المرآة التي تحاذي بها جانب القدس قد اعرض بها عنه إلى جانب الحس او الى شيء آخر من امور القدس وهذا انما يكون ايضا اذا اكتسبت ملكة الاتصال بالعقل الفعال
الوجه الثالث ان النفس الانسانية قد تكون عاقلة بالقوة ثم تصير عاقلة بالفعل وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فانما يخرج بسبب هو بالفعل يخرجه فههنا سبب هو الذي يخرج نفوسنا في المعقولات من القوة إلى الفعل وإذ هو السبب في اعطاء الصور العقلية فيكون عقلا بالفعل عنده مبادىء الصور العقلية مجردة فهذا الشيء سمي بالقياس إلى العقول التي تخرج منه الى الفعل عقلا فعالا كما يسمى العقل الهيولاني بالقياس اليه عقلا منفعلا ويسمى العقل الكائن بينهما عقلا منفعلا ويسمى العقل الكائن بينهما عقلا مستفادا
ونسبة العقل الفعال إلى نفوسنا نسبة الشمس الى ابصارنا فكما ان الشمس تبصر بذاتها بالفعل ويبصر بنورها ما ليس مبصرا بالفعل كذلك حال هذا العقل عند نفوسنا فإن القوة العقلية إذا اطلعت على الجزئيات في الخيال وأشرق عليها نور العقل الفعال استحالت مجردة عن المادة وعلائقها وانطبعت في النفس الناطقة لا على أن نفسها تنتقل من التخيل إلى العقل منا ولا على ان المعنى المغمور في العلائق وهو في نفسه واعتباره مجرد يعقل مثل نفسه بل على معنى ان مطالعتها تعد النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال فان الافكار والتأملات حركات معدة المنفس نحو قبول الفيض كما أن الحدود الوسطى معدة بنحو أشد تأكيدا لقبول النتيجة وان كان الأول على سبيل والثاني على سبيل فتكون النفس الناطقة إذا وقعت لها نسبة ما إلى هذه الصورة بتوسط اشراق العقل الفعال حدث فيها شيء من جنسها من وجه وليس من جنسها من وجه كما انه إذا وقع الضوء على الملونات فعل في البصر منها اثرا ليس على جملتها من كل وجه

فالخيالات التي هي معقولات بالقوة تصير معقولات بالفعل لا أنفسها بل ما يلتقط عنها كما ان الأثر المتأدي بواسطة الضوء من الصور المحسوسة ليس هو نفس تلك الصور بل شيئا آخر مناسبا لها يتولد بتوسط الضوء في القابل المقابل كذلك النفس الناطقة إذا طالعت تلك الصور الخيالية واتصل بها نور العقل الفعال ضربا من الاتصال استعدت لأن يحدث فيها من ضوء العقل مجردات تلك الصور من الشوائب فأول ما يتميز عند العقل الإنساني أمر الذاتي منها والعرضي وما به يتشابه به وما به يختلف فتصير المعاني معنى واحدا في ذات العقل بالقياس إلى التشابه لكنه بالقياس إلى ما تختلف به تصير معاني كثيرة فيكون للعقل قوة على تكثير الواحد من المعاني وعلى توحيد الكثير أما توحيد الكثير فمن وجهين
أحدهما أن تصير المعاني الكثيرة المختلفة في التخيلات بالعدد إذا كانت لا تختلف في الحد معنى واحدا
والثاني أن تركب من معاني الأجناس والفصول معنى واحدا بالحد ويكون وجه التكثير بعكس هذين الوجهين فهذا من خواص العقل الانساني وليس ذلك لغيره من القوى فانها تدرك الكثير كثيرا كما هو والواحد واحدا كما هو ولا يمكنها أن تدرك الواحد البسيط بل الواحد من حيث هو جملة مركبة من أمور واعراضها ولا يمكنها ان تفصل العرضيات وتنزعها عن الذاتيات فاذا عرض الحس علىالخيال صورة وعرض الخيال على العقل تلك الصورة يأخذ العقل معنى فان عرض عليه صورة أخرى من ذلك النوع وانما هو آخر بالعدد لم يأخذ منه العقل صورة ما غير ما أخذه أولا إلا من جهة العرض الذي يخص هذا من حيث ذلك العرض بأن يأخذه مرة مجردا ومرة مع ذلك العرض ولأجل هذا يقال إن زيدا وعمرا لهما معنى واحد في الانسانية اعني ان السابق منهما إذا أفاد النفس صورة الانسانية فان الثاني لا يفيد البتة شيئا من ذلك المعنى بل يكون المعنى المنطبع منهما في النفس واحدا هو عن

الخيال الأول ولا تأثير للخيال الثاني وللعقل إذا أدرك أشياء فيها تقدم وتأخر أن يعقل معها الزمان ضرورة ويكون ذلك لا في زمان بل في آن والعقل يعقل الزمان في آن
وأما تركيبه للحد والقياس فهو لا محالة يكون في زمان إلا ان تصور النتيجة والمحدود يكون دفعة والعقل ليس قصوره عن تصور الأشياء التي هي في غاية المعقولية والتجريد عن المادة لأمر في ذات تلك الاشياء ولا لامر في غريزة العقل بل لأجل أن العقل مشغول بالبدن ويحتاج في كثير من الأمور إلى البدن فيبعده البدن عن أفضل كمالاته فإذا زال عنه هذا الغمور كان تعقل النفس للمجردات أفضل التعقلات وأوضحها وألذها
وأما مراتب العقل من الهيولاني والملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد فقد ذكرناها وأما العقل القدسي فسنذكره ان شاء الله تعالى في خصائص النبوة

قاعدة في النبوة والرسالة
تشتمل على بيانات بيان أن الرسالة هل تقتنص بالحد أم لا وبيان أن الرسالة مكتسبة أم أثره ربانية وبيان اثبات الرسالة بالبرهان وبيان خواص الرسالة وهي المعجزات وبيان كيفية الدعوة وما يؤخذ من السمع ومالا يؤخذ
بيان أن الرسالة لا تقتنص بالحد والحقيقة بذكر جنسها وفصلها
وذلك لأن معرفة الأشياء لا تتوقف على الظفر بحدودها ووجدان جنسها وفصلها فكم من موجود لا جنس له ولا فصل ولا حد ولا رسم وماله جنس وفصل فربما لا يظفر بجنسه وفصله وأكثر الأمور كذلك فان اعطاء الحدود صعب عسر على الأذهان
نعم يستدل على وجوده وحقيقته بآثاره فان العقل والنفس وكثيرا من المفارقات تتصور ولا حد لها ولا رسم وانما يدل عليها برهان
ولو سأل سائل نبيا من الانبياء عن خواص الرسالة وماهيتها وابراز حدها بجنسها وفصلها ترى كيف كان جوابه عنها أو كان يشرع في تحقيق ذلك وذكر حده ورسمه وتعديد خواصه حتى تتوقف رسالته على معرفة ذلك كله وان لم يعرف المستجيب ذلك لا يمكنه تصديقه أم كان يجب عليه التصديق في الحال سواء عرف حد الرسالة أو لم يعرف واذا كانت الرسالة

مرتبة فوق مرتبة الأنسانية كما كانت الانسانية مرتبة فوق مرتبة الحيوانية لم يتوقف أتباع الرسول على معرفة الرسالة كما لم يتوقف استسخار الحيوان على معرفة الانسانية بل الانسان لو أراد تعريف الحيوان خواص الانسانية كان ذلك سفها منه وتكليف ما لا يطاق كذلك لو أراد الرسول تعريف الانسان خواص الرسالة كان ذلك تكليفا منه ما لا يطاق فلا المطالبة متوجبة عليه ولا الجواب عنه لازم وهذا كما طالب فرعون موسى عليه السلام بذكر ماهية رب العالمين قال وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما ان كنتم موقنين وطالبه ثانيا وثالثا فلم يأت بحد ولا رسم ولم يذكر جنسا ولا فصلا في تعريف ما سأله الا بالربوبية المحضة والتعريف بالحقائق مكانياتها وزمانياتها والمواليد التي بين المكان والزمان

الرسالة هل هي حظوة مكتسبة أم أثرة ربانية
اعلم أن الرسالة أثرة علوية وخطوة ربانية وعطية آلهية لا تكتسب بجهد ولا تنال بكسب الله أعلم حيث يجعل رسالته وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان لكن الجهد والكسب في إعداد النفس لقبول آثار الوحي بالعبادات المشفوعة بالفكر والمعاملات الخالصة عن الرؤيا والسمعة من لوازمها فليس الأمر فيها اتفاقيا جغرافيا حتى ينالها كل من دب ودرج أو مرتبا على جهد وكسب حتى يصيبها كل من فكر وأدلج وكما ان الانسانية لنوع الانسان والملكية لنوع الملائكة ليست مكتسبة لأشخاص النوع وان العمل بموجب النوعية ليس يخلو عن اكتساب واختيار لاعداد واستعداد كذلك النبوة لنوع الانبياء ليست مكتسبة لأشخاص النوع وان العمل بموجب النبوة ليس يخلو عن اكتساب واختيار لاعداد واستعداد فيوحى اليه طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى حين تورمت قدماه من العبادة حتى قال عليه السلام أفلا أكون عبدا شكورا وكان يتحنث بحراء

قبل الوحي وحبب اليه الخلوة وكان يرى الرؤيا فتأتي مثل فلق الصبح على انها أحوال عرضية وأعراض طارئة على النوعية بنوع استيجاب واستحقاق من كمال تركيب المزاج وحسن الصورة وتمام الاعتدال وطهارة النشوة والتربة وطيب الأعراق ومكارم الأخلاق والسمت الصالح والأناة والوقار ولين الجانب وخفض الجناح والرحمة والرأفة بالأولياء والشدة والبأس على الأعداء وصدق الحديث وأداء الأمانة والصون عن جميع الرذائل والتحلي بانواع الفضائل وزكاء العرض عن جميع الدنيات والعفو عمن ظلمه والاحسان الى من أساء اليه وصلة الرحم وحفظ الغيب وحسن الجوار واعانة المظلوم واغاثة الملهوف وحب المعروف وبغض المنكر وغير ذلك ما ضل صاحبكم وما غوى في هذا العالم مازاغ البصر وما طغى في ذلك العالم تعنو لنفسه نفوس العالمين طوعا وكرها وهو غير متكبر ولا جبار ولا فظ ولا غليظ يهاب اذا سكت ولا يعاب إذا نطق لطيف الشمائل اذا تحرك وسكن قد نهض باحتمال أعباء ماحمل من الرسالة فأداها وأفاض رحمته على العالمين فوفاها وعلى آله الطيبين الطاهرين

إثبات الرسالة بالبرهان
بيان اثباتها بطريقين أحدهما جملي والآخر تفصيلي أما الجملي فهو كما أن نوع الانسان تميز عن سائر الحيوانات بنفس ناطقة هي فوقها بالفضيلة العقلية والمسخرة لها والمالكة عليها والمتصرفة فيها كذلك نفوس الانبياء عليهم السلام تميزت عن نفوس الناس بعقل هاد مهدي هو فوق العقول كلها بالفضيلة الربانية المدبرة لها والمالكة عليها والمتصرفة فيها وكما أن حركات الانسان معجزات الحيوان فليس حيوان يتحرك مثل حركته الفكرية والقولية والفعلية كذلك جميع حركات النبي معجزات للانسان فليس انسان يتحرك مثل حركته الفكرية والقولية والفعلية
وكما تميز النبي عن الناس بعقله المناسب للعقول المفارقة والعقل الأول كذلك تميز بنفسه المشاكلة لنفوس السماوات والنفس الفلكية وكذلك تميز

بطبعه ومزاجه المستعد لقبول مثل هذا العقل والنفس بالفعل وكما لا يتصور في سنة الفطرة الإلهية أن يكون من نطفة كل حيوان انسان كذلك لا يتصور في سنة الفطرة أن يكون من نطفة كل انسان نبي الله يخلق ما يشاء ويجتبي الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فهو المختار في طبعه ومزاجه المصطفى بنفسه وعقله لا يشاركه فيها أحد من الناس
ومن وجه آخر النبي إذا شارك الناس في البشرية والانسانية من حيث الصورة فقد باينتهم من حيث المعنى اذ بشريته فوق بشرية الناس لاستعداد بشريته لقبول الوحي قل انما أنا بشر مثلكم أشار الى طرف المشابهة من حيث الصورة يوحي إلى أشار الى طرف المباينة من حيث المعنى أما من حيث التفصيل فمن طرق
الطريق الأول برهان أنشىء من الحركات الاختيارية وهي أقسام ثلاثة فكرية وقولية وعملية والحركة الفكرية يدخلها الحق والباطل والقولية يدخلها الصدق والكذب والعملية يدخلها الخير والشر وهذه العبارات اصطلاحية والمعنى مستقيم فيها مفهوم عنها ولا يشك في انها على تضادها واختلافها ليست واجبة الفعل بجملتها واجبة التحصيل فان من أفتى بهذه الفتوى يكون مستحق القتل بفتواه لأن قتله من جملة الحركات وهو واجب الفعل وليس كلها واجب الترك فإن من أفتى بهذا ينبغي أن لا يتنفس لأن التنفس منه حركة وهي واجبة الترك فظهر من هذا أن بعضها واجب الترك وبعضها واجب الفعل وإذا ثبت هذا فقد ثبت حدود في الحركات حتى كان بعضها خيرا واجب الفعل وبعضها شرا واجب الترك فالتمييز بين حركة وحركة بالحدود ولا يخلو إما ان يعرفه كل أحد أو لا يعرفه أحد أو يعرفه بعض دون

بعض وظاهر انه لا يعرفه كل أحد وباطل انه يعرفه كل أحد فظهر أنه يعرفه أحد دون أحد فثبت بالتقسيم الأول حدود في الحركات وثبت بالتقسيم الثاني أصحاب حدود يعرفونها وهم الأنبياء وأصحاب الشرائع عليهم الصلاة والسلام والانسان اذا راجع نفسه علم أنه اذا لم يكن عارفا بالحدود يجب أن يكون في حكم أصحاب الحدود فثبت وجود النبوة بضرورة الحركات
الطريق الثاني أن نقول إن نوع الانسان محتاج الى اجتماع على صلاح في حركاته الاختيارية ومعاملاته المصلحية ولولا ذلك الاجتماع ما بقي شخصه ولا انحفظ نوعه ولا احترس ماله وحريمه وكيفية ذلك الاجتماع تسمى ملة وشريعة
وبيان ذلك أنه في استبقاء حياته واستحفاظ نوعه وحراسة ماله وحريمه يحتاج الى تعاون وتمانع أما التعاون فلتحصيل ما ليس له مما يحتاج اليه في مطعمه وملبسه ومسكنه وأما التمانع فلحفظ ما له من نفسه وولده وحريمه وما له وكذلك في استحفاط نوعه يحتاج الى تعاون في الازدواج والمشاركة وتمانع يحفظ ذلك على نفسه وهذا التمانع والتعاون يجب ان يكونا على حد محدود وقضية عادلة وسنة جامعة مانعة ومن المعلوم أن كل عقل لا يفي بتمهيد هذه السنة على قانون يشمل مصالح النوع جملة ويخص حال كل شخص تفصيلا الا أن يكون عقل مؤيد بالوحي مقيض للرسالة مستمد من الروحانيات التي قيضت لحفظ نظام العالم وهم بأمره يعملون وعلى سنته في الخلق سائرون وبحكمه حاكمون فيكون الفيض متصلا بها من المقادير في الأحكام ثم منها فائضا على الشخص المتحمل لتلك الأمانة القابل لأسرار الديانة يتبع الحق في جميع الأمور ويتبعه الخلق في جميع الحركات يكلم الناس على مقادير عقولهم بعقله الواقف على تلك المقادير ويكلف العباد على قدر استطاعتهم بقدرته المحيطة بتلك الأقذار
وهذه الدلائل فروع لأصل واحد وهو إثبات الأمر لله عز و جل وهو الطريق الثالث لأثبات النبوة ومن لم يعترف بأمره لم يعترف بالنبوة قط فان النبي

متوسط الأمر كما أن الملك متوسط الخلق والأمر وكما وجب الايمان بالله من حيث الخلق والأمر وجب الايمان بالله وبمتوسط الخلق والأمر كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
والطريق في إثبات الأمر على نوعين أحدهما أن الممكنات كما احتاجت الى مرجح لجانب الوجود على العدم وأن الحركات كما احتاجت بتجددها الى محرك يديمها بالتعاقب ثم المائلة من الحركات الى غير ما مالت عنه والمختلفات منها الى غير جهاتها الطبيعية احتاجت بتجددها الى كون المحرك مريدا مختارا ثم المتوجهة منها الى نظام الخير دون الفساد والشر احتاجت الى كون المحرك آمرا أمر التدبير وذلك قوله تعالى وأوحى في كل سماء أمرها ثم الحركات الانسانية كما احتاجت الى إرادة عقلية في جهاتها المتباينة كذلك احتاجت الى مكلف آمر ناه في حدودها المختلفة حتى يختار المكلف الحق دون الباطل في الحركات الفكرية والصدق دون الكذب في الحركات القولية والخير دون الشر في الحركات العملية وكما أن أمر التدبير جار على عموم الخلق لنظام وجود العالم الكبير كله وذلك قوله تعالى والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين كذلك أمر التكليف جار على خصوص الخلق لنظام وجود العالم الصغير وذلك قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم وكذلك جميع الأوامر والنواهي المتوجهة على الناس وكما أوحى في كل سماء أمرها بواسطة ملك كذلك أوحى في كل زمان أمره بواسطة نبي فذلك هو التقدير وهذا هو التكليف
الطريق الثاني في إثبات الأمر الاول أن نقول قد ثبت وتحقق بالبراهين أن الأول المبدع ملك مطاع فله الخلق كله ملكا وملكا ولكل ملك في سلطانه أمر ونهي وترغيب وترهيب ووعد ووعيد ولا يجوز أن يكون أمره محدثا مخلوقا فان المخلوق من حيث هو مخلوق لا يدل الا على خالق فليس له دلالة على الأمر بمعنى الاقتضاء والطلب والتكليف والتعريف والحث والزجر والترغيب والترهيب

ومن لم يثبت لله عز و جل أمرا يطاع فقد أحال كل هذه الأوامر والنواهي والتذكيرات والتنبيهات على من ادعى النبوة مقصورة عليه متعدية عنه وما يضيفه الى الله تعالى من قال الله وذكر الله وأمر الله ونهى الله ووعد الله وأوعد الله يكون مجازا لا حقيقة وترويجا للكلام على العامة لا تحقيقا ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي الي ولم يوح اليه شيء فقد نسبوا النبي الذي في أعلى درجات الانسان الى أشد الظلم الذي هو أسفل الدرجات والخيانة التي هي أخبث السيئات جل منصب النبوة عن ذلك

خواص النبوة
للنبوة خواص ثلاث
احداهما تابعة لقوة التخيل والعقل العملي والثانية تابعة لقوة العقل النظري والثالثة تابعة لقوة النفس
الخاصية الأولى اعلم أولا أنه ليس يمكن أن يبرهن على مبادىء العلوم ومقدماتها من العلوم نفسها فيسلم لنا ههنا أن كل معلول معلول فيجب أن يلزم عن علته حتى يوجد وأن الحركة السماوية اختيارية وأن الحركة الاختيارية لا تلزم الا عن اختيار بالغ موجب للفعل وأن الاختيار للأمر الكلي لا يوجب أمرا جزئيا فانه انما يلزم الأمر الجزئي بعينه عن اختيار جزئي يخصه بعينه وأن الحركات التي بالفعل كلها جزئية فيجب إن كانت اختيارية أن تكون عن اختيار جزئي فيجب أن يكون المحرك لها مدركا للجزئيات ولا يكون البتة عقلا صرفا بل يكون نفسا تستعمل آله جسمانية تدرك بها أمورا جزئية ادراكا إما أن يكون تخيلا أو تعقلا عمليا هو أرفع من التخيل وله أيضا عقل كلي يستمد من العقل المفارق الذي يدرك العلوم الكلية وهذا كله مبين في العلوم الإلهية فيظهر من تسليم هذه أن الحركات السماوية يحرك كل واحد منها جوهر نفساني يتعقل الجزئيات بالنحو من التعقل الذي يخصها ويرتسم فيه صورها وصور الحركات التي يختارها كل واحد منها ويجاوزه حتى تكون هيئات الحركات تتجدد فيها دائما حتى

تتجدد الحركات ويكون يتصور لا محالة حينئذ الغايات التي يؤدي اليها الحركات في هذا العالم ويتصور هذا العالم أيضا بتفصيله وتلخيصه والأجزاء التي فيه لا يغرب عنها شيء ويلزم ذلك أن يتصور الأمور التي تحدث في المستقبل وذلك أنها أمور ويلزم وجودها عن النسبة التي بين الحركات المتعلقة عنها بالشخصية والنسب التي بين الأمور التي ههنا والنسب التي بين هذه الأمور وتلك الحركات فلا يخرج شيء البتة من أن يكون حدوثه في المستقبل لازما لوجود هذه على ما هي عليه في الحال فإن الأمور إما أن تكون بالطبع وإما أن تكون بالاختيار وإما أن تكون بالاتفاق والتي تكون عن الطبع انما تكون باللزوم عن الطبع إما طبع حاصل ههنا أوليا أو طبع حادث ههنا عن طبع ههنا أو طبع حادث ههنا عن طبع سماوي
وأما الاختيارات فانها تلزم الاختيار والاختيار حادث وكل حادث بعد ما لم يكن فله علة وحدوثه بلزومه وعلته إما شيء كائن ههنا على احدى الجهات أو شيء سماوي أو شيء مشترك بينهما وأما الاتفاقيات فهي احتكاكات ومصادمات بين هذه الأمور الطبيعية والاختيارية بعضها مع بعض في مجاريها فيكون إذا الأشياء الممكنة ما لم تجب لم توجد وانما تجب لا بذاتها بل بالقياس الى عللها والى الاجتماعات التي لعلل شتى فاذا يكون كل شيء متكون متصورا بجميع الأحوال الموجودة في الحال من الطبيعة والارادة الأرضية والسماوية ولمأخذ كل واحدمنها ومجراه في الحال فانه يتصور ما يجب عن استمرار هذه على مأخذها من الكائنات ولا كائنات إلا ما يجب عنها كما قلنا فالكائنات إذا قد تدرك قبل الكون لا من جهة ما هي ممكنة بل من جهة ما يجب وانما لا ندرك نحن لأنه إما أن يخفى علينا جميع أسبابها الآخذة نحوها أو يظهر لنا بعضها ويخفى علينا بعضها فبمقدار ما تظهر لنا منها يقع لنا حدس وظن بوجودها وبمقدار ما يخفى علينا منها يتداخلنا الشك في وجودها
وأما المحركات للأجرام السماوية فيحضرها جميع الأحوال المتقدمة معا

فيلزم جميع الأحوال المتأخرة معا فتكون الهيئة للعالم بما يريد أن يكون فيه يرتسم هناك ثم تلك الصور لا وحدها بل الصور العقلية التي في الجواهر المفارقة غير محتجبة عن أنفسنا بحجاب البتة من جهتها انما الحجاب هو في قبولنا إما لضعفنا أو لاشتغالنا بغير الجهة التي عندها يكون الوصول اليها والاتصال بها وأما إذا لم يكن أحد المعنيين فان الاتصال بها مبذول وليست مما تحتاج أنفسنا في إدراكها إلى شيء غير الاتصال بها ومطالعتها فأما الصور العقلية فان الاتصال بها بالعقل النظري
فأما هذه الصور التي الكلام فيها فإن النفس إنما يتصورها بقوة أخرى وهو العقل العملي ويخدمه في هذا الباب التخيل فتكون الأمور الجزئية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقلا عمليا من الجواهر العالية النفسانية وتكون الأمور الكلية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقلا نظريا من الجواهر العالية العقلية التي لا يجوز أن يكون فيها شيء من الصور الجزئية البتة وتختلف الاستعدادات للنفوس جميعا في الأنفس خصوصا الاستعداد لقبول الجزئيات بالاتصال بهذه الجواهر النفسانية فبعض الأنفس يضعف فيها ويقل هذا الاستعداد لضعف القوة المتخيلة وبعضها لا يكون فيه هذا الإستعداد أصلا لضعف القوة المتخيلة أيضا وبعضها يكون هذا فيه أقوى حتى ان الحس إذا ترك استعماله القوة المتخيلة وترك شغله بما يورد عليها جذبتها القوة العملية إلى تلك الجهة حتى انطبعت فيها تلك الصور إلا أن القوة المتخيلة لما فيها من الغريزة المحاكية والمنتقلة من شيء إلى غيره تترك ما أخذت وتورد شبيهه أو ضده او مناسبه كما يعرض لليقظان من أنه يشاهد شيئا فينعطف عليه التخيل إلى أشياء أخرى يحضرها مما يتصل به بوجه حتى ينسيه الشيء الأول فيعود على سبيل التحليل والتخمين ويرجع إلى الشيء الأول بأن يأخذ الحاضر مما قد تأدى اليه الخيال فيفطن أنه خطر في الخيال تابعا لأي صورة تقدمته وتلك لأي صورة أخرى وكذلك حتى ينتهي إلى البدء ويتذكر ما نسيه كذلك التعبير هو تحليل

بالعكس لفعل التخيل حتى ينتهي إلى الشيء الذي تكون النفس شاهدته حين اتصالها بذلك العالم وأخذت المتخيلة تنتقل عنه إلى أشياء أخرى فهذه طبقة
وطبقة أخرى يقوي استعداد نفسها حتى تستثبت ما نالته هناك ويستقر عليه الخيال من غير أن يغلبه الخيال وينتقل إلى غيره فتكون الرؤيا التي لا تحتاج إلى تعبير
وطبقة أخرى أشد تهيئا من تلك الطبقة وهم القوم الذين بلغ من كمال قوتهم المتخيلة وشدتها أنها لا تستغرقها القوى الحسية في إيراد ما يورد عليها حتى يمنعها ذلك عن خدمة النفس الناطقة في اتصالها بتلك المبادىء الموحية اليها بالأمور الجزئية فيتصل لذلك في حال اليقظة ويقبل تلك الصور
ثم إن المتخيلة تفعل مثل ما تفعل في حال الرؤيا المحتاجة إلى التعبير بأن تأخذ تلك الأحوال وتحاكيها وتستولي على الحسية حتى يؤثر ما يتخيل فيها من تلك في قوة بنطاسيا بأن تنطبع الصور الحاصلة فيها في البنطاسيا المشاركة فيشاهد صورا إلهية عجيبة مرئية وأقاويل إلهية مسموعة هي مثل تلك المدركات الوحيية وهذه أدون درجات المعنى المسمى بالنبوة وأقوى من هذا أن يستشبت تلك الأحوال والصور على هيئتها مانعة للقوة المتخيلة على الانصراف إلى محاكاتها بأشياء أخرى
وأقوى من هذا أن تكون المتخيلة مستمرة في محاكاتها والعقل العملي والوهم لا يتخليان عما استثبتاه فثبت في الذاكرة صورة ما أخذت وتقبل المتخيلة على بنطاسيا وتحاكي فيه ما قبلت بصور عجيبة مسموعة ومبصرة ويؤدي كل واحد منهما على وجهه
وهذه طبقات النبوة المتعلقة بالقوى العقلية العملية والخيالية وانظر قصص القرآن كيف أتت على جزئياتها كأنه شاهدها وحضرها وكأنها كانت بمرأى من

النبي ومسمع وكيف صدقت بحيث لم ينكرها أحد من منكري النبوة ولا يتعجبن متعجب من قولنا إن المتخيل قد يرتسم في بنطاسيا فيشاهد فان المجانين قد يشاهدون ما يتخيلون ولذلك علة تتصل بابانة السبب الذي لأجله يعرض للممرورين أن يخبروا بالأمور الكائنة فيصدقون في الكثير ولذلك مقدمة وهي أن القوة المتخيلة كالموضوعة بين قوتين مستعملتين لها سافلة وعالية
أما السافلة فالحس فانها تورد عليها صورا محسوسة تشغلها وأما العالية فالعقل فانه بقوته يصرفها عن التخيل للكاذبات التي لا توردها الحواس عليها ولا يستعملها العقل فيها واجتماع هاتين القوتين على استعمالها يحول بينها وبين التمكن من إصدار أفعالها الخاصة على التمام حتى تكون الصورة التي تحضرها بحيث تنطبع في بنطاسيا انطباعا تاما فيحس فاذا أعرض عنها إحدى القوتين لم يبعد أن تقام الأخرى في كثير من الأحوال فلم يمتنع عن فعلها فتمنعها فتارة تتخلص عن مجاذبة الحس فتقوى على مقاومة العقل وتمعن فيما هو فعلها الخاص غير ملتفت إلى معاندة العقل وهذا في حال النوم وعند احضارها الصورة كالمشاهدة وتارة تتخلص عن سياسة العقل عند فساد الآلة التي يستعملها العقل في تدبير البدن فيستعصي على الحس ولا يمكنها من شغلها بل يمعن إيراد أفاعيلها حتى يصير ما ينطبع فيها من الصور كالمشاهدة لانطباعه في الحواس وهذا في حال الجنون
وقد يعرض مثل ذلك عند الخوف لما يعرض من ضعف النفس وانخذالها واستيلاء الوهم والظن المعينين للتخيل على العقل فيشاهد أمورا موحشة فالممرورون والمجانين يعرض لهم أن يتخيلوا ما ليس موجودا بهذا السبب
وأما اخبارهم بالغيب فانما يتفق أكثر ذلك لهم عند أحوال كالصرع والغشي الذي يفسد حركات قواهم الحسية وقد يعرض أن تكل قوتهم المخيلة لكثرة حركاتهم المضطربة لأنها قوة بدنية وتكون هممهم عن المحسوسات

مصروفة فيكثر رفضهم للحس وإذا كان كذلك فقد يتفق أن لا تشتغل هذه القوة بالحواس اشتغالا مستغرقا ويعرض لها أدنى سكون عن حركاتها المضطربة ويسهل أيضا انجذابها مع النفس الناطقة فيعرض للعقل العملي إطلاع إلى أفق عالم النفس المذكور فيشاهد ما هناك ويتأدى ما يشاهده إلى الخيال فيظهر فيه كالمشاهد المسموع فحينئذ إذا أخبر به الممرور وخرج وفق مقاله يكون قد تكهن بالكائنات المستقبلة والآن فيجب أن نختم هذا البيان فقد أدينا فيه نكت الأسرار المكتومة والله الموفق
فان قال قائل إذا كان أصحاب الجن والكهنة والعرافون وبعض المجانين ربما يخبرون عن الغيب ويصدق خبرهم وينذرون بالآيات ويتحقق أثرها فبطلت الخاصية النبوية
فالجواب أن نقول قد بينا قبل ذلك في البيانات المتقدمة أن التخيل في الحيوانات على تفاوت وتفاضل وتضاد وترتب حتى قال بعض الحكماء إن أعلى درجاته أن تصل النفس إلى النفس التي هي مدبر فلك القمر الذي هو واهب الصور ولولا أن الجزئيات من الموجودات الكائنة الفاسدة متصورة متخيلة في ذات النفس الفلكي لما أفاض على كل مادة ما تستحقه من الصور ولا مانع لها من تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري وكأنه بهذا المعنى صار للأجسام السماوية زيادة معنى علىالعقل المفارق لتظاهر رأي جزئي وآخر كلي وإن كان الرأي الكلي مستمدا من العقول فاذا فهمت هذا فللنفوس البشرية أن تنتقش من ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال المانع وتكون كالمرآة المقابلة للنفس الفلكي حتى يقع فيها جميع ما في النفس الفلكي فالى هذا الحد عظموا امر الخيال
واما في جانب السفل فالى حيوان عديم التخيل او ضعيف التخيل سريع النسيان لا يمكنه ان يستثبت الصورة ساعة او لحظة بل يتجدد له الخيالات

بحسب تجدد الحركات وهذا على نمط التفاوت بالتفاضل واما ما هو على نمط التفاوت بالتضاد فكخيال وتخيل كله حق نشأ عن نفس خيرة وكخيال وتخيل كله باطل نشأ عن نفس شريرة وكخيال وتخيل بين الطرفين إن التفتت إلى الخير التحق به وإن التفتت إلى الشر التحق به وههنا نمط آخر من الكلام وهو إثبات عقل تجرد عن كل خيال وإثبات خيال تجرد عن كل عقل وإثبات عقل كله خيال وإثبات خيال كله عقل وههنا حس عمل من خيال وخيال عمل من حس وعقل عمل من خيال وخيال عمل من عقل وههنا علم على مزاج الظن وظن على مزاج العلم وأنهم ظنوا كما ظننتم ان لن يعبث الله احدا اشارة إلى الظن الأول وإنا ظننا ان لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا إشارة إلى الظن الثاني واختصاص الظن بالجن في في القرآن لسر في خصائص الجن وهو ان وجودهم خيالي وتصوراتهم خيالية وصورهم لا تتراءى إلا للخيال وكما ان الخيال على وسط بين الحس والعقل فكل ما هو خيالي على وسط بين الجسماني والروحاني كالجن والشياطين والأوساط أبدا تكون ممزوجة من الطرفين او تكون خالية عن الطرفين
اما الخاصية الثانية للنبوة وهي تابعة للقوة النظرية فنقول
من المعلوم الظاهر ان الأمور المعقولة التي يتوصل إلى اكتسابها بحصول الحد الأوسط بعد الجهل انما يتوصل إلى اكتسابها في القياس وهذا الحد الاوسط قد يحصل على ضربين من الحصول فتارة يحصل بالحدس والحدس هو فعل الذهن يستنبط بذاته الحد الأوسط والذكاء قوة الحدس وتارة يحصل بالتعلم ويتأدى التعليم إلى الحدس فان الابتداء ينتهي لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب تلك الحدوس ثم أدوها إلى المتعلمين فجائز أن يقع للانسان بنفسه

الحدس وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلم بشري وهذا يتفاوت بالكم والكيف أما في الكم فلأن بعض الناس يكون أكثر حدسا للحدود الوسطى
أما بالكيف فلأن بعض الناس يكون أسرع زمان حدس ولأن هذا التفاوت ليس منحصرا في حد بل يقبل الزيادة والنقصان فمنهم غبي لا يعود عليه الفكر برادة ومنهم له فطانة إلى حد ما ويستمتع بفكره ومنهم من هو أثقب من ذلك وله إصابة في المعقولات وتلك الثقابة غير متشابهة في الجميع بل ربما قلت وربما كثرت فكما أنك تجد جانب النقصان ينتهي إلى حد يكون منعدم الحدس فأيقن أن جانب الزيادة يمكن أن ينتهي إلى حد يستغني في أكثر أحواله عن التعلم والتفكر فيحصل له العلوم دفعة ويحصل معه الوسائط والدلائل فيمكن إذا أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدة الصفاء وكمال الاتصال بالمبادىء العقلية إلى أن يشتعل حدسا في كل شيء فيرتسم فيه الصورة التي في العقل الفعال اما دفعة وإما قريبا من دفعة ارتساما لا تقليديا بل يقينيا مع الحدود الوسطى والبراهين اللائحة والدلائل الواضحة
والفرق بين الحدس والفكر أن الفكرة هي حركة للنفس في المعاني مستعينا بالتخيل في أكثر الأمور يطلب بها الحد الأوسط وما يجري مجراه مما يقاربه إلى علم بالمجهول في حالة الفقد استعراضا للمخزون في الباطن وما يجري مجراه فربما تأدت إلى المطلوب وربما انبتت وأما الحدس فهو أن يتمثل الحد الأوسط في الذهن دفعة بأن يعلم العلة فيعلم المعلول أو يعلم الدليل فيحصل له العلم بالمدلول دفعة أو قريبا من دفعة وهذا الحصول تارة يكون عقيب طلب وشوق وقد يكون من غير طلب واشتياق بأن يكون نفسا شريفة قوية مستضيئة في نفسها فيحصل له العلوم ابتداء كأنه ماتخلى إلى اختياره يكاد زيتها يضيء ضوء الفطرة ولو لم تمسه نار الفكرة ولا يفارق طريق الإلهام والحدس طريق الاكتساب والفكر في نفس العلم ولا في محله ولا في سببه لأن محل العلم النفس

وسبب العلم العقل الفعال أو الملك المقرب ولكن يفارقه في وجهه زوال الحجاب فإن ذلك ليس باختيار العبد ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم
فان قال قائل إذا كانت هذه القوة الحدسية موجودة في غير النبي فان الانسان يجد في نفسه هذا التحدس في مسائل كثيرة ولكل أحد في صناعته حدوس فان شرط في النبي أن يكون في جميع المعقولات فهو شرط غير موجود فانه ربما يمتنع عليه الحدس في مسألة أو مسائل وأيضا فان عقله حينئذ يكون غير مشتبه عليه شيء ما من الغيب والشهادة فيكون بعينه عقلا بالفعل فلا يحتاج إلى وسط فلا يكون له حدس وقد أثبتم له الحدس فهذا خلف وان كان الحدس في بعض المسائل فقد شاركه فيه غيره وليس بخاصية له
وأيضا ليس بعض المسائل أولى من بعض وليس له حد محدود يختص بالنبوة فلم تتعين الخاصية النبوية وأيضا قد رتبتم العقل أربع مراتب الهيولاني والملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد ففي أي مرتبة توجد للنبي خاصية يتميز بها عن سائر الناس
الجواب أن نقول من لم يثبت في العقول الانسانية تضادا وترتبا لم يستقم له إثبات هذه الخاصية أما التضاد فعقل النبي وعقل الكاهن وأما الترتب فكعقل النبي وعقل الصديق والمتضادان خصمان يحتاجان إلى حاكم ليس فوقه حاكم والمترتبان ينتهيان بعقل ليس فوقه عقل وعلى الوجهين جميعا عقل النبي فوق العقول كلها وحاكم عليها ومتصرف فيها ومخرجها من القوة إلىالفعل ومكملها بالتكلف إلى أقصى غايات الكمال اللائق بكل واحد منها فلا يمكن التنصيص على حد محدود أما إذا كان يمكن أن يقال إن هذه القوة قابلة للزيادة والنقصان فعقل النبي فوق العقول كلها
أما الخاصية الثالثة التابعة للنفس فنقول قد ظهر لنا في العلوم الإلهية أن

الصورة التي هي في الأجسام العالمية تابعة في الوجود للصور التي في النفوس والعقول الكلية وأن هذه المادة طوع لقبول ما هو متصور في عالم العقل فان تلك الصور العقلية مبادىء لهذه الصور الحسية يجب عنها لذاتها وجود هذه الأنواع في العوالم الجسمانية والأنفس الانسانية قريبة من تلك الجواهر وقد نجد لها فعلا طبيعيا في البدن الذي لكل نفس فان الصورة الارادية التي ترتسم في النفس يتبعها ضرورة شكل قسري للأعضاء وتحريك غير طبيعي وميل غير غريزي يذعن لها الطبيعة والصورة الخوفية التي ترتسم في الخيال يحدث عنها في البدن مزاج من غير استحالة عن محيل طبيعي شبيه بنفسه والصورة الغضبية التي ترتسم في الخيال يحدث عنها في البدن مزاج آخر من غير محيل شبيه والصورة المعشوقية عند القوة الشهوانية إذا لمحت في الخيال حدث عنها مزاج يحدث ريحا من المادة الرطبة في البدن ويحدره إلى العضو الموضوع آلة للفعل الشهواني حتى تستعد لذلك الشأن وليست طبيعة البدن الا من عنصر العالم ولولا أن هذه الطبائع موجودة في جوهر العنصر لما وجد في هذا البدن ولا ننكر أن يكون من القوى النفسانية ما هو أقوى فعلا وتأثيرا من أنفسنا نحن حتى لا يقتصر فعلها في المادة التي رسم لها وهو بدنها بل إذا شاءت أحدثت في مادة مالم ما تتصوره في نفسها وليس يكون مبدأ تلك الاحداث تحريك وتسكين وتبريد وتسخين وتكثيف وتليين كما تفعل في بدنها فيتبع ذلك أن يحدث سحب هاطلة ورياح وصواعق وزلازل وصياح مثير ويتبعه مياه وعيون جارية وما أشبه ذلك في العالم بإرادة هذا الانسان والذي يقع له هذا الكمال في جبلة النفس ثم يكون خيرا متحليا بالسيرة الفاضلة ومحامد الأخلاق وسير الروحانيين مجتنبا عن الرذائل ودنيات الامور فهو ذو معجزة من الأنبياء أي من يدعي النبوة ويتحدى بها وتكون هذه الأمور مقرونة بدعوى النبوة أو كرامة من الأولياء ويزيده تزكية لنفسه وضبطه القوى واسلاسها من هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلته ثم من يكون شريرا ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث

واعلم أن هذه الاشياء ليس القول بها والشهادة لها هي ظنون امكانية سير اليها من أمور عقلية فقط وإن كان ذلك أمرا معتمدا لو كان ولكنها تجارب لما ثبتت طلب اسبابها ومن حسن الاتفاق لمحبي الاستبصار أن يعرض لهم هذه الأحوال في انفسهم أو يشاهدوها مرارا متوالية في غيرهم حتى يصير ذلك ذوقا في اثبات امور عجيبة لها وجود وصحة وداعيا له إلى طلب سببها فانه إذا اقترن الذوق بالعلم كان ذلك من أحسن الفوائد وأعظم العوائد والله ولي التوفيق

خاتمة ما أفضل النوع البشري
فأفضل النوع البشري من أوتي الكمال في حدس القوى النظرية حتى استغنى عن المعلم البشري اصلا وأوتي للقوة المتخيلة استقامة وهمة لا يلتفت إلىالعالم المحسوس بما فيه حتى يشاهد العالم النفساني بما فيه من احوال العالم ويستثبتها في اليقظة فيصير العالم وما يجري فيه متمثلا لها ومنتقشا بها ويكون لقوته النفسانية أن تؤثر في عالم الطبيعة حتى ينتهي إلى درجة النفوس السماوية
ثم الذي له الأمران الأولان وليس له الأمر الثالث ثم الذي له هذا التهيؤ الطبيعي في القوة النظرية دون العلمية ثم الذي يكتسب هذا الاستكمال في القوةالنظرية ولا حصة له في أمر القوة العلمية من الحكماء المذكورين ثم الذي ليس له في القوة النظرية لا تهيؤ طبيعي ولا اكتساب تكلفي ولكن له التهيؤ في القوة العلمية فالرئيس المطلق والملك الحقيقي الذي يستحق بذاته أن يملك هو الأول من العدة المذكورين الذي إن نسب نفسه إلى عالم العقل وجد كأنه يتصل به دفعة واحدة وإن نسب إلى عالم النفس وجد كأنه من سكان ذلك العالم وإن نسب نفسه إلىعالم الطبيعة كان فعالا فيه ما يشاء والذي يتلوه أيضا رئيس كبير بعده في المرتبة والباقون هم اشراف النوع الانساني وكرامه
واما الذين ليس لهم استكمال شيء من القوى إلا انهم يصلحون الأخلاق ويقتنون الملكات الفضيلة فهم الاذكياء من النوع الانساني ليسوا من ذوي المراتب العالية إلا انهم متميزون من سائر اصناف الانسان
السعادة والشقاوة بعد المفارقة
اعلم ان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين شرحوا أحوال الآخرة اتم شرح وبيان وإنما بعثوا لسوق الناس اليها ترغيبا وترهيبا وتشويقا وتخويفا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل لا سيما ما في الشريعة الأخيرة من تقرير احوال المعاد بالروحاني والجسداني والعاجل والآجل وضرب الأمثال فيها واقامة البراهين عليها وانما يتعرف حال ما بعد الموت من الانبياء عليهم السلام لأنهم الذين اطلعوا على أحواله وحيا واخبارا والعقل المجرد كيف يهتدي إلى مقادير العلوم والأخلاق حتى يرتب على كل علم وعمل جزاء في الآخرة مقدرا عليها مناسبا لها ومن المعلوم أن مترتبة متفاضلة وانما شرفها بشرف معلوماتها ومقادير الشرف فيها مترتبة على مقادير شرف المعلومات ومقادير السعادة بها والجزاء عليها مرتب على مقادير الشرف فيها وكذلك الأخلاق والأعمال متفاوتة متفاضلة ومتمايزة بالخير والشر والمقادير فيها عملا وجزاء مما لا يهتدي اليه عقل كل عاقل إلا ان يكون مؤيدا من عند الله عز و جل بالوحي والانباء مطلعا على ما في ذلك العالم من انواع الجزاء فاذا السعادة البدنية قد شرحها الشرع اتم شرح وبيان فلا يحتاج الى مزيد بسط
اما السعادة او الشقاوة التي بحسب الروح والقلب فقد اشار اليها ونبه عليها في مواضع ونحن نشرح ذلك بقدر ماتهتدي اليه العقول القاصرة في دار الغربة

فنقول يجب أن يعلم أن لكل قوة نفسانية لذة وخيرا يخصها وأذى وشرا يخصها مثاله أن لذة الشهوات أن يتأدى اليها من محسوساتها كيفية ملائمة من الحس وكذلك لذة الغضب الظفر ولذة الوهم الرجاء ولذة الحفظ تذكر الأمور الماضية الموفقة وأذى كل واحد منها ما يضاده وتشترك كلها نوعا من الشركة في أن الشعور بموافقها وملائمها هو الخير واللذة الحاصلة بها وموافق كل واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس اليه كمال بالفعل فهذا أصل وأيضا فإن هذه القوى وان اشتركت في هذه المعاني فإن مراتبها في الحقيقة مختلفة فالذي كماله أفضل وأتم وأدوم وأوصل اليه وأحصل له والذي هو في نفسه أشد إدراكا كانت اللذة التي له أبلغ وأوفر وهذا أصل وقد يكون الخروج إلىالفعل في كمال بحيث يعلم أنه كائن لزيد ولا يشعر باللذة مالم يحصل له ومالم يشعر به لم ينزع نحوه مثل العنين فانه متحقق أن الجماع لذيذ ولكن لا يشتهيه ولا يحن اليه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به بل شهوة أخرى كما يشتهي من يجرب شهوة من حيث يحصل بها إدراك وإن كان مؤذيا وكذلك حال الأكمه عند الصور الجمالية والأصم عند الألحان المنتظمة الرخيمة ولهذا يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه وأن المباديء الأول المقربة عند رب العالمين عادمة للذة والغبطة
وان رب العالمين ليس في سلطانه وخاصيته البهاء الذي له وقوته الغير المتناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن نسميه لذة فأي نسبة يكون لذلك مع هذه الحسية ونحن نعرف ذلك يقينا ولكن لا نشعر به لفقداننا تلك الحالة فيكون حالنا حال الأصم والأكمه وهذا أصل وأيضا فإن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فيكرهه ويؤثر ضده عليه مثل كراهية المريض للعسل وشهوته للطعوم الردية الكريهة بالذات وربما لم يكن كراهية ولكن عدم الاستلذاذ به

كالخائف يجد اللذة ولا يشعر بها وهذا أصل وأيضا قد تكون القوة الداركة ممنوة بضد ما هو كمالها ولا يحس به ولا ينفر عنه حتى اذا زال العائق رجع الى غريزته فتأذت به مثل الممرور فربما لا يحس بمرارة فمه الىان يصلح مزاجه وينقي أعضاءه فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة وهو أوفق شيء له وكارها له ويبقى عليه مدة طويلة فاذا زال العائق عاد الى واجبه في طبعه فاشتد جوعه وشهوته للغذاء حتى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه وكذلك قد يحصل سبب الألم العظيم مثل حرق النار وتبريد الزمهرير إلا أن الحس قد أصابته آفة فلا يتأذى البدن به حتى تزول الآفة فيحس به حينئذ
فاذا تقررت هذه الأصول فنقول إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن يصير عالما عقليا مرتسما فيه صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض في الكل مبتدأ من مبدأ الكل وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ثم الروحانيات المعلقة نوعا ما من التعلق بالأبدان ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فينقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والجمال المطلق ومتحدا به ومنتقشا بمثاله وهيئته ومنخرطا في سلكه وصايرا من جوهره
فاذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى توجد في المرتبة التي بحيث يقبح معها أن يقال إنه أفضل وأتم منها بل لانسبة لها البتة بوجه من الوجوه فضيلة وتماما وكثرة ودواما وكيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد وكذلك شدة الوصول فكيف يكون ما وصوله بملاقاة السطوح والأجسام بالقياس الى ما وصوله بالسريان في جوهر الشيء كأنه هو بلا انفصال اذا العقل والمعقول واحد أو قريب من الواحد وأما أن المدرك في نفسه أكمل فهو أمر لا يخفى وأما انه أشد إدراكا فأمر أيضا يكشف عنه أدنى بحث فإنه أكثر عددا للمدركات وأشد تقصيا للمدرك وتجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في

معناه الا بالعرض والخوض في باطنه وظاهره بل كيف يعاير هذا الادراك بذلك الادراك أو كيف يمكننا أن ننسب اللذة الحسية والبهيمية والغضبية الى هذه السعادات واللذات ولكنا في عالمنا هذا وأبداننا هذه وانغمارنا في الرذائل لا نحس بتلك اللذة اذا حصل شيء من أسبابها عندنا كما أومأنا اليه في بعض ما قدمناه من الأصول ولذلك لا نطلبها ولا نحن إليها اللهم الا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا وطالعنا شيئا من تلك اللذة فحينئذ ربما نتخيل منها خيالا طفيفا ضعيفا وخصوصا عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات اليقينية والتذاذنا بذلك شبيه بالتذاذ الحس عن المذاقات اللذيذة بروائحها من بعيد
وأما اذا انفصلنا عن البدن وكانت النفس تنبهت وهي في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصله وهي بالطبع نازعة اليه اذا عقلت بالفعل أنه موجود إلا أن اشتغالها بالبدن كما قلنا أنساه ذاته ومعشوقه كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلل وكما ينسى الممرور الالتذاذ بالحلو واشتهاءه وتميل بالشهوة منه الى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم لفقدانه كفاء ما يعرض من اللذة التي أوجبنا وجودها ودللنا على عظم منزلتها فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعدلها تفريق النار للاتصال وتبديلها أو تبديل الزمهرير المزاج فيكون مثلنا حينئذ مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف والذي قد عمل فيه نارا وزمهريرا فمنعت المادة الملابسة وجوه الحس عن الشعور فلم يتأذ ثم عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم
وأما اذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حدا من الكمال فيمكنها به اذا فارقت البدن أن تستكمل الكمال الذي لها أن تبلغه كان مثله مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذ وعرض للحالة الأشهى وكان لا يشعر فزال عنه الخدر فطالع اللذة العظيمة دفعة وتكون تلك اللذة لا من جنس تلك اللذة الحسية والحيوانية

بوجه بل لذة تتشاكل الحالة الطيبة التي للجواهر الحية المحضة أجل من كل لذة وأشرف فهذه السعادة وتلك الشقاوة ليست تكون لكل واحد من الناقصين بل للذين أكسبوا اللذة العقلية الشوق الى كمالها وذلك عندما يتبرهن لهم أن من شأن النفس إدراك ماهية الكل بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأول أيضا في سائر القوى بل شعور أكثر القوى بكمالاتها إنما يحدث بعد أسباب
وأما النفوس والقوى الساذجة الصرفة فكأنها هيولى موضوعة لم تكتسب البتة هذا الشوق لأن هذا الشوق إنما يحدث حدوثا وينطبع في جوهر النفس اذا تبرهن للقوة النفسانية أن ههنا أمورا يكسبها العلم بالحدود الوسطى وبمباديء معلومة بأنفسها وأما قبل ذلك فلا يكون لأن هذا الشوق يتبع رأيا وليس رأيا أوليا بل رأيا مكتسبا فهؤلاء اذا اكتسبوا هذا الرأي لزم النفس ضرورة هذا الشوق واذا فارق ولم يحصل معه ما يبلغ به بعد الانفصال التام وقع في هذا النوع من الشقاء الأبدي لأنه إنما كانت تلك السعادة تكتسب بالبدن لا غير وقد فارق وهؤلاء إما مقصرون عن السعي في كسب الكمال الإنسي أو معاندون جاحدون متعصبون لآراء فاسدة متضادة للآراء الحقيقية وحال الجاحدين أشد من حال المقصرين وحال المقصرين أشد من حال النفوس الساذجة الصرفة وأما أنه كم ينبغي أن يحصل عند نفس الانسان من تصور المعقولات حتى يجاوز به الحد الذي في مثله تقع هذه الشقاوة فليس يمكنني أن أنص عليه نصا الا بالتقريب وأظن أن ذلك أن يتصور نفس الانسان المباديء المفارقة تصورا حقيقيا ويصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عنده بالبرهان ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلىبعض والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ويتصور العناية الشاملة للكل وكيفيتها ويتحقق أن الذات الحق الموجد للكل أي وجود يخصها وأي وحدة تخصها وأنها

كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه من الوجوه وكيف ترتبت نسبة الوجود اليه جل وعلا ثم كلما ازداد الناظر استبصارا ازداد للسعادة استعدادا وكأنه ليس يتبرأ الانسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق الى ماهناك وعشق لما هناك يصده عن الالتفات الى ما خلفه جملة
ونقول أيضا إن هذه السعادة الحقيقية لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس فاليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ونقدم لذلك مقدمة فنقول إن الخلق هو ملكة يصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية والخلق المحمود هو الوسط بين الطرفين المذمومين فكلا طرفي قصد الأمور ذميم وقد شرحنا ذلك أتم شرح فيما سبق وجملته أن لا تحكم العلاقة مع القوى البدنية قصدا بل يكون للعقل العملي يد الاستيلاء وللقوة الحيوانية الأنقياد والمطاوعة
فالعقل ينبغي أن يتأثر عن القوى الحيوانية بل يؤثر والقوى الحيوانية ينبغي أن تتأثر ولا تؤثر فاذا كان كذلك فتكون النفس على جبلتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزه وذلك غير مضاد لجوهره ولا مائل به إلى جهة البدن ثم النفس إنما كان البدن يغمره ويلهيه ويغفله عن الشوق الذي يخصه وعن طلب الكمال الذي له وعن الشعور بلذة الكمال إن حصل له أو الشعور بألم فقد الكمال إن قصر عنه لا بأن النفس منطبعة فيه أو منغمسة فيه لكن للعلاقة التي بينهما وهو الشوق الجبلي الى تدبيره والاشتغال بآثاره وما يورده عليه من عوارضه فاذا فارق وفيه ملكة الاتصال به وكان قريب الشبه من حاله وهو فيه فبقدر ما ينقص من ذلك يزول عنه غفلته عن حركة الشوق الذي له إلى كماله وبقدر ما يبقى منه يصده عن الاتصال الصرف بمحل سعادته ويحدث هناك من الحركات المشوشة ما يعظم أذاه
ثم تلك الهيئة البدنية مضادة لجوهره مؤذية له وانما كان يلهيه عنه البدن

وتمام انغماسه فيه فإذا فارقته أحست بتلك المضادة العظيمة فان الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا وتأذت أذى عظيما لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر ذاتي بل لأمر عارض غريب والأمر العارض الغريب لا يدوم ولا يبقى ويزول ويبطل مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكريرها فيلزم اذا أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة بل تزول وتنمحي قليلا قليلا حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصها ولهذا لم ير أهل السنة تخليد أهل الكبائر من المؤمنين لأن أصل الاعتقاد راسخ والعوارض تزول ويعفى عنها وتغفر
وأما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق ولم تحن الى المعارف التي للعارفين فانها اذا فارقت الأبدان وكانت غير مكتسبة للهيئات الردية صارت الى سعة رحمة الله تعالى ونوع من الراحة ولهذا قال عليه السلام أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب وأما إن كانت مكتسبة للهيئات البدنية ملطخة بالمعاصي وكدورات الشهوات وليس عندها هيئة غير ذلك ولا معنى يضاده وينافيه فيكون لا محالة شوقها الى مقتضاها فتتعذب عذابا شديدا لفقدان البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق اليه لأن آلة الذكر والفكر قد بطلت وخلق التعلق بالبدن قد بقي وإن اعتقدت اعتقادات باطلة وآراء فاسدة ومع ذلك تعصب لتلك الاعتقادات وجحد الحق فذلك هو حليف ألم ورفيق عذاب أليم مقيم
فخلاصة هذا الفصل أن النفس بعد المفارقة إن كانت قد فارقت قبل أن اكتسبت حقا أو باطلا فهو من أهل النجاة لا مستريح منعم ولا معذب كحال الصبيان والمجانين وإن كانت معتقدة وهمية فاسدة مضادة للحق وأضاف اليها أعمالا على خلاف الشرع فهو في عذاب مقيم وإن اعتقدت اعتقادا حقا لا عن براهين يقينية وأضاف اليها أعمالا صالحة فهو من أهل الجنة وإن اعتقدت اعتقادات حقة ولكن اشتغلت بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها فهو معذب ملتفت الى ما خلفه غير واصل اليه لأن آلة طلب الدنيا قد بطلت إلا أن هذا العذاب لا

يبقى بل يزول إذ أتى عليه مدة من الزمان وان كانت من العلوم في درجة الكمال واعتقدت الحقائق على براهين يقينية ولكن تنتهج مناهج الشرع ولم تسلك سبيل الخيرات ولم يعمل بعلمها فهو معذب مدة ولكن يزول ولا يبقى ويبلغ بالآخرة درجة من السعادة بسبب العلم لأن هذه العوارض بمقتضى الشهوات وتلك تزول وان حصل له العلوم اليقينية إما على سبيل الفكر ونزه أخلاقه وحسنها وعمل بموجب الشرع فله الدرجة العليا في السعادة وله الوصول بلا انفصال وهو النظر الىالجمال الحق والجلال المحض والكمال الصرف كما قال الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فحق العاقل أن يسعى لطلب تلك السعادة ويحترز عن مضادها وعوائقها والله ولي التيسير والتوفيق
والنفس الانسانية اذا تجردت عن البدن ولم يبق لها علاقة إلا بعالمها فانه يجوز أن يكون فيها ما يكون بالعقل والرأي وسائر ما يعقل مما يليق بذلك العالم الذي هو عالم الثبات والكون بالفعل وهو عالم اتصال النفس بالمبادىء التي فيها هيئة الوجود كلها فتنتقش به فلا يكون هناك نقصان وانقطاع من الفيض المتمم حتى تحتاج أن يفعل فعلا ينال به كمالا ويقول قولا ينال به كمالا وذلك هو الفكر والذكر ونحوهما فانها تنتقش بنقش الوجود كله فلا يحتاج إلى طلب نقش آخر فلا يتصرف في شيء مما كان في هذا العالم وفي تحصيلها على هيئاتها الجزئية طالبة لها من حيث كانت جزئية والنفس الزكية تعرض عن هذا العالم وهي متصلة بعد بالبدن ولا تحفظ ما يجري فيه عليها ولا تحب أن تذكر فكيف الفائز بالتجرد المحض مع الاتصال بالحق والجمال المحض والعالم الأعلى الذي في حيز السرمد وهو عالم ثبات ليس عالم التجدد الذي في مثله يتأتى أن يقع الفكر والذكر وانما عالم التجدد عالم الحركة والزمان فالمعاني العقلية الصرفة والمعاني التي تصير جزئية مادية كلها هناك بالفعل وكذلك حال نفوسنا

والحجة في ذلك أنه لا يجوز أن تقول إن صور المعقولات حصلت في الجواهر التي في ذلك العالم على سبيل الانتقال من معقول فلا يكون هناك انتقال من حال إلى حال حتى انه لا يقع أيضا للمعنى الكلي تقدم زماني على المعنى الجزئي كما يقع ههنا فانك تحصل الكلي أولا ثم تأتي الحالة الزمانية فتفصل بل العلم بالمجمل من حيث هو مجمل وبالمفصل من حيث هو مفصل مما لا يفصل بينهما الزمان فاذا كان هذا هكذا في الجوهر الذي هوالخاتم فكذلك هو في الجوهر الذي هو كالشمع فان نسبة الجوهر الذي هو كالشمع حين ترتفع العوائق إلى الذي هو كالخاتم نسبة واحدة فلا يتقدم فيها انتقاش ولا يتأخر بل الكل معا وهذا فصل في غاية التحقيق

حقيقة اللقاء والرؤية
اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة والمتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات وإلى ما لا يدخل كذات الله سبحانه وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والارادة وغيرها ومن رأى إنسانا ثم غمض بصره وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر اليها ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما ولا يرجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف فان صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافا ووضوحا وهو كشخص يرى في وقت الإسفار قبل انتشار ضوء النهار ثم يرى عند تمام الضوء فانه لاتفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف فاذا الخيال أول الادراك والرؤية هو استكمال ادراك الخيال وهو غاية الكشف لا لأنه في العين بل لو خلق الله تعالى هذا الادارك الكامل المكشوف في الجبهة أو الصدر مثلا استحق أن يسمى رؤية
واذا فهمت هذا في المتخيلات فاعلم أن المعلومات التي لا تتشكل في الخيال أيضا لمعرفتها وإدراكها درجتان إحداهما أولى والثانية استكمال لها وبين الثانية والأولى من التفاوت في مزيد الكشف والايضاح ما بين المتخيل والمرئي فتسمى الثانية أيضا بالاضافة إلى الأولى مشاهدة ولقاء ورؤية وهذه التسمية حق لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف وكما أن سنة الله جارية بأن تطبيق

الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجابا بين البصر والمرئي ولا بد من ارتفاع الحجاب لحصول الرؤية وما لم يرتفع كان الادراك الحاصل مجرد التخيل فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية فانها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجية عن الخيال بل هذه الحياة حجاب لها مانع عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار
ولذلك قال الله تعالى لموسى عليه السلام لن تراني وقال تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا فاذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا غير منفكة عنها بالكلية وان كانت متفاوتة في ذلك التلوث فمنها ما تراكم عليها الخبث والصدأ فصارت كالمرآة التي قد فسد بطول تراكم الخبث جوهرها ولا تقبل الاصلاح والتصقيل وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبدالأباد نعوذ بالله منه
ومنها ما لم ينته إلى حد الرين والطبع ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل فيعرض على النار عرضا يقلع منه الخبث الذي هو متدنس به ويكون عرضه على النار بقدر الحاجة إلى التزكية وأقلها لحظة خفيفة وأقصاها في حق المؤمنين كما ورد في الخبر سبعة آلاف سنة ولن يرتحل نفس من هذا العالم إلا ويصحبها غبرة وكدورة ما وإن قلت
ولذلك قال تعالى وإن منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا أللهم إلا نفوسا قد انغمست في تأمل الجبروت وانخرطوا في سلك القدس مستديمين لشروق نور الحق في أسرارهم على الدوام فهؤلاء مبدؤهم ومعادهم سواء فان من النفوس الانسانية وعقولها ما هو نفس مفطورة على التجرد والتقدس

عن علائق المواد وغواشي هذا العالم من القوة والاستعداد منخرطا في سلك العقول المفارقة متصلا بالعقل الأول مستمدا من الكلمة العليا مؤيدا من أمر الله تعالى أرسل الى عالم الأجساد لا ليستكمل عنها وعن قواها الجسمانية استكمال العقول الهيولانية لتخرج من القوة الىالفعل بل لتخرج العقول بالقوة من القوة الى الفعل ويكمل النفوس الناطقة المنغمسة في أحوال هذا العالم إلى غايات قدرت لها من الكمال فهؤلاء فطر مبدؤهم على طبيعة معادهم فهم الملأ الأعلى وهم المبادىء الأولى يحق لهم أن يقولوا كنا أظلة عن يمين العرش فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا وحقا قال لهم قل إن كان للرحمن ولد فانا أول العابدين وصدقا قال عليه السلام كنت نبيا وآدم لمنجدل بين الماء والطين ومن رأى التضاد والترتب في الموجودات والمفروغ والمستأنف في الأحكام لم يبق عليه إشكال أما أكثر النفوس فمستيقنة للورود بقدر التلطخ بالأوزار منها فاذا أكمل الله تعالى تطهيرها وتزكيتها وبلغ للكتاب أجله ووقع الفراغ عن جملة ما وعد به الشرع من العرض والحساب وغيره ووافى استحقاق الجنة وذلك وقت مبهم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه فإنه واقع بعد القيامة ووقت القيامة مجهول فعند ذلك يستعد بصفائه ونقائه من الكدورات حيث لا يرهق وجهه غبرة ولا قترة لأن يتجلى فيه الحق جل جلاله فيتجلى له تجليا يكون انكشاف تجليه بالاضافة إلى ماعليه كانكشاف تجلي المرئيات بالاضافة إلى ما تخيله وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية فاذا الرؤية حق بشرط أن لا تفهم من الرؤية استكمال الخيال في متخيل متصور مخصوص بجهة ومكان فان ذلك مما يتعالى عنه رب العالمين علوا كبيرا بل كما عرفته في الدنيا معرفة حقيقية تامة من غير تصور وتخيل وتقدير شكل وصورة فتراه في الآخرة كذلك بل أقول المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينها هي التي تستكمل فتبلغ كمال الانكشاف

والوضوح وتنقلب مشاهدة فلا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح فإذا لم يكن في المعرفة إثبات صورة وجهة فلا يكون في استكمال المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف أيضا جهة وصورة لأنها هي بعينها إلا في زيادة الكشف كما أن الصورة المرئية هي المتخيلة بعينها إلا في زيادة الكشف ولهذا لا يفوز بدرجة النظر والرؤية إلا العارفون في الدنيا لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة شجرة والبذور زرعا ومن لا نواة له فكيف يحصل له نخل فكذلك من لا يعرف الله في الدنيا فكيف يراه في الآخرة
ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي أيضا على درجات متفاوتة فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالاضافة إلى اختلاف البذور إذ تختلف لا محالة بكثرتها وقلتها وحسنها وقوتها وضعفها ولذلك قال عليه السلام إن الله تجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة لأنه فضل الناس بسر وقر في صدره بلا جرم تفرد يالتجلي وكل من لم يعرف الله في الدنيا لا يراه في الآخرة إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه فما صحبه من المعرفة هي التي يتنعم بها بعينها فقط إلا انها تنقلب مشاهدة بكشف الغطاء عنها فتتضاعف اللذة كمل تتضاعف لذة العاشق إذ استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فان ذلك هو منتهى لذته فاذا نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر المعرفة فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالايمان
فإذا قلت فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهي قليلة وإن كانت أضعافها لأن لذة المعرفة في الدنيا قليلة ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى إن يستحقر سائر لذات الجنة فيها

فاعلم أن هذا الاحتقار للذة المعرفة مصدره الخلو عن المعرفة فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها وان انطوى على معرفة ضعيفة وقلب مشحون بعلائق الدنيا فكيف لذتها فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ولطائف مناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلا عنها لم يستبدلوا بها الجنة
ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلا إلى لذة اللقاء والمشاهدة كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته واظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن الا بضرب مثال فنقول
لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب أحدها كمال جمال المعشوق ونقصانه والثاني كمال قوة الحب والثالث كمال الادراك والرابع اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب فقدر عاشقا ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنانير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة جمال معشوقه فلو طرأت على الفجأة حالة انهتك بها الستر واشرق به الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقي سليما فارغا وهجم عليه الشهوة القوية المفرطة والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليه نسبة يعتد بها فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة فالستر الرقيق مثال للبدن والاشتغال به والعقارب والزنابير مثال للشهوات المتسلطة على الانسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاته إلى أسفل السافلين وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرئاسة والعكوف على اللعب بالعصفور فالعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه الشهوات ولا يتصور أن يخلو عنها البتة نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم فلا

جرم يلوح من كمال المعرفة ما يبهت العقل ويعظم لذته بحيث يكاد القلب ينفطر لعظمته ولكن يكون ذلك كالبرق الخاطف وقلما يدوم بل يعرض من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينغصه وهذه ضرورة دائمة في هذه الحياة الفانية ولا تزال هذه اللذة منغصة إلى الموت وانما الحياة الطيبة بعد الموت وإنما العيش عيش الآخرة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
وكل من انتهى إلى هذه الرتبة فانه يحب لقاء الله فيحب الموت ولا يكرهه إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال في المعرفة فان بحر المعرفة لا ساحل له والاحاطة بكنه جلال الله محال وكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وبأفعاله وبأسرار مملكته وقويت كثر الابتهاج باللقاء وعظم
اللهم لا تخرجنا من هذه الدار إلا عارفين مستكملين في المعرفة مستغرقين في الوحدانية منقطعين عن علائق الدنيا وزخارفها برحمتك يا أرحم الراحمين

معرفة الباري جل جلاله
تنعطف فائدتها على ما سبق من معرفة النفس وقواها وبذلك نتدرج إلى معرفة الحق جل جلاله ومعرفة صفاته وأفعاله لأن المبادىء انما تراد للنهايات والنهايات انما تظهر للمبادىء فكل علم لا يؤدي إلى معرفة الباري جل جلاله فهو عديم الجدوى والفائدة وقليل النفع والعائدة
فنقول إنا أثبتنا النفس على الجملة بمعرفة آثارها وأفعالها فالنفس النباتية عرفناها بآثارها من التغذية والتنمية وتوليد المثل والنفس الحيوانية بآثارها من الحس والحركة الاختيارية والنفس الانسانية بالتحريك وإدراك الكليات وعلمنا أن هذه الأفعال تتعلق بمبدأ يسمى ذلك المبدأ نفسا فيكون قوامها ووجودها وخاصيتها بذلك المبدأ الذي هو النفس فكذلك فاعلم أن الموجود على قسمين إما أن يتعلق وجوده بغيره بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه أو لا يتعلق فان تعلق سميناه ممكنا وإن لم يتعلق سميناه واجبا بذاته فيلزم من هذا في واجب الوجود معرفة أمور
الأمر الأول أنه لا يكون عرضا لأنه يتعلق بالجسم ويلزم عدمه بعدم الجسم
الثاني لا يكون جسما لأن الجسم منقسم بالكمية إلى الأجزاء فتكون الجملة متعلقة بالأجزاء فتكون معلولة وأيضا فان الجسم مركب من المادة والصورة وكل واحد منهما متعلق بالآخر نوع تعلق

الثالث أنه لا يكون مثل الصورة لأنها متعلقة بالمادة ولا يكون مثل المادة لأنها محل الصورة ولا توجد إلا معها
الرابع أنه لا يكون وجوده غير ماهيته لأن الماهية غير الآنية والوجود الذي الآنية عبارة عنه عارض للماهية وكل عارض معلول لأنه لو كان موجودا بذاته ما كان عارضا لغيره إذ ما كان عارضا لغيره فله تعلق بغيره وعلته إن كان غير الماهية فلا يكون واجب الوجود الذي يتعلق به كل الموجودات وإن كان علته الماهية فالماهية قبل الوجود لا تكون علة لأن السبب ما له وجود تام فقبل الوجود لا يكون له وجود فثبت أن واجب الوجود آنيته ماهيته وإن وجوب الوجود له كالماهية لغيره ومن هذا يظهر أن واجب الوجود لا يشبه غيره البتة ولا يصل أحد إلى كنه معرفته
الخامس أنه لا يتعلق بغيره على وجه يتعلق ذلك الغير به على معنى أن يكون كل واحد منهما علة للآخر فيتقابلان فإن هذا محال
السادس أنه لا يتعلق بغيره على وجه يتعلق ذلك الغير به على سبيل التضايف لأنه يكون ممكن الوجود
السابع أنه لا يجوز أن يكون شيئان كل واحد منهما واجب الوجود كما لا يكون للبدن الواحد إلا نفس واحدة فلا يكون للعالم إلا رب واحد هو مبدع الكل ويتعلق به الكل تعلق الوجود والبقاء وأيضا فلو كان واجب الوجود اثنين فبم يتميز أحدهما عن الآخر فإن كان بعارض فيكون كل منهما معلولا وإن كان بذاتي فيكون مركبا ولا يكون واجب الوجود
الثامن إن كل ما سوى واجب الوجود ينبغي أن يكون صادرا من واجب الوجود كما أن النفس كمال جسم طبيعي آلي فكذلك الرب موجد الكل وبه كمال الكل وبقاء الكل وجمال الكل وقد ذكرنا أن واجب الوجود لا يكون

إلا واحدا فما عداه لا يكون واجبا بل ممكنا فيفتقر إلى واجب الوجود
فان قيل فما الدليل على أن في الوجود موجدا واجب الوجود يتعلق الكل به ولا يتعلق وجوده بغيره فيكون منتهى الموجودات ومن عنده نيل الطلبات
قلنا لأن الموجود إما أن يكون واجب الوجود أو ممكن الوجود وممكن الوجود لا بد وأن يتعلق بغيره وجودا ودواما والعالم بأسره ممكن الوجود فيتعلق بواجب الوجود أما ما يبتنى على بيان أن النفس جوهر ليس له مقدار وكمية وقد أثبتنا ذلك ببراهين فاعلم أولا أن النفس جوهر والباري ليس بجوهر لأن الجوهر هو الموجود لا في موضوع أي إذا وجد يكون وجوده لا في موضوع وهذا يشعر بالحدوث والجوهر عبارة عن حقيقة وجود وواجب الوجود حقيقته وجوده ووجوده حقيقته فإذا عرفت هذا فاعلم أنا أثبتنا وجود النفس وأنه جوهر ببرهان خاصي وبرهان تقريبي المقدمات والبرهان الخاصي أن النفس لا يعزب ذاته عن ذاته وإذا كان في الوجود من مبدعاته ما يكون بهذه الصفة فما تقول في موجود ينال به كل حق وجوده فإن كل حق من حيث حقيقته الذاتية التي بها هو حق متفق واحد غير مشار اليه فكيف القيوم على الملكوت وإذا كانت النفس لا تعزب ذاته عن ذاته مع أنه ليس بواحد صرف فالواحد الحق الذي لا يحوم حول وحدانيته التكثر والتجزي والتثني أولى بأن لا يعزب ذاته عن ذاته فيكون عالما بنفسه وعالما بجميع ما أبدعه واخترعه وأوجده وكونه لا تأخذه سنة ولا نوم وهذا هو معنى الحي فإن الحي هو الواحد العالم بذاته وقد بينا أن النفس واحد ليس لها كمية ومقدار فكذلك فاعلم أنه ليس للمبدع الحق سبحانه كمية ومقدار
ومن هذا يعرف أن جميع ما يهذي به المشبه من إثبات الجهات والفوقية والصورة والمكان والانتقال كله باطل وليس الباري تعالى جوهرا يقبل الأضداد فيتغير ولا عرضا فيسبق وجوده الجوهر ولا يوصف بكيف فيشابه

ويضاهى ولا بكم فيقدر ويجزأ ولا بمضاف فيوازى في وجوده ويحاذى ولا بأين فيحاط به ويحوى ولا بمتى فينتقل من مدة إلى أخرى ولا بوضع فيختلف عليه الهيئات ويكتنفه الحدود والنهايات ولا بجده فيشمله شامل ولا بانفعال فيغير وجوده فاعل
وإذا ثبت أن واجب الوجود ليس في ذاته كثرة بوجه من الوجوه ولا بد من وصف واجب الوجود بأوصاف فلا بد أن تثبت الأوصاف على وجه لا يؤدي إلى الكثرة فننزهه عن أن يكون له جنس أو فصل فإن من لا إشتراك له مع غيره فلا فصل له يفصله عن سواه ومن هذا يعلم أن جميع أسمائه تعالى حتى الوجود على سبيل الإشتراك لا على سبيل التواطؤ ولا تثبت الصفات على وجه يكون عرضيا كاللون القائم بالمحل وكعلمنا العارض على الذات لأن هذا يؤدي إلى تقدم وتأخر وتكثر بل تثبت الصفات على وجه الإضافة إلى الأفعال أو على سبيل العلل والأسباب والمواد عنه
فيتبين من هذا أنه حي لأنه عالم بذاته ونثبت أنه عالم لأنه مجرد عن المادة ووجوده لذاته وما يكون واحدا بريئا عن المادة تكون ذاته حاصلا له فيكون عالما بذاته لا يعزب عنه ذاته وعلمه بذاته ليس زائدا على ذاته حتى يوجب فيه كثرة وذلك لأن الانسان إذا علم نفسه فمعلومه أهو غيره أو عينه فإن كان غيره فإنه لم يعلم نفسه بل علم غيره وإن كان معلومه هو عينه فالعالم هو نفسه والمعلوم هو نفسه فقد اتحد العالم والمعلوم فكذلك فافهم في الباري جل جلاله وكما أن العالم هو المعلوم فكذلك العلم هو المعلوم كما أن الحس هو المحسوس لأن المحسوس هو الذي انطبع في الحاس لا الخارج فكذلك العلم هو المعلوم وإنما تختلف العبارات بالعلم والعالم والمعلوم وتبين منه أنه عالم بجميع أنواع الموجودات وأجناسها فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من

ذلك ولا أكبر لأنه يعلم ذاته فينبغي أن يعلمه علىما هو عليه لأن ذاته مجرد لذاته وذاته مبدأ ومبدع لجميع الموجودات وهو فياض يفيض الوجود على الكل فيعلم ما يوجده ويتبع ذاته وكثرة العلوم المتعددة لا تؤدي إلى كثرة في ذاته لأن علمه لا يبتني على تقديم المقدمات وإجالة الفكر والنظر وذاته فياضة للعلوم على الخلق لا أنه يكتسب من الخلق علما فعلمه سبب الوجود لا الوجود سبب علمه وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو وهو كما يعلم الأجناس والأنواع يعلم الممكنات الحادثة وان كنا نحن لا نعلمها لأن الممكن ما دام يعرف ممكنا يستحيل أن يعلم وقوعه أو لا وقوعه لأنه انما يعلم منه وصف الامكان ومعناه أنه يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون ولكن كل ممكن بنفسه فهو واجب بسببه فإن علم وجود سببه كان وجوده واجبا فلو اطلعنا على جميع أسباب شيء واحد وعلمنا وجودها قطعنا بوجود ذلك الشيء
والأول الحق يعلم الحوادث وأسبابها لأن الكل يرتقي اليه في سلسلة الترقي فلما كان عالما بترتيب الأسباب كان عالما بالكل اسبابها ونتائجها فنزه علمه من الحس والخيال والتكثر والتغير ثم بعد ذلك فافهم علمه فاذا فهمت علمه فاعلم أنه مريد وله إرادة وعناية ولكن إرادته وعنايته لا تزيد على ذاته وبيانه أنه مريد لأن الفاعل إما أن يكون بالطبع وتعالى عنه أو بالارادة والطبع هو الفعل الخالي عن العلم بالمفعول بل بدخل الافعال الطبيعية في الوجود على سبيل التسخير والفاعل بالارادة هوالذي له العلم بمفعولاته فاذا هو عالم بمفعولاته ومخلوقاته وهو راض به غير كاره فيجوز أن يعبر عن هذا بالارادة
وعلى الجملة فتخصيص الأفعال وتميزها بعضها عن بعض دليل على وجود الارادة وعنايته هو تصور نظام الكل وكيفية معلولاته على الوجه الأحسن الأبلغ في النظام وليس له ميل وغرض يحمله على ما يريده فليس شيء أولى به ولا يفعل ليخلص عن مذمة أو يطلب محمدة

وكذلك كما أنه عالم مريد فهو قادر لأن القادر عبارة عمن يفعل إن شاء ولا يفعل إن لم يشأ والقادر قادر باعتبار أنه يفعل إن شاء لا باعتبار أنه لا بد وأن يشأ فكل ما هو مريد له فهو كائن وما ليس مريدا له فغير كائن والأول تعالى حكيم لأن الحكمة إما أن تكون عبارة عن العلم بحقائق الأشياء ولا أعلم منه أوتكون عبارة عمن يفعل فعلا مرتبا محكما جامعا لكل ما يحتاج اليه من كمال وزينة وفعله هكذا في غاية الاحكام والكمال ولجمال والزينة أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
وهو جواد لأن الجود إفادة الخير والانعام به من غير غرض فالأول تعالى أفاض الجود على الموجودات كلها كما ينبغي وعلى ما ينبغي من غير ادخار ممكن من ضرورة أو حاجة أو زينة وكل ذلك بلا غرض ولا فائدة فهو الجواد الحق والوهاب المطلق واسم الجود على غيره مجاز والأول تعالى مبتهج بذاته على معنى كمال العلم وكمال المعلوم أو كمال الجود والفضل على الموجود لأنه أشد الأشياء إدراكا لأشد الأشياء كمالا الذي هو منزه عن طبيعة الامكان والمادة والكمال في البراءة عن المادة ولوازمها والتقدس عن طبيعة الامكان ولواحقها

خاتمة واعتذار
اعلم أنا وان تدرجنا إلى معرفة ذاته وصفاته من معرفة النفس فذلك على سبيل الاستدلال وإلا فالله تعالى منزه عن جميع صفات المخلوقات فلا يوصف جل أن يوصف وجل أن يقال جل وعز أن يقال عز وأكبر أن يقال أكبر وإذا بلغ الكلام إلى الله تعالى فامسكوا لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وفوق ما يصفه الواصفون فلك العلو الأعلى فوق كل عال

والجلال الأمجد فوق كل جلال ضلت فيك الصفات وتقدست دونك النعوت وحارت في كبريائك لطائف الأوهام وهذه كلمات الأبرار المصطفين الأخيار
وهذا دليل على أنه لا يجوز أن يقال في حقه ما يجر نفعا أو يدفع ضرا أو يجلب سرورا أو يوجب لذة وابتهاجا أو يحدث فرحا وضحكا أو يورث عشقا ومحبة تعالى عن ذلك علوا كبيرا وما ورد من هذه الألفاظ في القرآن والأخبار فتفسر بثمراتها ونهاياتها لا بعوارضها ومباديها

القول في معرفة ترتيب أفعال الله وتوجيه الاسباب الى المسببات
وهذا أيضا انما يعلم من ترتيب معرفة تأثير النفس في قواها وبدنها
اعلم أن مبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها أولا في القلب فيسري منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذي هو بخار لطيف في تجويف القلب إلى الدماغ ثم يسري منه أثر إلى الأعصاب الخارجة من الدماغ ومن الأعصاب إلى الأوتار والرباطات المتعلقة بالعضل فينجذب به الأوتار فيتحرك به الاصبع فيتحرك بالأصابع القلم وبالقلم المداد مثلا ويحدث منه صورة ما يريد كتابته على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل فإنه ما لم يتصور في خياله صورة المكتوب أولا لا يمكن إحداثه على البياض ثانيا
ومن استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الأرض بواسطة تحريك السماوات والكواكب وذلك بطاعة الملائكة له بتحريك السماوات علم أن تصرف الآدمي في عالمه أعني بدنه يشبه تصرف الخالق في العالم الأكبر وهو مثله وانكشف له أن نسبة شكل القلب إلى تصرفه نسبة العرش ونسبة القلب إلىالدماغ نسبة العرش إلى الكرسي وأن الحواس له كالملائكة الذين يطيعون طبعا ولا يستطيعون لأمره خلافا والأعصاب

كالسماوات والقدرة في الأصبع كالطبيعة المسخرة المركوزة في الأجسام والمواد كالعناصر التي هي أمهات المركبات في قبول الجمع والتفريق والتركيب والتمزيج وخزانة التخيل كاللوح المحفوظ فمهما اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف كيفية ترتيب أفعال الله تعالى في الملك والملكوت وذلك يحتاج إلى تطويل وهذه إشارة إلى جملتها

أقسام أفعال الله سبحانه وتعالى
قد ذكرنا أن القوى تنقسم إلى محركة ومدركة والمدركة تنقسم إلى ظاهرة كالحواس الخمس وباطنة كالمشاعر الباطنة كالتخيل والوهم وغير ذلك ثم ما يختص بالانسان العقل وهو ينقسم إلى العقل النظري والعملي فكذلك فافهم ان جميع أفعال الله تعالى تنقسم إلى عقول مجردة عن المواد مشاهدة لجلال الله تعالى ولهم رموق الجلال الأعلى ولهم الوصول بلا انفصال وإلى نفوس محركة للسماوات وإلى أجسام وكما أن الجسم الذي هو البدن يتأثر من القوى المركبة فيه ولا يؤثر والعقل العملي يؤثر في القوى الحيوانية ويتأثر من العقل النظري والقوى الحيوانية تتأثر من العقل العملي وتؤثر في الجسم وأعضاء البدن فكذلك فافهم أن جميع أفعال الله تعالى تنقسم إلى هذه الأقسام متأثر لا يؤثر ومؤثر لا يتأثر فالمتأثر الذي لا يؤثر هو أجسام العالم والمتأثر الذي يؤثر هي النفوس فتتأثر من العقول وتؤثر في اجسام السماوات بالتحريك وبواسطة تحريك السماوات في عالم العناصر والعقول تؤثر ولا تتاثر بل كمالاتها حاضرة معها ليس لها استكمال وان كانت تلك الكمالات من ربها وخالقها ومبدعها تعالى وتقدس فالطبيعة في عالم الأجسام مسخرة للنفس تفعل فعلا سواء علمت ما تفعل أو لم تعلم كما أن النفس مدبرة للعقل تعلما سواء طلبت العلوم أو لم تطلب فانتهجت الطبيعة بالتسخير منهاج ما فوقها بالتدبير وعبر التنزيل عن ذلك بقوله والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن

كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فالمخلوقات كلها مفطورة علىالازدواج لطيفها وكثيفها معقولها ومحسوسها ففي المركبات ازدواج وفي البسائط ازدواج وبين البسائط والمركبات ازدواج والنفوس بواسطة الأفلاك معطية والعناصر قابلة وبين المعطي والقابل نتائج ومواليد من المعادن والنبات والحيوان والإنسان وبين العقل والنفس ازدواج كما بين القلم واللوح ازدواج ومواليدهما للروحانيات من العقول والنفوس ومن له الخلق والأمر متعال على الازدواج أداء وقبولا سبحانه أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء فقدره تقديرا تقسيم آخر
وهو أن القوى الحيوانية والإنسانية مع جسم البدن متفاوتة في الفضل والكمال مترتبة في الشرف والتمام
فكذلك فاعلم أن الموجودات باعتبار الكمال والنقصان تنقسم إلى ما هو بحيث لا يحتاج إلى أن يمده غيره ليكتسب منه وصفا بل كل ممكن فهو موجود له حاضر معه ويسمى تاما وإلى ما لا يحضر معه كل ممكن له بل لا بد من أن يحصل له ما ليس حاصلا له وهذا يسمى ناقصا قبل حصول التمام له ثم الناقص ينقسم إلى ما لا يحتاج إلى أمر خارج عن ذاته حتى يحصل له ما ينبغي أن يحصل فهذا يسمى مكتفيا وإلى مايحتاج ويسمى ناقصا مطلقا فالتام هو العقل والناقص هو الأجسام والناقص من وجه كامل من وجه هو النفس كما أن البدن وكل ماتركب من العناصر ناقص والكامل هو العقل والناقص الكامل هو القوى الروحانية من التخيل والوهم وغير ذلك

نوع آخر من المعرفة
وكما أن حركة الجسم تدل على المحرك والمتحرك إذا لم يكن طبيعيا فيدل على مدرك يحركه بالارادة والمدرك قد يكون ظاهرا وقد يكون باطنا وقد يكون عقليا نظريا أو عمليا
فكذلك فاعلم أن وجود الأجسام مقعر فلك القمر قابلة للتركيب فإن الطين مثلا مركب من الماء والتراب
فنقول هذا التركيب المشاهد يدل على وجود الحركة المستقيمة وتدل الحركة من حيث مسافتها على ثبوت جهتين محدودتين مختلفتين بالطبع ويدل اختلاف الجهتين على وجود جسم محيط كالسماء وتدل الحركة من حيث حدوثها على أن لها سببا ولسببها سببا إلى غير نهاية ولا يمكن ذلك إلا بحركة السماء حركة دورية والحركة الدورية لاتكون إلا ارادية والارادة الجزئية لا تكون إلا مستمدة من إرادة كلية والإرادة الجزئية تكون للنفس والإرادة الكلية تكون للعقل
فقد ثبت بهذا وجود العناصر القابلة للتركيب ووجود السماوات المتحركة المحركة للعناصر والسماوات المتحركة تدل على محركات هي نفوس سماوية والنفوس مستمدة من العقول والكل مستند إلى الله تعالى إبداعا وانشاء واختراعا وخلقا واحداثا وتكوينا وايجادا وإبداء واعادة وبعثا فله الملك كله والملك

كله هو الأول بلا أول كان قبله الآخر بلا آخر يكون بعده الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين ابتدع الخلق بقدرته ابتداعا واخترعهم على مشيئته اختراعا
فأشرف المبدعات هو العقل أبدعه بالأمر من غير سبق مادة وزمان وما هو إلا مسبوق بالأمر فقط ولا يقال في الأمر أنه مسبوق بالباري تعالى ولا مسبوق بل التقدم والتأخر انما يعتوران علىالموجودات التي هي تحت التضاد والباري تعالى هو المقدم المؤخر لا المتقدم المتأخر وما دون العقل هو النفس وهو مسبوق بالعقل والعقل متقدم عليه بالذات لا بالزمان والمكان والمادة فالسبق بالذات انما ابتدأ من العقل فقط والسبق بالزمان إنما ابتدأ من النفس والسبق بالمكان انما ابتدأ من الطبيعة فالطبيعة إذا سابقة على المكان والمكانيات ولا يعتورها المكان بل يبتدي المكان من تحريكها أو حركتها في الجسم والنفس سابقة علىالزمان والزمانيات ولا يعتورها الزمان بل الزمان والدهر يبتدىء منها أعني من شوقها إلى كمال العقل والعقل سابق على الذوات والذاتيات ولا يعتوره الذات والجوهرية بل الجوهرية انما تبتدىء منه أعني هو مبدأ الجواهر والسابق على الذوات والجواهر والدهر والزمان والمكان والجسم والمادة والصورة ولا يوصف بشيء مما تحته إلا بالمجاز ومن له الخلق والأمر فله الملك والملك وهو الأول والآخر حتى يعلم أنه ليس بزماني وهو الظاهر والباطن حتى يعلم أنه ليس بمكاني جل جلاله وتقدست أسماؤه ونعني بالأمر القوة الالهية والذي يقال من أن العقل صدر عنه بالابداع شيء ليس ادعاء بأنه المبدع كلا بل نعني به تنزيه الحق الأول أن يفعل بالمباشرة فأما المبدع بالحقيقة فهو من له الخلق والأمر تبارك اسمه
وكما أن النفس واحدة ولها قوى واشراقها علىالبدن والروح الحيواني يفعل في كل موضع فعلا آخر لاختلاف القوى ففي موضع الابصار وفي موضع السمع وفي موضع الشم وفي موضع الحس المشترك وفي موضع التخيل والتوهم وغير

ذلك فكذلك أمر الأول الحق جل جلاله بالنسبة إلى وجود العقل ابداع وبالنسبة إلى وجوده في دوامه تكميل بالفعل بالنسبة إلى النفس تتميم وتوجيه من القوة إلى الفعل وبالنسبة إلى الطبيعة تحريك وبالنسبة إلى الأجسام تصريف وبالنسبة إلى الطبائع والعناصر تعديل وبالنسبة إلى المركبات تصوير وبالنسبة إلى المصورات احياء وبالنسبة إلى الحيوان إحساس وهداية وبالنسبة إلى العقل الانساني تكليف وتعريف وبالنسبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمر وكلام وكلمات وقول وكتاب ورسالات ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء إنه علي حكيم فالأمر الأعلى بالنسبة إلى المكونات عبارة عن التكوين والابداع وبالنسبة إلى جزئيات المكلفين عبارة عن القول الذي هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والخبر والاستخبار فظاهر الأمر التكويني أوضاع الملائكة وسوقها الموجودات إلى كمالاتها وكمالات الموجودات قبولها الأمر وكمالات المكلفين قبولها للثواب فمن لم يقبل الأمر اخرج من عالم الحق والاخراج من الحق لعن كحال الشيطان الأول إذ لم يقبل الأمر فأخرج من جنة العقل وقيل اخرج منها فانك رجيم وذلك معنى اللعن ومن قبل الأمر ادخل في عالم الثواب وتحققت فيه الملكية كحال الملائكة المأمورين بالسجود إذ قبلوا فدخلوا في عالم الثواب
وكما تستغني القوى النباتية والحيوانية والانسانية عن إمداد النفس لحظة واحدة بل لا بد من دوام الأشراق عليها وامداد تأثيرها حتى ينتظم العالم الصغير فكذلك في العالم الكبير نقول في المبدا إن كل صاحب مرتبة وإن تولى ما قيض له وأرصد لعمله فلن يستغني عما فوقه بالامداد له والافاضة عليه والنظر اليه والتأييد له وكذلك في العود إن كل صاحب مرتبة وإن نقل عمله إلىمافوقه فلن ينقطع عمله من معملته بالكلية ولو انقطع عمل الطبيعة لبطلت القوى

النباتية وببطلانها بطلت القوى الحيوانية وكذلك لو انقطع عمل النفس لبطلت القوى الحيوانية وببطلانها بطلت الانسانية وكذلك لو انقطع عمل العقل لبطلت القوى الانسانية وببطلانها بطلت النبوة
فالطبيعة حافظة للنفس النباتية والنفس حافظة للنفوس الحيوانية والعقل حافظ للنفس الناطقة الانسانية وأمر الباري تعالى حافظ للنفس القدسية النبوية إن كل نفس عليها حافظ هذا على العموم له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله وهذا على الخصوص فالأول الحق كما أبدع العقل الأول أكمله بالفعل وكما اخترع بواسطة النفس أتمها بالقوة المتوجهة إلى كمال العقل وكما ابتدع بواسطتها الطبيعة أمدها بالتحرك وكما أحدث الأجسام قدرها بالتصريف وكما ركب العناصر سواها بالاعتدال وكما عدل الأمشاج والأمزجة أظهرها بالتصور وكما صورها أحياها بالنفوس وكما سخرها بالنفوس دبرها بالعقول وكما دبر العقول ساقها إلى معادها بالتكليف والشرائع فأمر ونهى وبشر وأنذر ووعد وأوعد على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وبالجملة ليس خلقه العالم كمن بنى دارا وسرح فيها من عبيده خلقا كثيرا فرتب لكل واحد منهم ما خلقه لأجله وقطع عنهم نظره وتدبيره وعلمه وقدرته وإرادته فهم بخلقه يعملون للأمر وبحكمه يتصرفون فلا الدار محتاجة في بقائها إلى ممسك إذ قد استغنى البناء عن الباني كما ظنه قوم ولا أهلها محتاجون إلى مدبر ومقدر إذا استغنوا بفطرتهم على ما هم عليه عن تجديد أحد وبنيان بان كما يخيله قوم بل كما كانوا محتاجين في وجودهم إلى خلقه تعالى كانوا محتاجين في دوام وجودهم بذواتهم لم يكن دوام وجودهم بذواتهم فهو القيوم على الملكوت جل جلاله
وكما استكمل الآدمي بدنا بالطبيعة حتى عاش في هذا العالم فيجب أن

يستكمل نفسا بالشريعة حتى يعيش في ذلك العالم فقيضت الملائكة مسخرين للطبيعة فحصل كمال الأبدان وبعث الأنبياء عليهم السلام مدبرين للشريعة حتى حصل كمال النفوس وكما أن الصفوة في المزاج انما حصلت بابتلاء الامشاج واستخلاص المواد حتى صار مولودا سميعا بصيرا في هذا العالم كذلك الصفوة في النفوس إنما حصلت بابتلاء التكاليف واستخلاص النفوس حتى صار سميعا بصيرا كاملا في ذلك العالم ولولا تلك التصفية لم يكن ليبعث ملك إلى عالم الأرحام ولولا هذه التصفية لم يكن ليبعث نبي إلى عالم الأحكام
وأعجب بروحانيين متوسطين في الخلق وجسمانيين متوسطين في الأمر والملائكة يحشرون الخلق من التراب إلى تمام الخلقة الانسانية لهذا العالم والأنبياء عليهم السلام يحشرون الخلق من الجهل إلى تمام الفطرة الملكية لذلك العالم فالملائكة والأنبياء عليهم السلام في عالمي الخلق والأمر عمال الأمر الأعلى وكل بأمره يعملون ومن خشيته مشفقون يسبحون الليل والنهار لا يفترون
فإن قال قائل ما ذكرتم في إثبات هذه المعارج والموازنات بين النفس وبين الله تعالى وصفاته وأفعاله كلها تشير إلى إثبات مشابهة ومضاهاة بين العبد وبين الله ومعلوم شرعا وعقلا إن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء
فالجواب أن نقول قد أشرنا في إثبات هذه المعارف ما يوجب تقدس الباري عن جميع صفات مبدعاته ومكوناته ومع هذا مهما عرفت معنى المماثلة المنفية عن الله سبحانه وتعالى عرفت أنه لا مثال له ولا ينبغي أن نظن أن المشاركة في كل وصف توجب المماثلة أفترى أن الضدين متماثلان وبينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه وهما يشتركان في أوصاف كثيرة إذ السواد يشارك البياض في كونه عرضا وفي كونه لونا وفي كونه مدركا بالبصر وأمر آخر سواه أفترى ان من قال إن الله موجود لا في محل وإنه

حي سميع بصير عالم مريد متكلم قادر فاعل والانسان أيضا كذلك قد شبه وأثبت المثل هيهات ليس الأمر كذلك فلو كان كذلك لكان الخلق كلهم مشبهة إذ لا أقل من إثبات المشاركة في الوجود وهو يوهم المشابهة بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية والفرس وإن كان بالغا في الكياسة لا يكون مثلا للانسان لأنه مخالف له في النوع وانما يشابهه في الكياسة التي هي عارضة خارجة عن النوع والماهية المقومة لذات الانسانية الخاصية الالهية هي الموجود بذاته الذي يوجد عنه كل ما في الامكان وجوده على أحسن وجوه النظام والكمال وهذه الخاصية لا يتصور فيها مشاركة البتة والمماثلة بها لا تحصل فكون العبد رحيما صبورا شكورا لا يوجب المماثلة ككونه سميعا بصيرا عالما قادرا حيا فاعلا
بل أقول الخاصية الألهية ليست إلا لله تعالى ولا يعرفها إلا الله تعالى ولا يتصور أن يعرفها إلا هو ولذلك لم يعط أجل خلقه إلا أسماء حجبه بها فقال سبح اسم ربك الأعلى فو الله ما عرف الله غير الله في الدنيا والآخرة يعني على سبيل الاحاطة والكمال فهو الله المنزه عن الماهية الأحد المقدس عن الكمية الصمد المتعالي عن الكيفية الذي لم يلد بل هو المبدع ولم يولد بل هو قديم الوجود ولم يكن له كفوا أحد في ذاته وصفاته وأفعاله هذا ما أردنا أن نذكره في هذا الكتاب وقد كشفت الغطاء عن وجوه الأسرار المخزونة ورفعت الحجاب عن كنوز العلوم ودللت علىالأسرار المخزونة وأبديت فيه العلوم المكنونة المضنون بها تقربا إلى الأخوان الذين لهم قوة القريحة وصفاء الذهن وزكاء النفس ونقاء الحدس وتيقنا بأن الزمان قد حلا من الوارثين لهذه الأسرار تلقفا ومن المقتصرين على الاحاطة بها استنباطا وتاسيا من أن يكون للراغب في تخليد العلم وإيراثه من بعده وجه حيلة الا تدوينه وإيداعه الكتب مسطرا مرقوما دون الاعتماد على رغبة متعلم في تحققه على وجهه وحفظه وإيراثه من بعده ودون الاعتماد على همم أهل العصر ومن يكون بعدهم مثلهم في البحث

والتفتيش وإزالة الاشكال وحل الاشكال والغوص في غوامض العلوم فمن أين للغراب هوي العقاب ومن أين للضباب صوب السحاب ثم إني حرمت على جميع من يقرؤه من الاخوان الذين لهم المناسبة العلوية والقريحة الصافية أن يبذله لنفس شريرة أو معاندة أو يطلعها عليه أويضعه في غير موضعه
فمن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فان وجد من يثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقفه عما يتسرع اليه الوسواس وبنظره إلى الحق بعين الرضا والصدق فليؤته مجزئا مدرجا يستغرس مما يسلفه لما يستقبله وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها أن يجري فيما يؤتيه مجراك متأسيا بك فان أذاع هذا العلم وأضاعه فالله بيني وبينه وكفى بالله حسيبا
وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير

تنبيه
وجد في آخر النسخة التي طبعنا عليها هذا الكتاب هذه العبارة
قد استراح من كمد الانتهاض إلى نقل هذا الكتاب من السواد إلىالبياض أحمد بن شعبان بن يحيى الأندلسي المعروف بابن عبد العزيز الأمير وذلك بتاريخ يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر رجب الأصم سنة 1066ه
على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم
وان تجد عيبا فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا

القصيدة الهائية
ما بال نفسي تطيل شكواها ... إلى الورى وهي ترتجي الله
يفسد إخلاصها شكايتها ... ذاك الذي راعها وأرداها
لو أنها من مليكها اقتربت ... واخلصت ودها لأدناها
لكنها آثرت بريته ... عليه جهلا به فأقصاها
أفقرها للورى ولو لجأت ... اليه من دونهم لأغناها
تشكو إلى خلقه كأنهم ... قد ملكوا نفعها وضراها
لو فوضت أمرها لخالقها ... وصححت صدقها وتكلاها
عوضها من همومها فرجا ... ولم يدعها بطول غماها
تسخطه في رضا بريته ... تبا لها ما أجل بلواها
لو أنها للعباد مسخطة ... مرضية ربها لأرضاها
لدي نفس أحب أنعتها ... لتعرفوا نعتها وأسماها
فاسمع صفاتي لها لعلك أن ... تفهم ذا اللب سر معناها
تسعى إلى اللهو وهو غايتها ... يا ويلها ما أضر مسعاها
أزجرها وهي لي مخالفة ... كأنني لست من أوداها

تنظر في عيب غيرها سفها ... وكم عيوب لها فتنساها
قد ظلمتني بسوء عشرتها ... ولم تدع لي تقوى ولا جاها
كثيرة اللغو في مجالسها ... قليلة الذكر في مصلاها
قليلة الشكر عند نعمتها ... ضعيفة الصبر عند بلواها
بطيئة السعي في مصالحها ... سريعة الجري في بلاياها
كثيرة المطل في مواعدها ... كذوبة في جميع دعواها
بصيرة بالهوى وفتنته ... عمية عن أمور أخراها
نشيطة عند وقت لذتها ... كاسلة عند وقت ذكراها
نؤومة العين عن عبادة من ... أتقن تصويرها فسواها
كثيرة الأمن عند صحتها ... عظيمة الخوف عند ضراها
حليفة الكبر والرياء فقد ... أفسدها كبرها وأطغاها
عظيمة المدح والثناء لمن ... يرفع مقدارها ومثواها
مطيلة الذم بالقبيح لمن ... عرفها قدرها وطغياها
تفرح في أكلها ومشربها ... وجها للمنام أغراها
ذاكرة للورى مساويهم ... ناسية ما جناه كفراها
كم بين نفسي وبين نفس فتى ... طهرها بالتقى ونقاها
علمها رشدها وبصرها ... ثم بقوت الحلال غداها
أقامها في الدجى على قدم ... فانهملت بالدموع عيناها
إذا اشتهت شهوة يعودها ... بخوف معبودها فسلاها
وراضها بالصيام فانقمعت ... بالرغم عن غيها ومغراها
ذاكرة للاله شاكرة ... مخلصة سرها ونجواها
لله نفس امرء موفقة ... آوت إلى ربها فآواها
شرفها ربها وكرمها ... ومن مياه اليقين أرواها

سمت اليه بحسن فكرتها ... ثم صافي ودادها فصفاها
تلك التي إن دعت لحاجتها ... أجابها مسرعا ولباها
إن بليت بالخطوب صبرها ... أو سألت ما يريد أعطاها
ليست كنفس لدي عاصية ... آمرها جاهدا وأنهاها
وهي لأمر الاله عاصية ... ويلي لما قد جنت وويلاها
كيف إلى ربها تنوب وقد ... ذلت لشيطانها فأغراها
فكلما قلت نفس ازدجرى ... وراقبى في أمورك الله
صمت عن الحق وهي سامعة ... كأنني ما أريد إياها
لو علمت بعض ماله خلقت ... أحزنها علمها وأبكاها
لو تعرف الله حق معرفة ... لصححت برها وتقواها
لكنها جهلها بخالقها ... أغفلها رشدها وألهاها
يا ويح نفسي والويح حق لها ... إن صدها ربها وأرداها
تغرها لذة الحياة وما ... تدري إلى ما يكون عقباها
قد ضقت ذرعا بها واحبسها ... لم أك أعصى الاله لولاها
إن أنا حاولت طاعة فترت ... وأظهرت وحشة واكراها
صرت مع النفس في محاربة ... تأمرني بالهوى وأنهاها
نحن كقرنين في معاركة ... أدرع الصبر عند لقياها
وهي بجند الهوى مبارزتي ... وأي صبر يطيق هيجاها
إن جبنت بالقتال شجعها ... أو ضعفت في اللقاء قواها
أصرعها تارة وتصرعني ... لكن لها السبق حين ألقاها
أحبها وهي لي معادية ... كأنني لست من أحباها
عدوة لا أطيق أبغضها ... يا ليتني استطيع أنساها

سابحة في بحار فتنتها ... جاثية في سدول ظلماها
أحسبها إن أبت موافقتي ... خاسرة دينها ودنياها
يا رب عجل لها بتوبتها ... واغسل بماء التقى خطاياها
إن تك يا سيدي معذبها ... من ذا الذي يرتجي لرحماها
فالطف بها واغتفر خطيئتها ... إنك خلاقها ومولاها

القصيدة التائية
بنور تجلى وجهه قدسك دهشتي ... وفيك على أن لا خفا بك حيرتي
فيا أقرب الأشياء من كل نظرة ... لأبعد شيء أنت عن كل رؤية
ظهرت فلما أن بهرت تجليا ... بطنت بطونا كاد يقضي بردتي
فأوقعت بين العقل والحس عندما ... خفيت خلافا لا يزول بصلحة
إذا ما ادعى عقل وجودك منكرا ... على الحس ما ينفيه قال له اثبت
وذلك أن الحس ينفيك صورة ... يراها ويرضى العقل فيك بحجة
فمن هاهنا منشأ الخلاف ويصعب ... الوفاق بخلف في اقتضاء الجبلة
فان قلت لم ابصرك في كل صورة ... أراها أحالت ذاك عين بصيرتي
وان قلت إني مبصر لك انكرت ... مقالي ولم تشهد بذلك مقلتي
تجليت مني في حتى ظهرت لي ... خفيت خفاء دق عن كل فكرة
على أنه لم يبق لي جبل رأى ... تجليك لي إلا ودك بصعقة
وناجيتني في السر مني فأصبحت ... وقد طويت عما سواك طويتي
فما في فضل عنك يخطر فيه لي ... سواك فوقتي فيك غير موقت
وديعة روح القدس نفسك ردها ... فمن واجبات العقل رد الوديعة
وما ردها إلا بتكميلها بما ... يليق بها من كسب كل فضيلة
فمهما تجلت من كدورات عالم الطبيعة شفت جوهرا وتجلت
نصحتك جهدي ان قبلت فلا تكن ... على حكم غش حاملا لنصيحة

وغاية مقدوري فقلت وانما ... قبولك مما ليس في وسع قدرتي
وهل ممكن اسعاد من كان قد جرى ... له قلم في اللوح يوما بشقوة
يظن الفتى لذات دنياه نعمة ... وما هي إلا نقمة في الحقيقة
ويبلغ منه الجهل ما ليس يبلغ ال ... عدو بحد السيف عند الحظيظة
ونفسك فاحفظها وصنها فانما ... سعادتها في فعل كل مشقة
وخالف هواها ما استطعت فانه عدو لها يبغي لها كل نكبة
لعمري لقد انذرت انذار مشفق ... وجاوزت في الايضاح حد الوصية
فقم واسع وانهض واجتهد وابغ مطلقا ... بداك على ما فيك شر صنيعة
فانك من نور مضيء وظلمة ... بما فيك من جسم ونفس نفيسة
تسوس الحياة الجسم وهي مسوسة ... بما فيك من أسرار علم مصونة
فشيطان رجم أنت أو ملك بما ... تعانيه من فعل قبيح وعفة
ألا ان لي بالنفس مني شاغلا ... به تم لي ما دمت من ملكية
جلت شبهة الأعراض عني بديهة ... توقد كالمصباح في جوهريتي
رأيت بها النور الالهي لائحا ... وراء ستور للأمور دقيقة
فحققت ما قد كنت فيه مشككا ... وعاينت ما قد كان في سر خفية
وأدركت ما المقصود من بدأتي وما ال ... مراد باحيائي وموتي ورجعتي
بمرآة نفس لاح لي في صقالها ال ... مقابل للكونين كل حقيقة
ولم يبق عندي ريبة في الذي استرا ... ب منه اناس في أمور كثيرة
فألقت عصاها النفس مني وأيقنت ... بأن سفرت عن وجه نجعي سفرتي
يدل على ما قلته حالة الكرى ... إذا ركد الاحساس منك برقدة
وقابل لوح الغيب للنفس مثلما ... تقابل مرآة باخرى صقيلة
فيطبع ما في اللوح في النفس فهي من ... هناك بعلم الغيب نسخة نسختي

ولو أمكن التجريد في كل يقظة ... لشاهدت لا في النوم كل عجيبة
وما هو عند الله مثل لآدم ... ولا ذنب ذا من ذنب ذاك بنسبة
ويطمع جهلا أن سيدخل جنة ... ويغبط فيها نفسه كل غبطة
خلافا لما يعطي القياس ولم يقم ... له العقل لولا النقل برهان حجة
أيخرج منها آدما إثم زلة ... ويدخل هذا فعله كل زلة
وكيف ترى يقضي الكريم بهفوة ... ويدني اللئيم النذل مع كل ورطة
ولولا حديث في الشفاعة قد أتى ... وتأويل آيات لايناس وحشة
لما طمعت نفس تفوز بجنة ... إذا لم تكن من كل اثم تبرت
ومع ذا اختلاف الناس في ذاك ظاهر ... تقام عليه واضحات الأدلة
وإذ كان قد صح الخلاف فواجب ... على كل ذي عقل لزوم التقية
وترك الأماني الخوادع بعد أن ... رأى بأبيه آدم كل عبرة
ولو كان لا يجزي مسيء بفعله ... ولا محسن ضاعت أمور البرية
وما كان في الأحياء والموت حكمة ... وكان محالا حكم كل شريعة
ومستبعد إحياؤنا ومماتنا ... سدى لا لمعنى فيه سر مشية
أيحسن أن تبنى قصور مشيدة ... بأحسن أوضاع وأجمل بنية
وتهدم عدما لا لمعنى وانه ... ليقبح هذا في العقول السليمة
وذلك شيء فعله عبث وما ... يدبر هذا الكون بالعبثية
فلم يبق إلا أن يدبر أمره ... حليم محيط العلم عدل الحكومة
فما شقيت نفس أطاعته رهبة ... وماسعدت نفس عصته لرغبة
ولكن بنور العلم تسلم هذه ... وتعطب جهلا تيك أقبح عطبة
فيا عجبا ممن يروم لنفسه ... خلاصا ولم يرغب بها عن جريرة
ومن تائب من ذلة لا ترى له ... دموع كأفواه الغمام المكبة
ومن مخبر لا يعجز الله قدره ... عليه ولا يخشى بوادر نقمة
ومن أشرقت أنوار مرآة عقله ... على ظلمات الطبع منه تجلت

وثبت غرس العقل في القلب مثمرا ... لباغي الحيا استقباح كل رذيلة
وما وصلت نفس إلى عالم الصفا ... بما دون تحصيل العلوم الجلية
وتمييزها عن نوعها بمعارف ... يروجها في عالم البشرية
وقد يملأ القطر الاناء فيمتلي ... به الماء حتى لا مزيد لقطرة
فاخرجتني عني بادخال محنة ... واوحشتني مني بأنس محبة
وأسقيتني من خمر حبك شربة ... خماري بها باق إلى يوم بعثتي
محاني بها سكري وأثبتني معا ... فأعجب شيء أن ما حي مثبتي
وأقر بتني من رمز طرسي أسطرا ... فتمت بها تفصيل عقدك جملتي
وأقررتني مني علي بأنني ... صحيفة سر طيها فيه نشرتي
وأفشيت بي سري إلي فأصبحت ... وقد أعربت إذ أفصحت عنه عجمتي
وأفهمتني مني بأن ليس موطني ... مكانا به في عالم الحس نشأتي
فأبهمت ما أفهمت إذ ليس مدرك ... لذلك إلا من خصصت بحكمة
ومن ذا الذي خصصت منك بحكمة ... ولم تك قد عممت منك برحمة
فكم اظهرت تلك الاشارات خافيا ... وان عزبت عن فهم قوم ودقت
وما لاح ذاك البرق الا ليهتدي ... به الركب لكن ظلمة الجهل أعمت
لقد سمع الواعي وقل الذي وعي ... لسكر به أهوى أصمت فأصمت
وكم لك داع منك فيك مبصر ... لعقلك لكن لست تصغي لدعوة

وكل مريض الجسم يمكن برؤه ... ويعجز أن يشفى مريض البديهة
ويستبعد الجهال كونا بموطن ... إذا كان لا في جنب منبت شعبة
ولو علموا ما عالم العقل منهم ... وأنهم بالحس في دار غربة
إذا ولد المولود سروا بفرحة ... ومن حقه أن يبدلوها بترحة
ويبكونه عند الممات جهالة ... ومن حقه إظهار كل مسرة
ولم يعلموا أن الولادة غربة ... أبيحت له عن خير دار وأسرة
وموتته عود له نحو أهله ... وأوطانه الأصلية المستلذة
وأعجب من هذا مقال جميعهم ... ترى عابدي الأوثان أجهل أمة
وما عظم الأوثان من كان قبلهم ... كتعظيم أجسام لهم مضمحلة
فكل غدا معبوده الجسم فاستووا ... ولكنهم لم يستووا عند نية
فقد وقعوا مع علمهم في ضلالة ... إذا اعتبرت أربت على كل ضلة
فياليت شعري كيف صمت عقولهم ... وداعيك فيهم مسمع كل فطنة
وكل فعال لم أكن متقربا ... إلي به أعظمت فيه خطيتي
فقربي به بعد وربحي خسارة ... وعزي به ذل ونفعي مضرتي
لأني فيه قمت غير موجه ... لدى فعله وجهي إلى وجه وجهتي
فدنت بأمر حرمته شريعتي ... واحييت حكما قد أماتته سنتي
فكانت بتركي في مناهيه غفلتي ... نهاية تأديبي وفرط عقوبتي
تشتت عقلي فيك بعد تجمع ... كما اجتمعت بلواي بعد تشتت
هوى فيك لي لا منتهى لامتداده ... لدي ولا منه خلاص بسلوة
ازيد بلى إذ يستجد ولم يكن ... بتجديد صبري فيه أبلى بليتي
يعيد ويبدي أولا منه آخر ... فقد شف جسمي سر عود وبدأة
ألا لا تلمني إن شطحت فانه ... قليل لسكر حل بي منك شطحتي

ولا تنهني إن تهت سكرا معربدا ... فأنت الذي استحسنت فيك هتيكتي
ولا تلح إن غنيت فيك تطربا ... فلو وجدت وجدي الجبال لغنت
ومن عجب حمل الجبال هوى به ... طلعت وعن حملي قديما تأبت
فمن قيس ليلى العامرية في الهوى ... ومن قيس لبنى أو كثير عزة
إذا تليت آيات ذكري فقابل ال ... مجنون ذكري بالسجود لحرمتي
وأوجب كل منهم الوقف عندها ... وسلم أن لا قصة مثل قصتي
فمن فضل كاسي شرب غيري ولم يكن ... يقاس بسكري سكر شارب فضلتي
يبلبل بالي لا لنوح حمامة ... وينهل دمعي لا لإيماض برقة
ولو كنت محتاجا للتنمم باعث ... يحرك أشجاني لبانت نقيصتي
ولكنني مني وفي نواعش ... تحركني في كل سر وجهرة
فلا رقدة تغدو علي بفترة ... ولا يقظة تغدو علي بغفلة
فمن يشك يوما في هواه فانني ... لي الشكر أولى في الهوى من شكيتي
تسترت جهدي في هواك وطاقتي ... فلما منعت الصبر أبديت صفحتي
فاعلنت ما أسررت فيك فلم يكن ... بقول ولا فعل سواك فضيحتي
فما لاشتياقي في افتضاحي مدخل ... ولا لدموع فيك لي مستهلة
وقد كان لي في الصبر ستر على الهوى ... بهتكك ستر الصبر أظهرت عورتي
فلا مذهب في الحب يشبه مذهبي ... ولا ملة فيه تقاس بملتي
يكل لساني عن صفاتي وانما ... يعبر عني أنني ذات وحدة
فكل نعيم دون وصلي شقوة ... وكل ملذ مؤلم عند لذتي
وكل سبيل ليس يفضي سلوكه ... إلي فقد أفضى إلى كل خيبة
ولولا هوى لي فيك يحملني على ... حنوي لم أعهد اليك بلفظة
وكنت إذا زلت بك النعل هاويا ... أقول ألا فاذهب إلى حيث ألقت

ولكن ما ينجيك ينجي هويتي ... كما أن ما يؤذيك نفس أذيتي
وهل أنا إلا أنت ذاتا ووحدة ... وهل أنت إلا نفس عين هويتي
ولولا اعتبار الجسم بالنسبة التي ... اليه له ما صح عني سيرتي
ولست بذي شكل فيوجب كثرة ... لذاتي ولا جزءا فتمكن قسمتي
ويوقع ما بيني وبينك نسبة ... يظن بها غيري لموضع شبهة
واني لم اهبط إلى الأرض يبتغي ... بذلك وضعي بل هبوطي ورفعتي
وتقرير هذا ان دعيت خليفة ... وما كنت ادعى قبل ذا بخليفة
وصير ملكي عالم الجسم محنة ... لغاية تدبيري ومبلغ حكمتي
فان أنا أحسنت الولاية احسنت ... إلى العالم العلوي عودي وعزلتي
وعاينت مالا عاينت مقلة ولا ... أحاطت به أذن وعت حس سمعة
وآثرت لذاتي ونيل مآربي ... واتبعت نفسي كل شيء أحبت
سددت على نفسي سبيل تخلصي ... إلى الملأ الأعلى الذي هو نزهتي
وأوقعتها في أسر من لا يرى لها ... مكانا ولا يحنو عليها بعطفه
فلا ندم يجزي ولا حسرة يرى ... بها فرج يرجى لكشف لشدة
فياويح نفس آثرت طيب زائل ... على طيب باق لا يحد بمدة
يموت الفتى بالجهل من قبل موته ... ويحيى بروح العلم من بعد ميتة
فما مات حي العلم يوما ولم يكن ... بحي ممات الجهل مقدار لحظة
وأنظر أحوال الرجال وقوفهم ... على برزخ ما بين نار وجنة
فاما إلى آلام نفس خبيئة ... وإما إلى لذات نفس نفيسة
فآلام تلك الترك في دار غربة ... ولذات هذا العود من بعد غربة
وهل حسرة في النفس أعظم غصة ... من البعد عن أهل ودار وجيرة
كما أنه لا شيء أعظم لذة ... لذي غربة من ملتقى بعد فرقة
كأني لم أحجب بها وكأنما ... هي احتجبت بي فازدهى الناس عشقتي
وغودرت لا يثني على حسن فعلي ال ... جميل ولا يلوي على حسن طلعتي

ولو قايسوا بالحسن بيني وبينها ... لكانت لديهم لاتسام بحبه
وشق القلوب الجاهلات التي بها ... محبتها قالت بهم عن محبتي
وما ذاك شيء يسقط العذر لامرىء ... أطاع الهوى وانقاد عبدا لشهوة
وهل نافع شق الفؤاد ندامة ... لذي قدم زلت ولم تتثبت
فكيف يليق الوصل مني لمؤثر ... على طيب وصل وصل من هي عبدتي
اذا رضيت عنه يهون عليه في ... رضاها وأدنى ذاك تسهيل غصة
على انها اعدا عداه ترتبت ... له حيلة منها لإمكان فرصة
فهام بها عشقا وآثر وصلها ... فزل فنادته إلى الف لعنة
ولولا الشقا والجهل ما آثر العدى ... رضاها وجانب طيب وصل الأحبة
وهل أمني بالفضل مثلي وانما ... بمثل طباع السوء نحو الدنية
وتأبى الطباع الفاضلات ارتكابها ... الأمور التي تفضي إلى حط رتبة
فكم حسرات في نفوس يثيرها ... بعادي إذا ما العيس للبين ذمت
وكم عبرة تجري علي تأسفا ... وقد فات مالا يسترد بعبرة
وكم قارع سنا علي ندامة ... وآخر مكوي بنيران حسرة
وكم أنة تغدو علي ورنة ... بروح إذا ما استشعر القوم فرقتي
وهل هاجري وجدا بغيري بالغ ... رضاي لصب طالب دار هجرة
لشتان ما بين المقامين انما ... المبرز من لا همه غير عشرتي
ألم تر أني منتهى قصد مبدعي ... ولم تبدع الأشياء الا لخدمتي
وان لإكرامي وتعظيم حرمتي ... أشار إلى الأملاك نحوي بسجدة
وصير ما في عالم الكون كله ... بحكم إرادتي وطوع مشيتي
فإن كنت في وصل دعيت فلا تمل ... إلى وصل غيري واغتنم وصل صحبتي
وخذ جانبا من رفقة بك وكلوا ... ببعدك عن وصلي واثبات جفوتي

فعند ارتفاع الحجب ما بيننا ترى ... محاسن وجه الغانيات وبهجتي
ولا عجنت الا بحبك طينتي ... ولا لهجت إلا بذكرك لهجتي
وردت ورود الهيم فيك من الهوى ... شريعة حب هيجت لي غلتي
ولا عجب ان هيجت لي غلة ... فما تلك عندي منك أول محنة
إذا كان بي أمر أرى فيه لي أذى ... رضاك فما أحلاه في قلب ذلتي
لذلك ما أرضاك مني فعلته ... ولو غضبت منه كرام عشيرتي
وما بعت فيك النفس إلا لعل إن ... أفوز بوصل منك تربح صفقتي
فان أنت أمضيت التبايع بيننا ... فبعت وان لم تمض أكسدت سلعتي
وما قدر نفس لي لديك حقيرة ... فأجعلها مهرا لأشرف وصلة
ولكن مقل بادل فيك جهده ... أحق بوصل من أخي كل ثروة
توحشت من أبناء نوعي ولم يكن ... لشيء سوى أنسي بقربك وحشتي
تغربت عن أهلي اليك وإنني ... ليعذب لي في طيب أنسك غربتي
فكم خلوة قد فزت فيها بجلوة ... خرجت بها عني اليك بفرحة
وطلقت فيها عالم الحس بتة ... لتعلم أني لا أقول برجعة
وفارقت أوطاني وأهلي وجيرتي ... لتعلم أني باذل فيك مهجتي
ولولا دخولي في رضاك بكل ما اس ... تطعت لعزت فيك عني خرجتي
وكان بودي لوقبلت تقربي ... اليك ولكن لست أهلا لقربة
وهل انا إلا نطفة من سلالة ... لطين وما مقدار قيمة نطفة
لعمري لقد حاولت أمرا مرامه ... عزيز ولكن انت أهل العطية
وليس اعترافي باتضاعي بمانعي ... سؤالك أمرا دونه قدر قيمتي
وليس على قدري سؤال فانني ... أرى أن قدري دون مقدار ذرة
ولكن على مقدار احسانك الذي ... عممت به تخصيص كوني بخلقتي
ولا أنا ممن يخجل الطرد وجهه ... فيأنف من عود مخافة طردة
على كل حال ليس لي عنك مذهب ... فيصرفني عن جعل بابك قبلتي

فما شئت فاصنع وارض عني فانني ... أرى كل صنع منك اسباغ نعمة
كفاني اعترافي باقترافي توبة ... وحسبي رضا عني قبولك توبتي
وهل أنا إلا دوحة قد غرستها ... فإن لم يصبها وابل منك جفت
إذا حصلت لي كيف ما كان نسبة ... اليك فلا أخشى ضياعا لنسبتي
فياحيرتي كم حيرة فيك لي غدت ... مخصصة بي ما به منك عمت
وكم نعمة اسبغت من سر حكمة ... أنرت بها من ناطق كل ظلمتي
وأحييت مني ما أماتت جهالتي ... حياة محال أن تحال بموتتي
ومن حييت من موتة الجهل نفسه ... بعلم نجت من قطع كل منية
وكم موجة من بحر علم أثرتها ... لدي بريح منك أجرت سفينتي
فمرت تشق الكون حين مهبها ... ملححة حتى أفادت معيتي
وأدركت معنى آخرا دق فهمه ... أريد بوضع الصورة الالفية
ومن لم يحط علما بمعنى وصورة ... له فبصير العين أعمى البصيرة
فزرع ولكن لم يفد حصد حبه ... ومخض ولكن لم يفد مخض زبدة
إذا جهل الإنسان تحقيق أمره ... فكيف بتحقيق الأمور الغريبة
فيا عجبا للمرء يجهل نفسه ... ويطمع في فهم المعاني البعيدة
وما ناهض بالنفس يزداد رتبة ... من العلم تسميها كوان مفوت
وما موقظ من رقدة الجهل عقله ... لتحصيله تكميلها مثل ميت
إذا كملت نفس الفتى بصفاته ال ... جميلة من قول وفعل ترقت
وأصبح يدعى عالم العقل عالما ... لها وتخطت نفسه كل خطة
وبالعلم بالنفس النفيسة يدرك ال ... محصل فهم العلة الأولية
ومن لم يحط علما بذاك فإنه ... وإن كان حيا حكمه حكم ميت
وما الحي عند العقل من كان غالبا ... على نفسه حكم القوى البدنية
ولكنه من شرفت قدره على ... بني نوعه أوصاف نفس زكية
ففي العالم العلوي ذا ملك وذا ... لدى العالم السفلي شيطان جنة
وما اختلفا بالنوع حتى يظن ما ... به اختلفا فعلا لخلق الغريزة

وكل أبوه آدم ويخص ذا ... لذا خص ذا من سر معنى النبوة
ومن أعجب الأشياء فرعا أرومة ... وما اتحدا بالطبع في الثمرية
بأي لسان أوثر الشكر مثنيا ... عليك بما أوليتني من فضيلة
وأكملت من عقلي ووصفي وصورتي ... وفهمي وأحشائي وحولي وقوتي
وصفحك عني إن عصيت تكرما ... ووعدك لي عن طاعتي بالمثوبة
وهل ممكن إحصاء ذرات كلما ... على الأرض من كثبان رمل مهيلة
وإحصاء ما في البحر من كل قطرة ... بحيث يحيط المحصي منها بعدة
وذلك أمر مستحيل وكلما اس ... تحال فمنفي لحكم الضرورة
وما كل هذا لو أتيت بضعفه ... من الشكر أدنى شكرا أصغر حبة
فكيف بشكري كل عضو وقوة ... جعلت لنفعي عند تأليف بنيتي
وشكر التي قد حجبت بي وانها ... لأظهر لي من نور شمس تبدت
بعيدة أطلال الديار قريبة ... وأعجب شيء بعد دار قريبة
بها مثل ما بي من هواها وعندها ... من الود ما ليس دون مودتي
وقد أدركتها رقة لي أطمعت ... بنيل المنى لولا مخافة وفقتي
وقلت لها مني علي بنظرة ... أنال بها من حسن وجهك منيتي
ألم تعلمي ما حل بي منك من جوى ... وكابدت من أشجان قلب ولوعة
فان الجبال الشم وهي رواسخ ... لو احتملت بعض الذي بي لدكت
فأحزان قلبي لا تجود بسلوة ... واجفان عيني لا تسح بدمعة
ولولا حنيني لم تحن مطية ... ولولا نواحي لم تنح ورق أيكة
ولولا خطابي لم يقع عين عابد ... علي لما مني الصبابة أبلت
فلا ماء إلا بعض فيض مدامعي ... ولا نار إلا دون أنفاس زفرتي
فقالت بعيني ما لقيت وانه ... ليؤلم قلبي أن تشاك بشوكة
واني على ما في من صلف البها ... لراغبة في الوصل أعظم رغبة
ولكن وشاة السوء فيك كثيرة ... وليست مع الواشين تمكن رؤيتي
وانت فمغرى بالحسان وانني ... لأكره ما بي أن أرى وجه ضرتي

ومن لم يصني صنت وجهي ببرقع ... وصور فيه صورة دون صورتي
ليمتحن الخطاب لي إذ يرونها ... أيلهون عني أم يتمنون خطبتي
وماهي إلا عبدة لي جميلة ... تظن وما افعالها بجميلة
فما كان إلا ان رأى الناس وجهها ... فهاموا بها في فج وجه ووجهة
ويعلم ما قد كان بالأمس والذي ... يكون غدا أوكائن بعد برهة
ويخبر بالأمر المغيب مثل ما ... يخبر عن ما كان منك بحضرة
ويعلم ما مفهوم معنى معبر ... لسامعه عنه بوحي النبوة
وما الوحي إلا خلع نفس قوية ... ملابس إحساس على العقل غطت
وأنى لها نحو المحيط بذاتها ... على عالم العقل الذي عنه شبت
وإدراك ما يلقى اليها هناك من ... إشارات رمز للعقول دقيقة
وإفهام أفهام النفوس لطائف ال ... معاني التي في ذاتها قد تهيت
وما أطرب الأرواح منا لدى الفنا ... سوى نغمات أدركتها قديمة
وذلك أن النفس قبل اتصالها ... بتدبيرها الجسم الذي قد تولت
وعى سمعها من طيب ألحان نغمة ... ينغمها الأفلاك أعظم لذة
إذا أقبلت اجرامها باصطكاكها ... يرجعها في قطعها كل ذروة
وشذت لبعد العهد عنها فلم تكن ... تذكرها إلا بتجديد نغمة
فلما أحست بالسماع بمثلها ... تذكرت العهد القديم فحنت
وحاولت التجريد عن عالم الفنا ... إلى العالم الباقي الذي عنه شذ
فجاذبها الجسم الزمام وأقبلت ... تجاذب فاهتزت لذاك برقصة
ولا شك في أن العقول محيلة ال ... مسامع والأبصار للحس رنت
فإن لم يكن في عالم العقل ما يرى ... ويسمع كانت تلك غير مفيدة
وذلك تعطيل وليس بحكمة ... يعطلها عماله قد أعدت
وقد يطرب الدولاب عند حنينه ... فكيف حنين النغمة الفلكية
وناهيك أن الطفل عند بكائه ... يغنى فيغشاه سكينة سكتة
ويذهل عما كان فيه من الأذى ... وتبدو لنا منه مخايل طربة

ولولا ادكار النفس منه لدى الغنى ... عهودا قديمات لها ما استلذت
وقد تطرب العجماء عند استماعها ال ... غناء وتنسى عنده كل غمة
وإلا فما بال المطي إذا ونت ... عن السير هيجت في الفلاء بحدوة
فتصغي إلى الحادي بأسماعها كما ... يكون استماع العاقل المتنصت
وتوسع مد الخطو حتى كأنها ... سفائن بحر مقلعات بلجة
ويرتاح بعض الطير عند سماعه ... تجاوب أوتار إذا هي خشت
وما ذاك إلا أن أفلاكها على ... مراكزها لما استدارت فعنت
فصارت بحكم الطبع تشتاق ما به ... يخصصها من دون كل مصوت
فلا تحسب الأشياء مهملة كما ... توهم أصحاب العقول الضعيفة
وللحوت بل للدود في العود بل لما ... سوى ذاك أفلاك عليها أديرت
وفيها لها آفاق جو فسيحة ... عليها نراها نحن غير فسيحة
فما خص نوع لا يتم سواه من ... مراكز أفلاك وأوضاع هيئة
وكل له عقل يسدده إلى ... مقاصد أفعال وترك شديدة
وما النحل في أوضاعها لبيوتها ... مسدسة من حكمة بخلية
وقد يعجز المرء المهندس وضعها ... بآلاته الحكمية الهندسية
وجعل لعاب العنكبوت لصيده ال ... ذباب شباكا ليس إلا لخبرة
ويفهم بعض الذر مقصود بعضه ... بقوة إدراك لنفس زكية
وحسبك الف النوع بالنوع شاهد ... بمعرفة في طبعه مستحثة
فإن ازدواج الشكل بالشكل مشعر ... بقوة تمييز وصحة فطرة
ولو لم يكن إلا تفاهمها إذا ... تناغت بأصوات لها أعجمية
لكان لنا فيه دليل يدلنا ... على ان ذا لا عن نفوس بليدة
فمن ظن شيئا غير هذا فإنه ... لتقصيره عن فكرة مستقيمة
وقد شهد الذكر الحكيم بأنها ... مسبحة والذكر أعظم حجة
وهل يصدق التسبيح من غير عاقل ... ولكن عيون الجهل غير بصيرة
تأمل صلاة الشمس عند وقوفها ... لدى الظهر في وسط السماء بخشية

وإثباتها وقت الزوال بركعة
وإتمامها عند الغروب بسجدة
كذا جملة الأفلاك راكعة بما ... جرت سجدة لله في كل طرفة
وماذا الذي أعمى عيون قلوبهم ... ونورك فيهم مستطير الأشعة
لقد عظمت تلك الرزية موقعا ... لدى كل ذي عقل سليم وجلت
أرى كل ذي سكر سيصحو من الهوى ... سواي فصحوي فيك علة سكرتي
فما اتفقت لي مذ عرفتك خلوة ... بنفسي إلا همت فيك بجلوة
ولا عرضت لي في دجى الفكر هجمة ... فأغفيت الا فزت فيك بيقظة
ولا استغرقتني في المحاسن بهتة ... فثارت بحسن غير حسنك بهتتي
ولا سنحت في باطن القلب خشية ... فكانت لشيء غير هجرك خشيتي
ولا خضعت نفسي لأمر ترومه ... فكانت لشيء غير وصلك خضعتي
ولا استقبلتني من جنابك نفحة ... اسرت حديثا عنك الا وسرت
وأصغي إلى تحصيله في مسامع ال ... مشاعر مني كل منبت شعرة
وأحسست في نفسي بلطف دبيب ما ... سقت من حميا الحب لما تمشت
وهل شارب كأسا من الحب جاهل ... بما أحدثت في عقله حين دبت
فقد حقق الدعوى القياس واين من ... كثافة جسم الخمر لطف المحبة
إذا غبت عني كنت عندك حاضرا ... ومن عجب ان غيبتي فيك حضرتي
فيا باطنا القاه في كل ظاهر ... ويا أولا ما زال آخر فكرتي
تشابه اعلاني وسري ومشهدي ... وغيبي وستري في هواك وشهرتي
تجمعت الأضداد في ولم يكن ... بمستغرب لي في الهوى كل بدعة
فنوعي في شخصي لأني نتيجة ... لشكل قياس عن ضروب عقيمة
ملأت جهاتي الست منك فأنت لي ... محيط وأيضا أنت مركز نقطتي
فصرت إذا وجهت وجهيمصليا ... فرايض أوقاتي فنفسي كعبتي
فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي ... ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي
وحولي طوافي واجب وخلاله اس ... تلامي لركني من مناسك حجتي
وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي ... لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي

ولو هم مني خاطر بالتفاتة ... لما كان لي إلا إلي تلفتي
ولو لم أؤد الفرض مني إلي لم ... يصح بوجه لي ولم تبر ذمتي
وكنت على أني أوحد ظاهرا ... ففي باطني قد دنت بالثنوية
كذا من يكن قد صح عقد وداده ... ولم يتهم يوما بسقم عقيدة
وينفي اتصال النفس بالعقل واقفا ... على حس ما في عالم الحس أبلت
فإن قهرت فيه قوى الجسم ألحقت ... بعالمها مملوة بالمسرة
وإن قهرت فيه قوى النفس لم تصل ... اليه طوال الدهر يوما بحيلة
وتبقى كما قد جاء تهوى وليتها ... هوت ماهوت ثم ارعوت واستقرت
ولكنها تبقى بنيران حسرة ال ... بعاد تقاسي ضيق أغلال كربة
مذبذبة لا عالم العقل أدركت ... ولا عالم الأجسام فيه تبقت
فترجع إلى أحدى الحنين حنينها ... إلى عالم العقل الذي عنه صدت
وهيهات أن يطوى لسير حنينها ... اليه الذي قد حال من بعد شقة
وأنى لها والحس قد حال بينها ... وبين حماه أن تفوز بنظرة
إذا ذكرته هز هامس طائف ... من الشوق لو هز الجبال لهدت
وما ذاك بالمدني إليه ولا الذي ... إذا لم يكن يدني فربح بوقفة
أسى كلما قيل انقضت منه لوعة ... أعيدت بأخرى مثلها مستحثة
تزول الجبال الشم وهي مقيمة ... على حالة منكوسة مستمرة
وذلك أمر نسأل الله عصمة ... منجية منه ومن كل حيرة
ألم يك فيما نال آدم عبرة ... ومتعظ للعاقل المتثبت
على قربه من ربه واصطفائه ... ومنحته اياه أعظم منحة
وابعاده من بعد ذاك وصده ... وتجريعه إياه أعظم غصة
ولم يأت ذنبا عامدا غير أنه ... بأول حكم الله طالب رخصة
فأخطأ في التأويل جهلا فحطه ... إلى الارض من أعلى الجنان المنيفة
ولم يخف ما لاقى إذ انحط هابطا ... إلىالارض من هول الأمور العظيمة
وما زال يدعو الله سرا وجهرة ... وحاول منه العفو عنه بتوبة

وكيف بمن يأتي ذنوبا كثيرة ... ويقضي وما وافى بتوبة مخبت
وكم جاهل لم يزدجر بالذي جرى ... علىآدم من فعله كل خزية
لقد شمل الخير الوجود بأسره ... فما كان من شر فذاك لندرة
ولم يكن المقصود بالذات إنما ... أتى بطريق الضمن والتبعية
ألم تر أن الغيث خير وانه ... ليحصل منه وكف بعض الأكنة
وان لهيب النار للثوب محرق ... ويحصل منه نضج كل معيشة
فقد يتبع الخير الكثير الذي نرى ... لنا فيهما شر يسير المضرة
ولو روعي الضر الذي فيهما لنا ... ولم يخلقا لاختل نظم الخليقة
وكان هلاك الحرث والنسل عاجلا ... وذاك بلا شك خراب البسيطة
ولم يك إلا عالم الأمر وحده ... ولم يخف ما في ذاك من نقص خلقه
وفي الحشرات الساقطات منافع ... يحيط بها أهل العقول السليمة
ولو لم تكن ما عاش من نوعنا امرؤ ... لفضل بخارات الهيولى الردية
فمن ذلك الفضل الردي تكونت ... وفي مدخل الاوساخ في الارض حلت
وغودر ما نلقيه منا غذاؤها ... لصفو الهوى من شوب كل أذية
لتنتعش الارواح منا بطيبه ... ويصفو لنا ورد الحياة الهنية
وقد ركب الاجسام منا وكل ما ... تركب منحل ولو بعد برهة
وألبس منا كل جزء بحيز ... لأركاننا الذاتية العنصرية
وما جمعنا بعد افتراق بمعجز ... وهل آخر يخلو عن الأولية
وان معاد الشيء بعد انعدامه ... لأسهل من إنشاء إنشاء بداة
ومطلع شمس النفس من مشرق الخلا ... سيطلعها من مغرب العدمية
سبحان من يحيي بقدرته الذي ... يميت كما أحياه أول مرة