كتاب : العاقبة في ذكر الموت
المؤلف : عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي أبو محمد

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قال الشيخ الإمام الأوحد الزاهد أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن ابن عبد الله الأزدي الإشبيلي المالكي رضي الله عنه
الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة وكسر بصدمته ظهور الأكاسرة وقصر ببغتته أمال القياصرة الذي أدار عليهم حلقته الدائرة وأخذهم بيده القاهرة فقذفهم في ظلمات الحافرة وصيرهم بها رهنا إلى وقفة الساهرة فأصبحوا قد خسروا الدنيا ولم يحصلوا على شيء من الآخرة
مصيبتهم والله لا يجبر مصابها ولا يتجرع صابها ولا تنقضي آلامها ولا أوصابها
لم يمنعهم ما حصنوه من المعاقل والحصون ولا حرسهم ما بعثوه من الحرس والعيون ولا فداهم من ريب المنون ما ادخروه من علق مصون وذهب مخزون
بل صدمهم بركنه الشديد وصبحهم بجيشه المديد وأنفذ فيهم ما كتب عليهم من الوعيد
نقلهم من لين المهود إلى خشونة اللحود وصيرهم بين حجرها المنضود وجندلها المعقود أكلا للهوام وطعما للدود
نظر إليهم بعينه الشوساء وأرسل عليهم كتيبته الخرساء فأذل عزتهم

القعساء وأبدل من نعمتهم بؤسا وأنطق بالعويل ألسنة خرسا وصيرهم حديثا يذكر على مر الزمان ولا ينسى
نزلوا عن الأرائك والكلال والأسرة والحجال إلى الحجارة والرمال والأراقم والصلال وشظف العيش وضيق المجال وحلوا بربع غير محلال بحيث لا زوال ولا انتقال ولا عثرة تقال ولا يسمع فيها مقال ولا يلتفت عندها إلى من قال
أرسل عليهم ربك جنوده العاتية وأخذهم أخذته الرابية وسلك بهم مسلك الأمم الخالية والقرون الماضية فهل تحس منهم من أحد أو هل ترى لهم من باقية وفيهم قيل وفي أمثالهم
( حدث حديث القوم من فارس ... ومن بني قبط ويونان )
( ومن بني الأصفر أعجب بهم ... وسيد الأتراك خاقان )
( والأقدمين الأعظمين الألى ... من حمير أبناء قحطان )
( من تبع العرب ومن قيصر ... الروم وكسرى آل ساسان )
( من كل قرم شامخ أنفه ... وكل فرعون وهامان )
( وإن نسيت اليوم شيئا فلا ... تنس نبطا أخت كلدان )
( واذكر ملوك الأرض من بعدهم ... من عرب صيد وعجمان )
( من كل منصور اللوا أروع ... سليل أطواق وتيجان )
( مجتمع الشمل على عزة ... شيدت بأساس وأركان )
( قد زلزل الأرض وراع الورى ... من جيشه الضخم بطوفان )
( وذلل الخلق بسلطانه ... كأنه رب لهم ثان )
( انظر إليهم هل ترى منهم ... غير أحاديث بأفنان )

( وانظر إلى الموت وأعماله ... فيهم ترى الهلك ببرهان )
( وأبصر القوم وماذا لقوا ... بالموت من ذل وخسران )
( قد صفعتهم يده صفعة ... خروا لآناف وأذقان )
( ودك في الأرض بيتجانهم ... وألبسوا تيجان صمان )
( من حجر صلد ورخو ومن ... ترب وحصباء وصيدان )
( وأنزلوا بطن الثرى بعدما ... كانوا قعودا فوق كيوان )
( واطعم الديدان لحما نهم ... ويالك من لحم وديدان )
( فكم هناكم من فتى ناعم ... ومن فتاة ذات أردان )
( ومن هزبر مرح في الوغى ... وظبية تسرح في بان )
( كانوا كذا ثم اغتدوا عبرة ... لنازح الدار وللدان )
( ولم يدافع عنهم جحفل ... قد طبق الأرض بفرسان )
( ولا بيوت ملئت كلها ... من لؤلؤ بحت وعقيان )
( بل مر ذاكم كله مسرعا ... كالريح مرت بين قضبان )
( وأصبح الملك لمن ملكه ... باق وكل غيره فان )
فسبحان من تفرد بالعزة والكبرياء وتوحد بالديمومة والبقاء وطوق عباده بطوق الفناء وفرقهم بما كتب عليه من السعادة والشقاء وجعل الموت مخلصا لأوليائه السعداء وهلكا لأعدائه الأشقياء
خلق خذلانا وقدر توفيقا وأنهج سبيلا وأوضح طريقا فهدى إليه فريقا وأضل عنه فريقا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من وفق لها في الأزل وكتب له بها في القسم الأول ففتح لها كل باب وهتك دونها كل حجاب وخلصها من الشبهة والارتياب وظهرت عليه فيها نعمة العزيز الوهاب الغفور التواب ملك الملوك ورب الأرباب

26 - وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرفوع عليه علم التحقيق المختص بخصائص التوفيق الداعي إلى أنهج سبيل وأوضح طريق
صلى الله عليه صلاة تزيده شرفا وترفعه زلفى وتوردنا مورده الذي عذب وصفا وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم وكرم وشرف وعظم
أما بعد فإن الموت أمر كبار لمن أنجد وأغار وكأس تدار فيمن أقام أو سار وباب تسوقك إليه يد الأقدار ويزعجك فيه حكم الاضطرار ويخرج بك إما إلى الجنة وإما إلى النار
خبر - علم الله - يصم الأسماع ويغير الطباع ويكثر من الآلام والأوجاع
واعلموا أنه لو لم يكن في الموت إلا الإعدام وانحلال الأجسام ونسيانك أخرى الليالي والأيام لكان والله لأهل اللذات مكدرا ولأصحاب النعيم مغيرا و2لأرباب العقول عن الرغبة في هذه الدار زاجرا ومنفرا كما قال مطرف بن عبد الله بن الشخير
إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا موت فيه فكيف ووراءه يوم يعدم فيه الجواب وتدهش فيه الألباب وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب ويترك النظر فيه والاهتمام به الأولياء والأحباب
واعلموا رحمكم الله أن الناس في ذكر الموت على ضروب فمنهم المنهمك في لذاته المثابر على شهواته المضيع فيها مالا يرجع من أوقاته لا يخطر الموت له على بال ولا يحدث نفسه بزوال قد أطرح أخراه واكب على دنياه واتخذ إلهه هواه فأصمه ذلك وأعماه وأهلكه وأرداه
فإن ذكر له الموت نفر وشرد وإن وعظ أنف وبعد وقام في أمره الأول وقعد قد حاد عن سواء نهجه ونكب عن طريق فلجه وأقبل على بطنه وفرجه تبت يداه وخاب مسعاه وكأنه لم يسمع قول الله عز و جل ( كل نفس

ذائقة الموت ) ولا سمع قول القائل فيه وفي أمثاله حيث قال
( يا راكب الروع للذاته ... كأنه في أتن عير )
( وآكلا كل الذي يشتهي ... كأنه في كلأ ثور )
( وناهضا إن يدع داعي الهوى ... كأنه من خفة طير )
( وكل ما يسمع أو ما يرى ... كأنما يعنى به الغير )
( إن كؤوس الموت بين الورى ... دائرة قد حثها السير )
( وقد تيقنت وإن أبطأت ... أن سوف يأتيك بها الدور )
( ومن يكن في سيره جائرا ... تالله ما في سيرها جور )
ثم ربما أخطر الموت بخاطره وجعله من بعض خواطره فلا يهيج منه إلا غما ولا يثير من قلبه إلا حزنا مخافة أن يقطعه عما يؤمل أو يفطمه عن لذة في المستقبل وربما فر بفكره منه ودفع ذلك الخاطر عنه ويا ويحه كأنه لم يسمع قول الله عز و جل ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) ولا قول القائل
( فر من الموت أو اثبت له ... لا بد من أنك تلقاه )
( واكتب بهذي الدار ما شئته ... فإن في تلك ستقراه )
وكذلك من كان قلبه متعلقا بالدنيا وهمه فيها ونظره مصروفا إليها وسعيه كله لها وهو مع ذلك من طلابها المحرومين وأبنائها المكدودين لم ينل منها حظا ولا رقى منها مرقى ولا نجح له فيها مسعى إن ذكر له الموت تصامم عن ذكره ولم يمكنه من فكره وتمادى على أول أمره رجاء أن يبلغ ما أمل أو يدرك

بعض ما تخيل فعمره ينقص وحرصه يزيد وجسمه يخلق وأمله جديد وحتفه قريب ومطلبه بعيد
يحرص حرص مقيم ويسير إلى الآخرة سير مجد كأن الدنيا حق اليقين والآخرة ظن من الظنون وفي مثل هذا قيل
( أتحرص يا ابن آدم حرص باق ... وأنت تمر ويحك كل حين )
( وتعمل طول دهرك في ظنون ... وأنت من المنون على يقين )
وهذا إذا ذكر الموت أو ذكر به لم يخف أن يقطع عليه مهما من الأغراض قد كان حصله ولا عظيما من الآمال في نفسه قد كان أدركه لأنه لم يصل إليه ولا قدر عليه لكنه يخاف أن يقطعه في المستقبل عن بلوغ أمل يحدث به نفسه ويخدع به حسه وهو يرى فيه يومه كما قد رأى فيه أمسه
قد ملأ قلبه بتلك الأحاديث المشغلة والأماني المرذلة والوساوس المتلفة قد جعلها ديدنه ودينه وإيمانه ويقينه
وربما ضاق ذرعه بالدنيا وطال همه فيها من تعذر مراده عليه وقلة تأتيه له فتمنى الموت إذ ذاك ليستريح بزعمه وهذا من جهله بالموت وبما بعد الموت والذي يستريح بالموت غيره والذي يفرح به سواه إنما الفرح من وراء الصراط والراحة بعد المغفرة
توفيت امرأة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يمازحونها ويضحكون معها فقالت عائشة رضي الله عنها لقد استراحت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يستريح من غفر له ذكره أبو بكر البزار في مسنده
فلا يزال هذا البائس يتحمل من الدنيا بؤسها ويتلقى نحوسها ويلبس

لكل شدة لبوسها وهو يتعلل بعسى ولعل ويرى جنده الأفل وحزبه الأقل وناصره الأذل فلا يرعوي ولا يزدجر ولا يفكر ولا يعتبر ولا ينظر ولا يستبصر حتى إذا وقعت رايته وقامت قيامته وهجمت عليه منيته وأحاطت به خطيئته فانكشف له الغطاء وتبدت له موارد الشقاء صاح واخيبتاه واثكل أماه واسوء منقلباه
هيهات هيهات ندم والله حيث لا ينفعه الندم وأراد التثبيت بعدما زلت به القدم فخر صريعا لليدين وللفم إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم فنعوذ بالله من الحرمان ومن ضحك العدو وشماتة الشيطان
وهذا والذي قبله إن لم يكن لهما عناية أزلية وسابقة أولية فيمسك عليهما الإيمان ويختم لهما بالإسلام وإلا فقد هلكا كل الهلاك ووقعا بحيث لا دراك ولا مخلص ولا إنفكاك
فنعوذ بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء بفضله ورحمته
ورجل أخر وقليل ما هم من أزيل من عينه قذاها وكشف عن بصيرته عماها وعرضت عليه الحقيقة فرآها وأبصر نفسه وهواها فزجرها ونهاها وأبغضها وقلاها فلبى المنادي وأجاب الداعي وشمر لتلافي ما فات والنظر فيما هو آت وتأهب لهجوم الممات وحلول الشتات والانتقال إلى محلة الأموات
ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشهد وقائعه أو يرى طلائعه أو يكون ذاكرا حديثه أو سامعه وليس يكره الموت لذاته ولا لأنه هادم لذاته ولكن يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد والاكتساب ليوم الحساب ويكره أن تطوى صحيفة عمله قبل بلوغ أمله وأن يبادر بأجله قبل إصلاح خلله وتدارك زلله فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار والإقامة بهذه المحلة بسبب هذه العلة

كما روى عن بعض العالمين وقد بكى عند الموت فقيل له ما يبكيك فقال والله ما أبكى لفراق هذه الدار حرصا على غرس الأشجار وإجراء الأنهار لكن على ما يفوتني من الادخار ليوم الافتقار والاكتساب ليوم الحساب
قال في هذا أو معناه
( أهون بداركم الدنيا وأهليها ... واضرب بها صفحات من محبيها )
( الله يعلم أني لست وامقها ... ولا أريد بقاء ساعة فيها )
( لكن تمرغت في أدناسها حقبا ... وبت أنشرها حينا وأطويها )
( أيام أسحب ذيلي في ملاعبها ... جهلا وأهدم من ديني وأبنيها )
( وكم تحملت فيها غير مكترث ... من شامخات ذنوب لست أحصيها )
( فقلت أبقى لعلي أهدم ما ... بنيت منها وأدناسي أنقيها )
( ومن ورائي عقاب لست أقطعها ... حتى أخفف أحمالي وألقيها )
( يا ويلتي وبحار العفو زاخرة ... إن لم تصبني برش في تثنيها )
وهذا إذا مات فيالله دره من ميت ما أفضل حياته وأطيب مماته وأعظم سعادته وأكرم وفادته وأتم سروره وأكمل حبوره
واعلم أن هذا لا يدخل تحت قوله عليه الصلاة و السلام من كره لقاء الله كره الله لقاءه لأن هذا لم يكره لقاء الله تعالى لذات اللقاء إنما كره أن يقدم على الله عز و جل متدنسا بأوضاره ثقيل الظهر بأوزاره ملأن من عاره وشناره فأراد أن يتطيب للقاء ويستعد لفصل القضاء
قال أبو سليمان الداراني قلت لأم هارون العابدة أتحبين أن تموتي قالت لا قلت ولم قالت والله لو عصيت مخلوقا لكرهت لقاءه فكيف بالخالق جل جلاله

وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم يا أبا حازم ما لنا نكره الموت فقال لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب قال كيف القدوم على الله عز و جل فقال يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يأتي أهله فرحا مسرورا وأما المسيء فكالعبد الابق يأتي مولاه خائفا محزونا
قال أبو بكر الكتاني كان رجل يحاسب نفسه فحسب يوما سنيه فوجدها ستين سنة فحسب أيامها فوجدها واحدا وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ صرخة وخر مغشيا عليه فلما أفاق قال يا ويلتاه أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب
يقول هذا لو كان ذنب واحد في كل يوم فكيف بذنوب كثيرة لا تحصى
ثم قال : آه علي عمرت دنياي وخربت أخراي وعصيت مولاي ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب وكيف أشتهي النقلة إلى دار الكتاب والحساب والعتاب والعذاب بلا عمل ولا ثواب
وأنشد
( منازل دنياك شيدتها ... وخربت دارك في الآخرة )
( فأصبحت تكرهها للخراب ... وترغب في دارك العامرة )
ثم شهق شهقة عظيمة فحركوه فإذا هو ميت
على أن هذا الحديث من كره لقاء الله كره الله لقاءه قد جاء مفسرا فعن عائشة رضي الله عنها
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا نكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله

لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه وعقوبته كره لقاء الله فكره الله لقاءه
ذكره مسلم بن الحجاج
وقال البخاري في هذا الحديث ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله فكره الله لقاءه
ورجل أخر هو من القليل قليل قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وشاهد ما شاهد من كمال الربوبية وجمال الحضرة الإلهية فملأت عينه وقلبه وأطاشت عقله ولبه فهو يحن إلى ذلك المشهد ويحوم على ذلك المورد ويستعجل إنجاز ذلك الموعد وقد علم أن الحياة حجاب بينه وبين محبوبه وستر مسدل بينه وبين مطلوبه وباب مغلق يمنعه من الوصول إلى مرغوبه
فلو أصاب سبيلا إلى هتك ذلك الحجاب هتكه أو رفع ذلك الستر رفعه أو كسر ذلك الباب حطمه وكسره فعذابه في الحياة وراحته في الممات
كما يروى أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما نزل به الموت قال حبيب جاء على فاقة
وقد قيل إن الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب
وأنشد بعضهم
( يا حبذا الموت وأهواله ... وسكرة منه تلي سكره )
( وزفرة في أثرها زفرة ... كأنها في كبدي جمره )
( وروعة تقطع مني الحشا ... كأنها في أضلعي شفره )
( يا حبذا يا حبذا كل ما ... لاقيت من ضر ومن عسره )
( أهون به ثمت أهون به ... ولو غدا مثل الحصى كثره )

( إذ كان ذاكم معقبي نظرة ... في وجه ذي العز وذي القدرة )
( يا لأماني تمنيتها ... تفقد نفسي دونها حسرة )
( والموت جسر للقاء المنى ... فليعمل الغافل ما سره )
ويروى عن علي بن الفتح أنه رأى الناس في يوم عيد يتقربون بقرابينهم يعني بضحاياهم فقال يا رب وأنا أتقرب إليك بأحزاني ثم غشي عليه فلما أفاق قال إلهي إلى كم ترددني في هذه الدنيا فمات من ساعته
ومقدمات هذا وأمثاله تدل على ما وراءها من الوصال والاتصال والأنس بذلك الجلال والجمال
وآخر قد شاهد ما شاهد ذلك وربما زاد عليه ولكنه فوض الأمر إلى خالقه وسلم الحكم لبارئه فلم يرض إلا ما رضي له ولم يرد إلا ما أريد به ولا اختار إلا ما حكم فيه ان أبقاه في هذه الدار أبقاه وان أخذه إليه أخذه
قال أحمد بن أبي الحواري قال أبو سليمان الداراني
الناس رجلان رجل أحب الله تعالى فأحب الموت شوقا إلى لقاء الله ورجل أحب البقاء لإقامة حق الله تعالى
قال فوثب إليه غلام لم يحتلم فقال ورجل ثالث أو قال ورجل آخر فقال أبو سليمان ومن هو يا بني قال من لم يختر هذا ولا هذا اختار ما اختار الله عز و جل له فقال أبو سليمان احتفظوا بالغلام فانه صديق
واجتمع يوما وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط رحمهم الله تعالى فقال الثوري كنت أكره موت الفجأة ووددت اليوم أني مت فقال له يوسف بن أسباط لم قال لما أتخوف من الفتنة في الدين فقال يوسف لكني أحب الحياة وطول البقاء فقال له سفيان لم قال لعلي أن أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا

فقيل لوهيب أي شيء تقول أنت فقال أنا لا أختار شيئا أحب ذلك الي أحبه إلى الله عز و جل فقبل الثوري بين عينيه وقال روحانية ورب الكعبة
وقال علي بن جهضم عن علي بن عثمان بن سهل دخلت على عمرو بن عثمان وهو في علته التي توفي فيها فقلت له كيف تجدك
فقال أجد سري واقفا مثل الماء لا يختار النقلة ولا المقام
يعني مثل الماء في الإناء أو القرار من الأرض يقول لا يختار الحياة ولا الموت وقال القائل في هذا المعنى المعنى
( كل ما يفعل الحبيب حبيب ... والذي شاء بي فشيء عجيب )
( إن سكون أراد بي فسكون ... أو وحيب اراد بي فوجيب )
( وإذا ما أراد موتي فموتي ... أو حياتي لكل ذاك أجيب )
( كل ما كان من قضاء فيحلو ... بفؤادي نزوله ويطيب )
فهذا إذا مات لا يسأل عن حاله ولا يقال ما فعل به
ومنهم من يتمنى الموت ويشتهيه ويسأله ربه تعالى ويرغب إليه فيه وقد علم أن وراءه يوما ثقيلا وحبسا طويلا ومقاما يقوم فيه ذليلا لكن لما رأى نفسه منصوبا للمحن معرضا للفتن مرتهنا بما هو به مرتهن وأبصر تفريطه في الزاد ليوم المعاد وفي الاستعداد ليوم الإشهاد وخاف أن يقتطع عن سبيل المؤمنين ويختلج عن طريق المسلمين تمنى الموت لينجو من هذا الخطر ويسلم من هذا الغرر وأن يقدم على الله عز و جل بالإيمان كائنا منه بعد ذلك ما كان وهذا إن شاء الله إذا مات خرجت له البشرى بالأمان وأن يحتل في جوار الرحمن حيث شاء من دار الكرامة والرضوان
واعلم أن هذا لا يدخل تحت قوله عليه السلام لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإنه عليه السلام إنما أراد الضرر الدنيوي الذي ينزل بالإنسان من محن الدنيا في النفس والأهل والمال وهذا إنما تمناه مخافة أن ينزل به الضرر الأخروي وأن يقتطع بالمعاصي عن الله وأن يصد بالفتن عن سبيل الله

وبالجملة فالموت طريق نجاة يركبها المؤمنون ومورد سلامة يردها المسلمون لقوا فيه ما لقوا وسقوا منه ما سقوا كل ذلك يهون لما يفضي بهم إليه من السعادة الأبدية والحياة السرمدية
نسأل الله جميل الخاتمة وحسن العاقبة ومردا غير مخز ولا فاضح برحمته لا رب سواه
والأحاديث التي وردت في النهي عن تمني الموت صحيحة مشهورة ذكر مسلم بن الحجاج رحمه الله من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا
وذكر البخاري من حديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد وإما مسيئا فلعله أن يستعتب
وذكر أبو بكر البزار من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة
وسأذكر لك إن شاء الله جملة كافية مما ورد في الموت ومما يعين على ذكره والفكرة فيه وذكر الصالحين له وكلامهم عند نزوله مع كلام غيرهم من

المغترين والجهلة المخدوعين وما وراءه من السؤال والحساب والثواب والعقاب والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ولعلك تظن بقولي هذا وبالجملة فالموت طريق نجاة يركبها المؤمنون الكلام إلى آخره إني إنما أردت بذلك تهوين الموت وتسهيل كربه وتحقير خطبه والازدراء بشأنه وقلة المبالاة به كلا ومن كتبه على البشر وجعله عبرة من العبر وإحدى آياته الكبر ما قلت ذلك لهذا وإنما قلته للحالة التي يؤول المؤمنون إليها ويقيمون عليها ويكرمون بها ويخلدون فيها فذلك يهون الموت وما هو أعظم من الموت بل الإقامة في سكراته وتجرع مراراته آلافا من السنين وأضعاف ما تعده مئين
وإلا فالموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع وإنه الحادث الهادم للذات والأقطع للراحات والأجلب للكريهات
وإن أمرا يقطع أوصالك ويفرق أعضاءك ويفتت أعضادك ويهد أركانك لهو الأمر العظيم والخطب الجسيم وإن يومه لهو اليوم العقيم
وما ظنك رحمك الله بنازل ينزل بك فيذهب رونقك وبهاءك ويغير منظرك ورواءك ويمحو صورة جمالك ويمنع من اجتماعك واتصالك ويردك بعد النعمة والنضرة والسطوة والقدرة والنخوة والعزة إلى حالة يبادر فيها أحب الناس لك وأرحمهم بك وأعطفهم عليك فيقذفك في حفرة من الأرض قريبة أنحاؤها مظلمة أرجاؤها محكم عليك حجرها وصيدانها متحكم فيك هوامها وديدانها
ثم بعد ذلك يتمكن منك الإعدام وتختلط بالرغام وتصير ترابا تطؤه الأقدام

وربما ضرب منك إناء فخار أو أحكم منك بناء جدار أو طلي منك محبس ماء أو موقد نار كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتى بإناء ماء ليشرب منه فأخذه بيده ونظر إليه وقال كم فيك من عين كحيل وخد أسيل
وكان بقرطبة امرأة صالحة مذكورة بالخير معروفة اسمها عزيزة بنت القلفيطي وكانت لها رؤيا صادقة فرأت فيما يرى النائم كأنها خارجة على باب الضاغط بقرطبة عن يسار الخارج بنيانا من أعضاء بني آدم وشعورهم ولهم صياح وضجيج ورجل طويل واقف وعليه ثياب خضرة نيرة ويداه على عينيه وهو يقول عيناي يا قوم في الحائط فأخبرت بهذا الرؤيا أبا بكر بن مؤمن رحمه الله تعالى فخرج إلى الموضع فوجد فيه مسجدا ودورا قد بنيت في طرف مقبرة كانت هنالك تعرف بمقبرة عباس
وبنيت تلك الدور والمسجد لمصلحة رأى الجيران في ذلك
ذلك حدثني بهذه الحكاية صاحبنا الوجيه أبو الحسن بن أبي بكر بن مؤمن عن أبيه وعن المرأة أيضا وقد سمعت أيضا الحكاية قبل هذا من أبي الحسن بن كامل الصوفي ومن غيره من أصحابه
ويحكى أن رجلين تنازعا وتخاصما في أرض فانطق الله عز و جل لبنة في حائط من تلك الأرض فقالت يا هذان إني كنت ملكا من الملوك ملكت كذا وكذا سنة ثم مت وصرت ترابا فبقيت كذلك ألف سنة ثم أخذني خزاف يعني فخارا فعمل مني إناءا فاستعملت حتى تكسرت ثم عدت ترابا فبقيت ألف سنة ثم أخذني رجل فضرب مني لبنة فجعلني في هذا الحائط ففيم تنازعكما وفيم تخاصمكما
وهذا التغيير إنما يحل بجسدك وينزل ببدنك لا بروحك لأن الروح لها حكم آخر وما مضى منك فغير مضاع وتفرقه لا يمنعه من الاجتماع

قال الله تعالى ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ )
والحكايات في هذا الباب أكثر من هذا والكلام فيه متسع
وقد دونت في الموت الأخبار وصيغت فيه الأشعار وضربت بشدته الأمثال وكثر فيه القيل والقال وعملت بسببه أعمال وأعمال قال بعضهم
( قالوا صف الموت يا هذا وشدته ... فقلت وامتد مني عندها الصوت )
( يكفيكم منه أن الناس إن عجزوا ... عن وصف ضربهم قالوا هو الموت )
وقد أمر عليه الصلاة و السلام بذكر الموت وأعاد القول فيه تهويلا لأمره وتعظيما لشأنه
ذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثروا ذكر هادم اللذات الموت
وهذا كلام مختصر وجيز وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ومنعه من تمنيها في المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل
ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ وإلا ففيما ذكر من قوله عليه الصلاة و السلام أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت ما يكفي السامع له ويشغل الناظر فيه
ويروى عن عطاء الخراساني أنه قال
مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بمجلس قد ارتفع فيه الضحك فقال شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات قالوا وما مكدر اللذات قال الموت
وخرج يوما عليه الصلاة و السلام إلى المسجد فإذا قوم يتحدثون ويضحكون فقال اذكروا الموت أما والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا

وعن ابن عمر قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشر عشرة فقال رجل من الأنصار يا رسول الله من أكيس الناس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا قبل أن ينزل به أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرم الآخرة
وقال عليه الصلاة و السلام أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد
ويروى عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال تركت فيكم واعظين ناطقا وصامتا فالناطق القرآن والصامت الموت
ويروى أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به
وهذه الأحاديث رويتها من طريق أبي بكر البزار والقاضي أبي الحسن بن صخر وأبي علي الغساني وغيرهم
وقال أبو الدرداء من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده
وقال بعض أصحاب الحسن كنا ندخل على الحسن فما هو إلا النار والقيامة والآخرة وذكر الموت
وكان ابن سيرين إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه على حدته وقال التيمي رحمه الله شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا ذكر الموت وذكر الوقوف بين يدي الله عز و جل
وقال مطرف بن عبد الله رأيت في ما يرى النائم كأن قائلا يقول في وسط جامع البصرة قطع ذكر الموت قلوب الخائفين فوالله ما تراهم إلا والهين محزونين
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لو فارق ذكر الموت قلبي ساع ة لفسد

وقال لعتبة أكثر ذكر الموت فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه ويحك يا يزيد من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت من ذا الذي يرضي عنك ربك بعد الموت
ثم يقول أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ويا من الموت موعده والقبر بيته والثرى فراشه والدود أنيسه وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله ثم يبكي حتى يسقط مغشيا عليه
ويروى أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر عنده الموت والقيامة يقطر جسده دما
وعن داود عليه السلام أنه كان إذا ذكر عنده الموت والقيامة بكى حتى تنخلع أوصاله فإذا ذكرت الرحمة رجعت
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يجمع الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة
وأنشد بعضهم
( يا باكيا من خيفة الموت ... أصبت فارفع من مدى الصوت )
( وناد يا لهفي على فسحة ... في العمر فاتت أيما فوت )
( ضيعتها ظالم نفسي ولم ... أصغ إلى موت ولا ميت )
( يا ليتها عادت وهيهات أن ... يعود ما قد فات يا ليت )
( فخل عن هذي الأماني ودع ... خوضك في هات وفي هيت )
( وبادر الأمر فما غائب ... أسرع إتيانا من الموت )
( كم شائد بيتا ليغنى به ... مات ولم يفرغ من البيت )
وأعلم أن كثرة الموت تردع عن المعاصي وتلين القلب القاسي وتذهب الفرح بالدنيا وتهون المصائب فيها وإن من لم يخفه في هذه الدار ربما تمناه في

الآخرة فلا يؤتاه وسأل فيه ولا يعطاه
وكتب رجل إلى بعض إخوانه
يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دار تتمنى الموت فيها فلا يوجد ويطلب فيها فلا يدرك
ويروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة في قلبها فقالت لها اكثري من ذكر الموت يرق قلبك ففعلت فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة
وقال الحسن فضح الدنيا والله هذا الموت فلم يترك فيها لذي لب فرحا
وقال ما رأيت عاقلا قط إلا وجدته حذرا من الموت حزينا من أجله
وقال كعب الأحبار من ذكر الموت هانت عليه المصائب
وقال حامد اللفاف ويح ابن أدم إن أمامه ثلاثة أشياء موت كريه المذاق ونار أليمة العذاب وجنة عظيمة الثواب
وأعلم أن الموت لن يمنعه منك مانع ولا يدفعه عنك دافع وإن فيه لزجرا للبيب وشغلا للأريب ومنبهة للنائم وتنشيطا للمستيقظ وانه للطالب المدرك والمتبع اللاحق والمغير الذي يبعث الطليعة ويعجل الرجعة ويسبق النذير العريان لا يرده الباب الشديد ولا البرج المشيد ولا اللجب العرمرم ولا البلد البعيد
وروى خيثمة عن سليمان بن مهران الأعمش قال وحدث به غيره أيضا إن رجلا كان جالسا مع نبي الله سليمان عليه السلام فدخل عليه داخل فجعل ينظر إلى الرجل الجالس مع سليمان ويديم النظر إليه فلما خرج قال له الرجل يا نبي الله من هذا الرجل الداخل عليك
قال ملك الموت قال يا نبي الله لقد رأيته يديم النظر إلي ويشخص في وإني لأظنه يريدني قال فما تريد قال يا نبي الله أريد أن تأمر الريح فتأخذني فتلقيني في أبعد جزائر البحر فإنه قد أطاش عقلي وأذهب لبي ونقض كل عضو

في بدني
فأوحى الله تعالى إلي سليمان أو ألقى في نفسه أن يفعل ذلك فأمر الريح فأخذته فألقته حيث أراد فما استقر بالأرض حتى نزل عليه ملك الموت فقبض روحه ثم رجع إلى سليمان فقال له سليمان رأيتك تديم النظر إلى جليسي قال نعم كنت أتعجب منه لأني أمرت بقبض روحه في أبعد بلاد الهند في ساعة قريبة من الوقت الذي كان عندك فما هو إلا أن خرجت قيل لي انزل عليه فإنه بها فنزلت عليه فوجدته بها فقبضت روحه وأنشد بعضهم
( ما أنت والرشأ الأحوى تغازله ... والركب تسأل عنه بانة الواد )
( وقد أظلك جيش للردى لجب ... كالبحر يوصل أمدادا بأمداد )
( من كل داهية لو أنها مثلت ... شخصا لأظلم منها كل وقاد )
( لا يمنع المرء منها رأس شاهقة ... ولا يرد شباها نسج زراد )
( وأنت غاد على ظهر الطريق وما ... لديك من ناصر يرجى ولا فاد )
( كأنني بك مصروعا لوطأته ... هذا أو أن مغار الفارس العاد )
( قم قد أتيت ولا منجي ولا وزر ... للويل أصبحت من ركض وإنشاد )
( صح بالندى وبالقصر المشيد عسى ... هيهات هيهات كان القصر والناد )
( يا راقدا وعيون الموت ساهرة ... لقد أعرت لأمر غير رقاد )
وأعلم أن في النظر إلى الميت ومشاهدة حاله وسكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الأجفان من النوم والأبدان من الراحة ويبعث على العمل ويزيد في الاجتهاد والتعب
يروى أن الحسن البصري رحمه الله دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه وعلته وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له الطعام يرحمك الله أتأكل فقال

يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه
وقال بعض العلماء أي عيش يطيب وليس للموت طبيب
وقال بعد الزهاد لنا من كل ميت عظة بحاله وعبرة بماله
وقال ابن مسعود كفى بالموت واعظا وباليقين غنى وبالعبادة شغلا
واعلم أن الموت وإن كان هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى فأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وقلة التفكر فيه وترك العمل له وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر
وفي خبر مروي عن النبي صلى الله عليه و سلم لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا
ويروى أن رجلا من الأغنياء نزل به داء في وجهه فعجز أطباء بلاده عن معالجته ولم يجدوا سبيلا إلى شفائه فخرج يضرب في الأرض ويخترق البلاد ويطلب علاجا لدائه وفرجا لبلائه فدل على طبيب حاذق ببلاد الهند فقطع إليها المفاوز البعيدة وركب إليه البحار الخطرة واللجج الهائلة حتى وصل إليه بعدما كاد أن يهلك فدخل عليه فوجد رجلا ملقى على فراشه جلده على عظم فسلم عليه فأحسن الرد وأظهر البشر وسأله عن حاله ومن أي البلاد هو وما الذي جاء به فأخبره خبره وأنه إنما جاء يلتمس معالجة دائه فقال له كم معك من المال وما جئت به من البضاعة فأخبره فقال له أخذ منك نصف ما معك وأعالجك حتى تستريح فأجابه إلى ذلك ودفع إليه نصف ما عنده فعالجه ولاطفه حتى ذهب عنه الألم وجميع ما كان بوجهه ولم يبق به شيء إلا أن موضع الداء بقي أسود دون ألم يجده فيه فقال له لقد بريء داؤك وذهبت علتك وقد استوجبت ما أخذته منك فقال له أيها الفاضل أو ما ترى الموضع قد بقي أسود مخالفا لونه لوني وكيف يكون هذا البرء وكيف تكون هذه الصحة وكيف تستوجب ما أخذته مني

فقال له لم أشارطك على نقاء اللون وبياض البشرة وإنما شارطتك على ذهاب الألم وحسم الداء ولست أنظر لك فيما تريده من إزالة هذا السواد إلا بأن تدفع إلي النصف الثاني من مالك
فقال له أيها الفاضل أنا رجل غريب بعيد الدار ناء عن الأهل وإذا دفعت لك النصف الثاني بقيت منقطعا بي عن أهلي ووطني فقيرا بأرض غربة عالة على من لا يعرفني
فقال له لا بد لك من أن تعطيني ما قلت لك وإلا لم أنظر لك في شيء مما تريد
فلما رأى الرجل أنه لا يجيبه إلى معالجته والنظر في أمره حتى يعطيه ما سأل أجابه إلى ما أراد ودفع إليه النصف الثاني فعالجه حتى ذهب عنه سواده
فلما بريء قال له أبقي لك شيء فقال لا قال فاستوجبت ما أخذته منك قال نعم
فقال له يا هذا إني لم آخذ مالك رغبة فيه ولا لأستأثر به دونك ولكن أردت أن أدري مقدار نفسك عندك وأيهما أحب إليك المال أم هي فقد رأيت وهذا مالك كله مردود عليك لا والله لا آخذ منه درهما واحدا فرده عليه ثم قال له ما نحلتكم التي تنتحلون وما شريعتكم التي بها تتشرعون فقال له نحن مسلمون فقال وما مسلمون فقال نحن أمة محمد صلى الله عليه و سلم قال وما محمد قال رجل من العرب ثم من قريش بعثه الله تعالى إلينا رسولا واختاره صفيا أمينا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وذكر لنا أن بين أيدينا يوما يبعث فيه الأموات ويجازي فيه بالسيئات والحسنات
فقال له وكيف انتم في اتباعه قال إنا لنسلك في غير هديه ونترك كثيرا من أمره
قال والله يا هذا ما أقول بما تقولون وما ردني كما ترى جلدة على عظم إلا الفكرة في الموت خاصة وفيما هو فكيف لو قلت بما تقولون مما بعد الموت من

الحساب والعقاب والجزاء والثواب ما رأيت أقل عقولا منكم
ثم دفع إليه ماله وانصرف
حدثني بهذه الحكاية أبو عمرو الشريف رحمه الله تعالى
وهذا الكلام الأخير منها في ذكر الموت وغيره شككت هل ذكره في الحكاية أم لا ولكني قد سمعته من غيره
ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول
ما لك لا تقوم مالك لا تنبعث هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة ما شأنك ما الذي كان يحملك ما الذي كان يبعثك ما الذي صرعك ما الذي عن الحركة منعك ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه متعجبا من أمره
وأنشدوا في هذا المعنى
( ومجرر خطية يوم الوغى ... منسابة من خلفه كالأرقم )
( تتضاءل الأبطال ساعة ذكره ... وتبيت منه في إباءة ضيغم )
( شرس المقادة لا يزال ربيئة ... فمتى يحس بنار حرب يقدم )
( تقع الفريسة منه في فوهاء إن ... يطرح بها صم الحجارة يحطم )
( ظمآن للدم لا يقوم بريه ... إلا المروق في الجسوم من الدم )
( جاءته من قبل المنون إشارة ... فهوى صريعا لليدين وللفم )
( ورمى بمحكم درعه وبرمحه ... وامتد ملقى كالفنيق الأعظم )
( لا يستجيب لصارخ إن يدعه ... أبدا ولا يرجى لخطب معظم )
( ذهبت بسالته ومر غرامه ... لما رأى خيل المنية ترتم )
( يا ويحه من فارس ما باله ... ذهبت فروسته ولما يكلم )

( هذي يداه وهذه أعضاؤه ... ما منه من عضو غدا بمثلم )
( هيهات ما خيل الردى محتاجة ... للمشرفي ولا السنان اللهذم )
( هي ويحكم أمر الإله وحكمه ... والله يقضي بالقضاء المحكم )
( يا حسرة لو كان يقدر قدرها ... ومصيبة عظمت ولما تعظم )
( خبر علمنا كلنا بمكانه ... وكأننا في حالنا لم نعلم )
فكيف إذا أضاف إلى الفكرة في الموت الفكرة فيما بعد الموت وفي حال الميت ومآله وما يجازي به من أقوال وأفعال وفي أي متجرفاته وأي بضاعة فرط فيها وأي علق نفيس من العمر ضيعه
هنالك تطيش الألباب وتذهل العقول وتخرس الألسن وتنبذ الدنيا بالعراء وتطرح بجميع ما فيها بالوراء
وقال ابن السماك رحمه الله تعالى إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوت فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها ودخلوا دارا لم يتزودوا لها فأية ساعة مرت على من مضى وأية ساعة بقيت علينا والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان ويهجر الخلان ويدع ما عز وما هان
ويروى أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان كلما ولد له ولد فبلغ مبلغ الرجال وعقل ما يعقله الرجال لبس مسوحه وتعلق برؤوس الجبال وسلك بطون الأودية يعبد الله عز و جل فلم يزل ذلك دأبه حتى ولد له ولد فشب إلى أن ولد له ولد فجمع رجاله وخاصته وقال تعلمون ما كان من أمر بني وأنه ليس منهم واحد بقي معي ولا التفت إلي وإنه ليس يصلح لكم ولا يستقيم أمركم إلا بأن يليكم واحد من ولدي وإني أخاف إن لم يكن ذلك أن تهلكوا أبهلاكي فخذوا ولدي هذا فربوه وقوموا بأمره فإذا شب وعقل فزينوا له الدنيا وعظموا قدرها عنده
ثم أمر فبني له قصر عظيم فرسخا في فرسخ وجمع له المراضع وأكثر له من الحواضن ووكل به رجالا من عقلاء أصحابه ووجوه دولته
وأمر إذا فهم وعقل أن لا يخرج من ذلك القصر ولا يذكر عنده الموت ولا يبصر ميتا في موضع يكون فيه مخافة أن يسمع بالموت أو يرى ميتا فيسأل عنه

فيفسر له فتتنغص عليه لذته وتتكدر عليه حياته ويزهد في الملك ويسلك مسلك إخوته ويلحق بهم ويحذو حذوهم
فبقي الغلام على ذلك لا يذكرون عنده موتا ولا يسمعونه حديث ميت ولا يطلعونه عليه ولا يذكر عنده إلا الدنيا وتعظيمها والفرح بها والإقبال عليها وتعظيم آبائه الملوك وأجداده العظماء والترغيب في الاقتداء بهم والمشي على طريقهم والاستنان بسنتهم
إلى ان شب الغلام وعقل ما يعقله الناس فمشى ذات يوم في ذلك القصر وطاف في أرجائه وقد أحدق به خاصته والموكلون به فانتهى إلى سور القصر فقال ما وراء هذا السور وما خلف هذا الحائط فقالوا له وراءه الأرض الواسعة والبلاد الكثيرة والجم الغفير من الناس وكل ذلك لك وللملك أبيك فقال أخرجوني حتى أنظر وأرى فأبوا حتى يشاوروا أباه فشاوروه وأخبروه بأنه يريد أن يخرج ويرى الناس وظنوا أنه يحكمهم
فأذن لهم فأخرجوه فرأي ونظر فأول ما وقع بصره من الناس على شيخ كبير قد سال لعابه من فيه وسقط حاجباه على عينيه من الكبر
فقال ما هذا فقالوا شيخ كبير فقال وما شيخ كبير قالوا كان شابا فعمر وعاش حتى أصابه الهرم فعمل به ما ترى قال وما الهرم قالوا الكبر وطول العمر يعيش إلى أن تقل طاقته وتضعف حركته حتى لا يقدر أن يمسك لعابه في فيه مع علل أخر تعتريه من طول الحياة
قال أو يصيبكم هذا أو هو شيء يصيب قوما دون قوم قالوا هو ليس مختصا بأحد دون أحد بل يصيب كل من طال عمره قال ويصيبني أنا مع ما أنا فيه من النعيم وضروب اللذات وبلوغ الشهوات قالوا نعم ويصيبك أنت إن طالت بك الحياة فقال أف لعيش يكون آخره هذا
ثم رجع إلى قصره وقد تكدر عليه بعض نعيمه وتنغص عليه بعض ما كان فيه فعالجوه بكل لهو وكل باطل حتى استخرجوا من قلبه ما كان وقع فيه من أمر الهرم والكبر

فأقام عاما ثم أمرهم أن يخرجوه ثانية فأبوا عليه وخافوا من أبيه ثم إنه عزم عليهم فأخرجوه فأول من رأى من الناس شاب به جذام أو غيره من الأدواء فقال ما هذا ومم يكون فقالوا هذا فساد في المزاج وتحريك في الأخلاط فيتولد عنه هذا وغيره قال أهذا وحده أصحابه أم كلكم يخاف أن يصيبه هذا الداء قالوا ما عند أحد أمان كل أحد خائف من هذا الداء ومن غيره فإن الدنيا دار أمراض وأسقام ورزايا وبلايا
قال وأنا أخاف قالوا وأنت قد أخبرناك أنه ليس لأحد أمان على نفسه قال فأصابه من الغم أكثر مما أصابه في المرة الأولى فرجع ورجعوا ولم يزالوا يشغلونه بضروب المحاب وأصناف الملاذ حتى أخرجوا من قلبه ما كان وقع فيه أو كادوا
وأقام كذلك حولا ثم قال أخرجوني فأخرجوه فنظر فإذا برجل ميت يحمل قال ما هذا قالوا ميت قال وما ميت قالوا رجل مثلنا نزل به قضاء إلهي وحادث سماوي فأطفأ شرارته أحمد حرارته ورده حجرا من الحجارة وجمادا من الجمادات فقال علي به حتى أراه فجاءوا به وكشف له عنه
فقال كلموه فقالوا إنه لا يتكلم
فقال أجلسوه فقالوا إنه لا يجلس
فجعل ينظر إليه ويتفكر فيه ثم قال وهذا وحده خص بهذا الحادث أو انتم كلكم ينزل بكم مثل ما نزل بهذا
قالوا كلنا فيه سواء وكلنا ينزل به هذا الحادث قال وأنا قالوا وأنت وقد أخبرناك قال لا يدفع عني أبي قالوا ولا يدفع عنك أبوك ولا يدفع عن نفسه فقال إن نعيما يصير أخره إلى هذا لجدير أن يتكدر وإن قلبا يخطر به ذكر هذا لحقيق أن يتفطر
قال وما تصنعون به قالوا نحفر له حفرة في الأرض ونرد عليه التراب إلى يوم النشور والعرض قال وما النشور والعرض قالوا هو يوم يعبث فيه الأموات وتظهر فيه المحبآت ويكون ويكون
قال ولا بد منه قالوا لا بد منه فقال وهذه أشد

فعمل الكلام في نفسه عمله وأخذ الكلام في قلبه مأخذه فتغير وجهه وضعف جسمه وشحب لونه وأقصر عما كان فيه من تلك الراحات وتلك البطالات
فأخبر أبوه بخبره ووصف له حديثه فقال أو قد فعلها قالوا نعم فداراه أبوه بكل شيء فلم ينفع فيه شيء وهون عليه الأمر فلم يهن وسلاه فلم يتسل فقال له أبوه لا جرم والله لأدعنك تلحق بإخوتك فبعث إليه ثيابه من المسوح فلبسها وخرج في جوف الليل فتعلق بالجبال ولحق بإخوته فتعبد معهم وكان يقول في مناجاته اللهم إني أسألك أمرا ليس إلي قد سبقت به المقادير لوددت أني كنت الطير في الهواء أو السمك في الماء ولم أك شيئا مذكورا مخافة الحساب والعقاب
واعلم رحمك الله أن كثرة الاشتغال بالدنيا وإفراغ المجهود فيها والميل بالكلبة إليها وحلاوة أحاديثها ولذة أمانيها تمنع حرارة ذكر الموت أن ترد على القلب وأن تلج فيه لأن القلب إذا امتلأ بشيء لم يكن لشيء آخر فيه مدخل ولا لسواه فيه مجال ألا ترى أن الإناء إذا ملأته بشيء لم يمكنك أن تدخل عليه شيئا أخر ووجهك إذا صرفته إلى موضع صرفته عن موضع آخر ومتى دام القلب على هذا لم يكن لذكر الموت فيه تأثير ولا لترداده عليه حلاوة وكيف يؤثر فيه وهو لا يجد مكانا ينزل فيه ولا موضعا يتعلق به قد ملأه حب الشهوات الفانية واللذات المنصرمة فهو شبعان ريان حيران سكران أصم أعمى إن عرض عليه طريق هدى لم يره أو نودي باجتناب رديء لم يسمع
فإذا اراد صاحب هذا القلب سماع الحكمة والانتفاع بالموعظة لم يكن له بد من تفريغه ليجد التذكر فيه منزلا وتلقى الموعظ فيه محلا قابلا فلا يزال يتهاهد ويتفقده بالأذكار والأفكار والنظر والاعتبار آناء الليل وأطراف النهار لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الرين ويعود إلى حالته الأولى من

الغين
وإن لم يقدر على تفريغه بمرة فرغ منه ما أمكن وجعل مكان ما أزاله ضده فيجعل مكان الغفلة ذكرا وكان الفرح حزنا ومكان الاغتباط ندما ومكان السهو تيقظا ولا يزال هكذا يزيل شيئا ويجعل مكانه ضده ويستعين بجعل هذا على إزالة هذا وبإزالة هذا على جعل هذا وبالله تعالى يستعان على كل ما يحاول وبمنه وتيسيره سبحانه يتناول كل ما يتناول لا رب غيره ولا معبود سواه
واعلم رحمك الله أن مما يعينك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغالك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك واقرانك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك ويأملون أملك ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقلعت أعراقهم وقصمت أصلابهم وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جمعاء قلت بلى يا رسول الله قال فأخذ بيدي وأتي بي واديا من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس وعظام وخرق بالية وعذرات فقال يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام لا جلد عليها ثم هي صائرة رمادا وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها من بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم فأصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا

رويت هذا الحديث من طريق أسد بن موسى
ويتذكر أيضا ما كانوا عليه من حدة الجلباب , ونضرة الإهاب وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في ظلال النعيم يتقلبون وعلى أسرة السرور يتكئون وبما شاءوا من محابهم يتنعمون وفي أمانيهم يقومون ويقعدون لا يتحدثون بزوال ولا يهمون بانتقال ولا يخطر الموت لهم ببال
قد خدعتهم الدنيا بزخرفها وخلبتهم برونقها وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة ووعدتهم بمواعيدها المخلفة لم تزل تقرب لهم بعيدها وترفع لهم مشيدها وتلبسهم غضها وجديدها حتى إذا تمكنت منهم علائقها وتحكمت فيهم رواشقها وتكشفت لهم حقائقها ورمقتهم من المنية روامقها فوثبت عليهم وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق وقتلتهم قتلة المختنق
فكم عليهم من عيون باكية ودموع جارية وخدود دامية وقلوب من الفرح والسرور لفقدهم خالية
وانشدوا في هذا المعنى
( وريان من ماء الشباب إذا مشى ... يميل على حكم الصبا ويميد )
( تعلق من دنياه إذ عرضت له ... خلوبا ألباء الرجال تصيد )
( فأصبح منها في حصيد وقائم ... وللمرء منها قائم حصيد )
( خلا بالأماني واستطاب حديثها ... فينقص من أطماعه ويزيد )
( وأدنت له أشياء وهي بعيدة ... وتفعل تدني الشيء وهو بعيد )
( أتيحت له من جانب الموت رمية ... فراح بها المغرر وهو حصيد )
( وصار هشيما بعد أن كان يانعا ... وعاد حديثا يقضي ويبيد )
( كان لم ينل يوما من الدهر لذة ... ولا طلعت فيه عليه سعود )
( ليبكي عليه زهوه وشبابه ... وتدمي جفون إثره وخدود )

( تبارك من يجري على الخلق حكمه ... فليس لشيء منه عنه محيد )
يا لله مصرعهم كم فيهم من مجرر ذيل إعجابه متطاول على أصحابه متعاظم على أقرانه وأترابه تجمع له الأماني وترتاح إلى وصله الغواني إن بصر لا يستبصر وإن أمر لا يأتمر وإن زجر لا يكف ولا ينزجر لا يسمع إلا داعي الهوى ولا يستجيب إلا لمن إليه دعا يلهو ويفرح ويمزح ويمرح ويبيت من دنياه مثل ما كان أصبح قد أبدأ في أمره وأعاد وأحكم غيه فأجاد وأشاد من أمله ما أشاد حتى إذا نال مراده أو كاد صاحت به المنية صيحة الغضبان وصدمته صدمة اللهفان فهدت أركانه وكسرت أعضانه وفرقت أنصاره وأعوانه فأصبح قد باع النفيس بالدون وأعطى الثمين بالمثمون ومضى يعض بنانه المغبون لم يرح بنائل ولا حصل على طائل فنعوذ بالله من سوء الأقدار وسيء الاختيار
وأنشدوا
( جر ذيل التيه والغي ... وقال من مثلي في الحي )
( ومر يرتاح إلى وصله ... ما شاء من زينب أو مي )
( لا ينثني عن خوف شيء ولا ... يسمع إلا داعي الغي )
( وبات من دنياه في مثل ما ... أصبح من نشر ومن طي )
( حتى إذا ما نال أو كاد أن ... ينال منها جرعة الري )
( صيح به في سربه صيحة ... ضعضع منه كل ما شي )
( و إنفذ الأمر على رغمه ... وأنجز الوعد بلا لي )
( ولم يرح من ذاك إلا بما ... راح الذي يقبض في الفي )
( تبارك الله وسبحانه ... ما أقرب الموت من الحي ) ويا لله كم هنالك من ملك طوةيل النجاد رفيع العماد عظيم الأجناد كثير

الأمداد قد ملك البلاد وقهر العباد ووصل من دنياه إلى كثير مما أراد قعد ونهض وأبرم ونقض وجعل أمره المفترض وحكمه الذي لا يرد ولا ينقض وطالما حرق وهدم وكسر وحطم وزلزل ودمدم واسترحم فلم يرحم ومضى على ما شاء من رأيه وصمم
بنى المدائن والحصون وأكثر من ماله المخزون واستعد لما قد يكون أو لا يكون حتى إذا استحكمت له الأمور وأطال الفرح والسرور وزخرف الدساكر والقصور وظن أن قد ساعده فيما بقي من أمله المقدور قلبت له الدنيا ظهر المجن وكسته من خطبها ما أجن وسقته من كربها ما يسكر به ويجن نظرت بعينها الشوساء إليه وقبضت ما كان في يديه وأتت بنيانه من قواعده فألقته عليه فأصبح وقد هدم ذلك البنيان وسقط ذلك الإيوان وتبددت تلك المقاتلة والفرسان وتفرقوا شذر مذر بكل مكان وأصبح كل ما كان كأنه ما كان وقيل ملك في سالف الزمان ملك يقال له فلان بن فلان لم يحصل مما ملك من البلاد ولا ما ادخر من المال وأعد من العتاد إلا على حنوط وكفن وحفرة ضيقة العطن يحتبس فيها ويرتهن بكل ما عمل من قبيح أو حسن
وأنشدوا
( يا باني القصر الكبير ... بين الدساكر والقصور )
( ومجرد الجيش الذي ... ملأ البسيطة والصدور )
( ومدوخ الأرض التي ... أعيت على مر الدهور )
( أما فزعت فلا تدع ... بنيان قبرك في القبور )
( وانظر إليه تراه كيـ ... ف إليك معترضا يشير )
( واذكر رقادك وسطه ... تحت الجنادل والصخور )
( قد بددت تلك الجيو ... ش وغيرت تلك الأمور )
( واعتضت من لين الحريـ ... ر خشونة الحجر الكبير الأمور )
( وتركت مرتهنا به ... لا مال ويك ولا عشير )

( حيران تعلن بالأسى ... لهفان تدعو بالثبور )
( ودعيت باسمك بعدما ... قد كنت تدعى بالأمير )
( ولأنت أهون فيه من ... جعل على نتن يدور )
( إن لم يجد بالعفو من ... يعفو عن الذنب الكبير )
( هذا هو الحق اليقيـ ... ن وكل ذاك هو الغرور )
وأنشدوا أيضا
( أباد ذا الدهر أملاكا وما ملكوا ... ودار مستعقبا عليهم الفلك )
( أدار دورته في أرضهم فغدت ... كالراح ليس بها لناظر نبك )
( رمى بهم حيث لا قيعان تمسكهم ... ولا مرارا بها المرمي يمتسك )
( هوت هوي ثقيل الصخر أمهم ... فلا حسيس ولا ركز ولا حرك )
( غدت رؤوسهم من تحت أرجلهم ... وزلزلت بهم الأطباق والدرك )
( يا بطشة من حكيم ما بها مهل ... وغضبة من عزيز ما لها درك )
( جروا إلى اللهو ملأى من أعنتهم ... حتى إذا ما رأوا خيل الردى بركوا )
( حطوا بدار البلى في منزل حرج ... وليتهم ويحهم فيهن لو تركوا )
( لطال ما نقضوا ملكا وما هدموا ... عزا وما هتكوا سترا وما فتكوا )
( مروا وما بلغوا كل الذي طلبوا ... ولا قضوا وطرا من كل ما تركوا )
( أضحاهم اليوم صرف الدهر إذ هلكوا ... كما أضلهم بالأمس إذ ملكوا )
وانشدوا أيضا
( أفاض على الملك سرياله ... وجرر في العز أذياله )
( وصاح فوافاه ما شاء من ... هزبر يعلل أشباله )
( وزلزلت الأرض من أجله ... وقال فكان الذي قاله )

( ولا بد يوما له أن يصيح ... ويبدي شجاه و أعواله )
( ولا أحد مستجيب له ... ولا أحد كاشف حاله )
( وتأتيه في سربه روعة ... تقطع بالموت أوصاله )
( ويطرح فرد بدار البلى ... ويترك فيها وأعماله )
( فكم قائل عنه لا يبعدن ... وكم قائل فيه أولى له )
( فقل للذي شاد سلطانه ... وطول ما شاء آماله )
( تأهب لتصدع صدع الزجاج ... وتلحق هذا وأمثاله )
( وتحمل مما جمعت الأجاج ... ونترك للناس سلساله )
( وإن ما نسيت فلا تنسين ... ن يوم الحساب وأهواله )
( هنالك تعلم عقبى الذنوب
وشؤم الخلاف وأنكاله )
يا بؤس الدنيا شدما عن ثديها فطمتهم ومن سمها أطعمتهم وبيدها الباطشة لطمتهم وفي ظلمات الأرض وغيابات الثرى طرحتهم فقلبت قائم تلك الأعيان وطمست تلك الوجوه الحسان وأعمت تلك الأبصار وأصمت تلك الآذان وأسالت الأحداق على الخدود والوجنات وغسلت بالصديد جميل القسمات وملأت بالتراب اللهازم واللهوات وكسرت تلك الضواحك والرباعيات وعبثت بجسوم أولئك الفتيان والفتيات
لطالما أغربوا ضاحكين وتقلبوا فاكهين وباتوا على سررهم مطمئنين آمنين فكم بها من لسان فصيح فصيح لطال ما أنشد وخطب وأرهب ورغب ومدح فأطنب وكم بها الآن من فصيح لسان وعظيم بيان أخرسه الحدثان وتحكمت فيه الهوام والديدان
وأنشدوا
( وذي بيان إذا ما قال أو خطبا ... أتى بسحر يزين القول والخطبا )

( أتى بسهل من الألفاظ ممتنع ... جزل يصيب المعاني آية عجبا )
( فلو تميع أضحى مشربا سلسا ... ولو تجسد أضحى خالصا ذهبا )
( رمته هذي المنايا وهي صائبه ... سهما فما هو إلا أن رمته كبا )
( فأخرسته فما يبدي بضاحكة ... ولا يرد جوابا هان أو صعبا )
( وبات مطرحا في قعر موحشة ... غبراء مصطفق الأحشاء مستلبا )
( أعطى يديه لدنياه بما طلبت ... إذ أدرك الدود من جنبيه ما طلبا )
وكم هناكم من مسعر حرب قد لبس أوزارها وأضرم نارها وأوصل إلى القلوب أوراها وأقام سوقها ورفع غبارها
كم أغار من غارة شعواء وفتك من فتكة شنعاء وأثار من فتنة عمياء وصال بجنان وطعن بسنان وركض بحصان ولعب بفرسان وفرسان وقال خذها وأنا فلان بن فلان
ها هو اليوم قد بل جنانه وتكسر سنانه وأكب به حصانه لأمه الويل وحسرة سوداء مثل الليل
وأنشدوا
( ومقدام على الأهوال صدق ... لدى الفتكات والأمر الكبير )
( تبيت لذكره الأبطال سكرى ... وتضحي منه ضيقة الصدور )
( يرض فرائص الفرسان رضا ... ويحطمهن كالأسد الهصور )
( طموح السيف لا يثنيه شيء ... جهول بالبشير وبالنذير )
( أشار الموت من بعد إليه ... فخر موسدا إحدى الصخور )
( وكب حصانه ونبا شباه ... وأعلن نادبوه بالثبور )
( وأنسى أن يقيم لواء روع ... بروعات أتته من القبور )
وأن أنت أطلت اعتبارك وأمعنت استبصارك فكم بها من غادة قد هضم

وشاحها ونور مصباحها ومليء فتنة غدوها ورواحها قد فتكت بذلك الأسد الهصور واقتنصت ذلك الفارس المذكور
أدلت إدلالها وجرت أذيالها وأرسلت جمالها فعملت أعمالها وسلبت الملوك قلوبها وأموالها
ما كان بأوشك من أن صارت جيفة من الجيف تبعد وتصرف وتنكر ولا تعرف أحسن أحوالها أن تلف في سربالها وتدفع لحمالها فتطرح في شق من الأرض قريب الطول والعرض مظلم القعر إلى يوم القيامة والحشر قضاء الله النازل من سمائه وحكمه في عبيده وإماءه
وأنشد بعضهم
( عرج على القبر بدار البلى ... حيث منى نفسي مقبور )
( حيث هوى بدر الدجى ساقطا ... قد زال عن صفحتيه النور )
( وحيث حلت داعيات الهوى ... أجمع مسموع ومنظور )
( يا ظبية بطن الثرى أسكنت ... وبيتها في القصر معمور )
( حقا تمطيت على رضمة ... جنبك منها اليوم مكسور )
( وطال ما بت على سندس ... بالذهب الإبريز مضفور )
( وجسمك الناعم حقا به ... للترب تشقيق وتفطير )
( وطال ما أثر من قبل ذا ... في لينه هم وتفكير )
( وثغرك العذب ويا ويلتي ... فيه من الديدان جمهور )
( ولو به عل قتيل الهوى ... قبل لاضحى وهو منشور )
( وشعرك الجثل وعهدي به ... فيه فتيت المسك منثور )
( قد عششت فيه بنات الثرى ... ففيه تشعيث وتغيير )
( يا حسرتا ثمت يا حسرتا ... لو كان يغني اليوم تحسير )

( ياتا التي أعجبها عطفها ... قبرك في الأقبر محفور )
( وكلنا ذاك ولكننا ... كل بهذي الدار مسحور )
فأنت إذا تذكرت بهذه الأذكار وأطلت لها الترداد والتكرار وأعملت فيها النظر والاعتبار ورأيت أنك واحد من المذكورين ملك أو غير ذلك من أصناف الناس ورأيت خلقك كخلقهم وصفتك كصفتهم وأنه لا بد ان يصيبك من الموت ما أصابهم وينزل بك منه ما نزل بهم وأنت تشاهد بهذه الدار أنواع المصيبات وأجناس البليات وضروبا من المهلكات وأن الموت واحد وأسبابه كثيرة
فمن رجل باشر الكفاح فتخللته الرماح وتمكنت من رقبته الصفاح وربما كان هذا أسهلهم مماتا وأكرمهم وفاة
وثان قد طرح في أيدي أعدائه وأسلم لبلائه فقطعوه إربا إربا وفصلوه عضوا عضوا
وثالث ردوا مشارع العقاب إليه وصبوا العذاب عليه وما مات حتى كان الموت أحب عائد إليه وأكرم قادم يقدم عليه
ورابع قد أمسى أكيلة حوت في ظلمات البحار
وخامس فريسة أسد في موحشات القفار
إلى غير ذلك من الأمراض الصعبة والآلام الشاقة وما تظنه وما لا تظنه حتى إن الرجل ليغص بالطعام ويشرق بالشراب فيكون في ذلك حتفه وتذهب فيه نفسه
كما قال القائل
( وما طريق الموت في ذا الورى ... واحدة بل جمة لاجبه )
( وربما لذ لامريء شربة ... فانقلبت وهي له شاربه )

وأسباب الموت أكثر من أن أحصيها لك وأعدها عليك ولا تدري ما السبب الواصل إليك منها ولا النصيب الذي قسم لك من جملتها وإنك لا تدري متى يهجم عليك الموت فيقصمك ولا متى ينزل بك فيحطمك ولعله لا يمهلك حتى ينقضي نفسك
فأنت إذا واظبت على هذا تمكن ذكر الموت من قلبك وملكت القياد من نفسك ونظرت بعون الله عز و جل في أمرك ومهدت المضجع من قبرك وأعددت به الأنيس ليوم حشرك
وإلا فقد نبه من حذر وأعذر من أنذر ولا لوم إلا على المقصر والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ولعلك تقول يا هذا قد أرعدت في ذكر الموت وأبرقت وطولت فيه وعرضت وعرضت في كلامك بمن عرضت وأمرت بالتفكير فيه والاشتغال بذكره وجمع الهمم له وتقصير الأمل والخوف من انقضاء الأجل
وأي فائدة في ذكر الموت وأنواعه وضيق العمر واتساعه وهذا أمر قد فرغ منه وأعجزت الحيلة فيه
وكما تقول لي لا تكثر الاشتغال بأمر الرزق ولا تغتم له ولا تتفكر فيه فإنه مقدر مفروغ منه وما ترزق يأتيك فكذلك الموت أيضا وأسبابه والعمر ومدته وكل ذلك أمر مقدر مفروغ منه ما قدر علي يصيبني وما كتب علي يأتيني
فأقول نعم كلاهما قد سبق في الأزل وكتب في القسم الأول والسبب الذي كتب عليك في الموت لن تتعداه والعمر الذي قسم لك لن تتخطاه
ولكن بين الأمرين في الاشتغال بهما فرقان وذلك أن الرزق المقدر المفروغ منه لا يزيد فيه حرصك وكذا لا ينقص منه كسلك وعجزك وإن كانت له أسباب ولطلبه أبواب فقد تتعلق بأسبابه وتأتيه في الظاهر من أبوابه فتكون أحد المحرومين والمجتهدين والمجدودين فهذا أمر قد شوهد بالعيان وعلم به كل إنسان فلا يفيدك الطلب إلا العناء والتعب

ولست بمأجور في ألم الحرص ولا فيما تتحمل من مشقة الطلب لاكثر مما تحتاج إليه وربما تبرمت في الحال ولم تنظر في المآل وسخطت قضاء الله وقدره عليك وحكمه فيك وإرادته لك من أفعال الخير وأعمال البر وفي هذا ما فيه
وقد تؤجر فيما يصيبك من ألم المشقة في طلب أكثر مما تحتاج إليه إذا كان لك فيه نية صالحة من صدقة أو صلة رحم أو غير ذلك من أفعال الخير وأعمال البر
وأما إن كان سعيك ذلك للتكاثر والتفاخر ومحبة في المال فلا والحول والقوة لله وحده
وأما ذكر الموت والتفكر فيه فإنه وإن كان أمرا مقدرا مفروغا منه فإنه يكسبك بتوفيق الله سبحانه التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه ويهون عليك مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها فإن كان سبب موتك سهلا وأمره قريبا هينا فهو ذاك وإن كانت الأخرى كنت مأجورا فيما تقاسيه مثابا على ما تتحمله
واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما تذكره وإي فائدة لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بجنانك
وإنما مثل ذلك مثل من يكون في بعض أعضائه جراحة فيريد أن يداويها فيجعل الدواء على عضو آخر صحيح ويدع العضو المريض ليس عليه شيء فانظر كيف يستريح هذا بهذا التداوي ومتى يستريح إلا أن يأتيه البرء من بارئه والشفاء من خالقه سبحانه وتعالى
أو مثل من يريد أن يوقظ نائما فيدعه في غمرة نومه ويوقظ غيره فانظر كيف يستيقظ له ذلك الذي أراد إيقاظه بإيقاظ هذا الآخر أو متى يستيقظ

وإنما سنة الله تعالى الجارية أن يقصد العضو المريض بدوائه والنائم بما يوقظ به اللهم إلا أن يكون في إيقاظ هذا النائم حركة عظيمة ومعالجة كثيرة تتعدى إلى ذلك النائم الآخر فيستيقظ فيكون إذن كأنه قصده بالإيقاظ مع صاحبه وإما إن كانت حركته لا تتعداه فإن النائم الآخر يبقى بحاله وفي غمرات نومه حتى يوقظه الذي أنامه ويحركه الذي أسكنه تبارك وتعالى
وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه ويكون له معه البرء من السقم والإيقاظ من النوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله نصب عينيك ومثالا حاضرا بين يديك وأن تنظر إلى كل ما تحبه من الدنيا من ولد أو أهل أو جاه أو غير ذلك فتعلم أنه لا بد لك من مفارقته إما في الحياة أو في الممات سنة الله الجارية وحكمه المطرد
وتشعر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه
كما قيل يا ابن آدم لا تعلق قلبك بما يأخذه منك الفوت أو يأخذك أنت عنه الموت
ونظر رجل إلى بني له صغير يمشي بين يديه فأعجبه حسنه وألهته حركته فقال يا بني ولولا الموت لعلقت قلبي بك ولأكثرت من حبي لك
ونظر ابن مطيع يوما إلى داره فأعجبه حسنها فبكى ثم قال والله لولا الموت لكنت بك مسرورا ولوا ما أصير إليه من ضيق القبر لقرت عيني بك ثم بكى حتى ارتفع بكاؤه وعلا نحيبه
واعلم أن طول الأمل داء عضال ومرض مزمن ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء
وقد روى في طول الأمل وذمه وفي التحريض على العمل والترغيب فيه ما في بعضه الكفاية وما بأقل منه يوصل إلى المقصود بعون الله تعالى
قال الله تعالى ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )

وقال عليه الصلاة و السلام لا يزال قلب الشيخ شابا في اثنتين حب الدنيا وطول الأمل ذكره البخاري ومسلم وغيرهما
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا مربعا وقال هذا الأجل وخط في وسطه خطا وقال هذا الإنسان وخط في عرضه يعني في جانبه خطوطا فقال هذه الأعراض وخط خطا خارجا وقال هذا الأمل قال فالأعراض تنهشه وعينه إلى الأمل
يريد عليه الصلاة و السلام أن الإنسان قد أحاط به أجله وأنه دائر به فحيثما توجه لقيه وأن فتن الدنيا ومحنها تعترضه وتنهشه وتتلقاه وتستقبله وهو مع ذلك بعيد الأمل مصروف النظر إليه
ويروى أنه عليه الصلاة و السلام أخذ عودا فغرزه بين يديه وغرز عودا آخر إلى جنبه قريبا منه ثم أخذ عودا ثالثا فغرزه بعيدا منه ثم قال أتدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم
فقال هذا الانسان وأشار إلى العود الذي بين يديه وهذا الأجل وأشار إلى العود الذي إلى جنبه ثم قال وذلك الأمل وأشار إلى العود الثالث البعيد فالإنسان يتعاطى الأمل ويختلجه قبل ذلك الأجل
ويروى أن النبي صلى الله عليه و سلم اطلع ذات يوم على الناس فقال ألا تستحيون من الله قالوا وما ذاك يا رسول الله قال تجمعون ما لا تأكلون وتأملون مالا تدركون

وروى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال اشترى أسامة بن زيد من زيد بن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده ما طرفت عيني إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى تقبض روحي ولا طعمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى فوالذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يهريق الماء فيتيمم بالتراب فأقول يا رسول الله إن الماء منك قريب فيقول ما يدريني لعلي لا أبلغه ذكره الحارث بن أبي أسامة في مسنده
وروى عنه عليه السلام أنه قال نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل
ومن كلام بعضهم أيها الجاري في أمله رويدك فإن الزمان يفتل قيدك وربما صرعك قبل أن تنال ما به خدعك وقتلك قبل أن تستوفي أملك فأوردك منهل رداك وأشمت بك عداك وأخذك بما كسبت يداك وربما أدركت ما طلبت واستوفيت ما أملت فأخذك أخذة أسف قبل فل عرشك وهدم حوضك وأطبق سماءك وزلزل أرضك ورمى بك حيث لا يرعى لك ذمة ولا تدركك رحمة ولا تنكشف عنك كربة ولا تنجلي عنك غمة وأنشدوا
( أمل من دنياه ما أملا ... وقال ما قال لأن يفعلا )
( وصال في هذا الورى صولة ... بز بها الآخر والأولا )
( وطبق الأرض بفرسانه ... وهد منها شعفات الفلا )

( وقال هذي ثمرات المنى ... فليجنها الأفضل والأفضلا )
( فمن حريم فض ختامه ... ومن مليك في الثرى جندلا )
( حتى إذا بات على عرشه ... مستوفيا كل الذي أملا )
( صاح به صرف الردى صيحة ... ألقى بأعلى عرشه أسفلا )
( ودك في الأرض بإيوانه ... وزلزلت أرجاء ذاك الملا )
( ومر لا ينعش من عثرة ... إلا إلى ثمت إلا إلى )
( فلا سقت مصرعه مزنة ... ولا انجلت كربته لا ولا )
وخطب علي رضي الله عنه فقال ألا وإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع وان الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع ألا وإن المضمار اليوم والسباق غدا ألا وإن السبقة الجنة والغاية الموت ألا وإنكم في أيام مهل ومن ورائه أجل يحثه عجل فمن عمل في أيام مهله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أمله ومن لم يعمل في أيام مهله قبل حضور أجله ضره أمله وساءه عمله
وقال علي رضي الله عنه ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أشرفت مقبلة وإن لكل واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ألا وإن اليوم عمل بلا حساب وغدا حساب بلا عمل ألا وإن من أشد ما أخاف عليكم خصلتين طول الأمل واتباع الهوى أما طول الأمل فإنه ينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فإنه يصد عن سبيل الله
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني وثلاث أحزنتني حتى أبكتني أما الثلاث الأول فمؤمل دنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راض عنه
أما الثلاث التي أحزنتني حتى أبكتني ففراق محمد صلى الله عليه و سلم وفراق الأحبة أصحابه والوقوف بين يدي الله تعالى ولا أدري أيؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار
وقال أبو بكر زكريا التيمي بينما هشام بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أتى بحجر مكتوب فيه باللسان العجمي فطلب من يقرؤه له فأتى بوهب بن

منبه رحمه الله فقرأه فإذا فيه يا ابن آدم لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت من حرصك وحيلك وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك ففارقك الولد والقريب ورفضك الوالد والنسيب
فلا أنت لدنياك عائد ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة يوم الحسرة والندامة
وقال الحسن البصري رحمه الله كان آدم عليه السلام قبل أن يخطيء الخطيئة أمله خلف ظهره والموت نصب عينيه فلما أصاب الخطيئة تحول أمله فصار بين عينيه وصار أجله خلف ظهره
وقال الحسن ما أطال عبد الأمل إلا نسي العمل
ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال يا أهل دمشق ألا تسمعون من أخ لكم ناصح إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين
وقيل لبعض الزهاد بالبصرة ألك حاجة ببغداد فقال ما أحب أن أبسط أملي حتى تمضي إلى بغداد وتجيء
وأنشدوا
( يا ذا المؤمل آمالا وإن بعدت ... عنه ويزعم أن يحظى بأقصاها )
( أنى تفوز بما ترجوه ويك وما ... أصبحت في ثقة من نيل أدناها )
وأنشدوا أيضا
( ما الأمر أمرك في حل ولا ظعن ... تجول في جلد جذلان ومنفسح )
( ردت أوائلها بالموت فانقبضت ... والموت يقبض ذا الأحزان والفرح )

( وبادر الأمر ما أصبحت في مهل ... من المشيب ومن مداك في فسح )
( فربما سكنت في الحال عاصفة ... وعاد غور مياه القوم للنضح )
وقال بعض الحكماء الأمل كالسراب غر من رآه وخيب من رجاه
وخطب عمر بن عبد العزيز يوما فقال ألا إن لكل سفر زادا فتزودوا التقوى لسفركم من الدنيا إلى الآخرة وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه وعقابه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم وإنه والله ما بسط الأمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه ولا يمسي بعد صباحه
وبين ذلك خطفات المنايا وهجمات المنون وإنما تقرعين من وثق بالنجاة من عذاب الله تعالى وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة
وأما من لا يداوي جرحا إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر غباوتي إنكم قد عنيت بأمر لو عيت به النجوم لا نكدرت أو الجبال لذابت أو الأرض لتشققت
أما تعلمون أن ليس بين الجنة والنار منزل وأنكم صائرون إلى أحدهما
وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال بينما نحن نصلح خصا لنا إذ مر بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذا فقلنا يا رسول الله قد وهى فنحن نصلحه فقال ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك ذكره الترمذي
والخص بيت من قصب يريد عليه السلام تعجيل الأمر وتقريبه وخوف بغتته والحذر من فجأته
وقيل للحسن البصري رحمه الله تعالى يا أبا سعيد ألا تغسل قميصك فقال الأمر أعجل من ذلك وكان الحسن رحمه الله تعالى قصير الأمل طويل

الخوف وكان يأتي عليه الأحيان يظن الظان أن الموت قد نزل به وأنه في سياقه من كثرة تفكره فيه وتخيله له
وقال داود الطائي رحمه الله تعالى لو أملت أن أعيش شهرا لرأيت أني قد أتيت عظيما وكيف آمل ذلك وأنا أرى الفجائع تنزل بالخلائق آناء الليل والنهار
وقيل للربيع بن خيثم رحمه الله تعالى كيف أصبحت فقال كيف يصبح رجل إذا أصبح لا يدري أنه يمسي وإذا أمسى لا يدري أنه يصبح
امتثل الربيع رحمه الله الحديث المروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنكبي وقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور فإذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من حياتك لموتك ومن غناك لفقرك ومن صحتك لسقمك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا
وقوله إذا أصبحت الكلام إلى آخره أكثر ما يروى من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
ذكر الحديث الترمذي وغيره
وقال آحر ابن عباس رضي الله عنهما ما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل كتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وهو أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا ولا بما فاتك منها ترحا ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل فكأن قد نزل بك الأجل والسلام
وقال بعض الحكماء في موعظة له كلنا نتيقن الموت وما نرى له منا

مستعدا وكلنا نتيقن الجنة وما نرى لها منا عاملا وكلنا نتيقن النار وما نرى لها منا خائفا فعلام تعرجون وما عسى تنتظرون وماذا ترجون أو ماذا تأملون الموت أول قادم يقدم عليكم بخير أو شر فيا إخوتا سيروا سيرا جميلا
وقال آخر العاقل يعتمد على عمله والجاهل يعتمد على أمله
وقال آخر بطول الأمل تقسو القلوب وبإخلاص النية تقل الذنوب
ويروى عن شقيق البلخي أنه جاء إلى أستاذ له يقال له أبو هشام وفي طرف كسائه شيء مصرور فضرب عليه الباب فخرج إليه فرأى ما في كسائه فقال له ما هذا الذي في كسائك فقال يا أستاذ دفع إلي أخ لي لويزات وقال أحب أن تفطر عليها فقال له يا شقيق وأنت تحدث نفسك أن تعيش إلى الليل
لا أكلمك ثم أغلق الباب في وجهه ودخل
ويروى عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكلكم يحب أن يدخل الجنة قالوا نعم يا رسول الله قال فقصروا آمالكم وثبتوا آجالكم بين أبصاركم واستحيوا من الله حق الحياء
وقال بعضهم رأيت زرارة بن أبي أوفي في المنام بعد موته فقلت له أي الأعمال أبلغ عندكم قال التوكل وقصر الأمل
وقال بعضهم في موعظة له أيها الناس حسنوا أعمالكم وقصروا آمالكم واعلموا أن الموت معقود بنواصيكم وأن الدنيا تطوى من ورائكم
وأنشدوا
( عقد الموت منكم بالنواصي ... ودفعتم منه لهول القصاص )
( ففرارا ولات حين فرار ... ومناصا ولات حين مناص )
( قد طوتكم صروف هذي الليالي ... عن كمال فعدتم لانتقاص )

( أحكمت أسركم وما من أسير ... في يديها يرجى له من خلاص )
( كم ركضتم وراءها من جياد ... وامتطيتم بإثرها من قلاص )
( وانتضيتم لحربها من نصال ... ولبستم لذاكم من دلاص )
( ونزلتم مساريا وغياضا ... وعلوتم شوائقها وصياصي )
( وإلى ذا فما وجدتم نجاة ... من ترد لكم بها والتحاص )
( رحتم مثخنين جرحا وقتلا ... كقنيص بايتتهم القناص )
( فاطلبوها بما لكم من قصاص ... ومحال أن تسعفوا بقصاص )
( فذروها ذميمة دار دنيا ... أخلصت عيشها لذي الإخلاص )
( وإذا امتدت الأماني فيها ... وأشادت بوصلها المتعاص )
( فاقطعوا ذكرها بذكر مقام ... هام من ذكره مطيع وعاصي )
( وإن ارتاع من حديث فؤادي ... فلذاكم يشيب سود النواصي )
وقال الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل وليس أكل الخشن ولبس العباءة وصدق الثوري رحمه الله فإن من قصر أمله لم يتأنق في المأكولات والمطعومات ولا يتفنن بالملبوسات وأخذ من الدنيا ما تيسر واجتزأ منها بما يبلغه
وفي بعض الخطب أيها الناس إن سهام الموت قد فوقت إليكم فانظروها وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم فاحذروها وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال ومقيمه إلى ارتحال وممتده إلى تقلص واضمحلال
أما تسمعون أيها الناس لما به توعظون أما تعتبرون بما إليه تنظرون أما تفكرون فيما عنه تزولون وفيما إليه ترجعون وعليه تقدمون أين من تقدمكم وكان قبلكم ممن أمل أملكم وسعى سعيكم وعمل عملكم أين الذين بنوا المدائن وملأوا الخزائن واستعدوا لما هو عندهم كائن أين الذين غرسوا في روضة الملك ونظموا الآمال في سلك وهتكوا حجبها أيما هتك وكانوا في ظاهر

أعمالهم في ريب من الزمان وفي شك
انظروا إليهم كيف نضبت لهم تلك المياه وذبلت منهم تلك الشفاه وتكسرت عند سقوطهم تلك الوجنات وتثلمت تلك الجباه وتغيرت الأحوال وانكمشت الآمال وبقيت شاهدة عليهم تلك الرسوم والأطلال
( رفعت عرشك في الدنيا وتهت به ... وما بها للبيب ترفع العرش )
( وبت فيها على فرش ملينة ... ولو عقلت لما لانت لك الفرش )
( وظلت تسعى لآمال وتفرشها ... وللمواريث ما تسعى وتفترش )
( كم كان قبلك من مأسور رغبته ... بالحرص تلدغ جنباه وتنتهش )
( يمسي ويصبح في حل وفي ظعن ... يضم هذا إلى هذا ويحتوش )
( عطشان للمال محماة جوانحه ... ألقى على صدره لسانه العطش )
( حتى إذا قيل قد تمت مطالبه ... وطاف من حوله أهلوه واحتوشوا )
( مدت إليه يد للموت باطشة ... خشناء لا دهش فيها ولا رعش )
( فقصعته وقدما كان ذا جيد ... واجهشته ولما يدر ما الجهش )
( فبات مستلبا وبات وارثه ... وقد تغطوا بذاك المال وافترشوا )
( أما سمعت بأملاك مضوا قدما ... شم الأنوف بروض الملك قد عرشوا )
( إن دوفعوا دفعوا أو زوحموا زحموا ... أو غولبوا غلبوا أو بوطشوا بطشوا )
( جاءتهم وجنود الله غالبة ... كتائب للمنايا كلها حبش )
( فضعضعت جنبات عزهم ورمت ... منارهم بظلام ما به غبش )
( لطال ما أكلوا وطال ما تسربوا ... وطال ما رفعوا الآجام واعترشوا )
( مروا فلا أثر منهم بدارهم ... ولا حسيس ولا ركز ولا وقش )
( قد كان للقوم آمال مبسطة ... فأصبحوا قبضوا الآمال وانكمشوا )

ويروى أن أمير المؤمنين المهدي رحمه الله تعالى نام ليلة ونساؤه حوله فانتبهن لبكائه فقلن له ما شأنك يا أمير المؤمنين فقال ما رأيتن الشيخ قلن لا والله ما رأينا أحدا فقال دخل علي شيخ وأنا بين النائم واليقظان والله لو كان بين ألف رجل لعرفته فأنشدني
( كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ركنه ومنازله )
( وصار عميد القصر من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله )
( ولم يبق إلا ذكره وحديثه ... ينادي بويل معولات حلائله )
فقلن له أضغاث أحلام خيرا رأيت فوالله ما أتت عليه سابعة حتى مات
وأعلم ان الناس في قصر الأمل وطوله مختلفون وفي درجاته متفاوتون فمنهم من يؤمل أن يعيش أقصى ما يعيشه إنسان ممن شاهد أو سمع به في زمانه ولو كان الاختيار إليه لما مات أبدا حبا منه للدنيا وكلفا بها وتلذذا بالبقاء فيها وهيهات ليس للإنسان ما تمنى ولا أن يدرك كل ما فيه تعنى وغاية هذا أن يتمنى طول العمر ويود أن لو يبقى الأحقاب الكثيرة من الدهر
قال الله تعالى في قوم كانوا كذلك ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة )
ويمكن أن يكون هؤلاء تمنوا طول البقاء لأنهم كانوا لم يتحقق في الآخرة لهم رجاء لكفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم وتكذيبهم له مع صحة نبوته عندهم لكن حملهم بغيهم وحسدهم له على الكفر به والإنكار لدعوته وكانوا يقولون إنهم يدخلون النار ثم يخرجون منها فيتمنون لذلك طول العمر
وهذه الآية نزلت في اليهود ومنهم من يؤمل أن يعيش ستين سنة وسبعين سنة وأكثر من ذلك ومنهم من يؤمل أن يعيش فوق ذلك ودون ذلك حتى إن منهم من لا يجاوز أمله يومه وربما كان أمله أقصر من ذلك بل منهم من يكون الموت نصب عينيه يتوقعه مع الأنفاس أن يثب عليه

يذكر عن الأسود الحبشي أنه كان يلتفت يمينا وشمالا فقيل له ما هذا الالتفات قال انظر ملك الموت من أين يأتيني وأنشد بعضهم من كلمة
( وألبس لهذا الموت جبة خائف ... قد ضاق عنه مسلك ومقام )
( لا نأمنن عليك من إقدامه ... فله على هذا الورى إقدام )
( وأكحل جفونك بالرقاد لأجله ... فالسهد حل والمنام حرام )
( إلا غرارا كالغذاء تناله ... لولا الضرورة ما وجدت تنام )
( ومن العجائب أن تراه نائما ... من طالبوه ساهرون ينام )
وكان بعض الصالحين يقول ما أحسبني إلا رجلا قد أقعد ليقتل وجرد السيف عليه ومدت عنقه فهو ينتظر أن يضرب فيلقى رأسه بين يديه فشتان ما بين الرجلين
وآخر قد مد في عمره وطول في أمله فازداد في كسله ودخل الوهن في عمله
ورجل آخر قد جعل التقوى بضاعته والعبادة صناعته ولم يتجاوز بأمله ساعته بل جعل الموت نصب عينيه ومثالا قائما بين يديه وسيفا مصلتا عليه فهو مرتقب له مستعد لنزوله لا يشغله عن ارتقابه شاغل ولا يصرفه عن الاستعداد له صارف قد ملأ قلبه وجلا وعمره عملا وعد يوما واحدا يعيشه بقاء ومهلا وغنيمة تملأ نفسه سرورا وجذلا لازدياده فيه من الخير وادخاره فيه من الأجر واكتسابه عند الله عز و جل من جميل الذكر
ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه وألبسه رداءه وأعطاه جماله وبهاءه
فانظر رحمك الله تعالى أي الرجلين تريد أن تكون وأي العملين تريد أن تعمل وبأي الرداءين تريد أن تشتمل وبأيهما تريد أن تتزين وتتجمل فلست تلبس هناك إلا ما لبسته هنا ولا تحشر هناك إلا فيما كنت فيه هنا إن

صلاح فصلاح وإن فجور ففجور
ولعل هذا هو تأويل الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يبعث الميت في ثيابه التي مات فيها لأنه قد صح أن الناس يبعثون حفاة عراة
وهذا الخبر ذكره أبو داود في السنن
وأنشد
( قد طواك الزمان شيئا فشيئا ... وبرتك الخطوب جزءا فجزءا )
( ورمت منك حادثات الليالي ... حبة القلب فأدن بعد أو انأى )
( كان ما كان وانقضت مدة العمـ ... ـر وولى الشباب خبرا ومرأى )
( وقديما قد أعلمتك الليالي ... أن أدواءها تفوتك برءا )
( فادرك منها فائتا بمتاب ... بل بإيمان انشىء اليوم نشئا )
( واتخذ للهيام ويحك ريا ... واتخذ للسهوم ويلك فيئا )
( وإاذ ما خرقت بالدين خرقا ... فارفينه بالإنابة رفئا )
( وإذا ما وردت مورد دنيا ... فليكن ما وردت من ذاك ظمئا )
( ولتدعها تحيلا وأماني ... ألبست قلبك المغفل صدأ )
( وإذا ما الحمام جاءك يوما ... لم تجد من جميع ذلك شيئا )
واعلم أن طول الأمل حجاب على قلبك يمنعك من رؤية الموت ومشاهدته ووقر في أذنيك يمنعك من سماع وجبته ودوي وقعته وبقدر ما يرفع لك من الحجاب ترى وبقدر ما يخفف عن أذنيك من الوقر تسمع
فانظر رحمك الله نظر من رفع الحجاب وفتح بابه واستمع سماع من أزيل وقره وخوطب سره وبادر قبل أن يبادر بك وينزل عليك وينفذ حكم الله فيك فتطوى صحيفة عملك ويختم على ما في يديك ويقال لك اجن ما

غرست واحصد ما زرعت وأقرأ كتابك الذي كتبت كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبربك تبارك وتعالى شهيدا ورقيبا
قال مالك بن دينار رحمه الله رأيت في البادية في يوم شديد البرد شابا عليه ثوبان خلقان وعليه آثار الدعاء وأنوار الإجابة فعرفته وكنت قبل ذلك عهدته في البصرة ذا ثروة وحسن حال وكان ذا مال وآمال
قال فبكيت لما رأيته على تلك الحال فلما رآني بكى وبدأني بالسلام وقال لي يا مالك بن دينار ما تقول في عبد أبق من مولاه فبكيت لقوله بكاء شديدا وقلت له وهل يستطيع المسكين ذلك البلاد بلاده والعباد عباده فأين يهرب المسكين فقال يا مالك سمعت قارئا يقرأ ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) فأحسست في الحال بنار وقعت بين ضلوعي فلا تخمد ولا تهدأ من ذلك اليوم يا مالك أتراني أرحم وتطفأ هذه الجمرة من قلبي
فقلت له أحسن الظن بمولاك فإنه غفور رحيم
ثم قلت له إلى أين قال إلى مكة شرفها الله تعالى لعلي أن أكون ممن إذا التجأ إلى الحرم استحق مراعاة الذمم
قال مالك ففارقني ومضى فتعجبت من وقوع الموعظة منه موقعها وما تأجج بين جنبيه من نار التيقظ والإنابة وما حصل عليه من صدق القبول وحسن الاستماع
واعلم أن الأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني ويعقب التشاغل والتقاعس ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان
كما أن قصره يبعث على العمل ويحمل على المبادرة ويحث على المسابقة وسأضرب لك في ذلك مثلا مثل ملك من الملوك كتب إلى رجل يقول له افعل كذا وكذا وانظر في كذا وكذا وأصلح كذا وكذا وانتظر رسولي فلانا فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك وإياك ثم إياك أن يأتيك إلا وقد فرغت من أشغالك وتخلصت من أعمالك ونظرت في زادك وأخذت ما تحتاج

إليه في سفرك وإلا أحللت بك عقابي وأنزلت عليك سخطي وأمرته أن يأتيني بك مغلولة يداك مقيدة رجلاك مشمتا بك عداك مسحوبا على وجهك إلى دار خزيي وهواني وما أعددته لمن عصاني
وإن هو وجدك قد فرغت من أعمالك وقضيت جميع أشغالك أتي بك مكرما مرفعا مرفها إلى دار رضواني وكرامتي وما أعددته لمن امتثل أمري وعمل بطاعتي
واحذر أن يخدعك فلان أو فلانة عن امتثال أمري والاشتغال بعملي وكتب إلى رجل آخر بمثل ذلك الكتاب
فأما الرجل الأول فقال هذا كتاب الملك جاء يأمرني فيه بكذا وكذا وذكر لي أن رسوله يأتيني ليحملني إليه وأنا لا أمضي إليه حتى يأتيني رسوله ولعل رسوله لا يأتيني إلا إلى خمسين سنة أو أكثر فأنا على مهلة وسأنظر فيما أمرني به ولم يقع الكتاب منه بذلك الموقع ولم ينزله من نفسه بتلك المنزلة وقال والله لقد أتى كتابه إلى خلق كثير بمثل ما أتاني ولم يأتهم رسوله إلا بعد السنين الكثيرة والمدد الطويلة وأنا واحد منهم ولعل رسوله يتأخر عني كما تأخر عنهم وجعل الغالب على ظنه أن الرسول لا يأتيه إلا إلى خمسين سنة كما ظن أو أكثر أو إلى المدة التي جعل لنفسه بزعمه
ثم أقبل على اشغال نفسه مما لا يحتاج إليه ومما كان غنيا عنه وترك أوامر الملك والشغل الذي كلفه النظر فيها والاشتغال به فكلما دخلت عليه سنة قال أنا مشغول في هذه السنة وسأنظر في السنة المقبلة والمسافة أمامي طويلة والمهل بعيد وهكذا كلما دخلت سنة قال أنا في هذه مشغول وسأنظر في الأخرى أو سأنظر في نصف السنة أو في الشهر الثاني منها أو سأنظر غدا ذ
فبينما هو على ذلك من تسويفه واغتراره إذ جاءه رسول الملك فكسر بابه

وهتك حجابه وحصل معه في قعر بيته وقال له أجب الملك فقال والله لقد جاءني كتابه يأمرني فيه بأعمال أعملها وأشغال انظر له فيها وما قضيت منها شغلا ولا عملت منها حتى الآن شيئا
فقال له الرسول ويلك وما الذي أبطأك عنها وما الذي حبسك عن الاشتغال بها والنظر فيها فقال لم أكن أظن أنك تأتيني في هذا الوقت
فقال له ويلك ومن أين كان لك هذا الظن ومن أخبرك به ومن أعلمك بأني لا آتيك إلا في الوقت الذي تظن قال ظننت وطمعت وسولت لي نفسي ومنتني وخدعني الشيطان وغرني
فقال له ألم يحذرك الملك في كتابه منهما وأمرك ألا تسمع لهما قال بلى والله لقد فعل ولقد جاءني هذا في كتابه ولكني خدعت فانخدعت وفتنت فافتتنت وارتبت في وقت مجيئك فتربصت
فقال له ويلك غرك الغرور وخدعك المخادع أجب الملك لا أم لك
قال أنشدك بحق الملك إلا ما تركتني حتى أنظر فيما أمرني به أو في بعضه أو فيما تيسر منه حتى لا أقدم عليه في جملة المفرطين وعصابة المقصرين
وهذا مال قد كنت جمعته لنفسي وأعددته لمؤنة زماني فاتركني حتى آخذ منه زادا أتزوده ودابة أركبها فإن الطريق شاقة والمفازة صعبة والعقبة كؤود والمنزل ليس فيه ماء
قال أتركك حتى أكون عاصيا مثلك ثم دفعه دفعة ألقاه على وجهه ثم جمع يديه إلى عنقه وانطلق به يجره من خلفه خزيان ندمان جوعان عطشان وهو ينشد بلسان الحال
( لا كحزني إذا لقيت حزينا ... جل خطبي فديتكم أن يهونا )
( ضاق صدري عن بعضه واحتمالي ... فاسلكوا بي حيث ألقى المنونا )

( ما تريد العداة مني وإني ... لبحال يرق لي المبغضونا )
( زفرات هتكن خلب فؤادي ... وهموم قطعن مني الوتينا )
( خنت عهد المليك قولا وفعلا ... واتخذت الخلاف شرعا ودينا )
( غرست في الحياة كفي شرا ... فاجتنيت العقاب منه فنونا )
( ليتني لم أكن وأين لمثلي ... ظالم نفسه بأن لا يكونا )
( يا خليلي ولا خليل لي اليو ... م سوى حسرة تديم الأنينا )
( ربح الرابحون وانقضت السو ... ق وخلوا بغبنه المغبونا )
( فابكني إن يكن بكاك مفيدا ... أو فدعني وعصبة يبكونا )
وأما الآخر الذي كتب إليه الملك بمثل ما كتب به إلى هذا فإنه أخذ كتاب الملك وقبله وقرأه وتصفحه وتدبره وقال أرى الملك قد كتب إلي بأن أعمل له كذا وكذا وأقضي له كذا وكذا وأنظر له في كذا وكذا ومن أين سبقت لي هذه السابقة عند الملك ومن الذي عني بي عنده ومن الذي أنزلني منه بهذه المنزلة حتى جعلني من بعض خدامه والقائمين بأمره والناظرين في أعماله
والله إن هذه لسعادة والله إن هذه لعناية الحمد لله رب العالمين ثم نظر في الكتاب وقال أسمع الملك وقد قال لي في كتابه وانتظر رسولي فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك وأراه لم يحد لي الوقت الذي يبعث فيه الرسول إلي ولا سماه لي ولعلي لا أفرغ من قراءة كتابه إلا ورسوله قد أتاني ونزل علي والله لا قدمت شغلا على شغل الملك ولا نظرت في شيء إلا بعد فراغي مما أمرني به الملك وإعدادي زادا أتزوده ومركوبا أركبه إذا جاءني رسوله وحملني إليه
فتعرض له رجل وقال له لم هذه المسارعة كلها وفيم هذه المبادرة كلها فقال له ويحك أما ترى كتاب الملك بما جاءني أما تسمع ما فيه أما تصدقه

أما تؤمن به قال بلى سمعت وآمنت وصدقت ولكن لم يقل لك فيه إن رسوله يأتيك اليوم ولا غدا ولا وقتا معلوما ولكنه سيأتيك وقد جاء كتابه إلى فلان بهذا الذي قد جاءك أنت به وقد بقي منتظرا لرسوله أكثر من سبعين سنة وإلى الآن ما أتاه وبعد زمان طويل ما جاءه وفلان أتاه بعد ثمانين سنة وفلان أتاه بعد مائة سنة وأكثر وفلان كاد أن لا يأتيه
وأنت واحد من المرسول إليهم فلم هذه العجلة وفيم هذا الإسراع
فقال ويحك أما ترى أنت فلانا قد جاءه كتاب الملك بهذا الذي جاءني وجاءه الرسول في إثر مجيء الكتاب وفلان كذلك وفلان جاءه بعد سنة وفلان كذا
فقال له بلى ولكن لا تنظر إلى هؤلاء خاصة وانظر إلى الذين قلت لك ممن تأخر عنه مجيء الرسول
فقال له دعني يا هذا فقد شغلتني والله وإني لأخاف أن يأتيني الرسول وأنا أكلمك
ثم أقبل على ما أمره به الملك فامتثله ونظر فيما حد له واشتغل بما يجب أن يشتغل به وأخذ الزاد لسفره وأخذ الأهبة لطريقه وجعل ينتظر الرسول أن يأتيه وأقبل يلتفت يمينا وشمالا من أين يأتيه ومن أين يقبل عليه
فبينما هو كذلك وإذا برسول الملك قد أتاه فقال أجب الملك قال نعم قال الساعة قال الساعة قال وفرغت مما أمرك به وعملت ما حد لك أن تعمله قال نعم قال فانطلق قال بسم الله فخلع عليه خلعة الأولياء وكساه كسوة الأصفياء وأعطاه مركوبا يليق به ويجمل بمثله وانطلق به في حبور وسرور وهو ينشد بلسان الحال
( هنئوني بغبطتي وسروري ... فجدير بأن يهنأ مثلي )
( ربحت صفقتي وزكي سعيي ... وارتقى للإله قولي وفعلي )
( كيف لي أن أعبر اليوم عني ... بمقال يبين وصف محلي )
( ضاقت الكتب أن تضم حديثي ... بل تلاشت عن بعض ما أنا أملي )

( قد بلغت المنى وزدت عليها ... وتملأت بالمسرة كلي )
( ليت قومي لو يعلمون بما لله ... من نعمة علي وفضل )
( طاب عيشي وقر فيه قراري ... وتقلبت بين ماء وظل )
( أنا ذاكم حقيقا أم هو غيري ... اعذروني فقد تدله عقلي )
فبان لك بهذا المثل وبغيره فضيلة قصر الأمل وفضيلة المبادرة إلى العمل والاستعداد للموت قبل نزوله والانتظار له قبل حلوله
وقد كثر الحض على هذا وكثرت الأقاويل فيه ولم يزل المذكرون يذكرون والمنبهون ينبهون لو يجدون سمعا واعيا وقلبا حافظا ومحلا قابلا والحول حول الله والأمر كله بيد الله
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لرجل وهو يعظه
اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك
وعن ابن عباس أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ
ذكر البخاري
وقال القائل
( إن في الموت والمعاد لشغلا ... وادكارا لذي النهى وبلاغا )
( فاغتنم نعمتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخي والفراغا )
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو هرما مفندا أو

مرضا مفسدا أو موتا مجهزا أو الدجال والدجال شر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة
وقال النبي صلى الله عليه و سلم أنا النذير والموت المغير والساعة الموعد
ذكره القاضي أبو الحسن بن صخر في الفوائد
وقال جابر بن عبد الله كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب رفع صوته واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم
ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى
ذكره مسلم بن الحجاج يريد عليه السلام تقريب الأمر وسرعة نزوله وكل آت قريب وكل ما هو كائن سيكون
قال ابن مسعود قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام فقال إن النور إذا دخل القلب انفسح فقيل يا رسول الله هل لذلك من علامة تعرف
قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله
ومن كلام بعضهم أما تسمعون أيها الناس داعي الموت يدعوكم وحاديه يحدوكم أما ترون صرعاه في منازلكم وقتلاه بين أيديكم ففيم هذا التصامم عن الداعي والتشاغل عن الحادي والتعامي عن مصارع القتلى والتغافل عن مشاهدة الهلكى فرحم الله امرأ أيقظ نفسه في مهلة الحياة قبل أن توقظه روعة الممات واستعد لما هو آت قبل الانبتات وحلول الفوات وكان

الحكم قد وقع والخطاب قد ارتفع أعرض من أعرض وسمع من سمع
وانشدوا
( قطعت زماني حينا فحينا ... أدير من اللهو فيه فنونا )
( وأهملت نفسي وما أهملت ... وهونت من ذاك ما لم يهونا )
( ورب سرور شفى غلة ... وولى فأعقب حزنا رصينا )
( وكم آكل ساعة ما يريد ... يكابد ما أورثته سنينا )
( وما كان أغنى الفتى عن نعيم ... يعود عليه عذابا مهينا )
( وكم وعظتني عظات الزمان ... لو أني أصيخ إلى الواعظينا )
( وكم قد دعاني داعي المنون ... وأسمع لو كنت في السامعيا )
( وماذا أؤمل أو أرتجيه ... وقد جزت سبعا على الأربعينا )
( فلو كان عقلي معي حاضرا ... سمعت لعمري منه أنينا )
( ولن يبرح المرء في رقدة ... يغط إلى أن يوافي المنونا )
( فتوقظه عندها روعة ... تقطع منه هناك الوتينا )
( وإذ ذاك يدري بما كان فيه ... وتجلو الحقائق منه الظنونا )
وقال أنس في قول الله عز و جل ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) قال أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد منه خوفا وحذرا )
وقال حذيفة رضي الله عنه ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي أيها الناس الرحيل الرحيل
وقال بعضهم أيها الإنسان إنما أنت نازل من الدنيا في منزل تعمره أيام عمرك ثم تخليه عند موتك لمن ينزله من بعدك وانشدوا
( أخل لمن ينزل ذا المنزل ... وارحل فقد آن أن ترحل )
( وارحل بما قد كنت جمعته ... واحمله إن خليت أن تحمل )

( هيهات لا تخرج منه بشيء ... فافعلن ما شئت أن تفعل )
( واقعد من الغيظ وإلا فقم ... واطلع إلى الكوكب أو فانزل )
( فلست بالخارج إلا بما ... جئت فسلم ويك واستبسل )
( وخل عن هذي الأماني فما ... تثمر إلا شر ما يؤكل )
( كم من فتى طول آماله ... فقصرت دنياه ما طول )
( فجاءه الموت على غرة ... فمات من قبل الذي أمل )
( فيا إلهي والذي جوده ... قد غمر الآخر والأول )
( رحماك يا رحمن في فتية ... ليس لهم دونك من مؤمل )
( قد حجبتها عنك آثامها ... وأنزلتها شر ما منزل )
( وليس إلا عفوك المرتجى ... أو دلها ماذا الذي تعمل )
وقال محمد بن إبراهيم جلست إلى عامر بن عبد الله وهو يصلي فجوز في صلاته فقال أخبرني بما جئت له فإني أبادر فقلت له وما تبادر قال ملك الموت رحمك الله فإني أخاف أن ينزل بي فقمت عنه وقام إلى صلاته
ومر داود الطائي رحمه الله فسأله رجل غريب عن حديث فقال دعني فإني أبادر خروج نفسي
وقال الربيع بن خثيم رحمه الله من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن طال أمله ساء عمله
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه التؤدة خير في كل شيء إلا في أمر الآخرة والتؤدة هي التثبت والتأني
وكان الحسن رحمه الله يقول في موعظته المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم الأعمال التي تتقربون بها إلى الله عز و جل رحم الله امرأ نظر لنفسه وبكى على ذنبه ثم قرأ هذه الآية ( إنما نعد لهم

عدا ) يعني الأنفاس آخر العدد خروج نفسك وفراق أهلك وقال بعض الصلحاء اغتنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقتطع ذكر المعاذير والعلل فإنك في أجل محدود ونفس معدود وعمر غير ممدود
وقال غيره أعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ليوم ليس يعدوك فيطرحك في حفرة لا يخافك فيها أحد ولا يرجوك
وكتب رجل إلى بعض إخوانه أما بعد فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة والموت متوسط بينهما ونحن في أضغاث أحلام والسلام
وكتب محمد بن يوسف رحمه الله إلى أخ له سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني محذرك من دار منقلبك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك فتصير في باطن الأرض بعد ظهرها فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك فإن يكن الله معك فلا فاقه ولا بأس ولا وحشة وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك يا أخي من سوء مصرع وضيق مضجع ثم تبلغك صيحة النشور ونفخة الصور وقيام الخلائق لفصل القضاء وامتلأت الأرض بأهلها والسموات بسكانها فباحث الأسرار وسعرت النار ووضعت الموازين ونشرت الدواوين وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
فكم من مفتضح ومستور ومعذب ومرحوم وكم من هالك وناج فيا ليت شعري ما حالي وحالك يومئذ فإن في هذا ما هدم اللذات وسلى عن الشهوات وقصر من الأمل وأيقظ النائم ونبه الغافل أعاننا الله وإياك على هذا الخطر العظيم وأوقع الدنيا من قلبك وقلبي موقعها من قلوب المتقين فإنما نحن له وبه والسلام
وأنشد بعضهم
( مرادك أن يتم لك المراد ... وتركض في مطالبك الجياد )
( وتمضي في أوامرك الليالي ... فلا يعصى هواك ولا يكاد )

( لقد ملكت مضلات الأماني ... قيادك فاعتديت بها تقاد )
( ألم تسمع بذي أمل بعيد وآمال الفتى منها بعاد )
( رماه الموت فانقبضت إليه ... أمانيه بشيء لا يراد )
( ويلقاه بإثر الموت يوم ... تميد لهوله السبع الشداد )
( تصم لوقعه الآذان صما ... وينطق من زلازله الجماد )
( فكم سالت هنالك من دموع ... يغيرهن من دمه الفؤاد )
( وكم شاهت هنالك من وجوه ... على صفحاتها طلي الحداد )
( وماذا الكرب يشبه ما عهدنا ... وأنى يشبه البحر الثماد )
( وما الأسماء تعطيك اتفاقا ... على معنى يتم لك المراد )
( ولكن ربما كان اشتباه ... قليل لا يحس ولا يكاد )
( يسمى البحر ذو الأهوال بحرا ... وبحر مثله الفرس الجواد )
وفي بعض الخطب المروية أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم وإن المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وأجل بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزود العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الحياة قبل الموت فإن الدنيا خلقت لكم وخلقتم أنتم للآخرة والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا يجمعكم الله فيه للفصل وللحكم فيما بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنة عرضها السموات والأرض وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى وباع قليلا بكثير وفانيا بباق وشقاء بسعادة
إلا ترون أيها الناس أنكم في أصلاب الهالكين ويستخلف بعدكم الباقين

ألا ترون أيها الناس أنكم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز و جل قد قضى نحبه وانقطع عمله وأمله فتضعونه في بطن قاع من الأرض غير ممهد ولا موسد قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب
وأيم الله إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما عندي ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته ونهى فيها عن معصيته ثم استغفر الله تعالى ووضع كمه على وجهه وبكى حتى بلت دموعه لحيته وما عاد إلى مجلسه ذلك حتى مات رحمه الله
ومما يروى من خطبه أيضا أنه قال أيها الناس إن الدنيا ليست بدار قراركم ولا محل إقامتكم دار كتب الله عليها الفناء وأوجب منها على أهلها الرحيل فكم من عامر مؤنق عما قليل ستخرب عمارته وكم من مقيم مغتبط عما قليل سيرحل فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة واحملوا خير ما يحضركم للنقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
إن الدنيا كظل قلص فذهب بينما ابن آدم فيها ينافس وعليها يضارب إذ دعاه الله بقدره ووافاه يوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه وصير للآخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا ما تسر بمقدار ما تضر إنها تسر قليلا وتحزن حزنا طويلا
وخطب المأمون يوما فقال عباد الله اتقوا الله ما استطعتم وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا بها وتعوضوا عنها
أيها الناس استعدوا للموت فقد أظلكم وترحلوا فقد جد بكم وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة وإن غائبا يحدوه الجديدان لجدير بسرعة الأوبة وإن قادما يقدم بالفوز أو بالشقوة

لمستحق بأفضل العدة
اتقى عبد ربه نصح نفسه وغلب شهوته وقدم توبته فإن أجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به يمنيه التوبة ليسوفها ويزين لها المعصية ليركبها حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها وأنسى ما يكون لها وإن ما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به فيالها من حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو أن تؤدبه أيامه إلى شقوة جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن الطاعة معصية ولا تحل به بعد الموت حسرة إنه سميع الدعاء فعال لما يشاء
ومن كلام بعضهم يا ابن آدم إنك لو رأيت ما حل بك وما أحاط بأرجائك لبقيت مصروعا لما بك مذهولا عن أهليك و أصحابك يا ابن آدم أما علمت أن بين يديك يوما يصم سماعه الآذان وتشيب لروعه الولدان ويترك ما عز وهان ويهجر له الأهلون والأوطان
يا ابن آدم أما ترى مسير الأيام بجسمك وذهابها بعمرك وإخراجها لك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك وبعد ذلك ما لذكر بعضه تتصدع القلوب وتنضج له الجوانح وتذوب ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يؤوب
وأنشدوا
( لأمر ما تصدعت القلوب ... وباح بسرها دمع سكيب )
( وباتت في الجوانح نار ذكرى ... لها من خارج أثر عجيب )
( وما خف اللبيب لغير شيء ... ولا أعيا بمنطقه الأريب )
( ذراه لائماه فلا تلوما ... فربت لائم فيه يحوب )
( رأى الأيام قد مرت عليه ... مرور الريح تدفعها الهبوب )
( وما نفس يمر عليه إلا ... ومن جثمانه فيه نصيب )
( وبين يديه لو يدري مقام ... به الولدان من روع تشيب )
( وهذا الموت يدنيه إليه ... كما يدنى إلى الهرم المشيب )
( مقام تستلذ به المنايا ... وتدعى فيه لو كانت تجيب )
( وماذا الوصف بالغه ولكن ... هي الأمثال يفهمها اللبيب )
وخطب الحجاج يوما فقال أيها الناس إن الله كتب على الدنيا الفناء

وعلى الآخرة البقاء فلا فناء لما كتب الله عليه البقاء ولا بقاء لما كتب الله عليه الفناء فلا يغرنكم شاهد الدنيا من غائب الآخرة واقهروا طول الأمل بقصر الأجل
وفي بعض الخطب المروية أيها الناس إن الآمال تطوى والأعمار تفنى والأبدان تحت التراب تبلى وإن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد وفي ذلك عباد الله ما يلهي عن الشهوات ويسلي عن اللذات ويرغب في الباقيات الصالحات
وفي بعض الخطب أيضا أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم وإن ذكرتموه في غنى نغصه عليكم فجدتم به فأثبتم إن المنايا قاطعات الآمال والليالي مدنيات الآجال وإن المؤمن بين يومين يوم قد مضى أحصى فيه عمله فختم عليه ويوم قد بقي لعله لا يصل إليه إن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف وقلة غناء ما خلف ولعله من باطل جمعه أو من حق منعه
وقال بعض الحكماء إن للباقي بالماضي معتبرا وللآخر بالأول مزدجرا والسعيد لا يغتر بالطمع ولا يركن إلى الخدع ومن ذكر المنية نسي الأمنية ومن أطال الأمل نسي العمل وغفل عن الأجل
وقال بعض المفسرين في قول الله عز و جل ( فتنتم أنفسكم ) قال بالشهوات واللذات ( وتربصتم ) قال بالتوبة ( وارتبتم ) قال شككتم ( حتى جاء أمر الله ) قال الموت ( وغركم بالله الغرور ) قال الشيطان
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى يزيد بن عبد الملك إياك أن تدركك الصرعة عند الغرة فلا تقال العثرة ولا تمكن من الرجعة ولا يحمدك من خلفت على ما تركت ولا يعذرك من تقدم عليه بما به اشتغلت

وقال بعض البلغاء لا تبت على غير وصية وإن كنت من جسمك في صحة ومن عمرك في فسحة فإن الدهر خائن وكل ما هو كائن كائن
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما منكم من أحد إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة
وقال الحسن البصري رحمه الله يا عجبا لقوم أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل وحشر أولهم على آخرهم وهم مع ذلك قعود يلعبون
وقال بعض الحكماء ليس من الدين عوض ولا من الإيمان بدل ولا من الجسد خلف ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وإن أضمرتم علم وبادروا الموت الذي إن قمتم أخذكم وإن هربتم أدرككم
وكان عبد الله بن ثعلبة يقول في موعظته تضحك يا هذا ولعل أكفانك عند القصار
وقال بعض الحكماء كل يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله وتنطوي عليها صحيفة عمله فخذ من نفسك لنفسك وقس يومك بأمسك وكيف عن سيئاتك وزد في حسناتك قبل أن تستوفي مدة الأجل وتقصر عن الزيادة في السعي والعمل
وفي كلام بعضهم أعلم رحمك الله أن أمانيك سترد عليك وترجع خائبة إليك وان الساعات تهدم في جسدك وربما عاجلتك المنية في ساعتك أو في يومك أو في غدك فأوقفتك على غشك وظلمك وأطالت في كربك وزادت في غمك وأرتك ما لم تعهد وأشهدتك مشهدا ما مثله مشهد
وأنشد
( مرادك لا يصح ولا يتم ... إذا ما كنت للدنيا تدم )
( وما فرقت منها من أمان ... فلست وإن أصبت لها تضم )
( وما تبنيه في دنياك هذي ... ستلقاه من الأيام هدم )

( وجسمك ويك اسرعه انهداما ... وهل يبقى مع الساعات جسم )
( ومن تتبعه تابعة المنايا ... محال أن تبقي منه رسم )
( وليتك لم تكن إلا منون ... يضاعف بينها كرب وغم )
( ولكن بعدها يوم عصيب ... طويل الكرب ذكراه تصم )
( وما تلك الكروب كما عهدنا ... ولا هي ما يعبر عنه فهم )
( فلا تغتر بالأسماء جهلا ... فربت معنيين عليهما اسم )
( يسمى الكوكب الدري نجما ... ومنبسط النبات كذاك نجم )
وقال أبو عبيدة الناجي رحمه الله دخلنا على الحسن البصري رحمه الله في يومه الذي مات فيه فقال مرحبا بكم وأهلا وحياكم الله بالسلام وأحلنا وإياكم دار المقام هذه علانية حسنة إن صدقتم وصبرتم فلا يكونن حظكم من هذا الأمر أن تسمعوه بهذه الآذان وتخرجوه من هذه الأفواه فإن من رأى محمدا صلى الله عليه و سلم رآه غاديا ورائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ولكن رفع له علم فشمر إليه الوحي الوحي النجاء النجاء علام تعرجون ارتبتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معا رحم الله امرأ جعل العيش عيشا واحدا فأكل كسرة ولبس خلقا ولصق بالأرض واجتهد في العبادة وبكى على الخطيئة وفر من العقوبة وطلب الرحمة حتى يأتيه أجله وهو على ذلك
وقال أبو محمد الزاهد خرجنا في جنازة بالكوفة وخرج فيها داود الطائي رحمه الله فانتبذ وقعد ناحية وهي تدفن فجئته فقعدت إليه قريبا منه فتكلم فقال من خاف الوعيد قصر عليه البعيد ومن طال أمله ضعف عمله وكل ما هو آت قريب
واعلم يا أخي أن كل شيء شغلك عن الله فهو عليك مشؤوم وأعلم أن

أهل القبور إنما يندمون على ما يتركون ويفرحون بما يقدمون فما عليه أهل القبور يندمون أهل الدنيا عليه يقتتلون وفيه يتنافسون وعليه يتزاحمون
وقال محمد بن أبي توبة رحمه الله أقام معروف الكرخي رحمه الله الصلاة ثم قال لي تقدم فقلت إن صليت لكم هذه الصلاة لم أصل لكم غيرها فقال لي أراك تحدث نفسك أنك تعيش حتى تصلي صلاة أخرى أعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع من خير العمل
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويل لمن كانت الدنيا أمله والخطايا عمله عظيم بطنته قليل فطنته عالم بأمر دنياه جاهل بأمر آخرته
وقال العلاء بن زياد رحمه الله تعالى لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت وأنه استقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله
وقال بعض الحكماء عجبت ممن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن على نقصان عمره وعجبت ممن الدنيا مدبرة عنه والآخرة مقبلة عليه كيف يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة
وقال بعضهم أيها الناس إن لكم معالم تستبقون إليها وإن لكم موارد تردون عليها وإن الجديدين يسيران بكم وإن لم تسيروا ويسرعان بكم وإن لم تسرعوا وإن قصاراكم الموت وإن بعد الشأو وامتدت الغاية وطال المدى
فرحم الله امرأ أضمر نفسه للسباق وساقها إلى الغاية أشد مساق واستعد للموت قبل هجومه واخذ حذره منه قبل قدومه وانفد دموعه على ما تقدم قبل أن تزل به القدم ويؤخذ بما علم وبما لم يعلم
وأنشد بعضهم من كلمة له
( لمن ورقاء بالوادي المريع ... تشب به تباريح الضلوع )
( على فينانة خضراء يصفو ... على أعطافها وشي الربيع )

( تردد صوت باكية عليها ... رماها الدهر في الأهل الجميع )
( فشتت شملها وأدال منه ... غراما عاث في قلب صريع )
( عجبت لها تكلم وهي خرسا ... وتبكي وهي جامدة الدموع )
( فهمت حديثها وفهمت أني ... من الخسران في أمر شنيع )
( أتبكي تلك إن فقدت أنيسا ... وتشرب منه بالكأس الفظيع )
( وها أنا لست أبكي فقد نفسي ... وتضييعي الحياة مع المضيع )
( ولو أني عقلت اليوم أمري ... لأرسلت المدامع بالنجيع )
( إلا يا صاح والشكوى ضروب ... وذكر الموت يذهب بالهجوع )
( لعلك أن تعير أخاك دمعا ... فما في مقلتيه من دموع )
وقال بلال بن سعد رحمه الله يقال لأحدنا تريد أن تموت فيقول لا فيقال له لم فيقول حتى أتوب وأعمل صالحا فيقال له اعمل فيقول سوف أعمل فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل فيؤخر عمل الله تعالى ولا يؤخر عمل الدنيا
وقال بعض الحكماء السعيد من صرف الله أمله إلى ما يبقى وقطعه عما يفنى وأعانه في دار الفناء على عمارة دار البقاء
والويل الطويل والحسرة التي لا تزول لمن أعرض ونأى ولم ينه نفسه عن الهوى وإن كان الكل من الله عز و جل فاللوم متوجه على المقصر وقد بدت عليه علامة البعد وظهرت من أفعاله أمارة الطرد
وقال عيسى بن مريم عليه السلام عجبت لثلاثة لغافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت يطلبه وبان قصرا والقبر مسكنه
وقال بعض الحكماء ما انقضت ساعة من يومك إلا بقطعة من عمرك ونصيب من جسمك

وقال لقمان لابنه يا بني أمر لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك
وقال الحسن رحمه الله ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت مع غفلتهم عنه وما رأيت صدقا أشبه بالكذب من قولهم إنا نطلب الجنة مع عجزهم عنها وتفريطهم في طلبها
وقال بعضهم أيها الناس إن الحكم قد وجب وإن الموت قد اقترب والعمر قد ذهب فكم من آسف عليه وناظر بعين الشفقة إليه وإن في تلاشي العمر ما يقصر عن أمل الأريب ويجمع من هم اللبيب ويرسل من عبرات الكئيب فرحم الله امرأ بكى على نفسه فليس يبكي عليها غيره ونظر إليها فليس ينظر إليها سواه
وأنشدوا
( لبيك على الشبيبة من بكاها ... كما أبكي عليها ملء جفني )
( ومن يك بات ذا حزن عليها ... فمثلي فليبت في فرط حزن )
( ومن يك ساليا يوما فإني ... قطعت علائق السلوان عني )
( عجبت لمن يبكي رسم دار ... عفت أبياتها أو سير ظعن )
( ويترك نفسه يبكي عليها ... وقد جبلت على ضعف ووهن )
( وقد صاح الحمام بها أجيبي ... إلام وفيم ويلك ذا التأن )
( ومن بعد الحمام له حديث ... يريه من العجائب كل فن )
( حديث ما حديث ما حديث ... يبين له اليقين من التظني )
( وعمر ينقضي في غير شيء ... ولكن في المحال من التمني )
( ويعذلني إذا أرسلت دمعا ... على وجنات ذي خسر وغبن )

( ألا يا صاح والبلوى ضروب ... ودعتك للذي تهوى فدعني )
( إذا أنا لم أبك ذهاب عمري ... فمن هذا الذي يبكيه عني )
ولعلك أن تقول لو أني قصرت أملي كما تريده مني وقصر ذلك أمله وذاك أمله وقصر الناس آمالهم وتركوا صناعاتهم وأسباب معيشتهم لخربت الأرض وهلك الناس وفسد هذا العالم
فأقول نعم صدقت لو قصر الناس آمالهم بحيث يتركون صناعاتهم والنظر في معيشتهم وعمارة دنياهم وأجمعوا على ذلك لكان ما قلت ولكنهم لا يفعلون وليس بتقصيرك أنت أملك يقصر الناس آمالهم ولا بزمدك أنت في الدنيا يزهد الناس كلهم فيها فلا تبك يا هذا ولا تشغل نفسك به ولا يمنعك ذلك من تقصير أملك ولا من زهدك وإصلاح عملك وعليك بنفسك فعنها تسأل وبالواجب عليها تطلب
وليس تقصيرك أملك بالذي يمنعك أن تطلب رزقك وإن تشتغل بإصلاح نفسك ومعيشتك وتربية ولدك إلى غير ذلك من جميع منافعك بل تقدر أن تجمع بينهما وذلك أن تنظر بمعونة الله عز و جل لك وتثبيته إياك إلى غير ذلك من سبب معيشتك
فإن كان مما يتكرر كل يوم عملت فيه يومك وأخذت منه قوتك ولم تعول على أنك تعيش غدا فإن أصبحت غدا عملت كذلك أيضا
وكذلك إن كان سببك مما يتم بعد أيام كثيرة أو يكون مما ينظر فيه السنة كلها كالزراعة وغيرها نظرت فيه على كماله ولم تعول على أن تدرك إبانه وأن تبلغ وقته وأوانه فإن بلغته كان الذي أردت وإن اخترمتك المنية دونه كان ما عملت منه معونة لغيرك وتسهيلا لمن يأتي من بعدك
وتقدر أن تعمل السبب الذي يكون فيه معيشتك كما وصفت لك وتقصر أملك عن تمامه سواء كان السبب مما تعمل فيه سنة أو يوما أو أقل وكذلك سائر الناس لو كانوا هكذا لما هلكوا ولا خربت الأرض ولا فسد هذا

العالم كما قلت لكنه كان يقل فرحهم بالدنيا وسعيهم لها واغتباطهم بها وكانوا يتركون تشييد البنيان وتنضيده وزخرفته وتنجيده ويدعون التأنق في ملابسهم ومراكبهم إلى غير ذلك من جميع أمورهم ويجتزئون من الدنيا بما أمكن ويأخذون منها ما تيسر ويقتصرون على ما يبلغ فتقل تبعتهم ويهون حسابهم ويخرجون من الدنيا خفافا يقدرون على قطع عقبات الآخرة وسلوك طرقها الضيقة وسبلها الشاقة ويسهل عليهم الأمر هنالك
وأما قصر الأمل حتى تترك الصانعات وأسباب المعيشة فإنما يصح في بعض الأشخاص وفي القليل من الناس بمؤنته ونظر له سواه في معيشته سنة الله عز و جل مع المتوكلين وعادته مع المنقطعين ويبقى أولئك مع آمالهم والنظر في أعمالهم فإن الأمل رحمة من الله تعالى تنتظم به أسباب المعاش وتستحكم به أمور الناس ويتقوى به الصانع على صناعته والعابد على عبادته
وإنما يذم من الأمل ما امتد وطال حتى أنسى العاقبة والمآل وثبط عن صالح الأعمال
يروى أن الله عز و جل لما مسح ظهر آدم عليه السلام فاستخرج ذريته قالت الملائكة رب لا تسعهم الأرض
قال الله عز و جل إني جاعل موتا قالت الملائكة لا يهنأهم العيش قال إني جاعل أملا
وقال الثوري رحمه الله بلغني أن الإنسان خلق أحمق ولولا ذلك ما هنأه العيش
ويروى أن عيسى عليه السلام كان جالسا وبين يديه شيخ يعمل بمسحاة في أرض له فنظر إليه وقال اللهم انزع الأمل من قلبه فطرح

الشيخ المسحاة في الأرض وقعد فقال عيسى عليه السلام اللهم رد عليه أمله فقام الشيخ إلى مسحاته ورجع إلى عمله فدعاه عيسى عليه السلام فقال أيها الشيخ لم طرحت مسحاتك ثم رجعت إليها فقال يا روح الله بينما أنا أعمل بمسحاتي إذ قلت في نفسي وإلى متى هذا العمل وإلى متى هذا التعب ولعل الموت يأتيني في هذه الساعة فطرحت المسحاة وقعدت فبينما أنا قاعد إذ تفكرت في نفسي وقلت لعل الموت لا يأتيني في هذا الوقت وأنا محتاج إلى قوت يقيمني وغذاء يمسك بنيتي ولا بد من العمل فقمت إلى مسحاتي ورجعت إلى عملي
وقال مطرف بن عبد الله رحمه الله لو علمت متى أحلي لخشيت ذهاب عقلي ولكن الله من على عباده بالغفلة عن الموت ولولا الغفلة عنه ما تهنأوا بعيش ولا قامت الأسواق
وقال الحسن رحمه الله الغفلة والأمل نعمتان عظيمتان على ابن آدم ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق يريد لو كانوا من التيقظ وقصر الأمل وخوف الموت بحيث لا ينظرون في معايشهم وما يكون سببا لحياتهم لهلكوا وكذلك أراد مطرف رحمه الله
ويروى أن المفضل بن فضالة رحمه الله تعالى سأل ربه أن يرفع عنه الأمل فاستجاب له فترك الأكل والشرب ولم تستقم له عبادة فدعا ربه أن يرد عليه أمله فرده عليه فرجع إلى طعامه وشرابه
وقال ابن المهدي رحمه الله من قوى أمله قل عمله ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله غير أنه لا بد من أمنية وأمل تحيا بهما النفس ويقوي بهما القلب وتعمر بهما الدنيا
وقال سعيد بن عبد الرحمن إنما عمرت الدنيا بقلة عقول أهلها يريد أنهم بقلة عقولهم انصرفت هممهم عن الآخرة وأقبلت على الدنيا فعمروها واشتغلوا بها
وأنشدوا

( خذ من الآمال ما احتجت إليه ... ففضول المرء محسوب عليه )
( كان مالا أو كلاما أو هوى ... أو فآمال مشت بين يديه )
( ولدنياك فويه شبم ... وقديما شاقنا ذاك الفويه )
( ولأخراك وإن طال المدى ... موقف يسلك إحدى جهتيه )
( وإذا لم تك أعددت له ... نلت ما تكرهه من عدتيه )
( و صروف الدهر تخبر قبل ذا ... بأمور ركبت في طيتيه )
( ورأى الإنسان طرفا لهما ... فمضى يعمل فيه صفتيه )
( وإلى كم أنت في سكر الهوى ... وإلى كم أنت مأسور لديه )
( وكلا الدارين تحتاج له ... ويمين المرء أقوى عضديه )
( فلتبادر ما هو الأولى بمن ... صرفت عامله الريح لديه )
( ورآه الموت فانقض له ... كعقاب خر من جو عليه )
واعلم رحمك الله أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الإكباب عليها غير متيسر فإن حب الدنيا هو سبب طول الأمل فيها والإكباب عليها يمنع من الفكرة في الخروج منها والجهل بغوائلها وعواقبها يحمل على الإرادة لها والازدياد منها لأن من أحب شيئا أحب الكون معه والازدياد منه ومن كان مشغوفا بالدنيا محبا لها حريصا عليها قد خدعته بزخرفها و أمالته برونقها وسحرته بزينتها كيف يريد مفارقتها أم كيف يحب مزايلتها هذا أمر لم تجر العادة به ولا حدثنا عنه بل تجد من كان على هذه الصفة أعمى عن طريق الخير أصم عن داعي الرشد قليل الرأي سيء النظر ضعيف الإيمان لم تترك له الدنيا ما يسمع به ولا ما يرى الحقائق بواسطته إنما دينه وشغله وحديثه دنياه لها ينظر ولها يسمع ولها يعطي ولها يأخذ قد ملأت عينه وقلبه وأذنه

كما قال القائل
( ملأت قلبه غرورا وفتنه ... واصمت عن الحقيقة أذنه )
( ورمت عينه ببرقة سحر ... طمستها فما يرى ما أجنه )
( لم تدع فيه مطمعا لسواها ... فهواها لديه فرض وسنة )
( أي خداعة تعلق منها ... إنها إنها وإنه إنه )
( فأطرحها فما إخالك إلا ... مثله فالكلام شعر وجنة )
فتجده قد طول أمله ومد المسافة بين يديه فإن كان شابا قال أنا صغير والأيام بين يدي وأين حتى أبلغ ستين سنة أو سبعين سنة وأنا محتاج إلى الزوجة والزوجة تحتاج إلى كذا وكذا وإذا كانت الزوجة كان الولد وكانت البنت واحتاج الولد إلى كذا وكذا واحتاجت البنت أيضا إلى كذا وكذا وهذا كله إنما يكون بالمال وإن لم يكن لي مال لم أصل إلى مرغوب ولم أظفر بمطلوب وإن قعدت عن الطلب احتجت إلى الناس فإذا احتجت إلى الناس احتقرت واستخف بي وجهل قدري كما قال القائل
( والمرء لا يصغر مقداره ... إلا إذا احتاج إلى الناس )
وترى فلانا قد اكتسب وجمع وتزوج وتمتع وظفر بالمراد ووصل إلى ما أراد وفلان كذلك
ولا يقول ترى فلانا كان شابا مثلي وأراد ما أردت وسعى فيما سعيت فمات قبل أن يصل إلى إرادته واختطف قبل أن يحصل على مطلبه
ولا يقول ترى فلانا طلب واجتهد فلما اجتمع له ما اجتمع سرق منه أو اعتدى عليه فاغتصب أو عطب في رجوعه إلى بلده وانصرافه إلى وطنه فمات في عطبته وهلك في نكبته
أو ترى فلانا خرج محزونا مسلوبا فقيرا حسيرا

وترى فلانا كذلك وفلانا كذلك
إنما يعرض على نفسه ويجرى على خاطره من بلغ إلى إرادته وصل إلى أمنيته لأن ذلك هو الذي غلب على قلبه وشغف بحديثه فتراه يسعى ويرغب ويحرص ويطلب ويزفر ويكد في حدور وصعود وطلوع وهبوط آناء الليل وآناء النهار ولا يقر به قرار ولا تضمه في أكثر الأوقات دار وكلما فرغ من شغل أخذ في آخر مما يحتاج إليه بل لا يفرغ من شغل إلا وقد عرضت له أشغال ولا يصل إلى أمل إلا انبعث له آمال
فيمني نفسه بالأماني الباطلة ويحدثها بالأحاديث الكاذبة
فإن وصل إلى حظ من المال ونصيب وافر من الكسب مما يمكن أن يعيش به عمره كله أو طعن في السن وقيل له يا فلان أرح نفسك ودع جسمك فهذا الذي عندك يكفيك قال يا أخي لا تقل هذا الليل والنهار بين يدي ولا يكفيهما قليل ولن يدوما على أحد إلا أذهبا ما في يده وأخذا ما كان عنده ولا يدري ما يكون والآفات كثيرة والإمراض متوقعة والحاجة إلى الناس صعبة لا سيما مع الكبر ولا سيما إن كان الأهل والولد
فيقيم العذر لنفسه ويطلب لها الحجة ويوجد لها الدليل ويصحح لها بزعمه التأويل
فإن ذكر بالموت أو حدث بموت إنسان قال إنا لله وإنا إليه راجعون والله إني لفي غفلة والله إني لفي غرور والله إن هذه لمصيبة لا يدري الإنسان متى يخترم ولا متى يختطف ولا متى تفجؤه المنية وتحل به هذه الرزية وتنزل به هذه المصيبة
هكذا قولا بلا فعل وكلاما بلا نية ولو كان عن صدق نية وصحة طوية لظهر ذلك عليه وبدت مخايله منه

وربما وعد نفسه ومناها وطمعها في التوبة ورجاها وقال لو جئت من هذه السفرة أو لو بنيت هذه الدار أو لو جمعت ما كان لي متفرقا أو لو جهزت هذه البنت أو هذا الولد وأدخلته بيته ونظرت له فيما يعيش به لتفرغت للنظر لنفسي وقدمت ما أجده في رمسي وكنت من داري إلى مسجدي ومن مسجدي إلى داري ولا أنظر في شيء ولا اشتغل في شيء
فإن جاء من سفرته تجهز لغيرها وإن فرغ من بنيان داره نظر فيما يصلح لها وإن جمع ماله نظر في تفريقه في الوجه الذي ينميه ويزيد فيه وإن جهز ولدا بقي له آخر وإن لم يكن له آخر قال ما تريد تريد أن آكل ما عندي وأرجع إلى ولدي حتى يطعمني ويكسوني ويعولني لا يكون هذا أبدا الموت في القفار ولجج البحار أهون علي من هذا فهو هكذا أبدا لا مع المال ولا دون المال ولا مع الولد ولا دون الولد
يحدث الناس عن الأموات ولا يحدث نفسه أنه يموت ويشيع جنائزهم ولا يتخيل أن جنازته تشيع ويقدر لنفسه العيش الطويل ولا يقدر لها الموت القريب قد غلب عليه السهو وأطبقه الجهل وسدت عليه الغفلة طرق الإنابة وصرفته عن أسباب الفكرة
كم رأى من إنسان قد أعد ثوبا ليلبسه فكان كفنه وكم رأى ممن يبني دارا ليسكنها فكانت قبره وكم رأى من آخر كان يحب الولد ويشتهيه ويتضرع إلى الله عز و جل ويرغب إليه فيه فلما أعطيه ومن عليه بن جمع عليه الرجال وأنفق عليه الأموال وقال العقيقة سنة والنفقة فيها حسنة وربما كانت إلى الإسراف أقرب وإلى التبذير أميل وربما كانت نفقته سببا للمناكر وسلما لبعض المعاصي على روية منه ومشاهدة لذلك كما جرت العادة في الأعراس والولائم والاجتماعات فيجعل الإسراف شكرا لتلك النعمة والمعصية جزاء لتلك المنة
ولعل الولد يموت بعد ذلك بأيام أو بأشهر أو بأعوام أو يعيش فيرى فيه من الأمراض والأسقام وأنواع الابتلاء والامتحان ما يود معه أنه هو لم يكن فكيف ولده هذا أمر مشاهد في العيان موجود بالبرهان ولعله إن شب

وبلغ فيه الأمل ورأي له من العمر ذاك الذي كان أمل صار له أعدى الأعداء وكان منه أبعد البعداء كما قد سمع بجماعة قتلهم أولادهم ليستعجلوا ميراثهم أو ليصير لهم الملك بعدهم ونعوذ بالله من أمر لا يستخار الله فيه ولا يرد إليه عند تمنيه
وكذلك إن كان صاحب تجارة في سوقه وملتزما في دكانه إنما هو من الحانوت إلى الدار ومن الدار إلى الحانوت ومن الصباح إلى المصباح ومن البكرة إلى آخر الرواح
وإن كان ممن يصلي في المسجد ويكثر التعاهد له قل ما يخلو فيه مع ربه ويتنصل من ذنبه إنما هو في الحديث مع فلان والضحك مع فلان والسؤال عن أحوال الإخوان وما جرى في البلدان وما اتفق في القديم من الأزمان
وربما أخرجه ذلك إلى الغيبة وكثير من البهتان
وكذلك صاحب الصنعة والضعيف من الحرفة إنما هو في كد وعناء وتعب وشقاء ونصب وبلاء وكده وجهده ولذته وأمنيته أن يكسو ظهره ويشبع بطنه أو يقوم على عيال أو يغدو على أطفال مع شكايته لربه وتسخطه لحكمه وتبرم بقضائه وقلة صبره على بلائه ولا يحدث نفسه بموت ولا يخطر بباله زوال ولعله إن ذكر الموت إنما يذكره متمنيا له ليريحه من ذلك العذاب العاجل الذي عذب به وذلك البلاء النازل الذي نزل عليه قد شغله ما لقي في الحال عن النظر في المآل وعن التزود من صالح الأعمال فلا هو من أبناء الدنيا المنعمين ولا من طلابها المدركين ولامع الصابرين الراضين الحامدين الشاكرين ولا يزال كل واحد من هؤلاء على حاله مواظبا ولما هو فيه ملازما حتى يموت على ما هو عليه ثم يبقى في البرزخ على ما كان عليه ثم يبعث على ما بقي عليه في البرزخ أو تتغمده الرحمة وتغشاه المنة فيستنقذه ربه تعالى من هذه الغمرات ويأخذ بيده من هذه الهلكات ويجعل له نورا

يمشي به في الظلمات على ما يرجى من منته وفضله لا رب غيره ولا معبود سواه
وربما كان الرجل مبخوتا من أول عمره إلى آخره فيولد في نعمة ويتربى في نعمة وينشأ في نعمة تمد عليه ظلالها وتطول من خلفه أذيالها ويجدد عليه في كل حين إسعادها وإقبالها قد صار لوالديه دينا ودنيا فله يقومان وله يقعدان وله يهتمان وله يجمعان وبعينيه ينظران وبأذنيه يسمعان ثم يموتان ويسلمان له تلك النعمة بكمالها ويتركانها له على حالها لم يسمع له فيها أنين ولا عرق له فيها جبين فيبقى هو على ما كان عليه يمد في تلك النعمة يديه ورجليه ويفتح لها عينيه وأذنيه فما شاء من لذة نال في الحال وأخرى تنتظر في المآل كلما نال لذة سعى في الأخرى وكلما وصل إلى مطلوب نظر في غيره لم يصحب إلا شكله ولا يسمع إلا قوله ولا رأى إلا عمله وفعله فإن ذكر بالتوبة أو خوف بالموت قال دعنا من هذا وحدثنا في غير هذا هذه سنوات الصبا وأيام الشباب ومنازل اللذات ومرتع الأحباب
كما قال القائل فيه وفي أمثاله
( نال أمورا خاب من نالها ... ثم سعى يطلب أمثالها )
( وواقع الذنب فما هاله ... والباذخات الشم قد هالها )
( وقال هذي سنوات الصبا ... فاسحب على رسلك أذيالها )
( وقم إلى خاتم جريالها ... ففضه واستف جريالها )
( ومن يقل في شأننا قولة ... فخلها في فم من قالها )
( أما ترى القضبان ميالة ... فامدد على رأسك ميالها )
( ومر يستهتر في عصبة ... من شكله تصحب أشكالها )
( أولى له ثمت أولى له ... وتلكم العصبة أولى لها )
( يا ويحه من غافل يا له ... وتلكم يا ويحها يا لها )

وأما أكثر الشباب فيقول إذا كبرت تبت والطلق ممتد والميدان عريض ولا يرى هذا البائس أنه قد شيع إلى الآخرة من كان اصغر منه سنا وأحدث منه بالرحم عهدا قد غرته الشبيبة وخدعته الصحة وتمكنت منه الغرة بما عنده من الثروة والقوة
يقول أنا صحيح ومتى أمرض ومتى أموت ولا يرى المسكين أن الموت في الشباب أكثر وحادثه إليهم فيه أسرع وأن الذي يموت في الهرم قليل وأن الإنسان يموت بغتة وإن لم يمت بغتة مرض بغتة ثم مات كما يروى أن الحسن قيل له إن فلانا مات بغتة فقال ما تعجبكم من ذلك إنه لو لم يمت بغتة لمرض بغتة ثم مات أما يعلم هذا المسكين المغرور ان الأرض كلها مكان للموت وأن الزمان كله وقت للموت لا يختص من الأرض بمكان دون مكان ولا من الزمان بوقت دون وقت فلا يزال هذا المغرور منكبا على شهوته مثابرا على لذته غافلا عن يوم صرعته حتى يؤخذ بما تأخر وما تقدم ويلقى صريعا لليدين والفم إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم تبكيه بواك طال ما من حبها أضحكته وتندبه نوادب طال ما قبل ذلك غنته
وفي مثل ذلك قيل
( تندبه نادبة طال ما ... غنته من قبل وغنى لها )
( ولم يكن يخطر ذا باله ... ولم تكن تخطر ذا بالها )
فانظر رحمك الله كيف يقصر مع هذه الأحوال أمل أو يستقيم معها عمل أو كيف يطمع مع هذه الموانع أن يخرج حب الدنيا من القلب أو يقطع علائقها عن النفس أو يخطر بالخاطر ذكر الموت كلا
حب الدنيا في القلب أرسخ وإخراجها منه أصعب والنفس إليها أميل

وهي بها أشغف وفي طلبها أهلك وأتلف وعن طريق الرشد أبعد وأصرف
وإن حب الدنيا لهو الداء العضال الذي أهلك الرجال وأفسد كثيرا من الأعمال إلا أن تأتي العناية الإلهية والشفاعة الربانية فتصرف الإنسان إلى النظر الصحيح وتحمله على الطريق المستقيم فيرى بعين الحقيقة وصحيح البصيرة أنه لا بد من الموت وإن طال المدى وامتد الطلق وبعدت الغاية وأنه يدفن تحت أطباق الثرى ويرمي به في ظلمات الأرض ويسلط الدود على جسده والهوام على بدنه فتأخذه من قرنه إلى قدمه وقد عدم الطبيب وأسلمه القريب وتركه الولي والحبيب وعرض عليه عذاب السعير وأتاه منكر ونكير ولم يجد هنالك أنيسا إلا عمله ولا صاحبا إلا فعله الذي فعله كما قال القائل
( أسلمني الأهل ببطن الثرى ... وانصرفوا عني فيا وحشتا )
( وغادروني معدما يائسا ... ما بيدي اليوم إلا البكا )
( وكل ما كان كأن لم يكن ... وكان ما حاذرته قد أتى )
( وذاكم المجموع والمقتنى ... قد صار في كفي مثل الهبا )
( ولم أجد لي مؤنسا هاهنا ... غير فجور كان لي أو تقى )
( فلو تراني أو ترى حالتي ... بكيت لي يا صاح مما ترى )
وأما الدنيا فينظر إليها فإن كان ملكا نظر إلى من تقدمه من الملوك وما فعل الدهر بهم كيف فرق جموعهم وشتت جميعهم واقفرت منهم قصورهم وعمرت بهم حفرهم وقبورهم
وينظر إلى أيام ملكه هل يخلو من عدو يكابده أو منازع يكايده أو قتال يكافحه أو مرض يهجم عليه أو خلط سوء يثور معه
وأنه كما قيل تمرة بجمرة إن نال لذة تجرع بعدها غصة وإن أتته فرحة غشيته في أثرها ترحة بل ربما كانت الترحات أكثر من الفرحات والداهية

أكثر من العافية وكلما عظم ملكه عظمت همته وامتد أمله وأراد ما لا يمكن وطلب مالا يجد وقد يأتيه النكد من حيث لا يظن ويدخل معه الهم من حيث لا يحتسب ولو من جارية يحبها أو امرأة يشغف بها فيجعلها قبلته ويصفي لها مودته ويخلص لها محبته ويريد منها مثل ذلك والقلوب قد تتنافر والمزاج ربما يختلف والطباع قد لا تتفق فيرى منها خلاف الذي يريد ويجد عندها غير الذي يطلب ولا يقدر على معاقبتها لأنه إن عاقبها إنما يعاقب نفسه وإن آلمها إنما يؤلم قلبه فتجده يتحمل منها مالا يتحمل من بعض رعيته فبينما هو ملك إذ قد صار مملوكا وبينما هو رئيس إذ قد عاد مرؤوسا
كما قد سمع وتحقق عن بعض الملوك حتى قال أمير المؤمنين هارون الرشيد وقصته مشهورة
( ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان )
( مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصيان )
( ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني )
وقد تكون صادقة في محبتها مخلصة في مودتها فيتهمها في ودادها ولا يصدقها في إخلاصها لشدة كلفه بها وفرط محبته لها لأنه يتخيل أن عيشه لا يطيب وسروره لا يتم وفرحه لا يكون إلا بأن تخلص له المودة من قلبها وتحبه من ذات نفسها وقد تكون له كما يريد فيخلع عنانه معها ويستوي سروره بها فيصاب فيها بمرض أو يفجع فيها بموت فيعود الفرح حزنا والسرور هما
كما يروى في قصة يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين أنه كان مشغوفا بجارية يقال لها حبابة وكانت قد ملأت قلبه وأطاشت عقله وأذهبت لبه ونزلت من نفسه حيث أرادت وحلت منه بالمحل الذي شاءت وكان قد نزل منها بالمكان الذي نزلت منه

فقال يوما لحاجبه لا تأذن اليوم علي لأحد ولا تخبرني بخبر ولو كان فيه ذهاب ملكي
وخلا بجاريته تلك في مجلس أنسه ومكان سروره ومعه من الدنيا ما يكون مع مثله فبينما هما على ما اشتهيا إذ أخذت حبة رمان فأدخلتها في فيها فشرقت بها فتخبطت حتى خرجت روحها بين يديه
فلا تسأل عن حال يزيد وما طرأ عليه وما حل به فقد الصبر والعقل وتوله وتحير وتدله وأكثر الصراخ والبكاء والصياح والعجيج والضجيج ومنع من دفنها وصد عن مواراتها وأقامت على ذلك الحال أياما حتى تغيرت وأنتنت
فاجتمع إليه بنو أمية وعزوه فيها وصبروه عنها وسألوه في دفنها وقالوا له يا أمير المؤمنين هذه فضيحة بنا وسبة علينا وأي فائدة لك في تركها وكم عسى أن تبقى على هذه الحالة وكم عسى أن تدوم على هذه الصفة فلم يزالوا به حتى كلمه النساء ممن يكرم عليه من أهله وسراريه إلى أن أمر بدفنها وخرج في جنازتها على رجليه
فلما دفنت تمثل على قبرها ببيتين لكثير
( وإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد )
( وكل خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد )
ثم أخرجها من قبرها بعد شهر وجعل يعانقها ويقبلها فاجتمع عليه أهله وبنو عمه من بني أمية وقالوا له ما هذا يا أمير المؤمنين والله لئن سمع بهذا لتخلعن من ملكك ولينقضن عليك أمرك وليقومن في مقامك هذا غيرك فأقصر عن هذا الهيمان وسكن من ذلك الهيجان ثم لم يزل واجدا عليها محزونا بموتها إلى أن مات ولم يعش بعدها إلا يسيرا وكذلك غيره وغيره ويروى أنه ما عاش من بعدها إلا تسعة أيام أو نحوها

ويروى أن الهادي أمير المؤمنين كان له جارية تسمى غادر وكانت أحظى من عنده وأغلبهم على قلبه وأملكهم لنفسه وكانت من أحسن الناس وجها وأطيبهم غناء كان إبراهيم الموصلي هو الذي رباها وأدبها وعلمها وباعها بعشرة آلاف دينار
فبينما الهادي يوما يشرب مع ندمائه وهي تغنيهم من وراء الستارة إذ عرض له فكر وسهو وتغير لون وقطع الشراب فقال له ندماؤه مالك يا أمير المؤمنين قال وقع في فكري أني أموت وأن أخي هارون يلي الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي غادر هذه فقالوا له نعيذك بالله يا أمير المؤمنين ويطيل الله بقاءك ونتقدم نحن وهو بين يديك ونموت قبلك فقال لهم ليس هذا مما يزيل ما في نفسي ثم أمر أن يؤتى برأس هارون ثم رجع عن ذلك وأمر بإحضاره فعرفه بما خطر بباله فاستعطفه هارون وجعل يكلمه بما يوجب زوال ما في نفسه ويخضع له ويتذلل فلم يقنع بذلك وقال لا أرضى حتى تحلف لي بكل ما أحلفك به أني إذا مت لم تتزوج جاريتي هذه غادر قال افعل فأحلفه بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق وعتاق وحج راجلا وغير ذلك من الأيمان المؤكدة أنه لا يتزوجها أبدا فحلف له بجميع ذلك فرضي وسكن ذلك الخاطر عنه
ثم قام إلى الجارية ودخل عليها الستر فأحلفها بالأيمان المؤكدة من الحج والعتق والصدقة وما يحلف به النساء أنها لا تتزوجه أبدا قال فلم يلبث بعدها إلا شهرا أو نحوه حتى مات
وولى هارون الخلافة بعده فلما ولي بعث إلى الجارية فخطبها فقالت يا أمير المؤمنين كيف بأيماني وأيمانك قال اكفر عن أيماني وأيمانك وأحج راحلا ففعل وتزوجها فوقعت من قلبه ألطف موقع وشغف بها اشد من شغف أخيه الهادي حتى كانت تسكر وتنام في حجره فلا يتحرك ولا ينقلب حتى تنتبه
فبينما هي ليلة نائمة في حجره إذ انتبهت فزعة مرعوبة فقال لها مالك

فديتك فقالت له رأيت أخاك الهادي الساعة في النوم فأنشدني
( أخلفت وعدي بعد ما ... جاورت سكان المقابر )
( ونسيتني وحنثت في ... أيمانك الكذب الفواجر )
( وحللت في أهل البلى ... وغدوت في الحور الغرائر )
( ونكحت غادرة أخي ... صدق الذي سماك غادر )
( لا يهنك الإلف الجديـ ... ـد ولا تدر عنك الدوائر )
( ولحقت بي قبل الصبا ... ح وصرت حيث غدوت صائر )
قالت ثم ولى عني ولكأنها مكتوبة في قلبي ما نسيت منها كلمة
فقال لها هارون هذه أحلام الشيطان فقالت كلا والله يا أمير المؤمنين ثم اضطربت بين يديه وتخبطت حتى خرجت روحها تلك الساعة
ولا تسل عن هارون وما لقي عليها
وكذلك إن لم يكن ملكا وكان وزيرا أو غير ذلك من أصناف الناس وصفاتهم في تقلب الدنيا بهم معلومة وأحوالهم فيها مشهورة وكل واحد منا يعلم هذا من نفسه ويراه من غيره
وأنه ليس من إنسان إلا وله شرب من الكدر ونصيب من الهم يقل عند إنسان ويكثر عند آخر فإذا أخذ نفسه بهذه الأفكار وعرض عليها هذا الاعتبار أعرض عن الدنيا ولم يلتفت إليها ولا شغل نفسه بها وتذكر الموت وخاف فجأته ولم يأمن بغتته ولم يسمع إلا وجبته ولا رأى إلا صدمته وصرعته والله تعالى ولي التوفيق بفضله وطوله لا رب غيره ولا معبود سواه
وأنشدوا
( سجعت هذه الحمامة سجعا ... فتذكرت أنت إلفا وربعا )
( لا لشيء إلا لأنك ناس ... مصرعا قد تقدمت فيه صرعى )
( وحديثا من بعده وحديثا ... وحديثا يجري فؤادك دمعا )
( يا جهولا وغافلا وظلوما ... كل هذي جمعن عندك جمعا )
( ما لآمالي انتجعت سناها ... حيث لاحت بروقها حيث تسعى )

( خلب أبرد المناهل ماء ... مهمل أجذب المراتع مرعى )
( شغلت نفسك اللجوج وأعمت ... منك عينا وأثقلت منك سمعا )
( فتخطيت بالدواء أساة ... لم يروا للدواء عندك نجعا )
( ومحال بأن يرى فيك شحم ... لانتجاع وأنت جسمك ترعى )
واعلم رحمك الله أنه من كان منتظرا لعقاب أن ينزل به من أمير بلدته أو عظيم قريته فإنه لا يزال متألم القلب مشغول النفس وبحسب النوع الذي يخاف من العقاب يكون ألم قلبه وشغل نفسه بها
فإنه من توعده الأمير بأن يضربه مائة سوط فإنه أشغل سرا ممن توعده أن يضربه عشرة أسواط ومن توعده أن يقطع جارحة من جوارحه كان أكثر توجعا ممن توعده بأن يضربه مائة سوط ومن توعده بأن يضرب عنقه كان أشد خوفا ممن وعده بأن يقطع بعض جوارحه وكذلك من توعده بأن يجعل عليه أنواع العذاب ويعاقبه بضروب من العقاب حتى يموت تحتها وتخرج نفسه بها كان أعظم جزعا ممن توعده بضرب عنقه هذا هو المتعارف
فإن وجد إنسان يختار تطويل العذاب ويهون عليه رغبة منه في الحياة ما بين موته بالعذاب وسرعة موته بالسيف فهذا رجل قد غلب عليه الجزع وملك قلبه الهلع فأطاش لبه وأزال عقله حتى منعه من حسن النظر وأوقعه في سيء الاختيار
وما منا أحد إلا وقد توعد بالقتل لأن الموت قتل في الباطن ألا ترى أنه يقال قتل فلان فلانا فيقال بم قتله فيقال بسيف أو بسكين أو بخنجر أو خنقه أو غرقه أو بغير ذلك من أنواع القتل والموت كالخنق فهو إذن قتلة من القتلات وإنما جرت العادة بأن يقال قتل فلان إذا قتله مخلوق وقد يقال قتل الله فلانا وهو قد مات من علة أو مات بغتة ولم يكن لمخلوق في ذلك فعل
فقد بان لك إذن أن كل واحد منا ينتظر القتل ولا فرق بين أن يثب عليك إنسان بسيف أو سكين أو خنجر أو بغير ذلك فيقتلك أو يثب عليك

ملك الموت فيقبض روحك
فلو كشف للناس عن أبصارهم فرأوه حين يثب عليك وشاهدوه في الباطن حين يأخذ روحك لما كان بينه وبين إنسان يقتلك في الظاهر فرق إلا أن الإنسان يحتاج إلى آلة يقتل بها من سيف أو سكين أو غير ذلك والملك لا يحتاج إلى شيء من ذلك
فإن أخذك إنسان وروعك وحبسك للقتل وهددك ثم قتلك فاجعل ذلك الألم الذي تجده من حبسه وترويعه وتهديده كالذي يصيبك من المرض أو مما كان من العلل قبل الموت ثم تموت
ومعلوم أن من الأمراض ما يقوم ألمه مقام التهديد والوعيد بل منها ما هو أشد وأشق كوجع الاحتقان ووجع الحصى وغيرهما وقد شوهد من الناس من مات من وجع الحصى ووجع الاحتقان
وليس القتل الذي هو الضرب بشيء على يد مخلوق ولا ما يكون على يد غير المخلوق كالهدم والغرق والحرق وغير ذلك مما يزيد في شدة الموت ويكثر من ألمه ووجعه لأن هذه كلها أسباب للموت والموت شيء آخر وهو أمر إلهي ينزل بالروح لا يعلم حقيقته إلا الذي ينزل به
قال أبو حامد رحمه الله اعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها على الحقيقة إلا من ذاقها ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس على الآلام التي أدركها وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه فأما القياس الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه لا يحس بالألم فإذا كان فيه الروح أحس فالمدرك للألم هو الروح فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم والمؤلم يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء فلا يصيب الروح إلا بعض الأثر فإن كان في الألم ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده

والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجده في جزء من الروح يلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة وإنما يعظم أثر الاحتراق لأن أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن فلا يبقى جزء من العضو المحرق ظاهرا ولا باطنا إلا وتصيبه النار فيحس به في الأجزاء الروحانية المنتشرة في سائر أجزاء اللحم
وأما الجراحة فإنها تصيب الموضع الذي يمسه الحديد فقط فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار
فألم النزع يهجم على نفس الروح فيستغرق جميع أجزائه فإنه المنزوع والمجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من القرن إلى القدم
فلا تسأل عن كربه وألمه حتى قالوا إن الموت أشد من ضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأن قطع البدن بالسيف إنما يؤلم لتعلقه بالروح فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح
وإنما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوة في قلبه وفي لسانه وإنما انقطع صوت الميت وصياحه من شدة ألمه وكربه لأن الكرب قد بالغ فيه وتصاعد على قلبه شدة ألمه وغلب على كل موضع منه فهد كل جزء وأضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغاثة
أما العقل فقد غشيه وشوشه وأما اللسان فقد أبكمه وأما الأطراف فقد أضعفها
ويود أن لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة ولكنه لا يقدر على ذلك فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبه خوارا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه وأربد حتى كأنه ظهر منه التراب الذي هو أصل خلقته وقد جذب منه كل عرق على حياله فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى ترتفع الحدقتان إلى أعلى جفونه ويتقلص اللسان إلى أصله وترتفع

الأنثيان إلى أعالي موضعهما وتخضر أنامله
فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه ولو كان المجذوب عرقا واحدا لكان ألمه عظيما فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم وليس هو من عرق واحد بل من العروق كلها
ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجا فتبرد أولا قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها الحلقوم فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها وينغلق دونه باب التوبة وتحيط به الندامة والحسرة
ويروى أن العبد يقول لملك الموت عند الموت يا ملك الموت أخرني يوما استعتب فيه وأتوب إلى ربي وأعمل صالحا فيقول له فنيت الأيام فلا يوم فيقول أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة دونه ويحجب عنها وتنقطع الأعمال وتطوى الصحف وتتم الأوقات ويبقي عدد الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء فيحد بصره فإذا كان في آخر نفس يدركه ما سبق له من السعادة فتخرج روحه على الإيمان فذلك حسن الخاتمة أو يدركه ما سبق له من الشقاوة فتخرج روحه على الكفر أو الشك وذلك سوء الخاتمة ونعوذ بالله ثم نعوذ بالله
وأنشد بعضهم
( كأني بنفسي على ضعفها ... تجرع رغما كؤوس الردى )
( وقد كشف الله عنها الغطا ... فحنت هناك لكشف الغطا )
( ومدت إليها يد فظة ... لفظ غليظ شديد القوى )
( فما شئت من نفس ضيق ... وجذب عروق وقطع الحشا )
( ونفس تساق أشد مساق ... فتضغط في لهوات الفتى )
( ولا دافع يرتجى دفعه ... ولا قائل ما به يفتدى )
( ومالي انتصار ولا لي قرار ... ومالي من حيلة ترتجى )

( فدعني ويومي أبكي له ... فحق ليومي بطول البكا ) وأنشدوا أيضا
( يا ندما أندمه ليس في ... ذلك من ريب ولا شك )
( إذا أرسي الموت على لبتي ... وحال بين الفك والفك )
( ولم يكن لي عنه من مخلص ... ولم أكن عنه بمنفك )
( وحشرجت نفسي في صدرها ... كأنها تمخض في مسك )
( وكل ما تدريه من نخوة ... في ومن عجب ومن فتك )
( قد عاد ذاكم كله ذلة ... يظل منها شامتي يبكي )
( وذاكم المال الذي كنت قد ... جمعته من زور ومن إفك )
( قد حيل ما بيني وما بينه ... وزال عن حكمي وعن ملكي )
( غير تبعات تحملتها ... تكثر من همي ومن معكي )
( فكيف لا أندم أو كيف لا ... ملء جفوني بدم أبكي )
( فيا إلهي والذي جوده ... سال لذي الإخلاص والشك )
( رحماك في واهي القوى بائس ... في عيشه من حالة ضنك )
( قد حجبته عنك آثامه ... ورد عن بابك بالصك )
( إن لم ينله عفوك المرتجى ... وتحتويه سعة الملك )
( فاعف إلهي عنه واغفر له ... واعدل به عن هوة الهلك )
( أولا فمن ذا جوده يرتجى ... غيرك أو عن فضله نحكي )
ويروى أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على مريض فقال إني لأعلم ما يلقى ما فيه عرق إلا ويألم للموت على حدته
وكان علي رضي الله عنه يحرض على القتال ويقول إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس محمد بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش

وقال شداد بن أوس الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن وهو أشد من نشر المناشير وقرض المقاريض وغلي في القدور ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت لما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم
ودخل الحسن البصري رحمه الله على رجل مريض فوجده في سكرات الموت فنظر إليه وقال إن أمرا هذا أوله ينبغي أن يتقى آخره وإن أمرا هذا آخره ينبغي أن يزهد في أوله
ويروى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان عنده قدح من ماء عندما نزل به الموت فجعل يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه ويقول اللهم أعني على سكرات الموت وروى يدخل يده في الإناء ويمسح بها وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات وفاطمة ابنتيه رضي الله عنها تقول واكرباه لكربك يا أبتاه وهو يقول لا كرب على أبيك بعد اليوم
ذكره البخاري ومسلم والنسائي وغيرهما ذكر كل واحد منهم أشياء لم يذكرها صاحب على
وعن عيسى عليه السلام أنه قال يا معشر الحواريين ادعوا الله لي أن يهون علي هذه السكرة يعني الموت فقد خفت من الموت مخافة أوقعني خوفي من الموت على الموت
وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إذا بقي على المؤمن نم ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته في الجنة وإن الكافر إذا كان قد عمل معروفا في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار
وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول لوددت أني رأيت رجلا لبيبا حازما قد نزل به الموت فيخبرني عن الموت فلم نزل به الموت قيل له يا أبا عبد الله قد كنت تقول في حياتك وددت أني رأيت رجلا لبيبا حازما قد نزل به

الموت يخبرني عن الموت وأنت ذلك الرجل اللبيب الحازم وقد نزل بك الموت فأخبرنا عنه
فقال أجد كأن السموات أطبقت على الأرض وأنا بينهما وكأن نفسي يخرج من ثقب إبره وكأن غصن شوك يجر من هامتي إلى قدمي
ويروى عن مكحول رحمه الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لو أن شعرة من شعرات الميت وضعت على أهل السموات والأرض لماتوا بإذن الله تعالى لأن في كل شعرة من الميت الموت ولا يقع الموت على شيء إلا مات
وأنشدوا
( ماذا تؤمل والأيام ذاهبة ... ومن ورائك للآمال قطاع )
( وصيحة لهجوم الموت منكرة ... صمت لوقعتها الشنعاء أسماع )
( وغصة بكؤوس أنت شاربها ... لها بقلبك آلام وأوجاع )
( يا غافلا وهو مطلوب ومتبع ... أتاك سيل من الفرسان دفاع )
( خذها إليك طعانا فيك نافذة ... تعدي الجليس وأمر ليس يسطاع )
( إن المنية لو تلقى على جبل ... لأصبح الصخر منه وهو مياع )
ويروى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما مات قال الله عز و جل له كيف وجدت الموت قال كسفود جعل في النار ثم أدخل في صوف رطب ثم جذب فقال الله تعالى أما إنا لقد هوناه عليك يا إبراهيم
ويروى عن موسى عليه السلام أنه لما صارت روحه إلى الله تعالى قال له يا موسى كيف وجدت الموت فقال وجدت نفسي كالعصفور حين يلقى في المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير
ويروى عنه أنه قال وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ
وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار يا كعب حدثنا عن الموت

فقال نعم يا أمير المؤمنين كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنهم كانت فيهم أعاجيب ثم أنشأ يحدث قال خرجت طائفة فأتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله تعالى أن يخرج لنا بعض الأموات فيخبرنا عن الموت قال ففعلوا فبينما هم على ذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر وبين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي فوالله لقد مت منذ مائة سنة وما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت
وفي الخبر أن العبد الصالح ليعالج سكرات الموت وكروبه وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول عليك السلام لا نجتمع إلى يوم القيامة
وأما مشاهدة صورة ملك الموت وما يدخل في القلب منه من الروع والفزع فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله وفظاعة رؤيته ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الذي يشاهده ويطلع عليه وإنما هي أمثال تضرب وحكايات تحكى
يروى أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض بها روح الفاجر فقال لا تطيق ذلك قال بلى قال فأعرض عني ف'رض عنه ثم التفت فإذا هو برجل أسود الثياب قائم الشعر منتن الريح يخرج من فيه ومناخره لهب النار والدخان قال فغشي على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند موته إلا رؤية وجهك لكان ذلك

حسبه
ونظر إبراهيم الزيات رحمه الله إلى أناس يترحمون على ميت فقال لو تترحمون على أنفسكم لكان خيرا لكم إن ميتكم قد نجا من أهوال ثلاثة وجه ملك الموت وقد رآه ومرارة الموت وقد ذاقها وخوف الخاتمة وقد أمنها
ويروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إذا قبض ملك الموت روح العبد قام على عتبة بابه ولأهل البيت ضجة فمنهم الضاربة وجهها ومنهم الناشرة شعرها ومنهم الداعية يا ويلها فيقول ملك الموت فيم هذا الجزع فوالله ما انتقصت لأحد منكم عمرا ولا أخذت لأحد منكم رزقا ولا ظلمت أحدا منكم حقا فإن كانت شكايتكم وتسخطكم علي فإني والله مأمور وإن كانت على ميتكم فإنه مقهور وإن كانت من ربكم فأنتم به كفرة ولي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحدا
قال فلو سمعوا كلامه ورأوا مكانه لشغلوا عن ميتهم وبكوا على أنفسهم
وأنشد بعضهم
( بكى لأن مات ميت من عشيرته ... وقال واحربا وصاح يا هربا )
( وبات فوق حشاه للأسى لهب ... إذا أراد خبوا فار والتهبا )
( ولو رأى بصحيح العقل حين رأى ... وكشف الله عنه للهوى حجبا )
( لما رأى الدهر ميتا أو أحس به ... إلا بكى نفسه المسكين وانتحبا )
( ومن رأى السمر في جنبيه شارعة ... أنى يراها بجنب ناء أو قربا )
( وطلعة الموت أن تطلع على أحد ... أرته في نفسه من هولها عجبا )
ولعلك تقول قد ذكرت من هول الموت وشدته وكربه وغصته وأنه أشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض وأن هو أنه وقد شاهدنا من بعض

الأموات ما يدل على أن الموت ليس كما وصفت وأنه إنما هو كأس يسهل على إنسان ويصعب على آخر وقد رأينا من الأموات من يتحدث فيوصي ويشهد بماله وبما عليه ونفسه تخرج من قدميه إلى صدره أو إلى حلقه وهو على حاله في وصيته وإشهاده وربما ظن من رآه فجأة أنه لا بأس عليه ولا موت عنده ثم يموت كذلك وما هذه صفة من ينشر بالمناشير ويقرض بالمقاريض ويفعل به ويفعل به ولو كان كذلك لمنعه ألم النشر ووجع القرض وكرب الموت عن الكلام والإشهاد وعن الوصية بأن يدفن في موضع كذا وكذا وأن يكفن في ثوب كذا وكذا
ولو كان كما قلت فقد رأينا من سرعة خروج بعض الأرواح ما لو كان في الميت أضعاف ما قلت من الشدة لما كان يبالي في ذلك لسرعة خروج روحه وعجلة استلابها
نعم للموت عند الأكثر مقدمات من الآلام والأمراض والأسقام يبلغ منه المبالغ قبل الموت ثم يموت وقد تنزل تلك الأمراض والإسقام بآخر فتشرف به على اليقين وتريه المنون قبل المنون ثم تقلع عنه فلا يبقى لها أثر وكأنه ما سمع لها بخبر
فأقول صدقت والأمر كما قلت وقد شوهد في بعض الأموات ما ذكرت وقد علم أن الموت يهون على بعض الناس ويسهل عليه وبعضهم أو أكثرهم يشدد عليه ويغص به فمن أي الفريقين أنت ممن يهون عليه أو ممن يصعب عليه فلا بد لك من أن تشرب بأحد الكأسين وترمى بأحد السهمين لا بد لك من ذلك فما الذي يؤمنك أن تطعم أضره وتسقى أمره وتصلى أشقه وأحره ما الذي أمنك من هذا وكيفما كان فالموت شربه كريه وكأس مرة حتى إن الإنسان لو عرض عليه مقعده من الجنة وقيل له تموت ثم تصير إليه ربما انقبض عن ذلك وان جمع عندما يذكر له الموت
كما روى عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله أن وليا من أولياء الله عز و جل تبدي له ملك الموت فأخبره برضا الله عز و جل عنه وبشره بالجنة وأنه يموت في وقت قريب حده له

قال سهل فقلت له كيف وجدت نفسك عند ذكر الموت فقال أصابتني قشعريرة ثم مات الرجل في الوقت الذي حد له
وقد تقدم لك أن النبي كان عند الموت يدخل يده في قدح فيه ماء ويمسح به وجهه ويقول اللهم هون علي سكرات الموت
وقال عمر بن صبيح السعيدي رأيت عبد العزيز بن سليمان العابد في منامي بعد موته وعليه ثياب خضر على رأسه إكليل من لؤلؤ فقلت له يا أبا محمد كيف كنت بعدنا وكيف وجدت طعم الموت وكيف وجدت الأمر هناك فقال أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمه ولكن رحمة الله تعالى سترت منا كل عيب وما نلتها إلا بفضله
وأيضا فإنك لا تدري بما تسمع نغمة الملك الوارد عليك من ربك ولا بماذا يبشرك ولا بد لك من إحدى البشريين والإعلام بمنزلك الذي كتب لك من إحدى الدارين ولا بد لك من أن يقرع سمعك قوله إما يا ولي الله أبشر بالجنة وإما يا عدو الله أبشر بالنار
وهذا هو الذي قطع قلوب الخائفين وأسال عبرات التائبين وأسهر ليالي العابدين
وإن كنت من جملة الخاطئين وأصحاب الكبائر من المسلمين فلا بد أن يفتح لك الباب الذي تلج منه ويظهر لك العمل الذي تسأل عنه
وقد تقدم الحديث الصحيح عن الله عز و جل إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه وإذا كره عبدي لقائي كرهت لقاءه
وإن هذه المحبة وهذه الكراهية لا تكون إلا عند الموت ذكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وهذا موضع ذكرى تتفتت لها الأعضاد وتتصدع لها الأكباد
وسأذكر لك جملة من كلام المرضى والمحتضرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الصالحين وغيرهم من المغترين والجهلة المخدوعين لعله يحرك منك ساكنا ويخوف منك آمنا ويشغلك بعون الله ظاهرا وباطنا

ويروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه مرض فقيل له ألا ندعو لك طبيبا فقال قد رآني فقالوا وأي شيء قال لك قال قال إني فعال لما أريد
ومرض أبو الدرداء رضي الله عنه فقالوا له أي شيء تشتهي قال الجنة قالوا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني فقال له رجل من أصحابه يا أبا الدرداء أتشتهي أن أسامرك الليلة فقال أبو الدرداء أنت معافى وأنا مبتلى فالعافية لا تدعك أن تسهر والبلاء لا يدعني أن أنام أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يهب لأهل العافية الشكر ولأهل البلاء الصبر
ولما اشتد المرض على عمر بن عبد العزيز جاءوه بطبيب فلما دخل عليه ورآه قال إنه قد سقي السم ولا آمن عليه الموت فرفع بصره عمر وقال لا يؤمن أيضا الموت على من لم يسق السم فقال الطبيب وهل أحسست بذلك يا أمير المؤمنين فقال نعم عرفت ذلك حين وقع في بطني قال تعالج يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن تذهب نفسك فقال عمر ربي تبارك وتعالى خير مذهوب إليه والله لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني ما رفعت إليه يدي اللهم خر لعمر في لقائك فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى مات رضي الله عنه
ومرض الربيع بن خثيم رضي الله عنه فقالوا له ألا ندعو لك طبيبا فتفكر وقال أين عاد وثمود وأصحاب الرس وقرون بين ذلك كثير قد كانت فيهم الأدواء والأطباء فلا أرى المداوي بقي ولا المداوي كل قد قضى ومضى والله لا أدعو لي طبيبا أبدا
وذكر ابن جهضم في كتابه عن أبي يعقوب يوسف بن أحمد قال خرجت إلى مكة على طريق البصرة ومعي جماعة فقراء وفيهم شاب كنت أميل إليه لحسن سمته ومراعاة حاله واشتهاره بذكر ربه وكثرة مناجاته

وتملقه فلما وصلنا إلى المدينة شرفها الله تعالى مرض مرضا شديدا وانفرد عنا فسرت إليه مع جماعة من أصحابنا نتعرف خبره فلما رأينا شدة ما به قال بعضنا لو أحضرنا له طبيبا ينظر إليه ويرى علته فلعله يكون عنده دواء فاستمع الشاب مقالته فتبسم من ذلك وقال يا مشايخي ويا أحبابي ما أقبح المخالفة بعد الموافقة من أراد الله له حالا وأراد هو غيرها أليس قد خالف الله في إرادته قال أبو يعقوب فخجلنا من كلامه فنظر إلينا وقال لو علمتم داء القتيل لطلبتم لدائه دواء إن الأمراض والأسقام فيها تطهير وتكفير وتذكير ودواء القتيل مشاهدة النفس وموافقة الهوى
ثم أنشأ يقول
( بيد الله دوائي ... وبعلم الله دائي )
( إنما أظلم نفسي ... باتباعي لهوائي )
( كلما داويت دائي ... غلب الداء دوائي )
فقمنا من عنده وتركناه يريد بقوله داء القتيل الداء الذي يقتل صاحبه وهو اتباع الهوى
وقيل لحسان بن أبي سنان في مرضه كيف تجدك قال أجدني بخير إن نجوت من النار
وقال بعض الصالحين دخلنا على مغيرة الخراز وهو مريض فقلنا له كيف تجدك فقال أجدني موقرا بالآثام فقلنا له فما تشتكي قال الحسرة على طول الغفلة قلنا فما تشتهي قال الإنابة إلى ما عند الله والنقلة عما يكرهه الله قال فبكى القوم جميعا
ودخل الحسن البصري على عطاء السلمي وهو مريض فوجده قد علاه الغبار والصفار فقال يا عطاء لو خرجت إلى صحن الدار فكان يضربك

الهواء فتجد له راحة فقال له يا أبا سعيد وبهذا تأمرني إني لأستحي من الله عز و جل أن أخطو خطوة في راحة بدني
وقال منصور دخلت على عطاء السلمي بعد هذا أعوده وهو مريض فرأيته يتبسم فعجبت من ذلك فكأنه فهم عني
فقال أتعجب يا ابن أخي فقلت وكيف لا أعجب فقال وكيف لا اضحك وقد دنا فراقي ممن كنت أخافه وأحذره ودنا قدومي على خالق كنت أرجوه وآمله أتجعل مقامي مع مخلوق أخافه كقدومي على خالق أرجوه قال هذا قبل أن يحضره وينزل به الموت
قال أحمد بن أبي الحواري دخلت على بعض المتعبدين وهو مريض فقلت كيف تجدك فقال بحال شريفة أسير كريم حبيس جواد مع أعوان صدق والله لو لم يكن لي مما ترون عوضا إلا ما أودع قلبي من محبته لكنت خليقا أن أدوم على الرضى عنه وما الدنيا وما غاية البلاء فيها هل هو إلا ما ترون من هذه العلة ويوشك إن اشتد بي الأمر أن يدخلني إلى سيدي ولنعمت العلة رحلت بمحب إلى محبوب قد أحزنه طول التخلف عنه
ويروى أن مالك بن دينار رحمه الله دخل على شاب يعوده فوجده خيالا على فراشه كالشن البالي فسأله عن حاله فلم يستطع الجواب بلسانه فأشار بطرفه فبينما نحن كذلك إذا بصوت المؤذن فسمعناه يقول كما يقول المؤذن ويشير بأصبعه عند الشهادتين ثم أمر ولده فوضاه ثم أمره أن يوجهه إلى القبلة ليصلي راقدا بالإيماء ثم قال يا مالك البلاء منه سبحانه راحة مع بقاء الإيمان يا مالك نعمه لا تعد وبلاؤه واحد قال مالك فتعجبت من يقينه وصبره وصدق وفائه وخالص محبته فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات رحمه الله
وقال عبد الله بن عتبة عدت رجلا مريضا فلما قعدت عنده قلت له كيف تجدك فقال

( خرجت من الدنيا وقامت قيامتي ... غداة أقل الحاملون جنازتي )
( وعجل أهلي حفر قبري وصيروا ... خروجي وتعجيلي أجل كرامتي )
( كأنهم لم يعرفوا قط صورتي ... غداة أتى يومي علي وساعتي )
ولما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاءته ابنته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فلما رأته تمثلت بهذا البيت
( لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر )
فكشف أبو بكر عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد
ثم قال في كم كفن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية فقال أبو بكر خذوا هذا الثوب لثوب كان عليه قد أصابه مسك أو زعفران فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين وكان ثوبا خلقا فقالت عائشة رضي الله عنها ما هذا تريد أنه خلق فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هذه للمهل يريد الصديد والقيح ثم سمع منشدا في البيت ينشد
( وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل )
فالتفت إليه أبو بكر رضي الله عنه وقال ذاك رسول الله صلى الله عليه و سلم وصدق أبو بكر فهذا البيت قاله أبو طالب عم رسول الله في قصيدته التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال فيها
( وما ترك قوم لا أبالك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل )
( وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل )

( يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل )
كذا قال أبو طالب يلوذ به الهلاك من آل هاشم ولم يدر أنه صلى الله عليه و سلم يلوذ به الهلاك من بني آدم
( ويروى عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال لما احتضر أبو بكر الصديق رضي لله عنه أتاه ناس من أصحابه فقالوا له يا خليفة رسول الله إنا نراك ألم بك فأوصنا بوصية وزودنا منك بموعظة فقال من قال هذه الكلمات ثم مات جعل الله روحه في الأفق المبين فقالوا وما الأفق المبين قال قاع بين يدي العرش فيه رياض وأشجار وانهار فمن قال هذا القول جعله الله في ذلك المكان
اللهم إنك ابتدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم ثم جعلتهم فريقا للنعيم وفريقا للسعير فاجعلني للنعيم ولا تجعلني للسعير اللهم إنك خلقتهم وميزتهم قبل أن تخلقهم فجعلت منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا فلا تشقني بمعاصيك اللهم إنك علمت ما تكسب كل نفس قبل أن تخلقها ولا محيص لهم مما علمت فاجعلني ممن تستعمله بطاعتك اللهم إن أحدا لا يشاء إلا ما تشاء فاجعل مشيئتي أن أشاء ما يقربني إليك اللهم إنك قدرت حركات العباد فلا يتحرك شيء إلا بإذنك فاجعل حركاتي في تقواك اللهم إنك خلقت الخير والشر وجعلت لكل واحد منهما عاملا يعمل به فاجعلني من خير القسمين اللهم إنك خلقت الجنة والنار وجعلت لكل واحدة منهما أهلا فاجعلني من ساكني جنتك اللهم إنك أردت الضلال بقوم وضيقت به صدورهم فاشرح صدري للإيمان وزينه في قلبي اللهم إنك دبرت الأمور فجعلت مصيرها إليك فأحيني حياة طيبة وقربني إليك زلفى اللهم من أصبح وأمسى ثقته ورجاؤه غيرك فأنت ثقتي ورجائي ولا حول ولا قوة إلا بك
قال أبو بكر وهذا كله في كتاب الله عز و جل
وقال الشعبي رحمه الله لما طعن عمر رضي الله عنه أتي بلبن فشرب منه

فخرج اللبن من طعنته فقال الله أكبر وعلم أنه يموت فجعل جلساؤه يثنون عليه خيرا فقال وددت أن أخرج من الدنيا كفافا كما دخلت لا علي ولا لي والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع
ولما احتضر غشي عليه ورأسه في الأرض فوضع ابنه عبد الله رأسه في حجره فلما أفاق قال له ضع رأسي على الأرض كما أمرتك فقال له ابنه يا أبت وهل الأرض وحجري إلا سواء قال ضع رأسي على الأرض كما أمرتك فوضعه
قال فمسح خديه بالتراب ثم قال ويل لعمر ويل لعمر ويل لأم عمر إن لم يغفر الله لعمر فإذا قضيت فأسرعوا بي إلى حفرتي فإنما هو خير تقدمونني إليه أو شر تضعونه عن رقابكم
ولما احتضر عثمان بن عفان رضي الله عنه جعل يقول ودمه يسيل لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم إني أستعين بك على أموري وأسألك الصبر على بلائي
ولما احتضر سلمان الفارسي رضي الله عنه بكى فقيل له ما يبكيك قال والله ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب فلما مات نظر في جميع ما ترك فإذا قيمته ثلاثون درهما وقد كان أميرا على المدائن مدائن كسرى
ويروى أن امرأته قالت وهو في الموت واحزناه فقال سلمان بل واطرباه غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه
ومثل هذا الققول يرولاى أيضا عن بلال رضي الله عنه أنه قال عند موته غدا نرى الأحبة محمدا وحزبه
ويروى أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما دنا منه الموت دعا بحرسه ورجاله فلما دخلوا عليه قال هل تغنون عني من الله شيئا قالوا لا قال فافترقوا عني ثم دعا بماء فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم قال احملوني إلى المسجد

ففعلوا فقال استقبلوا بي القبلة ففعلوا فقال اللهم إنك أمرتني فعصيت وائتمنتني فخنت وحددت لي فتعديت اللهم لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر بل مذنب مستغفر لا مصر ولا مستكبر ثم قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فلم يزل يرددها حتى مات
وقوله لحرسه ورجاله هل تغنون عني من الله شيئا إنما فعل ذلك تصغيرا لنفسه وتحقيرا وليريها رؤية مشاهدة أن الذين كانوا يغنون عنه في الدنيا لا يغنون عنه عند نزول الموت شيئا
ويروى أن ابنه عبد الله قال له يا أبت ما كنت أظن أن ينزل بك أمر من الله إلا صبرت عليه فقال يا بني نزل بأبيك ثلاث خصال فراق أحبته وانقطاع أمله والثالثة هول المطلع ثم قال اللهم إنك أمرت فتوانيت ونهيت فعصيت اللهم من شيمتك العفو والتجاوز
ولما حضرت معاوية بن أبي سفيان الوفاة رضي الله عنه قال أقعدوني فأقعدوه فجعل يذكر الله تعالى ويسبحه ويقدسه ثم قال الآن تذكر ربك يا معاوية بعد الانحطام والانهدام ألا كان ذلك وغصن الشباب نضير ريان وبكى حتى علا بكاؤه ثم قال
( هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع )
ثم قال يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي اللهم أقل العثرة واغفر الزلة وجد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا وثق بأحد سواك ثم قال لابنه يزيد يا بني إذا وفى أجلي فاعمد إلى المنديل الذي في الخزانة فإن فيه ثوبا من أثواب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقراضة من شعره وأظفاره فاجعل الثوب مما يلي جسدي واجعل أكفاني فوقه واجعل القراضة في فمي وأنفي وعيني فإن نفعني شيء فهذا فإذا جعلتموني في قبري فخلوا معاوية وأرحم الراحمين
ويروى أنه قال في جملة ما قال يا ليتني كنت رجلا من سائر قريش بذي طوى ولم أل من هذا الأمر شيئا
ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال يبكيني بعد

المفازة وقلة الزاد وضعف اليقين والعقبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار
ولما حضرت حذيفة بن اليمان الوفاة قال اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر وقيام الليل ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء في حلق الذكر ولما اشتد به النزع جعل كلما أفاق من غمرة فتح عينيه وقال يا رب شد شداتك واخنق خنقاتك فوعزتك إنك لتعلم أني أحبك
ومثل هذا يروى عن محمد بن المنكدر رضي الله عنه أنه لما نزل به الموت بكى فقيل له ما يبكيك فقا ل ما أبكي حرصا على الدنيا ولا جزعا من الموت ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وقيام ليالي الشتاء
وكذلك يروى عن عامر بن قيس
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه لما حضر وقد نزل به الموت ليعاين الناس غدا من عفو الله وسعة رحمته ما لم يخطر على قلب بشر
كشف له رضي الله عنه عن سعة رحمة الله وكثرة عفوه وعظم تجاوزه ما أوجب أن قال هذا
ولما دنت الوفاة من عمر بن عبد العزيز رحمه الله بكى فقيل له ما يبكيك يا أمير المؤمنين أبشر فقد أحيا الله تبارك وتعالى بك سنة وأظهر عدلا فبكى ثم قال أليس أوقف ثم أسأل عن هذا الخلق والله لو عدلت فيهم لخفت أن لا تقوم نفسي بحجتها عند الله تعالى إلا أن يلقنها حجتها ويثبتها فكيف بكثير مما ضيعت ثم بكى
ويروى عن فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز هذا أنها قالت كنت أسمع عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه يقول اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار فلما كان اليوم الذي مات فيه خرجت من عنده فجلست في بيت قريب منه بيني وبينه باب فسمعته يقول

( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
ثم بعد ذلك هدأ فلم أسمع له حركة ولا كلاما فقلت لو صيف لنا انظر إلى أمير المؤمنين ما صنع فلما دخل عليه صاح فأسرعت إليه فإذا هو ميت رحمه الله
ويروى أنه لما قرب موته قال أجلسوني فلما أجلسوه قال اللهم أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت قالها ثلاث مرات فإن عفوت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت ثم قال لكن أرجو خيرا بقولي لا إله إلا الله محمد رسول الله
ثم أحد النظر فقيل له في ذلك فقال أرى حضرة ما هم بإنس ولا جان ثم خرج من كان عنده فلم يلبث إلا قليلا حتى مات رضي الله عنه
ويروى أنه قيل له وقد اشتد مرضه أوصنا يا أمير المؤمنين فقال أحذركم هول مصرعي هذا
ويروى أنه دخل عليه قبل أن يموت بأيام ابن أبي زكريا أو أحد الفقهاء فتذاكرا الآخرة فبكى عمر وبكى الرجل ثم دعوا الله جميعا وسألاه أن يقبضهما إليه جميعا فجاء ابن صغير لعمر يدب فقال عمر وهذا معنا فإني أحبه فماتوا ثلاثتهم قريبا أو في جمعة واحدة
ويروى عن عبد الملك بن مروان أنه لما حضره الموت نظر في موضع له مشرف إلى رجل وبيده ثوب وهو يضرب به المغسلة فقال يا ليتني كنت مثل هذا الرجل أعيش من كسب يدي يوما بيوم ولم أل من هذا الأمر شيئا
وقال له رجل كيف تجدك يا أمير المؤمنين قال تجدني كما قال الله تبارك وتعالى ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم )
ويروى أنه قال عند موته أيضا يذم الدنيا إن طويلك لقصير وإن كبيرك

لصغير وإن كنا منك لفي غرور
ولما حضرت الوفاة أبا جعفر المنصور أمير المؤمنين تمثل بهذه الأبيات
( المرء يأمل أن يعيـ ... ـش وطول عيش قد يضره )
( تبلى بشاشته ويبـ ... ـقى بعد حلو العيش مره )
( وتحزنه الأيام حتـ ... ـى لا يرى شيئا يسره )
( كم شامت بي أن هلكـ ... ـت وقائل لله دره )
ثم قال للربيع هذا السلطان لا سلطان من يموت ثم قال اللهم إني ارتكبت الجرائم من الذنوب جرأة عليك وأطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة إن لا إله إلا الله منا منك لا منا عليك اللهم اجعل ذلك قربة لي عندك ثم مات من ساعته
وعن محمد بن منصور البغدادي قال دخلت على عبد الله بن طاهر وهو في سكرات الموت فقلت السلام عليك أيها الأمير فقال لا تسمني أميرا وسمني أسيرا ولكن أكتب عني بيتين ما أراهما إلا آخر بيتين أقولهما ثم أنشأ يقول :
( بادر فقد أسمعك الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت )
( من لم تزل نعمته قبله ... زال عن النعمة بالموت )
ولما نزل الموت بهشام بن عبد الملك أمير المؤمنين نظر إلى أولاده وأهله يبكون حوله فقال لهم جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء وترك لكم هشام ما جمع وتركتم عليه ما اكتسب ما أعظم منقلب هشام وما أسوأه إن لم يغفر الله له
وكان أمير المؤمنين هارون الرشيد ينتقي أكفانه بيده وينظر إليها ويقول ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه
ويروى عن الأصمعي أنه قال دخلت على هارون الرشيد فرأيته ينظر في الكتاب ودموعه تسيل على خديه فوقفت حتى سكن وحانت منه التفاتة فنظر إلي وقال اجلس ثم رمى بالقرطاس إلي فإذا فيه شعر لأبي العتاهية

( الخلق مختلف جواهره ... ولقل ما تزكو سرائره )
( ولقل من تصفو إرادته ... وصح باطنه وظاهره )
( الناس في الدنيا ذوو ثقة ... والدهر مسرعة دوائره )
( والموت لو صح اليقين به ... لم ينتفع بالعيش ذاكره )
( لا خير في الدنيا لذي بصر ... عميت لما فيها نواظره )
( وسبيلنا في الموت واحدة ... يتلو أكابره أصاغره )
( من كان للصالحات مدخرا ... فستستبين غدا ذخائره )
( يا من يريد الموت مهجته ... لا شك مالك لا تبادره )
( هل أنت معتبر بمن خربت ... منه العداة معا دساكره )
( وبمن أذل الدهر مصرعه ... فتبرأت منه عشائره )
( وبمن خلت منه أسرته ... وبمن خلت منه منابره )
( درست محاسن وجهه ونفى ... عنه النعيم ثرى يباشره )
( أين الملوك وأين غيرهم ... صاروا مصيرا أنت صائره )
( يا مؤثر الدنيا للذته ... والمستعد لمن يفاخره )
( نل ما بدا لك أن تنال من الد ... نيا فإن الموت آخره )
ثم قال الرشيد والله لكأني المخاطب بهذا دون الناس قال فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات
وقال أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي رحمه الله لما اشتدت علة هارون الرشيد وسار إلى طوس هون الأطباء عليه علته وحقروا أمرها فأرسل ماءه في قارورة مع جملة قوارير فعرضت على متطبب فارسي كان هناك فجعل ينظر إليها قارورة قارورة ويقول ما يقول حتى أتى على القارورة التي فيها ماء هارون الرشيد فنظر فيها فقال عرفوا صاحب هذا الماء أنه هالك بعد ثلاث فمروه فليوص فأنه لا برء له من علته هذه فأتى الغلام هارون فقال له ما قال لك فجمجم الغلام ولم يبين فعزم عليه فأخبره بما قال وقال قال عرفوا صاحب هذا الماء أنه هالك بعد ثلاث فبكى هارون بكاء شديدا وتمايل على فراشه

وجعل ينشد
( إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مقدور القضا )
( ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى )
( ذهب المداوي والمداوي والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى )
واشتد ضعفه عندما سمع كلام الطبيب وأرجف الناس بموته فلما بلغه ذلك دعا بحمار ليركبه فلما صار عليه سقط ولم يقدر أن يثبت على السرج فقال صدق المرجفون ثم دعا بأكفان فنشرت بين يديه فجعل يختار منها ما يصلح
ثم أمر بقبره فحفر فلما اطلع عليه جعل يقول ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه
ومثل هذا القول مروي عن أبي شجاع فناخسرو بن عضد الدولة يروى أنه لما نزل به الموت لم يسمع منه إلا قوله ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه ويروى أنه قال قبل ذلك شعرا يمدح به نفسه منه قوله
( ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر )
( غالبات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر )
( مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر )
( عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر )
قال أبو منصور الثعالبي لم يفلح بعد هذا البيت يعني قوله عضد الدولة الخ
ولما حضرت أمير المؤمنين المأمون الوفاة أمر بجل دابته ففرش له فاصطجع عليه ووضع الرماد على رأسه وجعل يقول يا من لا يزول ملكه ارحم اليوم من قد زال ملكه
ويروى أنه قيل له في صباه إنك تموت في أرض يقال لها مد رجلك فلما ولي الخلافة وأقام ما أقام غزا بلاد الروم فلما انصرف من غزاته نزل بموضع فيه عين ماء عظيمة لها قعر عميق فاطلع فيها فرأى في قعرها حوتا

كبيرا فأمر به فأخرج وجعل بين يديه فانتفض الحوت انتفاضة فرشه بما كان عليه من الماء فأخذته قشعريرة وحم فسأل عن اسم الموضع الذي هو فيه فذكر له اسم أعجمي قال فسروه ففسروه مد رجلك فلما سمع ذلك تفكر فيما قيل له فأيقن بالموت فأمر بجل دابته ففرش له فاضطجع عليه وأمر أن يطاف به على هذه الحالة وأمر المنادي أن يقول هذا القول يا من لا يزول ملكه ارحم اليوم من قد زال ملكه
وكان المعتصم أخوه يقول عند موته وكان قد ولي بعده لو علمت أن عمري هكذا قصير ما عملت ما عملت وجعل يقولها ويبكي
ولما حضرت المنتصر الوفاة جعل يضطرب فقالوا لا بأس عليك يا أمير المؤمنين فقال تقولون هكذا لا بأس عليك ذهبت عني الدنيا والآخرة وتقولون لا بأس عليك
ولما حضرت أمية بن أبي الصلت الوفاة أغمي عليه ثم أفاق وجعل يقول
( لبيكما لبيكما ... ها أنذا لديكما )
لا برىء فأعتذر ولا قوى فأنتصر ثم أغمى عليه وأفاق فجعل يقول
( إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما )
ثم أغمي عليه وأفاق فأنشأ يقول
( كل عيش وإن تطاول دهرا ... فمصيره إلى أن يزولا )
( ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا )
ولما حضرت عبد الله بن علي الوفاة قال ما إغفلني أمس عن مصرعي اليوم
وقال أبو سليمان الداراني دخلنا على عابد وقد حضره الموت وهو يبكي فقلنا له ما يبكيك رحمك الله فأنشأ يقول

( وحق لمثلي بالبكا عند موته ... ومالي لا أبكي وموتي قد اقترب )
( ولي عمل في اللوح أحصاه خالقي ... فإن لم يجد بالعفو صرت إلى العطب )
وقال عبد الله بن العلاء شهدت أعرابيا قد نزل به الموت فشخص ببصره ثم قال
( كل آت فإنه سوف يأتي ... أنت يا يموت هاذم اللذات )
( يرحم الله أعظما باليات ... أصبحت في عساكر الأموات )
ويروى أن ابن المنكدر رحمه الله عندما نزل به الموت بكى فقيل له ما يبكيك فقال والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ولكني أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبا حسبته هينا وهو عند الله عظيم
وقد روى عنه كلام آخر يدل على علو منزلته وارتفاع درجته
وقيل لجابر بن زيد عند موته ما تشتهي فقال نظرة إلى الحسن فجاء الحسن فلما دخل عليه قيل له هذا الحسن فرفع طرفه وقال يا إخوتاه الساعة أفارقكم إما إلى الجنة وإما إلى النار
وقال الحجاج بن يوسف الثقفي عند موته اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون أنك لا تفعل فكان عمر بن عبد العزيز تعجبه هذه الكلمة
وذكر ذلك للحسن البصري فقال أقالها قالوا نعم قال عسى
وقال سليمان التيمي دخلت على بعض أصحابنا وهو في الموت فرأيت من جزعه ما ساءني فقلت هذا الجزع كله لماذا وقد كنت تحمد الله على كذا يعني على حالة صالحة فقال ومالي لا أجزع ومن أحق مني بالجزع والله لو أتتني المغفرة من الله عز و جل لأهمني الحياء منه فيما أفضيت به إليه
وقال بعض الصالحين لغلامه وقد حضره الموت يا غلام شد كتافي وعفر بالتراب خدي ففعل الغلام ثم قال دنا الرحيل اللهم لا براءة لي من ذنب ولا عذر لي فأعتذر به ولا قوة فانتصر بها ثم قال أنت لي ثلاثا ثم صاح صيحة ومات

فسمعوا صوتا يقول في البيت استكان العبد لمولاه فقبله وأدناه
ولما حضرت محمد بن سيرين الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال أبكي لتفريطي في الأيام الخالية وقلة عملي للجنة العالية وما ينجيني من النار الحامية
ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال انتظر رسولا من ربي يبشرني بالنار أو بالجنة
وقال حماد بن سعيد بن أبي عطية المذبوح لما حضر أبا عطية الموت جزع فقالوا له أتجزع من الموت فقال وما لي لا أجزع وإنما هي ساعة فلا أدري أين يسلك بي
ولما حضرت الوفاة فضيل بن عياض رحمه الله غشي عليه ثم أفاق وقال يا بعد سفري وقلة زادي
وكان عامر بن قيس يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فلما حضره الموت بكى فقيل له ما يبكيك قال أبكي لقوله تعالى ( إنما يتقبل الله من المتقين )
وقد تقدم عنه كلام آخر قاله عند الموت أيضا ولما نزل الموت بسليمان التيمي قيل له أبشر فقد كنت مجتهدا في طاعة الله تعالى فقال لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من الله عز و جل فإنه يقول سبحانه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قال بعضهم عملوا أعمالا كانوا يظنون أنها حسنات فوجدوها سيئات
وكان الجنيد يقرأ القرأن وهو في سياق الموت ويصلي فختم فقيل له في مثل هذه الحال يا أبا علي فقال ومن أحق مني بذلك وها هو ذا تطوى صحيفة عملي ثم كبر ومات

وقيل له قل لا إله إلا الله فقال ما نسيته فأذكره
ولما نزل الموت ببشر الحافي وكان على عليائه من العبادة والزهادة شق عليه وساءه ذلك فقيل له أتحب الحياة يا فلان فقال يا قوم القدوم على الله شديد
ولما حضر أبا سليمان الداراني الموت قال له أصحابه أبشر فإنك تقدم على رب غفور رحيم فقال لهم ألا تقولون تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير
فأبو سليمان هذا غلب عليه الخوف في هذه الحالة فتكلم عن حاله
وقيل لرويم عند الموت قل لا إله إلا الله فقال ما أحسن غيرها وكان رويم هذا من الصالحين ويروى أنه كان يدعو الطير فتجيبه
واحتضر بعض الصالحين فبكت امرأته فقال ما يبكيك قالت عليك أبكي قال إن كنت باكية فابكي على نفسك فأما أنا فقد بكيت على هذا اليوم منذ أربعين سنة
ولما حضرت أبا علي الروذباري الوفاة وكان رأسه في حجر ابنته فاطمة ففتح عينيه ثم قال هذه أبواب السماء قد فتحت وهذه الجنان قد زخرفت وهذا قائل يقول يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها ثم قال
( وحقك لانظرت إلى سواك ... بعين مودة حتى أراك )
( أراك معذبي بفتور لحظ ... وبالخد المورد من حياك )
( أراك منعمي بجميل ظن ... وبالأمن المكرم من رضاك )
( فلو قطعتني في الحب إربا ... لما نظر الفؤاد إلى سواك )
وكان أبو علي هذا ممن يعبد الله لذاته وكان يقول لا أريد الجنة ونعيمها إنما أريدك يا رب

وكذلك كان ممشاد الدينوري لما نزل به الموت جعل بعض المشايخ يدعو له فضحك وقال منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما نظرت إليها
ويروى أن بعض الصالحين ضحك عند موته وقال صادق يا وفي وفيت لي وما وفيت لك
ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه لما احتضر نظر إلى السماء فضحك ثم قال لمثل هذا فليعمل العاملون
ومثل هذا يروى عن بعض أصحاب ابن فورك وكان من الصالحين الكبار المجتهدين أنه لما نزل به الموت شخص ببصره إلى السماء ثم قال يا ابن فورك لمثل هذا فليعمل العاملون
وفتح ابن بنان عينيه عند الموت فقال ارتع فهذا مرتع الأحباب وخرجت روحه
ولما نزل الموت بأبي يعقوب النهرجوري رحمه الله قال له أبو الحسن المزين قل لا إله إلا الله فتبسم أبو يعقوب وقال إياي تعني وعزة من لا يذوق الموت ما بيني وبينه إلا حجاب العزة ثم خرجت روحه من ساعته
وكان أبو الحسن يأخذ بلحية نفسه ويقول يا حجام مثلك يلقن أولياء الله الشهادة وكان إذا ذكر هذه القصة بكى
وقال الجنيد دخلت على سري السقطي رحمه الله تعالى عند الموت وكان ممن أحرق قلبه الخوف فقلت له كيف تجدك فقال كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
قال الجنيد فأخذت المروحة لأروح عليه فقال كيف يجد روح المروحة من قلبه يحترق ثم أنشد
( القلب محترق والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق )
( كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الأسى والشوق والقلق )
ثم ذكر الله تعالى ومات رحمه الله
وقيل لذي النون عند موته ما تشتهي فقال أشتهي أن أعرفه تبارك وتعالى قبل موتي بلحظة

لم يقل هذا القول ذو النون المصري رحمه الله لجهله بالله تعالى لكنه كان يستقل معرفته وصدق في هذا فشأن الله أجل وأعظم من أن يحاط بمعرفته أو يبلغ كنه وصفه
ويروى عن عبد الله بن شبرمة أنه قال دخلت مع عامر الشعبي على مريض نعوده فوجدنا لما به ورجل يلقنه الشهادة ويقول له
قل لا إله إلا الله وهو يكثر عليه فقال له الشعبي ارفق به فتكلم المريض وقال إن يلقني أو لا يلقني فإني لا أدعها ثم قرأ ( وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ) فقال الشعبي الحمد لله الذي نجى صاحبنا
وحكى أن قوما من أصحاب الشبلي قالوا له عند موته قل لا إله إلا الله
فأنشد
( إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج )
( وعليلا أنت زائره ... قد أتاه الله بالفرج )
( وجهك المأمول حجتنا ... يوم تأتي الناس بالحجج )
( لا أتاح الله لي فرجا ... يوم أدعو منك بالفرج )
يريد الشبلي أن القلب إذا امتلأ واشتغل بعظمة الله وجلاله لم يحتج إلى منبه ينبهه ولا إلى مذكر يذكره
ويروى أن الجنيد بن محمد دخل على بعض المشايخ فوجده في سياق الموت فقال له الجنيد قل لا إله إلا الله فنظر إليه الشيخ شزارا فأعاد عليه الجنيد فلم يقلها فأعاد عليه فلم يتكلم فقال له الشيخ يا جنيد تذكرني بالتوحيد وأنا منذ ثلاثين سنة أبكي عليه ولا أسلو عنه يا جنيد إني مشاهد

حبيبي ومستأنس به
ويروى أن إبراهيم بن أدهم دخل على بعض العباد يعوده فوجده في الموت أو في مقدمات الموت فجعل العابد يتنفس ويتأسف فقال له إبراهيم علام تتأسف رحمك الله فقال ما تأسفي على النقلة من دار الدنيا دار الأحزان والأسقام والخطايا والذنوب ولكن أسفي على يوم أفطرته أو ليلة نمتها أو ساعة غفلت عن ذكر الله فيها ولكن يا أخي إن وقع في هذا تقصير فلم يقع في التوحيد تقصير ما عبدت سواه ولا وحدت غيره ولا سكن في قلبي محبة شيء إلا محبته
ودخل المزني على الشافعي رحمهما الله في مرضه الذي مات فيه فقال كيف أصبحت يا أبا عبد الله فقال أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا ولسيء عملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا وعلى ربي تبارك وتعالى واردا ولا أدري روحي للجنة فأهنيها أو للنار فأعزيها ثم أنشد
( ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما )
( تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما )
( فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منه وتكرما )
( فلولاك لم يغو بإبليس عايد ... وكيف وقد أغوى صفيك آدما )
وقال عطاء بن يسار رحمه الله تعالى تبدى إبليس لعنه الله لعابد عند الموت فقال له نجوت يا هذا فقال ما أمنتك بعد
ولما حضرت الحسن بن هانئ الوفاة أنشد
( دب في السقام سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا )
( ليس من ساعة مضت بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا )
لهف نفسي على ليال وأيا ... م قضيتهن لعبا ولهوا )
( قد أسأت كل الإساءة فالـ ... لهم صفحا وغفرانا وعفوا )

ولما حضرت الوفاة أحمد بن خضرويه سئل عن مسألة فقال يا بني باب أدقه منذ خمس وسبعين سنة وها هو ذا يفتح لي الساعة ولا أدري بما يفتح لي بالسعادة أم بالشقاوة فآن لي أوان الجواب
ويروى عن مالك بن دينار أنه دخل على جار له وقد نزل به الموت فقال له الرجل يا مالك إني أرى جبلين من نار وأنا أكلف الصعود عليهما قال مالك فسألت امرأته عن حاله فقالت كان له مكيالان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر قال فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر فكسرتهما ثم قلت له ما ترى قال ما أرى الأمر يزداد إلا شدة
وروى أن رجلا نزل به الموت وعند رأسه صندوق فيه مال فجعل يشير إليه ويقول النار في الصندوق النار في الصندوق
ويروى أن طلحة بن عبيد الله القرشي عاد مريضا فوجده في الموت فسمع صوتا وهو يقول
( ناد رب الدار ذا المال الذي ... جمع المال بحرص ما فعل )
فأجابه آخر
( كان في دار سواها نائما ... عللته بالمنى ثم انتقل )
ويروى أنه ما من ميت يموت إلا ويكلمه ملكاه اللذان يكتبان عمله في الدنيا فإن كان مطيعا قالا له جزاك الله من صاحب خيرا فرب كلام حسن قد أسمعتناه ورب مجلس خير قد أجلستناه ورب عمل صالح قد أحضرتناه فنحن لك اليوم على ما تحب
وإن كان فاجرا قالا له جزاك الله من صاحب شرا فرب كلام قبيح قد أسمعتناه ورب مجلس سوء قد أجلستناه ورب عمل سوء قد أحضرتناه فنحن لك اليوم على ما تكره

الباب الأول
من أخبار الأموات عند الموت
...
ذكر مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع الملك إلى الله عز و جل فقال إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله عليه عينه وقال ارجع إلى عبدي فقل له الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال ثم مه قال ثم تموت قال فالآن من قريب رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فوالله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر
وروى أن عيسى عليه السلام مر برأس ميت فضربه برجله وقال تكلم بإذن الله تعالى فتكلم وقال يا روح الله أنا ملك زمان كذا وكذا بينا أنا جالس على سرير ملكي علي تاجي وحولي حشمي وخدمي وجندي إذ تبدى لي ملك الموت فزال مني كل عضو على حياله وخرجت نفسي إليه فيا ليت ما كان من تلك الجموع كان فرقة ويا ليت ما كان من ذلك الأنس وحشة
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال كان داود عليه السلام رجلا غيورا وكان إذا خرج غلق الأبواب فغلق ذات يوم أبوابه وخرج فأشرفت امرأته فإذا برجل في الدار فقالت من ادخل هذا دارنا لئن جاء داود

فرآه ليلقين منه عنتا فجاء داود فرآه فقال من أنت فقال أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنعني الحجاب قال فأنت إذن والله ملك الموت ثم قبض روحه
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه قال كان إبراهيم عليه السلام غيورا وكان له بيت يتعبد فيه فإذا خرج أغلقه فخرج ذات يوم بعدما أغلق بابه فإذا هو برجل في جوف البيت فقال له من أدخلك دارنا قال ادخلنيها ربها فقال أنا ربها قال ادخلنيها من هو أملك لها منك فقال له إبراهيم من أنت من الملائكة قال ملك الموت فقال له هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن قال نعم فأعرض عني فأعرض عنه فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه وطيب ريحه فقال يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك لكان حسبه ثم قبض روحه
قال وهب بن منبه كان ملك من الملوك أراد الخروج إلى أرض له فلبس أحسن ثيابه وركب إفره دوابه وخرج في خاصته وجنوده ورجاله فنفخ الشيطان فيه نفخة ملأه كبرا وعجبا فكان يمشي ولا يلتفت إلى أحد من الناس كبرا و إعجابا بنفسه فتصدى له رجل رث الهيئة فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ولا التفت إليه فأخذ بلجام دابته فقال له ويلك لقد تعاطيت أمرا عظيما كف يدك عن اللجام فقال له أنا ملك الموت فتغير لون الملك ودهش واضطرب لسانه وقال سألتك إلا ما تركتني حتى أرجع إلى أهلي وأودعهم وأقضي حاجتي منهم فقال لا والله لا رأيت أهلك أبدا وقبض روحه فخر كخشبة ملقاة
ثم لقي آخر في مثل حاله إلا أنه كان متواضعا فتعرض له فسلم عليه فرد عليه السلام فقال له إن لي إليك حاجة وأريد أن أذكرها لك في أذنك فقال هات فأعطاه أذنه قال أنا ملك الموت فقال له مرحبا بمن طالت

غيبته علي فوالله ما كان غائب أحب إلي من أن ألقاه منك فقال له ملك الموت اقض حاجتك التي خرجت إليها قال لا هذه الحاجة أهم حوائجي ومالي حاجة أهم علي ولا أحب إلي من لقاء الله عز و جل قال فاختر على أي حالة تريد أن أقبض روحك قال وتقدر على ذلك قال بذلك أمرت قال فدعني حتى أتوضأ وأصلي وتقبل روحي وأنا ساجد قال نعم فتوضأ وصلى ثم قبض روحه في سجوده
وقال بكر بن عبد الله جمع رجل من بني إسرائيل مالا فلما أشرف على الموت قال لبنيه أروني أصناف أموالي التي جمعت فأتي بشيء كثير فلما رآه بكى تحسرا فقال له ملك الموت ما يبكيك فوالله ما أنا بخارج من منزلك حتى أفرق بين روحك وبدنك فقال له أمهلني حتى أفرقه قال هيهات انقطعت المهلة فهلا كان هذا قبل حضور أجلك ثم قبض روحه
ويروى أن رجلا جمع مالا فأوعى ولم يدع صنفا من أصناف المال إلا اتخذه ثم ابتنى قصرا وجعل عليه حجابا وحراسا ثم جمع أهله وعياله وصنع لهم طعاما وقعد على سريره ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهم يأكلون ثم قال يا نفسي تنعمي سنين فقد جمعت لك ما يكفيك فما فرغ من كلامه حتى أقبل ملك الموت في هيئة رجل عليه خلقان من الثياب فقرع الباب بشدة عظيمة فوثب إليه الغلمان فقالوا له ويلك ما شأنك ومن أنت فقال ادعوا إلي مولاكم قالوا إلى مثلك يخرج مولانا
قال نعم فأخبروا مولاهم فقال هلا فعلتم به وفعلتم فقرع الباب قرعة أشد من الأولى فوثب إليه الحرس فقال أخبروه أني ملك الموت فلما سمعوه ألقى عليهم الرعب ووقع على مولاهم الذل والخشوع فقال قولوا له يدخل وقولوا له قولا لينا فدخل فقال له اصنع بمالك ما أنت صانع فإني لست بخارج عنك حتى أخرج بنفسك فأمر بماله فجمع فلما رآه قال لعنك الله من مال فأنت شغلتني عن عبادة ربي ومنعتني عن النظر لنفسي فأنطق الله عز و جل المال فقال لم تسبني وبي جلست مجالس الملوك وبي نكحت المتنعمات وبي

فعلت وفعلت وكنت تنفقني في سبيل الشر فلا أمتنع منك ولو أنفقتني في سبيل الخير وطريق البر لنفعتك اليوم ثم قبض ملك الموت روحه فسقط ميتا
وقال يزيد الرقاشي بينما جبار من جبابرة بني إسرائيل في منزلة قد خلا ببعض أهله إذ رأى شخصا قد دخل عليه من باب بيته فوثب عليه مغضبا فقال له ويلك من أنت ومن أدخلك داري وما حملك على الهجوم علي في بيتي فقال له أما الذي أدخلني الدار فربها أنا الذي لا يمنعني الحجاب ولا استأذن على الملوك ولا أخاف صولة السلاطين فأسقط في يد الجبار وأرعد حتى سقط منكبا على وجهه ثم رفع رأسه إليه مستخذيا متذللا فقال له فأنت إذن ملك الموت قال أنا هو قال فهل أنت ممهلني حتى أحدث عهدا قال هيهات انقطعت مدتك وانقضت أنفاسك ونفدت ساعاتك فليس إلى إمهالك سبيل قال فإلى أين أذهب قال إلى عملك الصالح الذي قدمت وإلى بيتك الحسن الذي مهدت قال فإني لم أقدم عملا صالحا ولا مهدت بيتا حسنا قال فإلى لظى نزاعه للشوى ثم قبض روح فسقط بين أهله فمن صارخة تصرخ وباكية تبكي
قال يزيد ولو يعلمون سوء المنقلب لكان العويل أعظم والبكاء أكثر

الباب الثاني
ما يستحب من أحوال الميت عند الموت وفي تلقين الشهادتين للمسلم وغيره وما
يستحب للمسلم من الرجاء وحسن الظن بالله عند الموت
اعلم رحمك الله أن المحبوب من حال الميت عند الموت أن يعلوه الهدوء والسكون ومن لسانه الكلمة بالشهادتين ومن قلبه حسن الظن بالله تعالى
وذكر الترمذي من حديث بريدة بن حصيب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال المؤمن يموت بعرق الجبين ويروى في خبر أنه قال ارقبوا الميت عند ثلاث إذا رشح جبينه وإذا ذرفت عيناه ويبست شفتاه فذلك من رحمه الله نزلت به وإذا غط غطيط المخنوق واحمر لونه واربدت شفتاه فهو من عذاب الله نزل به
وأما انطلاق لسانه بالشهادتين فهو علامة الخير ودليل السعادة وأمارة الاتصال بالحضرة الإلهية
وذكر أبو داود من حديث معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة
وذكر أيضا من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات وهو

يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة
وذكر أيضا من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله
وذكر مسلم من حديث عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة
ومن غير كتاب مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال حضر ملك الموت رجلا فنظر في عمله فلم يجد له شيئا ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقا بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر الله له بكلمة الإخلاص
وقال عمر رضي الله عنه احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله فإنهم يرون ما لا ترون
وذكر مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيدان له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم به هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك
فأنزل الله عز و جل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم
وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء

ويروى عن أنس بن مالك أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي فمرض فأتاه صلى الله عليه و سلم يعوده فقعد عند رأسه فعرض عليه الإسلام فقال له أسلم فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده فقال له أبوه أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار
ذكر هذا الحديث البخاري وأبو داود وغيرهما
وينبغي أن لا يلح على الميت بتلقين الشهادتين قال ابن المبارك لقنوا الميت لا إله إلا الله فإن قالها فدعوه ولأنه يخاف عليه إذا ألح عليه بها أن يبرم ويضجر ويثقلها الشيطان عليه فيكون ذلك سببا لسوء الخاتمة
ذكر أبو بكر الدينوري في كتاب المجالسة عن الحسن بن عيسى قال لما حضرت ابن المبارك الوفاة قال لنصر مولاه أجعل رأسي على التراب قال فبكى نصر فقال ما يبكيك قال ذكرت ما كنت فيه من النعيم وأنت هذا تموت فقيرا غريبا فقال اسكت فإني سألت الله أن يحييني حياة السعداء ويميتني ميتة الفقراء ثم قال لقني الشهادة ولا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان
والمقصود أن يموت الرجل ولا يكون في قلبه إلا الله وحده لأن المدار على القلب وعمل القلب هو الذي ينظر فيه وتكون النجاة بسببه وأما حركة اللسان دون أن تكون ترجمة عما في القلب فلا فائدة فيها ولا خير عندها
وأما حسن الظن بالله تعالى عند الموت فواجب قال عليه الصلاة و السلام لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ذكره مسلم
وقال عبد الله بن مسعود والذي لا إله غيره لا يحسن أحدكم الظن بالله إلا أعطاه الله ظنه وذلك أن الخير بيده
وقال عبد الله بن عباس إذا رأيتم الرجل قد نزل به الموت فبشروه حتى يلقى ربه وهو حسن الظن بالله تعالى وإذا كان حيا فخوفوه بربه واذكروا له شدة عقابه

وقال المعتمر بن سليمان قال لي أبي عند موته يا معتمر حدثني بالرخص لعلي أن ألقى الله تعالى وأنا حسن الظن به
وكانوا يستعجبون أن يذكروا العبد بمحاسن عمله عند موته كي يحسن الظن بربه
وقال الفضيل بن عياض ما دمت حيا فلا يكن شيء عندك أخوف من الله عز و جل وإذا نزل بك الموت فلا يكن عندك شيء أرجى من الله عز و جل
ويروى أن حذيفة بن اليمان لما نزل به الموت قال حبيب جاء على فاقة قد كنت قبل اليوم أخشاك وأما اليوم أرجوك
ويروى عن الحسن بن الليث قال رأيت محمد بن محمد الرازي في المنام فقلت له يا أبا عبد الله ما فعل الله بك قال غفر لي قلت بم قال برجائي له منذ ثمانين سنة
ودخل واثلة بن الأسقع على رجل فوجده في الموت فقال اخبرني كيف ظنك بالله تعالى فقال الرجل اغرقتني ذنوبي وأشرفت بي على الهلكة ولكن أرجو رحمة الله تعالى فكبر واثلة وكبر أهل البيت لتكبيره وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا ما شاء
ويروى أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له كيف تجدك قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال عليه السلام لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه الذي يخاف أخرجه الترمذي
ورأى بعض الصالحين الحسن بن هانيء بعد موته في النوم فقال له ما فعل الله بك قال غفر لي قال بماذا قال بأربعة أبيات قلتهن في طي فراشي فمشى الرجل إلى دار الحسن فالتمسها فوجدها وهي

( يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم )
( أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم )
( إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو المسيء المجرم )
( مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظني ثم أني مسلم )
وقال ثابت البناني كان شاب به حدة وكانت أمه تعظه وتقول له يا بني إن لك يوما فاذكر يومك وإن لك مصرعا فاذكر مصرعك فلما نزل به أمر الله تعالى اكبت عليه أمه فجعلت تقول أي بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا فقال لها يا أمة إن لي ربا كثير المعروف وإني لأرجو أن لا يعذبني بكرمه ورحمته قال ثابت فC عز و جل بحس ظنه بربه أخبر بذلك في النوم أو أخبر به عنه
وقال جابر بن عبد الله كان شاب به زهو فنزل به الموت فقالت أمه يا بني توصي بشيء قال نعم خاتمي ادفنيني به فإن فيه ذكر الله تعالى فلعله يرحمني فلما دفن رئي في المنام فقال اخبروا أمي أن الله قد غفر لي
وقال ذو النون المصري رحمه الله كان في جواري شاب مسرف على نفسه كثير الخطايا فمرض فدخلت عليه أعوده فإذا هو قد مات وأوصى أن يكتب على قبره شيء فرأيته في منامي فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي فقلت بماذا قال فكرت في جرمي وفي عفوه فرأيت عفوه أكثر من جرمي قال ذو النون فلما أصبحت جئت إلى قبره فإذا عليه مكتوب
( حسن ظني بك يا ... رب جرأني عليك )
( فارحم اللهم عبدا ... صار رهنا في يديك )
ويروى عن بعض الصالحين قال قال مالك بن دينار رأيت مسلم بن يسار في

النوم بعد موته بسنة فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فقلت له لم لا ترد علي السلام قال وكيف أرد عليك وأنا ميت فقلت له وماذا لقيت بعد الموت قال ودمعت عينا ما لك عند هذا القول لقيت أهوالا وزلازل وعظائم وشدائد قال مالك فقلت له فما كان بعد ذلك قال وما تراه يكون من الكريم إلا الكرم قبل منا الحسنات وغفر لنا السيئات وضمن عنا التبعات كما كان حسن ظني به
قال ثم شهق ما لك شهقته خر مغشيا عليه فلبث في غشيته أياما مريضا ثم مات من مرضه ذلك وكان يقال إن قلبه انصدع
ولولا حسن الظن بالله تعالى لهلك الخلق
وقال عبد الواحد بن زيد وما كان سبب موت مالك بن دينار إلا هذه الرؤيا سألته عنها فقصها علي فجعل يشهق ويضطرب حتى ظننت أن كبده تقطعت في جوفه ثم هدأ فحملناه إلى منزله فلم يزل مريضا منها يعاد حتى مات
وقال أبو عمر الضرير حدثني سهيل أخو حازم قال رأيت مالك بن دينار في النوم بعد موته بسنة فقلت له يا أبا يحيى ماذا فعل الله بك وماذا قدمت به عليه فقال قدمت عليه بذنوب كثيرة فمحاها حسن ظني به تبارك وتعالى
وقال عمار بن سيف رأيت الحسن بن صالح في منامي بعد موته فقلت له لقد كنت متمنيا للقائك فماذا عندك أخبرنا فقال لم أر شيئا مثل حسن الظن به تبارك وتعالى
وأنشدوا
( أحسن الظن برب لم يزل ... دائم الإحسان برا لم يمل )
( من غدت نعماؤه في ذا الورى ... جملا ترفق في إثر جمل )
( وسع العالم فضلا وجدا ... مرسل العزلاء سجا متصل )
( وإذا لم تحسن الظن به ... فيمن تحسن إن خطب نزل )
( وإذا لم ترجه من يرتجى ... وإذا لم تسألنه من ذا تسل )

( فلتطلب نفسا عليه وله الـ ... مثل الأعلى والأسنى الأجل )
وقالوا أيضا
( احسن الظن ما استطعت بربك ... فالأماني جمعن في حسن ظنك )
( وإذا ما أصبت يوما بضر ... فإليه اللجا في كشف ضرك )
( وإذا ما انتحاك أمر عسير ... فهو المرتجى لتيسير أمرك )
( وذنوب خبأتهن قديما ... وحديثا كسرت عظم ظهرك )
( تب إليه والجأ منها إليه ... فهو أدنى إليك من ذات نفسك )
( ودموع الحزين لا تمسكنها ... ولتدعها مساربا تحت نحرك )
( واقد حن في الضلوع نار متاب ... فعساها تميت نيران روعك )
( وإذا ما تعاظمتك ذنوب ... فاعتقاد القلوب أعظم ذنبك )
ومرض أعرابي فقيل له إنك تموت فقال فإذا مت أين يذهب بي قيل إلى الله تعالى قال ما أكره أن يذهب بي إلى من لا يرى الخير إلا عنده

الباب الثالث
في الجنائز وفضل اتباعها
ذكر البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقراطين كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع قبل الدفن فإنه يرجع بقيراط
وذكر مسلم عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من صلى على جنازة فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان القيراط مثل أحد
واعلم رحمك الله أن في الجنائز عبرة للمعتبرين وفكرة للمتفكرين وتنبيها للغافلين وإيقاظا للنائمين بينما الإنسان في قيام وقعود ونزول وصعود وخذ هذا ودع هذا وابن هذا واهدم هذا وقد كان وما كان وأين ذهب فلان ومن أين جاء فلان إذ جاءه أمر إلهي وحادث سماوي وحكم رباني فسكن حركته وأطفأ شعلته وأذهب نضرته وتركه كالخشبة الملقاة والحجر المرمي إن صيح به لم يسمع وإن دعي لم يجب وإن قطع أو أحرق لم يتكلم إن ربك على ما يشاء قدير
ولكن حب الدنيا وحجاب الهوى الذي غطى القلوب وأعشى البصائر يمنع الفكرة في الجنائز والاعتبار بها فصارت لا تزيد رؤيتها إلا غفلة ولا مشاهدتها إلا قسوة حتى كأن الميت إنما هو نائم يستيقظ بعد ساعة ويهب عن

قريب أو كأن الذي يراها لا يكون مثلها ولا يدخل مدخلها وكأن ذلك الميت نزل به ملك الموت وحده وإياه قصد خاصة
نعم يعلم الإنسان منا أن سيموت كما مات هذا وتشيع جنازته كما شيعت جنازة هذا وربما مات بحيث لا تشيع جنازته ولا توارى له جثة ولكن لا يظن ذلك عن قريب ولا يحسب أنه منه غير بعيد قد فسح لنفسه في المدة ومد لها في المهلة وحكم أنه لا يموت إلا بعد سنين وإن قال ربما أموت اليوم أو غدا فقول ضعيف لا يتحرك منه بسببه ساكن ولا يظهر عليه منه أثر نازل لأنه عند رؤية الجنازة كما كان قبل أن يراها وربما يحدث بحديثه الذي كان يتحدث والميت يدفن أو هو وراءه يشيعه إلى قبره وإن جاءه ضحك ضحك وإن حضره نادر من لغو الكلام تكلم به وأودعه صحيفته وبعث به إلى ربه
وقلما يبكى على الجنازة إلا أهلها تألما لفراقها لا لنفس الموت كبكاء الصبي والمرأة اللذين لا يعقلان ولا يعلمان ولو كانوا يعلمون لكان بكاؤهم على أنفسهم لا على ميتهم لأن ميتهم قد مات وهم ينتظرون الموت
وأنشدوا
( أعاذل حتى ما تعذليني ... إن لم تعينيني فاتركيني )
( لومي بما شئت من ملام ... ووبخيني وفنديني )
ولا تظني بأن حزني ... وسقم جسمي وما تريني )
( أثار ذاكم إن مات ميت ... قد كان دنياي ذا ودين )
( تركته في القبور فردا ... وحييت في دمعه الحزين )
( لا والذي جوده يرجى ... كل أوان وكل حين )
( ما أنا باك إلا لنفسي ... لا لقريب ولا خدين )
( ومصرع للمنون ضيق ... أتل فيه على الجبين )
( أؤخذ فيه من كل أفق ... أخذ شديد القوى متين )
( فمن أمامي ومن ورائي ... وعن شمالي وعن يميني )
( وفوق رأسي معا وتحتي ... من حيث ما رحت يلتقيني )

( ولا احتيال ولا افتداء ... لا برفيع ولا بدون )
( فخلني عاذلي وشأني ... فليس شأني من ذي الشئون )
واعلم أن الجنازة تمر بالإنسان ولا يدري حالها ولا يتبين حقيقة مصيرها وإنما يرجى لها بحسب ما ظهر منها من الطاعات ويخاف عليها بحسب ما بدا منها من المخالفات وإن لها كلاما لو سمعه الإنسان لا نصدع له حجاب قلبه وشغله عن بنيه وأهله بل أذهله عن النظر في خاصة نفسه
ذكر البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلتي أين تذهبون بي يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق
وهما ميتان فميت يستريح من تعب هذه الدار ويفضي إلى راحة دار القرار وميت يستريح منه البلاد والعباد ويفضي إلى سوء المصير وبئس المهاد
ذكر أبو قتادة قال مر على رسول الله صلى الله عليه و سلم بجنازة فقال مستريح أو مستراح منه فقالوا يا رسول الله ما المستريح وما المستراح منه قال العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وإيذائها إلى رحمة الله والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب
وذكر هذا الحديث مسلم بن الحجاج وغيره
وربما يكون منا من يهتز عند رؤية الجنازة ويرتاع عند مشاهدتها ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله إلا بمقدار ما يكون بين يديه أو ساعة تمر عليه
قال أبو عمرو بن العلاء جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه شعرا فاطلعت جنازة فأمسك وقال شيبتني والله هذه الجنائز وأنشأ يقول
( تروعنا الجنائز مقبلات ... ونلهو حين تذهب مدبرات )

( كروعة ثلة لمغار ذئب ... فلما غاب عادت راتعات )
وكأن هذا البائس الغافل لم يسمع برجل قد شيع جنازة ثم مات المشيع بعد جمعة وربما كان بعد يوم واحد أو أقل من يوم أو كأنه لم يعلم أن هذا الميت كان طويل الأمل ممتد الرجاء يطمع في العيش ويحرص على البقاء حتى هجم عليه ملك الموت في الوقت الذي لم يكن يظن به وقام معه من المكان الذي لم يكن يحسبه فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم بخلاف هذا كانوا إذا رأوا الجنائز نظروا إليها نظر المعتبرين وتكلموا عندها بكلام الموفقين وكانوا يقولون القول ويعملون بمقتضاه
وسأذكر لك من كلامهم وأحكي لك من أقوالهم ما أمكنني لعله يحرك منك ساكنا ويوقظ منك نائما والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا رأى جنازة قال امض ونحن على أثرك
وكان مكحول الدمشقي رحمه الله إذا رأى جنازة قال اغد فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له
ومرت بالحسن البصري رحمه الله جنازة فقال يا لها موعظة ما أبلغها وأسرع نسيانها يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة ثم قال يا غفلة شاملة للقوم كأنهم يرونها في النوم ميت غد يدفن ميت اليوم
وقال أسيد بن حضير ما شهدت جنازة وحدثت نفسي بشيء سوى ما يفعل بالميت وما هو صائر إليه
ولما مات أخو مالك بن دينار خرج مالك في جنازته فوقف على قبره

وبكى ثم قال والله يا أخي لا تقر عيني بعدك حتى أعلم إلى ما صرت إليه ولا والله لا أعلم ذلك ما دمت حيا
وقال الأعمش كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين وإنما بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت
وقال ثابت البناني كنا نشهد الجنازة فلا نرى إلا باكيا
وقال إبراهيم النخعي كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أياما كأن فيهم الفكرة في حال الموت وفي حال الميت
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه كان يلقى الرجل في الجنازة من خاصة إخوانه قد بعد عهده به فلا يزيده على السلام حتى يظن الرجل أن في صدره عليه موجدة كل ذلك لانشغاله بالجنازة وتفكره فيها وفي مصيرها حتى إذا فرغ من الجنازة لقيه وسأله ولاطفه وكان منه أحسن ما عهد
ورأى عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا يضحك في جنازة فقال أتضحك وأنت في جنازة والله لا أكلمك أبدا
وفي الخبر أن الله يكره لكم ثلاثا العبث في الصلاة والرفث في الصوم والضحك عند المقابر
ولما مات ذر بن عمر بن ذر ووضع في قبره قال أبوه عمر يا ذر لقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك ثم قال اللهم إن هذا ولدي ذر متعتني به ما متعتني ووفيته أجله ورزقه ولم تنقصه حقه اللهم وقد كنت ألزمته طاعتك وطاعتي وإني قد وهبت له ما فرط فيه من طاعتي فهب له ما فرط فيه من طاعتك اللهم وما وعدتني عليه من الأجر في مصيبتي فقد وهبت ذلك له فهب لي عذابه ولا تعذبه وأنت أجود الأجودين وأكرم الأكرمين

قال فأبكى الناس ثم قال عند انصرافه يا ذر ما علينا بعدك من خصاصة وما بنا مع الله إلى إنسان من حاجة
ياذر مضينا وتركناك ولو أقمنا عندك ما نفعناك
ألا ترى إلى هذا لم يشغله الحزن على ولده وثمرة كبده عن الحزن بما قال وبما قيل له لأنهم إنما كانوا يقدمون الأهم فالأهم ويبدأون بالأعظم فالأعظم
يروى عن الأصمعي قال حجت امرأة من العرب ومعها ابن لها فأصيبت به فلما دفن قامت على قبره وهي موجعة فقالت يا بني والله لقد غذوتك رضيعا وفقدتك سريعا وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذ فيها بعيشك وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك وبقيت مدة أتذكرك فيها وأذوب فيها بالحزن عليك
ثم قالت اللهم منك العدل ومن خلقك الجود اللهم وهبتني قرة عيني فلم تمتعني به كثيرا بل سلبتنيه وشيكا ثم أمرتني بالصبر عليه ووعدتني الأجر فصدقت وعدك ورضيت قضاءك اللهم ارحم غربته واستر عورته يوم تنكشف العورات وتظهر السوآت فرحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى
فلما أرادت الخروج إلى أهلها وقفت على قبره وقالت أي بني قد تزودت لسفري من الدنيا فليت شعري ما زادك لسفرك ويوم معادك اللهم أسألك الرضى له برضاي عنه ثم قالت استودعك من استودعنيك جنينا في الأحشاء وأذاقني عليه غصة الثكلى واثكل الولدات ما أقل أنسهن وأشد وحشتهن وصلت عند قبره ركعتين وانصرفت
ولعلك يا هذا ممن يلبس النعش الثياب الملونة ويجعل عليه الأردية المصبغة ويحليه الحلية المبيضة ويخرجه كالفتاة المحلاة والعروس المجلاة ولا يتفكر في ميته هل كسي أثواب الحرير أو قطران السعير وإنه لموضع الفكرة وإرسال العبرة وإطالة العويل والحسرة

وأنشدوا
( وألبسوا النعش أثوابا ملونة ... مثل العروس تقام عند جلوتها )
( مثل العروس تنص في منصتها ... لتستميل قلوبا بزينتها )
( وفيه ميت أزال الله نضرته ... كالأرض قد زال عنها ثوب نضرتها )
( وشيعوه جماعات تطوف به ... تعشى العيون بمرآها وكثرتها )
( من بين باك يكف فيض دمعته ... وبين صارخة تعدي بصرختها )
( حتى أتوا حفرا إزاء بلدتهم ... فغادروه بها رهين وحشتها )
( وما دروا هل تلقته بنفحتها ... دار المقامة أو لظى بلفحتها )
( ثم انثنوا نحو أموال قد أحرزها ... للنائبات فحازوا بجملتها )
( وذاكم البائس المغرور ما دفعت ... عنه القضاء ولا استشفى بلذتها )
( لكن تحمل منها كل فادحة ... من الكبائر لا يقوى لعدتها )
( ومن ترفعه الدنيا وتسعفه ... فهو المحير مغمور بحسرتها )
( فما بكته السماء والأرض حين مضى ... ولا الرياض نضت أثواب زهرتها )

الباب الرابع
في الثناء الحسن على الميت والثناء السوء
ذكر مسلم بن الحجاج من حديث أنس بن مالك قال مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم وجبت وجبت وجبت ومر بجنازة فأثني عليها شرا فقال وجبت وجبت وجبت وجبت فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فداك أبي وأمي مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت وجبت ومر بجنازة فأثني عليها شرا فقلت وجبت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار وأنتم شهداء الله في الأرض
وفي بعض طرق البخاري فقيل يا رسول الله قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت قال شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض
وعن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة قلنا وثلاثة قال وثلاثة قلنا واثنان قال واثنان ثم لم نسأله عن الواحد وهذا الحديث مخصوص والله أعلم
والذي قبله يعطي العموم وإن من كثرت شهوده وانطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير والثناء الصالح كانت له الجنة والله أعلم وغير مستكثر إذا أحب الله عبدا أن يلقي على ألسنة المسلمين الثناء عليه وفي قلوبهم المحبة له قال الله تبارك وتعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) وقال عليه السلام إذا أحب الله عبدا دعا جبريل عليه السلام

فقال إن الله يحب فلانا فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وذكر في البغض مثل ذلك وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج وغيره
وقد شهد رجال من المسلمين علماء وصالحون كثر الثناء عليهم وصرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم ومنهم من كثر المشيعون والحاملون لجنازته والمشتغلون به وربما كثر الله الخلق بما شاء من الجن والإنس وغيرهم مما يشاء يكونون في صور الناس
ذكر قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي قال مات عمرو بن قيس الملاي بناحية فارس فاجتمع بجنازته مالا يحصى عددهم من الخلق فلما دفن نظروا فلم يروا أحدا قال الرفاعي سمعت هذا ممن لا أحصي كثرة
وكان سفيان الثوري يتبرك بالنظر إلى عمرو بن قيس هذا
ولما مات أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلى عليه من المسلمين ما لا يحصى فأمر المتوكل أن يمسح موضع الصلاة عليه من الأرض فوجدوا موقف ألفي ألف وثلاثمائة ألف أو نحوها
ولما انتشر خبر موته أقبل الناس من البلاد يصلون على قبره فصلى عليه مالا يحصى
ولما مات الأوزاعي رضي الله عنه اجتمع للصلاة عليه خلق لا يحصى ويروى أنه أسلم ذلك اليوم من أهل الذمة اليهود والنصارى نحو ثلاثين ألفا لما رأوا من كثرة الخلائق على الجنازة ولما رأوا من العجب ذلك اليوم
ولما مات سهل بن عبد الله التستري رحمه الله انكب الناس على جنازته وحضرها من الخلق مالا يعلمه إلا الله وكان في البلد ضجة فسمع بها يهودي شيخ كبير فخرج فلما رأى الجنازة صاح وقال هل ترون ما أرى قالوا وما ترى قال أرى قوما ينزلون من السماء يتمسحون بالجنازة ثم أسلم وحسن إسلامه

ويقال إن الكعبة لم تخل من طائف يطوف إلا يوم مات المغيرة بن حكيم فإنها خلت لانحشار الناس بجنازته تبركا بها ورغبة في الصلاة عليها
وقد شوهد من جنائز الصالحين من تشيعها الطير وتسير معها حيث سارت حدث بذلك الثقات
وذكر أبو الحسن بن جهضم قال أخبرنا محمد بن جعفر أبو الحسن ساكن دمشق قال سمعت أبا بكر المصري يقول لما مات أبو الفيض ذو النون المصري بالجيزة حمل في قارب مخافة أن تتقطع الجسور من كثرة من شيع جنازته من الناس وكنت قائما مع الناس على كوم أنظر فلما أخرج من القارب ووضع على الجنازة يعني النعش وحمله الرجال على أعناقهم رأيت طيورا خضرا قد اكتنفت الجنازة ترفرف عليها حتى عطف به إلى حمام المغار وغاب عني قال أبو بكر فحدثت به خالي الحسن بن يحيى فقال قد رأيت مثل هذه الطيور على جنازة أبي إبراهيم المزني وذكر مرثاة رثى بها فقال منها
( ورأيت أعجب ما رأيت ولم أكن ... من قبل ذاك رأيته لمشيع )
( طيرا ترفرف نعشه وتحفه ... حتى توارى في حجاب المضجع )
( قد احتجبن عن العيون ولم أحط ... علما بكنه مسيره في المرجع )
( وأظنها رسل الاله تنزلت ... والله أعلم فوق ذاك الشرجع )
ويجب ألا يحتقر أحد من المسلمين وإن كان ظاهر الفسوق فلعل له بطانة من خير وخبيئة من عمل صالح ولأنه أيضا قد صار إلى أرحم الراحمين
وحكى أن رجلا من المنهمكين في الفساد مات في نواحي البصرة فلم تجد امرأته من يعينها على حمل جنازته إذ لم يدر بها أحد من جيرانه لكثرة فسقه وتحامي الناس له فاستأجرت امرأته حمالين يحملونه إلى المصلى فما صلى عليه أحد فحملوه إلى الصحراء ليدفنوه بها وكان بالقرب من الموضع جبل فيه رجل من

الزهاد الكبار فنزل ذلك الزاهد للصلاة عليه فانتشر الخبر في البلد وقالوا نزل فلان ليصلي على فلان فخرج الناس فصلوا عليه مع الزاهد وجعلوا يتعجبون من صلاته عليه فقال لهم إني قيل لي في المنام انزل إلى الموضع الفلاني ترى فيه جنازة رجل ليس معها أحد إلا امرأته فصل عليه فإنه مغفور له فزاد تعجب الناس فاستدعى الزاهد زوجته فسألها عن ذلك وكيف كانت سيرته فقالت كان كما سمعت كان طول النهار في الماخور مشتغلا بشرب الخمر فقال انظري هل تعرفين له شيئا من أفعال الخير
قالت لا والله إلا أنه كان يفيق في كل يوم من سكره عند صلاة الصبح فيبدل ثيابه ويتوضأ ويصلي الصبح ثم يعود إلى ما هو عليه فيشتغل بشربه ولهوه وكان لا يخلو بيته من يتيم أو يتيمين يفضله على ولده وكان يفيق في أثناء سكره فيبكي ويقول إلهي أي زاوية من زوايا جهنم تريد أن تملأها بهذا الخبيث يعني نفسه
وكذلك إن كان الميت منبوذا أو مطروحا لا يعرف أو لا يحضره أحد فلا تحتقره ولا تنظر إلى الظاهر من حاله
يروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ذكره مسلم بن الحجاج
ومن غير كتاب مسلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره
ويروى عن عمر بن عثمان بن شعبة قال رأيت في بعض الليالي في المنام كأن قائلا يقول لي إذا كان غدا فأت مصلى خولان فصل على ولي لنا قال فخرجت قبل طلوع الفجر خوف أن يفوتني ثم قعدت إلى قريب من غروب الشمس فلم يؤت بميت إلى ذلك المصلى قال فانصرفت فبينما أنا بين الآكام إذا أنا بميت على رأس حمال على فرد باب وعليه عباءة فقال لي الحمال يا هذا إن هذا الميت رجل غريب فهل لك أن تصلي عليه فقلت في نفسي

أنا قاعد له منذ اليوم قال فصليت عليه ثم قال لي الحمال ادخل معي حتى نواريه فنزلت في قبره فصوبه علي فأضجعته وحللت العقدة من عند رأسه فالتفت الميت إلي وقال سوف أشكرك عند الله غدا يا عمر ثم عاد كما كان
ويروى عن أبي علي الروذباري قال قدم علينا فقير فمات فدفناه فكشفت عن خده فجعلته على التراب ليرحم الله غربته ففتح عينيه وقال يا أبا علي أتذللني بين يدي من يدللني فقلت يا سيدي أحياة بعد الموت فقال بلى أنا محب لله وكل محب لله فهو حي يا روذباري لأنصرنك غدا لجاهي عنده
وقال أبو سعيد الخراز كنت بمكة فجزت على باب بني شيبه فرأيت به شابا حسن الوجه ميتا فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي وقال يا ابا سعيد أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا فإنما ينقلون من دار إلى دار
واعلم رحمك الله أن الميت وإن كان لا يتكلم فقد يسمع الله تعالى كلاما منه ويريه على صورة حياة بشارة له بصلاته عليه ودفنه إياه واشتغاله به
وقد حدثني الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن يحيى القرشي قال لما مات أبي غسله المقريء أبو الحسن بن عطية فقال لي أبو الحسن لما كشفت الثوب عن وجهه لأغسله ضحك في وجهي لا أشك في ذلك ولا أرتاب
وإذا جاز الخبر الأول جاز هذا أيضا فأبو القاسم وأبو الحسن صادقان عدلان من أهل المعرفة والذكاء
وذكر الوليد بن عثمان وكان من الصالحين قال قدم علينا في إشبيليه رجل أسود فأقام في المسجد الذي كنت فيه ثم انتقل عنه لعلة أصابته فأقام في فرن يرقد فيه على الحطب ويتصدق عليه ثم إنه مات فنقلته إلى داري لأغسله فكشفت عنه الثوب لأغسله فبينما أنا أغسله إذ رأيت وجهه قد ابيض بياضا شديدا وصار مثل القمر ليلة البدر حسنا وعم البياض وجهه وعنقه خاصة دون سائر جسده فراعني ما رأيت وأرعدت وأصابني دهش عظيم فرددت الرداء على وجهه وخرجت فأنذرت جماعة من أصحابي وجئت بهم معي وأعلمتهم قصته فلما كشفوا الرداء عن وجهه راعهم حسنه وجماله وابيضاضه

وسائر جسده أسود كما كان وتسامع الناس به فما كدنا نبلغ قبره إلى الليل من كثرة الزحام على نعشه وكثرة من حضر جنازته رحمه الله
ذكر هذه القصة ابن مغيث في كتاب التهجد وذكرها غيره أيضا
وذكر عمر بن ذر أنه مات رجل من جيرانه وكان مسرفا على نفسه فتحامى كثير من الناس جنازته فلم يحضرها وحضرها عمر فلما دفن وقف على قبره فقال يرحمك الله فلقد عشت عمرك بالتوحيد وعفرت وجهك بالسجود وإن قالوا مذنب وذو خطايا فمن منا غير مذنب وذي خطايا

الباب الخامس
ما يقال عند حضور الميت وما جاء في البكاء عليه
ذكر مسلم بن الحجاج عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون
قالت فلما مات أبو سلمة أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال قولي اللهم اغفر لي وله واعقبني منه عقبى حسنة قالت ففعلت فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدا صلى الله عليه و سلم
وعنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال لي إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه
وأبو سلمة هذا كان زوج أم سلمة
وعن أم سلمة قالت لما مات أبو سلمة قلت غريب وفي أرض غربة لأبكينه بكاء يتحدث به عنه فكنت قد تهيأت للبكاء عليه إذ أقبلت امرأة من

الصعيد تريد أن تسعدني فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أتريدين أن يدخل الشيطان بيتا أخرجه الله منه مرتين قال فكففت عن البكاء فلم أبك
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال لما طعن عمر أغمي عليه فصيح عليه فلما أفاق قال أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الميت ليعذب ببكاء الحي
وعن عمر أيضا في هذا الحديث قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه
وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المعول عليه يعذب
وعن ابن عباس قال لما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة يعني قول عمر عن رسول الله في البكاء على الميت فقالت يرحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه و سلم قط أن الميت يعب ببكاء أحد ولكنه قال إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه وقالت عائشة حسبك القرآن لا تزر وازرة وزر أخرى قال وقال ابن عباس عند ذلك والله أضحك وأبكي
وعن عروة بن الزبير قال ذكر لعائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله
فقالت إنما قال رسول الله إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن
وعن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة رضي الله عنها وقد ذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي فقالت عائشة يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بيهوديه يبكى عليها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها

قد صح حديث عمر وابن عمر رضي الله عنهما في تعذيب الميت ببكاء الحي من حديثهما وصح أيضا من حديث المغيرة بن شعبة
وذكر مسلم بن الحجاج عن المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة
وعائشة رضي الله عنها إنما حدثت بما سمعت وأنكرت ما لم تسمع وقال بعض العلماء أو أكثرهم إنما يعذب الميت ببكاء الحي عليه إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره أو يكون قد وصي به
وقد روى ما يدل على أن الميت يصيبه عذاب ما ببكاء الحي وإن لم يكن من سنته ولا من اختياره ولا مما أوصى به
ذكر ابن أبي خيثمة من حديث قيلة بنت مخرمة وذكرت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ولدا لها مات ثم بكت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا فإذا حال بينه وبينه من هو أولى به منه استرجع ثم قال اللهم أثبني فيما أمضيت وأعني على ما أبقيت فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم وإسناده لا بأس به
ومساق هذا الحديث يدل على أن بكاء هذه لم يكن من اختيار ابنها لأن ابنها صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا كان هذا البكاء المعروف في الجاهلية الذي كان من اختيار الميت ومما يوصي به
ذكر البخاري من حديث النعمان بن بشير قال أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وتقول واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل لي أأنت كذلك فلما مات لم تبك عليه وهذا أيضا لم يكن من سنة عبد الله بن رواحة ولا من اختياره ولا مما أوصى به لأن منصبه في الدين أجل وأرفع من أن كان يأمر بهذا أو يوصي به

وفي هذا الباب حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الميت يعذب ببكاء الحي عليه إذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسباه جذب الميت وقيل له أأنت عضدها أأنت ناصرها أأنت كاسبها ذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار
وأيضا فإن البكاء عند العرب يكون البكاء المعروف وتكون النياحة وقد يكون معها الصياح وضرب الخدود وشق الجيوب ولا أعلم خلافا أن ذلك حرام وقد ورد الوعيد على هذا كله
ذكر مسلم بن الحجاج رحمه الله من حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال أنا بريء ممن بريء منه رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن رسول الله بريء من الصالقة والحالقة والشاقة
وفي لفظ آخر عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة قالا أغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة ثم أفاق فقال ألم تعلمي وكان يحدثها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال انابريء ممن حلق وصلق وخرق
الصالقة هي التي ترفع صوتها بالعويل عند المصيبة والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة والشاقة التي تشق ثوبها كل ذلك عند المصيبة
ذكر مسلم أيضا من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اثنتان في الناس هما بهم كفر

الطعن في النسب والنياحة على الميت
وعن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر في الاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت
وقال النائحة على الميت إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب
وأما البكاء من غير نياحة فقد ورد فيه الإباحة وهو بكاء الرحمة والرأفة التي لا يكاد يخلو منها البشر ولا يوجد قلب إلا وبه منها أثر
وقد قال عمر رضي الله عنه دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقه والنقع ارتفاع الصوت واللقلقة تتابع ذلك
وقال أبو عبيدة قال بعضهم يريد عمر بالنقع وضع التراب على الرأس قال أبو عبيد وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد واللقلقة رفع الصوت
وأما حديث النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الباب في إباحة البكاء من غير نياحة ولا صياح فصحيح مشهور
ذكر مسلم بن الحجاج عن أسامة بن زيد قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا أو ابنا لها في الموت فقال للرسول ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار بأجل المسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب فعاد الرسول فقال إنها قد أقسمت لتأتينها قال فقام الرسول صلى الله عليه و سلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال وانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال له سعد بن عبادة ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب العباد وإنما يرحم الله من

عباده الرحماء
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد لي الليلة غلام سميته باسم أبي إبراهيم وذكر الحديث وفيه فدعا النبي صلى الله عليه و سلم بالصبي فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول قال أنس لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فدمعت عينا رسول الله فقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون
قوله يكيد بنفسه يعني يموت
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال أوقد قضى قالوا لا يا رسول الله قال فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأى القوم بكاءه بكوا فقال ألا تسمعون إن الله عز و جل لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب وإنما يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم
وذكر أبو عبد الرحمن النسائي من حديث أبي هريرة قال مات رجل من آل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعهن يا عمر فإن العين دامعة والفؤاد مصاب والعهد قريب
وعن جابر بن عبد الله قال قتل أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وجعل الناس ينهونني ورسول الله لم ينهني وجعلت عمتي تبكيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه

ويروى عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مات عثمان بن مظعون كشف رسول الله صلى الله عليه و سلم الثوب عن وجهه وقبل بين عينيه وبكى بكاء طويلا فلما رفع على السرير قال طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها وبكاء النبي صلى الله عليه و سلم على عثمان بن مظعون مشهور وذكره أبو داود وغيره
وأما نعي الميت والإعلام بموته إذا قصد بذلك اجتماع الناس للصلاة عليه لما يناله من دعائهم له واستغفارهم ورغبتهم إلى الله تعالى فيه وسؤالهم ولما ينالون أيضا من ثواب الصلاة عليه فمنه مفروض ومندوب إليه ومنه غير جائر
وقد نعى النبي صلى الله عليه و سلم النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه وقال استغفروا لأخيكم وخرج بالناس إلى المصلى فصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات
وكان موت النجاشي ببلد بعيد عن مدينة النبي صلى الله عليه و سلم
ذكر نعي النجاشي والصلاة عليه مسلم بن الحجاج وغيره من حديث أبي هريرة وغيره
وقد نعى النبي صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة نعاهم قبل أن يجيء خبرهم وعيناه تذرفان
وقد قال عليه السلام لا يموت فيكم ميت إلا أعلمتموني به فأمر بأن يعلم بكل ميت من المسلمين ليصلي عليه لما في صلاته صلى الله عليه و سلم من البركة والرحمة ولإقامة سنته أيضا في الصلاة على موتى المسلمين وفي صلاة المسلمين بعضهم على بعض ودعاء بعضهم لبعض
وقال صلى الله عليه و سلم إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء
ذكره أبو داود من حديث أبي هريرة
وقال عليه السلام من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن

تبعها فله قيراطان قيل وما القيراط قال أصغرهما مثل أحد يريد مثل جبل أحد
ذكره مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وغيره
وأما إذا كان نعي الميت والإعلام بموته ليجمع الناس عليه على معنى التعظيم له والمصيبة بفقده والتفاخر بما يجتمع له من الناس ويحضره من الأشراف فهذا لا يجوز
وعلى هذا يخرج نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن النعي
ذكر الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان قال إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدا إني أخاف أن يكون نعيا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن النعي وأما المفروض من هذا الباب فهو ان يدعى للصلاة على الميت من تقوم به سنة الصلاة عليه

الباب السادس
ما يحذر من سوء الخاتمة وما سبق من ذلك لأكثر الخلق في السابقة
اعلم رحمك الله أن هذا أمر إذا ذكر حقيقة ذكره انفطرت له القلوب وتشققت وانصدعت له الأكباد وتقطعت ولولا أن الآجال محدودة والأنفاس معدودة فلا يتجاوز ذلك المحدود ولا يزاد على ذلك المعدود لزهقت الأنفس عند أول ذكره زهوقا لا تجد لسرعته طعم وفاة بل تكاد تنعدم معه انعداما لا تعود معه إلى وجود ولا حياة ولكنها مربوية مدبرة مقهورة مصرفة تخرج إذا أذن لها في الخروج وتلج إذا أذن لها في الولوج وقد كتب عليها الوجود والبقاء فلا انعدام ولا مطمع لها في ذلك ولا مرام
وما يمنع القلوب رحمك الله من الانشقاق والانصداع والانفطار والانقطاع والذي يلقى المختوم له بهذه الخاتمة عذاب لا تقوم السموات والأرض لشدته ولا آخر لمدته وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون هو وما الذي أمنه منه وما الذي حاد به عنه والخاتمة مغيبة والعاقبة مستورة والأقدار غالبة والنفس كما تدري والشيطان منها بحيث تدري وهي مصغية إليه ملتفتة نحوه مقبلة عليه

وأنشدوا في هذا المعنى
( هي النفس إن تنظر إلى الحق نظرة ... فإن لها في غيره نظرات )
( وإن نهضت يوما إلى الله نهضة ... فإن لها عنه غدا نهضات )
( إلى الله أشكوها فبالله حولها ... وبالله تمضي في الأمور وتأتي )
كذا جرت الأقلام وانبرمت الأحكام فقسم الخلق إلى قسمين وفرقهم إلى فريقين شقي وسعيد غوي ورشيد قريب وبعيد ذميم وحميد ارتفاع واتضاع واتصال وانقطاع إجابة وامتناع وانت يا هذا ما تدري بما جرى سهمك ولا كيف ثبت في هذه الأسماء اسمك
( قد حكم الله بما شاء من ... وضع لمن شاء وإعلاء )
( وقدر الأمر على ما يرى ... من منع أقوام وإعطاء )
( وأبرمت أحكامه في الورى ... من قبل بإسعاد وإشقاء )
( وأنت لا تدري بماذا جرت ... طيرك في محكم الأجواء )
( هل بشفاء أو بسعد وهل ... مرت برشد أو بإغواء )
( فاقدح زناد الخوف بين الحشا ... واقنع من النوم بإغفاء )
( وابك على نفسك حتى ترى ... ما اسمك في مثبت الأسماء )
ورد في الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم وروي أيضا من طريق آخر ليس فيه فيما يبدو للناس
وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال جف القلم بما أنت لاق
وقال صلى الله عليه و سلم رفعت الأقلام وجفت الصحف

ذكر هذه الأحاديث مسلم والبخاري والترمذي وعند أحدهم ما ليس عند الآخر
وأنشد بعضهم
( قد جرت الأقلام في ذا الورى ... بالختم من أمر العليم الحكيم )
( وخطت الشيء على حكمه ... في علمه السابق منه القديم )
( فمن سعيد وشقي ومن ... مثر من المال وعار عديم )
( ومن عزيز رأسه في السهى ... ومن ذليل وجهه في التخوم )
( ومن صحيح شدت أركانه ... وآخر واهي المباني سقيم )
( كل على منهاجه سالك ... ذلك تقدير العزيز العليم )
فانظر رحمك الله كيف تقرعين عاقل في هذه الدار وكيف يستقر به فيها قرار مع هذه الحال وتوقع هذا المآل واشتغال هذا الخاطر وتقسم هذا البال
كلا لا حلول له ولا قرار ولا ريع ولا دار ولا قلب إلا مستطار ولا نوم ينامه إلا غرار حتى يدري أين مسقط رأسه ومحط رجله وما المورد والمنهل وفي أي المحال يحل وفي أي المنازل بعد الموت ينزل
كما قال الأول
( وكيف تنام العين وهي قريرة ... ولم تدر في أي المنازل تنزل )
وقال غيره
( وكيف بالنوم على زأرة ... من أسد تكشر أنيابه )
( وانت في ذا غير مستعتب ... في منزل قد كسرت أبوابه )

( وثلمت بالروع حيطانه ... وفرقت بالخوف حجابه )
لكن حجاب الغفلة الذي غطى القلوب كثيف فلا يرى ما وراءه والوقر الذي في الآذان عظيم فلا يسمع من ناصح دعاءه
روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا قال فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) وأشار بيده إلى الدنيا
وقال البخاري ( وهم في غفلة ) وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون
فانظر رحمك الله إلى عظيم هذه الغفلة وكثافة حجابها وكيف منعت من النظر في هذا الحديث والفكرة فيه والعمل بمقتضاه
وقد بكى أولو الألباب على هذا فأكثروا وسهروا من أجله الليالي الطويلة وأسهروا ورام عاذلوهم كفهم عما هم فيه فلم يقدروا وكلموهم في الإقصار فلم يقصروا ولم يسمعوا ولم يبصروا وذلك للعلم الذي لاح لهم والتأييد الذي شملهم والتوفيق الذي قطع عنهم ما صدهم عن طريق الله عز و جل وشغلهم وربما هبت عليهم نفحات الرجاء فاستبشروا وسكنوا من ذلك الهيجان وفتروا ثم ذكروا ما هم معرضون له فعادوا لما كانوا عليه من الاجتهاد وربما زادوا عليه وأكثروا
ومع هذا فإنهم لشدة خوفهم وكثرة جزعهم يحسبون كل صيحة عليهم ويظنون كل إشارة إنما يشار بها إليهم

كما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع قارئا يقرأ ( والطور وكتاب مسطور ) قال هذا قسم حق فلما بلغ القاريء إلى قوله عز و جل ( إن عذاب ربك لواقع ) ظن أن العذاب قد وقع به فغشي عليه
وسمع آخر قارئا يقرأ ( خذوه فغلوه ) أو آية نحوها فغشي عليه
ومر آخر على رجل يبيع الخيار وهو يقول الخيار عشرة بدانق فغشي عليه فلما أفاق قيل له مم غشي عليك فقال أوما سمعته يقول الخيار العشرة بدانق وإذا كانت قيمة الخيار هذه فكم تكون قيمتي وقيمة أمثالي
فانظر إلى هذا لم يلق باله إلى أنه الخيار المأكول لشدة خوفه وسوء ظنه بنفسه
والأخبار في هذا الباب كثيرة فلتسلك رحمك الله على منهاج هؤلاء العقلاء ولتمش على آثار هؤلاء الفضلاء ولتتزين بزينة هؤلاء الحكماء وأدم حسرتك وأطل زفرتك وامزج بدم الفؤاد عبرتك وابك ثم ابك وصل البكاء بالبكاء والأسى بالأسى حتى تنكشف لك هذه الغشاوة وتنجلي عنك هذه العماية كما قال الأول وقد دعي إلى الخلافة وكان قد تعرض له متعرض دونها
( رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... عماية هذا العارض المتألق )
وبكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فقيل له أبكاؤك هذا على الذنوب فأخذ تبنة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذه إنما أبكي خوف الخاتمة
وبكى سفيان وغير سفيان لأنه الأمر الذي يبكى عليه ويصرف الاهتمام كله إليه وقال القائل
( والذي أبكى الجفون دما ... فغدت من ذاك في غدر )

( سابق لم يدر كيف جرى ... في القضاء الحتم والقدر )
( وأمور في الورى خفيت ... عن ذوي الألباب والنظر )
( فدع الأنفاس صاعدة ... ودموع العين تنحدر )
( وابك لا جفت دموعك ما ... ضاع من أيامك الغرر )
وقد قيل لا تكف دمعك حتى ترى في المعاد ربعك وقيل لا تكحل عينك بنوم حتى ترى حالك بعد اليوم
وقيل لا تبت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور
وقيل لا يخصب لك الجناب ولا تأنس بكعاب حتى ترى ما خط لك في أم الكتاب وتستبين العاقبة والمآب
وأنشد
( حاسب النفس قبل يوم الحساب ... وأذقها العذاب قبل العذاب )
( وأصبها من الأسى بشواظ ... ينضج اللحم قبل نضج الإهاب )
( وإذا ما بكيت يوما بدمع ... فبدمع من الفؤاد مشاب )
( وحذار حذار أن تتهنا ... بطعام تناله أو شراب )
( أو منام تنام بالليل حتى ... تستبين المآل يوم المآب )
وقيل يا ابن آدم الأقلام عليك تجري وأنت في غفلة لا تدري يا ابن آدم دع المغاني والأوطار والمنازل والديار والتنافس في هذه الدار حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار
وسمع بعض الصالحين منشدا ينشد
أيا راهبي نجران ما فعلت هند

فبكى ليلته كلها فلما أصبح قيل له ما كان شأنك البارحة وما الذي أبكاك فقال سمعت منشدا ينشد
ايا راهبي نجران ما فعلت هند
فقلت في نفسي ما فعلت الأقدار في وماذا جرت به علي
وقد علمت رحمك الله أن الناس صنفان صنف مقرب مصان وآخر مبعد مهان صنف نصبت له الأسرة والحجال وجمعت لهم الرغائب والآمال والأرائك والكلال وآخرون أعدت لهم الأراقم والصلال والمقامع والأغلال وضروب الأهوال والأنكال وأنت لا تعلم من أيهما أنت ولا في أي الفريقين كتبت
وأنشدوا
( نزلوا بمكة من قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل )
( وتقلبوا فرحين تحت ظلالهم ... وطرحت بالصحراء غير مظلل )
( وسقوا من الصافي المعتق ربهم ... وسقيت دمعة واله متململ )
( يا قسمة قسمت ولم يعلم بها ... وقضية ثبتت لأمر الأول )
( هل فيك للملك المهيمن نظرة ... فتزيل من داء البعاد المعضل )
( فأجاب يسمع نفسه عن نفسه ... والعقل يسمعها إذا لم تعقل )
( هيهات قد سبق القضاء بما ترى ... فاكفف سؤالك بعد ذا أو فاسأل )
البيت الأول قديم
وقيل من قعد به جده لم ينهض به جده
قال أبو القاسم القشيري كان أبو علي الدقاق كثيرا ما ينشد
( ما حيلتي تفعل الأقدار ما أمرت ... والناس ما بين ذي غي وذي رشد )

وقال إذا كان الرضا والغضب صفة أزلية فما تنفع الأذيال المقصرة والأقدام المورمة والوجوه المصفرة
وقيل يا ابن آدم أي شيء يمنعك وأي مكان يعصمك إذا كانت الأقدار تطلبك
ومر على بعض الصالحين بيهودي ميت قد أوصى أن يدفن ببيت المقدس فقال أيكابر هؤلاء الأقدار أما علموا أنهم لو دفنوا في الفردوس الأعلى لجاءت لظى بأنكالها حتى تأخذه إليها وتنطلق به معها
وقال آخر من حكم له بالسعادة لا يشقى أبدا وإن ألح غاويه وكثر معاديه وأحيط به من جميع نواحيه ومن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدا وإن عمر ناديه وأخصب واديه وحسنت أواخره ومباديه كم من عابد ظهرت عليه أنوار العبادة وآثار الإرادة وبدت منه مخايل السعادة وارتفع صيته وانتشر في الآفاق ذكره وعظم في الناس شأنه وقدره جمحت الأقدار به جمحة ردته على عقبيه وسلبته ما كان في يديه وأخذت بناءه من قواعده فألقته عليه فنعوذ بالله من درك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء برحمته
وأعلم رحمك الله أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا ولها طرق وأبواب أعظمها الإكباب على الدنيا والإعراض عن الأخرى والإقدام بالمعصية على الله تعالى
وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الافتراء فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين المراد ولا علم ما أراد وان أعاد عليه وأعاد
يروى أن بعض رجال الناصر بن علناس نزل به الموت فجعل ابنه يقول له قل لا إله إلا الله فقال الناصر يا مولاي فأعاد عليه فأعاد هو ثم أصابته

غشية فلما أفاق قال الناصر أمولاي ثم قال لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك فالقتل ثم القتل ثم مات
وقيل لآخر وقد نزل به الموت قل لا إله إلا الله فقال الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والجنان الفلاني افعلوا فيه كذا
هذا فيما حدثت عنه ولم أشهده وفيما أذن لي أبو طاهر السلفي أن أخطه في الديوان الذي وقع فيه هذا الحديث أن رجلا نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول بالفارسية ده يازده دوازده تفسيره عشرة أحد عشر اثنا عشر كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان فغلب عليه الحساب والميزان
كما روي ان رجلا نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول أين الطريق إلى حمام منجاب
وهذا الكلام فيه قصة وذلك أن رجلا كان واقفا على باب داره وكان بابها يسبه باب حمام فمرت به جارية لها منظر وهي تقول أين الطريق إلى حمام منجاب فقال لها هذا حمام منجاب وأشار إلى داره فدخلت الدار فدخل وراءها فلما رأت نفسها معه في داره وليست بحمام علمت أنه خدعها فأظهرت له البشر والفرح باجتماعها معه على تلك الخلوة في تلك الدار وقالت له يصلح أن يكون عندنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا فقال لها الساعة آتيك بكل ما تريدين وبكل ما تشتهين وخرج فتركها في الدار ولم يغلقها وتركها مفتوحة على حالها ومضى فأخذ ما يصلح لهما ورجع ودخل الدار فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثرا فهام الرجل بها وأكثر الذكر لها والجزع عليها وجعل يمشي في الطرق والأزقة وهو يقول
( يا رب قائلة يوما إذا بلغت ... أين الطريق إلى حمام منجاب )
وبعد اشهر مر في بعض الأزقة وهو ينشد هذا البيت وإذا بجارية تجاوبه من طاق وهي تقول
( هلا جعلت لها إذ ظفرت بها ... حرزا على الدار أو قفلا على الباب )

فزاد هيمانه واشتد هيجانه ولم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر فنعوذ بالله من المحن والفتن
ويروى أن رجلا عشق شخصا واشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى وقع لما به ولزم الفراش من أجله وتمنع ذلك الشخص واشتد نفاره عنه فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعوده فأخبر بذلك البائس ففرح واشتد سروره وانجلى غمه وجعل ينتظر الميعاد الذي ضرب له فبينما هو على ذلك إذ جاءه الماشي بينهما وقال إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع فرغبت إليه وكلمته في إنجاز وعده والوفاء بعهده فقال إني أخاف الفضيحة ولا أدخل مداخل السوء والريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم وسألته فأبى وانصرف فلما سمع اليائس هذا سقط في يده وعاد إلى أشد مما كان به وبدت علائم الموت وأماراته عليه
قال الراوي فسمعته يقول وهو في تلك الحال
( سلام يا راحة العليل ... وبرء داء المدنف النحيل )
( لقاك اشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل )
قال فقلت له يا فلان اتق الله فقال قد كان فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت قد قامت عليه فنعوذ بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة بكرمه
واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه وإنما يكون ذلك لمن كان له فساد في العقل وإصرار على الكبائر وإقدام على العظائم فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ويثب عليه قبل الإنابة ويأخذه قبل إصلاح الطوية فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله ثم العياذ بالله أن يكون لمن كان مستقيما لم يتغير عن حاله ويخرج عن سنته ويأخذ في غير طريقه

فيكون ذلك سببا لسوء الخاتمة وشؤم العاقبة والعياذ بالله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال
وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء وما كان آتاه الله من آياته وأطلعه عليه من بيناته وما أراه من عجائب ملكوته
أخلد إلى الأرض واتبع هواه فسلبه الله سبحانه جميع ما أعطاه وتركه مع من استماله وأغواه
ويروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجدا للأذان والصلاة فيه وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة فرقي يوما المنارة على عادته للأذان وكان تحت المنارة دار لذمي نصراني فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها فقالت له ما شأنك وما تريد فقال أنت أريد قالت لماذا قال لها قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي قالت له لا أجيبك إلى ريبة
قال لها أتزوجك قالت أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك قال لها أتنصر قالت إن فعلت أفعل فتنصر الرجل ليتزوجها وأقام معهم في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلا هو بها اتصل ولا هو بدينه حصل فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله

الباب السابع
تلقين الميت بعد الدفن والدعاء له وقراءة القرآن عنده وذكر محاسنه
والسكوت عن مساوئه
يروى عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مات أحدكم فسويتم التراب عليه فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ثم ليقل يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي جالسا ثم ليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله ولكنكم لا تسمعون فيقول اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما
فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله حجيجهما دونه فقال رجل يا رسول الله فإن لم تعرف أمه قال ينسبه إلى أمه حواء
ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه حضر جنازة رجل فلما دفن قال سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل
وعن بعض الصالحين أنه قال مات أخ لي فرأيته في النوم فقلت يا أخي ما كان حالك حين وضعت في قبرك قال أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لي لهلكت

قال شبيب بن أبي شيبة أوصتني أمي عند موتها فقالت لي يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري وقل يا أم شيبة قولي لا إله إلا الله قال فلما دفنتها قمت عند قبرها فقلت يا أم شيبة قولي لا إله إلا الله ثم انصرفت فلما كان من الليل رأيتها في المنام فقالت لي يا بني كدت أن أهلك لولا أن تداركني لا إله إلا الله فلقد حفظت وصيتي يا بني
وروى أن رجلا قال رأيت رجلا وقد ذكر رجلا معروفا قال رأيته في النوم وكأنه قد مات وحمل إلى قبره وكنت ممن شهده فرأيته قد وضع في قبره فرأيت بابا قد فتح في جانب القبر كأنه باب مغارة وهي مملوءة ظلمة فخرج من ذلك الباب أسدودان مهيبا المنظر فأخذا ذلك الميت وجعلا يجذبانه إلى المغارة والميت ساكت فبينما هما كذلك إذ أقبل رجل كان مشهورا بالعبادة وكان ذلك الميت يحسن إليه فلما رآه الميت استغاث به يا فلان فقال ذلك الرجل سلام لا بأس وأخذ بيده واستنقذه الرجل ذلك الميت ثم صعد به إلى السماء
قال الراوي فاستيقظت فوجدت ذلك الرجل المجذوب قد مات وكنت ممن شهد جنازته
فأول أهل العلم بالتأويل ان ذلك الجذب الذي كان الناس يجذبون ذلك الميت دعاؤهم له ورغبتهم إلى الله فيه وأخذ ذلك الرجل بيد الميت هو دعاؤه له وثواب الخير الذي كان يعمل معه
وروى مسلم بن الحجاج من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهدي قال حضرنا عمر بن العاص وهو في سياق الموت فبكى طويلا ثم حول وجهه إلى الجار فجعل ابنه يقول ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أما بشرك بكذا قال فأقبل بوجهه وقال إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إني كنت على أطباق ثلاثة لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه و سلم مني ولا أحب إلي أن أكون قد تمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار

فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت ابسط يمينك أبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي قال مالك يا عمرو قلت أردت أن اشترط قال تشترط ماذا قلت أن يغفر لي قال أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله
وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له فلو سئلت أن أصفه لم أطق ذلك لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالا له فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة
ثم ولينا أشياء وما أدري ما حالي فيها فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قد ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وانظر ماذا أراجع به رسل ربي
قوله حتى استأنس بكم يريد أن يستأنس بدعائهم له وبذكرهم الله عز و جل عنده
وروى أبو عبد الرحمن النسائي من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اقرأوا يس على موتاكم
فيحتمل أن تكون هذه القراءة عند موته ويحتمل أن تكون عند قبره
ويروى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة
وقد روى إباحة القراءة عند القبر العلاء بن عبد الرحمن
ويروى أيضا أن أحمد بن حنبل رجع إلى هذا بعدما كان ينكره
وذكر أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم
وعن عائشة أيضا قالت ذكر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم هالك بسوء فقال

صلى الله عليه و سلم لا تذكروا هلكاكم إلا بخير
وروى البخاري عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا

الباب الثامن
ذكر القبور
اعلم رحمك الله أن في القبر وظلمته وضيقه ووحشته وطرح الميت فيه غير موسد ولا ممهد قد باشر الثرى وواجه البلى وترك دنياه للورى ونبذ منها ما كان في يديه بالعراء مع حبيب تركه وقريب أسلمه ونصير أفرده وترك ما كان عهده ما يفطم النفوس عن الشهوات وإن كانت صعبة الفطام ويقطعها عن اللذات وإن كان قطعها بعيد المرام إذا بحث عن الحقيقة ونظر بعين البصيرة وسمع النداء من قريب
بينما المرء في بلهنية مرتكضا في أمنيته غافلا عن يوم صرعته ومنيته قد فتح للهو بابه وأرسل عليه حجابه ولم يبال بمن لامه في ذلك أو عابه إذ هجمت عليه المنية فهتكت أستاره وكسفت أنواره وطمست أعلامه وآثاره فأخرجته من ذلك القصر المشيد والمنزل المنجد والمتاع المزخرف المنضد إلى حفرة من الأرض سوداء ضيقة الجوانب والأرجاء مملوءة من القرع والرعب ما شاء
فحذار رحمك الله حذار أن تنزع هذا المنزع وبدار عصمك الله بدار أن تصرع هذا المصرع فيفت في عضدك ويسقط في يدك ويرمي بك عن أهلك وولدك في مهواة تزدحم فيها الأهوال وتنقطع فيها الآمال قد جمعت فيها جمعا ورصعت فيها رصعا وتركت للهوام والدود طعما ومرعى

وأنشدوا
( يا نائما والمنون يقضى ... وغائبا والحمام أوفى )
( جاءك أمر وأي أمر ... طم على غيره وعفى )
( هل بعد هذا المشيب شيء ... غير تراب عليك يحفى )
( فليس ذا الأمر بالهويني ... ولا بشيء عليك يخفى )
( من بعدما المرء في براح ... يهتز تيها به وظرفا )
( ساكن نفس قرير عين ... يرشف ثغر النعيم رشفا )
( إذ عصفت في ذراه ريـ ... ـح تقصف كل الظهور قصفا )
( فبات في أهله حصيدا ... قد جعفته المنون جعفا )
( فعاد ذاك النعيم بؤسا ... وصار ذاك السكون رجفا )
( وسيق سوقا إلى ضريح ... يرصف بالرغم فيه رصفا )
( وبات للدود فيه طعما ... وللهوام العطاش رشفا )
( وليته لم يكن رهينا ... بكل ما قد هفا وأهفا )
ولعلك قد كنت في الدنيا ممن يشكو تبديل المنازل وإن كانت حسانا ويكثر فيه تلونا وافتنانا ولا ترى لربك عز و جل فيها تفضلا ولا امتنانا
فانظر الآن كم بين المنزلتين وكم قدر ما بين الوحشتين إلا أن يدركك فيض الرحمة وتغشاك روائح المنة فتتسع من القبر أقطاره وتمتد أنواره ويكثر مؤنسوه وزواره
وأنشدوا في هذا المعنى
( من كان يوحشه تبديل منزله ... وأن يبدل منها منزلا حسنا )

( ماذا يقول إذا ضمت جوانبها ... عليه واجتمعت من ها هنا وهنا )
( ماذا يقول إذا أمسى بحفرته ... فردا وقد فارق الأهلين والسكنا )
( هناك يعلم قدر الوحشتين وما ... يلقاه من بات باللذات مرتهنا )
( يا غفلة ورماح الموت شارعة ... والشيب ألقى برأسي نحوه الرسنا )
( ولم أعد مكانا للنزولا ولا ... أعددت زادا ولكن غرة ومنى )
( إن لم يجد من توالى جوده أبدا ... ويعف من عفوه من طالبيه دنا )
( فيا إلهي ومزن الجود واكفة ... سحا فتمطرنا الأفضال والمننا )
( آنس هنالك يا رحمن وحشتنا ... والطف بنا وترفق عند ذاك بنا )
( نحن العصاة وانت الله ملجؤنا ... وأنت مقصدنا الأسني ومطلبنا )
( فكن لنا عند بأساها وشدتها ... أولى فمن ذا الذي بها يكون لنا )
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا
فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينبح منه فما بعده أشد منه
وسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما رأيت منظر قط إلا والقبر أفظع منه ذكره الترمذي
وذكر الترمذي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مصلاه فرأى أناسا كأنهم يكثرون فقال أما أنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى أكثروا ذكر هادم اللذات الموت فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة أنا بيت الوحدة أنا بيت التراب أنا بيت الدود والهوام فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحبا وأهلا أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإد وليتك اليوم وصرت إلي

فسترى صنعي بك قال فيفسح له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر لا مرحبا ولا أهلا أما إن كنت لمن أبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنعي بك قال فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه قال وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصابع يديه فأدخل بعضها في بعض وقال ويقيض الله له سبعين تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فتنهشه وتخدشه حتى يبعث إلى الحساب قال وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار
وروى أبو الحجاج الثمالي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول القبر للميت إذا وضع فيه ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود و ما غرك بي إذ كنت تمر بي فدادا قال فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول أرأيت إن كان ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال فيقول القبر فإني إذن أعود عليه خضرا ويعود جسده نورا ويصعد روحه إلى رب العالمين
ذكر هذا الحديث أبو أحمد الحاكم في كتاب الكنى وذكره أيضا قاسم بن أصبغ
قيل لأبي الحجاج ما الفداد قال الذي يقدم رجلا ويؤخر أخرى يعني الذي يمشي مشية المتبختر
وقال مجاهد أول ما يكلم ابن آدم حفرته تقول أنا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الوحشة وبيت الظلمة وبيت الغربة هذا ما أعددت لك يا ابن آدم فماذا أعددت لي
وقال بعض الحكماء أربعة أبحر لأربعة الموت بحر الحياة والنفس بحر الشهوات والقبر بحر الندامات وعفو الله بحر الخطيئات

وقال أبو الدرداء ألا أخبركم بيوم فقري يوم أنزل قبري
وكان جعفر بن محمد يأتي القبور ليلا ويقول يا أهل القبور مالكم إذا دعوتكم لا تجيبوني ثم يقول حيل بينهم والله وبين الجواب وكأني أكون مثلهم وأدخل في جملتهم ثم يستقبل القبلة ويصلي حتى يطلع الفجر
وأنشدوا
( يا نائما بالضريح هبا ... هاك نسيم الصباح هبا )
( وكل من نام قد تشفى ... وقام من نومه وهبا )
( قم تروحه النهار طلقا ... وصدره للأنام رحبا )
( والناس كل إلى هواه ... حرك طرفا وسل عضبا )
( قم ويك طال ذا هجوع ... وطال حزني له وأربي )
( كم ذا أنادي ولا مجيب ... يجيب دامي الفؤاد صبا )
( ولو أنادي جماد صخر ... لرق لي لوعة ولبى )
( فقال لي ينطق اعتبارا ... تفهمه الفتية الألبا )
( يمنعني أن أجيب خطب ... صير سلم الخطوب حربا )
( أخرس مني ألد خصما ... وقاد مني أشم صعبا )
( فخل عني وعن جوابي ... فبحر همي يعب عبا )
( ولتبك إن كنت ذا بكاء ... نفسك ذنبا أتت فذنبا )
( فيا إلهي ومن إليه ... مددت كفي رهبا ورغبا )
( بدد لحمي ورض عظمي ... وردني للهوام نهبا )
( وروعة للنشور عظمى ... قدت فؤادي خوفا ورعبا )
( رحماك في بائس فقير ... قد طاف شرقا وطاف غربا )
( فلم يجد حاجة تقضي ... ولا رأى دعوة تلبى )

( إلا ومن أفقكم حياها ... تسكب فوق الأنام سكبا )
( فاغفر إلهي ذنوب عبد ... تبت يداه بهن تبا )
( إن لم ينل من رضاك حظا ... ولم يصب من جداك شربا )
( فالحمد في ذاكم وفي ذا ... نال أجاجا أو نال عذبا )
قال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه يا فلان لقد أرقت البارحة تفكرا في القبر وساكنه أنك لو رأيت الميت في قبره بعد ثلاث لاستوحشت منه بعد طول الأنس به ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الريح وتقطع الأكفان وكان ذلك بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب ثم شهق شهقة ثم خر مغشيا عليه
حدثنا سليمان بن أحمد قال أخبرنا محمد بن زكريا العلائي قال أخبرنا معدي بن سابق البهدلي قال بلغنا أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة فلما انصرفوا تأخر عمر عنها وأصحابه فقال له أصحابه يا أمير المؤمنين أنت لم تأخرت عنها وتركتها فقال نعم ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألم تسألني ما صنعت بالأحبة قلت بلى قال خرقت الأكفان ومزقت الأبدان ومصصت الدم وأكلت اللحم ألا تسألني ما صنعت بالأوصال قلت بلى قال نزعت الكفين من الكوعين وكذلك الفخذين من الركبتين والركبتين من الساقين والساقين من القدمين
ثم بكى عمر وقال ألا إن الدنيا بقاؤها قليل وعزيزها ذليل وغنيها فقير شابها يهرم وحيها يموت ولا يغركم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها والمغرور من اغتر بها أين سكانها الذين بنوا مرابعها وشققوا أنهارها وغرسوا أشجارها وأقاموا فيها أياما يسيرة وغرتهم بصحبتهم وغروا بنشاطهم فركبوا المعاصي إنهم كانوا والله في الدنيا مغبوطين بالمال على كثرة المنع عليه محسودين على جمعه ما صنع التراب بأبدانهم والرمل بأجسامهم والديدان بعظامهم وأوصالهم وإذا مررت فنادهم إن كنت مناديا وادعهم إن كنت لا بد

داعيا ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم وسل غنيهم ما بقي من غناه وسل فقيرهم ما بقي من فقره وأسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان محت الألوات وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه ومحت المحاسن وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء ومزقت الأشلاء
قد حيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوههم بالية وأجسادهم من أعناقهم بائنة وأوصالهم متمزقة وقد سالت الحدق على الوجنات وامتلأت الأفواه دما وصديدا ودبت دواب الأرض في أجسامهم وتفرقت أعضاؤهم ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضايق قد تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذته فيا ساكن القبر ما الذي غرك في الدنيا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء نهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسله يا مكفن الميت وحامله يا مدليه في قبره وراحل عنه
ليت شعري كيف نمت على خشونة الثرى يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكى صرت في محلة الموتى
ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي ثم أنشد
( تغر بما يفني وتشغل بالصبا ... لقد غر باللذات في النوم حالم )
( نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم )

( وتعمل فيما سوف تكره حبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم )
ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن الحسين الحضرمي قال أخبرنا أسد بن زيد قال كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعة فقال السلام عليك يا صاحب القبر قال عمر فناداني مناد من خلفي عليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل فقلت عن ساكنك وجارك قال أما البدن فعندي وأما الروح فعرج به إلى الله عزوجل وما أدري أي شيء حاله قلت أسألك عن ساكنك وجارك قال أسلت المقلتين على الخدين ومزقت الأكفان وأكلت الأبدان ثم ذكر نحوه وزاد فلما ذهبت أقفي ناداني ياعمر عليك بكفن لا يبلى قلت وما كفن لا يبلى قال اتقاء الله والعمل الصالح
وفي بعض الخطب المروية يا ابن آدم لا يغرنك ارتفاع ذكرك ونفاذ أمرك وتشييد قصرك مع ما جمعت فيه من الظباء الشرد والأوانس النهد والمتاع المزخرف المنجد فإنك تخرج منه بالرغم والأمر الجزم إلى بيت الحجارة والرضم فتغتسل فيه بصديدك وتأنس فيه بحشراتك ودودك إلى أن تبلغك الرجفة لهلاك هذا المعمور ثم الصيحة ليوم النشور وبعثرة القبور فتخرج بالأمر الكبار إلى دارك دار القرار إما إلى الجنة وإما إلى النار
وأنشد بعضهم
( من كان مسكنه قصرا يشيده ... فإن مسكنه من بعد ذا جدث )
( ومن تكن فرشه فيها مرقشة ... ففرشه في ضريح بعدها الرثث )
( ومن تكن آنسوه خردا لعبا ... فآنسوه هناك الدود والعثث )
( ومن غدا وسط نار شعره جزل ... فإن آخره التمزيق والشعث )

( وليته مع هذا لو أقام غدا ... لكنه لمهول بعد ينبعث )
( وليس ذا الأمر مما يستطاع له ... وصف ولكنها الأمثال تعترث )
( فالبحر مضربه لذي الندى مثل ... والنار تذكرها إذ يذكر الغرث )
وقيل لبعض الزهاد ما أبلغ العظات فقال النظر إلى محلة الأموات
يروى أن الاسكندر مر بمدينة قد ملكها عدة ملوك وبادوا فقال هل بقي من نسل هؤلاء الملوك أحد فقيل له ما بقي منهم إلا رجل واحد يكون في هذا المقابر فدعا به فلما حضر قال له ما الذي حملك على لزوم المقابر قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدت الكل سواء فقال له الاسكندر هل لك أن تتبعني فأحيي بك شرف أبائك إن كانت لك همة فقال إن لي همة عظيمة فإن كان بغيتي عندك تبعتك قال ما بغيتك قال حياة لا موت فيها وشباب ليس معه هرم وغنى ليس معه فقر وسرور ليس معه مكروه قال ليس ذلك عندي فقال وأي خير أرجوه عندك إن لم يكن عندك هذه الأشياء فامض لشأنك ودعني أطلب ذلك ممن يملكه وممن هو عنده ثم عاد إلى مكانه
ومر رجل مسافر بغلام في صحراء فقال له يا غلام أين العمران فقال له اصعد الرابية تشرف على العمران فصعد فأشرف على قبور فرجع إليه فقال سألتك عن العمران فدللتني على القبور فقال إني رأيت أهل هذه الدنيا ينقلون إلى تلك ولم أر أحدا من تلك ينقل إلى هذه وإنما ينتقل من الخراب إلى العمران ولو سألتني عما يواريك ويواري دابتك لدللتك عليه
وكان يزيد الرقاشي رحمه الله يقول أيها المقبور في حفرته المستخلي في القبر بوحدته المستأنس في بطن الأرض بعمله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت وبأي أحوالك اغتبطت ثم يبكي حتى يبل عباءته ثم يقول

استبشر والله بأعماله الصالحة واغتبط بإخوانه المعاونين له على طاعة الله عز و جل
وكان إذا رأى القبور يخور كما يخور الثور
ومر داود الطائي رحمه الله بامرأة تبكي على قبر وهي تقول
( عدمت الحياة فلا نلتها ... إذا أنت في القبر قد وسدوكا )
( وكيف ألذ بطعم الكرى ... وها أنت في القبر قد أفردوكا )
ثم قالت يا أبناه بأي خديك بدأ الدود أولا قال فخر داود مغشيا عليه
وقال حاتم الأصم من مر بفناء القبور ولم يتفكر في نفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم
وعن صلة بن أشيم أنه دفن أخا له ثم وقف على قبره وقال
( فإن تنج منه تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا )
وكان بكر العابد يقول لأمه يا أماه ليتك كنت بي عقيما وإن لابنك في القبر حبسا طويلا وإن له من بعد ذلك رحيلا
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله يا ابن آدم دعاك ربك إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه إن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها
وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على القبور قال ما أحسن ظواهرك إنما الدواهي في بواطنك
وكان عطاء السلمي إذا جن الليل يخرج إلى القبور فيقول يا أهل القبور متم فواماتاه وعاينتم أعمالكم فواعملاه ثم يقول غدا يكون عطاء في القبور فلا يزال ذلك دأبه إلى الصبح
وقال سفيان الثوري رحمه الله من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة

ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار
وقال أحمد بن حرب رحمه الله تتعجب الأرض ممن يمهد مضجعه ويسوي فراشه للنوم تقول يا ابن آدم ألا تذكر طول رقادك في جوفي وما بيني وبينك شيء
وأنشد بعضهم
( يا ليتني والأماني غير طائلة ... إلا تعلل مشغوف بها شغلا )
( علمت أي بلاد الله مضطجعي ... إذا تباين عني الروح وانفصلا )
( لعلني أن أشوب أدمعي بدمي ... فيه واشرح من حزني به جملا )
( وأن أسوي من تربائه بيدي ... حتى يكون وثير المس معتدلا )
( هيهات هيهات ما للقبر تسوية ... إلا اليقين وإلا القول والعملا )
ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمقابر فوقف عليها فقال السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون اللهم اغفر لنا ولهم وتجازو عنا وعنهم طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي في جميع أحواله عن الله تعالى
ثم قال يا أهل القبور أما الزوجات فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت هذا خير ما عندنا فما خير ما عندكم ثم التفت إلى أصحابه فقال أما أنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى
ويروى أن رجلا دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فرآه قد تغير لونه من كثرة العبادة واستحالت صفته فجعل يتعجب من تغير لونه فقال له عمر يا ابن أخي وما تعجبك مني فكيف لو رأيتني بعد دخول قبري بثلاث وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان عن

الأسنان وخرج الصديد والدود من المناخر والفم وانتفخ البطن فعلا على الصدر وخرج الصلب عن الدبر لرأيت إذ ذاك مني أعجب مما رأيت الآن
واعلم رحمك الله أنه من أقام هذا الخيال نصب عينيه وتفكر في الميت وما يؤول إليه ثم نظر فيما يقدم بعد ذلك عليه وعلم أن جسمه الغض وبدنه اللين سيطرح في حفرة تقطع أوصاله وتغير أحواله ثم يتبين بعد ذلك مآله ويطلب بكل ما عمله وقاله لم يشغل بميت باله ولم يبك إلا لنفسه لا له
وأنشدوا
( لمن جدث أبصرته فشجاني ... وأرسل في شجو الهموم عناني )
( سفكت عليه أدمعي فسقيته ... كما هو من كأس الشجون سقاني )
( وقفت به حيران وقفة هائم ... أعالج قلبا دائم الخفقان )
( وما بي من في القبر لكن رأيته ... على حالة فيها وشيك أراني )
وأنشدوا أيضا
( لمن الأقبر في تلك الربى ... ملأت صدري شجوا وأسى )
( لمن الأوجه فيها كسفت ... بعد حسن وجمال وضيا )
( لمن الأجسام فيها بليت ... بعد زهو وشباب وانتشا )
( ومن الفرسان فيها قد نسوا ... روعة الحرب بروعات الثرى )
( ورموا إذ هتف الموت بهم ... بسيوف الهند رعبا والقنا )
( ومن الخرد فيها شد ما ... فتكت قبل بآساد الشرى )
( نظر الموت إليها فغدت ... تنفر الأنفس منها إذ ترى )
( لمن الأقبر في تلك الربى ... ألبست جسمي أثواب الضنا )
( يا جفونا أرسلت أدمعها ... ما بذا بأس لو ارسلت الدما )
( صاح يا صاح ونيران الجوى ... علقت مني بأثناء الحشا )

( لا تظنن بكائي لهم ... ليس والله لهم هذا البكا )
( إنما أبكي لنفسي لا لهم ... فكأني اليوم فيهم أو غدا )
( هامد الجمرة موهون القوى ... دائم الحسرة مقطوع العرى )
( رب يا رب يا رب الورى ... ما ترى في عبد سوء ما ترى )
( كفر الأحسان قدما وبغى ... وطغى ثم طغى ثم طغى )
( ما ترى في أمره يا من ترى ... كل شيء وهو رب لا يرى )
( ليس إلا عفوك المرجو أو ... دفعة تنزله قعر لظى )
( وعياذا بك يا مولاي أن ... يلتوي في يده حبل الرجا )
( وإذا اسلمته رب فمن ... يقصد اليوم له أو يرتجى )
ولعلك يا هذا الباكي على ميته لا تفرغ من بكائك عليه حتى ينزل بك ما نزل به فتكون قد ضيعت وقتك بسببه ولم تشف صدرك من وصبه ولا قضيت ببكائك جميع أربه كما روى عن عبد الملك بن قريب الأصمعي قال رأيت بالبادية امرأة على راحلة تطوف حول قبر تبكي وتنشد وتقول
( يا من بمقلته زها الدهر ... قد كان منك تطاول الأمر )
( زعموا قتلت وما لهم خبر ... كذبوا وقبرك ما لهم عذر )
( يا قبر سيدنا المجن سماحة ... صلى الإله عليك يا قبر )
( ما ضر لحدا أنت ساكنه ... ألا يمر بأرضه القطر )
( فلينبعن سماح جودك في الثرى ... وليورقن بقبرك الصخر )
( وإذا غضبت تصدعت فرقا ... منك الجبال وخافك الذعر )
( وإذا رقدت فأنت منتبه ... وإذا انتبهت فوجهك البدر )
( والله لو بك لم أدع أحدا ... إلا قتلت لفاتني الوتر )

قال الأصمعي فأعجبني شعرها فدنوت منها لأكلمها وأسألها عن أمرها فإذا هي قد سقطت ميتة
وقال ميمون بن مهران رحمه الله خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقابر فلما نظر إليها بكى ثم قال وأقبل علي يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأن لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وطيب عيشهم أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات واستحكم فيهم البلى وأصابت الهوام في أجسامهم مقيلا ثم بكى وقال والله لا أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز و جل وقال ثابت البناني دخلت المقابر فلما أردت الخروج منها إذا بصوت يقول يا ثابت لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس معذبة فيها
ويروى أن فاطمة بنت الحسن بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهم نظرت إلى جنازة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فقالت
( وكانوا رجاء ثم عادوا رزية ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت )
ثم ضربت على قبره فسطاطا وأقامت عليه سنة فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ليدخدلوا المدينة فسمعوا صوتا من جانب البقيع يعني المقابر يقول هل وجدوا ما طلبوا فسمعوا صوتا من الجانب الآخر يجاوبه بل يئسوا فانقلبوا
ويروى أن بعض المتعبدين أتى قبرا كان يألف صاحبه فأنشأ يقول
( مالي مررت على القبور مسلما ... قبر الحبيب فلا يرد جوابي )
( فأجبت مالك لا تجيب مناديا ... أمللت بعدي خلة الأصحاب )
( أكل التراب محاسني فنسيتكم ... وحجبت عن أهلي وعن أحبابي )
قال فهتف بي هاتف يقول

( قال الحبيب وكيف لي بجوابكم ... وأنا رهين جنادل وتراب )
( فعليكم مني السلام تقطعت ... مني ومنكم عقدة الأسباب )
وقال أبو موسى التيمي توفيت النوار امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة وقراؤها وفيهم الحسن بن أبي الحسين البصري فقال الحسن للفرزدق يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم
فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة وخمس نجائب لا يدركن يعني الصلوات الخمس فلما دفنت النوار قام الفرزدق على قبرها وقال
( أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر التهابا وأضيقا )
( إذا قادني يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يسوق الفرزدقا )
( لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا )
( يساق إلى نار الجحيم مسربلا ... سرابيل قطران لبوسا محرقا )
( إذا شربوا فيها الحميم رأيتهم ... يذوبون من حر الجحيم تمزقا )
وقال مالك بن دينار أتيت القبور يوما فقلت فيها بيتين
( أتيت القبور فناديتها ... وأين المعظم والمحتقر )
( وأين المدل بسلطانه ... واين العزيز إذا ما افتخر )
قال فنوديت من بينها أسمع صوتا ولا أرى شخصا وهو يقول
( تفانوا جميعا فلا مخبر ... وماتوا جميعا ومات الخبر )
( وصاروا إلى مالك قاهر ... عزيز مطاع إذا ما أمر )
( تروح وتغدو بنات الثرى ... وتمحو محاسن تلك الصور )
( فيا سائلي عن أناس مضوا ... أمالك فيما ترى معتبر )
( لقد قلد القوم ما قدموا ... فإما نعيم وإما سقر )
قال مالك فرجعت وأنا أبكي
وأنشد بعضهم
( قف بالقبور بأكباد مصدعة ... ودمعة من سواد القلب تنبعث )

( وسل بها عن أناس طالما رشفوا ... ثغر النعيم وما في ظله مكثوا )
( ماذا لقوا في خباياها وما قدموا ... عليه فيها وما من أجله ارتبثوا )
( وعن محاسنهم إن كان غيرها ... طول المقام ببطن الأرض واللبث )
( وما لهم حشرات الأرض تنهشهم ... نهشا تزول له الأعضاء والنجث )
( وتلكم الفتيات إذ طرحن بها ... هل كان فيهن ذا التغيير والشعث )
( فإن يجبك على لأي مجيبهم ... ولن يجيب وأنى ينطق الجدث )
( فانظر مكانك في أفناء ساحتهم ... فإنه الجد لا هزل ولا عبث )
( واعمل لمصرع يوم هال أوله ... ومن أمامك فيه الروع والجأث )
ولعك أيضا ممن يرفع قبر وليه ويزخرفه ويشيده ويشتغل بظاهره ويغفل عن باطنه ولا يدري هل أبيض على من فيه أو أسود وهل انفرج له أو انسد وما ساكنه اشقي أم سعيد غوي أو رشيد وأحسن عنده أن يتصدق بتلك النفقة عنه ليزداد بها حسنة أو يحط عنه بها سيئة
وأنشدوا
( ليت شعري ساكن القبر المشيد ... هل وجدت اليوم فيه من مزيد )
( وهل الباطن فيه مثل ما ... هو في الظاهر تزويقا وشيد )
( وهل الأركان منه بالتقى ... نيرات أو بأعمالك سود )
( وهل المضجع فيه لين ... أو سعير ما لها فيه خمود )
( ليت شعري ساكن القبر المشيد ... أشقي أنت فيه أم سعيد )
( أقريب أنت من رحمة من ... وسع العالم إحسانا وجود )
( أم بعيد أنت منها فلقد ... طرقت دارك بالويل البعيد )

( ولقد حل بأرجائك ما ... ضاق عنه كل ما في ذا الوجود )
( أيها الغافل مثلي وإلى ... كم تعامى وتلوى وتحيد )
( ادن فاقرأ فوق رأسي أحرفا ... خرجت ويحك من قلب عميد )
( صرعته فكرة صادقة ... وهموم كلما تمضي تعود )
( وندامات لأيام مضت ... هو منها في قيام وقعود )
( وغدا ترجع مثلي فاتعظ ... بي وإلا فامض واعمل ما تريد )
( قد نصحناك فإن لم تره ... سيراه بصر منك حديد )
واعلم رحمك الله أن الشيء الممكن وجوده لا يعرف مقداره على الحقيقة إلا إذا عدم وفقد وطلب فلم يوجد كما قال القائل
( مر الشباب ولم أقدر أراجعه ... ولم أحييه إلا بعدما انصرفا )
( والمرء يجهل قدر الشيء يمكنه ... حتى إذا فاته إمكانه عرفا )
ألا ترى رحمك الله أن الصحة لا يعرف مقدارها على الحقيقة إلا المرضى والعافية لا يعرف مقدارها إلا المبتلى فكذلك الحياة لا يعرف مقدارها إلا الموتى لأنهم قد ظهرت لهم الأمور وانكشفت لهم الحقائق وتبدت لهم المنازل وعلموا مقدار الأعمال الصالحة إذ ليس ينفق هناك إلا عمل صالح زكي ولا يرتفع هناك إلا عبد تقي وكلما ازداد هنا عملا صالحا كان هناك أرفع درجة واشرف رتبة وأكثر وجاهة وكلما ازداد في الدنيا فضيلة كان أقرب إلى الله وسيلة
فلما استبان لهم ذلك وعلموا مقدار ما ضيعوا وقيمة ما فيه فرطوا ندموا وأسفوا وودوا لو أنهم إلى الدنيا رجعوا وإلى حالتهم الاولى ردوا وكل على حاله فالذي عمل صالحا يود أن لو رجع إلى الدنيا فازداد من عمله الصالح وأكثر من متجره الرابح
والمقصر يود لو رد فاستدرك ما فات ونظر فيما فرط فيه
فالمفرط المهمل بالجملة يكون تمنيه الرجوع أكثر وحرصه على الإقالة أشد كل يتكلم عن حاله ويخبر عما هو فيه حتى قال الشهيد الذي قتل في

سبيل الله لما قيل له ما تشتهي قال أريد أن أرجع إلى الدنيا فأقاتل فأقتل مرة أخرى وذلك لما يرى من فضل الشهادة وازدحام الحور العين عليه حال قتله
وقال غيره رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت وقالوا يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل
وقال صلى الله عليه و سلم ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع أخرجه الترمذي
ويروى أن رجلا جاء إلى القبور وصلى ركعتين ثم اضطجع على شقه فنام فرأى صاحب القبر في المنام فقال له يا هذا إنكم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نعمل ولأن تكون ركعتاك في صحيفتي أحب إلي من الدنيا وما فيها
وقال بعض الصالحين مات أخ لي في الله فرأيته في النوم فقلت له يا فلان ما فعل الله بك عشت الحمد لله رب العالمين قال لي لأن أقدر يعني علي أن أقول الحمد لله رب العالمين أحب إلي من الدنيا وما فيها ثم قال ألم تر حيث كانوا يدفنونني فإن فلانا جاء فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها
ألا ترى رحمك الله إلى ندمهم على تفريطهم وتأسفهم على تضييعهم ندموا والله حيث لا ينفع الندم وطلبوا مالا يمكن وسألوا فيما لا يجوز فتركوا على حالهم ولم يسعفوا في سؤالهم وبقي كل واحد منهم فيما هو فيه
ولما أشرف بعضهم على الآخرة وأخذ في الانحدار إلى أوديتها والتدلي في مهاويها وأراد التمسك فلم يمكنه ذلك وأراد التثبيت فلم يقدر عليه والرجوع فلم يجد إليه سبيلا أمر أن يكتب على قبره كذا ويرسم عليه كذا ليكون تذكرة لمن رآه وموعظة لمن مر به كما قال القائل

( أيها الماشي بين القبور ... غافلا عن حقيقة المقبور )
( أنا ميت كما تراني طريح ... بين أطباق رضمة وصخور )
( ادن مني أنبيك عني ... ولا ينبيك عني مثل خبير )
( أنا في بيت غربة وانفراد ... مع قربي من جيرتي وعشيرتي )
( ليس لي فيه مؤنس غير سعي ... من صلاح سعيته أو فجور )
( وكذا أنت فاتعظ بي وإلا ... فعذيري منك الغداة عذير )
فمن رأى قبرا فإنما رأى واعظا يعظه ومذكرا يذكره فإن كان القبر ساكتا فإنه ناطق بلسان الحال ومفصح بما يكون منك في المآل فكأنه إنما يخاطبك إنسان ويبين لك عاقبتك ويقول لك يا هذا كنت حيا مثلك وقد مت وكذلك أنت تموت فضيعت أمر ربي وندمت وكذلك إن ضيعت أمر ربك ستندم كما قال القائل
( ألا قل لماش على قبرنا ... غفول عن أشياء حلت بنا )
( سيندم يوما لتفريطه ... كما قد ندمنا لتفريطنا )
( فويحك كف خطام الهوى ... وقدم جميلا تفز بالمنى )
والسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه وإنما هي ساعة واحدة وإن طال المدى وامتد العمر واتصلت الأيام كما قال القائل
( وإنما عمرك المرجى ... هذا الذي نلته كساعة )
( وقال الأصمعي أصيب حصير حول الحيرة أجرد فيه رجل عليه خلقان وعند رأسه لوح مكتوب فيه أنا عبد المسيح بن حيان بن نفيلة
( حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد )
( وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أخضع لمعضلة كؤود )
( وكدت أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود )

وحدثني أبو الطاهر السلفي نزيل الإسكندرية فيما أذن لي أن أحدث به عنه بإسناده إلى وهب بن منبه قال أصيب على قبر إبراهيم الخليل مكتوبا خلفه على حجر
( ألهى جهولا أمله ... يموت من جاء أجله )
( وكيف يبقى آخر ... قد مات عنه أوله )
( ومن دنا من حتفه ... لم تغن عنه حيله )
ووقع في كتاب المجالسة لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي الدينوري ووجد على قبره مكتوبا
( يا أيها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل )
( فليتق الله ربه رجل ... أمكنه في حياته العمل )
( ما أنا وحدي نقلت حيث تروا ... كل إلى مثله سينتقل )
وعلى آخر مكتوبا
( تناجيك أجداث وهن سكوت ... وسكانها تحت التراب خفوت )
( أيا جامع الدنيا لغير بلاغه ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت )
ووجد على آخر مكتوب
( وقفت على الأحبة حين صفت ... قبورهم كأفراس الرهان )
( فلما أن بكيت وفاض دمعي ... رأت عيناي بينهم مكان )
ومما يذكر أنه وجد شعر قديم بالشام مكتوبا على قبر وقيل إنه على قصر من قصور اليمن
( ماتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تمنعهم القلل )
( واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ... وأنزلوا حفرة يا بئس ما نزلوا )
( ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا ... أين الأسرة والتيجان والحلل )
( أين الوجوه التي كانت منعمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل )

( فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل )
( لطال ما أكلوا دهرا وما نعموا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا )
( قال أبو القاسم محمد بن سعد رأيت قبرا في بستان كثير النخل والرمان وأصناف الشجر وعليه مكتوب
( كم ساكن في حفرة ... يبلى جديد جماله )
( ترك الأحبة بعده ... يتلذذون بماله )
وقال جعفر بن محمد المستملي عن أبيه قرأت على قبر
( ما حال من سكن الثرى ما حاله ... أمسى وقد صرمت هناك حباله )
( أمسى ولا روح الحياة يصيبه ... يوما ولا لطف الحبيب يناله )
( أضحى وحيدا موحشا متفردا ... متشتتا بعد الجميع عياله )
( أمسى وقد درست محاسن وجهه ... وتفرقت في قبره أوصاله )
( واستبدلت منه المجالس غيره ... وتقسمت من بعده أمواله )
( هل من قبيل تعلمون مكانه ... سلمت على حدث الزمان رجاله )
قال وقرأت على قبر أيضا
( يا باكي الميت على قبره ... امض ودعه سوف تسلاه )
( من عاين الموت فذاك الذي ... لم تر مثل الموت عيناه )
( كم من شقيق لم يجد غير أن ... أغمض من يهوى وسجاه )
( وكم محب لحبيب إذا ... سوى عليه اللحد خلاه )
ووجد على قبر مكتوبا
( الموت أخرجني من بيت مملكتي ... والترب مضطجعي من بعد تشريف )
( لله عبد رآى قبري فأعبره ... وخاف من دهره ريب التصاريف )

( هذا مصير بني الدنيا وإن نعموا ... فيها وغرهم طول التساويف )
( استغفر الله من جرمي ومن زللي ... وأسأل الله فوزا يوم توقيف )
ووجد على آخر مكتوبا
( قف واعتبر فكأن قد ... حللت هذا المحلا )
( هذا مكان يساوي ... فيه الأعز الأذلا )
( ما كان لي من صديق ... إلا جفاني وملا )
( وما جفاني ولكن ... طال المدى فتسلى )
وعلى قبر أبي عامر بن شهيد مكتوب وهو مدفون بإزاء صاحبه أبي مروان الرجال وكأنه إنما يخاطبه وقد دفنا في بستان كانا كثيرا ما يجتمعان فيه
( يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود )
( فقال لي لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد )
( تذكر كم ليلة نعمنا ... في ظلها إذ الزمان عيد )
( وكم سرور همى علينا ... سحابه ثرة يجود )
( كل كأن لم يكن تقضى ... وشؤمه حاضر عتيد )
( حصله كاتب حفيظ ... وضمه صادق شهيد )
( يا حسرتا إن نكبتنا ... رحمة من بطشه شديد )
( يا رب عفوا فأنت مولى ... قصر في حقه العبيد )
ورأيت على قبر أحد بني حبيب بإشبيلية مكتوبا في لوح رخام
( عمرت خمسين واثنتين ... في حالة لم تقر عيني )
( أطيع دنيا دفعت عنها ... إلى التي آذنت بحيني )

( تركت في الحي أصفيائي ... وحيل ما بينهم وبيني )
( قد بنت عنهم أخرى الليالي ... ليس كبين الحياة بيني )
( وسوف ينسونني وشيكا ... من بعد خمسين واثنتين )
( إن كان دين الحياة ديني ... فسرني أن قضيت ديني )
ومما وجد على قبر مكتوبا
( إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت حجاب ولا حرس )
( وكيف تفرح بالدنيا ولذتها ... يا من عليه يعد اللفظ والنفس )
( أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا ... وأنت دهرك في اللذات تنغمس )
( لا يرحم الموت ذا جهل لغرته ... ولا الذي كان منه العلم يقتبس )
( كم أخرس الموت من قبر وقفت به ... عن الجواب لسانا ما به خرس )
( قد كان قصرك معمورا له شرف ... فقبرك اليوم في الأجداث مندرس )
وأمر أبو العلاء بن زهير وكان طبيب عصره أن يكتب على قبره
( ترحم بفضلك يا واقفا ... وأبصر مكانا دفعنا إليه )
( تراب الضريح على صفحتي ... كأني لم أمشي يوما عليه )
( أداوي الأنام حذار المنون ... فها أنا قد صرت رهنا لديه )
ووجد على قبر مكتوبا
( أنا مشغول بذنبي ... عن ذنوب العالمينا )
( وخطايا موبقات ... تركت قلبي حزينا )
( ولقد كنت جليلا ... في عيون الناظرينا )
( صرت في ظلمة قبري ... خاليا فيه رهينا )
( في ثرى الأرض وحيدا ... في جوار الهالكينا )
( وتركت الأهل والما ... ل لعمري والبنينا )

ذ 209
( ولقد عمرت دهرا ... بعد أحقاب سنينا )
( في نعيم وسرور ... فوق وصف الواصفينا )
( وملكت الشرق والغر ... ب وكان الملك فينا )
( وفتحت المدن قهرا ... وغلبت الغالبينا )
( فأتى الموت علينا ... بعد هذا ففنينا )
( أيها المغرور بادر ... لثواب الصالحينا )
( كل حي سوف يفنى ... غير محيي الميتينا )
ووجد على قبر مكتوبا
( هذي منازل أقوام عهدتهم ... في ظل عيش عجيب ما له خطر )
( صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر )
ومما يذكر أنه وجد على قبر بطليلطلة إذ كانت للمسلمين مكتوبا
( كأنك قد رحلت عن المباني ... ووارتك الجنادل والصعيد )
( وناداك الحبيب فلم تجبه ... وقربك منه في الدنيا بعيد )
( وأصبح مالك المجموع نهبا ... وعطل بعدك القصر المشيد )
( وصار بنوك أيتاما صغارا ... وعانق عرسك البعل الجديد )
( وأكبر منه أنك لست تدري ... شقي أنت ويحك أم سعيد )
ووجد على باب مقبرة مكتوبا
( سلام على أهل القبور الدوارس ... كأنهم لم يجلسوا في المجالس )
( ولم يشربوا من بارد الماء شربة ... ولم يطعموا من كل رطب يابس )
( ولم يك منهم في الحياة منافس ... طويل المنى فيها كثير الوساوس )
( ألا ليت شعري أين قبر خليلكم ... وقبر العزيز الشامخ المتشارس )

( لقد صرت في غاية الترب واحدا ... فهاهم بها ما بين راج ويائس )
( ولو عقل المرء المنافس في الذي ... تركتم من الدنيا له لم ينافس )

الباب التاسع
في زيارة القبور والبكاء عندها وما جاء أن الميت يعرف من زاره ويبلغه دعاء من دعا له وسلام من سلم عليه وفي إباحة زيارة قبر الوالدين المشركين وما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أحوالهم وأعمالهم
ذكر مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى وأبكى الناس من حوله وقال صلى الله عليه و سلم استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر بالموت
وذكر أبو داود من حديث بريدة بن حصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإن في زيارتها تذكرة
وذكر النسائي عن بريدة أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أراد أن يزور قبرا فليزره ولا تقولوا هجرا
وذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من رجل يزور قبر أخيه المؤمن كان يعرفه ويسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام
ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم

وذكر النسائي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام
وذكر أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وقال سليمان بن نعيم رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقلت يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم قال نعم وأرد عليهم
وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتى المقابر قال السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع أسأل الله لنا ولكم العافية وكان عليه السلام يعلمهم مثل هذا أن يقولوه إذا دخلوا المقابر وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من دعا له
ويروى أن الفضل بن موفق قال كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة وأكثر من ذلك فشهدت يوما جنازة في المقبرة التي دفن فيها فتعجلت بحاجتي ولم آته فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي يا بني لم لا تأتيني فقلت له يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك قال أي والله يا بني وإنك لتأتيني فما أزال أنظر إليك حتى تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة
وكذلك أبيحت زيارة القبور للنساء كما أبيحت للرجال و أبيح لهن البكاء عند القبور كما أبيح للرجال
مر النبي صلى الله عليه و سلم بامرأة تبكي عند قبر صبي لها فقال لها اتقي الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فلما ذهب

قيل لها إنه النبي صلى الله عليه و سلم فأخذها مثل الموت فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين فقالت يا رسول الله لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى
والحديث صحيح مشهور ذكره مسلم والبخاري وغيرهما
ولو كان بكاء النساء عند القبور وزيارتهن لها حراما لنهاها صلى الله عليه و سلم ولزجرها زجرا يزجر بمثله من أتى محرما وارتكب منهيا
وما روي من النهي عن زيارة القبور للنساء فغير صحيح والصحيح ما ذكرت لك من الإباحة إلا أن عمل النساء في خروجهن ما لا يجوز لهن من تبرج أو كلام أو غيره فذلك هو المنهي عنه وقد أبيح لك أن تبكي على قبر ميتك حزنا عليه أو رحمة له مما بين يديه فإن وجدت لك بكاء فإبك ومع بكائك على ميتك فلا تغفل عن بكائك على نفسك وعن الفكرة فيما عملته في يومك وأمسك وفي مآلك عند حلول رمسك
بل لو أمكنك أن تجعل بكاءك كله عليك كان الأولى بك والأحمد لك
وأنشدوا
( لمن جدث لدى باب البنود ... صدعت عليه أكباد العميد )
( نظرت إليه منتبذا بعيدا ... فذكرني بمنتبذ بعيد )
( مررت به فحادثني حديثا ... أعاد علي أحزاني وعيد )
( وأبكاني وأبكاني وأبكى ... ومثلي من بكى عند اللحود )
( وما بي من ثوى فيها ولكن ... غداة غد سأدخل في العديد
وفي هذا المعنى
( ولما حللنا من بجاية جانبا ... تصان به هذي الجسوم وتكرم )
( وجدت لها طيبا وروحا وراحة ... كأني لأنفاس الصبا اتنسم )
( فقلت لصحبي ما الذي أمرجت له ... مقابر منها لاطيء ومسنم )

( فأوهمتهم أني جهلت وأنني ... لأدري بذاك الأمر منهم وأفهم )
( فقالوا طلبنا علم ذاك فلم نجد ... سوى رمم ممن تحب وتعظم )
( تضوع بطن الأرض منها كأنما ... تفتق من دارين مسك مختم )
( ففاضت دموعي عند ذاك وربما ... تشهر بالدمع السرار المكتم )
( خليلي ما بالي وبال نوائب ... يراع لذكراها فؤادي ويكلم )
( ومما شجاني وهو أعظم أنني ... قذفت به مسودة الجوف تلطم )
( ولم أدر ما كانت تحية خصمه ... له هل ببشرى أم بشنعاء تقصم )
( وأعظم منها موقعا وأشده ... وما خصني أدهى علي وأعظم )
( بأني في تلك المسالك سالك ... أساق إليها أن أبيت وأرغم )
( وما أنا أدري ما ألاقي وما الذي ... عليه إذا ما كان ذلك أقدم )
( فهل من دم أبكيه صرفا فإنما ... يبكى على هذا من المقلة الدم )
وقد تقدم أن الميت يتأذى ببكاء أهله عليه وفيه حديث ابن أبي شيبة يقول النبي صلى الله عليه و سلم يا عباد الله لا تعذبوا أمواتكم
وربما يتأذى كذلك أو أكثر من ذلك ببكاء غير أهله ويعتبر ذلك بالحي إذا بكى عنده من ليس له غرض في بكائه ولا إرادة في عويله
يروى عن أبي بكر بن اللباد قال حدثتني عائشة الأندلسية وكانت عائشة هذه من الصالحات قالت توفي لي ولد بمصر فقدمت القيروان فكنت أخرج إلى المقابر في باب سلم فأجلس عند قبر وأبكي فرأيت ذات ليلة كأني خرجت إلى باب سلم على عادتي وإذا أهل القبور قعود على أفنية قبورهم الرجال والنساء والصبيان فلما أقبلت إلىالموضع الذي كنت أبكي عنده سمعت أهل القبور يقولون قد جاءت هذه المرأة ألها عندنا قبر تبكي عليه قالوا لا قالوا فلم تؤذينا ببكائها قالت ثم لطمني منهم ميت في خدي الأيمن قالت فقلت لهم أتلطمون خدي وقد مسست به الركن

والحجر الأسود فقالوا لي قبرك بمصر وتؤذينا أنت ها هنا قالت فانتبهت وأثر اللطمة في خدي قال أبو بكر وكشفت لي عن وجهها فرأيت أثر اللطمة سوادا أقام نحوا من أربعين يوما ثم تقشر وذهب
فينبغي لمن زار القبور أن يسلم على أهلها وأن يدعو لهم ويسأل الله عز و جل فيهم ويترك الكلام عندهم بما لا يحل والحديث على رؤوسهم بما لا يحب فإن كان المتكلم لا يدري مقدار ما يقول فإن الميت يدري مقداره ويتحقق موقعه ويتبين ضرره فواجب عليك ألا تؤذيه بسماع ما لا يريد سماعه وألا تدخل عليه ما لا يريد إدخاله وإلا فربما لم يف لك خير زيارتك إياه بشر ما تنقلب به من عنده
كان بقرطبة رجل من الزهاد المحتسبين يكنى بأبي مروان وكان دينا فاضلا طلب العلم وروى الحديث وسمع من محمد بن وضاح وسكن عنده إلى أن مات وصلى عليه ابن وضاح ودفنه بمقبرة تعرف بمقبرة خلال وتعرف أيضا بمقبرة المساكين وكان ابن وضاح بعد ذلك متى حضر جنازة في تلك المقبرة مشى إلى قبر أبي مروان هذا فوقف به وسلم عليه ودعا له فحضر جنازة في بعض الأيام في تلك المقبرة وأعجله أمر عن المشي إليه على عادته للسلام عليه والدعاء له قال ابن وضاح فلما كانت الليلة المقبله رأيت أبا مروان في نومي وكأنه يقول لي يا أبا عبد الله كن إذا دخلت هذه المقبرة وقفت بي وسلمت علي ودعوت لي فأنست بك وفرحت بدعائك ودخلت اليوم فلم تفعل شيئا من ذلك فقلت له يا أبا مروان وإنكم لتعرفون من يقف بكم ويسلم عليكم فقال نعم ولقد قعد ابنك محمد على قبري اليوم مع رجل ما هو إلا يهودي وتكلم بكلام ما هو إلا كفر ولقد تأذيت بقعودهما وكلامهما قال ابن وضاح فلما أصبحت دعوت ابني محمدا فقلت له أين قعدت أمس إذ حضرنا جنازة فلان قال عند قبر أبي مروان الزاهد فقلت مع من قعدت فكتمني فقلت له مع من قعدت وعزمت عليه فقال لي مع فلان وأعلمني بالقاعد معه فعرفته وكان ذلك الرجل مولعا ببعض الكلام وقلت له فيم تكلمتم وفيم خضتم فقال تكلمنا في الباري تبارك وتعالى وفي القرآن وغير ذلك فقلت

له إياك أن تقاعده أو تتكلم معه أو مع غيره في شيء من هذا فإن أبا مروان أتاني البارحة في نومي فأعلمني بكذا وكذا
وهذه حكاية صحيحة عن ابن وضاح وفي بعض طرقها ان ابنه قال سبحان الذي جعل أبا مروان وكيلا علينا في حياته وبعد مماته
وكما يتأذى الميت رحمك الله بما يسمع من الكفر فكذلك يتأذى بما يسمع من الفحش والهجر ولكنه أذى دون أذى فواجب عليك ألا تؤذيه بقليل ولا كثير وإن لم تنفعه فلا تضره
واعلم أن الميت كالحي فيما يعطاه ويهدي إليه بل الميت أكثر وأكثر لأن الحي قد يستقل بما يهدى إليه ويستحقر ما يتحف به والميت لا يستحقر شيئا من ذلك ولو كان مقدار جناح بعوضة أو وزن مثقال ذرة لأنه يعلم قيمته وقد كان يقدر عليه فضيعه
ومما يدلك على صحة وصول ما يهدي الحي إلى الميت قوله صلى الله عليه و سلم إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له
فدعاء الولد يصل إلى والده وينتفع به وكذلك أمره عليه السلام بالسلام على أهل القبور والدعاء لهم ما ذاك إلا لكون الدعاء لهم والسلام عليهم يصل إليهم ويأتيهم والله أعلم
ويروى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال الميت كالغريق في قبره ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديق له فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها والأخبار في هذا كثيرة
قال بشر بن منصور كان رجل زمن الطاعون يختلف إلى المقابر ثم يستقبل القبور فيقول أمن الله روعتكم آنس الله وحشتكم رحم الله غربتكم تقبل الله حسناتكم تجاوز الله عن سيئاتكم لا يزيد على هؤلاء الكلمات قال الرجل فانصرفت ذات يوم ولم أدع فلما كان الليل رأيت فيما يرى النائم خلقا

كثيرا قد جاءوني فقلت لهم من أنتم قالوا أهل المقابر قلت وما حاجتكم قالوا إنك قد عودتنا منك هدية تهديها إلينا عند انصرافك قلت وما هي قالوا الدعوات التي كنت تدعو بها لنا قلت فإني أعود لما كنت أدعو به قال فما تركت ذلك بعد
وقال بشار بن غالب رأيت رابعة العدوية يعني العابدة في المنام وكنت كثير الدعاء لها فقالت يا بشاء هديتك تأتينا في أطباق من نور عليها مناديل حرير وهكذا يا بشار دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا لأخوانهم الموتى فاستجيب لهم يقال هذه هدية فلان إليك
ورأيت لبعض من يوثق به قال ماتت لي امرأة فقرأت في بعض الليالي آيات من القرآن فأهديتها لها ودعوت الله عز و جل واستغفرت وسألت فلما كان في اليوم الثاني حدثتني امرأة تعرفني وتعرفها قالت لي رأيت البارحة فلانة في النوم تعني الميتة المذكورة في مجلس حسن في دار حسنة وقد أخرجت لي أطباقا من تحت سرير كان في البيت والأطباق مملوءة قوارير فقالت لي يا فلانة هذا أهداه لي صاحب بيتي قال وما كنت أعلمت بما أهديت من ذلك أحدا
وقال أبو قلابة أقبلت من الشام إلى البصرة فمررت على مقابر فنزلت الخندق فتوضأت وصليت ركعتين ثم وضعت رأسي على قبر فنمت فإذا بصاحب القبر في المنام قد وقف بي ثم قال يا هذا لقد آذيتني منذ الليلة يعني بوضع رأسه على قبره ثم قال جزى الله أهل الدنيا خيرا فإنهم لا يزال يدخل علينا من دعائهم أمثال الجبال فأقرئهم مني السلام
وحدثني من أثق به قال رأى فلان وسمى رجلا موثوقا به في النوم فلانة وكانت ميتة قال فقالت لي يا هذا إمض إلى ابنتي فلانة الفاعلة الصانعة تسبها وقل لها أهذا من الصواب أو من البر أن أقعد مع النساء فتأتيهن الطرف والهدايا من عند بناتهن وأخوانهن وأهليهن وأتطلع وأنا أنظر يمينا وشمالا رجاء أن يأتيني منها شيء فلا يأتي فأبقى خجلة عند النساء خزيانة بينهن وقل لها أو لفلانة تمضي إلى موضع كذا وكذا فإن فيه دنانير مدفونة فتفعل بها كذا وكذا قال فوجدت الدنانير كما قالت

والأخبار في هذا الباب كثيرة قديما وحديثا فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت وأنه قد لحق بهم ودخل في معسكرهم وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون وراغب فيما هم فيه راغبون فليأت إليهم بما يحب أن يؤتي به إليه وليتحفهم بما يحب أن يتحف به وليتفكر في تغيير أحوالهم وألوانهم وتقطع أبدانهم وتنكر أحوالهم وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم إلى النفار من رؤيتهم والوحشة من مشاهدتهم ويتفكر أيضا في انشقاق الأرض وبعثرة القبور وخروج الموتى وقيامهم بمرة واحدة حفاة عراة غرلا مهطعين إلى الداعي مسرعين إلى المنادي
قال مطرف بن أبي بكر الهذلي كانت عجوز متعبدة في بني عبد قيس وكانت إذا جاء الليل قامت في محرابها فإذا جاء النهار خرجت إلى القبور فعوتبت في كثرة إتيانها إلى القبور فقالت إن القلب إذا قسا وعتا لم يلينه إلا زيارة الموتى والوقوف على رسوم البلى فإني لآتي القبور فأقف عليها وأنظر إليها وأعتبر بها وأتفكر فيها فكأني أنظر إليهم وقد خرجوا من بين أطباقها وانبعثوا من تحت أحجارها فيا لها من نظرة لو أشربها العباد قلوبهم ما أشد نهكتها في الأجسام وأعظم مرارتها في الأنفس
وأعلم أن قبور الصالحين لا تخلو من بركة وأن زائرها والمسلم عليها والقاريء عندها والداعي لمن فيها لا ينقلب إلا بخير ولا يرجع إلا بأجر وقد يوجد لذلك أمارة ويبدو منها بشارة
روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل يالمأزمين قال له أصحابه يا رسول الله إنا نجد هاهنا ريح مسك فقال وما يمنعكم وها هنا قبر أبي معاوية وأبو معاوية هو عبادة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم بدر شهيدا وكان خرج ذلك اليوم ومات هناك شهيدا رضي الله عنه
وروى يحيى بن سعيد عن شعبة بن الحجاج قال
فتن الناس بقبر عبد الله بن غالب كان يوجد ريح المسك منه
قال مالك بن دينار رحمه الله ذهبت إلى قبر عبد الله بن غالب رضي الله عنه فأخذت من ترابه فإذا هو مسك أو كأنه مسك

وقال حماد بن زيد حدثني سعيد بن زيد قال أدخلت يدي في قبر عبد الله بن غالب إلى المرفق فأخرجت منه ترابا فإذا ريحه ريح مسك
وقصة هذا القبر صحيحة مشهورة ولما خيف على الناس منه الفتنة سوي
حدثنا أبو الوليد إسماعيل بن أحمد المعروف بابن افرند وكان هو وأبوه صالحين معروفين قال قال أبو الوليد مات أبي رحمة الله عليه فحدثني بعض إخوانه ممن يوثق به وبحديثه نسيت أنا اسمه قال لي زرت قبر أبيك فقرأت عليه حزبا من القرآن ثم قلت له يا فلان هذا أهديته لك فماذا لي قال فهبت علي نفحة مسك غشيتني وأقامت معي ساعة ثم انصرفت وهي معي فما فارقتني إلا وقد مشيت نصف الطريق
وروى أبو محمد عبد الله الكبرى ويعرف بالمغاور وكان من الصالحين والله أعلم مشهورا بالصدق والخير قال زرت قبر الزبير بن العوام صاحب النبي صلى الله عليه و سلم وقرابته وهو أحد العشرة وقبره بأرض البصرة قال فبينما أنا على قبره إذ رأيتني قد صب علي ماء ورد من الجو فبلني حتى بل مرقعتي رأيت ذلك وأنا حاضر الذهن مفتوح العين
وغير بعيد أن يخلق الله على رأسه ماء ورد يبله بل يبل الأرض كلها إذا شاء كرامة لصاحب نبيه صلى الله عليه و سلم وبشرى لهذا بزيارته إياه ولا يلزم أن يكون هذا لكل زائر ولا عند كل مزور بل يكون الزائر أفضل من هذا والمزور أفضل من ذلك ولا يكون شيء من هذا
وللكلام على هذا موضع آخر
وذكر ابن إسحاق قال حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور
ويستحب لك رحمك الله أن تقصد بميتك قبور الصالحين ومدافن أهل الخير فتدفنه معهم وتنزله بإزائهم وتسكنه في جوارهم تبركا بهم وتوسلا إلى الله تعالى بقربهم وأن تجتنب به قبور من سواهم ممن يخاف التأذي بمجاورته والتألم بمشاهدته فقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الميت يتأذى بالجار السوء كما

يتأذى به الحي
يروى أنه دفنت امرأة بقرطبة فأتت أهلها في النوم فجعلت تعاتبهم وتشكوهم وتقول ما وجدتم أن تدفنوني إلا إلى بيت فرن جير فبحثوا وسألوا عمن كان مدفونا بإزائها فوجدوه رجلا سيافا كان لابن عامر وقبره إلى قبرها فأخرجوها من جواره والله تعالى أعلم بحقيقة حال المقبور وإنما لنا ما ظهر خاصة ولله عز و جل ما ظهر وما بطن

الباب العاشر
ذكر منامات رئيت لبعض الصالحين تدل على ما هم فيه من الخير وحسن العاقبة
قال صلى الله عليه و سلم إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي قال فشق ذلك على الناس فقال لكن المبشرات قالوا يا رسول الله وما المبشرات قال رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة
وقد فسر قوله تبارك وتعالى ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) أنها الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له
ذكر الحديثين الترمذي
وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الرؤيا الصالحة بشرى من الله
ومن حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة ذكر هذا الحديث مسلم وغيره
وقال صلى الله عليه و سلم رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وإذا ثبت صلاح العبد صدقت رؤياه وإلا فهي تسر ولا تضر والله أعلم بمن يثبت صلاحه وبمن يصدق كل ما يراه وليس هذا موضع الكلام وسأذكر لك جملا من هذه الأخبار

وذكر البخاري من حديث أم العلاء وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين أقرعت الأنصار على سكنى المهاجرين فاشتكى فمرضناه حتى توفي ثم جعلناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال وما يدريك أن الله أكرمه قلت لا أدري والله قال أما هو فقد جاءه اليقين إني لأرجو له الخير من الله والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت فوالله لا أزكي أحدا بعده
قالت وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان بن مظعون في النوم عينا تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال ذلك عمله يجري له
ويروى عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال رأيت معاذ بن جبل بعد وفاته بثلاث على فرس أبلق وخلفه كرجال أهل منى رجال بيض وعليهم ثياب خضر على خيل بلق وهو قدامهم وهو يقول يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ثم التفت يمينه وشماله يقول يا ابن رواحة يا ابن مظعون الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين قال ثم صافحني وسلم علي
معاذ بن جبل وعثمان بن مظعون وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم تشهد لهم صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم بما هم فيه من الخير وبما صاروا إليه من الكرامة ولا يحتاج لهم إلى رؤيا ولكن أردت ألا أخلي هذا الباب من ذكر بعض الصحابة رضي الله عنهم
قال صالح بن بشير المري رأيت عطاء السلمي في النوم بعد موته فقلت له يرحمك الله لقد كنت طويل الحزن في الدنيا فقال أما والله لقد أعقبني ذلك فرحا طويلا وسرورا دائما فقلت في أي الدرجات أنت قال مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
ولما مات سفيان الثوري رئي في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال وضعت أول قدم على الصراط والثاني في الجنة وقال إبراهيم بن إياس رأيت سفيان الثوري في النوم فقلت له ما فعل الله بك قال أنا مع السفرة

قلت وما السفرة قال الكرام البررة
وقال عبد الله بن المبارك رأيت الثوري في المنام فقلت له ما فعل الله بك قال لقيت محمدا وحزبه
وقال صخر بن راشد رأيت عبد الله بن المبارك في النوم بعد موته فقلت له أليس قد مت قال بلى قلت فما صنع الله بك قال غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب قلت فسفيان الثوري قال بخ بخ ذلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
وعن قبيصة بن سفيان قال رأيت سفيان الثوري في النوم بعد موته فقلت له ما فعل الله بك فقال
( نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هينئا رضائي عنك يا ابن سعيد )
( لقد كنت قواما إذا لليل قد دجا ... بعبرة محزون وقلب عميد )
( فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني منك عير بعيد )
وعن سفيان بن عيينة قال رأيت سفيان الثوري في النوم وقد مات كأنه يطير في الجنة من شجرة إلى نخلة ومن نخلة إلى شجرة وهو يقول لمثل هذا فليعمل العاملون فقيل له بم دخلت الجنة قال بالورع فقيل له فما فعل علي بن عاصم قال ما نراه إلا مثل الكوكب
وكان شعبة بن الحجاج ومسعر بن كدام رحمهما الله رجلين فاضلين جليلين وكانا من ثقات المحدثين وحفاظهم وكان شعبة أكبر وأجل فماتا قال أبو أحمد اليزيدي فرأيتهما في النوم وكنت إلى شعبة أميل مني إلى مسعر فقلت له يا أبا بسطام ما فعل الله بك قال وفقك الله يا بني لحفظ ما أقول ثم أنشد

( حباني إلهي في الجنان بقبة ... لها ألف باب من لجين مجوهرا )
( وقال لي الجبار يا شعبة الذي ... تبحر في جمع العلوم فأكثرا )
( تنعم بقربي إنني عنك ذو رضا ... وعن عبدي القوام في الليل مسعرا )
( كفى مسعرا عزا بأن سيزورني ... وأكشف عن وجهي ويدنو لينظرا )
( فهذي فعالي بالذي تنسكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا )
وذكر أبو الحسن بن جهضم عن أبي بكر أحمد بن محمد بن الحجاج قال حدثني رجل من أهل طرسوس قال دعوت الله عز و جل أن يريني أهل القبور حتى أسألهم عن أحمد بن حنبل ما فعل الله به فرأيت بعد عشر سنين فيما يرى النائم كأن أهل القبور قد قاموا على قبورهم فبادروني بالكلام وقالوا يا هذا كم تدعو الله أن يريك إيانا
تسألنا عن رجل لم يزل منذ فارقكم تحفه الملائكة تحت شجرة طوبى
وهذا الكلام من أهل القبور إنما هو عبارة عن علو درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانته وعظم منزلته فلم يقدروا أن يعبروا عن صفة حاله وعما هو فيه إلا بهذا أو بما هو في معناه
وقال محمد بن أحمد الكندي رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت له يا أبا عبد الله ما فعل الله بك فقال غفر لي ثم قال لي يا أحمد ضربت في ستين سوطا قلت نعم يا رب قال هذا وجهي قد أبحتك فانظر إليه
ويروى عن عبدة العابدة قالت لما حضرت الوفاة رابعة العدوية قالت لي يا عبدة لا تؤذني بموتي أحدا وكفنيني في جبتي هذه وهي جبة من شعر كانت تصلي بالليل فيها قالت فكفناها في تلك الجبة وفي خمار من صوف

كانت تلبسه قالت عبدة فرأيتها في منامي بعد دفنها وعليها حلة استبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم أر قط شيئا أحسن منهما قالت فقلت لها يا رابعة ما فعلت تلك الجبة التي كنا كفناك فيها والخمار الصوف قالت إنما والله نزعا مني واستبدلت بهما هذا الذي ترين علي وطويا وختم عليهما ورفعا في عليين ليكمل ثوابهما إلى يوم القيامة قلت لها فما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب قالت هيهات هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العلى قلت لها وبم وقد كنت أنت عند الناس أكبر منها قالت إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا ولا أمست قلت فما فعل ضيغم بن مالك قالت يزور الله عز و جل متى شاء قلت فما فعل بشر بن منصور قالت بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يأمل
قالت فقلت لها فيم تأمرينني أن أتقرب إلى الله عز و جل فقالت عليك بذكر الله فيوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك
وقال بعض الصالحين رأيت بشر بن منصور في النوم بعد موته فقلت له ما فعل الله بك فأعرض عني فقلت له فضيغم بن مالك قال ركب إلى الله الساعة
وقال ابن ثعلبة العابد رأيت ضيغم بن مالك في النوم بعد وفاته فقال لي يا ابن ثعلبة أما صليت علي فذكرت له شيئا منعني فقال أما أنك لو صليت علي لربحت رأسك يقول لنجوت وغفر لك
وقال أبو جعفر السقاء صاحب بشر بن الحارث رأيت بشر بن الحارث ومعروفا الكرخي رحمة الله عليهما وهما جائيان وكأنهما في قبة أو كما قال فقلت من أين قالا من جنة الفردوس زرنا كليم الله موسى عليه السلام
ولما احتضر حجاج الزاهد قيل له ما تشتهي قال الله ثم خرجت نفسه فرآه بعض إخوانه في النوم يمشي على حائط قال فرفعت رأسي إليه وأنا أمشي بالأرض فقلت له أبا يوسف كيف حالك وكيف أنت وعلام

قدمت قال فضحك وقال ما الأمر إلا سهل ما رأيت شيئا مما كنت أخافه والحمد لله رب العالمين
وعن سعيد بن أسد أن رجلا كان من دعائه اللهم سهل علي الموت ويسر علي الحساب وبارك لي في اللقاء وأعذني من جهد البلاء فمات فرئي في النوم فقيل له ما فعلت فقال لقيت خيرا وكل شيء سألت الله أن يعطينيه أعطانيه
وقال بعض الصالحين رأيت بشر بن الحارث في النوم وما كنت رأيته في اليقظة ولا كلمته قط فرأيت كأني واقف بين يدي الله عز و جل أسمع كلاما ولا أرى أحدا وهو يقول يا بشر قد قبلناك وقبلنا ما كان منك فسمعت بشرا يقول ومن تبعني يا رب قال قد غفرت لهم
وقال عاصم الجزري رأيت في النوم كأني لقيت بشر بن الحارث فقلت من أين يا أبا نصر فقال من عليين قال فقلت له ما فعل أحمد بن حنبل قال تركته الساعة مع عبد الوهاب الوراق بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان قلت له فأنت قال علم الله قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه
وقال أبو جعفر السقاء رأيت بشر بن الحارث في النوم بعد موته فقلت له يا أبا نصر ما فعل الله بك فقال ألطفني ورحمني وقال لي يا بشر لو سجدت لي في الدنيا على الجمر ما أديت شكر ما حشوت قلوب عبادي منك وأباح لي نصف الجنة فأسرح فيها حيث شئت ووعدني أن يغفر لمن تبع جنازتي فقلت له ما فعل أبو نصر التمار قال ذاك فوق الناس لصبره على بلائه وفقره لعله أراد بقوله أباح لي نصف الجنة نصف نعيم الجنة لأن نعيم الجنة نصفان نصف روحاني ونصف جسماني فيتنعمون أولا بالروحاني ثم إذا ردت الأرواح إلى الأجساد أضيف لهم النعيم الجسماني إلى النعيم الروحاني والله أعلم بما أراد

وذكر بعض الصالحين قال رئي بشر بن الحارث في النوم وهو يهرول ويقول الساعة انطلقنا من السجن
وقال أبو الحسن المالكي صحبت خيرا النساج سنين كثيرة فقال لي قبل موته بثمانية أيام أنا أموت يوم الخميس قبل المغرب وأدفن يوم الجمعة قبل الصلاة وستنسى هذا فلا تنس قال فنسيته إلى يوم الجمعة فلقيت من أخبرني بموته فخرجت لأحضر جنازته فوحدت الناس قد أخرجوا جنازته قبل الصلاة كما قال فسألت من حضر وفاته فقال إنه غشي عليه ثم أفاق فالتفت إلى ناحية البيت وقال قف عافاك الله فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور والذي أمرت به أنت لا يفوتك والذي أمرت به أنا يفوتني ثم دعا بماء فجدد الوضوء ثم صلى ثم تمدد وغمض عينيه ومات رحمه الله فرئي في المنام فقيل له كيف حالك فقال لا تسأل ولكني تخلصت من دنياكم الوضرة
وكان من دعاء بعض الصالحين اللهم يا سيدي حبست من شئت عن خدمتك وأطلقت لها من أحببت من خلقك غير ظالم ولا مسئول عن فعلك وقد تقدمت لي فيك آمال فلا تجمع علي المنع من الطاعة وخيبة الأمل فيك يا كريم فكان هذا خاتمة دعائه فلما مات رئي في المنام في الجنة فقيل له بم نلت هذا قال بذلك التضرع والاستغاثة في الأسحار قيل ورئي عليه حلة قال الرائي فما رأيت شبها لها وعليها مكتوب بالذهب انعم فقد نلت الأمل فقلت له ما هذا الكتاب على ثيابك قال هذا خاتمة تضرعي وأملي الذي كنت أؤمله من سيدي
وقال بعض الصالحين رأيت أبا بكر الشبلي رحمه الله في المنام وكأني قاعد في مجلس الرصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه وإذا به قد أقبل وعليه ثياب حسان قال فقمت إليه وسلمت عليه وجلست بين يديه فقلت له يا سيدي من أقرب أصحابك إليك فقال مسرعا ألهجهم بذكر الله وأقومهم بحق الله وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله

وقال أبو عبد الرحمن الساحلي رأيت ميسرة بن سلم في المنام بعد موته فقلت له أصلحك الله طالت غيبتك فقال السفر طويل قلت فما الذي قدمت عليه فقال رخص لنا لأننا كنا نفتي بالرخص فقلت له فما تأمرني به فقال اتباع الآثار وصحبة الأخيار ينجيان من النار ويقربان من الجبار
وروي عن شعيب بن حرب قال كانت بمكة امرأة من الصالحات من أهل القرآن فرأت فيما يرى النائم حول الكعبة وصائف بأيديهن الرياحين وعليهن المعصفرات فقالت سبحان الله أحول الكعبة يكون هذا فقيل لها أما علمت أن عبد العزيز بن أبي رواد تزوج الليلة قالت فاستيقظت فإذا عبد العزيز بن أبي رواد قد مات في تلك الليلة
قال بعض الصالحين رأيت في النوم كأني في السماء ولأهل السماء ضجيج وحركة وهم يقولون جاء المحسن جعفر بن الزبير فانتبهت فمشيت إلى منزله فوجدته قد مات
ويروى عن أبي جعفر الضرير أنه قال رأيت عيسى بن زادان في النوم بعد موته فقلت له ما فعل الله بك فأنشأ يقول
( لو رأيت الحسان في الخلد حولي ... وأكاويبها بصافي الشراب )
( يترنمن بالقرآن جميعا ... يتمشين مسبلات الثياب )
وقال عبود المعلم وكان يعرف بوجه الجنة رأيت أبا عبد الله الفزاري المعلم في النوم بعد موته فقلت له كيف وجدت الأمر قال أسهل مما تذكرون وأصعب مما تصفون فقلت له صاحبك سهل الوراق أمعك هو قال يدي في يده ويده في يدي يعني في الجنة ولكنه أطول مني قامة
وقوله أطول مني قامة يريد أرفع مني مرتبة وكان قد رآه بعد موته
ويروى عن معوذ بن داود الباكرتي وكان من الصالحين أنه قال رأيت أبا حفص عمر بن عبادل الرعيني الزاهد بعد موته فقلت له ما فعل الله بك

فقال لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وهذا يدل على أنه فعل معه خير فأراد الزيادة منه
وعن يعلي بن عبيد قال جاء رجل إلى سفيان الثوري فقال له يا أبا عبد الله رأيت في المنام كأن ملكا نزل من السماء إلى الشام فاقتلع ريحانة ثم صعد بها إلى السماء فقال له سفيان إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي فحفظ ذلك اليوم فجاء نعيه أنه مات فيه
ويروى عن حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن حفصة قالت كان مروان المحلمي لنا جارا وكان عابدا مجتهدا فمات فحزنت عليه حزنا شديدا فرأيته في النوم فقلت له يا أبا عبد الله ما صنع بك ربك
قال أدخلني الجنة قلت ثم ماذا قال رفعت إلى أصحاب اليمين قلت ثم ماذا قال ثم رفعت إلى المقربين قلت فمن رأيت ثم من أصحابك قال رأيت الحسن البصري ومحمد بن سيرين وميمون بن سياه قال حماد قال هشام فحدثتني أم عبد الله وكانت من خيار نساء أهل البصرة قالت رأيت فيما يرى النائم كأني دخلت بستانا فذكرت من حسنه ما شاء الله أن تذكر فإذا أنا برجل متكيء على سرير من ذهب وحوله الوصائف بأيديهن الأكاويب قالت فأنا متعجبة من حسن ما أرى إذ أتى ذلك الرجل فقيل له هذا مروان المحلمي قد أقبل فوثب فاستوى جالسا على سريره قالت فاستيقظت من منامي فإذا بجنازة مروان المحلمي قد مر بها على بابي تلك الساعة
ويروى عن عبد الواحد بن زيد وكان من الصالحين قال رأيت في المنام ليلة مات الحسن البصري كأن أبواب السماء قد فتحت وكأن الملائكة صفوف فقلت ما هذا إلا لأمر عظيم فسمعت مناديا ينادي ألا إن الحسن بن أبي الحسن قدم على الله وهو عنه راض
ويروى أن امرأة قالت لابن سيرين وهو يأكل رأيت كأن شجرة ياسمين قلعت من الأرض ورفعت إلى السماء وكأن الثريا سقطت من السماء

في دارك قال فرفع ابن سيرين يده من الطعام وقال أعظم الله أجري في نفسي وإن كثر البقاء فإلى سبع فكان كذلك
ويروى عن عمرو بن عمر بن صفوان عن بعض مشيخته قال رأيت في النوم كأني جئت إلى هذه المقبرة التي بمكة فرأيت على عامتها سرادقات ورأيت منها قبرا عليه سرادق وفسطاط وسدرة فجئت حتى دخلت وإذا مسلم بن خالد الزنجي فسلمت عليه وقلت يا أبا خالد ما بال هذه القبور عليها سرادق وقبرك عليه سرادق وفسطاط وفيه سدرة فقال إني كنت كثير الصيام فقلت له يا أبا خالد أين قبر ابن جريج دلني عليه فقد كنت أجالسه وأنا أحب أن أسلم عليه فقال هكذا بيده هيهات وأدار أصبعه السبابة وقال وأين قبر ابن جريج رفعت صحيفته في عليين
ويروى عن بعض الصالحين قال رأيت بعض جيراني في النوم فقلت له ما حالك فذكر شيئا قلت فما حال عبد الله بن المبارك قال ذلك مشهور في الجنة
ورئي حماد بن سلمة في النوم فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني بين يديه وقال لي طال ما كددت نفسك في الدنيا فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعبين
وعن أسلم بن زرعة العباداني قال كان عندنا بالساحل رجل له فضل بارع كان يعذب له الماء المالح قال قال لي يوما رأيت البارحة فيما يرى النائم كأن رجلا يقول لي قد فرغنا من بناء دارك ولو رأيتها لقرت عيناك وقد أمرنا أن ننجزها لك والفراغ منها إلى سبعة أيام واسمها السرور فأبشر بخير قال فلما كان في اليوم السابع بكر للوضوء ونزل للنهر وقد هدأ فزلق فغرق فمات فأخرجناه فدفناه قال فأريته بعد ثالثة وهو يكبر وعليه حلل خضر فقال لي يا أبا الرضى أنزلني الكريم دار السرور وماذا أعد لي فيها فقلت صف لي هذا فقال هيهات يعجز الواصفون أن تنطق ألسنتهم بما فيها فيا ليت عيالي

يعلمون أنه قد هيء لهم منازل معي فيها كل ما اشتهت أنفسهم ولذت أعينهم نعم وإخواني وأنت معهم إن شاء الله قال ثم انتبهت
وقال أبو محمد اللباد الفقيه رحمه الله رأيت ربيعا العطار في المنام فقلت له ما فعل الله بك فقال في الجنة فقلت وكيف حالكم فيها قال تارة تزخرف لنا الجنان وتارة تشرف علينا الحور العين وتارة تصطك لنا الحجب قال فقلت له فمن أعلى منزلة أنت أم فلان وسمي له رجلا معروفا عندهم قال فتبسم وقال كلنا جمعنا في حديقة واحدة يعني في جنة واحدة
ورأى بعض من يوثق به رجلا كان يعرف بالخير والعفاف بعد موته وعليه عمامة خز فأنكرها عليه وكأنه قال له أتلبسها ولباس الخز مكروه فقال له هو عندنا في هذه الدار مباح
ورئي غيره شابا وكان في الدنيا أشيب فقيل له نراك دون شيب فقال لا يشيب أحد في هذه الدار
وقال بعض الصالحين كان لي ولد فاستشهد فرأيته في النوم ليلة مات عمر بن عبد العزيز فقلت له يا بني ألست ميتا قال لا ولكني حي أرزق فقلت فما جاء بك قال نودي في أهل السماء لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا ويحضر الصلاة على عمر بن عبدالعزيز فحضرت ثم جئت لأسلم عليكم وأراكم
والأخبار في هذا الباب لا تحصى

الباب الحادي عشر
ذكر منامات رئيت لرجال تدل على ما هم فيه من سوء الحال
روى عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال كنت مؤاخيا لأبي لهب فلما مات أخبر الله عنه بما أخبر وحزنت عليه وأهمني أمره فسألت الله حولا كاملا أن يرينيه في المنام قال فرأيته يلتهب نارا فسألته عن حاله فقال صرت إلى النار والعذاب لا يخفف عني ولا يروح إلا ليلة الاثنين في كل الليالي والأيام قلت وكيف ذلك قال ولد في تلك الليلة محمد صلى الله عليه و سلم فجاءتني أميمة فبشرتني بولادة أمه إياه ففرحت وأعتقت وليدة فرحا به فأثابني الله بذلك أن يرفع عني العذاب في كل ليلة الاثنين
ويروى أيضا أن أبا لهب كان قد أعتق أمة له يقال لها ثويبة وكانت ثويبة قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله في منامه بشر خيبة أي بشر حال فقال له ماذا لقيت فقال لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه لعتاقتي ثويبة
ومعنى سقيت في هذه يريد النقرة التي بين الإبهام والسبابة ذكر هذه الحكاية البخاري
أبو لهب كان عم النبي صلى الله عليه و سلم وكان كثير الإذاية للرسول بعدما جاءته النبوة شديد العداوة له
ويروى عن طارق بن عبد الله المحاربي قال رأيت بسوق عكاظ رجلا شابا جميل الوجه يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ووراءه رجل أعور قبيح يقول أيها الناس لا تصدقوه فإنه كذاب وقد رمى كعبيه

وعرقوبيه بالحجارة حتى أدماه فقلت من هذا الشاب قالوا هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله أرسله قلت ومن هذا الآخر وراءه قالوا عمه أبو لهب
وسوء حال أبي لهب أوضح من أن يحتاج فيه إلى شاهد ولكني أردت إلا أخلي هذا الباب من ذكره أو ذكر مثله
وليعلم أيضا أن الكافر لا يغني عنه من الله شيء وأنه ليس له من دون الله ولي ولا نصير وهذا التخفيف الذي ذكر إن كان فإنما هو في البرزخ وأما في الآخرة فلا تخفيف ولا تفتير ولا راحة نعوذ بالله من عذابه
يروى عن بعض الصالحين من أهل القيروان قال كان لي جار يذكر أنه ليس بمسلم فمات فرأيت في النوم حجرا ململما يتدحرج حتى وصل إلى باب ذلك الرجل فدنوت منه فإذا بالحجر قد انفرج فخرج منه رجل هو ذلك الرجل فقلت له ما هذا فقال هكذا نحن نعذب وذكر سوء حاله فقلت لعل الله أن يغفر لك قال وكيف يغفر لي وأنا قد مت على غير الإسلام
ويروى عن هشام بن حسان قال قال مات ابن لي شاب فرأيته في النوم وهو أشيب فقلت له يا بني ما هذا الشيب قال قدم فلان فزفرت جهنم لقدومه زفرة لم يبق منا أحد إلا شاب
ويروى أن رجلا رئي في المنام شاحب اللون متغير الوجه وقد غلت يداه إلى عنقه فقيل له ما فعل الله بك فأنشأ يقول
( تولى زمان لعبنا به ... وهذا زمان بنا يلعب )
ويروى أن دلف بن أبي دلف العجلي رأى أباه في النوم وكأنه في بيت مظلم حيطانه وسقفه مسودة من الدخان وهو جالس في صدر البيت فقال له يا أبت كيف حالك فقال يا بني الأمر صعب والحساب دقيق ثم أنشأ يقول
( ولو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي )

( ولكنا إلذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شي )
وفي رؤيا عمر بن عبد العزيز فذكر القيامة والبعث وجمع الناس لفصل القضاء وكيف نودي الخلفاء واحدا بعد واحد وحسابهم وكل واحد منهم على منزلته ثم نادى المنادي أين عمر بن عبد العزيز قال فتصببت عرقا ثم أخذت الملائكة بيدي فأوقفتني بين يدي الله تعالى فسألني عن الفتيل والنقير والقطمير وعن كل قضية قضيتها حتى ظننت أني لست بناج ثم إنه تفضل علي برحمة منه فغفر لي وأمر بي ذات اليمين إلى الجنة فمررت بجيفة ملقاة فقلت للملائكة من هذا قالوا كلمه يكلمك فوكزته برجلي فرفع رأسه وفتح عينيه فإذا برجل أفطس أثرم شديد الأدمة وحش المنظر فقال لي من أنت فقلت عمر بن عبد العزيز فقال ما فعل الله بك فقلت تفضل علي برحمته فغفر لي وأمر بي ذات اليمين إلى الجنة قال فما فعل أصحابك الخلفاء الذين معك قلت أما الأربعة فغفر الله لهم وأمر بهم ذات اليمين إلى الجنة وأما الباقون فلا أدري ما فعل الله بهم قال وأخذني البكاء ثم قال هنأك الله بما صرت إليه قلت من تكون قال أنا الحجاج بن يوسف قدمت على ربي فوجدته شديد العقاب قتلني بكل قتيل قتلته قتلة وها أنذا موقوف بين يديه أنتظر ما ينتظر الموجودون
والأخبار في هذا الباب كثيرة أيضا

الباب الثاني عشر
ذكر الأرواح أين يذهب بها وما جاء في عذاب القبر والسؤال فيه
ذكر أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر ريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله وكرامته فإذا خرج روحه وضع على ذلك المسك والريحان وطويت عليه الحريرة وذهب به إلى عليين
وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعا شديدا ويقال أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا خرجت روحه وضع على تلك الجمرة ويطوى عليه المسح ويذهب بها إلى سجين
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن المؤمن إذا حضر أتته الملائكة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح مسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فكلما أتوا سماء قالوا لهم مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين فلهم أفرح به من أحدكم بغائبه إذا قدم فيقولون ما فعل فلان فيقولون دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم الدينا فإذا أصبح واستراح قال لهم أما أتاكم فإنه قد مات فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية

وأما الكافر فإن ملائكة العذاب تأتيه بمسح من شعر فيقولون اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وسخطه فتخرج كأنتن ريح جيفة فينطلقون به إلى باب الأرض فيقولون ما أنتن هذه الريح كلما أتوا على أرض قالوا ذلك حتى يأتوا به أرواح الكفار
ذكره قاسم بن أصبغ وغيره من حديث أبي هريرة أيضا
وذكر مالك في الموطأ من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخابني كعب وهو يجر قصبه في النار
القصب الأمعاء
وذكر مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري عن زيد بن ثابت قال قال أبو سعيد ولم أشهده من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن حدثنيه زيد بن ثابت قال بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في حائط لبني النجار على بغلة ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر فقال رجل أنا قال فمتى مات هؤلاء قال ماتوا في الإشراك فقال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه
ثم أقبل علينا بوجهه فقال تعوذوا بالله من عذاب النار فقالوا نعوذ بالله من عذاب النار قال تعوذوا بالله من عذاب القبر فقالوا نعوذ بالله من عذاب القبر قال تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قالوا نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قال تعوذوا بالله من فتنة الدجال قالوا نعوذ بالله من فتنة الدجال

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا أو مثل فتنة المسيح الدجال لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن الموقن لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول هو محمد هو رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا ثلاث مرات فيقال له نم قد كنا نعلم أنك لمؤمن به فنم صالحا
وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلت
وذكر النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن العبد إذا وضع في قبره وتولي عنه أصحابه إنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيراهما جميعا وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول كما يقول الناس فيقال له لا دريت ولا تليت ثم يضرب ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين
ذكره البخاري وقال ويضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح وذكر باقي الحديث
وذكر الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله

فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك وإن كان منافقا قال سمعت الناس يقولون شيئا فقلت مثله لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله عز و جل من مضجعه ذلك
وذكر عبد بن حميد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت جاءت يهودية فاستطعمت على بابي فقالت أطعموني أعاذكم الله من فتنة عذاب القبر ومن فتنة الدجال فلم أزل أحبسها حتى جاء الرسول صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله ما تقول هذه اليهودية فقال وما تقول قلت تقول أعاذكم الله من فتنة عذاب القبر ومن فتنة الدجال قالت عائشة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع يده مدا يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر قالت ثم قال أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا وقد حذر أمته وسأحذركموه تحذيرا لم يحذره نبي أمته إنه أعور وإن الله ليس بأعور بين عينيه مكتوب كافر يقرؤه كل مؤمن وأما فتنة القبر ففي تفتنون وعني تسألون فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع ولا مشعوف فيقال له فيم كنت فيقول في الإسلام فيقال له ما هذا الرجل الذي كان فيكم فيقول محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله ربنا فآمنا به وصدقناه قال فيقال له هل رأيت الله فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له انظر إلى ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة أخرى قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك منها ويقال له على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله وإذا كان الرجل السوء أجلس في قبره فزعا مشعوفا فيقال له فيم كنت فيقول لا أدري فيقال

له ما هذا الرجل الذي كان فيكم فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلت كما قالوا فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له انظر إلى ما صرف الله عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له هذا مقعدك على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يعذب
وقال عبد بن حميد أيضا عن ابن أبي ذئب قال محمد بن عمرو فحدثني سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ويعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقال فلان فيقولون مرحبا بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها عليون
وإذا كان الرجل السوء قيل اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ويعرج بها إلى السماء فيقال من هذا فيقال فلان فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنك لا تفتح لك أبواب السماء فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح فيقال له فيرد بما في حديث عائشة سواء وقد تقدم ويجلس الرجل السوء فيقال له فيرد بما في حديث عائشة سواء
قال عبد وأخبرني عمرو بن عون أخبرنا أبو عوانة عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زادان أبي عمر عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير قال فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يرفع

بصره إلى السماء وينكت في الأرض ويحدث نفسه ثم قال تعوذوا بالله من عذاب القبر ثلاثا ثم قال إن الرجل إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتاه ملك الموت فجلس عند رأسه فإن كان مسلما قال اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج نفسه تسيل كما تسيل قطرة السقاء وتنزل الملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة فيجلسون منه مد البصر فإذا أخذها قاموا إليه فلم يتركوها في يده طرفة عين فذلك قوله عز و جل ( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) قال فتخرج منه مثل أطيب ريح وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون به فلا يمرون على جند من الملائكة فيما بين السماء والأرض إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون هذا فلان بأحسن أسمائه قال فتفتح له أبواب السماء ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة قال فيقال اكتبوا كتابه في عليين ( وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ) وأرجعوه إلى الأرض فإني وعدتهم منها خلقناهم وفيها نعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فيرجع روحه إلى جسده قال ويبعث إليه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه وينتهرانه ويقولان له من ربك فيقول ربي الله فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول رسول الله فيقولان له وما يدريك فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت به فذلك قوله عز و جل ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) وينادي مناد من السماء أن قد صدق فألبسوه من الجنة وافرشوا له من الجنة وأروه منزله من الجنة قال فيلبس من الجنة ويفرش له من

الجنة ويرى منزله من الجنة ويفسح له في قبره مد بصره قال ويمثل له رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح قال فيقول له أبشر بما أعد الله لك من الكرامة هذا يومك الذي كنت توعد قال فيقول له من أنت رحمك الله فوالله لوجهك الوجه الذي جاءنا بالخير قال فيقول أنا عملك الصالح والله ما علمت أن كنت حريصا على طاعة الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله عني خيرا قال فيقول رب أقم الساعة لكي أرجع إلى أهلي ومالي
وقال الأعمش وهو سليمان بن مهران وحدثني أبو صالح قال حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يقال له نم فينام ألذ نومة نامها نائم قط حتى توقظه الساعة
ثم رجع إلى حديث البراء بن عازب قال وإن كان فاجرا إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه فيقول اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى غضب وسخط من الله قال فيتفرق روحه في جسده قال فيستخرجها يقطع معها العروق كما يستخرج الصوف المبلول بالسفود قال وينزل ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر فإذا وقعت في يد ملك الموت قامت إليه الملائكة فلم يتركوها في يده طرفة عين قال ويخرج منه مثل أنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون به فلا يمرون على جند من الملائكة فيما بين السماء والأرض إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون هذا فلان بأسوأ أسمائه قال فإذا انتهي به إلى السماء الدنيا أغلقت دونه ولم يفتح له وينادي مناد أن اكتبوا كتابه في سجين وأرجعوه إلى الأرض فإني وعدتهم أن منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فيرمى به من السماء فذلك قوله تعالى ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )

قال فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه وينتهرانه فيقولان له من ربك فيقول لا أدري فيقولان له ما هذا النبي الذي بعث فيكم فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون ذلك لا أدري قال فيقولان له لا دريت قال فذلك قوله تعالى ( ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) قال وينادي مناد من السماء إن قد كذب فالبسوه من النار وافرشوا له من النار وأروه منزله من النار قال فيكسى من النار ويفرش له من النار ويرى منها منزله قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه قال ويمثل له رجل قبيح الوجه قبيح المنظر قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك أبشر بغضب من الله وسخط هذا يومك الذي كنت توعد هذا يومك الذي كنت تكذب به قال فيقول له ويلك فمن أنت فوالله لوجهك وجه جاء بالشر قال فيقول أنا عملك الخبيث والله ما علمت أن كنت لبطيئا عن طاعة الله حريصا على معصية الله فجزاك الله عني شر الجزاء فيقول يا رب لا تقم الساعة مما يرى مما أعد الله له
وذكر أبو بكر البزار في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم جنازة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أيها الناس إن هذه الأمة تسأل في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال ما تقول في هذا الرجل يعني محمدا صلى الله عليه و سلم فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال فيقول صدقت ويفتح له باب إلى النار فيقول هذا كان منزلك لو كفرت بربك فأما إذا آمنت به فهذا منزلك فيفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه فيقول له اسكن ويفسح له في قبره
وإن كان كافرا أو منافقا يقول له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري

سمعت الناس يقولون شيئا فقلت فيقول له الملك لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فإن الله قد أبدلك به هذا ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق يسمعها خلق الله كلهم إلا الثقلين فقال رجل من القوم يا رسول الله ما من أحد يقوم عليه ملك في يده مطرقة إلا تهبل عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة ولو أن تنينا منها نفخ في الأرض لما أنبتت خضرا
وذكر البخاري عن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه و سلم على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنثر من بوله قال فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا
وذكر النسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه وهذا الذي تحرك له العرش هو سعد بن معاذ الأنصاري رمي بسهم في غزوة الخندق ثم مات منه بعد ذلك ويعني بالضم ضمة القبر
ومن حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله

عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ
وذكر مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة
ويروى عرض على مقعده
وهذا ضرب من العذاب كبير وعندنا المثال في الدنيا بمن يعرض عليه السيف للقتل أو غيره من آلات العذاب أو بما يهدد به من غير أن يرى الآلة ونعوذ بالله من عذابه وعقابه بكرمه ورحمته
وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة ولا مطعن فيها ولا معارض لها وإنما اختلف الناس هل تعذب الروح في القبر قبل أن ترد إلى الجسد أو تعذب فيه بعدما ترد إليه لأن الرواية في رد الروح إلى الجسد في القبر لم تصح صحة عذاب القبر من غير ذكر رد الروح وحديث رد الروح إلى الجسد في القبر ذكره أبو داود أيضا وكيفما كان فالعذاب محسوس والألم موجود والأمر شديد
وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلا بالنائم فإن روحه تتنعم أو تتعذب والجسد لا يحس بشيء من ذلك فتفكر أيها الإنسان في نفسك وتخيل حالك عند حلول رمسك وهل يكون أول سعدك أو يكون أول نحسك
وقد جاء في الخبر أن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه

وفي الخبر أيضا أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وقد تقدم الحديثان 2
وأنت أعلم بحالك وبما قدمت من أعمالك فتخيل بين عينيك وثوب منكر ونكير عليك وفي اسميهما ما يدل على وصفيهما وقولهما وفعلهما وقد بدا لك بعض ما يعذبان به ذلك الممتحن وما يسومان به ذلك البائس المرتهن
واعلم أن عذاب القبر ليس مختصا بالكافرين ولا موقوفا على المنافقين بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين وكل على حاله من عمله وما استوجبه بخطيئته وزلله وإن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر والمنافق ومن أين لك بالأمان من تلك الصفة المذمومة والأعمال المشئومة وإنما الأعمال بالخواتيم وما ختم لك به فهو الواجب عليك واللازم والطوق في عنقك المقيم الدائم وعذاب المؤمن لا يكون كعذاب الكافر والحمد لله
قد يكون عذاب المؤمن في ضمة القبر أو ضيقه أو صعوبة منظره أو بما يصيبه من الروعات عند مشاهدة تلك الزلات وبالحسرات على ما سلف له من الجهالات وبالندامات على ما مضى من الساعات أو بما شاء الله تعالى فيكون من ذلك ما شاء الله أن يكون ويدوم ذلك ما شاء الله أن يدوم فإن أمنت ذلك العذاب الأكبر فما الذي أمنك من هذا الذي هو بالإضافة إليه عذاب أصغر فتفكر ما دام ينفعك التفكر وتخيل ما دمت ترجو ثمرة هذا التخيل إذا طرحت في حفرة من الأرض قصيرة الطول ضيقة العرض فاشتدت بها وحشتك واستبانت غربتك وانضمت عليك ضمة كسرت أنفك وشدخت رأسك ورضت عظامك وسدت وراءك وأمامك وتحتك وفوقك وملأت ظلمة أرضك وأفقك فيالك من قلب قد نكس وبدن قد هرس ونفس قد قصر وحبس فأردت أن تفر فلم تترك وأردت أن تستغيث فلم تملك ولا تدري ما يدوم ولا متى تدرك أن تقعد أو تقوم

أتراك كنت مفتديا من هذا المقام بما كنت جمعت من حطام بل بما جمعه جميع الأنام من حلال وحرام بل بما لا يحصر من أضعاف ذلك ولا يحد ولا يجمع ولا يعد
ولعلك يا هذا قد كنت في الدنيا لا ترضى بمنزلك المتسع ولا بشملك المجتمع ولا تقنع برزق ربك المتدفق عليك المندفع فانظر رحمك الله لنفسك فادفع عنك جوانب هذه الحفرة ونفس عنك من هذه الضمة وآنس من هذه الوحشة واعمل ما وجدت سبيلا للعمل وما دمت في فسحة ومهل ومهد المضجع ووطيء لذلك المصرع وارغب وتوسل واضرع وتذلل فلعل الإله المعبود الذي عم جوده الوجود وكرمه لا محصور ولا معدود وفيض نعمه لا مقطوع ولا محدود سيرسل منه قطرة تغمر العرش والذرة فيصيبك منه بنصيب ويبلك منه بذنوب ويعمك منه بشؤبوب وقد انقطع الرجاء إلا منه وسدت الأبواب إلا عنه جل وعلا وتبارك وتعالى
حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان وكان من أهل العلم والعمل رحمه الله أنهم دفنوا ميتا بقريتهم من شرق إشبيلية فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريبا منهم وإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة ثم عادت إلى القبر فجعلت أذنيها عليه كأنها تسمع ثم ولت كذلك ثم أعادت ذلك مرة بعد أخرى قال أبو الحكم رحمه الله فذكرت عذاب القبر وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم والله عز و جل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت ذكر هذه الحكاية لما قرأ القاريء هذا الحديث في عذاب القبر ونحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه
وروي أن بعض النباشين نبش ذات ليلة قبرا فلما كشف عن الميت إذا بنار تحرق الميت فأهوت إليه منها شرارة فهرب وتاب إلى الله عز و جل

وروى عن أبي بكر بن أبي الدنيا عن بعض أصحابه أنه قال لنباش بعد توبته ما سبب توبتك ورجوعك إلى الله قال نبشت إنسانا فوجدته قد سمر بمسامير في جميع جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه
وقيل لآخر ما سبب توبتك قال رأيت جمجمة إنسان قد صب فيها الرصاص وقد روي في الحديث من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يسرونه عنه صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ذكره البخاري ولعل هذا كان ممن يفعل ذلك والله أعلم بما كان عليه

الباب الثالث عشر
ذكر يوم القيامة وأهواله
( يضحك المرء والبكاء أمامه ... ويروم البقاء والموت رامه )
( ويمشي الحديث في كل لغو ... ويخلي حديث يوم القيامة )
( ولأمر بكاه كل لبيب ... ونفي في الظلام عنه منامه )
( صاح حدث حديثه واختصره ... فمحال بأن تطيق تمامه )
( عجز الواصفون عنه وقالوا ... لم نجيء من بحاره بكظامه )
( فلتحدثه جملة وشتاتا ... ودع الآن شرحه ونظامه )
واعلم رحمك الله أن هذا اليوم ليس عظمه مما يوصف ولا هوله مما يكيف ولا يجري على مقدار مما يعلم في الدنيا ويعرف بل لا يعلم مقدار عظمه ولا هو له إلا الله تعالى وما ظنك بيوم عبر الله تبارك وتعالى عن بعض ما يكون فيه بشيء عظيم قال الله عز و جل ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) وماذا عسى أن يقول القائل فيه وماذا عسى أن يصفه الواصف به الأمر أعظم والخطب أكبر والهول أشنع كما قال القائل
( وما عسى أن أقول أو أقوم به ... الأمر أعظم مما قيل أو وصفا )

( والأمر مهما قد نظرت له ... ألفيته الأعظم الألفا )
يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة ثم ما أدراك ما يوم القيامة يوم الحسرة والندامة يوم يجد كل عامل عمله أمامه يوم الدمدمة يوم الزلزلة يوم الصاعقة يوم الواقعة يوم الراجفة يوم الرادفة يوم الغاشية يوم الداهية يوم الآرفة يوم الحاقة يوم الطامة يوم الصاخة يوم التلاق يوم الفراق يوم المساق يوم الإشفاق يوم القصاص يوم لات حين مناص يوم التناد يوم الإشهاد يوم الميعاد يوم المرصاد يوم المساءلة يوم الحساب يوم المناقشة يوم المآب يوم العذاب يوم القرار إما في الجنة وإما في النار يوم القضاء يوم الجزاء يوم البكاء يوم البلاء يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا يوم الحشر يوم النشر يوم الجمع يوم البعث يوم العرض يوم الوزر يوم الحق يوم الحكم يوم الفصل يوم الجزاء يوم عظيم يوم عقيم يوم عسير يوم قمطرير يوم النشور يوم المصير يوم الدين يوم اليقين يوم النفخة يوم الصيحة يوم الرجفة يوم الرجة يوم الزجرة يوم السكرة يوم الفزع يوم الجزع يوم القلق يوم الفرق يوم العرق يوم الميقات يوم يخرج الأموات وتظهر المخبآت يوم الانشقاق يوم الانكدار يوم الانتشار يوم الانفطار يوم الافتقار يوم الوقوف يوم الخروج يوم الانصداع يوم الانقطاع يوم معلوم يوم موعود يوم مشهود

يوم تبلى السرائر يوم تخرج الضمائر يوم لا تغنى نفس عن نفس شيئا يوم لا تملك نفس لنفس شيئا يوم يدعى فيه إلى النار يوم يسجن فيه في النار يوم تقلب الوجوه فيه في النار يوم البروز إلى الله يوم الصدور إلى الله يوم لا تنفع المعذرة يوم لا يرتجى إلا من الله المغفرة وأهول أسمائه وأشنع ألقابه يوم الخلود وما أدراك ما يوم الخلود يوم لا انقطاع لعذابه ولا آخر لعقابه ولا يكشف فيه عن كافر ما به ونعوذ بالله ثم نعوذ بالله من بلائه وسوء قضائه بكرمه ورحمته
واعلم أن العرب قد تسمى الشيء بأسماء كثيرة وتجعل له ألقابا عديدة تعظيما لشأنه وإكثارا لأمره وقد سمي الله تعالى يوم القيامة بأسماء كثيرة ولعله من هذا وهو تبارك وتعالى أعلم

الباب الرابع عشر
ذكر النفخ في الصور النفخة الأولى والثانية
قد تقدم الكلام في ذكر الموت وغصته وكربه وشدته وعذاب القبر وفتنته وضيقه وظلمته ومنكر ونكير ورؤيتهما وسماع كلامهما على فظاظتهما وغلظتهما وبشاعة منظرهما وتكلف جوابهما والتوقي من مقامعهما بالأقرار بالربوبية والشهادة بالرسالة لمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت وأمده بنور الإيمان وألهمه حجته وإن في ذكر هذا لتنبيها من الغفلة وتنشيطا من الكسل وحلا من عقال البطالة وصرفا عن اللذات وردعا عن نيل الشهوات بل فيه ما يذهل النفوس ويميت القلوب أن تنال من الدنيا حظها الذي يكون به حياتها ويكون به قوامها و يقيم به رمقها فكيف أن ينال منها غير ذلك فكيف بما وراء هذا من جمع العباد ليوم التناد ويوم يقوم الاشهاد وحشر الأمم لذلك اليوم الأعظم
واعلم أن الإنسان لا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من إحدى الدارين وصحبه من أحد الفريقين وأنه لا تزال نفسه معذبة أو منعمة إلى يوم الجزاء والاجتماع لفصل القضاء وبعد ذلك يتجدد النعيم أو العذاب على وجه آخر وصفة أخرى مما سيأتي مما أمكن ذكره منه بعد هذا إن شاء الله عز و جل
واعلم أن الله تبارك وتعالى خلق للجنة أهلا وخلق للنار خلقا وهم مع الساعات راحلون ومع الأنفاس ظاعنون إلى دار البلى ومعسكر الموتى

ومستقر الأرواح وكل مطلع على مكانه الذي يصير إليه ومشرف على منزله الذي ينزل به وبذلك يكون نعيمهم وعذابهم وبغير ذلك مما شاء الله عز و جل فلا يزالون هكذا يرحلون وينتقلون ويظعنون إلى أن يفرغ العدد السعيد والفريق المنعم ويبقى من العدد الشقي والفريق المقصى بقية وخروجهم من الدنيا في دفعة واحدة لا يحصيها إلا الله تعالى خالقها لكنهم قليل بالإضافة إلى ما رحل منهم يكون ارتحال البقية إلى الدار الآخرة بمرة واحدة وخروجهم من الدنيا في دفعة واحدة وهم الذين تبعثهم الصيحة وتقوم عليهم الساعة قال الله تعالى ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة )
يروى عن الشعبي قال لقي جبريل عيسى عليه السلام فقال له عيسى متى الساعة فنفض جبريل أجنحته وقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة
وأما تقريب وقتها فكل آت قريب قال تعالى ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ) وقال عز و جل ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) وقال تعالى ( اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر )
وقال الله عز و جل ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون )

ويروى أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزل عليه ( أتى أمر الله ) وثب قائما فلما نزل قوله ( فلا تستعجلوه ) جلس قال بعض العلماء إنما وثب صلى الله عليه و سلم خوفا منه أن تكون الساعة قد قامت وقال صلى الله عليه و سلم بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ذكره مسلم بن الحجاج في كتابه
وذكر أيضا عن النواس بن سمعان الكلابي عن النبي صلى الله عليه و سلم وذكر خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وقتله الدجال ثم خروج يأجوج ومأجوج عليه ثم هلاكهم ثم ذكر ما يكون من بعد ذلك من البركات والخيرات قال فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة
واعلم أن كل ميت مات فقد قامت قيامته لكنها قيامة صغرى وقيامة كبرى فالقيامة الصغرى هي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه وفراق أهله وانقطاع سعيه وحصوله على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر والقيامة الكبرى هي التي تعم الناس وتأخذهم أخذة واحدة والدليل على أن كل ميت يموت فقد قامت قيامته قول النبي صلى الله عليه و سلم لقوم من الأعراب وقد سألوه متى الساعة فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم ذكره مسلم بن الحجاج في كتابه
والقيامة التي تعم الأرض إنما تأتيهم بغتة وتأخذهم على غفلة لما تقدم ولكنها تقوم في يوم الجمعة في غير شهر معروف ولا سنة معروفة
والملك الذي وكل بهذه النفخة وجعل على يديه هذه الصعقة قد استعد لها وتهيأ لإمضائها

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال لما كان ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه و سلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة متى هي فبدأوا بإبراهيم عليه السلام فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم فسألوا موسى عليه السلام فلم يكن عنده منها علم فردوا الحديث إلى عيسى عليه السلام فقال عهد الله تعالى إلي فيما دون وجبتها فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله
ويعني بوجبتها وقعتها
قال فذكر من خروج الدجال فأهبط فأقتله فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون لا يمرون بماء إلا شربوه ولا بشيء إلا أفسدوه فيجأرون إلي فأدعو الله فيميتهم فيملأ الأرض ريحهم فيجأرون إلي فأدعو الله فيرسل من السماء ماء فيحمل أجسامهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم فعهد الله إلي أنه إذا كان ذلك فإن الساعة من الناس كالحامل المتم التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا
قال النواس فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل وقرأ ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق )
وذكر أبو داود من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه

وذكر النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر بالنفخ فينفخ قالوا يا رسول الله وكيف نقول قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا
وذكر الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما زال صاحب الصور مذ وكل به مستعدا ينظر نحو العرش أن يؤمر فينفخ قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان
ومن مسند البزار عن أبي سعيد الخدري قال ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم صاحب الصور فقال عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل
وذكر الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما الصور قال قرن ينفخ فيه
وذكر أبو بشر الدولابي من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى ( نفخ في الصور ) فقال الصور كهيئة القرن
وقال بعض العلماء الصور أيضا جمع صورة
وذكر البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كل يزعم أنه رسول الله وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه لا أرب لي فيه وحتى يتطاول الناس في البنيان وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه وحتى تطلع

الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس أمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها
وذكر مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع والطير ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها ملئت وحوشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما
وسمعت في تفسيره أن هذين الراعيين إنما يخران على وجوههما من صيحة يوم القيامة فعند هذه الصيحة تخمد الأصوات وتسكن الحركات وتخلى من أهلها الأرضون والسماوات إلى يوم الخروج والميقات والجزاء بالحسنات والسيئات إلا أن الله تعالى ذكر عند هذه الصيحة استثناء سيأتي ما قيل فيه بعد إن شاء الله
ثم ينزل الله مطرا فتنبت منه الأجسام ويحيا به الرفات من العظام ويستعد لقبول الأرواح عند النفخة الثانية قال الله تعالى ( ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا )
وذكر مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللهA يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما الشك من الراوي قال فيبعث الله عيسى بن مريم عليه السلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى أحد على وجه الأرض في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى

لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه قال سمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول لهم أما تستجيبون فيقولون فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل الشك من الراوي فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى ( فإذا هم قيام ينظرون ) ثم يقال أيها الناس هلموا إلى ربكم ( وقفوهم إنهم مسئولون ) ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذلك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك ( يوم يكشف عن ساق )
ويروى أن هذا المطر الذي تنبت منه الأجساد أنه كمني الرجال وقد أخبر الله أن إنشاء الأجسام مثل إخراج النبات من الأرض قال الله سبحانه ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) أي كما ينبت نبات الأرض بالماء كذلك تنبت الأجساد بهذا الماء فبينما روحك في البرزخ مع الأرواح وكل على عمله من فساد أو صلاح إذ أمر الله عز و جل بها أن تجمع فتقبل أرواح المؤمنين تتلألأ نورا وأرواح الكافرين

تسود ظلمة فيقبضها جميعا فيجعلها في الصور ثم ينفخ إسرافيل فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يقول الله تعالى وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فتدخل الخياشيم حتى تمشي مشي السم في اللديغ
وذكر مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون عاما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون يوما قال أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل قال وليس شيء من الإنسان إلا ويبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة
وذكر أبو بكر بن أبي داود في كتاب البعث بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب قيل وما هو يا رسول الله قال مثل حبة خردل منه تنشأون
وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة بإسناده إلى لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث طويل قال فيه ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصيحة فلعمرو إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد فأرسل ربك السماء بهضب من عند العرش فلعمرو إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى يخلقه من قبل رأسه وذكر الحديث وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى
قوله فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد إنما هو تفهيم وتقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت وأن الأرض تبقى خالية

ليس يبقى إلا الله وحده كما قال تعالى ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
وقوله والملائكة الذين مع ربك فإنه قد جاء في بعض التفاسير في قوله تعالى ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) هو جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك وملك الموت ثم يؤمر ملك الموت أن يقبض روح جبريل ثم روح ميكائيل ثم روح إسرافيل ثم يؤمر ملك الموت أن يموت فيموت ولا يبقى إلا الذي له البقاء والعزة والكبرياء والملك الذي ألا يزول ولا يفنى تبارك وتعالى فينادي جل جلاله لمن الملك اليوم فلا يجيبه مجيب ومن ذا يجيبه ولم يبق موجود إلا الواحد المعبود فيجيب نفسه فيقول سبحانه لله الواحد القهار ثم يمكث الناس في البرزخ أربعين عاما ثم يحيى الله عز و جل إسرافيل فيأمره أن ينفخ النفخة الثانية فذلك قوله عز و جل ( فإذا هم قيام ينظرون ) قيام على أرجلهم ينظرون إلى ذلك الأمر العظيم والهول الجسيم
واعلم رحمك الله أنك إن كنت ممن لا يشاهد هذه الصعقة العامة التي هي قيام الساعة فلا بد لك من أن تشاهد صعقة نفسك التي تخصك وهي صعقة موتك وخروج روحك ولا بد من إنشائك وتسويتك ورد روحك إلى جسدك وإخراجك من الأرض التي خلقت منها كما قال تعالى ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) وقال عز من قال ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم )
قال سبحانه وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في

السموات والأرض وهو العزيز الحكيم
وقوله عز و جل وهو أهون عليه أي هو هين عليه لأنه ليس عند الله شيء أهون من شيء بل كل عليه هين
و قال تبارك وتعالى ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )
وقال سبحانه ( ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) وذكر النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يكذبني وشمتني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني أما تكذيبه إياي فقوله أني لا أعيده كما بدأته وليس آخر الخلق بأعز علي من أوله وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الله أحد صمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد
وقد أخرجه البخاري بمعناه
والاعتبار الصحيح يشهد بصحة النشأة الآخرة والقدرة متسعة لها ولكل ما شاءه الحكيم القدير تبارك وتعالى كما قال سبحانه وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا و كان ربك قديرا
خلق سبحانه الماء من لا شيء وأخرجه من غير شيء أخرجه من عدم إلى الوجود فكونه بعد أن لم يكن شيئا ثم خلق منه الإنسان فجعله آية عجبا وعبرة ظاهرة في شكله وتخطيطه وحركاته وسكناته وما فيه من الحكمة وما أودعه من عجائب الصنعة مما يطول وصفه ويتسع شرحه فتبارك الله أحسن الخالقين
وأنشدوا
( أيا ابن آدم والألاء سابغة ... ومزنة الجود لا تنفك عن ديم )

( هل أنت ذاكر ما أوليت من حسن ... وشاكر كل ما خولت من نعم )
( براك باريء هذا الخلق من عدم ... بحت ولولاه لم تخرج من العدم )
( أنشاك من حمأ ولا حراك به ... فجئت منتصبا تمشي على قدم )
( مكمل الأدوات آية عجبا ... موفر العقل من حظ ومن فهم )
( ترى وتسمع كلا قد حبيت به ... فضلا وتنطق بالتبيين والحكم )
( هداك بالعلم سبل الصالحين له ... وكنت من غمرات الجهل في ظلم )
( ماذا عليك له من نعمة غمرت ... كل الجهات ولم تبرح ولم ترم )
( غراء كالشمس قد ألقت أشعتها ... حتى ليبصرها عليك كل عمي )
( فاشكر ولست مطيقا شكرها أبدا ... ولو جهدت فسدد ويك والتزم )
( رزق وأمن وإيمان وعافية ... متى تقوم بشكر هذه النعم )
( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه إن ربك هو الخلاق العليم )
( فمن آمن بهذا لم يضق صدره عن الإيمان بالنشأة الثانية وكان منتظرا لها مشتغلا بالفكرة فيها وإنها لموضع الانتظار وموضع الاشتغال آناء الليل وأطراف النهار لكن حب العاجل والاشتغال بالحاضر والنظر إلى هذا الخيال القائم صرف وجه القلب عن استعمال الحقيقة في هذا الأمر وطمس عينه عن النظر إليها وسد مجاري فكره عن التصرف فيها فلو اشتغل ونظر وتفكر لأذهله ذلك عن الأهل والمال وشغله عن قيل وقال وصرفه عن لذة الحال إلى المآل لكنه إن لم ينظر الآن فسينظر في وقت لا ينفعه فيه النظر ولا ينقضي له به وطر وسيقدم فيعلم

الباب الخامس عشر
في انبعاث الناس من قبورهم وصفة الأرض التي يحشرون عليها وكيف يحشرون وذكر أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وما جاء أنهم يبعثون على نياتهم وما كانوا عليه
ذكر مسلم بن الحجاج من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوذ عائذ بالبيت فيبعث الله بعثا فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسفت بهم قلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارها قال يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته
وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم
وعن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول يبعث كل عبد على ما مات عليه
وأما أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة فنبينا محمد صلى الله عليه و سلم كما ذكر مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع

وذكر البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة الآخرة ويروى فأكون أول من يفيق وهو الأكثر
وقال البخاري أيضا في بعض ألفاظ هذا الحديث فإذا أنا بموسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أقام قبلي أم جوزي بصعقة الطور لم يكن عنده صلى الله عليه و سلم علم حتى يعلمه الله عز و جل فقد أخبر صلى الله عليه و سلم أنه أول من ينشق عنه القبر وهو حديث صحيح مشهور
واعلم رحمك الله أنه إن لم تشق سمعك النفخة الأولى في الصور لهلاك هذا المعمور فلا بد أن تشق سمعك النفخة الثانية لبعثرة القبور وقيام الخلائق ليوم النشور وتحصيل ما في الصدور
( إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )
( إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا )
( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية )
( إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت )

فناهيك من صيحة يقوم لها الاموات وتحيا بها العظام الرفات وحسبك من هدة تنهد لها الجبال وتعود كالكثيب المهيل من الرمال كما قال عز و جل ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش )
( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان )
وهذه أهوال لا بد لك من مكابدتها وأحوال لا بد لك من مشاهدتها يخرج سهمك فيها بما خرج ويلج بك سعيك منها فيما يلج فإما بنزول في درك وإما بارتقاء في درج
وقد صح هذا عندك فماذا أعددت له وثبت في نفسك فبماذا تستقبله وماذا تقوله وماذا تفعله لطال ما دعاك الداعي فتصاممت ونصحك النصيح فتعاميت وذكرك المذكر فتناسيت فقد وقفت على العيان مما كان عرضه عليك بالأمس البرهان وجاءك به الرسول وخاطبك به القرآن فهل من رجعة أو سبيل اليوم إلى استعمالك تلك الدعوة هيهات طمعت في غير مطمع وسمعت مالا يسمع إن كنت تريد أن تعود إلى الدنيا أو ترجع فتفكر الآن في نفسك وكونك في قبرك إذا سمعت انشقاق الأرض من فوقك ووقع ذلك الصوت الهائل في سمعك صوت تتصدع له الأكباد لو أذن لها في الانصداع وتتقطع له القلوب لو أذن لها في الانقطاع قال الله تعالى ( واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج )
وفي الحديث أن هذا الإجتماع يكون بالشام
روى أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الشام أرض المحشر والمنشر

ويروى أن المنادي ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء
وهذا النداء خلاف الصيحة العظمى فتفكر وأطل فكرك في عظيم تلك الصيحة وشدة تلك النفخة وتخيل قيام الناس وثورانهم من قبورهم دفعة واحدة وانبعاثهم بمرة واحدة وأنت بينهم وفي جملتهم منكسفا وجهك متغيرا لونك متعثرا قدمك قد ملأ قلبك الفزع وقصم ظهرك ذلك المستمع وانت حيران عطشان سكران شاخص البصر نحو النداء مستمعا إلى ذلك الدعاء ولو وجدت مطارا لطرت ومفرا لفررت ( كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )
( يا معشر معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ويروى عن الأوزاعي عن بلال بن سعد أنه قال إن للناس جولة يوم القيامة وهو قوله تعالى ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر )
وقال تعالى ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب )
وقال سبحانه ( إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم )
وأنشدوا
( ناد في القوم بيوم التناد ... وأعد فيهم حديث المعاد )
( فالحديث اليوم في غير هذا ... محدث في القلب صدع الفؤاد )
( وخلو القلب عن ذكر يوم ... ذكره أذهب طيب الرقاد )

( غبن في الرأي للعقل باد ... ومن الغبن خفي وباد )
( ولأمر ما بكاه رجال ... في الدياجي كبكاء العهاد )
( أي يوم ضاق عن حالتيه ... وصف وصاف بليغ وشاد )
( مشهد تبيض فيه وجوه ... ووجوه قد طليت بالحداد )
( يجعل الولدان شيبا ويرمي ... بالجبال الشم وسط الوهاد )
( وترى الناس سكارى وما هم ... بسكارى غير سكر التناد )
( فدع الدار وما دار فيها ... من تليد كان أو من تلاد )
( واقطع الأرض على ظهر طود ... نازلا منه إلى بطن واد )
( طالبا كهف نجاة لتنجو ... رائحا في نيل ذاكم وغاد )
( واقدح النار بجفن مروع ... جانب الأمن ولين المهاد )
( رام أمرا فشتتته أمور ... وعدته عن هواه عواد )
( فطوى كشحا على محرقات ... نشرت شعلاتها في البلاد )
( وأفض دمعة باك حزين ... مزجت دمعته بالجساد )
( وإذا ما أراد ذكرى لذنب ... بات من كربته في ازدياد )
( وقليل كل هذا قليل ... لأمور بين أيدي العباد )
( وكروب عند ما أنت فيه ... كالبحار السبع عند الثماد )
( فاجهد النفس وجاهد هواها ... فمراد الحق ترك المراد )
وقيل في قوله تعالى ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار )

أما تقلب القلوب فانتزاعها من أماكنها فتغص بها الحناجر فلا هي تخرج ولا هي ترجع إلى مواضعها قال الله تعالى ( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدي الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع )
وأما تقلب الأبصار فمن الكحل إلى الزرق ومن البصر إلى العمى قال الله تعالى ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا )
وقال سبحانه ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا )
فتفكر في بهتك وحيرتك وانكسارك وذلتك وافتقارك وقلتك يوم لا تجد إلا عملك الذي عملت وسعيك الذي سعيت قال الله تعالى ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه )
وأنشد بعضهم من قصيدة
( واذكر رقادك في الثرى ... في قعر مظلمة بهيم )
( قد نحيت تلك الحلى ... واستبدلت تلك الرسوم )
( واعتضت من حلل الغنى ... وحلاه خلقان العديم )
( وتركت ويحك مفردا ... لا أهل فيه ولا حميم )
( حيران تفزع للبكا ... لهفان تأنس بالغموم )
( حتى ينادى بالورى ... فتقوم أسرع ما تقوم )
( عريان مصطفق الحشا ... هيمان مجتمع الهموم )
( والناس قد رجفت بهم ... حرب هنالكم عقيم )
( في مأزق تهفو به ... لفحات نيران السموم )

( وبدت هناك سرائر ... قد كنت قبل لها كتوم )
( ورأيت في محصولها ... ما شئت من خسر وشوم )
( ان لم يجد بالعفو من ... يعفو عن الذنب العظيم )
واعلم أنه كلما عظم قدر رجل في الدنيا صغر هناك وكلما كثر جاهه في الدنيا قل هناك إلا من كان شعاره التقوى في الدنيا وطريقته المثلى وكل ما تراه أو تسمع به من ملك جبار أو عزيز قهار قد قاد الأجناد وأكثر الأمداد ودوخ البلاد وأذل العباد فهو في ذلك اليوم كالذرة في الرغام تطؤه الأقدام ويمحقه ذلك الزحام كما قال القائل
( ألم تسمع عن النبأ العظيم ... وعن خطب خلقت له جسيم )
( وزلزال يهد الأرض هدا ... ويرمي في الحضيضة بالنجوم )
( وأهوال كأطواد رواس ... تلاطم في ضلوع كالهشيم )
( فمن رأس يشيب ومن فؤاد ... يذوب ومن هموم في هموم )
( وسكران ولم يشرب حميا ... وهيمان ولم يعلق بريم )
( ومرضعة قد أذهلها أساها ... فما تدري الرضيع من الفطيم )
( ومؤتمة تولت عن بنيها ... وألقت باليتيمة واليتيم )
( وحبلى اسقطت ذعرا وخوفا ... فيا لله لليوم العقيم )
( وهذا مشهد لا بد منه ... وجمع للحديث وللقديم )
( وما كسرى وقيصر والنجاشي ... وتبع والقروم بنو القروم )
( بذاك اليوم إلا في مقام ... أذل من التراب لذي السليم )
( وما للمرء إلا ما سعاه ... لدار البؤس أو دار النعيم )
( وأنت كما علمت ورب أمر ... يكون أذاه أوقع بالعليم )
( فدع عينيك تسبح في معين ... وقلبك ذره يقلب في جحيم )

( وشق جيوب صبرك شق ثكلي ... تعلقت ابنها رجلا سهوم )
( وماذا الأمر ذلكم ولكن ... تشبه بالبحار يد الكريم )
وذكر مسلم بن الحجاج من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فيقال لي انهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ثم ينقاض أهل السماء الدنيا على الأرض فأهل السماء الدنيا وحدهم اكثر من جميع أهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف فيفزعون إليهم ويقولون أفيكم ربنا فيقولون سبحانه ليس فينا وهو آت ثم اهل السماء الثانية فينتشرون على وجه الارض فأهل السماء وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا وأهل الأرض من جنهم وإنسهم بالضعف فيفزعون أليهم فيقولون أفيكم ربنا فيقولون سبحانه ليس فينا وهو آت ثم ينقاض أهل السموات سماء سماء كلما انقاضت سماء انتشر أهلها على وجه الأرض فيكونون أكثر من أهل السموات التي تحتهم وأهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف ويفزع إليهم أهل الأرض فيقولون أفيكم ربنا فيقولون سبحانه ليس فينا وهو آت ثم ينقاض أهل السماء السابعة فينتشر

أهلها على وجه الأرض فلهم وحدهم أكثر من أهل السموات ومن جميع أهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف وينزل الله تبارك وتعالى في ظلل من الغمام والملائكة
فتفكر في هذا المشهد العظيم واليوم العقيم يوم يجمع فيه هذا الخلق كلهم من الملائكة ومن بني آدم من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الدنيا فتفكر في أي أرض تسعهم وأي مكان يحملهم فكيف وينضاف إليهم جميع الوحوش النافرة والهوام الشاردة إلى غير ذلك من المخلوقات التي ضمها ذلك الموعد وحشرها ذلك المشهد فتفكر الآن فيهم كيف يساقون وكيف يجمعون وكيف يحشرون من بين محمول قد مدت ظلال الرحمة عليه وجمعت الأماني في يديه وبين ساع على قدميه وآخر مجرور على خديه و مصروع لهول ما بين يديه
كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنكم تحشرون إلى الله عز و جل رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم ويروى ويجرون على وجوههم على أرض بيضاء قاع صفصف مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا لا ربوة يستتر بها ولا وهدة يختفى فيها بل هو صعيد واحد ليس فيه شيء قائم ولا علم مرتفع قال الله تعالى ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا )
وقال النبي صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد
وقال صلى الله عليه و سلم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر
ذكر الحديثين مسلم من حديث سهل وأبي هريرة
يريد صلى الله عليه و سلم ارضا مستوية لا جبل فيها ولا أكمة ولا ربوة ولا وهدة

أرض بيضاء نقية لم يسفك عليها دم ولا عمل عليها خطيئة ولا ارتكب فيها محرم
قال الله تعالى ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )
وفي حديث ثوبان ان النبي صلى الله عليه و سلم سئل أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات قال هم في الظلمة دون الجسر والجسر هو الصراط
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنهم على الصراط ذكر هذين الحديثين مسلم بن الحجاج
فتفكر في هذا المجتمع وهذا الهول الأشنع والخطب الأقطع الأبشع وفيمن يضره ويشهده ويعانيه ويبصره وكيف يقومون على أقدامهم ويشخصون بأبصارهم وأنت معهم في ضيق مقام وطول قيام
قد جمعوا جمع الدراهم في الصرة المشدودة والنبل في الكنانة المشحونة وقد انشقت السماء فوقهم وذابت عليهم وسالت على رؤوسهم وطاشت الألباب وذهلت الأوهام وتحيرت العقول وتلجلجت الألسن فلم يدر قائل ما يقول وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا وضعفت الحركات فلا تسمع للأقدام حسا فيالك من هول تنهد منه الجبال فكيف الرجال ويالك من خطب تنشق منه السماء فكيف الأحشاء
فتفكر فيما يشق سمعك من ذلك وما يخلع قلبك من الروع الذي هنالك وكيف بك إذا رأيت الشمس قد كورت فذهب ضوؤها والنجوم قد طمست فمحي نورها وزالت عن مواضعها وفقدت في مطالعها وانتثرت على من تحتها وعلى من كان من سمتها واشتبك الناس بعضهم في بعض وتداخل الخلق بعضهم في بعض فصاروا كالفراش المبثوث وقامت الملائكة على أرجاء السماء وأحاطت بالخلائق من كل الأرجاء والناس حفاة عراة

غرل كما خلقوا فيالك من يوم يختلط فيه الرجال مع النساء وقد أمنوا أن ينظر بعضهم إلى بعض أو يحس بعضهم ببعض
وذكر مسلم بن الحجاج من حديث عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض قال يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض
وذكر النسائي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تحشرون حفاة عراة غرلا فقالت له زوجته أو يرى بعضنا عورة بعض قال يا فلانة لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
فيا لك من هول ما أعظمه ومن كرب ما أشده ومن خطب ما أبشعه
وإياك أن تستبطىء هذا اليوم وأن تستبعده فما سيرك إليه ببطيء وما هو منك ببعيد وإن طال المدى وامتدت الغاية فكل آت قريب وكل ما يكون سيكون قال الله تعالى ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم )
وقال سبحانه ( كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسأل العادين )
وقال تعالى ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما )
أي يقول ذلك بعضهم إلى بعض سرا فيقول أعدلهم قولا وأرجحهم عقلا ان لبثتم إلا يوما أي ما لبثتم في القبور إلا يوما واحدا

ويروى عن مجاهد أنه قال للكفار هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم فإذا بعثوا قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيقول لهم المؤمنون هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون فيخرج الخلائق مذعورين خائفين وجلين وإذا المنادي ينادي يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيطمع في هذا المؤمنون والكافرون فينادي المنادي الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى المسلمون فينادي المنادي الثالثة الذين آمنوا وكانوا يتقون فينكس أهل الكبائر رؤوسهم ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم قد زال عنهم الخوف وذهب عنهم الحزن وغشيهم الفوز والأمن ذلك يوما يجعل الولدان شيبا ولا ترى فيه إلا حزينا كئيبا يوم تشقق السماء كأنها السحاب وتسير الجبال كأنها السراب
واعلم ان الناس يحشرون يومئذ على ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم كما قال تعالى ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) والوفد في اللغة القوم المكرمون يفدون من بلادهم في جماعتهم وإلى ملكهم فينزلهم ويكرمهم والورد العطاش يساقون كما تساق الإبل وغيرها من الأنعام تسوقهم الملائكة بسياط من النار إلى النار وقوم يمشون على وجوههم
ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك
وذكر مسلم بن الحجاج من حديث قتادة عن أنس بن مالك أن رجلا

قال يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا
قال أبو حامد وذكر هذا الفصل في طبع الآدمي إنكار كل ما لم يأنس به ولم يشاهده ولو لم يشاهد الإنسان الحية وهي تمشي على بطنها لأنكر المشي من غير رجل والمشي بالرجل أيضا مستبعد عند من لم يشاهد ذلك فإياك أن تنكر شيئا من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا فإنك لو لم تكن شاهدت عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكارا لها فأحضر رحمك الله في قلبك صورتك وأنت قد وقفت عاريا مكشوفا ذليلا مدحورا متحيرا مبهوتا منتظر لما يجري عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاء
ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة بإسناده إلى لقيط بن عامر العقيلي قال خرجت أنا وصاحب لي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة لانسلاخ رجب فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الناس خطيبا فقال أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لأسمعكم اليوم ألا فهل من امرىء بعثه قومه فقالوا له اعلم ما يقول لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه الضلال ألا إني مسئول هل بلغت ألا اسمعوا تعوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت يا رسول الله ما عندك من علم الغيب قال فضحك لعمرو الله وهز رأسه وزعم أني ابتغي تسخطه فقال ضن ربك بخمس من الغيب لا يعلمها إلا الله وأشار بيده قلت وما هن يا رسول الله قال علم المنية قد علم متى منية

أحدكم ولا تعلمونه وعلم المني متى يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه وعلم ما في غد قد علم ما أنت طاعم غدا ولا تعلمونه وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك قد علم أن غوثكم قريب قال لقيط لم نعدم من رب يضحك خيرا قال وعلم يوم السعة قلت يا رسول الله إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني قال سل عما شئت قلت يا رسول الله علمنا مما لم يعلم الناس وما تعلم قال تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصيحة فلعمرو إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في الأرض قد خلت عليه البلاد فأرسل ربك السماء بهضب من عند العرش فلعمرو إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه حتى يستوي جالسا يقول ربك مهيم لما كان فيه فيقول يا رب أمتني أمس وأحييتني اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله فقلت يا رسول الله فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع قال أنبئك بمثل ذلك في إل الله الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت لا تحيا أبدا ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عنها إلا أياما حتى أشرفت عليها فإذا هي شربة واحدة فلعمرو إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأضواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه ساعة وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه قال أنبئكم بمثل ذلك في إل الله الشمس والقمر آية صغيرة ترونهما ساعة واحدة ويريانكم لا تضامون في رؤيتهما ولعمرو ألهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه منهما أو ترونهما ويريانكم ولا تضامون في رؤيتهما قلت يا رسول الله فما يفعل ربنا بنا إذا لقيناه قال

تعرضون عليه بادية صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فلعمرو إلهك ما يخطيء وجه واحد منكم منها قطرة فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء وأما الكافر فتحطمه مثل الحميم الأسود ألا ثم ينصرف نبيكم ويفرق على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة فتقول حس يقول ربكم أوانه ألا فتطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله فلعمرو إلهك ما يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا قال قلت يا رسول الله فبم نبصر الأرض قال بمثل ساعتكم هذه وذلك مع طلوع الشمس في يوم أسفرته الأرض وواجهته الجبال قال قلت يا رسول الله فبم نجزي من حسناتنا أو سيئاتنا قال الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن تغفر قلت يا رسول الله ما الجنة والنار قال لعمرو ألهك إن النار لها سبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما وإن للجنة ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما قال قلت يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة قال على أنهار من عسل مصفى وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة فلعمرو إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهرة قلت يا رسول الله وإن لنا فيها أزواجا وهن مصلحات قال الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذذنكم غير إن لا توالدوا وذكر باقي الحديث

فصل دنو الشمس من الناس يوم القيامة
ذكر مسلم من حديث المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق الجاما وأشار رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده إلى فيه
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث قال تدنو الشمس يوم القيامة على مقدار ميل ويزاد فيها كذا وكذا تغلى منها الهوام كما تغلي القدور على الأثافي ذكره قاسم بن أصيغ
وذكر مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه
وذكر مسلم عن أبي هريرة في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم الشك من الراوي
وروى عن أنس أنه قال لم يلق ابن آدم قط شيئا منذ خلقه الله أشد عليه من الموت ثم إن الموت لأهون عليه مما بعده إنهم ليلقون من هول ذلك اليوم وشدته حتى يلجمهم العرق حتى لو أرسلت فيه السفن لجرت

وذكر أبو بكر البزار في مسنده عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن العرق ليلزم المرء في الموقف حتى يقول يا رب إرسالك بي إلى النار أهون علي مما أجد وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب
ثم تفكر في ذلك الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق واجتماع الإنس والجن ومن يجمع من سائر أصناف الحيوان وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم ولا فرار ولا انتصار ولا ملاذ ولا انتقاذ وقربت الشمس منهم قبل تكويرها وكانت كمقدار ميل وزيد في حرها وضوعف في وهجها ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته من كسبك وقد انضاف إلى حر الشمس حر الأنفاس لتزاحم الناس واحتراق القلوب بما غشيها من الكروب واشتد الفرق وعظم القلق وسال من الأجسام العرق وانبعث من كل موضع من الجسد وانبثق وكان الناس فيه على قدر أعمالهم كما تقدم
فتفكر في نفسك أيها المسكين وقد ضاق نفسك وزاد قلقك وسال عرقك وجرى من جميع بدنك من قرنك إلى قدمك ووصل منك إلى حيث أوصلته بعملك إما إلى كعبك أو صاعدا حتى إلى أذنك فانظر إلى هذا الحال وتفكر في هذا الوبال وسوء هذا المآل واعلم رحمك الله أنه لو سال عرقك في الدنيا طول عمرك وأضعافه في طاعة ربك وفي رضا سيدك على أن لا تعرق في ذلك اليوم لكان ذلك يسيرا ولكنت به جديرا ولكانت سلامتك منه غنما كثيرا وفوزا كبيرا
وأنشدوا
( قدم لنفسك نزلا ... وارفع لرأسك ظلا )
( في يوم تضحى البرايا ... في شمسه تتقلى )
( فمن جسوم تصلى ... ومن رؤوس تقلى )
( ولا ملاذ هناكم ... إلا سرائر تبلى )

( وكل ما كان مخفى ... هناك للخلق يجلى )
( فمن دم في دموع ... تهل في الخد هلا )
( ومن جوى في ضلوع ... قد حل فيها المحلا )
( فيا أخي والمنايا ... تثل عرشك ثلا )
( وهذه مفزعات ... تكفيك قولا وفعلا )
( وإنه الأمر جد ... وليس يا صاح هزلا )
( فاعمل له في تراخ ... للعمر من قبل ألا )
( وقد نصحتك فاقبل ... واسمع لنصحي وإلا )

فصل طول يوم القيامة
أعلم رحمك الله أن يوم يوم القيامة ليس طوله كما عهدت من طول الأيام بل هو آلاف من الأعوام ينصرف فيه هذا الأنام على الوجوه والأقدام حتى ينفذ فيهم ما كتب لهم وعليهم من الأحكام وليس يكون خلاصهم دفعة واحدة ولا فراغهم في مرة واحدة بل يتخلصون ويفرغون بفراغ اليوم لكن طول ذلك اليوم خمسين ألف سنة فيفرغون بفراغ اليوم ويفرغ اليوم بفراغهم
وليس أيضا هذا اليوم مثل أيام الدنيا التي تكون على حكم دوران الفلك إذا ذهب الليل جاء النهار وإذا ذهب النهار جاء الليل حكمة الله التي حيرت العقول وأكلت الأبصار وأخرست الألسن
ليس هناك ليل إنما هو وقت واحد على صفة واحدة وهذا الذي يسمى يوما انما هو مقدار من ذلك الوقت يطوله الله عز و جل ما شاء ويقصره ما شاء ويسمي ما شاء بما شاء
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت لهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالإبل قال ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا

كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار
كذا روى وإنما هو كلما مر عليه اخراها رد عليه أولاها
قال الحسن البصري فما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أجوافهم جوعا انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد أنى حرها واشتد نضجها
واعلم أن هذا اليوم يتلون ألوانا ويستحيل حال الناس فيه أحوالا فينبعثون فيه من قبورهم ويساقون فيه إلى محشرهم ومكان القضاء فيهم ويقفون فيه ما شاء الله أن يقفوا شاخصة أبصارهم إلى السماء مبهوتين سكارى حيارى من عظيم ما أصابهم وهول ما نزل بهم ثم يموج بعضهم في بعض ويدخل بعضهم في بعض ويمشون من نبي إلى نبي يطلبون الشفاعة في الاستعجال والانفصال والتخلص من تلك الأهوال والأنكال وليس كل الناس يكلم الأنبياء وليس كل الناس يمشي إليهم ومن الناس من يكون بمنزلة الرغام تطؤه الأقدام في ذلك الزحام وضيق ذلك المقام ويأتي في هذا اليوم وقت منه يتكلم فيه المشركون فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين

ويأتي عليهم منه وقت آخر لا يتكلمون ولا يؤذن لهم فيعتذرون وفيه تكون المحاسبة والمناقشة وفيه يتعلق الناس بعضهم ببعض ويطلب بعضهم بعضا ويخاصم بعضهم بعضا فمن الناس من يخفف عليه اليوم حتى لا يجد فيه مشقة طول ولا يرد له فيه رغبة ولا سؤل
وذكر ابن وهب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة كان يصليها في الدنيا فمن الناس من يطول مقامه وحبسه إلى آخر اليوم ومنهم من يكون انفصاله في ذلك اليوم في مقدار يوم من أيام الدنيا وفي ساعة من ساعاته أو فيما شاء الله من ذلك أو يكون رائحا في ظل كسبه وعرش ربه ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب كما أن منهم من يؤمر به إلى النار في أول الأمر من غير وقوف ولا انتظار أو بعد يسير من ذلك النهار وبالجملة فليس يتم ذلك اليوم إلا وقد نزل كل إنسان بداره واستقر في قراره من جنته أو ناره
فتفكر أيها الإنسان في طول ذلك اليوم وفي طول ذلك القيام فيه مع ذلك الحال الأخطر والفزع الأكبر والهول الذي لا يكيف ولا يقدر فاختر لنفسك كم تريد أن تقف فيه وكيف تريد أن تكون فيه ما دام النظر إليك والاختيار بيديك مع توفيق ربك عز و جل لك ومعونته إياك
وأنشد بعضهم
( يا آمن الساحة لا يذعر ... بين يديك الفزع الأكبر )
( وإنما أنت كمصبورة ... حم رداها وهي لا تشعر )
( والمرء منصوب له حتفه ... لو أنه من عمه يبصر )
( وهذه النفس لها حاجة ... والعمر عن تحصيلها يقصر )

( وكلما تزجر عن مطلب ... كانت به أهيم إذ تزجر )
( وإنما تقصر مغلوبة ... كالماء عن عنصره يقصر )
( وربما ألقت معاذيرها ... لو أنها يا ويحها تعذر )
( وناظر الموت لها ناظر ... لو أنها تنظر إذ ينظر )
( وزائر الموت له طلعة ... يبصرها الأكمه والمبصر )
( وروعة الموت لها سكرة ... ما مثلها من روعة تسكر )
( وبين أطباق الثرى منزل ... ينزله الأعظم والأحقر )
( يترك ذو الفخر به فخره ... وصاحب الكبر به يصغر )
( قد ملأت ارجاءه روعة ... نكيرها المعروف والمنكر )
( وبعد ما بعد وأعظم به ... من مشهد ما قدره يقدر )
( يرجف منه ذا الورى رجفة ... ينهد منها الملأ الأكبر )
( وليس هذا الوصف مستوفيا ... كل الذي من وصفه يذكر )
( وإنما ذا قطرة أرسلت ... من أبحر تتبعها أبحر )
( وقد أتاك الثبت عنه بما ... أخبرك الصادق إذ يخبر )
( فاعمل له ويك وإلا فلا ... عذر وما مثلك من يعذر )
واعلم أنه كلما طال قيامك في طاعة الله وانتصابك له قصر قيامك في ذلك اليوم وقل تعبك فيه وكلما كثر تصرفك في طاعة الله سبحانه وإقبالك وإدبارك في قضاء حاجة مسلم ومشيك فيه ومشاركتك له يقل مشيك في ذلك اليوم ويقل تعبك فيه وبقدر ما تبذل تعطى وكما تدين تدان
ولعلك يا هذا تستطيل ركعتين تقرأ فيهما حزبا أو حزبين تقوم بهما لربك جل جلاله ولعلك تعجز عن مشي ميل في قضاء حاجة مسلم أو ميلين

وبين يديك هذا اليوم الطويل المديد والكرب العظيم الشديد الذي لا يقصر إلا على من أطال التعب لله ولا يسهل إلا على من تحمل الشدائد في ذات الله ولعلك ان صليتهما ليلة عجزت عنهما ليلة أخرى ولعلك ان مشيت يوما في حاجة مسلم برمت من ذلك يوما آخر وضجرت منه وكسلت عنه وربما وقفت لسماع حديث فارغ يكون تقديره أكثر من حزب أو حزبين وربما مشيت في فضول الميل والميلين وأكثر من ذلك ولو تدبرت في أمرك ونظرت فيما يراد بك لسهل عليك من أمرك العسير وقرب عليك فيه البعيد فاعمل رحمك الله في أيام قصار وعمر قصير لأيام طوال وعمر طويل

الباب السادس عشر
ذكر الحوض
قد سمعت رحمك الله بعطش هذا اليوم والتهابه وما يصل إلى القلوب من أواره واحتراقه وأن الماء في ذلك اليوم أعز موجود وأعظم مفقود وأن لا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود صلى الله عليه و سلم ولا مشرب لأمته سواه ولا تبرد أكبادهم إلا به وأن الشربة منه تروي من الظمأ وتشفي من الصدى وتذهب كل داء فلا يظمأ شاربها ولا يسقم بعدها أبدا وأنها ترد العقل العازب والشباب الذاهب ويؤوب معها من الزمن الصالح ما لم يكن قبل بآيب وانه لا يرد ذلك الحوض إلا من ورد في الدنيا حوض شرعته وتمسك بسنته وتوفي على ملته وإلا فيجلى عنه ولا يدنو منه ولا يكاد ويضرب عنه ضربا تتقطع له الجوانح والأكباد
وأنا أذكر لك من أحاديث الحوض ما يسر الله عز و جل
ذكر مسلم من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إني لبعقر حوضي أذود الناس عنه لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم فسئل عن عرضه فقال من مقامي إلى عمان وسئل عن شرابه فقال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يفت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق
وعن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من

اللبن وأحلى من العسل
ومن حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ترى فيه أباريق الذهب والفضة عدد نجوم السماء
وذكر الترمذي عن أبي سلام الحبشي قال حدثني ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل أكاويبه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد فقال عمر بن عبد العزيز قد نكحت المنعمات فاطمة بنت عبد الملك وفتحت لي أبواب السدد لا جرم لا إغسل رأسي حتى يشعث ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ
وذكر البزار من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوضي من كذا إلى كذا فيه من الآنية عدد النجوم أطيب ريحا من المسك وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وأبيض من اللبن من شرب منه لم يظمأ أبدا ومن لم يشرب لم يرو أبدا
وذكر مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه إني على الحوض أنتظر من يرد علي منكم فوالله ليقتطعن دوني رجال فلأقولن أي رب مني ومن أمتي فيقول إنك لا تدري ما عملوا بعدك مازالوا يرجعون على أعقابهم
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ بعدها أبدا

وقالت أسماء بنت أبي بكر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ أناس من دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال أما شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم
قال فكان ابن أبي مليكة يقول اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا
وعن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أيها الناس إني لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال فأقول فيم هذا فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا
وقال النسائي في هذا الحديث يا أيها الناس بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا فيذهب بكم الطرق فأناديكم ألا هلم إلى الطريق فينادي مناد من ورائي إنهم بدلوا بعدك فأقول ألا سحقا سحقا
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني رأيت إخواننا قالوا أولسنا أخوانك يا رسول الله قال بل أنتم أصحابي وأخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا كيف تعرف من لم يأت بعدك من أمتك يا رسول الله قال أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا
وذكر البخاري من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني فرط لكم على الحوض من مر يشرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم زاد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه

قال فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي وذكر من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال بينا إنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم فقلت أين فقال إلى النار والله قلت وما شأنهم قال إنهم ارتدوا بعدك القهقرى على أدبارهم ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم فقلت أين فقال إلى النار والله قلت وما شأنهم قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم
قوله صلى الله عليه و سلم بينا أنا قائم يريد على الحوض كما ورد في حديث آخر
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني ممسك بحجزكم عن النار وتغلبونني وتقتحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب وأوشك أن أرسل حجزكم وأفرط لكم عن أو على الحوض الشك من الراوي وتردون علي معا وأشتاتا فأعرفكم بأسمائكم وسيماكم كما يعرف الرجل الغريبة من الإبل في إبله ويذهب بكم ذات الشمال وأناشد فيكم رب العالمين فأقول أي رب رهطي أي رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا

أملك لك من الله شيئا قد بلغت ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت
وذكر أبو بكر البزار عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أنا فرط بين أيديكم فإن لم تجدوني فإني على الحوض وسيأتي أقوام رجال ونساء ثم لا يذوقون منه شيئا
وذكر ابن السكن من حديث سويد بن جبلة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتزدحمن هذه الأمة على الحوض ازدحام واردات الحمر
وذكر مسلم من حديث أنس بن مالك قال بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا ذات يوم إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال نزلت علي أنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ) ثم قال أتدرون ما الكوثر فقلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد فأقول يا رب إنه من أمتي فيقول ما تدري ما أحدث بعدك
وفي طريق آخر عن أنس أيضا نهر وعدنيه ربي في الجنة عليه حوضي ويروى عليه حوض
وفي حديث لقيط وذكر البعث قال تسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة فيقول حس ألا فتطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله فلعمرو إلهك ما يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم

وذكر في هذا الحديث أن الحوض بعد الجسر وما تقدم في الحوض من الأحاديث التي لم يحد له فيها موضع هو الصحيح المشهور
وذكر الترمذي من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة
وهذا يروى عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا
وذكر أبو بكر البزار من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لي حوضا ما بين بيت المقدس إلى الكعبة أبيض من اللبن فيه عدد الكواكب أنية وأنا فرطكم على الحوض ولكل نبي حوض وكل نبي يدعو أمته فمنهم من يرد عليه فئام من الناس ومنهم من يرد عليه ما هو دون ذلك ومنهم من ترد عليه العصابة ومنهم من يرد عليه الرجلان والرجل وفيهم من لا يرد عليه أحد فيقول اللهم قد بلغت ثلاثا وذكر باقي الحديث

الباب السابع عشر
ذكر الشفاعة الأولى التي تكون لفصل القضاء بين الناس )
وهي المختصة بنبينا صلى الله عليه و سلم فلا تكون إلا له ولا يشركه فيها أحد غيره
ذكر البخاري من حديث آدم بن علي قال سمعت ابن عمر يقول ان الناس يصيرون يوم القيامة جثى كل أمة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع لنا يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود رواه حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في دعوة فدفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذاك يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغ بنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته

نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا أشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك الا ترى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرهن أبو حيان في الحديث نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا ولم أؤمر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتون محمدا صلى الله عليه و سلم فيقولون يا محمد أنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألاترى إلى ما نحن فيه فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب

ثلاثا فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى أو كما بين مكة وهجر

الباب الثامن عشر
المساءلة والتقرير والمحاسبة والقصاص
قال الله تعالى ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون )
وقال سبحانه ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا )
وقال جل جلاله ( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون )
ذكر قاسم بن أصبغ من حديث سعيد بن عبد الله عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه ذكره الترمذي أيضا
وذكر مسلم من حديث صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى قال سمعته يقول يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه تعالى حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف ذنب كذا وكذا فيقول رب أعرف قال فإني سترتها عليك في الدنيا

وإني أغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
وذكر مسلم أيضا من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حوسب يوم القيامة عذب فقلت أليس قد قال الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ليس ذلك الحساب وإنما ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب
وذكر أبو بكر البزار من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم التي من الله عليه فيقول الله تعالى لأصغر نعمة أحسبه قال في ديوان النعيم خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح ثم تتنحى فتقول وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل فإذا أراد الله أن يرحم عبده قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك وأحسبه قال ووهبت لك نعمي
وذكر أبو بكر البزار من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يؤتى بالمالك والمملوك والزوج والزوجة حتى يقال للرجل شربت يوم كذا وكذا على لذة ويقال للزوج خطبت يوم كذا فلانة مع خطاب فزوجتكها وتركتهم
وفي الخبر المشهور أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أكلا تمرا وبسرا ورطبا ثم أكلا خبزا ولحما أطعمهما رجل من الأنصار وأكلاه على جوع فقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة والحديث ذكره مسلم

وذكر الترمذي من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه قال لما نزلت ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) قال الزبير يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال نعم قال إن الأمر إذن لشديد
وذكر النسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله عز و جل له كل حسنة كان أزلفها ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار
وذكر البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخلص المؤمنون من النار فيجلسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى لمنزله في الجنة منه بمنزله الذي كان في الدنيا
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لتؤدن الحقوق

إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء
وذكر أبو بكر الشافعي من حديث أبي ذر قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان قلت لا أدري قال لكن الله يدري ويقضي بينهما يوم القيامة وذكر البخاري من حديث أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه
وذكر أبو بكر البزار عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله وظلم يغفره وظلم لا يتركه فاما الظلم الذي لا يغفره فالشرك قال الله تبارك وتعالى ( إن الشرك لظلم عظيم ) وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين بعضهم من بعض
وذكر مسلم من حديث أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوه عنه كبارها فيعرض عليه صغار ذنوبه فيقال أعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه

وذكر الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج فيوقف بين يدي الله عز و جل فيقول الله له أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت فيقول يا رب جمعته وثمرته فتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به فيقول له أرني ما قدمت فيقول يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به فإذا عبد لم يقدم خيرا فيمضى به إلى النار
فتفكر أيها المسكين في نفسك بينما أنت في هذا اليوم الذي وصف لك وفي هذا الحال الذي حدثت عنه وقد جيىء بجهنم كما روي في الصحيح تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تكون بمرأى من الخلق ومسمع يرون لهيبها ويسمعون زفيرها
اذ أخذ بضبعيك وقبض على عضديك وجيء بك تتخطى الرقاب وتخترق الصفوف والخلائق ينظرون إليك حتى إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسئلت عن القليل والكثير والنقير والقطمير ولا تجد أحدا يجاوب عنك بلفظة ولا يعينك بكلمة ولا يرد عنك جوابا في مسألة
وأنت قد شاهدت من عظم الأمر وجلالة القدر وهيبة الحضرة ما أذهب بيانك وأخرس لسانك وأذهل جنانك ونظرت يمينا وشمالا وبين يديك فلم تر إلا النار وعملك الذي كنت تعمل وكلمك رب العزة جل جلاله بغير حجاب يحجبك ولا ترجمان يترجم لك كما جاء في الخبر الصحيح وسئلت عن كل شيء كان منك في حق نفسك وحق غيرك وقيل لك مالك من أين اكتسبته ومن أين جمعته وفيم أنفقته فما ظنك بنفسك في ذلك اليوم وكيف يكون فزعك وجزعك

وكيف تكون حيرتك ودهشتك إذا قيل لك عاملت فلانا يوم كذا وكذا في كذا وكذا وأخذت منه كذا وكذا وغبنته في كذا وكذا وتركت نصيحته في كذا وكذا وفي هذه السلعة ولم تبين له هذا العيب أو غصبت فلانا أو ظلمت فلانا أو غششت فلانا أو قتلت فلانا أو فعلت كذا وكذا وقيل لك أدل بحجة قم ببينة ائت ببرهان انفذ بسلطان فأردت الكلام فلم تبين وجئت بعذر فلم يستبن هيهات أنى لك الكلام ولم تنقحه وأنى لك بالعذر وفي الدنيا لم تصححه
قال الله تعالى ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا )
وقال الحارث بن أسد المحاسبي في موعظة له أحذرك يا أخي ونفسي يوما إلى الله فيه على نفسه ألا يترك عبدا أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله كله دقيقه وجليله سره وعلانيته فانظر بأي بدن تقف بين يديه وبأي لسان تجيبه فأعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا فتفكر الآن وانظر بأي قدم تقف في ذلك المقام وبأي أذن تسمع ذلك الكلام فما شئت من قلب يخلع وكبد تصدع ولسان يتلجلج وأحشاء تتموج ونفس تريد أن تخرج فلا تترك أن تخرج
فانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي عاملت بها انظر كيف ذهبت عنك مسراتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد انفدتها كيف ذهب عنك الفرح بها وبقيت تبعتها وانظر الآن بكم تفتدي من ذلك الموقف وبكم تتخلص من ذلك السؤال
أتقول لو كان لك نصف الدنيا أكنت تعطيه في التخلص من ذلك المقام أي لعمرو الله والدنيا وأضعافها مرات فكيف ولم يحصل لك من عمرك الا دريهمات يسيرة أنفقتها في أيام يسيرة وربما لم تنفقها ولعلك كنت أنت جامعها والمتعب فيها وكان المنفق لها سواك والمتلذذ بها غيرك إما زوج ابنتك أو زوجة

ابنك أو غيرهما من ورثتك وأنت إنما حصل لك منها ما أنفقته في الحال لا ما اعددته للمآل وتركت ذلك لمن لا يحمدك ولا يشكرك ولعله ينفقها في معصية فتكون أنت السبب فيها ويكون مالك العون عليها أو ينفقها في طاعة فترى مالك في ميزان غيرك تشقى أنت به وينعم به سواك
وان كنت قد أنفقتها في معصية ربك ومخالفة مولاك واتباع هواك واطلقت فيها شهوتك وأرسلت فيها لذتك فيا ويلك ثم يا ويلك من أسير شد خناقه وأحكم وثاقه وثبتت على عنقه أرباقه وطولب بما جناه وأخذ بما كسبت يداه وقيل له لا تلم فيما أنضج من جسمك وطبخ فيداك اوكتا وفوك نفخ ولا تبك من سهم أنفذك وأصماك فطرفك أشار إليك وساعدك رماك
وإن أخذت ذلك بالغصب والظلم وسائر أنواع المحرمات والأمور المحظورات فقد علمت ما أعد الله للظالمين وما تواعدهم في كتابه المبين
وأعلم أن في هذا اليوم يصدق الله تعالى قوله ( فلنسألن الذين أرسل اليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ) ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون )
فيبدأ بالأنبياء عليهم السلام فيقول ماذا أجبتم قيل في تفسيرها كانوا قد علموا ولكن ذهبت عقولهم وعزبت أفهامهم ونسوا من شدة الهول وعظم الخطب وصعوبة الأمر فقالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب
ثم يقربهم الله عز و جل فيدعى نوح عليه السلام
وذكر البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقول لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه بلغ ويكون الرسول عليهم شهيدا فذلك قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) والوسط العدل

وروى ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل فيقول الله جل ثناؤه هل بلغت عهدي فيقول نعم يا رب قد بلغته جبريل فيدعى جبريل فيقال هل بلغت إسرافيل عهدي فيقول نعم يا رب فيخلي عن إسرافيل ويقول لجبريل ما صنعت بعهدي فيقول بلغته الرسل فيدعى الرسل فيقول هل بلغكم جبريل عهدي فيقولون نعم فيخلى عن جبريل ويقال للرسل هل بلغتم عهدي فيقولون نعم قد بلغناه الأمم فتدعى الأمم فيقال لهم هل بلغكم الرسل عهدي فمصدق ومكذب فتقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول تبارك وتعالى من فيقولون أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيقال لهم أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم فيقولون نعم فتقول الأمم يا رب كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول الله تعالى كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا فقصصت علينا فيه أن قد بلغوا قال فذلك قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) والوسط العدل
ثم يدعى غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ثم ينادي كل انسان باسمه واحدا واحدا ويسألون واحدا واحدا وتعرض أعمالهم على رب العزة جل جلاله قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها
وفي بعض الأخبار يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار ولا تعرض قبائحهم على الله تعالى ولا تكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق فما ظنك بهذا المقام وبهذا السؤال وبهذا النكال والوبال وما ظنك بنفسك وق جييء بجهنم على الوصف الذي تقدم وقد دنت من الخلائق وشهقت وزفرت وثارت وفارت وانتهض خزانها والموكلون بها والمعدون لتعذيب أهلها متسارعين إلى أخذ ما أمروا بأخذه ساحبين له على بطنه وحر وجهه سامعين مطيعين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
فتمثل حالك وكيف أنت وقد امتلأت القلوب خوفا وجزعا ورعبا وفزعا وارتعدت الفرائص وبلغت القلوب الحناجر واصطفقت الأحشاء وتقطعت

الأمعاء وطلبوا الفرار فلا فرار وطاروا لو يصادفون مطارا وجثت الأمم على الركب وأيقن المذنبون بالهلاك والعطب وسوء المنقلب
وينادي الأنبياء والصديقون والأولياء نفسي نفسي كل نفس قد أفردت لشأنها وتركت لما بها وظن كل إنسان أنه هو المأخوذ وأنه هو المقصود وذهلت العقول وطاشت الألباب وتحيرت الأذهان وفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واشتغل بشأنه الذي يغنيه وسئل عن جميع أمره سره وجهره دقيقه وجليله كثيره وقليله وسئل عن أعضائه عضوا عضوا وجارحة جارحة وعن شكره عليها وعن أداء حق الله فيها
وظهرت القبائح وكثرت الفضائح وبدت المخازي واشتهرت المساوي وتركك الأهل والأقربون ولم ينفعك مال ولا بنون وأقبلت تجادل عن نفسك وتخاصم عنها وتطلب المعاذير لها وقد أسلمت وأفردت واشتغل كل إنسان عنك بنفسه وترك ما حل بك لما حل به
وأنشدوا
( خليلي ما أقضي وما أنا قائل ... إذا جئت عن نفسي بنفسي اجادل )
( وقد وضع الرحمن في الخلق عدله ... وسيق جميع الناس واليوم باسل )
( وجيىء بجرم النار خاضعة له ... وثلت عروش عندها ومجادل )
( فيا ليت شعري ذلك اليوم هل أنا ... أأغفر أم أجزى بما أنا فاعل )
( فإن أك مجزيا فعدل وحجة ... وان يك غفران ففضل ونائل )
وأعلم أنه بقدر ما تيسسر على أخيك المسلم في الدنيا ييسر عليك في ذلك اليوم وبحسب ما تلتمس له العذر في الدنيا يلتمس لك العذر في ذلك اليوم

وهبك يا ابن آدم أنه قد غفر لك وستر عليك ألم تقم هذا المقام وتشاهد هذا المشهد وقرع سمعك هذا النداء وخلع قلبك هذا الروع أقام خوفك هذا بأمنك في الدنيا أقام حزنك هذا بفرحك في الدنيا أقام ذلك هذا بعزك في الدنيا أين يقع هذا منه أين يبلغ هذا منه أيقوم تعظيم الخلق لك في الدنيا باحتقار الله لك في ذلك اليوم أتقوم نعمتك في الدنيا ببؤسك في ذلك اليوم فكيف إن نوقشت الحساب ووجب عليك العذاب وضرب بينك وبين ربك عز و جل بحجاب وسد بينك وبين رحمته بباب ليس كالأبواب
هناك لا دعاء يسمع ولا شفاعة تنفع ولا عذاب عن البائس المرتهن يرفع إلا أن تكون ممن سبقت له العناية بالإيمان عند الموت وتداركته الرحمة به قبل الفوت فإن الشفاعة ستخلصك من ذلك الاسار وتستخرجك من سوء ذلك القرار يكون منك قبل ذلك ما كان ويدور عليك قبل ذلك ما دار

فصل ذكر أول ما يحكم فيه يوم القيامة وأول من يدعى للخصومة
ذكر مسلم بن الحجاج من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة يريد قصته ومبارزته هو وصاحباه مع الثلاثة من كفار قريش وذلك أن علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهم بارزوا يوم بدر من كفار قريش ثلاثة شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فبارز علي الوليد فقتله وبارز حمزة شيبة فقتله واختلف بين عبيدة وبين عتبة ضربتان أثبت كل واحد منهما صاحبه فكر حمزة وعلي على عتبة فأتما عليه واحتملا عبيدة فمات من ضربته في طريق المدينة في رجوع النبي صلى الله عليه و سلم من غزوته تلك ونزلت فيهم هذه الآية ( هذان خصمان اختصموا ) والخبر بها مشهور صحيح
فصل الخصومة بين المسلمين ورد المظالم والانتصاف منها بالحسنات والسيئات
روى من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يحشر العباد أو قال الناس وأومأ بيده إلى الشام حفاة عراة غرلا بهما قلنا ما بهما قال ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد ويسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة قلنا كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلا قال بالحسنات والسيئات ذكره الحارث بن أبي أسامة
وقوله غرلا يريد به غير مختونين
وأما مطالبة الكافر المؤمن فإنما تكون لمن ظلم من أهل الذمة والعهد أو تكون فيما لم يأذن الله به من غيرهم والله أعلم
قد تقدم لك ذكر هول يوم الموقف وخطره وغرره وإنك لا تدري إلى ما تصدر عنه ولا إلى أي مكان تسير منه فتفكر فيه وأطل الفكرة فقد وجدت مكان التفكر ذا سعة ومجال الفزع ممتدا وميدان الخوف عريضا ثم تفكر فيك بينما أنت واقف في تلك الحال التي حدثت عنها وتقدم لك ذكرها إذ وثب عليك خصماؤك وهجم عليك طالبوك وأحاطوا بك ومدوا أيديهم إليك فهذا يأخذ بيدك وهذا بشعرك وهذا بما أمكنه مما أذن الله تعالى له أن يأخذه منك فواحد يقول يا رب هذا ضربني وثان يقول يا رب هذا شتمني وثالث يقول يا رب هذا اغتابني هذا احتقرني هذا غصبني حقي وظلمني هذا

قتلني هذا عاملني فغشني ولم ينصحني هذا رآني مظلوما وقدر على نصرتي فلم ينصرني هذا علم أني جائع وكان قديرا على أن يطعمني فلم يطعمني
وكيف ما كانت معاملتك مع الناس وكيف ما كانت معاشرتك لهم فبينا أنت كذلك لا تدري ما تقول ولا تدري ما تعمل ولا تدري إلى أين تفر ولا كيف تتخلص وقد أبهتك الأمر وأدهشك الحال إذ سمعت نداء المنادي اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فلا تسأل عن انخلاع قلبك واضطراب صدرك وقلة أنصارك وعدم الدافعين عنك فما شئت من ضلوع تنخرق وأكباد تحترق وأحشاء تصطفق وهموم تنبعث عليك وتندفق وقد علمت أن الأذى لا يرفع عن نفسك هناك بالدينار ولا بالدرهم وإنما هي حسناتك التي تعبت فيها في الدنيا إن كانت قد قبلت منك تعطى منك لخصمك وتدفع لمطالبيك وإن لم يكن لك حسنات أخذ من سيئاتهم فحملت عليك وألقيت على كاهلك
ولعلك جرأت مسلما على معصية أو حملته على ارتكاب خطيئة أو كنت له سببا في ترك سنة واعتقاد بدعة فيجتمع ذلك كله لك ويناط بك ويحمل على ظهرك قال تعالى ( وليحملن أثقالهم وأثقالامع أثقالهم )
فانظر وتدبر كيف يكون حالك وقد أضيفت إلى سيئاتك سيئات أخر وإلى أوزارك أوزار أخر فاجتمعت عليك السيئات وأحاطت بك الخطيئات وانكسر ظهرك من ثقلها ولم تستطع النهوض بسببها واستغثت فلا مغيث واستعنت فلا معين وإلى الله نرغب في المعونة فالتوفيق بيده والفضل فضله وإليه يرجع الأمر كله لا رب غيره ولا معبود سواه

فصل في الموازين والكتب
( أصلح بهذي الدار ميزانكا ... وليكن العدل به شانكا )
( فإن فيه ربحك المرتجى ... في تلكمو الدار وخسرانكا )
( وليس خسرانك مالا ولا ... اهلا فيضني السقم جثمانكا )
( لكنها نفسك فانظر لها ... واجمع على ذلك أعوانكا )
( من عزمات صادقات ومن ... صبر يشد اليوم إيمانكا )
( وإنما أصبحت في مهلة ... فاجمع إلى فرضك إحسانكا )
( واحم على قلبك نار الأسى ... واغسل بماء الدمع أجفانكا )
( فربما أضحك طول البكا ... وبردت نارك نيرانكا )
ذكر الترمذي من حديث أنس بن مالك قال سألت النبي صلى الله عليه و سلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل إن شاء الله قلت فأين أطلبك قال أول ما تطلبني على الصراط قلت فإن لم ألقك على الصراط قال فاطلبني عند الميزان قلت فإن لم ألقك عند الميزان قال فاطلبني عن الحوض فإني لا أخطىء هذه الثلاثة مواطن قال حدث حسن غريب
وذكر الترمذي أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر

من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء
وذكر أبو بكر البزار من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ملك موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
وروى عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاريض وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ذكره أبو بكر البزار أيضا وقال الترمذي جدال ومعاذير رواه من حديث الحسن عن أبي هريرة
وذكر أبو جعفر العقيلي من حديث نعيم بن سالم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث الله ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها ( أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا )
وذكر أبو داود من حديث عائشة أنها قالت ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يبكيك قلت ذكرت النار فبكيت

فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) قال يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستون ذراعا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول أبشروا لكل رجل مسلم مثل هذا قال وأما الكافر فيسود وجهه ويمد في جسده ستون ذراعا على صورة آدم فيلبس تاجا من نار فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا قال فيأتيهم فيقولون اللهم أخره فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا
وقد تقدم تقرير المؤمن بذنوبه وتعريفه بها
وأنشدوا
( أمدد يمينك من دنياك آخذة ... كتاب فوزك إذ تحتل أخراك )
( فلست تدرك ما هناك من أمل ... إلا بواسطة من دار دنياك )
( فإن تكاسلت أو قصرت في طلب ... كنت المخيب والمطلوب إذ ذاك )
( يا نائم القلب عن أمر يراد به ... نبهه ويحك إن الأمر حاذاك )
( واشدد حزيمك واكشف ساعديك له ... فربما حمدت بالجد عقباك )
( كم رابح بكتاب كان أملاه ... هنا بما شاء برا أوآفاك )
( فظل مرتقبا أدراج مكرمة ... في عدن أو نازلا في النار ادراكا )
( وطلعة الموت تبدي عن حقيقة ما ... تملي فإياك ان تنساه إياك )

فصل ذكر ما يتكلم من الإنسان وما جاء في شهادة جوارح ابن آدم عليه يوم
القيامة
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من حديث معاوية بن حيدة القشيري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام فأول ما يتكلم من الإنسان فخذه وكفه
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع فيقول بلى فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ها هنا إذا قال ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليه فيختم على فيه

ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه
وذكر مسلم من حديث أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فضحك فقال هل تدرون مم أضحك فقلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال ثم يخلى بينه وبين الكلام قال فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أني لأعلم آخر رجل من أمتي يجوز الصراط رجل يتلوى على الصراط كالغلام حين يضربه أبوه تزل يده مرة فتصيبها النار وتزل رجله مرة فتصيبها النار قال فتقول له الملائكة أرأيت إن بعثك الله من مقامك هذا فمشيت سويا أتخبرنا بكل عمل عملته فيقول أي وعزته لا أكتمكم من عملي شيئا قال فيقولون له قم فامش سويا فيقوم فيمشي حتى يجاوز الصراط فيقولون له أخبرنا بأعمالك التي عملت فيقول في نفسه إن أخبرتهم بما عملت ردوني إلى مكاني فيقول لا وعزته ما أذنبت ذنبا قط فيقولون له إن لنا عليك شهودا قال فيلتفت يمينا وشمالا هل يرى من الآدميين أحدا ممن كان يشهد عليه في الدنيا فلا يرى فيقول هاتوا بينتكم فيختم الله على فيه وتنطق يداه ورجلاه وفخذاه بعمله فيقول أي وعزتك لقد عملتها وإن عندي للعظائم المضمرات قال فيقول الله تعالى له اذهب فقد غفرتها لك

فصل ذكر الصراط ودرجات الناس في المرور عليه
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من حديث عائشة قالت قلت يا رسول الله أتذكرون أهاليكم يوم القيامة قال أما عند ثلاث فلا عند الكتاب وعند الميزان وعند الصراط
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيقول إبراهيم عليه السلام لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليما فيأتون موسى عليه السلام فيقول لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى لست بصاحب ذلك قال فيأتون محمدا صلى الله عليه و سلم فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق قال قلت بأبي أنت وأمي أي شيء كالبرق قال ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفا

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم وذكر الصراط ومرور الناس عليه قال فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح و كالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وذكر حديث الشفاعة قال ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ومنهم المجازي حتى ينجى وذكر الحديث
قد سمع رحمك الله بهذا الطريق الحرج والمسلك الشاق والقنطرة المضطربة التي لا تثبت عليها الأقدام ولا تجوزها الأوهام إلا قدم ثبتت على التقوى ووهم جاز في الملكوت الأعلى
ولعلك تظن أن هذا الطريق من طرق الدنيا الصعبة وسبلها الوعرة بل هو أحد من السيف وأدق من الشعرة فما ظنك بك وقد حملت عليه وكلفت المرور به ومهواه جهنم تحتك وقد ملأ زفيرها أذنك ومنظرها الهائل قلبك وعينك وأردت المرور فلم تقدر والنهوض فلم تستطع واضطرب بك اضطرابا والتهب ذلك السعير تحتك التهابا ولم تجد إلى النجاة سبيلا ولا إلى الخلاص بابا ولا ينهض بك إلا سعيك الذي سعيت ولا جرى بك إلا عملك الذي عملت ومركوبك الذي في الدنيا ركبت فلتتخير الآن أي المراكب تركبها وأي الأبواب تدخلها وأي الطرق تأخذ فيها وتسكلها والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وأنشدوا
( اجنب جيادا من التقوى مضمرة ... للسبق يوم يفوز الناس بالسبق )
( تمر مر الرياح الهوج عاصفة ... أو لمحة البرق إذ يجتاز بالأفق )
( واركض إلى الغاية القصوى وخل لها ... عنان صدق رمي في فتية صدق )

( فإن خلفك أعمالا مثبطة ... ولست تنهض إلا ويك بالعنق )
( كم حل عزمك من دنيا معرجة ... بقصدك اليوم عن مسلوكة الطرق )
( وفاز من فاز لا حزن ولا فرق ... وخلفوك حليف الحزن والفرق )
( يا غافلا والمنايا منه في ذكر ... وضاحكا والردى منه على حنق )
( قطعت عمرك في سهو وفي سنة ... ومن أمامك ليل دائم الأرق )
( ورب رأي تراه اليوم في سفه ... عقلا تراه غدا في غاية الخرق )

فصل ما جاء في أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون
ذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال يقول له أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذلك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد قال فاشتد ذلك عليهم قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل قال ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة فحمدنا الله عز و جل وكبرنا ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة فحمدنا الله وكبرنا ثم قال والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة وإن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الحمار
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث من الزيادة اللهم قد بلغت
وفي بعض طرقه من غير كتاب مسلم وذكر بعث النار فقال رجل ومن الناجي بعد ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير
فصل ما جاء في أهل الفترة
ذكر أبو بكر البزار في مسنده عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا ويقول الذي مات في الفترة رب ما أتاني لك من رسول قال أبو بكر وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعوه فيرسل إليهم تبارك وتعالى ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما
قد جاء هذا الحديث وهو صحيح فيما أعلم والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل ولكن الله يختص من شاء بما شاء ويكلف من شاء بما شاء وحيث شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
فصل في سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه
( حدث عن الجود وعن فيضه ... فالأمر مبني على الجود )
( واذكر لنا بعض أعاجيبه ... فلست تحصيه بتعديد )
( هيهات ماجود مليك الورى ... وخالق الخلق بمحدود )
( حدث عن البحر وما البحر ... في بعض أياديه بموجود )
ومن الذي أفاض هذه البركات وأتى بهذه الخيرات ومن بهذه النعم التي ملأت ما بين الأرضين والسماوات ومن ذا الذي يستخرج من ظلمات الكفر ويستنقذ من غمرات الجهل ويغفر الذنوب ويستر العيوب وينفس عن المكروب ويجيب المضطر إذا دعاه ولا يبالي أطاعه عبده أم عصاه من هو إلا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين رب العالمين إله الأولين والآخرين لا إله إلا الله هو الملك الحق المبين
ذكر مسلم عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزأ واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه
ولمسلم في لفظ آخر كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ذكره من حديث سلمان الفارسي
وذكر مسلم أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لما خلق الله

الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي
وذكر البزار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما خلق الله تعالى من شيء إلا وقد خلق ما يغلبه وخلق رحمته تغلب غضبه
ومن مسند البزار أيضا عن عمر بن الخطاب قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في بعض مغزيه فبينما هم يسيرون إذ أخذوا فرخ طير فأقبل أحد أبويه حتى سقط في أيدي الذين أخذوا الفرخ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا تعجبون لهذا الطير أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم والله لله أرحم بخلقه من هذا الطائر بفرخه
لا نعلم له طريقا غير هذا الطريق
وذكر مسلم بن الحجاج عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله عز و جل فيلتفت أحدهم فيقول أي رب إذ أخرجتني منها فلا تعدني فيها قال فينجيه الله تعالى منها
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلين ممن يدخل النار يشتد صياحهما فيها فيقول الرب عز و جل أخرجوهما فلما خرجا قال لهما لأي شيء اشتد صياحكما فيقولان فعلنا ذلك لترحمنا فيقول إن رحمتي إياكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما في النار فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه في النار فيجعلها الله عليه بردا وسلاما ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه فيقول له الرب تبارك وتعالى ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك نفسه فيقول رب إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها فيقول الرب سبحانه لك رجاؤك فيدخلان الجنة معا برحمة الله
وهذا الحديث ذكره الترمذي وغيره

وذكر مسلم بن الحجاج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم
ويروى عن إبراهيم بن أدهم قال طفت ليلة بالبيت الحرام وكانت ليلة مطيرة شديدة الظلمة وقد خلا الطواف وطابت نفسي فوقفت عند الملتزم أدعو فقلت اللهم اعصمني حتى لا أعصيك فهتف بي هاتف يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسأله العصمة فإذا عصمهم فعلى من يتفضل ولمن يغفر

فصل كثرة أمة محمد صلى الله عليه و سلم
ذكر مسلم بن الحجاج عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا
وذكر أبو بكر البزار من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل الليل والسيل فيحطم الناس حطمة فتقول الملائكة جاء مع محمد أكثر مما جاء مع سائر الأنبياء
وذكر مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن مسعود قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسند ظهره إلى قبة أدم فقال ألا لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة اللهم هل بلغت اللهم اشهد أتحبون أن تكونوا ربع أهل الجنة قلنا نعم يا رسول الله قال أتحبون أن تكونوا ثلث أهل الجنة قلنا نعم يا رسول الله قال فإني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر
وذكر الترمذي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم

فصل ذكر كم يدخل الجنة بغير حساب
ذكر مسلم بن الحجاج من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما الذي تخوضون فيه فأخبروه فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال ادع الله ان يجعلني منهم فقال أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة
وذكر أبو بكر البزار عن الحسن والعلاء بن زياد عن عمران ابن حصين عن عبد الله بن مسعود قال تحدثنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة حتى أكثرنا الحديث ثم تراجعنا إلى البيوت فلما أصبحنا غدونا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم

عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها فجعل النبي يمر معه الثلاثة من قومه والنبي ومعه العصابة من قومه والنبي ومعه النفر من قومه والنبي ليس معه من قومه احد حتى أتى علي موسى بن عمران في كوكبة من بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت يا رب من هؤلاء فقال هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل قلت رب وأين أمتي قيل انظر عن يمينك فاذا الضراب ضراب مكة قد سد بوجوه الرجال فقلت يا رب من هؤلاء قيل لي أمتك فقيل لي هل رضيت فقلت رب رضيت رب رضيت رب رضيت ثم قيل لي انظر عن يسارك فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال فقلت رب من هؤلاء قيل أمتك قال فقيل لي هل رضيت فقلت يا رب رضيت ثم قيل لي ان مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فأنشأ عكاشة بن محصن رجل من بني أسد بن خزيمة فقال يا رسول الله ادع الله ان يجعلني منهم فقال اللهم اجعله منهم ثم أتى رجل آخر فقال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فدى لكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا وإن عجزتم أو قصرتم فكونوا من أهل الضراب فإن عجزتم أو قصرتم فكونوا من أهل الأفق فإني رأيت ثم أناسا يتهوشون كثيرا ثم قال نبي الله صلى الله عليه و سلم إني لأرجو أن يكون من تبعني من أمتي ربع أهل الجنة قال فكبرنا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا الثلث قال فكبرنا ثم قال إني لأرجو ان تكونوا الشطر فكبرنا فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ( قلة من الأولين وثلة من الآخرين ) فتراجع المسلمون من هؤلاء لا نراهم إلا الذين ولدوا في الإسلام ولم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه قال فنما حديثهم إلىالنبي صلى الله عليه و سلم قال ليس كذا ولكن هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون
وذكر مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة

البدر وذكر الحديث
كذا في هذا الحديث يدخل من أمتي زمرة ولم يقل الجنة وقال الجنة في طريق آخر
وقال في حديث سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم متماسكون آخذ بعضهم ببعض لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر
وذكر أبو داود الطيالسي من حديث رفاعة بن عرابة قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بقديد جعل رجال منا يستأذنون إلى أهليهم فأذن لهم وحمد الله ثم قال ما بال رجال شق الشجرة التي تلي رسول الله صلى الله عليه و سلم أبغض إليهم من الشق الآخر فلم ير عند ذلك من القوم إلا باكيا فقال رجل يا رسول الله إن الذي يستأذنك بعد هذا لسفيه ويروى لشقي قال فحمد الله وقال خيرا وقال أشهد عند الله أن لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه ثم يسدد إلا سلك في الجنة ثم قال وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن الجنة
وذكر الترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي
وذكر أبو بكر الشافعي من حديث حذيفة بن اليمان قال غاب عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فلما رفع رأسه قال إن ربي عز و جل

استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم قلت ما شئت يا رب هم خلقك وعبادك فاستشارني الثانية فقل له كذلك ثم استشارني الثالثة فقلت له كذلك فقال إني لم أخزك في أمتك وبشرني أن أول من يدخل الجنة زمرة من أمتي سبعون ألفا مع كل ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب ثم أرسل إلي ربي ادع تجب وسل تعطه فقلت لرسوله أو معطي ربي عز و جل سؤلي قال ما أرسل إليك إلا ليعطيك ولقد أعطاني ربي من غير فخر أنه غفر لي ما تقدم وما تأخر وشرح صدري وأعطاني ان لا تجوع أمتي ولا تغلب وأنه أعطاني الكوثر نهرا في الجنة يسيل في حوضي وأنه أعطاني العزة والنصر والرعب وأنه أعطاني بأني أول الأنبياء دخولا الجنة وطيب لي ولأمتي الغنيمة وأحل لنا كثيرا مما شدد على من كان قبلنا ولم يجعل علينا في الدين من حرج فلم أجد شكرا إلا هذه السجدة
قوله عليه السلام أعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب أي لا تجوع كلها ولا تغلب كلها إنما هو إن جاعت في أرض شبعت في أخرى وإن غلبت في موضع غلبت في موضع آخر
وذكر أبو بكر البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا مع كل واحد من السبعين ألفا سبعون ألفا
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ان ربي عز و جل أعطاني سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر بن الخطاب فهلا استزدته فقال استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا قال فهلا استزدته فقال أعطاني هكذا وبسط باعه فقال هذا من الله تعالى لا يدري ما عدده

الباب التاسع عشر
الشفاعة الثانية في الخروج من النار وذكر خروج من يدخلها من الموحدين
أعلم رحمك الله أنه قد وجب في الحكم الأول والقضية السابقة دخول النار على طوائف من المؤمنين ممن أوبقتهم سيئاتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم فلم تمحها عنهم عقوبات الدنيا ولا عذاب القبر ولا أهوال يوم الحشر وكل إنسان منهم تنال منه النار بمقدار عمله وتأخذ منه إلى الحد الذي أمرت به
ثم إن الله تعالى بفضله ورحمته يقبل فيهم شفاعة الشافعين ورغبة الراغبين وسؤال السائلين من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين والعلماء العاملين وكل من له عند الله جاه ومنزلة قد بلغها بعمله ونالها بصالح سعيه فإن له شفاعة في أهله وبنيه وأقربائه وأوليائه بل ربما في الرجل كان يعرفه في الدنيا ولم يكن بينهما صحبة ولا كثير معرفة
واعلم أن الجاه الذي تكون به الشفاعة ويقبل به السؤال وتقضى به الحوائج وتحصل به المنزلة عند الله تعالى إنما يكون اكتسابه في الدنيا وتحصيله هنا بالعمل الصالح على الحد الذي حد له فيه والطريق الذي أمر أن يسلكه إليه
ومن ذلك العمل التواضع للمسلمين ولين الجناح لهم واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم وإسقاط المنزلة عندهم وطلبها عند خالقهم جل جلاله
وقد تقدم حديث مسلم بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا
وذكر أبو عيسى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله

صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
ويروى عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم الرجل أنا لشرار أمتي قالوا فكيف أنت لخيارها قال أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم وأما شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي
ذكره أبو الحسن الدارقطني
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يحرسه أصحابه قال فقمت ذات ليلة فلم أره في منامه فأخذني ما حدث وما قدم فقمت أنظر فإذا معاذ بن جبل قد لقي مثل الذي لقيت فسمعت صوتا مثل هزيز الرحاوين تجررهما فوقفا على مكانيهما فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبل البيوت فقال هل تدريان أين كنت أو فيم كنت قالا أين كنت قال أتاني آت من ربي يخيرني بين أن يدخل شطر أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة فقالا يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا في شفاعتك قال أنتم في شفاعتي فدعا لهما فأقبل وأقبلا معه فكلما لقيه رجل سأله حتى استقبله معظم الناس فأخبرهم فقالوا يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا في شفاعتك قال أنتم في شفاعتي ومن لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في شفاعتي
وذكر الترمذي بإسناده عن الطفيل بن أبي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا كان يوم لا القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر
وذكر مسلم بن الحجاج من حديث يزيد الفقير قال كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس فمررنا بالمدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث الناس جالسا إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون والله يقول ( إنك من تدخل النار

فقد أخزيته ) و ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) فما هذا الذي تحدثون قال أتقرأ القرآن قلت نعم قال فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه و سلم الذي بعثه الله عز و جل قال فإنه مقام محمد صلى الله عليه و سلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذلك إلا أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها قال فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيخرجون كأنهم القراطيس فرجعنا فقلنا ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال
أراد بالرأي الذي شغفه من رأي الخوارج تكذيبهم بالشفاعة وقولهم إنه من دخل النار من المذنبين فلن يخرج منها
وذكر مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارت وجوههم حتى يدخلوا الجنة
وذكر البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه و سلم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته إياهم فيقال لهم الجهنميون
وذكر أبو داود الطيالسي من حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليخرجن أقوام من النار منتنون قد امتحشوا فيدخلون الجنة برحمة الله وشفاعة الشافعين فيسمون الجهنميين

وذكر أبو بكر البزار في مسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين يريد الله إخراجهم فتميتهم النار ثم يخرجون منها فيلقون على نهر الحياة فيرش عليهم من مائها فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ويدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين فيدعون الله تعالى فيذهب ذلك الاسم عنهم
وذكر مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يدخل الله أهل الجنة الجنة يدخل من يشاء برحمته ويدخل أهل النار النار ثم يقول انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه فيخرجون منها حمما قد امتحشوا فيلقون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السيل ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية
وذكر الترمذي عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة قال فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة
وفي مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن عمرو بن ميمون أن ابن مسعود حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يكون قوم في النار ما شاء الله ثم يرحمهم الله فيخرجهم فيكونون في أدنى الجنة فيغتسلون في نهر الحياة يسميهم أهل الجنة الجهنميين لو أضاف أحدهم أهل الأرض لأطعمهم وسقاهم وأحسبه قال وزودهم لا ينقصه ذلك شيئا
وذكر أبو بكر الشافعي بإسناده من حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن من المؤمنين من يدخل بشفاعته الجنة أكثر من ربيعة ومضر

وذكر البزار عن ثابت أنه سمع أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن من أمتي لمن يشفع في الفئام من الناس ومنهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للرجل وأهل بيته حتى يدخلوا الجنة
وذكر الطحاوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الجنة صفوفا وأهل النار صفوفا فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول له يا فلان ألا تذكر يوم اصطنعت معروفا إليك في الدنيا فيقول اللهم إن هذا اصطنع إلي معروفا في الدنيا قال فيقال له خذ بيده فأدخله الجنة برحمة الله عز و جل قال أنس أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله
وذكر الطحاوي أيضا من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر حديثا طويلا من حديث يوم القيامة ثم ذكر فيه شفاعة الشهداء وقال ثم يقول الله عز و جل أنا أرحم الراحمين انظروا في النار هل فيها من أحد عمل خيرا قط فيجدون في النار رجلا فيقال له هل عملت خيرا قط فيقول لا غير أني قد أمرت ولدي إذا أنامت فاحرقوني بالنار ثم اطحنوني حتى إذا كنت مثل الكحل فاذهبوا بي إلى البحر فاذروني في الريح فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا فيعاقبني إذا عاقبت نفسي في الدنيا عليه قال الله تعالى لم فعلت ذلك قال من مخافتك فيقال انظر ملكا أعظم ملك فإن لك مثله وعشرة أمثاله
وذكر أبو بكر النجار من حديث أبي بكرة الثقفي عن النبي صلى الله عليه و سلم

قال يحمل الناس يوم القيامة على الصراط فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار ثم يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء والصالحين فيشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان
وذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيزا ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا رب فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى أحد ممن كان يسجد

لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى أحد ممن كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار فيقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا
وكان أبو سعيد الخدري يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤا ان شئتم ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما )

فيقول الله عز و جل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها كيف تكون إلى الشجر أو الحجر فما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط احدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم أبدا
قال مسلم قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف

وذكر مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها وذكر الحديث
قال ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ومنهم المجازى حتى ينجى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار وهو آخر أهل الجنة فيقول أي رب اصرف وجهي عن النار فانه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره فيقول لا أسألك غيره ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت

عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما إغدرك فيقول أي رب ويدعو الله حتى يقول له فهل عسيت أن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب ادخلني الجنة فيقول الله تبارك وتعالى أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه فإذا ضحك الله تعالى منه قال ادخل الجنة فإذا دخلها قال الله له تمنه فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله ليذكره من كذا وكذا حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى لك ذلك ومثله معه
قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تعالى قال لذلك الرجل ومثله معه قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله ذلك لك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل النار دخولا الجنة
وذكر عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال آخر من يدخل

الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها وقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الله عز و جل يا ابن آدم لعلي إن اعطيتكها سألتني غيرها فيقول لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول أي رب أدنني من هذه فلأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيقول يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة وهي أحسن من الأوليين فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيقول يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها قال بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها وربه عز و جل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول يا ابن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها قال يا رب أتستهزيء بي وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود وقال ألا تسألوني مم أضحك قالوا مم تضحك قال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا مم تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزيء بي وأنت رب العالمين فيقول إني لا استهزئ بك ولكني على كل شيء قدير

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث قال فيه ويذكره الله تعالى سل كذا وكذا فإذا انقطعت به الأماني قال الله هو لك وعشرة أمثاله قال ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فتقولان الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك قال فيقول ما أعطي أحد مثل ما أعطيت
وذكر مسلم من حديث معبد بن هلال العنزي قال انطلقنا إلى أنس ابن مالك وتشفعنا بثابت فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه وأجلس ثابتا معه على سريره فقال له يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة فقال حدثنا محمد صلى الله عليه و سلم قال إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه و سلم فأوتى فأقول أنا لها ثم أنطلق فاستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها الله ثم أخر له ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول انطلق من كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فانطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال

انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل
هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة قال فدخلنا عليه فسلمنا عليه فقلنا يا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع بمثل حديث حدثناه في الشفاعة قال هيه فحدثناه الحديث فقال هيه قلنا ما زادنا قال قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكم فتتكلوا قلنا له حدثنا فضحك وقال خلق الإنسان من عجل وما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه قال ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال فليس ذلك لك أو قال ليس ذلك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله قال فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك أراه قال قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع

فصل ذكر من يخرج من النار برحمة الله من غير شفاعة أحد
قد تقدم حديث مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم وذكر خروج من يخرج من النار بشفاعة الملائكة والنبيين وغيرهم قال فيقول الله عز و جل قد شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط
وذكر الحديث
وقوله عز و جل في الحديث قبل هذا وعزتي وكبريائي وعظمتي وكبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله
وروى سنان بن حرب العبسي أنه سمع ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اشتكت النار إلى ربها ضيقها بما فيها من أهلها وحرها وزمهريرها فغمزها فقال حس على عبادي فأخرج منها عدد الجراد والذباب ذكره أبو الحسن الدارقطني
ذكر أبو بكر البزار عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال يأتي على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد يعني من الموحدين هكذا رواه موقوفا من قول عبد الله بن عمرو وليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم
وروى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية
وروى في مسند أحمد بن خالد
فصل ما أول طعام أهل الجنة
ذكر البخاري من حديث أنس بن مالك أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه
قال أخبرني جبريل بهن آنفا قال ابن سلام ذاك عدو اليهود من الملائكة قال أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي فجاء اليهود ودخل عبد الله البيت فقال صلى الله عليه و سلم أي رجل عبد الله فيكم قالوا خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام قالوا أعاذه الله من ذلك فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قالوا شرنا وابن شرنا ونقصوه قال هذا كنت أخافه يا رسول الله
الباب العشرون
في صفة الجنة وما أعد الله لأهلها
قال الله عز و جل ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ) ( إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين )
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين )
( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب )
( إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس واستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم )

( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين )
( ... إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا )
( إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون )
( وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة )
وذكر أبو بكر البزار من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال خلق الله تبارك وتعالى الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وقال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة طوبى لك منزل الملوك
وذكر البزار أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال خلق الله الجنة

لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك رواه هناد بن السري
وذكر الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق قال من الماء قلت والجنة ما بناؤها قال لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا ييأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم
وذكر مسلم عن أبي سعيد الخدري أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن تربة الجنة قال درمكة بيضاء مسك خالص
ومن حديثه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بن صياد ما تربة الجنة قال درمكة بيضاء يا أبا القاسم قال صدقت
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
وإذا ترابها المسك فيها جنابذ من لؤلؤ والجنابذ القباب
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال الله عز و جل أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مصداق ذلك في كتاب الله تعالى ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال لاق لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله عز و جل ( أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرؤوا إن شئتم ( فلا تعلم نفس ما أخفي هلم منقرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )

وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم ( وظل ممدود ) وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرؤوا ان شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )
وذكر مسلم من حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها قال أبو حازم فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطعها
وذكر البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة واقرؤوا إن شئتم ( وظل ممدود ) ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب ومن مسند البزار عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن في الجنة شجرة مستقلة على ساق واحدة عرض ساقها اثنتان وسبعون سنة
وذكر ابن المبارك عن سليم بن عامر قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقولون إنه لينفعنا الله بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال يا رسول الله لقد ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وما هي قال السدر فإن له شوكا مؤذيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ليس يقول الله عز و جل ( في سدر مخضود ) خضد

الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها لتنبت ثمرا تتفتق الثمر منها على اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لونا يشبه الآخر
وثمرا بالثاء المثلثة فيها كلها
وذكر مسلم بإسناده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله عز و جل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أفلا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا
وذكر مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري العابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين
وذكر مسلم عن محمد بن سيرين قال إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال أكثر في الجنة من النساء فقال أبو هريرة أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه و سلم إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب
وذكر الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة وضوء وجوههم على مثال ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل امريء منهم

زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها
وذكر مسلم بن الحجاج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء
وذكر مسلم أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوطون ولا يبولون ولا يتمخطون ولا يبصقون أمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك أخلاقهم على خلق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعا ويروى على خلق
وذكر أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أول زمره تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا

وذكر من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون لا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون قالوا فما بال الطعام قال جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس
وذكر النسائي من حديث زيد بن أرقم قال جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا أبا القاسم أتزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون فقال أي والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة قال الرجل فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى فقال النبي صلى الله عليه و سلم حاجة أحدهم رشح يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر
وذكر الترمذي من حديث أنس بن مالك قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما الكوثر قال ذلك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزر قال عمر إن هذه لناعمة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم آكلها أنعم منها
ومن مسند البزار عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيجيء مشويا بين يديك
وذكر أبو بكر الشافعي من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد ثلاث وثلاثين سنة جردا مردا مكحلين ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم
وذكره الترمذي وحديث أبي بكر أكمل
وذكر الترمذي أيضا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون

عليها أبدا وكذا أهل النار كذا قال ثلاثين والأول أحسن إسنادا
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه
وذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز و جل ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون )
وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا
وذكر مسلم حدثنا أبو عبد الصمد حدثنا أبو عمران بهذا الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليم المؤمن وذكر الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء وذكر الترمذي من حديث علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابي

فقال لمن هي يا رسول الله
قال لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام
وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيا ثم قرأ رسول اللهA ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )
وهذا يروى عن ابن عمر موقوفا
وذكر الترمذي أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لغدوة في سبيل الله أو روحه خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع قده في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت الدنيا ولملأت ما بينها ريحا ونصيفها يعني خمارها خير من الدنيا وما فيها
وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لو أن ما يقل ظفرا مما في الجنة بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب
وذكر الترمذي أيضا عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها

وذلك أن الله عز و جل يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه
ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود من قوله
وذكر مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعرف آخر أهل الجنة خروجا من النار رجل يخرج منها زحفا فيقال له انطلق فادخل الجنة قال فيذهب فيدخل الجنة فيجد الناس قد أخذوا المنازل فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه فيقول نعم فيقال له تمن فيتمنى فيقال له لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا فيقول أتسخر بي وأنت الملك قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك حتى بدت نواجذه
وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا فيقول الله له اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله له اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا قال فيقول أتسخر بي وأنت الملك قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة

وذكر مسلم أيضا عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة قال هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت ربي فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال ربي فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال ومصداقه في كتاب الله عز و جل ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
وذكر النسائي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع قالوا يا رسول الله أو يطيق ذلك قال يعطى قوة مائة
وذكر البزار في مسنده عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة فقال والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء
وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا
وذكر الترمذي من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله هل في الجنة من خيل قال إن الله أدخلك الجنة فلا

تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت إلا كان فقال آخر هل في الجنة من إبل فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك
وذكر الترمذي من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس
وذكر الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام
وذكر الترمذي أيضا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في أحداهن لوسعتهم
وذكر البزار من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك رواه هناد بن السري عن عثمان بن زفر عن زهير عن معاوية عن رجل وهو سعد الطائي عن أبي مجاهد عن أبي المدله عن أبي هريرة قال قلنا يا رسول الله أخبرنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة من ذهب ولبنة من فضة ملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ولا يفنى شبابه ولا تبلى ثيابه
وذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن ابن صباد سأل رسول اللهA عن تربة الجنة قال در مكة بيضاء ومسك خالص
ومن حديث أبي سعيد الخدري أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابن صياد ما تربة الجنة قال درمكة بيضاء ومسك خالص يا أبا القاسم قال صدقت

وذكر النسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة
وذكر مسلم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن
وذكر الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد
ويروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأنهار الجنة تخرج من تلال أو جبال مسك ذكره العقيلي
وذكر الترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له

وذكر البخاري عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون
وذكر الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي
قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبي صلى الله عليه و سلم إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهى
يريد أنه لا توالد في الجنة كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم

فصل ما جاء أن أهل الجنة لا ينامون
ذكر البزار في مسنده عن جابر بن عبد الله قال قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة قال لا النوم أخو الموت زاد أبو الحسن الدارقطني والجنة لا موت فيها ذكره من حديث جابر أيضا
فصل ما جاء في زيارة أهل الجنة ربهم عز و جل
ذكر الترمذي عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال أبو هريرة أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أفيها سوق قال نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دني على كثبان المسك والكافور وما يرون أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا
قال أبو هريرة قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا قال نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا لا قال كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم كذا وكذا إذ قلت كذا وكذا فيذكره

ببعض غدراته في الدنيا فيقول يا رب أفلم تغفر لي فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ويقول ربنا قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا بغير بيع ولا شراء وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قال فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه وذلك أنه ليس ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فتتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه فنقول إنا زرنا اليوم ربنا الجبار جل جلاله ويحق لها أن ننقلب بمثل ما انقلبنا

فصل في رؤية أهل الجنة ربهم
ذكر الترمذي من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا قالوا ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة قالوا بلى فيكشف الحجاب قال فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى
وذكر البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم فقال السلام عليكم أهل الجنة فذلك قوله ( سلام قولا من رب رحيم ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه لا يلتفتون إلى شيء من النعيم ويبقى نوره في ديارهم
فصل ما جاء أن في الجنة سوقا
ذكر مسلم من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم ويزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا
وأنشدوا
( لمن ظل بجنات الخلود ... يبرد حر أنفاس العميد )
( يرد من الصبا ما كان غضا ... ويطلع فوقه نجم السعود )
( ويجمع قاصيات للأماني ... شردن عليك أيام الشرود )
( وزد ما شئت من أمل بعيد ... فقد أسعفت بالأمل البعيد )
( لمن تلك القصور مشيدات ... وليس كما عهدت من المشيد )
( قصور ما قصور ما قصور ... تريك عجائب الملك الحميد )
( ذهبت لوصفها فعجزت عنه ... كعجز الماء يذهب للصعود )
( لمن تلك القباب مكللات ... يطيب العيش والعمر المديد )
( أمان من تصاريف الليالي ... وإسعاد جديد في جديد )
( ملئن بكل قاصرة لعوب ... تلألأ فوق مطلعها السعيد )
( كأن الحسن خص بها رواها ... فليس على رواها من مزيد )

( تماشى من شذاها في رياض ... وتخطر من سناها في برود )
( يحار الطرف من نظر إليها ... ويشخص في خدود أو قدود )
( عجبت لها ولي تدنو وأنأى ... وتدعوني وأعرض في صدود )
( وما هذا كمو إلا لأني ... نزلت بهامتي تحت الصعيد )
( وأعظم حسرة من ذاك جهلي ... بخالقها وجهلي بالوعيد )
( ولو أني استضأت بنور علم ... يوفقني على الرأي السديد )
( لآثرت الإله ولم ألاحظ ... سواه من طريف أو تليد )
( ولكني وردت حياض دنيا ... شرعت بهن في ماء صديد )
( على علم وردت بسوء رأي ... وجهلي بالمقاصد والعقود )
( فمن لي والمنى حلو جناها ... ومنهلها شهي للورود )
( بعلم مؤيد فطن لبيب ... وتوبة حازم جلد شديد )
( تريه البدر في ظلم الدياجي ... وتنهضه بأثقال العهود )
( لعل عوارف الرحمن تصفو ... بذاك على سؤول مستزيد )
( فتورده موارد صافيات ... كطعم المسك بالعذب البرود )
( وإلا صب في مهوى عميق ... ودحرج من ذرى طود بعيد )

الباب الحادي والعشرون
في صفة النار وصفة أهلها وما أعد الله لهم فيها
قال الله تعالى ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ) ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد من فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين )
( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون )
( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق )
( تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون )
( أولئك الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون )

( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير
( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم )
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم )
( خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون )
( إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما )
( إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا )
( هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع )

وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره فقال اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد قال ولما خلق الله النار قال لجبريل اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات فقال اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فلما رجع قال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها
وذكر مسلم من حديث سفيان عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها
ومن حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فأنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها
وقال سفيان بن عيينة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ولولا أنها ضربت بالماء مرتين لما كان لأحد فيها منفعة

وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة
ومن حديث مسلم عن أبي هريرة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سمع وجبة فقال أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها
ويروى أن لهب النار يرفع أهل النار حتى يطيروا كما يطير الشرر فإذا رفعهم أشرفوا على الجنة وبينهم حجاب ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ) فتردهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد إلى قعر جهنم
قال بعض المفسرين هو معنى قوله تعالى ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )
ولعلك تقول وكيف يرى أهل الجنة أهل النار وأهل النار أهل الجنة وبينهم ما بينهم من المسافة أو كيف يسمع بعضهم كلام بعض وبينهم ما بينهم من المسافة وغلظ الحجاب
فيقال لك لا تقل هذا فإن الله تعالى يقوي أبصارهم وأسماعهم حتى يرى بعضهم بعضا و يسمع بعضهم بعضا وهذا قريب في القدرة جدا وإذا تأملته وجدته

وذكر الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامهم
ومن حديثه أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول اللهA صلو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها
ومن حديث قاسم بن أصبغ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا
وبهذا الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره
والصعود جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك أبدا
قال قاسم بن أصبغ وبهذا الاسناد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لو أن مقمعا من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض
وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لو ضرب بمقمع من حديد الجبل لتفتت فصار غبارا

وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين
وذكر الترمذي من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى ( ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ) قال يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز و جل ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) ويقول ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا )
وذكر من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخابني كعب يجر قصبه في النار وقد تقدم والقصب الأمعاء
ومن حديث مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال

له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط
وذكر البزار في مسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم
ومن حديث مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث
وذكر مسلم أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع
وذكر مسلم أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد وإن مجلسه في جهنم كما بين مكة والمدينة
وروى الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيتذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم عساهم يخففون عنا فيقولون لهم أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فيقولون ادعوا مالكا فيقولون ( يا مالك ليقض علينا ربك ) فيجيبهم ( إنكم ماكثون )

قال سليمان بن مهران الأعمش نبئت أن بين دعائهم وإجابة مالك لهم مقدار ألف عام قال فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير منه فيقولون ( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون )
قال فيجيبهم ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس
ويروى عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار الدموع حتى تنقطع ثم يبكون الدماء حتى تصير الدماء في خدودهم كأمثال الجداول ولو أجريت فيها السفن لجرت ذكره الترمذي وغيره
وذكر مسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله عز و جل لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديا بها فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك أحسبه قال ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك
وذكر البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله عز و جل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك

ويروى من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم بعنف فلفحتهم لفحة لم تترك لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب

فصل ذكر أهون أهل النار عذابا
ذكر مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك
قال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار
وذكر مسلم أيضا من حديث عبد الله بن الحارث قال سمعت العباس يقول قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح
وذكر مسلم عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد عذابا منه وإنه لأهونهم عذابا
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه

وذكر مسلم أيضا من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه
وذكر مسلم أيضا من حديث النعمان بن بشير قال سمعت رسول اللهA يقول إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه

فصل ذكر من أشد الناس عذابا
ذكر قاسم بن أصبغ من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي أو مصور يصور التماثيل
فصل أخذ النار المعذبين على قدر أعمالهم
ذكر مسلم من حديث سمرة بن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه إلى عنقه
وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه إلى ترقوته
وذكر البزار من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أهون أهل النار عذابا رجل منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه
الباب الثاني والعشرون
ذكر الخلود
ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون فيطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربنا هذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم قالوا وهل نراه يا رسول الله قال وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم لا تضارون في رؤيته تلك الساعة ثم يتوارى ثم يطلع فيعرفهم نفسه ثم يقول أنا ربكم فاتبعوني فيقوم المسلمون ويوضع الصراط فيمر عليه مثل جياد الخيل والركاب وقولهم عليه سلم سلم ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوج ثم يقال لها هل امتلأت فتقول هل من مزيد حتى إذا أوعبوا فيها وضع الرحمن قدمه فيها وأزوى بعضها إلى بعض ثم قال قط قالت قط قط فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت ملببا فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة وأهل النار ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة وأهل النار هل تعرفون هذا فيقولون هؤلاء وهؤلاء قد عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضجع فيذبح ذبحا على السور ثم يقال يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت

وذكر هناد بن السري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم ربنا هذا الموت فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيها أبدا
وذكر مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول اللهA ( وأنذرهم يوم الحسرة إذا قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) وأشار بيده إلى الدنيا
وذكر مسلم من حديث نافع أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل الله أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه
وذكر أيضا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم
وذكر الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رفعه قال إذا كان يوم

القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة والنار فيذبح وهم ينظرون فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار
وذكر البزار من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من كتب عليه الخلود لم يخرج منها يعني من النار
وأنشدوا
( أما سمعت بأهل النار في النار ... وعن مقاساة ما يلقون في النار )
( أما سمعت بأكباد لهم صدعت ... خوفا من النار قد ذابت على النار )
( أما سمعت بأغلال تناط بهم ... فيسحبون بها سحبا على النار )
( أما سمعت بضيق في مجالسهم ... وفي الفرار ولا فرار في النار )
( أما سمعت بحيات تدب بها ... إليهم أم خلقت من خالص النار )
( أما سمعت بأنفاس لهم حبست ... عن التنفس من حرارة النار )
( أما سمعت بأجساد لهم نضجت ... من العذاب ومن غلي على النار )
( أما سمعت بما يكلفون به ... من ارتقاء جبال النار في النار )
( حتى إذا ما علوا على شواهقها ... صبوا بعنف إلى أسافل النار )
( أما سمعت بزقوم يسوغه ... ماء صديد ولا تسويغ في النار )
( يسقون منه كئوسا ملئت سقما ... ترمي بأمعائهم رميا على النار )
( يشوي الوجوه وجوها ألبست ظلما ... بئس الشراب شراب ساكني النار )
( ولا ينامون إن طاف المنام بهم ... ولا منام لأهل النار في النار )
( إن يستقيلوا فلا تقال عثرتهم ... أو يستغيثوا فلا غياث في النار )
( وإن أرادوا خروجا رد خارجهم ... بمقمع النار مدحورا إلى النار )
( فهم إل النار مدفوعون بالنار ... وهم من النار يهرعون للنار )
( ما أن يخفف عنهم من عذابهم ... ولا تفتر عنهم سورة النار )
( فهذه صدعت أكباد سامعها ... من ذي الحجى ومن التخليد في النار )
( ولو يكون إلى وقت عذابهم ... في النار هون ذاكم لفحة النار )
( فيا إلهي ومن أحكامه سبقت ... في الفرقتين من الجنات والنار )

( رحماك يا رب في ضعفي وفي ضعتي ... فما وجودك لي صبر على النار )
( ولا على حر شمس إن برزت لها ... فكيف أصبر يا مولاي للنار )
( فإن تغمدني عفو وثقت به ... منكم وإلا فإني طعمة النار )
ونحن نستعيذ بالله من عذابه الذي لا يقوم له جميع الوجود فكيف الحشرات منه والدود ومن غضبه الذي لا يستطاع ذكره ولا يقدر قدره ونسأله رحمته التي ننقلب منها بأفعالنا ونتباعد عنها بقبيح أعمالنا بمنه وطوله لا رب غيره ولا معبود سواه وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين

جاء في آخر نسخة اليمن الجنوبية ما نصه
كمل كتاب العاقبة للإمام العلامة عبد الحق الأزدي المالكي الأندلسي بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه
ووافق الفراغ منه في ثاني شهر ربيع الآخر من شهور سنة ست وعشرين وثمانمائة
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه و وارثيه وحزبه ومن تبعه إلى يوم الدين وسلم
تتميم كتابة هذا الكتاب المسمى كتاب العاقبة بقلم السيد العلامة محمد بن عبد الرحيم الزواوي وجله ما عدا المرقع بقلم سيدنا الشيخ الكبير محمد بن الشيخ عبد الرحمن السقاف نفع الله بهم
وجاء في آخر نسخة شستربتي ما نصه
تم كتاب العاقبة بحمد الله تعالى وفضله وعونه وتوفيقه ومنه بتاريخ سلخ ربيع الآخر من شهور سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة
حسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين
وجاء في آخر نسخة المكتبة الأزهرية ما نصه
تم كتاب العاقبة بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه على يد كاتبه العبد المفتقر إلى رحمة ربه العلي أحمد بن علوي بن حمزة الحنبلي ووافق الفراغ منه في ليلة أسفر صباحها عن ثامن عشر رجب الفرد سنة خمس عشرة وثمانمائة