كتاب : الإسلام دين الوسطية
المؤلف:عبد العزيز عبد الرحمن عودة


بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام دين الوسطية
إعداد
عبد العزيز عبد الرحمن عودة
المحاضر في جامعة الأزهر
غزة / فلسطين
وخطيب جامع الشهيد عز الدين القسام
بمحافظة شمال غزة
مقدمة :
إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة .
الإسلام في أيامنا هذه أحوج ما يكون إلى من يحسن عرضه على الناس والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وجوهر ذلك الاعتدال في الخطاب والحرص على كسب العقول والقلوب ؛ وذلك لا يتأتى إلا بالابتعاد عن التطرف وعن تبني الآراء المسبقة لإرغام الناس على الأخذ بها ، يجب أن لانحصر الألوان في لونين فقط إما أبيض وإما أسود بل لابد أن نعترف أن هناك ألوانًا أخرى وكذلك لابد من وقف المحاولات التي يبذلها المتطرفون - الذين لا يرون العالم إلا من خلال مناظيرهم - لإقصاء من يخافهم الرأي أو الفهم ولو كان على ملتهم ودينهم، وحجتهم في ذلك نصوص مبتورة عزلوها عما سبقها ولحقها ، وتمترسوا وراءها فلم يعرفوا لها علة ولا مناسبة ، أو أقوال لمن سبقهم يتعصبون لها دون إدراك لملابساتها أو الظروف الموضوعية التي قيلت فيها وإنما هو تعصب وتقليد وإتباع أعمى .
وبدهي أننا نعني بالنصوص ، تلك النصوص الظنية التي تحتمل الاختلاف وتعدد الآراء والفهوم ، إن إبراز خصائص الإسلام وعلى رأسها الوسطية ، أمر في غاية الأهمية ونحن نرى أعداءه يرمونه بما ليس فيه من تطرف وإرهاب وإقصاء للآخرين وبث للكراهية والتعصب ، ومما يؤسف له أن نفرًا ممن ينتسبون لهذا الدين يساعدونهم في ذلك من خلال إساءتهم لتطبيق الإسلام تطبيقًا بعيدًا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك يسيئون إلى هذا الدين من خلال عرضه عرضًا سيئًا كما أشرنا آنفًا .

إن الإسلام جاء ليرفع عن الناس الإصر والأغلال ، ويضمن لهم حياة طيبة ملؤها السعادة والاستقرار ، فكتابه الكريم يقول : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " ، " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " ، ونبيه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وفقهاؤه العباقرة هم الذين استنبطوا القواعد الفقهية التي تضمن سعادة الناس واستقرارهم من خلال استقرائهم لنصوص الشريعة وأحكامها ، فقالوا : المشقة تجلب التيسير ولا ضرر ولا ضرار ، والضرورات تبيح المحظورات ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة .... إلخ
أين هذا كله من منطق التشنج والتطرف واختيار الآراء المسبقة الذي يمارسه البعض فترتد آثاره سلبًا على الدين نفسه ؟!
وهذه ورقات كتبتها على عجل في وسطية الإسلام تلبية لدعوة وزارة الأوقاف والشئون الدينية ولست راضيًا عنها كل الرضى ، وعسى الأيام تسمح لنا بإعادة النظر فيها لتوفيتها حقها .
وهي في محورين وخاتمة ، تكلمنا في المحور الأول عن معنى الوسطية في الإسلام ومرتكزاتها في القرآن والسنة وفي المحور الثاني عن بعض مظاهر الوسطية في الإسلام جملة ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
المحور الأول :
1- معنى الوسطية في الإسلام :
حتى نعرف معنى الوسطية ينبغي أن نتذكر قول الشاعر المتطرف ( وبضدها تتميز الأشياء ):
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
فهو لا يرى إلا أمرًا من أمرين ، إما أن يعيش فوق رؤوس الناس وإما أن يدفن ، ولا يرى أن هناك أمرًا ثالثًا بإمكانه أن يختاره ، وهو أن يعيش مساويًا للناس له ما لهم وعليه ما عليهم ، وللأسف هذا شأن كل متطرف في الدين أو السياسة أو في أي موقف آخر من مواقف الحياة .

وباستقراء نصوص الشريعة الإسلامية وأحكامها نجد أن من أبرز خصائصها : الوسطية ، التي تعني الموقف المعتدل بين طرفين ، فلا تميل إلى طرف دون آخر وإنما تقف الموقف الذي يقتضيه الميزان القسط ، ولا تسمح بطغيان طرف على آخر ، فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير ، وإنما هو القسطاس المستقيم بين المادية والروحية والواقعية والمثالية والفردية والجماعية ، وكما قيل : الوسط فضيلة بين رذيلتين ، وسوف نرى مصداق ذلك فيما نعرض له من أمثلة في الشريعة الإسلامية ، وقد قيل أيضًا : خير الأمور أوسطها . ومما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " كرم الله وجهه " قوله : ( عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل ) ، وقوله : ( يهلك فيَّ رجلان ، محب غال ومبغض قال ) .
2- مرتكزات الوسطية في القرآن والسنة :
أ- في القرآن :
* في سورة الفاتحة التي يرددها المسلم في اليوم عشرات المرات في صلاته وغيرها ، قول الله تعالى : " إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ، وبعد التأمل في قول الله تعالى السابق ، نجد أنه يوجهنا إلى أن ندعو ربنا أن يهدينا الصراط المستقيم ، لكن ما هو الصراط المستقيم ؟ إنه ذلك الطريق الوسط المعتدل بين طرفين أحدهما عرف الحق وتركه ، فهو مغضوب عليه " غير المغضوب عليهم " ، والآخر لم يهتد للحق أصلاً فهو ضال " ولا الضالين " .

* وقد جاء وصف الأمة في القرآن بالوسطية صريحًا في قوله تعالى : " وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا " ، وفي تعليقه على هذه الآية يقول الشهيد الأستاذ سيد قطب : إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا فتقيم بينهم العدل والقسط وتضع لهم الموازين والقيم ........ وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي ........ ( أمة وسطا ) في التصور في والاعتقاد لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . ( أمة وسطا ) في التفكير والشعور لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ولا تتبع كذلك كل ناعق وتقلد تقليد القردة المضحك ( أمة وسطا) في التنظيم والتنسيق لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب ، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ، ( أمة وسطا ) في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ( أمة وسطا ) في المكان في صرة الأرض وفي أوسط بقاعها وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض ، ( أمة وسطا ) في الزمان تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى .
وواضح من كلام الأستاذ سيد قطب أنه يرى أن خاصية الوسطية من أبرز خصائص هذه الأمة التي أراد الله لها أن تكن شاهدًا على الناس أجمعين .

* قول الله تعالى : " يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسل الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " ، في هذه الآية ينهى الله أهل الكتاب عن مجاوزة الحد المعتدل في الدين والقول غير الحق في عيسى ابن مريم وهو ما أشار إليه بالغلو المذكور في الآية وفي ذلك إشارة جلية إلى أن الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط والعدل التي التزمت الصراط المستقيم والنهج القويم في نظرتها للأنبياء عامة وفي عيسى ابن مريم خاصة وذلك عندما استجابت لأمر الله فيه أنه عبد الله ورسوله ، وفي تفسير الآية ، يقول العلامة " الطاهر بن عاشور " : ( والغلو في الدين أن يظهر المتدين ما يفوت الحد الذي حدد له الدين ، ونهاهم عن الغلو لأنه أصل لكثير من ضلالهم ، وتكذيبهم للرسل السابقين ، وغلو أهل الكتاب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم منهم ، فاليهود طولبوا بإتباع التوراة ومحبة رسولهم فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى ومحمد عليهما السلام ، والنصارى طولبوا بإتباع المسيح فتجاوزوا فيه الحد إلى دعوى إلهيته أو كونه ابن الله مع الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ) .
ب- السنة النبوية :
وعندما نستعرض سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد فيها خاصية الوسطية واضحة جلية ، فانظر مثلاً :
* ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للنفر الذين آلوا على أنفسهم أن يصوموا فلا يفطروا ، وأن يقوموا فلا يناموا ، وألا ينكحوا النساء، إنه قال منكرًا عليهم تطرفهم : " أما إني أخشاكم لله ، وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، وفي هذا تأكيد على خط الاعتدال الذي هو سمة هذا الدين في مواجهة من أرادوا أ، يختاروا طرفًا واحدًا على حساب الطرف الآخر ، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد الاعتدال وهو الوسط بين الطرفين .

* تأمل دعاء انبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر " .
إن هذا الدعاء يكشف عن توازن عجيب بين الدين والدنيا ، فهو لا يطلب الحياة الدنيا على حساب الآخرة ولا الآخرة على حساب الدنيا ونجد مصداق هذا في دعاء القرآن ، في قوله تعالى : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ، فلا تطرف ولا إفراط ولا تفريط ، إنما هو وسطية واعتدال ، هذا ما يشعر به كل من يستبطن الآيات القرآنية ويطلع على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
* كذلك نجد قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى " ، يشبه المتشدد في العبادة بذلك المسافر الذي أرهق دابته من أمرها عسرًا ، وتجاوز حد الاعتدال في سوقها فكانت النتيجة أن نفقت دابته في الطريق ولم يصل إلى غايته ، وهذا شأن المتشدد في عبادته المتجاوز فيها حد الاعتدال فلا هو الذي أرضى ربه ، ولا هو الذي أبقى على نفسه ، شأن المنبت أي المنقطع في الطريق ، ولا يخفى ما في هذا التشبيه النبوي من دعوة إلى الوسطية والاعتدال .
* وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد الله ورسوله " ، أي لا تتطرفوا في مديحي والثناء علي فتتجاوزوا بي حدود البشرية ، " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " ، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع من ينشد فيقول : وفينا نبي يعلم ما في غد ، فغضب ونهاه وقال : " قولوا في بما تعلمون إنما أنا عبد الله ورسوله .
هذه بعض مرتكزات وأصول الوسطية في الإسلام سقناها من القرآن والسنة ، وقد تجلت مظاهرها في العقيدة والشريعة والسلوك والأخلاق مما سنعرض له في المحور الثاني .
المحور الثاني

من مظاهر الوسطية في الإسلام
سنعرض في هذا المحور لبعض مظاهر الوسطية كما تتجلى في عقيدة الإسلام وشريعته والأخلاق التي دعا إليها .
أولاً : في العقيدة :
إن المتأمل لمنظومة العقائد الإسلامية يجد أنها وسط بين من يتبعون الخرافة والأسطورة مهملين العقل والدليل مصدقين بكل شيء يصل إليهم تقليدًا وإتباعًا أعمى ، وبين الماديين الذين ينكرون كل شيء وراء الحس ولا يأبهون أيضًا بنداء الفطرة والأشواق الروحية ، إن الإسلام يقيم عقائده على براهين مقنعة وأدلة ساطعة ، فمثلا .. يقول الله تعالى : " ومن يدع مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه " ، نجد في هذه الآية أن القرآن إمعانًا منه في التأكيد على أهمية الدليل والبرهان يطالب به على قضايا قد ثبت فسادها وبطلانها ، فمن المعلوم أنه لا برهان على وجود إله آخر مع الله إنما هي دعوى لا تستند إلى أساس ، ويرد القرآن الكريم في موضع آخر على الخرافيين الذين ادعوا أن الملائكة إناث ويطالبهم بالدليل على دعواهم فيقول تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " ، وكذلك قول الله تعالى مفندًا مزاعم أهل الكتاب ومطالبًا إياهم بتقديم البرهان بين يدي ما يقولون ، " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " ، ولقد ذُكر في كتب السنة أنه عندما توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم كسفت الشمس ، فظن بعض المسلمين أن لذلك علاقة بموت إبراهيم ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى ذلك الفهم ونهى المسلمين عن مثل ذلك الاعتقاد وأمرهم بالصلاة عند الكسوف أو الخسوف ....

والإسلام وسط في عقيدته بين من لا يرون إلا هذا العالم المحسوس وينكرون ما وراءه من غيب ، وبين أولئك الذين يعتبرون أن هذا العالم وهم لا حقيقة له ، ويقيموا عقيدته على أن هذا العالم حقيقة إلا أن هناك حقيقة أكبر منه ، فهو يصل من الكون إلى المكوِّن ومن الخلق إلى الخالق ، وفي ذلك يقول القرآن : " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " ، ويقول أيضًا : " فتبارك الله أحسن الخالقين " .
والإسلام أيضًا وسط بين من يؤمنون بالعقل وحده مصدرًا للمعرفة ومن ينكرون قيمة العقل ويقولون بالإلهام أو الأوهام ، إذ أن الإسلام يقف موقفًا مميزًا في الربط بين العقل والوحي ، فهو يعتبر أن بينهما علاقة كعلاقة البصر بالنور ، فالبصر يغدو عديم الفائدة في غياب النور ، كما أن النور لا جدوى منه إذا سار في ضوء أشعته أعمى ، فالعقل بصر والوحي نور وهي كما نرى عقيدة وسط بين هؤلاء وأولئك .
ثانيًا : الشريعة :
ونجد كذلك أن الإسلام يعتمد الوسطية في تشريعه ، سواء أكان ذلك في العبادات المحضة أو في المعاملات ، وكل من اطلع على عبادات الإسلام ومعاملاته يرى أنه لا يحيد عن الموقف المعتدل ويرفض التطرف الذي يقتضي الميل إلى جانب على حساب آخر ، أخر الإمام مالك في موطئه أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلده فدعا له بصوط فأتي بصوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بص
وط جديد لم تقطع ثمرته ، فقال : دون هذا ، فأتي بصوط قد رُكب به ولان ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد .
فانظر إلى ما لا يخفى من منهج النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاة الوسطية حتى في اختيار الصوط الذي يجلد به الزاني ، لك أن تتخيل لو وقع هذا الزاني في يد متطرف أو متعصب ليقيم الحد عليه !!!! .

وقد أخرج الإمام مسلم عن معاذ أنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : " إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم " .
قال النووي شارح صحيح مسلم : وفيه أنه يحرم على الساعي أخذ كرائم المال في أداء الزكاة، بل يأخذ الوسط ، ويحرم على رب المال إخراج شر المال . وهذه هي الوسطية التي هي الاعتدال .
وكان صلى الله عليه وسلم ، يأمر بالتوسط في القراءة في الصلاة الجهرية وهذا مصداق قول الله تعالى : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" والسبيل هنا هو التوسط، الذي هو الوسطية والاعتدال ، واقرأ قول الله تعالى مؤكدًا على هذا المعنى " واذكر بك في نفسك تضرعًا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين " .
وفي صحيح البخاري كان معاذ يصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم بقومه ، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة ، فانصرف رجل ، فكأن معاذًا تناول منه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " فتان ، فتان ، فتان أو قال فاتنًا ، وأمره بسورتين من أوسط المفصل ، وفي ذلك أيضًا ما لا يخفى من الدعوة إلى التوسط والاعتدال في العبادة وقراءة القرآن .

وتحت عنوان باب ( أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام ) ، شرح الإمام النووي على صحيح مسلم ذكر أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني لأتأخر عن صلاة من أجل فلان مما يطيل بنا ، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ . فقال : " يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة" ، فإلى هذا الحد كان النبي يكره التطرف والتشدد الذي يميل إلى جانب دون آخر وكان صلى الله عليه وسلم يحب التوسط والاعتدال في كل شيء .
وكذلك نجد الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم يترجم بقوله : ( اعتدال أركان الصلاة وتخيفها في تمام ) .
ثالثًا : في الأخلاق والسلوك :
لقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم كله قائمًا على الاعتدال ، فقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد وهو يتحدث عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام : ( وكان إذا تكلم ، تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ليس بهذر مسرع لا يحفظ ، ولا متقطع تتخلله السكتات بين أفراد الكلام ، بل هديه فيه أكمل الهدي ، فعن عائشة أنها قالت : " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا " أي الكلام ، وإنما يتكلم بجوامع الكلم ، فصل لا فضول ولا تقصير .

وفي مجال آخر وهو هديه صلى الله عليه وسلم في مجال اللباس ، يذكر ابن القيم كلامًا لابن سيرين ثم يعلق عليه قائلاً : ( ومقصود ابن سيرين أن أقوامًا يرون أن لبس الصوف دائمًا أفضل من غيره ، فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره وكذلك يتحرون زيًا واحدًا من الملابس ويتحرون رسومًا وأوضاعًا وهيئات يرون الخروج عنها منكرًا وليس المنكر إلى التقيد بها ، والمحافظة عليها وترك الخروج عنها ) . أي التمترس في موقع واحد ، وذلك هو التطرف الذي يكرهه الإسلام ، ثم يقول ابن القيم : ( فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدًا وتعبدًا بإزائهم طائفة قابلوهم فلا يلبسون إلا أشرف الثياب ولا يأكلون إلا ألين الطعام ، فلا يرون لبس الخشن ولا أكله تكبرًا وتجبرًا ، وكلا الطائفتين هديها مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ) . ثم زاد ابن القيم بقوله : ( قال بعض السلف كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب العالي والمنخفض ) .
وهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق وهو يؤكد اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للوسطية والاعتدال في هديه كله حتى في ملبسه .
ثم يتكلم ابن القيم عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في نومه فيقول : ( وكان نومه أعدل النوم والأطباء يقولون هو ثلث الليل والنهار ثماني ساعات ) .

أما عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مشيه فيقول ابن القيم : ( وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء وأبعدها من مشية الهرج والمهانة والتماوت ؛ فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة وهي مشية مذمومة قبيحة وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مثل الجمل الأهوج وهي مشية مذمومة أيضًا دالة علىخفة عقل صاحبها ... وإما أن يمشي هونًا ، وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه ، فقال : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا " ، قال غير واحد من السلف بسكينة ووقار من غير تكبر ولا تماوت ...
وقد أطلنا النقل عن ابن القيم من كتابه زاد المعاد ؛ لاعتقادنا أنه من أهم الكتب التي تحدثت عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنا لننصح أعزاءنا القراء الدارسين بقراءته ودراسته .
ومن أوضح الأمثلة على وسطية الإسلام في السلوك والأخلاق دعوته المتكررة إلى التوسط والاعتدال في الإنفاق والتحذير من التطرف في الإسراف أو التقتير ، ومصداق ذلك في قول الله تعالى يصف عباده : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ، والقوام هو الوسط .
ولو أن المسلمين استجابوا لهدي الله ورسوله فاعتمدوا الوسطية في أخلاقهم وسلوكهم وخطابهم لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا .
خاتمة :

من هذه العجالة السريعة مع آيات الله سبحانه وتعالى وهدي النبي صلى الله عليه وسلم يتأكد لنا ما ذكرناه من قبل أن الوسطية هي خاصية الإسلام البارزة وما زال في الحديث متسع للباحثين في هذا الموضوع المهم ، الذي تعتبر تجليته للناس من أجل ما يقدم للإسلام من خدمات في هذه السنوات العجاف التي تشن فيها أكبر هجمة على الإسلام والمسلمين .... إن الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه في حاجة إلى رجال يملأ قلوبهم الإخلاص والصدق ويملأ عقولهم الوعي والعلم والمعرفة ، يعرضون الإسلام فيحسنون عرضه ويدافعون عنه فيعز جانبه وتعلو رايته ، وهم في كل ذلك يسيرون على خط الوسطية والاعتدال .....
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين