كتاب : المناظر
المؤلف : ابن الهيثم

المقالة الأولى
كيفية الإبصار بالجملة
الفصل الأول
صدر الكتاب
إن المتقدمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر، وأعملوا فيه أفكارهم، وبذلوا فيه اجتهادهم، وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليه، ووقفوا منه على ما وقفهم البحث والتمييز عليه.ومع هذه الحال فآرائهم في حقيقة الإبصار مختلفة، ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متفقة، فالحيرة متوجهة، واليقين متعذر والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه.فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط. فطريق النظر معفى الأثر، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل، فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتت الآراء ، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذر اليقين.
وفي هذا البحث عن هذا المعنى مع غموضه وصعوبة الطريق إلى معرفة حقيقته مركب من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية. أما تعلقه بالعلم الطبيعي فلأن الإبصار أحد الحواس، والحواس من الأمور الطبيعية. وأما تعلقه بالعلوم التعليمية فلأن البصر يدرك الشكل والوضع والعظم والحركة والسكون، وله مع ذلك تخصص بالسموت المستقيمة، والبحث عم هذه المعاني إنما يكون بالعلوم التعليمية. فبحق صار البحث عن المعنى مركباً من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.
وقد بحث المتحققون بعلم الطبيعة عن حقيقة هذا المعنى بحسب صناعتهم واجتهدوا فيه بقدر طاقتهم، فاستقرت آراء المحصلين منهم على أن الإبصار إنما يكون من صورة ترد من المبصر إلى البصر منها يدرك البصر صورة المبصر. فأما أصحاب التعاليم فإنهم عنوا بهذا العلم أكثر من عناية غيرهم، واستقصوا البحث عنه، فاهتموا بتفصيله وتقسيم أنواعه، وميزوا المعاني المبصرة، وعللوا جزيئاتها، وذكروا الأسباب في كل واحد منها، مع اختلاف يتردد بينهم على طول الزمان في أصول هذا المعنى، وتفرق آراء طوائف من أهل هذه الصناعة. إلا أنهم على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرق آرائهم متفقون بالجملة على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المبصر وبه يدرك البصر صورة المبصر، وأن هذا الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وإن كل شعاع يدرك به مبصر من المبصرات فشكل جملته شكل مخروط رأسه وقاعدته سطح المبصر. وهذان المعنيان أعني رأي أصحاب الطبيعة ورأي أصحاب التعاليم متضادان متباعدان إذا أخذا على ظاهرهما.
ثم مع ذلك فأصحاب التعاليم مختلفون في هيئة هذا الشعاع وهيئة حدوثه. فبعضهم يرى أن مخروط الشعاع جسم مصمت متصل ملتئم. وبعضهم يرى أن الشعاع خطوط مستقيمة هي أجسام دقائق أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وتمتد متفرقة حتى تنتهي إلى المبصر، وإن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح المبصر أدركه البصر وما حصل بين أطراف خطوط الشعاع من أجزاء المبصر لم يدركه البصر، ولذلك تخفى عن البصر الأجزاء التي في غاية الصغر والمسام التي في غاية الدقة التي تكون في سطوح المبصرات. ثم إن طائفة ممن يعتقد أن مخروط الشعاع مصمت ملتئم ترى أن الشعاع يخرج من البصر على خط واحد مستقيم إلى أن ينتهي إلى المبصر، ثم يتحرك على سطح المبصر حركة في غاية السرعة في الطول والعرض لا يدركها الحس لسرعتها، فيحدث بتلك الحركة مخروط المصمت. وطائفة ترى أن الأمر بخلاف ذلك وان البصر إذا فتح أجفانه قبالة المبصر حدث المخروط في الحال دفعة واحدة بغير زمان محسوس. ورأى طائفة من جميع هؤلاء أن الشعاع الذي يكون به الإبصار هو قوة نورية تنبعث من البصر وتنتهي إلى المبصر، وبتلك القوة يكون الإحساس. ورأى طائفة أن الهواء إذا اتصل بالبصر قبل منه كيفية فقط، فيصير الهواء في الحال بتلك الكيفية شعاعاً يدرك به البصر المبصرات.

ولكل طائفة من هذه الطوائف مقاييس واستدلالاات وطرق أدتهم إلى اعتقادهم وشهادات، إلا أن الغاية التي عليها استقر رأي جميع من بحث عن كيفية إحساس البصر تنقسم بالجملة إلى المذهبين المتضادين اللذين قدمنا ذكرهما. وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً، وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة، ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية فوقف دون الغاية، ووصل أحدهما إلى الغاية وقصر الآخر عنها، فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة. وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث، وإذا حقق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.
ولما كان ذلك كذلك، وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة، وكيفية الإبصار غير متيقنة، رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونتأمله، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات. وما نحن، مع جميع ذلك، برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور.
ونحن نقسم هذا الكتاب سبع مقالات : ونبين في المقالة الأولى كيفية الإبصار بالجملة، ونبين في المقالة الثانية تفصيل المعاني التي يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها، ونبين في المقالة الثالثة أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها، ونبين في المقالة الرابعة كيفية أدراك البصر بالانعكاس عن الأجسام الصقيلة، ونبين بالمقالة الخامسة مواضع الخيالات وهي الصور التي ترى في الأجسام الصقيلة، ونبين في المقالة السادسة أغلاط البصر فيما يدركه بالانعكاس وعللها، ونبين في المقالة السابعة كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء، ونختم الكتاب عند آخر هذه المقالة.
وقد كنا ألفنا مقالة في علم المناظر سلكنا في كثير من مقاييسها طرقاً إقناعية، فلما توجهت لنا البراهين المحققة على جميع المعاني المبصرة استأنفنا تأليف هذا الكتاب. فمن وقع إليه المقالة التي ذكرناها فليعلم أنها مستغنى عنها بحصول المعاني التي فيها في مضمون هذا الكتاب.

الفصل الثاني
البحث عن خواص البصر
نجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان بينهما بعد ما. فإن المبصر إذا كان ملتصقاً بسطح البصر فليس يدركه البصر وإن كان من المبصرات التي يصح أن يدركها البصر.
ونجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه لها لا بالانعكاس، إلا إذا كان مقابلاً للبصر، وكان بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين سطح البصر خط مستقيم متوهم أو خطوط مستقيمة متوهمة، ولم يتوسط بين سطح البصر وبين المبصر جسم كثيف يقطع جميع الخطوط المستقيمة التي توهم بين سطح البصر وبين سطح المبصر الذي يدركه البصر.

ونجد كل مبصر يدركه البصر، ويكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه له بالانعكاس، متى قطعت جميع الخطوط المستقيمة التي تتوهم بين سطح البصر وبين سطحه الذي يدركه البصر بجسم كثيف استتر ذلك البصر عن البصر وخفي عنه ولم يدركه، وإن كان بين البصر وبينه في هذه الحال هواء متصل لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة إذا كان اتصاله على غير استقامة، ثم إذا رفع ذلك الساتر الكثيف أدرك البصر المبصر.
ومتى قطع الساتر جميع الخطط المستقيمة التي بين جزء من سطح المبصر وبين سطح البصر، حتى لا يبقى بين ذلك الجزء من المبصر وبين شيء من الجزء من سطح البصر الذي منه يكون الإبصار خط مستقيم إلا وقد قطعه ذلك الساتر، استتر من المبصر ذلك الجزء فقط الذي قطع الساتر جميع الخطوط المستقيمة التي بينه وبين موضع الإبصار من سطح البصر.
وإذا استقرئت جميع المبصرات في جميع الأوقات واعتبرت وحررت وجدت على الصفة التي ذكرناها مطردة ولا تتغير. فيدل ذلك على أن كل مبصر يدركه البصر، ويكون معه في هواء واحد، وإذا كان إدراكه له لا بالانعكاس، فإن بين كل نقطة من سطح المبصر وبين نقطة ما من سطح البصر، أو أكثر من نقطة، خطاً مستقيماً أو خطوطاً مستقيمة لا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة.
فأما كيف يعتبر هذا المعنى اعتباراً محرراً فإن اعتباره ممكن مستهل بالمساطر والأنابيب. فإذا شاء معتبر أن يعتبر ذلك ويحرره فليتخذ مسطرة في غاية الصحة والاستقامة موازياً لخطي نهايتها، ويتخذ أنبوباً أسطوانياً أجوف طوله في غاية الاستقامة واستدارته في غاية ما يمكن من الصحة ودائرتا طرفيه متوازيتان. ولتكن متانته متشابهة، وليكن مقتدر السعة وليس بأوسع من محجر العين، وليخط في سطحه الظاهر خطاً مستقيماً يمتد من محيط إحدى قاعدتيه إلى النقطة المقابلة لها من الناحية الأخرى. وليكن هذا الأنبوب أقصر من طول المسطرة بمقدار يسير، وليقسم الخط الذي في وسط المسطرة بثلثة أقسام، وليكن الأوسط من الأقسام مساوياً لطول الخط الذي في سطح الأنبوب، ويكون القسمان الباقيان اللذان عن جنبتيه بأي قدر كان. ثم يلصق الأنبوب بسطح المسطرة ويطبق الخط الذي في سطحه على القسم الأوسط من الخط الذي في وسط سطح لمسطرة، ويتحرى أن ينطبق نهايتا طرفيه على النقطتين اللتين فصلتا الخط الأوسط، ويلصق الأنبوب بسطح المسطرة على هذه الصفة إلصاقاً ملتحماً وثيقاً ل ينحل ولا يتغير.
فإذا أحكمت هذه الآلة وأراد المعتبر أن يعتبر بها إدراك البصر للمبصرات فليعين على مبصر من المبصرات، وليلصق طرف هذه المسطرة بالجفن الأسفل من إحدى عينيه ويلصق الطرف الآخر بسطح المبصر ويستر العين الأخرى، وينظر في هذه الحال في ثقب الأنبوب: فإنه يرى من المبصر الجزء المقابل لثقب الأنبوب الذي عند طرف المسطرة. وإذا ستر الأنبوب بجسم كثيف استتر ذلك الجزء من المبصر الذي كان يراه من ثقب الأنبوب. ثم إذا رفع الساتر أدرك ذلك الجزء كما كان يدركه في الأول. وإن ستر بالجسم الكثيف بعض ثقب الأنبوب الذي هو والبصر الساتر على سمت مستقيم وهذه الاستقامة تتحرر بالمسطرة وباستقامة الأنبوب. فإن ذلك الجزء الذي يستتر من الجزء المبصر إذا ستر بعض ثقب الأنبوب يكون أبداً هو والبصر والجزء المستتر من ثقب الأنبوب على خط مواز للخط المستقيم الذي يمتد في سطح المسطرة ومواز لطول الأنبوب. ثم إذا رفع الساتر عاد إدراك البصر لذلك الجزء من المبصر كذلك دائماً لا يختلف ولا ينتقض.

وإذا نظر الناظر إلى المبصر من ثقب الأنبوب وخفي الجزء الذي كان يدركه البصر من سطح المبصر، فإن بين ذلك الجزء من المبصر في تلك الحال وبين سطح البصر هواء متصلاً لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة ومسافات لا نهاية لها غير مستقيمة. إذ بين طرف الأنبوب وبين البصر فضاء منكشف، وكذلك بين المبصر وبين الطرف الآخر من الأنبوب، إلا أن الهواء المتصل الذي بين البصر وبين المبصر في تلك الحال ليس هو متصلاً على استقامة بل هو اتصالاً على غير استقامة، ولم ينقطع في تلك الحال من الخطوط التي يمكن أن نتوهم بين البصر وبين ذلك الجزء من المبصر إلا الخطوط المستقيمة فقط. فلو كان ممكناً أن يدرك البصر المبصر الذي هو معه في هواء واحد على غير سمت الاستقامة لقد كان يدرك الجزء من المبصر المقابل لثقب الأنبوب بعد سد ثقب الأنبوب. لكن يوجد ما هذه صفته من المبصرات إذا اعتبر وتؤمل على هذه الصفة التي حددناها فليس يدركه البصر عند سد الأنبوب.
فيجب من هذا الاعتبار وجوباً تسقط معه الشبهات أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه لا بالانعكاس، إلا على سموت الخطوط المستقيمة فقط التي تتوهم ممتدة بين سطحه وبين سطح البصر.
وأيضاً فإنا نجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان في المبصر ضوء ما إما من ذاته أو مشرق عليه من غيره. ومتى كان المبصر مظلماً لا ضوء فيه بوجه من الوجوه لم يدركه البصر ولم يحس به. ونجد البصر إذا كان في مكان مظلم فقد يدرك المبصرات إذا كانت مقابلة له وكانت مضيئة بأي ضوء كان، وكان الهواء الذي بينه وبينها متصلاً لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة. فإذا كان المبصر في مكان مظلم، ولم يكن فيه شيء من الضوء، وكان البصر في مكان مضيء ، فليس يدرك البصر ذلك المبصر ولا يحس به. ونجد هذه الحال مطردة لا تختلف ولا تتغير. فدل ذلك على أن المبصر، إذا كان فيه ضوء ما، وكان من المبصرات التي يصح أن يدركها البصر، وكان الضوء الذي بالمبصر إلى الحد الذي يصح أن يحس به البصر، فإن البصر يدرك ذلك المبصر، كان الهواء المحيط بالبصر مضيئاً بغير الضوء الذي في المبصر أو لم يكن مضيئاً بغير ذلك الضوء.

ونجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان حجمه مقتدراً وأريد بالحجم مساحة المبصر جسماً كان أو سطحاً أو خطاً وليس يدرك من المبصرات ما كان بغاية الصغر. ويوجد من الأجسام الصغار بالاستدلال ما لا يدركه البصر بوجه من الوجوه. فإن إنسان عين البعوضة وما جرى مجراه في الصغر ليس يدركه البصر بوجه من الوجوه، وهو مع ذلك جسم موجود. وأصغر المقادير التي يمكن أن يدركها البصر تكون بحسب قوة البصر أيضاً وضعفه، فإن من الأجسام الصغار ما يدركها بعض الناس ويحس بها وتخفى عن أبصار كثير من الناس ولا يدركونها بوجه من الوجوه إن كانت أبصارهم ليست في غاية القوة. وإذا اعتبرت جميع المبصرات وأصغر من المبصرات وجدت ليست في غاية الصغر، بل يوجد كل مبصر وإن كان في غاية الصغر فقد يمكن أن يكون في الأجسام الموجودة ما هو أصغر منه ولا يحس به البصر. فدل ذلك على أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان حجمه مقتدراً أو كان في مبصر مقتدر الحجم، كاللون والشكل وما أشبه ذلك، فإن أصغر المقادير التي يدركها البصر يكون بحسب قوة ذلك البصر. وأيضاً فإنا نجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان كثيفاً أو كان فيه بعض الكثافة. فإن الجسم إذا كان غاية الشفيف كالهواء اللطيف فلبس يدركه البصر ويدرك ما وراءه. فليس بجس البصر بالجسم المشف إلا إذا كان أغلظ من الهواء من الهواء المتوسط بينه وبين البصر. وكل جسم كثيف فله لون أو ما يجري مجرى اللون كأضواء الكواكب وصور الأجسام النيرة. وكذلك كل جسم مشف فيه بعض الكثافة فليس يخلوا من اللون. وأيضاً فإنا نجد البصر إذا كان يدرك مبصراً من المبصرات ثم بعد عنه بعداً شديداً خفي ذلك عن البصر فلم يدركه. ونجد المبصر إذا بعد عن البصر بعداً شديداً حتى ينتهي إلى حد يخفي عن البصر فلا يدركه البصر فقد يمكن للبصر أن يدرك من ذلك البعد بعينه إذا لم يكن في غاية التفاوت مبصراً غير ذلك المبصر إذا كان أعظم جثة من المبصر الخفي. فدل ذلك على أن الأبعاد التي يصح أن يدرك منها المبصر والأبعاد التي يخفى منها المبصر إنما تكون بحسب عظم المبصر.
ونجد الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات، وما كان من المبصرات أشد إضاءة فقد يدركه البصر من بعد قد تخفى من مثله المبصرات المساوية لذلك المبصر في العظم إذا كانت الأضواء التي فيها أضعف من الضوء الذي في ذلك المبصر. وذلك أنه إذا كان في موضع من المواضع نار مشتعلة، وكان حواليها أشخاص وأجسام مساو كل واحد منها لجملة النار في العظم أو ليست بمتفاوتة العظم، وأشرق عليها ضوء تلك النار، ثم قصد تلك النار قاصد من بعد شديد في سواد الليل، فإن ذلك القاصد يرى النار قبل أن يرى شيئاً مما حواليها من الأشخاص والأجسام التي هي مساوية لها في العظم وأعظم منها ومضيئة بضوء تلك النار. ثم إذا قرب ذلك الإنسان من النار ظهرت له الأشخاص التي حول النار وما قرب منها، ويظهر ما كان من تلك الأشخاص قريباً من النار والضوء الذي عليه قوي قبل أن يظهر ما كان بعيداً من النار والضوء الذي عليه ضعيف، ثم إذا وصل إليها ظهر له جميع ما حول النار وبالقرب منها من المبصرات. وكذلك إذا اعتبرت المبصرات المتباعدة في ضوء النهار يوجد الذي عليه ضوء الشمس والأضواء القوية تظهر من الأبعاد التي تخفى منها المبصرات المساوية لها في العظم وفي اللون التي تكون في الظل والأضواء التي عليها ضعيفة.
فيلزم من ذلك أن تكون الأبعاد التي منها يصح أن يدرك البصر المبصرات، والأبعاد التي تخفى منها المبصرات، إنما تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات.
ونجد أيضاً الأجسام الساطعة البياض والمشرقة الألوان قد تظهر من الأبعاد التي قد تخفى من مثلها الأجسام الكدرة والترابية والمنكسفة مع تساويها في الحجم وفي الضوء وفي جميع الأحوال ما سوى اللون. وذلك أن السفن المقلعة في البحر، إذا كانت على بعد شديد، فإن أقلاعها تظهر من البعد كالنجوم إذا كانت قلوعها بيضاء ويدرك البصر بياضها ولا يدرك مع ذلك السفن ولا شيئاً مما فيها مما ليس بساطع البياض ما دامت على مسافة بعيدة، ثم إذا قربت من البصر ظهرت السفن وأدركها البصر وأدرك ما فيها بعد أن كان لا يحس بها وهو يحس بقلوعها فقط.

وكذلك إذا كانت أشخاص على سطح الأرض، وكانت متساوية الأقدار أو ليست أقدارها متفاوتة الاختلاف، وكانت مختلفة الألوان، وكان بعضها بيضاً ساطعة البياض وكان بعضها ذا ألوا مشرقة وبعضها ترابية أو منكسف الألوان، وكان الضوء المشرق عليها واحداً، ثم قصدها قاصد من بعد شديد، فإنه يرى البيض منها الساطعة البياض قبل أن يرى شيئاً من الأشخاص الباقية . ثم إذا قرب ظهرت الأشخاص المشرقة الألوان قبل أن تظهر الترابية والمنكسفة الألوان . ثم كلما قرب ظهرت له الباقية إلى أن يظهر له جميعها ويحس بها معاً.
فيلزم من ذلك أن تكون الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات، والأبعاد التي تخفى منها المبصرات، إنما تكون بحسب ألوان المبصرات.
ونجد أيضاً الأبعاد التي يصح أن يدرك من مثلها مبصر من المبصرات، والأبعاد التي يخفى من مثلها مبصر من المبصرات ، إنما تكون بحسب قوة البصر. فإن الحديد البصر قد يدرك مبصراً من المبصرات من بعد قد يخفى منه ذلك المبصر بعينه في تلك الحال بعينها عن الضعيف البصر.
فيلزم من جميع ما ذكرناه واستقريناه من أحوال أبعاد المبصرات أن تكون الأبعاد التي يصح أن يدرك من مثلها مبصر من المبصرات، والأبعاد التي يخفى من مثلها مبصر من المبصرات، إنما تكون بحسب ذلك المبصر بعينه وبحسب أحواله وبحسب المعاني التي فيه وبحسب البصر أيضاً الذي يدركه بعينه في قوته وضعفه.
فقد تبين من جميع ما ذكرناه مما يوجد بالاستقراء والاعتبار ويوجد مطرداً لا يختلف ولا ينتقض، أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه له لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت للمبصر المعاني التي ذكرناها، وهي أن يكون بينه وبين البصر بعد ما بحسب ذلك المبصر، ويكون مقابلاً للبصر، أعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم، ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره، ويكون حجمه مقتدراً بالإضافة إلى قوة إحساس البصر، ويكون الهواء الذي بينه وبين سطح البصر أو الجسم الذي بينه وبين سطح البصر مشفاً متصل الشفيف لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة، ويكون كثيفاً أو فيه بعض الكثافة أعني أن لا يكون فيه شفيف أو يكون مشفاً وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء المبسوط بينه وبين سطح البصر أو الجسم المشف المتوسط بينه وبين سطح البصر، وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون، وكذلك المشف الذي فيه بع الغلظ. فهذه المعاني هي التي لا يتم الإبصار إلا بعد اجتماعها للمبصر. وإذا اجتمعت هذه المعاني للمبصر، وكان البصر سليماً من الآفات، فإنه يدرك ذلك المبصر، وإذا عدم البصر واحداً من هذه المعاني إذن هي خواص البصر التي بها وباجتماعها يتم الإبصار.
وقد يظهر أيضاً بالاستقراء أن كل مبصر يدركه البصر، ثم يبعد عنه حتى ينتهي إلى الحد الذي يخفى عن البصر، فإن بين البعد الذي يخفى منه ذلك المبصر وبين سطح البصر أبعاداً كثيرة مختلفة لا تنحصر ولا تتعين يدرك البصر من كل واحد منها ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً، ويدرك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر وإذا أدرك البصر المبصر على بعد من هذه الأبعاد إدراكاً صحيحاً، ثم تباعد عنه على تدريج وترتيب، خفيت أجزاءه الصغار والمعاني اللطيفة إن كانت فيه كالنقوش والوشوم والغضون والنقط قبل أن تخفى جملته، ويخفى ما صغر من هذه المعاني ودق قبل أن يخفى ما هو اعظم وأغلظ. وتوجد الأبعاد التي تخفى منها الأجزاء الصغار وتلتبس المعاني اللطيفة وتشتبه كثيرة غير معنية ولا محصورة.
ويوجد أيضاً المبصر إذا تمادى في التباعد على التدريج والترتيب تصاغرت جملته عند البصر قبل أن يخفى جميعه على البصر ولا يحس به ولا بشيء منه، وإن ازداد بعد ذلك تباعداً لم يدركه البصر. ويوجد أيضاً المبصر إذا قرب من البصر قرباً شديداً وقبل أن يلتصق بسطح البصر فإنه تعظم جثته عند البصر وتشتبه صورته وتلتبس المعاني اللطيفة التي تكون فيه فلا يمكن البصر تمييزها وتحققها. وكلما قرب من سطح البصر بعد هذه الحال قرباً أكثر كان التباسه أشد، حتى إذا التصق بسطح البصر بطل إحساس البصر به ولم يدرك منه إلا ستره فقط.

وإذا كان جميع ذلك كذلك فالبعد إذن الذي منه يدرك البصر المبصر إدراكاً صحيحاً ليس هو بعداً واحداً معيناً، والبعد الذي تشتبه منه صورة المبصر وتخفى أجزاؤه الصغار، وتخفى المعاني اللطيفة التي تكون فيه وتشتبه وتلتبس، ليس هو بعداً واحداً معيناً. فلنسم جميع البعاد التي يدرك منها البصر المبصر ويدرك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر، ويكون إدراكه له وللمعاني التي فيه إدراكاً لا يكون بينه وبين حقيقة المبصر وبين حقيقة المعاني التي فيه تفاوت محسوس بالإضافة إلى حقيقته ولا تخالف صورته التي تحصل في الحس صورته الحقيقية خلافاً يمكن أن يظهر فيه تفاوت محسوس عند التأمل، أبعاداً معتدلة، وإن كانت كثيرة وذات عرض.ولنسم الأبعاد التي يخفى منها المبصر، والأبعاد التي تخفى منها أجزاء المبصر التي لها نسبة محسوسة إلى جملة المبصر، والأبعاد التي تخفى منها المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر التي قد تظهر من الأبعاد المعتدلة، والأبعاد أيضاً التي تلتبس منها هذه المعاني وتشتبه، الأبعاد الخارجة عن الاعتدال ما كان منها مسرفاً في البعد عن البصر ما كان منها مسرفاً في القرب منه.
وإذ قد تبين أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان فيه ضوء ما من ذاته وإما من غيره، وكان كثير من الأجسام المبصرة قد يظهر ضوؤها على الأجسام المقابلة لها ويظهر ضوؤها على البصر عند إدراك البصر لها، فقد وجب أن نبحث عن خواص الأضواء وعن كيفية إشراق الأضواء،ونبحث أيضاً عما يعرض بين البصر والضوء، ثم نجمع بين ذلك وبين ما يخص البصر ونتلطف في القياس ونتوصل إلى النتيجة.

الفصل الثالث
البحث عن خواص الأضواء
وعن كيفية إشراق الأضواء
نجد كل جسم مضيء من ذاته فإن ضوءه شرق على كل جسم مقابل له إذا لم يكن بينهما جسم كثيف غير مشف يستر أحدهما عن الأخر. وذلك أن الشمس إذا كانت مقابلة لجسم من الأجسام الأرضية، ولم يستره عنها ساتر، فإن ضوءها يشرق على ذلك الجسم ويظهر للبصر، ويشرق ضوءها في الوقت الواحد على كل موضع يقابلها في ذلك الوقت من جميع نواحي الأرض. وكذلك القمر. وكذلك النار إذا كانت مقابلة لجسم من الأجسام الكثيفة ولم يكن بينهما ساتر كثيف ولم يكن البعد الذي بينهما متفاوتاً، فإن ضوء النار يشرق على ذلك الجسم وتظهر صورته للبصر ويوجد ضوء الجذوة من النار في الوقت الواحد يشرق على جميع الأجسام التي حول تلك النار من جميع جهاتها وعلى جميع ما يكون فوقها وتحتها من الأجسام الكثيفة إذا لم يسترها عنها ساتر ولم تكن أبعادها متفاوتة، صغرت الجذوة من النار أو عظمت، إذا كان ضوؤها يظهر للحس على ما يقابلها من الأجسام الكثيفة.
ونجد إشراق جميع الأضواء إنما يكون على سموت خطوط مستقيمة، ولا يشرق الضوء من جسم من الجسام المضيئة إلا على السموت المستقيمة فقط إذا كان الهواء أو الجسم المشف الذي بين الجسم المضيء وبين الجسم الذي يظهر عليه الضوء متصلاً متشابه الشفيف.

وإذا اعتبرت هذه الحال أبداً وجدت مطردة لا تختلف ولا تتغير، وذلك يظهر للحس ظهوراً بيناً إذا تفقدت الأضواء التي تدخل من الثقب والخروق والأبواب إلى البيوت المغدرة. أما ضوء الشمس فإنه إذا دخل من ثقب إلى بيت مظلم، وكان الهواء الذي في البيت كدراً بغبار أو دخان، فإن الضوء يظهر ممتداً على استقامة من الثقب الذي يدخل منه الضوء إلى الموضع الذي ينتهي إليه ذلك الضوء من أرض البيت أو جدرانه. فإن كان الهواء الذي في البيت صافياً نقياً ولم يظهر فيه امتداد الضوء، وأراد معتبر أن يعتبر المسافة التي يمتد فيها الضوء، فإنه إذا اخذ جسماً كثيفاً وتحرى المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي فيه الضوء من ارض البيت أو جدرانه فقطعها بالجسم الكثيف، وجد الضوء يظهر على ذلك الجسم الكثيف ويبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه من أرض البيت أو جدرانه. فإذا تعمد أي موضع شاء من المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر عليه الضوء فقطعها بالجسم الكثيف، فإن الضوء يظهر على ذلك الجسم الكثيف ويبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه. واستقامة هذه المسافة يمكن أن تعتبر بعود مستقيم . فتدل هذه الحال على أن الضوء الذي دخل من الثقب ممتد على سمت المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي انتهى إليه الضوء. وإذا اعتبر المعتبر أي مسافة شاء من المسافات المنعرجة والمنحنية والمقوسة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء فقطعها بالجسم لم يظهر فيها شيء من ذلك الضوء. وكذلك الثقوب الدقاق التي تكون في الأجسام الكثيفة إذا أشرق عليها ضوء الشمس، فإن الضوء ينفذ من تلك الثقوب الدقاق ويمتد على سموت مستقيمة. وإذا اعتبرت المسافة المستقيمة التي بين الثقب الدقيق وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء النافذ من ذلك الثقب وجد الضوء ممتداً في تلك المسافة المستقيمة وإن كان الثقب في غاية الدقة. وإن اعتمد معتمد جسماً كثيفاً فثقب فيه ثقباً دقيقاً وقابل به جرم الشمس وجد الضوء ينفذ فيه ويمتد على سمت مستقيم . وإن اعتبر المسافة التي يمتد عليها الضوء الذي بهذه الصفة وقاسها بمسطرة وجدها في غاية الاستقامة. فيتبين من جميع ذلك أن ضوء الشمس ليس يمتد إلا على المسافات المستقيمة. وكذلك ضوء القمر إذا اعتبر وجد على هذه الصفة. وكذلك ضوء الكواكب: فإن الكواكب الكبار كالزهرة، والمشتري إذا كان في قربه الأقرب، والمريخ أيضاً إذا كان في قربه الأقرب، وكالشعرى، فإن الكوكب من هذه الكواكب إذا كان مقابلاً لثقب يفضي إلى بيت مظلم في ليل غير مقمر فإن ضوءه يظهر في ذلك البيت ويوجد مقابلاً للثقب. وإذا جعل الناظر بصره عند ذلك الضوء ونظر إلى الثقب رأى الكوكب في تلك الحال مقابلاً له. فإذا راعى الكوكب زماناً مقتدراً حتى يتحرك الكوكب مسافة محسوسة وجد ضوءه الذي في البيت قد انتقل عن موضعه وصار في مقابلة الكوكب على السمت المستقيم. وكلما تحرك الكوكب تحرك ذلك الضوء، ويوجد أبداً الضوء والثقب والكوكب على سمت الاستقامة.
ثم إذا اعتبر المعتبر ضوء الكوكب الذي يظهر في الموضع المقابل للثقب على الوجه الذي قدمناه بجسم كثيف، فقطع المسافة المستقيمة التي بين الموضع الذي يظهر فيه الضوء وبين الثقب الذي يدخل منه الضوء في أي المواضع شاء منها، ظهر الضوء على الجسم الكثيف وبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه.
وكذلك النار إذا كانت مقابلة لبيت يفضي إلى بيت مظلم ظهر ضوء النار في البيت مقابلاً للثقب، وإن اعتبرت المسافة المستقيمة التي بين الضوء وبين الثقب على الوجه الذي ذكرناه وجد ضوء النار يمر بكل موضع منها.
وقد يمكن أن يقاس ضوء النار بعود مستقيم أيضاً إذا كانت المسافة التي ين النار وبين الثقب قريبة وكانت المسافة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء أيضاً قريبة. فإنه إذا دوخل عمود مستقيم في الثقب الذي دخل منه ضوء النار، وجعل طرفه عند الضوء الظاهر، وجد الطرف الآخر عند النار أو مسامتاً لها على استقامة، وتوجد النار والثقب والضوء الظاهر في البيت الداخل من الثقب أبداً على خط مستقيم.

وقد يظهر هذا المعنى أيضاً في جميع الأضواء من الظلال. فإن الأشخاص المنتصبة الكثيفة إذا أشرق عليها الضوء وظهرت أظلالها على الأرض وعلى ما يقابلها من الأجسام الكثيفة توجد الأظلال أبداً ممتدة على استقامة وتوجد المواضع التي استظلت هي المواضع التي قطعت الأشخاص المظلة المسافات المستقيمة التي بينها وبين الجرم المضيء الذي انقطع ضوئه عن تلك المواضع.
فيظهر مما ذكرناه أن إشراق الأضواء من الأجسام المضيئة من ذواتها إنما يكون على سموت خطوط مستقيمة فقط.
وأيضاً فإننا نجد كل جسم مضيء من ذاته فإن الضوء يشرق من كل جزء منه، ونجد الضوء الذي يشرق من جميع الجسم المضيء أقوى من الضوء الذي يشرق من بعضه، ونجد الضوء الذي يشرق من جزء أعظم يكون أقوى وأبين من الضوء الذي يشرق من جزء أصغر. أما الشمس فإنها أول طلوعها من الأفق إما يطلع منها أولاً جزء يسير من محيطها ، ومع ذلك فإن ضوء ذلك الجزء يشرق على كل ما يقابله من الجدران والأشخاص ووجه الأرض، ومركز الشمس في تلك الحال مستتر تحت الأفق وغير ظاهر لما على وجه الأرض. ثم كلما زاد الجزء الظاهر زاد الضوء وقوي إلى أن يرتفع مركز الشمس، ولا يزال الضوء يتزايد إلى أن يظهر جميع جرم الشمس. وكذلك إذا غربت الشمس : فإنه ما دام جزء منها ظاهراً فوق الأفق فإن ضوء ذلك الجزء من الشمس يكون مشرفاً على وجه الأرض مع خفاء مركز الشمس وأكثر جرم الشمس عن المواضع التي يشرق عليها ضوء ذلك الجزء من الشمس.
وفي هذه الحال أعني إشراق الضوء من محيط جرم الشمس، وهي في جميع الآفاق . ومع ذلك فإن الجزء الذي هو أقل جزء يطلع من الشمس في أفق ممن الآفاق هو غير الجزء الذي هو أول جزء يطلع من الشمس في أفق غير ذلك الأفق من أجل حركة الشمس التي تخصها. فالآفاق المختلفة تكون الأجزاء من الشمس التي تطلع فيها في أول طلوع الشمس مختلفة، وخاصة في الأيام المختلفة. وكذلك الأجزاء التي هي آخر ما يغرب من الشمس. وبالجملة فإن كل موضع من الأرض يظهر فيه جزء الشمس من محيطها ومن غير المحيط فإن الضوء يشرق من ذلك الجزء على ذلك الموضع. فمن هذا الاعتبار يتبين أن كل جزء من جرم الشمس يشرق منه ضوء على كل جسم يقابل ذلك الجزء مع استتار مركز الشمس وبقية جرم الشمس عن ذلك الجسم.
وأيضاً فإن الشمس إذا انكسفت ولم يستغرق الكسوف جميعها وبقي منها جزء ظاهر فإن الضوء يشرق من الجزء الظاهر الباقي على كل موضع يقابله في وقت الكسوف من الأرض. فإن روعيت الشمس في وقت كسوف يستغرق معظمها ويتجاوز مركزها فإنه يوجد الجزء المنكسف يعظم والجزء الباقي يتصاغر.ومع ذلك فأي مقدار بقي منها فإن الضوء يشرق منه على وجه الأرض، ويظهر الضوء على كل موضع مقابل لذلك الجزء وعلى كل موضع مقابل لبعض ذلك الجزء أيضاً . وإن اعتبر ضوء الشمس في وقت الكسوف وجد إشراقه أبداً على سموت مستقيمة كمثل إشراق ضوئها قبل الكسوف، ويوجد ضوء الشمس الذي يظهر على الأرض في وقت الكسوف أضعف من ضوئها قبل الكسوف، وكلما عظم الجزء المنكسف وصغر الجزء الباقي ضعف الضوء الذي يظهر على الأرض. والجزء الذي يبقى من الشمس في وقت الكسوف إذا استغرق الكسوف معظمها إنما هو جزء من محيطها. وجميع محيط الشمس متشابه الحال. فيتبين من هذا الاعتبار أن ضوء الشمس يخرج من جميع جرم الشمس ومن كل موضع من الشمس لا من موضع مخصوص.

ويتبين أيضاً من هذا الاعتبار أن السموت المستقيمة التي عليها يمتد ضوء الشمس ليس جميعها ممتداً من مركز الشمس، بل كل جزء من جرم الشمس يخرج الضوء منه على كل سمت مستقيم يصح أن يتوهم ممتداً من ذلك الجزء. وذلك أن الكسوف إذا استغرق معظم الشمس بالقياس إلى موضع من الأرض فإن مركز الشمس في ذلك الوقت مستتر عن ذلك الموضع فتنقطع الخطوط المستقيمة التي بين مركز الشمس وبين ذلك الموضع. ومع هذه الحال فإن الضوء يشرق من بقية الشمس على ذلك الموضع. فلو كان ضوء الشمس ليس يخرج إلا على السموت المستقيمة الممتدة على المركز لما كان يظهر الضوء في وقت الكسوف على المواضع من الأرض التي يستتر عنها المركز. وأيضاً فإن المواضع من الأرض التي تكون الشمس في وقت الكسوف مائلة عن سمت الرؤوس أهلها إلى جهة الجزء الباقي الظاهر فإن الضوء الذي يشرق على هذه المواضع في هذه الحال من الجزء الباقي من الشمس إنما يكون إشراقه إلى الجهة التي فيها مركز الشمس وعلى الخطوط المستقيمة التي لا يصح أن تمر بمركز الشمس،ويشرق الضوء مع ذلك في هذا الوقت على كل موضع يظهر فيه جزء من جرم الشمس ولا يستغرق الكسوف بالقياس إليه جميع جرم الشمس. فليس إشراق ضوء الشمس على السموت المستقيمة الممتدة من مركز الشمس فقط بل على جميع السموت التي يصح أن تمتد من كل جزء منها على الاستقامة.
وأيضاً فإن ضوء الشمس الذي ينفذ من الثقوب يوجد أبداً منخرطاً ، وكلما بعد الضوء عن الثقب اتسع . ويظهر ذلك ظهوراً بيناً في الثقوب الدقاق. فإن الثقب الدقيق إذا نفذ فيه ضوء الشمس، وظهر الضوء على موضع متباعد عن الثقب، فإن الضوء الذي بهذه الصفة يوجد منخرطاً ويكون الموضع الذي يظهر فيه الضوء أوسع من الثقب أضعافاً متضاعفة. وكلما كانت المسافة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر عليه الضوء أبعد كان الضوء أوسع. وإن قطعت المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الضوء الظاهر بجسم كثيف وجد الضوء على ذلك الجسم الكثيف، ويوجد الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف أضيق من الضوء الذي ظهر في الموضع الأول. وكلما قرب هذا الجسم من الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه أضيق. وكلما بوعد هذا الجسم عن الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه أوسع. فيتبين من انخراط الضوء الذي يخرج من الثقوب الدقاق أن ضوء الشمس يمتد من كل جزء منها لا من جزء مخصوص.
ويتبين منه أيضاً أن الضوء يمتد على خطوط مستقيمة فقط. وذلك أنه لو كان الضوء يمتد من مركز الشمس أو من نقطة مخصوصة منها لكان الضوء الذي يمتد من تلك النقطة وعلى الخطوط التي تخرج من تلك النقطة إلى الثقب الضيق إذا نفذ من الثقب انخرط انخراطاً غير محسوس، لأن انخراطه كان يكون بحسب ما يقتضيه قطر الثقب وبحسب بعد الشمس عن الثقب وبعدها عن الموضع الذي يظهر عليه الضوء. ولا فرق بين هذين البعدين في الحس بالإضافة إلى بعد الشمس بالقياس إلى الحس. فكان يكون الضوء الذي يخرج من الثقب الدقيق إذا ظهر على وجه الأرض أو على موضع من المواضع مساوياً لمقدار الثقب، وخاصة إذا كان الثقب أسطوانياً، ولكان الثقب الأسطواني الضيق إذا نفذ منه ضوء الشمس ثم غير تغييراً يسيراً حتى يصير الخط المستقيم الممتد في طوله إلى جرم الشمس لا يلقي تلك النقطة من الشمس كان يبطل الضوء الذي ينفذ من الثقب، ولا ينفذ في الثقب شيء من الضوء. ولو كان الضوء يمتد على غير السموت المستقيمة لكان إذا نفذ من الثقوب الدقاق امتد على غير السموت المستقيمة. فانخراط الضوء النافذ من الثقوب الدقاق دليل ظاهر على الضوء يخرج من جميع جرم الشمس إلى الثقب، وأن خروجه على خطوط مستقيمة، فلذلك إذا نفذ م الثقب انخرط واتسع وكان انخراطه على خطوط مستقيمة لأن الضوء إذا خرج من جميع جرم الشمس إلى الثقب الضيق كان منخرطاً، فإذا نفذ في الثقب وامتد حدث منه مخروط آخر مقابل للمخروط الأول، لأن الضوء يخرج على خطوط مستقيمة. فيتبين من جميع ما شرحناه أن ضوء الشمس يشرق من كل جزء من جرم الشمس في كل جهة تقابل ذلك الجزء على استقامة.

فأما القمر فإن حاله أظهر. وذلك أن الهلال في الليلة الثانية من الشهر وما يليها قد يظهر ضوؤه على وجه الأرض، وخاصة إذا كان مقابلاً لموضع مظلم فإن ضوؤه يظهر في الموضع المظلم ويوجد مع ذلك ناقصاً ضعيفاً، ثم يزيد ضوؤه في كل ليلة مع زيادة مقداره إلى أن يمتلئ ويوجد ضوؤه عند امتلائه أقوى من جميع أضوائه في ليالي نقصانه. وأيضاً فإن القمر يوجد حاله في الطلوع والغروب في أوقات امتلائه كمثل حال الشمس، وكذلك حاله في الكسوف إذا تجاوز الكسوف مركزه ولم يستغرق جميعه. وإذا اعتبر ضوء القمر النافذ من الثقوب الدقاق أيضاً في أوقات امتلائه جد منخرطاً، وكلما بعد عن الثقب اتسع. فيتبين من انخراط الضوء أن ضوء القمر يشرق من كل جزء من أجزاء القمر لا من جزء منه مخصوص، وان امتداد ضوء القمر إنما هو على السموت المستقيمة فقط.
وكذلك النار أيضاً يوجد فيها هذا المعنى بعينه. وذلك أن النار إذا بعضت بأن يبعض موضوعها الحامل لها فإن كل جزء منها يشرق منه ضوء، ويوجد ضوء كل جزء منها اضعف من ضوء جملتها ، ويوجد ضوء ما صغر من أجزائها أضعف من ضوء ما عظم من أجزائها. وقد يمكن أن تعتبر أجزاء النار من غير أن تبعض أيضاً. فإذا أراد المعتبر أن يعتبر ذلك فليتخذ صفيحة من نحاس، وليكن فيها سعة، وليثقب فيها ثقباً مقتداً مستديراً، ثم يداخل في هذا الثقب أنبوباً أسطوانياً صحيح الاستقامة معتدل الاستدارة ذا طول مقتدر، ولتكن سعة الثقب بمقدار سعة الأنبوب، وليكن ثقب الأنبوب ليس بأغلظ من غلظ الميل. ويداخل الأنبوب في ثقب الصفيحة حتى يستوي طرفه مع سطح الصفيحة، ولتثبت هذه الصفيحة على جسم مرتفع عن الأرض ولتكن قائمة على حرفها، ثم يقدم إلى هذه الصفيحة في ظلمة الليل نار، وليكن سراجاً ذا فتيلة غليظة نيرة، فيقابل بها الثقب وتقرب النار من الثقب إلى أن تصير في غاية القرب منه ولا يبقى بينها وبين الثقب مسافة لها قدر، فستظل الجهة التي فيها الأنبوب بظل الصفيحة ولا يترك في الموضع ضوء سوى النار التي تعتبر، وليكن ذلك في موضع لا تخترقه الريح، ثم يقابل طرف الأنبوب بجسم كثيف: فإن ضوء النار يظهر على ذلك الجسم. وليس هناك ضوء إلا الضوء الذي ينفذ في الأنبوب، وليس ينفذ في الأنبوب ضوء إلا ضوء الجزء من النار المقابل لثقب الأنبوب المساوي مساحته لمساحة ثقب الأنبوب فقط إذا كان الضوء ليس يخرج إلا على خطوط مستقيمة، وليس بين الضوء الذي يظهر على الجسم المقابل لطرف الأنبوب وبين شيء من أجزاء النار خطوط مستقيمة لا يقطعها جسم كثيف إلا الجزء المقابل لطرف الأنبوب فقط، لأن الخطوط المستقيمة التي بينه وبين الضوء الظاهر تمتد في داخل الأنبوب ولا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة. فأما الأجزاء الباقية من جرم النار فإن الضوء يخرج منها إلى الطرف الذي يليها فقط من ثقب الأنبوب. فإن دخل منها شيء في طرف الأنبوب فإنه ينقطع بحائط الأنبوب فيبطل ولا ينفذ في طول ثقب الأنبوب، وليس ينفذ في ثقب الأنبوب في تلك الحال إلا ضوء الجزء المقابل لطرفه فقط.

ثم يحرك المعتبر النار رفيقاً حتى يقابل الثقب جزءاً من النار غير ذلك الجزء، ويتأمل الجسم المقابل لطرف الأنبوب الذي كان يظهر عليه الضوء. فإنه يجد الضوء أيضاً يظهر على ذلك الجسم. ثم إذا حرك جرم النار في جميع الجهات ورفعه وحطه حتى يقابل الثقب جزءاً من النار غير ذلك الجزء، ويتأمل الجسم المقابل لطرف الأنبوب الذي كان يظهر عليه الضوء: فإنه يجد الضوء أيضاً يظهر على ذلك الجسم. ثم إذا حرك جرم النار في جميع الجهات ورفعه وحطه حتى يقابل الثقب كل جزء من النار جزءاً بعد جزء وجد الضوء في جميع الأحوال يظهر على الجسم المقابل للأنبوب، ويجد هذا الضوء أضعف من ضوء جملة النار الذي يظهر على الأجسام المنكشفة لجميع جرم النار التي بعدها عن النار كبعد الموضع الذي يظهر فيه الضوء النافذ من الأنبوب عن النار . وإن ضيق المعتبر الثقب بأن يداخل في الأنبوب جسماً دقيقاً مستقيماً يسد بعضه والصقه بسطح داخل الأنبوب واعتبر الضوء الذي يخرج من بقية الأنبوب فإنه يجد الضوء أيضاً يظهر على الجسم المقابل للأنبوب ما لم يكن الجزء الذي يبقى من الأنبوب في غاية الضيق، ويجد الضوء الذي يظهر عند تضيق الأنبوب أصغر ومع ذلك أخفى وأضعف من الضوء الأول . فيظهر من هذا الاعتبار أن كل جزء من النار يشرق منه ضوء ، وأن ضوء جميع الجذوة من النار أقوى من ضوء الجزء منها. وأن ضوء الجزء الأعظم أقوى من ضوء الجزء الأصغر.
وأيضاً فإن أثبت المعتبر النار عند ثقب الصفيحة حتى لا ينتقل ولا يتغير الجزء منها المقابل للثقب، ثم ميل الأنبوب حتى يصير وضعه مائلاً على سطح الصفيحة وطرفه مع ذلك عند الثقب، وسد خللاً إن انكشف من طرف الأنبوب ومن ثقب الصفيحة مما يلي باطن الصفيحة، وقابل الأنبوب بالجسم الكثيف، فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الكثيف. وإن غير وضع الأنبوب وميله إلى غير تلك الجهة وقابله بالجسم الكثيف الذي يظهر عليه الضوء وجد الضوء يظهر عليه أيضاً. وإن ميل الأنبوب إلى جميع الجهات وجد الضوء يمتد من ذلك الجزء من النار إلى جميع الجهات التي تقابله على الاستقامة. ثم عن حرك النار حتى يقابل الثقب جزءاً منها غير ذلك الجزء، واعتبر هذا الجزء أيضاً بالوضاع المائلة كما اعتبر الجزء الأول، وجد الضوء يمتد منه أيضاً في جميع الجهات التي تقابله. وكذلك إن اعتبر كل جزء من النار وجده على هذه الصفة. فيظهر من هذا الاعتبار أن الضوء يشرق من كل جزء من النار في كل جهة تقابل ذلك الجزء على سمت الاستقامة.
ويتبين من جميع ما ذكرناه أن كل جسم مضيء من ذاته فإن الضوء يشرق من كل جزء منه على كل سمت مستقيم يمتد من ذلك الجزء.
وإذا كانت هذه الحال تظهر في الأجزاء من الأجسام المضيئة من ذواتها فإن الأجزاء الصغار أيضاً منها، وإن كانت في غاية الصغر ما دامت حافظة لصورتها، فإنها أيضاً مضيئة، والضوء يشرق منها على الصفة التي تشرق من الأجزاء الكبار وإن خفيت أحوال الأجزاء الصغار عن الحس، إذ هذه الحال في الأجسام المضيئة من ذواتها طبيعية وخاصة لازمة لذواتها، وطبيعة صغار الأجزاء وكبارها طبيعة واحدة ما دامت حافظة لصورتها ، فالخاصة التي تخص طبيعتها تكون في كل جزء منها صغر أم كبر ما دام على طبيعته وحافظاً لصورته.
وأيضاً فإن الشمس والقمر والأجرام السماوية ليست أجزاء مجتمعة، بل كل واحد منها جسم واحد متصل وطبيعته واحدة وليس فيها اختلاف وليس موضع منها مخالف الطبيعة لموضع آخر. وكذلك النار ليست أجزاء مجتمعة بل جسم متصل وكل موضع منها شبيه الطبيعة بالمواضع الباقية وطبيعة ما صغر من أجزائها شبيه بطبيعة كبار الأجزاء ما دام الجزء الصغير حافظاً لصورة النار.

فقد تبين من جميع ما استقريناه وشرحناه وبينا طرق اعتباره أن إشراق الضوء من كل جسم مضيء من ذاته إنما هو على سموت خطوط مستقيمة، وان الضوء يشرق من كل جسم مضيء من ذاته في جميع الجهات التي بينه وبينها خطوط مستقيمة لا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة، وان كل جزء من أجزاء الجسم المضيء من ذاته يشرق الضوء منه على هذه الصفة، وان الضوء الذي يشرق على موضع من المواضع من جميع الجرم المضيء يكون أقوى من الضوء الذي يشرق على ذلك الموضع من ذلك البعد من بعض ذلك الجرم، وان الضوء الذي يشرق من جزء اعظم يكون أقوى من الضوء الذي يشرق من جزء أصغر، وان الأجزاء الصغار من الجرم المضيء يلزم فيها أيضاً هذه الحال. وإن تعذر اعتبارها على انفرادها وخفي ضوؤها منفرداً عن الحس فإن ذلك إنما هو لقصور الحس عن إدراك ما هو في غاية الضعف. وإذا كان جميع ذلك كذلك فالضوء إذن الذي يشرق من الجرم المضيء من ذاته في الهواء المشف إنما يشرق من كل جزء مقابل لذلك الهواء من الجرم المضيء، ويكون الضوء في الهواء المضيء متصلاً ملتئماً، وتكون كل نقطة من الجرم المضيء يخرج الضوء منها على كل خط مستقيم يصح أن يتوهم ممتداً من تلك النقطة في ذلك الهواء. فعلى هذه الصفة يكون إشراق الأضواء من الأجسام المضيئة من ذواتها في الهواء المشف المتشابه الشفيف. فلنسم الأضواء التي تشرق من الأجسام المضيئة من ذواتها الأضواء الأول .
وأيضاً فإنا نجد الأرض مضيئة في أول النهار وآخره قبل طلوع الشمس وبعد غروبها، وليس شيء من المواضيع المضيئة في هذين الوقتين مقابلاً لجرم الشمس ولا لشيء منها، وليس لضوء النهار علة غير الشمس إذ ليس يزيد في النهار ضوء لم يكن في الليل إلا ضوء الشمس فقط. وأيضاً فإن الشمس إذا طلعت وصارت فوق الأرض فإنا نجد المساكن وأفنية الدار التي هي مستترة عن الشمس بالحيطان والسقوف مضيئة مع ذلك وليست مقابلة للشمس ولا لشيء منها. وكذلك أظلال الجبال والأجسام الكثيفة وجميع الأظلال توجد مضيئة بالنهار مع استتارها عن جرم الشمس بالأجسام الكثيفة التي هي أظلال لها. ونجد أيضاً كثيراً من المساكن المستترة عن السماء مضيئة قبل طلوع الشمس وبعد غروبها مع استتار الشمس ومع استتار هذه المواضع عن السماء. فلنبحث الآن عن كيفية هذه الأضواء بالاستقراء والاعتبار من أحوالها وخواصها.
فنقول: إننا نجد ضوء المصباح يبتدئ من أجزاء الليل وقد بقي قطعة من الليل فيمتد من أفق المشرق ذاهباً نحو وسط السماء كالعمود المستقيم، ويوجد ضعيفاً خفياً، ويوجد مع ذلك وجه الأرض مظلماً بظلمة الليل. ثم يقوى هذا الضوء ويزيد مقداره في العرض والطول ويقوى نوره، والأرض مع ذلك مظلمة. ثم لا يزال يتزايد مقداره ويقوى نوره، فيضيء حينئذ وجه الأرض المقابل لذلك الضوء المنكشف له بضوء ضعيف دوم الضوء الذي يظهر في الجو في ذلك الوقت. ثم لا يزال الضوء الذي في الجو يقوى وينبسط إلى أن يملئ أفق المشرق ويبلغ إلى وسط السماء ويمتلئ الجو ضوءاً وحينئذ يقوى الضوء الذي على وجه الأرض ويصير نهاراً واضحاً والشمس مع ذلك تحت الأفق وغير ظاهرة. ثم تطلع الشمس بعد هذه الحال فيزداد النهار وضوحاً. وكذلك نجد الضوء في آخر النهار وبعد أن تغرب الشمس وتخفى تحت الأفق : يكون وجه الأرض مضيئاَ بضوء واضح والجو مع ذلك مضيء بضوء قوي. ثم لا يزال ضوء الجو يضعف ووجه الأرض يتناقص ضوؤه إلى أن يجن الليل. ثم إنا نجد أيضاً ضوء الشمس إذا أشرق على بعض الجدران، وكان مقابلاً ذلك الجدار وبالقرب منه مكان مظلم، فإن ذلك المكان يضيء بعد أن كان مظلماً. وإذا كان لذلك المكان المظلم باب، وكان مقابل الباب في داخل ذلك المكان جدار، فإن الجدار المقابل للباب ولضوء الشمس المشرق على الجدار الخارج وما واجه الباب وضوء الشمس من أرض البيت إنما يكون أشد إضاءة من بقية البيت. ثم إذا زالت الشمس وزال ضوؤها المشرق على ذلك الجدار عاد الموضع مظلماً. وكذلك نجد النهار وضوء القمر وضوء النار إذا أشرق على الجدار، وكان مقابل ذلك الجدار موقع مظلم، فإنه يضيء بذلك الضوء، وإذا بطل ذلك الضوء عاد الموضع مظلماً. وكذلك نجد كل موضع مضيء بضوء قوي، أي ضوء كان، إذا كان مقابلاً له مكان مظلم وكان قريباً منه وكان بينهما منفذ فإن الموضع يضيء بالضوء المقابل له.

وقد يمكن أن تعتبر هذه الحال في جميع الأوقات. فإذا شاء المعتبر أن يعتبر بيتاً مظلماً، وليكن مقابل باب البيت وقريباً منه حائط يشرق عليه ضوء الشمس، ولا يكون باب البيت منكشفاً للسماء وذلك بأن يكون الحائط المقابل للباب يصل إليه الضوء من ثقب أو من باب في حائط البيت المظلم من أعلاه إذا كان حائط البيت أرفع من سقف البيت، ويكون الفضاء الذي بين الحائطين أعني الحائط الذي فيه باب البيت والحائط المقابل له مسقفاً من فوق الثقب أو مظللاً بجسم كثيف، ويكون البيت مما يلي لمشرق. ويراعي المعتبر الموضع إلى أن يشرق ضوء الصباح على ذلك الحائط من الثقب المقابل له، وليكن الثقب مقتدر السعة: فإنه يد البيت المظلم قد أضاء بذلك الضوء ويجد الضوء الذي في البيت أضعف من الضوء الذي على ذلك الحائط. ثم كلما قوي الضوء الذي على الحائط قوي الضوء الذي في البيت. ثم إذا أشرق ضوء الشمس على ذلك الحائط اشتد الضوء الذي في البيت وقوي. ويجد الموضع من البيت المقابل للباب وللحائط المضيء أشد إضاءة من بقية البيت. ثم إذا زالت الشمس عن ذلك الحائط ضعف الضوء الذي في البيت.
وإذا كان في البيت بيت آخر مظلم، وكان بابه منكشفاً للجدار المقابل لباب الأول، فإن الضوء إذا أشرق على الحائط الخارج فظهر على الجدار الذي في داخل البيت المقابل للباب، وكان باب البيت الثاني مفتوحاً منكشفاً لهذا الجدار، فإنه يجد البيت الثاني أيضاً مضيئاً بضوء ذلك الجدار، وخاصة إذا كان الحائط الخارج الذي يشرق عليه الضوء أبيض نقي البياض، ويجد ما كان من البيت الثاني مواجهاً لذلك الجدار وقريباً منه أشد إضاءة من بقية البيت. وإن كان الجدار الذي في داخل البيت الأول الذي يشرق عليه الضوء أبيض فإن الضوء الذي يظهر في البيت الثاني يكون أبين. وكذلك إن اعتبر ضوء القمر وضوء النهار على هذه الصفة يوجد الموضع المظلم يضيء بضوء كل واحد منهما إذا كان مقابلاً له.
فيتبين من هذا الاعتبار أن كل جسم يشرق عليه ضوء فإن الضوء الذي يحصل عليه يشرق منه ضوء على كل جهة تقابله. وإذا كان ذلك كذلك فالضوء الذي يظهر على وجه الأرض في أول النهار قبل طلوع الشمس وفي آخره بعد غروبها إنما هو ضوء يرد إليها من الضوء الذي يظهر في الجو المقابل لها. فيكون الجو قبل طلوع الشمس لأنه مقابل لها وهي غير مستترة عنه في ذلك الوقت، وإنما هي مستترة في تلك الحال عن وجه الأرض فقط. فيكون الضوء ممتداً من جرم الشمس في الجو المضيء على سموت مستقيمة، ثم هذا الجو المضيء بضوء الشمس يشرق منه أيضاً ضوء على المواضع المقابلة له من سطح الأرض على سموت مستقيمة أيضاً، وما دام يسير ضعيفاً فضوؤه الذي يشرق منه على الأرض يكون خفياً، فإذا قوي واشتد قوي الضوء الذي يشرق على وجه الأرض وظهر.
وكذلك ضوء العشاء يكون الجزء المقابل للشمس بعد غروبها مضيئاً بضوئها، وضوؤها يمتد على السموت المستقيمة، ويكون الضوء الذي يشرق من الجو المضيء على المواضع المقابلة له من وجه الأرض، وما دام ضوء الجو قوياً فالأرض مضيئة والضوء فيها بين، فإذا ضعف الضوء الذي في الجو ضعف الضوء الذي على وجه الأرض إلى أن يخفى ويظلم وجه الأرض. وكذلك أضواء المساكن وأفنية الجدران المستترة عن الشمس وجميع الأظلال التي توجد مضيئة بالنهار قبل طلوع الشمس وبعد طلوعها وبعد غروبها وفي سائر النهار إما هي أضواء ترد إليها من الجو المضيء المقابل لها ومن الجدران المضيئة أيضاً ومن سطح الأرض المقابل لها المضيء بضوء النهار. فعلى هذه الصفة يكون النهار وأضواء المواضع المستظلة عن الشمس، وكذلك المواضع المضيئة بضوء القمر التي هي مستترة عن القمر، وكذلك ضوء النار.

وقد يمكن أن يعتبر هذا المعنى، إشراق الأضواء عن الأضواء العرضية على السموت المستقيمة، اعتباراً محرراً يقع معه اليقين. أما ضوء الصباح فيعتبر كما أصف: يعتمد المعتبر بيتاً في داخله بيت، ويكون وضعهما بين المشرق والمغرب، ولا يكون للضوء إليهما سبيل إلا من الباب، ويكون الحائط الشرقي من البيت منكشفاً . ويثقب في أعلى هذا الحائط ثقب كأحد الثقوب التي تكون في جدران البيوت لدخول الضوء، وليكن مستديراً قطره ليس بأقل من قدم في مثله، ويكون مخروطاً داخله أوسع من خارجه، فيكون هذا الثقب مواجهاً للجهة الشرقية من السماء. وليثقب في الحائط المقابل للثقب المشترك للبيتين ثقبين مستديرين مقابلين للثقب الأول فيفضي هذان الثقبان إلى البيت الغربي، وليكن هذان الثقبان أقرب إلى الأرض من الثقب الأول وبحيث إذا نظر الناظر في كل واحد منهما رأى السماء من الثقب الأول الأعلى، وليكن كل واحد من هذين الثقبين مساوياً للثقب الأول وشبيهاً به. وليتحر في هذين الثقبين أن يكون امتداد كل واحد منهما في سمك الحائط على استقامة الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة من النهاية الخارجة من الثقب الأول إلى النهاية المقابلة لها من الثقب الثاني. وملاك الأمر أن يكون هذا الحائط جسيماً ليكون للثقبين امتداد مقتدر في جسم الحائط حتى لا ينخرط الضوء الخارج من هذين الثقبين انخراطاً مسرفاً. وينبغي أن يكون امتداد كل واحد من هذين الثقبين في جسم الحائط امتداداً متشابهاً لا منخرطاً.
ثم يمد خيط من الثقب الأول الأعلى إلى أحد الثقبين وليتحر أن يمر الخيط بنقطة من النهاية الخارجة من الثقب الأعلى والنقطة النظيرة لها من النهاية الخارجة من الثقب المقابل له. ويداخل الخيط في الثقب وليكن طرف الخيط الذي يلي الثقب الأعلى مشدوداً بمسمار من خارج الثقب. ويدخل المعتبر إلى داخل البيت الغربي ويمد الخيط إلى أن ينتهي طرفه إلى موضع من البيت إما أرضه أو بعض جدرانه، ثم يمد الخيط مداً شديداً حتى يصح استقامته ووضعه. فإذا صح وضعه وامتداده واستقامته يعلم على موضع طرفه من البيت علامة، فيكون هذا الموضع على استقامة المسافة المستقيمة الممتدة من الثقب الأول الأعلى إلى الثقب الأخفض المقابل له. ثم يخرج الخيط من هذا الثقب ويداخل في الثقب الآخر ويفعل به مثل ما فعل بالثقب الذي قبله؛ ويمده حتى ينتهي إلى موضع آخر من البيت أيضاً ويتعلم على موضع نهايته، فيكون هذا الموضع الثاني على استقامة المسافة المستقيمة الممتدة من الثقب الأعلى أيضاً إلى الثقب الأعلى أيضاً إلى الثقب الأخر.

فإذا تعين هذان الموضعان من البيت تحرى المعتبر ليلة من الليالي السود وتكون مع ذلك مصحية. فإذا أظلم الليل دخل المعتبر إلى داخل البيت واغلق الباب ولم يترك في البيتين شيئاً من الضوء فإن الثقبين في هذه الحال يكونان مظلمين. ثم يدخل إلى البيت الغربي وينتظر من أحد الثقبين إلى أن يرى السماء من الثقب الأعلى، ويتحرى ألا يكون مقابلاً للثقب شيء من الكواكب الكبار توقف إلى أن يزول الكوكب عن مقابلة الثقب. وكذلك ينظر في الثقب الآخر إلى أن يرى السماء من الثقب الأعلى ولا يكون مقابلاً له من الآخر إلى أن يرى السماء من الثقب الأعلى ولا يكون مقابلاً له شيء من الكواكب الكبار: فإنه يرى الجو من الموضعين اللذين عينهما، فيجدهما مظلمين ليس فيهما ضوء ظاهر، ويجد جميع البيت مظلماً ليس فيه شيء من الضوء إلا ما لا يعتد به من ضوء السماء الذي هو في غاية الضعف. ثم ينتظر الصباح فإذا انفجر الصبح ونظر من الثقبين المتقابلين إلى أن يرى الجو مضيئاً تحرك من الموضع الذي هو فيه حتى يزول عن مقابلة الثقب ونظر إلى كل واحد من الموضعين المقابلين للثقبين اللذين كان عينهما: فإنه يجدهما مضيئين بضوء يسير بحسب قوة الضوء الذي في الجو. فإن لم يظهر في البيت ضوء توقف يسيراً من الزمان إلى أن يقوى ضوء الصباح، فإذا قوي ضوء الصباح تأمل الموضعين: فإنه يجدهما مضيئين، ويجد الضوء في كل واحد من الموضعين مستديراً، ويجده أوسع من الثقب بحسب ما يقتضيه انخراط الضوء، ولا يجد في هذه الحال في بقية البيت شيئاً من الضوء، وإن وجد فيه ضوءاً فضعيف خفي بحسب ما يصح أن يصدر عن الضوء الذي يظهر في الموضعين المقابلين للثقبين. ثم إن ستر أحد الثقبين بطل الضوء من الموضع المقابل له وبقي الأخر، وإن رفع الساتر عاد الضوء إلى موضعه.
ثم يعتمد المعتبر المسافة المستقيمة التي بين أحد الثقبين وبين الموضع الذي يصير إليه الضوء من ذلك الثقب فيقطعها بجسم كثيف: فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الكثيف ويبطل من الموضع المقابل لذلك الثقب. ثم يحرك هذا الجسم على سمت المسافة المستقيمة: فإنه يجد الضوء أبداً عليه. وقد يمكن أن تحد هذه المسافة بعود مستقيم ومسطرة طويلة وتلصق المسطرة بمحيط الثقب فتتحرر بها المسافة المستقيمة. ثم إذا رفع الجسم الكثيف الساتر عاد الضوء إلى الموضع الذي كان فيه، وكذلك إذا قطع المسافة المستقيمة التي بين الثقب الأول الأعلى وبين أحد الثقبين من البيت الأول فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الذي يقطع تلك المسافة ويبطل من البيت الثاني، وإذا رفع الساتر عاد الضوء إلى موضعه. وكذلك إذا اعتبر الضوء الذي في الثقب الآخر في البيتين جميعاً وجده على هذه الصفة. وإن ثقب في الحائط الثاني عدة ثقوب، وتحرى في كل واحد منها أن يكون مقابلاً للثقب الأول على استقامة وعلى مثل ما وصفناه في الثقبين المتقدمين، وجد في البيت الثاني أضواء متفرقة بعدد تلك الثقوب. ومقابلة لها كل واحد منها للثقب الأول الأعلى على استقامة.
فيتبين من هذا اعتبار بياناً واضحاً بياناً أن الهواء المضيء بضوء الصباح يخرج منه ضوء إلى المواضع المقابلة، وان خروجه على سموت مستقيمة، وأن ضوء النهار المشرق على الأرض قبل طلوع الشمس وبعد غروبها إنما هو ضوء يشرق عليها من الجو المضيء بضوء الشمس المقابل لوجه الأرض. وإن اعتبر المعتبر الجو المضيء في سائر النهار أيضاً بهذا الوجه من الاعتبار وجد الضوء يشرق منه على سموت مستقيمة.

وإذا كان الهواء المضيء يصدر منه ضوء إلى المواضع المقابلة له فإن كل جزء من أجزاء الهواء المضيء بأي ضوء كان فإنه يصدر منه ضوء إلى كل جهة مقابلة له، ويكون الضوء الذي يصدر عنه أضعف من الضوء الذي فيه، وتكون قوة الضوء الذي يصدر عنه بحسب قوة الضوء الذي فيه وبحسب مقدار مساحة ذلك الجزء المضيء من الهواء. وأيضاً فإن الهواء الذي في داخل البيت الثاني والهواء الذي في البيت الأول متصلان من الثقب الأول بالهواء المضيء الخارج منه ورد الضوء إلى داخل البيت الثاني. ويصح أن يوجد في هذا الهواء مسافات كثيرة منحنية ومتعرجة بين الجو المضيء وبين البت الثاني تمر بالثقوب ولا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة. وكذلك إذا سد أحد الثقبين وبطل الضوء المقابل للثقب المسدود فإن بين ذلك الموضع الذي بطل منه الضوء وبين الثقب الأول والهواء الخارج هواءً متصلاً من الثقب الآخر الذي لم يسد ومسافات كثيرة غير مستقيمة. فلو كان الضوء يخرج على غير السموت المستقيمة، وكان الهواء المضيء ينبسط الضوء منه في جميع ما يتصل به ن الهواء من غير السموت المستقيمة، لقد كان البيت القاصي يضيء جميعه ضوءاً متشابهاً عند إضاءة الجو بضوء الصباح لاتصال الهواء فيه بالجو المضيء في الوقت الذي يدخل الضوء من الثقوب إلى البيت وفي الوقت الذي يسد أحد الثقبين أيضاً. وليس يوجد في وقت الاعتبار في داخل البيت القاصي ضوء سوى الأضواء المقابلة للثقوب التي كل واحد منها هو والثقبان المتقابلان المقابلان له اللذان في حائطي البيتين والجو الخارج المضيء على سمت مستقيم أو في المسافة الممتدة بين الثقب وبين الموضع المضيء على استقامة الثقبين المتقابلين أو ما يشرق من هذا الضوء في بقية البيت.
والذي به يظهر أن الضوء اليسير الذي يشرق في بقية البيت إنما هو ضوء يصدر عن الضوء الذي في داخل البيت المقابل للثقب لا من غيره هو أنه إذا سد أحد الثقبين وقطعت المسافة المستقيمة التي بين الثقب الباقي وبين الضوء الذي نفذ منه بجسم كثيف، وقرب الجسم الكثيف من الثقب، وبطل الضوء من الموضع الذي كان يظهر فيه، خفي ما كان يظهر في بقية البيت من الضوء اليسير الذي كان يشرق من هذا الضوء . وليس ينقطع بهذا الفعل اتصال الهواء الذي في داخل جميع البيت بالهواء الخارج المضيء إذا لم يكن الجسم الكثيف الذي قطعت به المسافة المستقيمة ملتصقاً بالثقب.
فتبين من هذا الاعتبار أن الضوء ليس يخرج من الهواء المضيء إلا على سمت مستقيم فقط، وأن الضوء يشرق من كل جزء من الهواء المضيء في كل جهة تقابله على السمت الاستقامة، إذ الأضواء المتفرقة التي تظهر في داخل البيت القاصي تقابل من الهواء المضيء الخارج أجزاء مختلفة، ولأن أجزاء الهواء أيضاً المتشابهة الضوء متشابهة الحال.
فعلى هذه الصفة يمكن أن يعتبر ضوء النهار ويظهر أنه من ضوء الجو المضيء وأنه يرد من الجو على سموت مستقيمة.
وقد يمكن أن يعترض على هذا المعنى فيقال: إن جميع الهواء مقابل لجرم الشمس أبداً وفي طول الليل، وإنما المحتجب عن جرم الشمس هو ظل الأرض فقط، وهذا الظل هو مخروط مستدق وهو جزء يسير من جملة الهواء، والذي يظهر من الجو وهو مقابل لوجه الأرض في سائر الأوقات هو نصف جميع الهواء، والذي يقابل الأرض في طول الليل من الجو هو نصفه، والجزء المحتجب عن الشمس في الليل هو جزء يسير من هذا النصف، ومعظم الهواء الذي يظهر في طول الليل الذي هو مقابل لوجه الأرض هو مضيء بضوء الشمس، فلو كان الضوء الذي يظهر في الجو عند الصباح وعند العشاء ويشرق على وجه الأرض هو المقابل للشمس المضيء بضوء الشمس لكان الضوء الذي يظهر في الجو ويشرق على وجه الأرض في طول الليل، لأن الهواء المقابل لوجه الأرض في طول الليل معظمه مضيء. وليس يظهر في طول الليل شيء من الضوء في الجو أو على وجه الأرض. فليس الضوء الذي يظهر في الجو وعلى وجه الأرض عند الصباح وعند العشاء هو ضوء الهواء المقابل للشمس المضيء بضوء الشمس.

فنقول في جواب هذا الاعتراض إن جميع الهواء مضيء بضوء الشمس في سائر الأوقات، وليس شيء من الهواء مظلماً ومحتجباً عن الشمس إلا مخروط الظل الذي هو ظل الأرض فقط، إلا أن الضوء الذي يصدر عن الهواء المضيء يكون ضعيفاً، وكلما بعد في امتداده ازداد ضعفاً لأن ذلك هو خاصة الضوء، فالهواء المضيء بضوء الشمس يشرق منه أبداً ضوء يمتد في جميع الجهات وينفذ في الهواء المستظل بظل الأرض، إلا أنه كلما بعد هذا الضوء عن الهواء المضيء بضوء الشمس الذي منه يمتد ضعف. وإذا كان ذلك كذلك فالجزء من ظل الأرض المماس للهواء المضيء والقريب من هذا المماس الذي هو حواشي الظل يكون الضوء الذي شرق عليه من الهواء المضيء المجاور له فيه بعض القوة، فإذا بعد هذا الضوء عن حواشي الظل وانتهى إلى وسط الظل وقريباً من الوسط ضعف ضعفاً شديداً.
والشمس في سائر الليل بعيدة عن محيط الأفق، والموضع الذي يجن عليه الليل من وجه الأرض هو في أكثر الليل في وسط ظل الأرض وقريب من الوسط، فإذا قربت الشمس من الأفق مال مخروط الظل وقرب محيط قاعدة الظل المحيطة بالأرض من الموضع الذي قربت الشمس من محيط أفقه، فيصير الموضع الذي قد قربت الشمس من محيط أفقه في محيط الظل وقريباً من حاشية الظل، ويصير الضوء الخارج من الشمس الممتد في طول الظل المماس لطول الظل قريباً من وجه الأرض، ويكون الضوء الذي يصل من هذا الهواء إلى وجه الأرض فيه بعض القوة، فلذلك يدرك البصر الضوء في الهواء عند قرب الصباح ويصل الضوء إلى إلى الأرض عند الصباح. ثم كلما قربت الشمس من الأفق قربت حاشية الظل من وجه الأرض وقرب الهواء المضيء من البصر وقوي الضوء الذي يصل إلى وجه الأرض. فلذلك كلما قربت الشمس من الأفق ازداد الضوء الذي يظهر على وجه الأرض قوة ووضوحاً إلى أن ينتهي محيط جرم الشمس إلى محيط الأفق، فيصير حاشية الظل ونهايته والهواء المضيء بضوء النهار في هذا الوقت مماساً لوجه الأرض. والهواء المماس لوجه الأرض والقريب منه المضيء بضوء النهار قرب الشمس من الأفق وقبل طلوعها هو من جملة مخروط ظل الأرض، وإضاءته إنما هي لقرب هذا الهواء من الهواء المضيء المقابل للشمس لأن كل موضع تكون الشمس تحت أفقه وغير مقابلة له فهو في داخل مخروط الظل، إلا أن هذا الهواء المضيء هو حواشي الظل ومحيطه المجاور للهواء المضيء المقابل للشمس.
فالعلة التي من أجلها ليس يظهر الضوء في الهواء في سائر الليل هو بعد الهواء المضيء المقابل للشمس عن وجه الأرض وضعف الضوء الذي يصدر عن الضوء الذي في هذا الهواء المضيء وقصور قوته عن الوصول إلى وسط الأرض. والعلة التي من أجلها يظهر الضوء في الهواء عند الفجر وفي أول الليل ويشرق على وجه الأرض عند الصباح وعند العشاء هو قرب الهواء المضي المقابل للشمس من البصر وقرب حاشية الظل في هذه الأوقات من وجه الأرض. ولهذه العلة ، اعني القرب، صار أول ما يظهر من الفجر يظهر مستدقاً مستطيلاً، لأن أقرب حواشي الظل من البصر في هذا الوقت هو خط واحد مستقيم، وهو الخط المستقيم الممتد في سطح مخروط الظل الذي يمر بأقرب النقط من محيط قاعدة الظل إلى البصر في ذلك الوقت، إذ البصر في هذه الحال هو في وسط مخروط الظل التي تلي جهة الشمس، فالنقطة التي هي طرف قطر قاعدة الظل الذي يمر بموضع البصر في هذه الحال التي تلي جهة الشمس هي اقرب إلى البصر من جميع النقط التي على محيط قاعدة الظل. وأريد بقاعدة الظل ها هنا السطح الذي يمر بموضع البصر ويقطع مخروط الظل. والخط الذي يخرج من هذه النقطة ويمتد في سطح مخروط الظل هو أقرب الخطوط التي في سطح المخروط في هذه الحال من البصر. فقد تبينت العلة التي من اجلها يظهر الضوء في الجو وعلى وجه الأرض عند الصباح وعند العشاء ولا يظهر في سائر الليل.

وقد بقي أن يقال : إذا كان الضوء الذي يدركه البصر في الجو عند الصباح وعند العشاء هو ضوء في الهواء، وإنما يدركه البصر عند الصباح وعند العشاء من أجل قربه من البصر، فقد كان يدرك البصر الضوء في الهواء الذي بين الجدران وفي دواخل البيوت في سائر النهار، إذ هذا الهواء مضيء في سائر النهار وقريب من البصر، وليس يدرك البصر الضوء في هذه الأهوية بل إنما يدرك البصر الضوء على جدران البيوت ولا يدرك في الهواء الذي فيما بين الجدران شيئاً من الضوء، فليس الضوء الذي يدركه البصر في الجو عند الصباح وعند العشاء ضوءاً في الهواء.
فنقول في جواب هذا القول: إن الهواء جسم مشف شديد الشفيف،إلا أنه ليس في غاية الشفيف بل فيه غلظ يسير. فإذا أشرق عليه ضوء الشمس نفذ الضوء فيه بحسب شفبفه، وثبت فيه من الضوء قدر يسير بحسب ما فيه من الغلظ اليسير. فالمقدار اليسير من الهواء القليل المساحة يكون الضوء الذي يثبت فيه يسيراً جداً من أجل صغر مساحته ومن اجل شدة شفيفه وقلة غلظه وضعف كيفية الضوء الذي يثبت فيه. والهواء العظيم المساحة في السمك يكون الضوء الذي فيه كثيراً من أجل عظم مساحته. وإن كانت كيفية الضوء الذي في كل جزء يسير منه ضعيفة، والهواء الذي بين الجدران وفي دواخل البيوت يسير قليل المساحة، فالضوء الذي فيه يسير من جهتين: من اجل صغر مساحته ومن أجل ضعف كيفيته.
والمسافة التي يدركها البصر من الجو المضيء التي يمتد فيها البصر في وقت إدراكه لضوء الصباح وضوء العشاء عظيمة المقدار في السمك الممتد في مقابلة البصر، وجميع الهواء الممتد في هذا السمك مضيء في ذلك الوقت، وكل جزء يسير من الهواء الذي في هذا السمك فيه ضوء يسير ضعيف، والأجزاء المقتدرة المضيئة المقابلة للبصر من هذا الهواء في حال إدراك البصر للضوء الذي فيه التي كل واحد منها مساو لمقدار الهواء الذي بين الجدران الذي لا يظهر فيه الضوء التي هي ممتدة في السمك على السمت المستقيم المقابل للبصر كثيرة مسرفة الكثرة إذا قدرناها بالتخيل لعظم مساحة هذا الهواء وعظم سمكه.
فإذا كانت هذه الأجزاء كثيرة مسرفة الكثرة، وكلن في كل واحد منها ضوء يسير، وكانت هذه الأجزاء الكثيرة ممتدة في مقابلة البصر على سمت مستقيم، تضاعفت الأضواء التي كل واحد منها يسير، وتضاعفت قوتها أضعافاً كثيرة مسرفة الكثرة، لأن البصر يدرك جميعها من سمت واحد. وإذا تضاعف الضوء اليسير أضعافاً كثيرة قوي وظهر للحس، فلذلك يظهر الضوء للبصر في الجو المضيء وليس يظهر للبصر الضوء الذي في الهواء اليسير الذي في دواخل البيوت وفيما بين الجدران وفي أودية الجبال والذي بين البصر وسطح الأرض وكل ما كان يسير المساحة من الهواء.
فقد انجلت الشبهة وصح أن الضوء الذي يدركه البصر في الجو عند الصباح وعند العشاء هو ضوء الهواء المقابل للشمس المضيء بضوء الشمس، وان الضوء المشرق على وجه الأرض قبل طلوع الشمس وبعد غروبها هو ضوء يرد من الضوء الذي في الهواء المقابل للشمس المضيء بضوء الشمس.
فأما الأضواء العرضية التي تظهر على الأجسام الكثيفة فقد يمكن أن تعتبر الأضواء التي تشرق منها على الأجسام المقابلة لها اعتباراً محرراً. وذلك يكون كما نصف: يعتمد المعتبر حائطاً أبيض نقي البياض منكشفاً لضوء النهار ولضوء الشمس وضوء القمر، ويكون مقابلاً له وموازياً له وبالقرب منه حائط آخر، ويكون من وراء كل واحد من الحائطين بيت ليس للضوء إليه منفذ إلا من بابه. ثم يعمد المعتبر قطعة من الخشب طولها ليس بأقل من عظم الذراع وعرضها مساو لطولها أيضاً ، ويسوى سطوحها حتى تصير مسطحة ومتوازية بغاية ما يمكن ، وتكون نهاياتها مستقيمة ومتوازية. ثم يخط في وسط سطحين متقابلين من سطوحها خطين مستقيمين متوازيين وكل واحد منهما مواز لنهايتي السطح الذي هو فيه. ثم يفصل من طرفي كل واحد من هذين الخطين خطين متساويين يكون كل واحد منهما ليس بأكثر من عرض إصبعين، فيحصل في كل واحد من الخطين نقطتان.

ثم يدير على النقطتين اللتين على أحد الخطين دائرتين متساويتين قطر كل واحدة منهما بمقدار عرض إصبع واحدة مقتدرة. ثم يدير على إحدى النقطتين من الخط الآخر دائرة أخرى مساوية لكل واحدة من الدائرتين الأوليين، ثم يقسم هذا الخط الذي أدار عليه الدائرة الواحدة الذي بين مركز الدائرة وبين النقطة الأخرى الباقية المفروضة على هذا الخط بقسمين يكون نسبة الصغر منهما إلى الأعظم كنسبة سمك الخشبة إلى المسافة التي بين الحائطين. وليحرر هذه المسافة بعود مستقيم يمد بين الحائطين ويتحرى أن يكون قائماً على كل واحد منهما قياماً معتدلاً. فإذا قسم هذا الخط على هذه النسبة فليكن القسم الأعظم النظير للمسافة التي بين الحائطين يلي مركز الدائرة المرسومة على هذا الخط، فإذا تحررت هذه القسمة فليدر على نقطة القسمة دائرة أخرى مساوية لكل واحدة من الدوائر التي تقدمت. فيكون نسبة الخط الذي بين مركزي الدائرتين المتباعدتين اللتين على الخط الأول الغير مقسوم إلى الخط الذي بين مركزي الدائرتين المتقاربتين اللتين على الخط المقسوم كنسبة سمك الخشبة مع بعد المسافة التي بين الحائطين إلى هذا البعد بعينه على التركيب.
ثم ينبغي لهذا المعتبران يثقب في الخشبة ثقبين أحدهما من الدائرة المتطرفة من الدائرتين المتقاربتين إلى الدائرة المتطرفة المقابلة لها من الدائرتين المتباعدتين في السطح الآخر. وليكن الثقب مستديراً أسطوانياً، ويكون محيطه مع محيطي الدائرتين المتقابلتين، فيكون هذا الثقب قائماً على السطحين المتوازيين على زوايا قائمة. وليكن الثقب الآخر ممتداً من الدائرة التي في موضع قسمة الخط إلى الدائرة الأخرى المتطرفة أيضاً عن الدائرتين المتباعدتين اللتين في السطح الآخر، ويكون محيط هذا الثقب مع محيطي الدائرتين، فيكون هذا الثقب مائلاً على السطحين المتوازيين.
فإذا تحرر هذان الثقبان فليثقب في الحائط المقابل للحائط الأبيض ثقباً مربعاً بمقدار تربيع الخشبة، ويركب الخشبة في هذا الثقب، ويجعل السطح الذي فيه الدائرتان المتقاربتان مما يلي خارج البيت، ويتحرى عند تركيب الخشبة أن يكون سطحها موازياً لسطح الحائط الأبيض، ويكون بعد سطحها عن سطح الحائط الأبيض هو بمقدار البعد الذي بين الحائطين الذي بحسبه كانت قسمة الخط على التحرير. فإذا تحرر وضع الخشبة سد ما يفضل من الخلل حول الخشبة ومكنت الخشبة في موضعها تمكيناً وثيقاً. وإن فضل سمك الحائط على سمك الخشبة حذف ما يفضل من داخل البيت على الاريب حتى يصير بقية الثقب منخرطاً، وإن حصل سمك الخشبة من أول الأمر مساوياً لسمك الحائط كان أجود.
فإذا أحكم تركيب الخشبة فليعتمد المعتبر عوداً مستقيماً في غاية الاستقامة ويكون غلظه مساوياً لغلظ الثقب القائم الذي في الخشبة. وإن اعتمد عوداً مستقيماً أغلظ من سعة الثقب وخرطه في الشهر حتى يصير غلظه بمقدار سعة الثقب على التحرير كان أولى ويكون متساوي الغلظ. فإذا تحرر هذا العود فليحدد طرفه تحديداً منخرطاً حتى يصير نقطة رأسه هي طرف سهم العود بالقياس إلى الحس . ثم يداخل هذا العود في الثقب القائم ويحركه في الثقب إلى أن يلقى طرفه الحاد سطح الحائط الأبيض. فإذا لقي سطح هذا الحائط يعلم على موضع طرفه نقطة، فتكون هذه النقطة على استقامة سهم الثقب القائم. فإذا علم هذه النقطة فليخرج العود من الثقب.
ثم يدخل المعتبر البيت الذي يفضي إليه هذا الثقب، ويجعل بصره عند محيط الثقب القائم، وينظر إلى الحائط الأبيض ويتفقد نهاية ما يدركه بصره من ذلك الحائط وابعد موضع يدركه عن النقطة المفروضة على الحائط الأبيض التي على استقامة سهم الثقب القائم. فيتقدم إلى من يتعلم على ذلك الموضع ويشير إليه بالصفة نقطة. ثم إن أدار المعتبر بصره حول محيط الثقب، ونظر من كل ناحية منه إلى الحائط الأبيض، وتفقد أبعد موضع يدركه من سطح الحائط عن النقطة المفروضة، فإنه يجد أبعد الأبعاد التي يدركها بصره عن النقطة المفروضة المقابلة لمركز الثقب أبداً متساوية، لأن هذه خاصة الثقوب المستديرة.
وليجعل المعتبر النقطة الأولى من الحائط الأبيض مركزاً، ويدير ببعد البعد الأبعد الذي يدركه بصره من سطح الحائط ويعلم عليه دائرة.

ثم يجعل بصره ثانية على محيط الثقب وينظر إلى الدائرة المرسومة: فإنه يدرك محيط الدائرة ولا يدرك زيادة عليه. وليدر بصره حول محيط الثقب وينظر إلى محيط الدائرة المرسومة: فإن لم ير غير محيط الدائرة فالدائرة في حقها، وإن أدرك بصره زيادة على محيط الدائرة، أو لم يدرك محيط الدائرة من بعض الجهات أو من جميع الجهات، فليس الدائرة في حقها. فإن عرض ذلك فليغير الدائرة ويعتبرها ببصره إلى أن يتحرر وضعها ويكون إذا أدار بصره حول محيط الثقب رأي محيط الدائرة ولم ير زيادة عليه.
فإذا تحرر وضع هذه الدائرة فلينتقل إلى الثقب المائل، فيجعل بصره عند محيط هذا الثقب وينظر إلى الحائط الأبيض: فإنه يدرك الدائرة المرسومة في هذا الحائط ويدرك محيطها ولا يدرك زيادة عليها. وإذا أدار بصره حول محيط الثقب المائل، ونظر إلى الدائرة وإلى أبعد موضع يدركه من الحائط، أدرك الدائرة وأدرك محيطها ولم يدرك زيادة عليها ولا نقصاناً منها.
وذلك أن نسبة الخط الذي بين مركزي الدائرتين المتباعدتين اللتين في السطح الداخل من الخشبة إلى الخط الذي بين مركزي الدائرتين المتقابلتين اللتين في السطح الخارج من الخشبة، كنسبة الخط الممتد على استقامة سهم الثقب القائم من مركز الدائرة الداخلة إلى سطح الحائط الأبيض، إلى القسم من هذا الخط الذي بين الحائطين.
فيكون سهم الثقب المائل إذا امتد على استقامة فإنه يلقى سهم الثقب القائم على النقطة بعينها التي عليها يلقى سهم الثقب القائم على السطح الأبيض.
ومركز الدائرة المرسومة في الحائط الأبيض هي النقطة التي عليها يلقى سهم الثقب القائم سطح الحائط الأبيض.
فسهم الثقب المائل إذا امتد على استقامة فإنه يلقى سطح الحائط الأبيض على مركز الدائرة المرسومة في الحائط بعينها.
وإذا كان ذلك كذلك كانت نسبة الخط الذي بين مركز الدائرة المرسومة في سطح الحائط وبين منتصف سهم الثقب المائل، إلى النصف الآخر من سهم الثقب المائل، كنسبة الخط الذي ين مركز الدائرة المرسومة في الحائط وبين منتصف سهم الثقب القائم، إلى النصف الآخر من سهم الثقب القائم لأن الخط الذي يصل بين منتصفي السهمين مواز للخط الذي يصل بين مركزي الدائرتين .
وهذه النسبة هي نسبة نصف قطر الدائرة المرسومة في الحائط إلى نصف قطر دائرة الثقب القائم التي تلي داخل البيت لأن محيط الدائرة المرسومة في الحائط يظهر للبصر من محيط دائرة هذا الثقب، والبصر ليس يدرك شيئاً إلا على سموت الخطوط المستقيمة ، فهو يدرك محيط الدائرة التي في الحائط على سموت الخطوط المستقيمة التي تمر بالنقط المتقاطرة في محيطي دائرتي الثقب وتنتهي إلى محيط الدائرة التي في الحائط. والبصر يدرك محيط الدائرة التي في الحائط من جميع محيط دائرة الثقب القائم. فتكون جميع الخطوط المستقيمة التي تمر بمحيطي دائرتي الثقب القائم ومحيط الدائرة التي في الحائط تتقاطع عند وسط سهم هذا الثقب لأن دائرتي الثقب متساويتان والخطوط المتقاطرة تتقاطع على وسط سهم الثقب.
فلذلك تكون نسبة الخط الذي بين مركز الدائرة المرسومة في الحائط وبين منتصف سهم الثقب القائم إلى نصف سهم الثقب القائم، كنسبة نصف قطر الدائرة التي في الحائط إلى نصف دائرة الثقب الداخلة.
ونسبة الخط الذي بين مركز الدائرة المرسومة في الحائط وبين منتصف سهم الثقب القائم إلى نصف سهم الثقب القائم، كنسبة الخط الذي بين مركز الدائرة التي في الحائط وبين منصف سهم الثقب المائل إلى نصف سهم الثقب المائل.
فتكون نسبة الخط الذي بين مركز الدائرة التي في الحائط وبين منتصف سهم الثقب المائل، كنسبة نصف قطر الدائرة المرسومة في الحائط إلى نصف قطر الدائرة الداخلة من الثقب المائل لن دائرة الثقب المائل مساوية لدائرة الثقب القائم.

وإذا كان كذلك فغاية ما يظهر للبصر من سطح الحائط عند كون البصر على محيط الثقب المائل هو محيط الدائرة المرسومة على سطح الحائط المقابلة للثقب القائم.فإن أدرك المعتبر عند وضع بصره على محيط الثقب المائل شيئاً من الحائط خارجاً عن الدائرة، فإن ذلك لأن سطح الخشبة ليس بمواز لسطح الحائط، أو البعد الذي بين الخشبة وبين الحائط ليس هو البعد بعينه الذي بحسبه كانت قسمة الخط الذي بين سطح الخشبة. فإن كان ذلك فليحرر وضع الخشبة، وينظر في الثقبين القائم والمائل إلى أن يصح وضع الخشبة ويصير الذي يدركه البصر من الثقبين جميعاً هو الدائرة المرسومة في سطح الحائط من غير زيادة ولا نقصان. لأنه إذا تحرر وضع الخشبة لم يمكن أن يدرك البصر من الثقبين إلا الدائرة بعينها التي في الحائط فقط من غير زيادة ولا نقصان.
فإذا تحرر وضع الخشبة وأحكم تركيبها في الثقب الذي هي فيه واستوثق منها، فليثقب المعتبر في الحائط الأبيض في نفس الدائرة المرسومة فيه ثقباً مستديراً نافذاً إلى البيت الذي من وراء هذا الحائط يكون محيطه محيط الدائرة المرسومة في سطح الحائط ويكون امتداده في جسم الحائط منخرطاً كلما دخل اتسع. فإذا فرغ المعتبر من هذا الثقب فليسده بجسم أبيض نقي البياض كثيفاً، كثوب أبيض أو حجر أو قرطاس، ولا يكون هذا الجسم ثقيلاً، ويسد به جميع الثقب ، ويسوي سطح هذا الجسم مع سطح الحائط.
ثم يراعي المعتبر ضوء الصباح، فإذا أضاء النهار، وقوي الضوء على الحائط الأبيض المنكشف للضوء، وقبل أن يشرق عليه ضوء الشمس، دخل البيت الذي فيه الثقبان واغلق الباب وأسبل على الباب ستراً صفيقاً حتى لا يدخل من الباب ولا من ثقوبه شيء من الضوء، ثم يسد الثقب المائل حتى لا يبقى في البيت ضوء إلا الضوء الذي يدخل من الثقب القائم فقط، ثم يقابل هذا الثقب بجسم كثيف نقي البياض: فإنه يجد عليه ضوءاً ما بحسب قوة الضوء الذي على الحائط الأبيض وعلى الجسم الأبيض الذي سد به الثقب، ويجد الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف مستديراً ومنخرطاً كمثل انخراط الضوء الذاتي الذي يخرج من الأجسام المضيئة من ذواتها وينفذ في الثقوب الأسطوانية.
وإذا جعل المعتبر بصره في موضع من هذا الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف في داخل البيت، ونظر إلى الحائط الأبيض، فليس يرى إلا الجسم الأبيض الذي يسد به الثقب الذي في الحائط فقط. فإذا تبين للمعتبر هذا الضوء فليتقدم بان يرفع الجسم الأبيض الذي سد به الثقب، ويغلق باب البيت الذي ينفذ إليه هذا الثقب: فإن الضوء الذي كان يظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت النافذ من الثقب القائم يبطل ولا يظهر منه شيء. فإن ظهر على هذا الجسم شيء من الضوء فهو بحسب ما يصح أن يصدر الضوء الذي يصل إلى محيط داخل الثقب القائم.
فإذا ظهر على الجسم الكثيف الذي داخل البيت ذي الثقبين في هذه الحال شيء من الضوء، فينبغي للمعتبر أن يصبغ محيط داخل الثقب القائم الذي يعتبر به الضوء بصبغ أسود لئلا يصدر عن محيط داخل هذا الثقب إلى داخل البيت الذي يليه ضوء ظاهر. وإذا صبغ محيط داخل الثقب القائم بصبغ اسود لم يظهر على الجسم الكثيف المقابل للثقب القائم عند رفع الجسم الأبيض المضيء الذي كان يسد الثقب المقابل له شيء من الضوء.
فإذا بطل الضوء الذي كان يظهر على الجسم الكثيف المقابل للثقب القائم عند رفع الجسم المضيء الذي كان يسد الثقب المقابل له، فينبغي للمعتبر أن يتقدم برد ذلك الجسم الأبيض، ويسد الثقب الذي كان بالحائط به كما كان: فإنه يعود الضوء ويظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت كما كان يظهر في الحالة الأولى.
فتبين من هذا الاعتبار أن الضوء الذي نفذ من الثقب القائم وظهر على الجسم الكثيف إنما هو ضوء ورد إليه من الضوء العرضي الذي على الجسم الأبيض المقابل فقط.

وفي وقت رفع هذا الجسم وفتح الثقب المقابل وبطلان الضوء الذي كان يظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت يكون بين هذا الجسم الكثيف الذي في داخل البيت الذي بطل منه وبين بقية الحائط الأبيض المنكشف للضوء من جميع نواحي الحائط، وبين كثير من الجدران المضيئة، وبين جميع الجو المضيء، هواء متصل ومسافات كثيرة منحنية ومنعرجة ليس يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة . ولم يتغير إلا الموضع المقابل للثقب القائم على سمت الاستقامة فقط. ومع ذلك فليس يظهر الضوء في داخل البيت ما دام الثقب الذي في الحائط مفتوحاً وليس يقابل الثقب القائم على استقامة جسم كثيف مضيء. وإذا رد الجسم الأبيض وسد به الثقب الخارج ظهر الضوء على الجسم الذي في داخل البيت.
ثم إن تحري المعتبر المسافة المستقيمة التي بين الثقب القائم وبين الثقب الذي في الحائط، فيقطعها بجسم كثيف نقي البياض في أي المواضع شاء من المسافة التي بينهما من خارج الثقب، وكان الضوء مشرقاً على هذا الجسم، فإن الضوء يظهر على الجسم الذي في داخل البيت. وإن تحرى المعتبر المسافة المستقيمة التي بين طرف الثقب القائم من داخل البيت وبين الجسم الذي يظهر عليه الضوء، فقطعها بجسم كثيف في أي موضع شاء منها، فإن الضوء يبطل من الجسم الأول ويظهر على الجسم الثاني.
فمن الاعتبار بظهور الضوء على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت عند كون الجسم المضيء بالضوء العرضي في الثقب الذي في الحائط الأبيض، وبطلان الضوء من هذا الجسم الكثيف عند رفع الجسم المضيء الذي في الثقب، ويتبين أن الضوء الذي يظهر في داخل البيت على الجسم الكثيف المقابل للثقب له إنما هو ضوء يرد إليه من الضوء الذي في ذلك الجسم المضيء الذي في الثقب، وانه ليس يرد إليه في تلك الحال ضوء إلا من ذلك الجسم فقط.
ومن الاعتبار بظهور الضوء على الجسم الكثيف الذي فيداخل البيت عند حصول الجسم المضيء في مقابلته على الاستقامة في وقت كونه في الثقب الذي في الحائط وعند كونه في أي المواضع كان من المسافة المستقيمة التي بين الثقبين من خارج البيت، وبطلان الضوء الذي على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت عند رفع الجسم المضيء المقابل له مع وجود الضوء على بقية الحائط الأبيض وفي جميع الهواء المضيء بضوء النهار المتصل بالهواء الذي في الثقب وعلى كثير من الجدران المضيئة التي بينها وبين الثقب القائم هواء متصل، يتبين أن الضوء الذي يصدر عن الضوء العرضي ليس يصدر إلا على سمت مستقيم: لأن بين الجسم الكثيف الذي في داخل البيت الذي يظهر عليه الضوء وبين بقية الحائط الأبيض المضيء بضوء النهار، وبين كثير من الجدران المضيئة، وبين الهواء المضيء بضوء النهار، مسافات كثيرة بلا نهاية منحنية ومنعرجة ومقوسة متصلة بين الجسم الكثيف الذي في داخل البيت وبين هذه المواضع يصح أن تمتد في الهواء المتصل بينه وبين المواضع، ولم يبطل عند رفع الجسم الأبيض المقابل للثقب إلا الضوء الذي عند أطراف المسافات المستقيمة فقط التي بين الجسم الذي في داخل البيت وبين الضوء.
وأيضاً فإن المعتبر إذا تأمل الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت عند حصول الجسم الأبيض مقابلاً له وجده أضعف من الضوء العرضي الذي في الجسم الخارج المقابل له. ثم إذا باعد المعتبر هذا الجسم الكثيف عن الثقب على سمت المقابلة فإنه يجد الضوء الذي يظهر عليه إذا بعد عن الثقب قد ضعف. وكلما ازداد بعداً عن الثقب ازداد الضوء الذي يظهر عليه ضعفاً.
وإذا اعتبر المعتبر جميع هذه المعاني، فليسد الثقب القائم ويفتح الثقب المائل ويسود سطح داخل الثقب المائل ويقابله بالجسم الكثيف ويسد الثقب الذي في الحائط الأبيض: فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت.

وكذلك إن قطه المسافة المستقيمة التي بين الثقب الذي في الحائط وبين الثقب المائل بالجسم الأبيض في أي موضع شاء منها ، وكان الضوء مع ذلك مشرقاً على ذلك الجسم الأبيض، فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت. ثم إذا رفع الجسم الأبيض المضيء المقابل للثقب المائل من خارج الضوء يبطل من الجسم الكثيف الذي في داخل البيت ولا يظهر عليه شيء من الضوء. وإذا أعاد الجسم الأبيض إلى الثقب المقابل أو إلى المسافة المستقيمة التي بينه وبين الثقب المائل عاد الضوء إلى الجسم الكثيف الذي في داخل البيت كمثل الحال في الثقب القائم . فيتبين من هذا الاعتبار أن الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف الذي في داخل البيت المقابل للثقب المائل ليس يرد إلا على سمت الاستقامة وأنه ليس يرد إليه إلا من الجسم المقابل له فقط.
فإن باعد المعتبر الجسم الكثيف الذي في داخل البيت عن الثقب المائل أيضاً عند اعتبار هذا الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه يضعف، وكلما بعد عن الثقب ازداد الضوء الذي عليه ضعفاً.
ثم ينبغي للمعتبر أن يفتح الثقبين جميعاً القائم والمائل في وقت واحد، ويقابل كل واحد منهما بجسم كثيف أبيض، ويسد الثقب الذي في الحائط بالجسم الأبيض:فإنه يجد الضوء يظهر على الجسمين جميعاً المقابلين للثقبين القائم والمائل في وقت واحد . وقد تبين أن كل واحد من هذين الموضعين ليس يرد إليه ضوء عند كون الجسم المضيء في الثقب إلا من هذا الجسم بعينه فقط، إذا كان الهواء الذي بينه وبين كل واحد من الثقبين القائم والمائل متصلاً لا يقطعه شي من الأجسام الكثيفة. فيتبين من هذا الاعتبار أن الضوء الذي يظهر في داخل البيت في الموضعين جميعاً في وقت واحد إنما هو ضوء يرد إلى الموضعين جميعاً معاً من ذلك الجسم المضيء المقابل لهما الذي في الثقب.
وكذلك إن ثقب المعتبر في الخشبة الموضوعة عدة ثقوب كل واحد منها مقابل للثقب الذي في الحائط الأبيض وعلى النسبة التي تقدم ذكرها، وفتح جميع الثقوب، وقابل جميعها بجسم كثيف فسيح ، وجد على ذلك الجسم أضواء بعدد الثقوب في وقت واحد، ويكون كل واحد من تلك الأضواء مقابلاً لذلك الجسم المضيء الذي في الثقب الخارج على سمت الاستقامة. فيتبين من هذا الاعتبار أن الضوء يشرق من ذلك الجسم المضيء بضوء النهار في جميع الجهات التي تقابله على سموت مستقيمة، وإن إشراق الضوء منه في جميع الجهات معاً ودائماً ما دام مضيئاً.
وإذا تحرر للمعتبر هذا المعنى من ضوء النهار يراعي حينئذ الموضع إلى أن يشرق ضوء الشمس على ذلك الحائط فيعتبره على الوجوه التي تقدمت، فإنه يجد الحال في ضوء الشمس كمثل الحال في ضوء النهار، إلا أنه يجد الضوء الذي يرد من ضوء الشمس أقوى وأبين.
وكذلك إذا اعتبر ضوء القمر وجده على هذه الصفة، وكذلك إذا اعتبر ضوء النار وجده على هذه الصفة أيضاً. فإذا أراد ضوء النار فليعتمد ناراً قوية ويقابل بها الحائط الأبيض ليضيء على مثل ما تقدم، ويغلق باب البيت الذي فيه الثقبان ولا يترك في البيت شيئاً من الضوء، ويعتبر ضوء النار كمثل الاعتبار الذي تقدم: فإنه يجد الضوء يشرق من ضوء النار الذي يظهر على الجسم المسدود به الثقب على مثل إشراق الأضواء ولا يخالفها إلا في القوة والضعف فقط.
فيتبين من جميع هذه الاعتبارات بياناً واضحاً ان الأضواء العرضية التي في الأجسام الكثيفة يشرق منها ضوء في جميع الجهات التي تقابلها، وأن إشراق الضوء منها ليس يكون إلا على سموت مستقيمة، وأن الضوء الذي يصدر عن الضوء العرضي يكون أضعف منه، وكلما بعد من الضوء الذي يصدر ازداد ضعفاً.
فلنسم هذه الأضواء، أعني الأضواء التي تصدر عن الأضواء العرضية على طريق الانعكاس كما تنعكس عن الأجسام الصقيلة، بل إنما تصدر عنها الأضواء الأول الذاتية عن الأجسام المضيئة من ذواتها، وما كان من هذه الأجسام صقيلاً أو كانت فيه أجزاء صقيلة، وأشرق عليها ضوء ما، فإن ذلك الضوء ينعكس منها ومع ذلك يصدر عنها ضوء ثان كما يصدر عن الأجسام المضيئة من ذواتها. فلنبين الآن هذه الحال أيضاً بالاستقراء والاعتبار، وذلك كما نصف:

يتحرى المعتبر بيتاً يدخل إليه ضوء الشمس من ثقب مقتدر ليس بكل الفسيح، ويكون الضوء مع ذلك ينتهي إلى أرض البيت، ويراعي دخول ضوء الشمس إلى هذا البيت. فإذا دخل ضوء الشمس وظهر في أرض البيت أغلق الباب ولم يترك للضوء سبيلاً إلى البيت إلا الضوء الذي يدخل من الثقب:فإنه يجد البيت في هذه الحال مضيئاً بذلك الضوء ويجد الضوء في جميع نواحيه، ويجد كلما كان من جدران البيت قريباً من ذلك الضوء فإن الضوء الذي ظهر عليه يكون أقوى، وكلما كان من الجدار بعيداً فإن الضوء الذي يظهر عيه يكون أضعف. ثم يعتمد المعتبر مكوكاً أو جسماً أجوف فيتلقى به ذلك الضوء ليصير جميع الضوء في داخل ذلك الجسم. فعند هذه الحال يجد البيت مظلماً والضوء الذي كان يظهر على الجدار بطل، إلا ما لعله يقابل الضوء الذي في داخل الجسم الأجوف من علو البيت. ثم إذا رفع ذلك الجسم عاد البيت مضيئاً وظهر الضوء على جميع نواحي البيت. فتبين من هذا الاعتبار أن الضوء الذي يظهر في جميع نواحي البيت إنما هو ضوء ثان يشرق عليه من ضوء الشمس الذي يظهر في أرض البيت.
ثم يعتمد المعتبر صفيحة من الفضة ويصقلها حتى تصير كالمرآة. وإنما الاعتبار بالفضة أبين من الاعتبار بالمرايا الحديد لأن المرايا الحديد تكسف الأضواء بألوانها لأن ألوانها مظلمة فلا تكون الأضواء المشرقة عنها بينة إلا المنعكس فقط لقوته، وسنبين العلة في ذلك عند كلامنا في الانعكاس. فيضع المعتبر الصفيحة الفضة في موضع ضوء الشمس، وليتحر أن يكون على مقدار الضوء أو أوسع منه، فإن زاد الضوء عليها ضيق الثقب ليصير جميع الضوء على الصفيحة. فإذا صار الضوء على الصفيحة فإنه يجد الضوء ينعكس عنها إلى موضع واحد مخصوص، لأن الانعكاس ليس يكون إلا على زوايا متساوية، وسنبين هذا المعنى عند كلامنا في الانعكاس. ويجد هذا الضوء في الجهة المقابلة للجهة التي فيها الشمس، ويظهر ضوء هذا الانعكاس على الجدار المقابل للثقب أو على سقف البيت إن كان البيت واسعاً، ويجد هذا الضوء قوياً قريب الشبه والقوة من ضوء الشمس وأقوى من جميع الضوء الذي في سائر نواحي البيت، ويوجد هذا الضوء محصوراً متناهياً. فإذا ظهر هذا الضوء، فليتأمل المعتبر جميع نواحي البيت: فإنه يجده مضيئاً، ويجد الضوء الذي فيه أقوى وأبين مما كان ، من أجل بياض الصفيحة.
وليس لذلك الضوء سبب إلا ضوء الشمس الذي هو في هذه الحال على الصفيحة، لأنه إذا تلقى هذا الضوء بالجسم الأجوف على الوجه الذي تقدم خفي الضوء الذي في جميع نواحي البيت . وليس يجوز أن ينعكس الضوء عن الصفيحة إلا إلى موضع واحد مخصوص فقط، وهو الموضع الذي يظهر فيه ضوء الانعكاس في هذه الحال هو متميز منفرز ومع ذلك أقوى من جميع الضوء الذي في جميع نواحي البيت. فليس الضوء الذي يظهر في جميع نواحي البيت هو ضوء الانعكاس.
ثم إن اعتمد المعتبر جسماً كثيفاً أبيض فقربه إلى الصفيحة وقابلها به على التاريب من غير جهة الانعكاس وجد على الجسم الكثيف ضوءاً بيناً. ثم إن بعد هذا الجسم عن الصفيحة ضعف الضوء الذي عليه. وإذا قربه أيضاً قوي الضوء الذي يظهر عليه. وإن أراد الجسم حوالي الصفيحة من جميع جهاتها غير جهة الانعكاس، وقابل به الصفيحة، وجد الضوء يظهر عليه في جميع الجهات، ومع ذلك يجد الضوء المنعكس على حاله.
ثم إذا رفع الصفيحة وجد الضوء أيضاً في جميع نواحي البيت لا يبطل منه إلا الضوء المنعكس فقط. وإن جعل في موضع الضوء جسماً أبيض نقي البياض غير صقيل وجد الضوء في جميع نواحي البيت قد قوي وزاد، ولا يجد في البيت ضوءاً منعكساً كما كان يجده عن الصفيحة الصقيلة. وإن رفع ذلك الجسم وجعل مكانه جسماً أسود أو مظلماً فإنه يجد الضوء في جميع نواحي البيت قد انكسف وضعف.
فيتبين من هذا الاعتبار أن الضوء الذي يظهر في جميع نواحي البيت هو ضوء ثان يصدر عن الضوء العرضي الذي حصل في أرض البيت من ضوء الشمس، وأن إشراقه على جميع نواحي البيت ليس هو بالانعكاس.
وكذلك إن اعتبر ضوء القمر على هذه الصفة وجده ينعكس، ومع ذلك يشرق في جميع الجهات كما يشرق الضوء عن ضوء الشمس الذاتي.

وكذلك ضوء النار الذي يشرق على الأرض وعلى الجدار وعلى الأجسام الكثيفة إذا اعتبر وجد الضوء يشرق منه في جميع الجهات التي تقابله، ومع ذلك ينعكس عن الأجسام الصقيلة كما ينعكس جميع الأضواء.
فيتبين من هذا الاعتبار أن الضوء يشرق عن الأضواء العرضية على سموت مستقيمة في جميع الجهات المقابلة لها كما تشرق الأضواء الذاتية، وان هذا الإشراق ليس هو بالانعكاس، وان ما كان من هذه الأضواء على الأجسام الصقيلة فإن الضوء يشرق منها في جميع الجهات كما يشرق عن غيرها ومع ذلك ينعكس عنها على الجهة التي تخص الانعكاس، وان الضوء الذي ينعكس عن الأجسام الصقيلة يكون أقوى من الضوء الذي يشرق عنها في جميع الجهات.
وأيضاً فإنه يلزم في الأضواء العرضية التي تظهر في الأجسام الكثيفة أن يكون كل جزء منها وإن صغر فإن يشرق منه في جميع الجهات، وإن تعذر اعتبار الأجزاء الصغار على انفرادها وخفيت أضواؤها عن الحس. لأن كل واحد من هذه الأضواء هو طبيعة واحدة ولا فرق بين الأجزاء الكبار منها وبين الأجزاء الصغار في الكيفية وإنما الفرق بينهما في الكمية، فالذي يعرض عن الأجزاء الكبار من جهة كيفيتها يلزم في كيفية صغار الأجزاء ما دامت حافظة لصورة نوعها. فإن لم يظهر ضوء الأجزاء الصغار للحس منفردة أو لم يقدر على تمييزه منفرداً فلقصور الحس عن إدراك ما تناهي في الضعف والصغر. وأريد بأجزاء الضوء العرضي الأضواء التي في أجزاء الجسم المضيء بالضوء العرضي أي ضوء كان.
وأيضاً فإننا نقول عن الأضواء المنعكسة ليس تمتد من موضع الانعكاس إلا على خطوط مستقيمة.
واعتبار هذا المعنى يسهل، وذلك بان يعتمد المعتبر في وقت ظهور الضوء المنعكس على موضع من المواضع جسماً كثيفاً فيقطع به المسافة المستقيمة التي بين السطح الصقيل الذي عنه انعكس الضوء وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء المنعكس: فإنه يجد الضوء المنعكس يظهر على الجسم الكثيف الذي قطع به تلك المسافة ويبطل من الموضع الأول. وإذا حرك الجسم الكثيف في طول المسافة المستقيمة الممتدة بن السطح الصقيل وبين موضع الضوء المنعكس وجد الضوء المنعكس أبداً على الجسم الذي تحرك في تلك المسافة. وإذا أخرج هذا الجسم من المسافة المستقيمة ظهر الضوء في الموضع الأول . وإذا قطع بعض المسافة المستقيمة بجسم صغير بطل جزء من الضوء المنعكس وظهر على ذلك الجسم الصغير ضوء منعكس.
وإذا كان موضع الضوء المنعكس قريباً من السطح الصقيل، وداخل المعتبر في المسافة المستقيمة التي بينهما ميلاً دقيقاً معترضاً، ظهر في الضوء المنعكس ظل ذلك الميل ، وظهر على الميل ضوء منعكس. وإن حرك الميل في المسافة المستقيمة التي بينه وبين ظله وجد الظل أبداً في مكانه ووجد الضوء المنعكس أبداً على الميل. وإذا اخرج الميل من تلك المسافة عاد الضوء إلى موضع الظل. وقد يمكن أن يحرر المسافة المستقيمة التي بين الميل وبين الظل بمسطرة تمتد فيما بينهما ويحرك الميل في طولهما. وإن جعل المعتبر الميل في جهة غير تلك الجهة من محيط الضوء المنعكس، وداخله في الضوء المنعكس، وجد حاله أبداً على صفة واحدة ، اعني انه يجد له ظلاً في الضوء المنعكس. وإذا حركه في المسافة المستقيمة التي بينه وبين ظله وجد الظل في موضعه.
وبين السطح الصقيل وبين موضع الضوء المنعكس مسافات كثيرة منحنية ومنعرجة ومقوسة لا يقطعها شيء من الجسام الكثيفة. فلو كان الضوء ينعكس على غير الخطوط المستقيمة لكان الضوء المنعكس يظهر في موضعه مع قطع المسافة المستقيمة التي بينه وبين السطح الصقيل بالجسم الكثيف.وإذا كان ليس يظهر الضوء في موضع الانعكاس إذا قطعت المسافة المستقيمة التي بينه وبين السطح الصقيل الذي انعكس عنه الضوء بالجسم الكثيف مع اتصال المسافات الباقية، ويظهر على الجسم الكثيف من تلك المسافة ظهر الضوء المنعكس في موضعه، يتبين من هذه الحال أن الضوء ليس ينعكس عن الجسم الصقيل إلا على الخطوط المستقيمة. وإذا اعتبر المعتبر الأضواء المنعكسة عن الأجسام الصقيلة المختلفة الأشكال والهيئات وجد الضوء ليس ينعكس عن شيء منها على الخطوط المستقيمة.

فيتبين من هذا الاعتبار بياناً واضحاً أن الأضواء المنعكسة عن الأجسام الصقيلة ليس تنعكس إلا على خطوط مستقيمة.ويتبين من انعكاس الضوء على الجسم الصقيل إلى موضع مخصوص أن الضوء ليس ينعكس إلا على خطوط مستقيمة مخصوصة، لا على جميع الخطوط المستقيمة التي يصح أن تمد من موضع الانعكاس في جميع الجهات.
ونقول أيضاً إن الأضواء التي تنفذ في الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء كالزجاج والماء وأحجار المشفة وما يجري مجراها إذا امتدت بعد نفوذها في هذه الجسام فليس تمتد إلا على خطوط مستقيمة أيضاً .
وقد يمكن أن يعتبر هذا المعنى أيضاً بسهولة ، وذلك يكون بان يعتمد المعتبر جاماً من الزجاج الصافي المشف المستوي السطح أو حجراً من الأحجار المشفة، ويقابل به الشمس في موضع يظهر فيه ضوء الشمس على الأرض أو على الجدار: فإنه يجد له ظلاً على الأرض أو الجدار، ويجد ضوء الشمس مع ذلك ينفذ في الجسم المشف ، ويظهر في ظل ذلك الجسم المشف ضوء ما دون ضوء الشمس الصريح. ثم إذا قطع المعتبر المسافة التي بين هذا الظل وبين الجسم المشف بجسم كثيف بطل الضوء النافذ الذي كان يظهر في الظل، وظهر على الجسم الكثيف. وإذا حرك المعتبر ذلك الجسم الكثيف في طول المسافة المستقيمة التي بين موضع الضوء النافذ وبين الجسم المشف وجد الضوء النافذ أبداً على الجسم الكثيف. وإذا خرج الجسم الكثيف من تلك المسافة المستقيمة ظهر الضوء النافذ في الظل. وإن قرب الجسم المشف من موضع الظل وداخل في المسافة المستقيمة التي بين هذا الضوء النافذ وبين الجسم المشف جسماً كثيفاً دقيقاً ، كالميل وما جرى مجراه، ظهر ظل ذلك الجسم الدقيق في الضوء النافذ. وإذا حرك الجسم الدقيق في المسافة المستقيمة التي بينه وبين ظله وجد الظل أبداً في موضعه. وإن اخرج ذلك الجسم الدقيق من المسافة المستقيمة التي بينه وبين ظله ظهر الضوء في موضع ظله. وإن جعل ذلك الجسم في موضع من المسافة المستقيمة التي بين الضوء النافذ وبين الجسم المشف غير الموضع الأول ، واعتبره على مثل ما اعتبر في الأول وجد الحال مثل الحالة الأولى.
وفيما بين موضع الضوء النافذ في الجسم المشف، الظاهر في ظله في حال اعتباره، وبين الجسم المشف الذي نفذ فيه الضوء مسافات كثيرة مختلفة منحنية ومقوسة ومنعرجة ليس يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة. فلو كان الضوء النافذ في الجسم المشف يمتد بعد مفارقته للجسم المشف على مسافة غير المسافة المستقيمة لقد كان الضوء النافذ يظهر في الظل مع قطع المسافة المستقيمة بالجسم الكثيف. فإذا كان الضوء يبطل عند قطع المسافة المستقيمة بالجسم الكثيف من هذه المسافة رجع الضوء إلى موضعه، دل ذلك على أن الضوء النافذ في الجسم المشف ليس يمتد بعد خرجه من الجسم المشف إلا على خطوط مستقيمة. ويتبين من امتداد الضوء النافذ إلى موضع مخصوص، لا إلى جميع المواضع، أن الضوء النافذ في الجسم المشف إنما يمتد بعد نفوذه على خطوط مستقيمة مخصوصة، لا على جميع الخطوط المستقيمة التي يصح أن تمتد من موضع النفوذ في جميع الجهات.
وامتداد الضوء في نفس الجسم المشف المخالف الشفيف لشفيف الهواء ليس يكون أيضاً إلا على خطوط مستقيمة، إلا أن الخطوط المستقيمة التي عليها يمتد الضوء في الجسم المشف المخالف الشفيف لشفيف الهواء ليس تكون على استقامة الخطوط التي عليها يمتد الضوء في الهواء إلى الجسم المشف ولا على استقامة الخطوط التي عليها يمتد الضوء بعد خروجه من الجسم المشف، إلا إذا كانت الخطوط أعمدة على سطح الجسم المشف: لأن الضوء إذا وصل إلى الجسم المشف المخالف الشفيف لشفيف الجسم الذي هو فيه، ولم يكن قائماً على سطح الجسم المشف الذي وصل إليه، انعطف ولم ينفذ على استقامة. وكذلك إذا خرج من الجسم المشف الذي وصل إليه، ولم يكن قائماً على سطحه الثاني، انعطف أيضاً انعطافاً ثانياً ولم ينفذ على استقامته. وسنبين هذا المعنى من بعد عند كلامنا في الانعطاف بياناً مستقصى.
وأيضاً فإنه إذا اعتبر الضوء الذي في الموضع من الجسم المشف الذي منه يخرج الضوء النافذ فيه وجد هذا الضوء يشرق منه أيضاً ضوء ثان كما يشرق الضوء الثاني من جميع الأقسام المضيئة بالضوء العرضي.

وهذا المعنى يمكن أن يعتبر بالضوء الذي يدخل من الثقب إلى داخل البيت إذا أغلق باب البيت ولم يبق في البيت ضوء سوى الضوء الذي يدخل من الثقب، وجعل الثقب أضيق من الجسم المشف، وقوبل بالجسم المشف الثقب عند دخول ضوء الشمس من الثقب وتحرى أن يحصل جميع الضوء على الجسم المشف: فإنه يجد الضوء ينفذ في الجسم المشف ويظهر في موضع مخصوص من البيت. ثم إن قرب إلى الجسم المشف من ورائه ومن غير المسافة المستقيمة التي يمتد منها الضوء النافذ جسم أبيض كثيف فإنه يظهر عليه ضوء ما. وإذا بوعد ذلك الجسم الأبيض عن الجسم المشف ضعف ذلك الضوء كمثل حال الأضواء الثواني. وإن أدير الجسم الأبيض حول الجسم المشف من جميع جهاته، ولم يدخل في المسافة التي يمتد فيها الضوء النافذ ، وجد عليه هذا الضوء الثاني مع امتداد الضوء النافذ إلى الموضع الذي يخصه.
فقد تبين من جميع ما شرحناه وبيناه بالاستقراء والاعتبار أن إشراق جميع الأضواء إنما هو على سموت خطوط مستقيمة فقط، وإن كل نقطة من كل جسم مضيء ذاتياً كان الضوء الذي فيه أو عرضياً فإن الضوء الذي فيها يشرق منه ضوء على كل خط مستقيم يصح أن يتوهم ممتداً منها في الجسم المشف المتصل بها. فيلزم من ذلك أن يكون الضوء يشرق من كل نقطة من كل جسم مضيء في الجسم المشف المتصل إشراقاً كرياً، أعني على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة في الجسم المشف. ويلزم أن يكون الجسم المشف هواء كان أو غيره إذا أضاء بضوء ما أي ضوء كان فإن الضوء الذي فيه هو ضوء يشرق عليه من كل نقطة من الضوء الذي منه أضاء ذلك الجسم المشف على كل سمت مستقيم يمتد من تلك النقطة في ذلك الجسم. فعلى هذه الصفة يكون إشراق جميع الأضواء من جميع الأقسام المضيئة .
وقد تبين أيضاً ان الأضواء الثواني أضعف من الأضواء التي عنها تصدر، وكلما بعدت هذه الأضواء عن مبادئها ازدادت ضعفاً.وقد تبين أن الأضواء المنعكسة تمتد على خطوط مستقيمة مخصوصة، لا على جميع الخطوط المستقيمة التي تمتد من موضع الانعكاس، وأن الأضواء النافذة في الأجسام المشفة المخالفة الشفيف لشفيف الهواء إنما تمتد بعد خروجها من الأجسام المشفة التي تنفذ فيها على خطوط مستقيمة مخصوصة أيضاً لا على جميع الخطوط المستقيمة التي تمتد من وضع النفوذ.
وأيضاً فإننا نجد كثيراً من الألوان التي في الأجسام الكثيفة المضيئة بضوء عرضي تصحب الأضواء التي تشرق من تلك الأجسام، وتوجد صورة اللون أبداً مع صورة الضوء. وكذلك الأجسام المضيئة من ذواتها توجد أضواؤها شبيهة بصورها التي تجري مجرى الألوان. فإن ضوء الشمس صورته التي تجري مجرى اللون شبيهة بصورة الشمس . وكذلك ضوء النار شبيه الصورة بصورة النار.
فأما صور الألوان التي تصحب الأضواء العرضية فإنها تظهر ظهوراً بيناً إذا كانت الألوان أنفسها قوية، وكانت الأضواء المشرقة عليها قوية، وكان مقابلاً لها أجسام مسفرة الألوان، وكانت تلك الأجسام معتدلة الأضواء. وذلك أن الأجسام المشرقة الألوان ، كالأرجوانية والفرفيرية والصعوية والريحانية وما جرى مجراها، إذا أشرق عليها ضوء الشمس وكان بالقرب منها جدار أبيض أو جسم نقي البياض، وكان الضوء الذي على هذا الجدار معتدلاً، وهو أن يكون في ظل، فإن تلك الألوان المشرقة تظهر صورها على الجدار والأجسام البيض القريبة منها مع الضوء الثاني الذي يصدر عن ضوء الشمس المشرق عليها.
وكذلك أيضاً إذا أشرق ضوء الشمس على روضة خضراء متقاربة النبات، وكان بفنائها جدار نقي البياض، وكان قريباً منها، وكان مستظلاً عن الشمس، فإن خضرة الزرع تظهر على ذلك الجدار.
وكذلك الشجر إذا أشرق عليها ضوء الشمس، وكان مقابلاً لها وبالقرب منها جدار أبيض مستظل، أو كانت أرضها مسفرة اللون، فإن خضرة الشجر تظهر على ذلك الجدار أو على الأرض .وإن اجتاز مجتاز بفناء الرياض أو بفناء الشجر التي قد أشرق عليها ضوء الشمس، وكان المجتاز في الظل، وكان ثوبه نقي البياض، فإن خضرة الرياض أو الشجر تظهر على ثوبه.

وقد يمكن أن يعتبر هذا المعنى في كل وقت على الصفة التي نذكرها:يعتمد المعتبر بيتاً يدخل إليه ضوء الشمس من ثقب فسيح قدره ليس بأقل من عظم الذراع في مثله، ويكون الضوء ينتهي إلى أرض البيت، ويكون البيت ضيقاً متقارب الجدران، وتكون جدرانه نقية البياض. ويراعي دخول الضوء من الثقب: فإذا دخل ضوء الشمس من الثقب وظهر على أرض البيت أغلق الباب وأسبل عليه ستراً صفيقاً حتى لا يدخل البيت ضوء إلا من الثقب. ثم يجعل في موضع الضوء جسماً أرجوانياً، وليمثل به موضع الضوء حتى لا يفضل من الضوء شيء. وليكن سطح الجسم الأرجواني مستوياً ليشتمل الضوء جميع سطحه وتكون صورة الضوء عليه متشابهة: فإنه يجد صورة اللون الأرجواني على جدران البيت من جميع جهاته مع الضوء الثاني الذي يصدر عن ضوء الشمس.
فإن كان البيت فسيحاً ولم يظهر اللون على جدرانه ظهوراً بيناً لبعدها عن موضع الضوء فسيحاً ولم يظهر اللون على جدرانه ظهوراً بيناً لبعدها عن موضع الضوء فليقرب المعتبر إلى موضع الضوء ثوباً أبيض، ولا يولجه في نفس الضوء بل يقربه منه ويقابله به: فإنه يجد صورة اللون الأرجواني على الثوب الأبيض مع الضوء، إلا أنه يجد هذه الصورة أضعف من اللون نفسه، ويجدها ممتزجة بالضوء. وإذا باعد الثوب عن موضع الضوء ازداد هذا اللون الذي يظهر على الثوب ضعفاً، كما يزداد الضوء الممازج له ضعفاً. وإذا أدار الثوب من جميع جهات موضع الضوء الذي فيه الجسم الأرجواني وجد صورة اللون عليه في جميع الجهات . وإن جعل حوالي الضوء عدة أجسام نقية البياض من جميع جهاته، وقابل بكل واحد منها الضوء، وجد صورة اللون على جميع تلك الأجسام وممازجة للضوء.
ثم يرفع الجسم الأرجواني ويجعل مكانه جسماً فرفيرياً ويعتبر لونه على الوجه الذي تقدم: فإنه يجد لونه أيضاً يشرق في جميع الجهات. ثم يرفع الجسم الفرفيري ويجعل مكانه جسماً ريحانياً ويعتبر لونه: فإنه يجده كذلك. وإن جعل موضع الضوء جسماً بأي لون كان من الألوان المشرقة، فإنه يجد لونه يشرق مع الضوء الذي عليه في جميع الجهات. ثم إن جعل في موضع الضوء جسماً أبيض نقي البياض فإنه يجد جميع نواحي البيت قد ازداد ضوءاً كما ذكرنا من قبل وذلك من أجل بياض الجسم الذي في الضوء. ثم إن رفع الجسم الأبيض وجعل مكانه جسماً أسود فإنه يجد البيت قد اظلم وطفئ الضوء الذي كان فيه من أجل سواد الجسم الذي في الضوء.
فيتبين من هذا الاعتبار أن اللون يشرق عن الجسم المتلون المضيء ويمتد في جميع الجهات كما يشرق الضوء الذي في ذلك الجسم، ويكونان أبداً معاً، وتكون صورة اللون ممازجة لصورة الضوء، وأن صورة اللون التي تمتد مع صورة الضوء تكون أضعف من اللون نفسه، وكلما بعدت عن الجسم المتلون ازدادت ضعفاً كمثل ما في الضوء.
فأقول إن هذه الصور التي تظهر على الأجسام المقابلة للجسم المتلون المضيء ليس يدركها البصر بالانعكاس وإنما يدركها البصر كما يدرك الألوان في سطوح الأجسام المتلونة، وإن هذه الصور هي في المواضع التي يدركها البصر فيها: وذلك أن هذه الصور إذا ظهرت للبصر على الجسم المقابل للجسم المتلون، وكان سطح الجسم الذي تظهر عليه الصورة سطحاً مستوياً، ثم انتقل البصر عن موضعه إلى جميع الجهات المقابلة لذلك السطح، فإنه يدرك الصورة من جميع الجهات في ذلك السطح وعلى هيئتها. وإذا كان الجسم المتلون ساكناً، والجسم المقابل له الذي تظهر عليه الصورة ساكناً، وكان السطح الذي تظهر عليه الصورة مستوياً، فإن انعكاس صورة الجسم المتلون عن ذلك السطح المستوي إنما يكون إلى جهة واحدة مخصوصة فقط، لا إلى جميع الجهات المقابلة لذلك السطح وتنعكس عنه أو كان شعاع يخرج من البصر إلى ذلك السطح وينعكس عنه إلى الجسم المتلون، لأن الانعكاس ليس يكون إلا على زوايا متساوية وإلى جهة مخصوصة. وسنبين ذلك عند كلامنا في الانعكاس.
فإذا كان البصر يدرك هذه الصور من جميع الجهات المقابلة للسطح الذي فيه اللون مع سكون هذا السطح وسكون الجسم المتلون فليس إدراك البصر لصورة اللون في السطح الذي تظهر فيه صورة اللون بالانعكاس، وإنما يدركها البصر كما يدرك الألوان في سطوح الأجسام المتلونة.

وأيضاً فإنه إن أخذ المعتبر إناءً من الزجاج الرقيق المشف الأبيض النقي، وجعل فيه شراباً أحمر صافي اللون، وقابل به ضوء الشمس في البيت الذي وصفناه، فإن اعتبار هذه الألوان في المواضع القليلة الضوء يكون أبين. وإن كان الثقب الذي يدخل منه الضوء إلى البيت ضيقاً في اعتبار الجسام المشفة أو ضيق كان أجود، بعد أن لا يكون في غاية الضيق، ثم يجعل في ظل الإناء ثوباُ أبيض، فإنه يجد لون الشراب على ذلك الثوب مع الضوء النافذ في شفيف الزجاج وشفيف ذلك الشراب وممازجاً له، ويجد اللون الذي يظهر على الثوب أرق من لون الشراب وأصفى منه. وإذا بعد الثوب عن الإناء ازداد اللون الذي يظهر عليه رقة وضعفاً.
وكذلك إن جعل في الإناء بدل الشراب ماء متلون أزرق أو أخضر أو غير ذلك من الألوان المشرقة الصافية التي لا تبطل شفيف الماء بالكلية ويمكن أن ينفذ فيها الضوء، ثم اعتبر على الصفحة التي قدمناها، وجد لون ذلك الماء ممتداً مع الضوء النافذ في شفيفه وممازجاً له.
وكذلك إن قرب هذا الإناء الذي فيه الشراب أو الماء الملون إلى ضوء النار في الليل، وقرب إليه من ورائه ثوب أبيض، فإن لون الشراب يظهر على الثوب مع ضوء النار النافذ فيه. وينبغي أن يتحرى المعتبر عند اعتبار ذلك أن لا يشرق على الثوب ضوء قوي من جهة أخرى ، بل يكون في ظل رقيق الضوء.
فيتبين من هذا الاعتبار أن اللون الذي في الأجسام المشفة أيضاً يمتد مع الأضواء النافذة فيه في الهواء المتصل به.
فجميع الأجسام المتلونة الكثيفة والمشفة إذا كان لونها قوياً واعتبرت على الوجه الذي بيناه فإن ألوانها توجد أبداً ممتدة مع الأضواء التي تصدر عنها وممازجة لها. وإذا كان ذلك يوجد أبداً عند الاعتبار ومطرداً في جميع الألوان فهو خاصة طبيعية تخص الألوان. وإذا كان ذلك طبيعياً للألوان فهو يلزم في جميع الألوان قويها وضعيفها. وإذا كانت الألوان تصحب الأضواء وتمتد بامتدادها فهي تصحب جميع الأضواء قويها وضعيفها قليلها وكثيرها. وإن لم يظهر ضعيفها للبصر فلقصور قوة الحس عن إدراك المعاني اللطيفة.
وقد يحتمل أن يكون الهواء والأجسام المشفة تقبل صور الألوان كما تقبل صور الأضواء حضر الضوء معها أم لم يحضر، وتكون الألوان تشرق من جميع الأجسام المتلونة وتمتد في الهواء وفي الأجسام المشفة في جميع الجهات كما تشرق الأضواء، وتكون خاصتها كخاصة الأضواء، ويكون امتدادها في الهواء وفي الأجسام المشفة وانبساطها فيها دائماً حضر الضوء معها أو لم يحضر، ويكون ليس يظهر منها للبصر إلا ما كان مصاحباً للضوء لأن البصر ليس يدرك شيئاً إلا إذا كان مضيئاً.
ويحتمل أن تكون الألوان ليس يصدر عنها هذه الصور ولا تمتد في الهواء ولا يقبلها الهواء إلا بعد إشراق الضوء عليها.
إلا أن الذي ليس يتداخله الشك ولا يقع فيه ريب هو أن صورة اللون وصورة الضوء يصدران معاً عن الأجسام المضيئة المتلونة ويمتدان في الهواء وفي الأجسام المتلونة والمقابلة لها، ويقبلها الهواء والأجسام المشفة وينفذان فيها على جميع السموت المستقيمة التي تمتد من تلك الأجسام المتلونة في ذلك الهواء وفي تلك الأجسام المشفة.

وقد اعتقد قوم أن اللون لا حقيقة له وأنه شيء يعرض بين البصر والضوء كما تعرض التقازيح وليس اللون صورة في الجسم المتلون. وليس الأمر على ما يعتقد أصحاب هذا الرأي. وذلك أن التقازيح إنما تكون بالانعكاس، والانعكاس ليس يكون إلا من وضع مخصوص وليس يكون من جميع الأوضاع، والتقازيح التي تظهر في أرياش بعض الحيوانات إنما هي انعكاس الأضواء عن سطوح أرياش تلك الحيوانات، ولذلك تختلف صورها بحسب اختلاف الأضواء، وهذه الحيوانات إذا ظهر في أرياشها ثم تغيرت أوضاعها من البصر أو تغير وضع البصر منها اختلفت صور التقازيح التي تظهر فيها عند البصر، واختلفت المواضع من أرياشها التي تظهر فيها ألوان التقازيح. وإذا أنعم المعتبر النظر واستقصى التأمل للتقازيح التي تظهر في أرياش الحيوانات، وتلطف في تأملها، وجد كل لون من هذه التقازيح يتغير موضعه من الجسم الذي يظهر عليه عند تغير وضع ذلك الجسم من البصر، أعني الجزء من الريش الذي يظهر فيه اللون من التقازيح، وربما تغيرت كيفية اللون أيضاً عند تغير الموضع . ومع ذلك فإن هذه الحيوانات إذا حصلت في المواضع المغدرة والضعيفة الضوء لم يظهر فيها تلك التقازيح وظهرت ألوانها الأصلية.وليس كذلك الألوان التي في الأجسام المتلونة، لأن الجسم المتلون يدركه البصر من جميع الأوضاع في الوقت الواحد على صورة واحدة. وإن اختلف الذي يظهر على الجسم المتلون باختلاف أوضاع البصر منه من أجل انعكاس الأضواء فإنما يختلف لون ذلك الجسم المتلون باختلاف أوضاع البصر في القوة والضعف فقط، فأما مائية اللون فليس تختلف عند البصر باختلاف الوضع. فليس إدراك البصر للألوان التي يدركها في الأجسام الكثيفة المتلونة بالانعكاس، فليس هذه الألوان كالتقازيح.
ومما يظهر ظهوراً بيناً أن الألوان لها حقيقة وهي صورة في الجسم المتلون وليست شيئاً يعرض البصر والضوء ما يظهر في وجه الإنسان من حمرة الخجل وصفرة الوجل. فإن الإنسان قد يكون ساكن اللون وليس في وجهه حمرة مفرطة، فإذا عرض له الخجل ظهرت في وجهه حمرة لم تكن قبل ذلك، حتى يستدل من حمرة وجهه على خجله . فالناظر يراه في الحالتين قد أدرك في وجهه في الحالة الثانية حمرة لم تكن في وجهه في الحالة الأولى، والضوء الذي على ذلك الوجه قبل الخجل وبعده ضوء واحد، ووضع البصر في الحالتين من ذلك الوجه وضع واحد، وبعده منه بعد واحد، ووضع الوجه أيضاً من الجهة التي منها يرد الضوء إلى الوجه ومن الوجه المضيء الذي منه يرد الضوء والمواضع المضيئة التي منها يرد الضوء إلى ذلك الوجه وضع واحد لم يتغير، وليس للحمرة التي تظهر في الوجه عند الخجل علة غير الخجل، وليس الخجل أمراً من خارج ولا يتعلق بالضوء ولا بالبصر الناظر إلى ذلك الوجه، فالحمرة التي تظهر في وجه الإنسان هي صورة في جسمه لا شيء يعرض بين البصر الناظر إليه وبين الضوء.
وكذلك الرجل قد يكون ساكن اللون قبل الوجل، فإذا بلغه أمر يفزعه ووجل منه وجلاً شديداً ظهرت في لونه صفرة بينة لم تكن قبل الوجل.
فاحمرار الخجل واصفرار الوجل مع تساوي أحوال البصر والمبصر قبل الخجل وبعده وقبل الوجل وبعده في الوضع والبعد والضوء دليل ظاهر على أن اللون صورة في الجسم المتلون وليس هو شيئاً يعرض بين البصر والضوء.فليس اللون على ما أعتقد من رأى اللون لا حقيقة له، وليس هو إلا صورة في الجسم المتلون. وقد يحتمل أن تختلف الآراء ويقع الالتباس في مائية صورة اللون التي في الجسم المتلون، فأما أنيتها وأنها صورة في الجسم لا صورة تعرض من خارج فليس يقع فيه لبس.
وكذلك قد يحتمل أن يكون البصر ليس يدرك حقيقة اللون على ما هي عليه من أجل انه ليس يدرك اللون إلا مع الضوء ومن أجل اختلاف إدراكه للون بحسب اختلاف الأضواء التي تشرق على الجسم المتلون، فأما إن اللون له في نفسه حقيقة فليس يبطل من اجل إدراك البصر له.

وإذ قد تبين ذلك فإننا نقول إن الصورة التي تظهر على الجسم المقابل للجسم المتلون ليس هي شيئاً يعرض بين البصر والضوء ولا بين البصر واللون وإنما هي صورة اللون الذي في الجسم المتلون ممتدة من الجسم المتلون إلى ذلك الجسم المقابل له، وليس امتدادها إلى ذلك الجسم وإلى الجهات المقابلة للجسم المتلون بتوسط البصر ولا من أجل حضور البصر، ولا حصولها على ذلك الجسم من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر. ولا حصولها على ذلك الجسم من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر. وذلك انه قد تبين أن هذه الصور ليس توجد إلا مع الضوء الذي يصدر من الجسم المتلون وممازجة له، وأن هذه الصورة توجد في جميع الجهات التي يشرق عليها ضوء ذلك الجسم، والضوء ليس يشرق من الجسم، ولا من أجل حضور البصر، بل إنما يشرق إشراقاً طبيعياً. وإذا كان الضوء ليس يمتد إلى جميع الجهات المقابلة له من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر، وكانت صورة اللون الذي في الجسم المتلون توجد أبداً ممازجة للضوء الذي يشرق من ذلك الجسم وتوجد في جميع الجهات التي يمتد عليها ذلك الضوء، فليس امتداد صورة اللون إلى جميع الجهات المقابلة للجسم المتلون من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر.
وأيضاً فإنه قد تبين ان البصر يدرك هذه الصور على الجسم المقابل للجسم المتلون بالانعكاس. وقد تبين أن اللون الذي في الجسم المتلون هو صورة في الجسم المتلون لا شيء يعرض من أجل البصر.
وإذا كان اللون صورة في الجسم المتلون، وليس لون الجسم المتلون من أجل البصر ولا بتوسط البصر، وكانت صورة هذا اللون تمتد إلى الجهات المقابلة للجسم المتلون لا من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر، وكان البصر يدرك هذه الصورة على الجسم المقابل للجسم المتلون لا بالانعكاس بل كما يدرك الألوان في الأجسام المتلونة، فصورة اللون إذن التي يدركها البصر على الجسم المقابل للجسم المتلون هي صورة في سطح الجسم المقابل للجسم المتلون هي صورة في سطح الجسم المقابل للجسم المتلون لا شيء يعرض بين البصر والضوء ولا بين البصر واللون، وليس حصولها على ذلك الجسم من أجل حضور البصر ولا بتوسط البصر.وإذا كان جميع ذلك كذلك فإن كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة الضوء واللون اللذين فيه تكون أبداً ممتدة في جميع الجهات المقابلة لذلك الجسم في الهواء والأجسام المشفة المتصلة بذلك الجسم والمقابلة له ومشرقة على جميع الأجسام المقابلة لذلك الجسم حضر البصر أم لم يحضر.
وأيضاً فإنه قد تبين أن صورة الضوء تمتد من كل نقطة من سطح الجسم المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة. وإذا كان الضوء يمتد من كل نقطة من سطح الجسم المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة، وكانت الألوان تصحب أبداً الأضواء، وكان اللون والضوء يصدران معاً وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفة على جميع السموت المستقيمة التي تمتد من تلك الأجسام، فصورة اللون أيضاً تمتد من كل نقطة من سطح الجسم المتلون المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة.
فكل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن كل نقطة من سطحه يمتد منها صورة الضوء وصورة اللون اللذين فيها على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة في الهواء والأجسام المشفة المتصلة بتلك النقطة والمقابلة لها، وتشرق على كل جسم مقابل لتلك النقطة، وتكون أبداً ممتدة في جميع الجهات، وتشرق على الأجسام المقابلة لها ما دامت مضيئة والأجسام المتصلة بها مشفة ومتصلة الشفيف حضر البصر أم لم يحضر.
فأما لم ليس تظهر هذه الصورة على جميع المقابلة للأجسام المتلونة وتظهر على الأجسام المقابلة البيض والمسفرة الألوان، ولم ليس يظهر على الجسم الأبيض لون كل جسم متلون مقابل له ويظهر عليه اللون المشرق القوي، ولم ليس يظهر هذا اللون على الجسم الأبيض إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون ضعيفاً

فأما لما ليس تظهر هذه الصورة على جميع الأجسام المقابلة الأجسام المتلونة وتظهر على الأجسام البيض والمسفرة الألوان، ولم ليس يظهر على الجسم الأبيض لون كل جسم متلون مقابل له ويظهر عليه اللون المشرق القوي، ولم ليس يظهر هذا اللون على الجسم الأبيض إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون ضعيفاً ويظهر إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون قوياَ، ولم ليس يظهر هذا اللون على الجسم الأبيض إذا كان الجسم الأبيض في ضوء الشمس وفي ضوء قوي ويظهر عليه إذا كان الجسم الأبيض في الظل وفي الأضواء الضعيفة، فإن جميع ذلك لعلة تخص البصر، لا أن صور الألوان تشرق على جميع الأجسام المقابلة لها. ونحن نشرح هذا المعنى من بعد ونبينه بياناً مستقصىً ونبين علله ونوضحها عند كلامنا في كيفية الأبصار. فهذا الذي بيناه من خواص الأضواء وما يصحب الأضواء ويقترن بها من صور الألوان كاف فيما نشرع فيه من البحث عن كيفية الإبصار.

الفصل الرابع
فيما يعرض بين البصر والضوء
نجد البصر إذا نظر إلى الأضواء القوية التي في غاية القوة تألم بها واستضر. فإن الناظر إذا نظر إلى جرم الشمس لم يستطع النظر إليها فإن لمحها تألم بصره بضوئها واستضر به. وكذلك إذا نظر إلى مرآة صقيلة قد أشرق عليها ضوء الشمس، وكان بصره في الموضع الذي إليه ينعكس الضوء عن تلك المرآة ، فإنه يتأذى بالضوء المنعكس الذي يصل إلى بصره عن المرآة ولا يستطيع أن يفتح بصره ويباشر ذلك الضوء.
ونجد أيضاً الناظر إذا نظر إلى جسم نقي البياض وقد أشرق عليه ضوء الشمس، وأطال النظر إليه، ثم صرف بصره عنه إلى موضع مغدر ضعيف الضوء، فإنه لا يكاد يدرك ما في ذلك الموضع من المبصرات إدراكاً صحيحاً ويجد كأن بينه وبينها ستراً. ثم ينجلي ذلك عن تدريج ويعود البصر إلى حاله. وكذلك إذا نظر الناظر إلى نار قوية وحدق إليها، وأطال النظر زماناً، ثم صرف بصره إلى موضع مغدر ضعيف الضوء، فإنه يجد أيضاً في بصره مثل ذلك.
وأيضاً فإننا نجد الناظر إذا نظر إلى جسم نقي البياض وقد أشرق عليه ضوء النهار، وكان الضوء الذي عليه قوياً وإن لم يكن ضوء الشمس، وأطال النظر إليه زماناً، ثم صرف بصره إلى موضع مظلم، فإنه يجد صورة ذلك الضوء في ذلك الموضع المظلم، ويجد مع ذلك شكله. ثم إن أطبق بصره وتأمل ساعة فإنه يجد في بصره صورة ذلك الضوء وشكله. ثم ينجلي ذلك ويعود البصر إلى حاله. وكذلك يكون حال البصر إذا نظر إلى جسم قد أشرق عليه ضوء الشمس وأطال النظر إليه.
وكذلك إن نظر الناظر إلى جسم نقي البياض وقد أشرق عليه ضوء النار، وكان ضوء النار قوياً، وأطال النظر إليه، ثم انصرف إلى موضع مظلم،فإنه يجد أيضاً في بصره مثل ذلك. وكذلك إذا كان الناظر في بين وكان في البيت ثقب واسع منكشف للسماء، ونظر إلى السماء من ذلك الثقب في ضوء النهار، وأطال النظر، ثم عطف ببصره إلى موضع مظلم، فإنه يجد صورة الضوء الذي كان يدركه من الثقب مع شكل الثقب في الموضع . وإن أطبق بصره وجد أيضاً فيه تلك الصورة.
فتدل جميع هذه الأحوال على أن الضوء يؤثر في البصر أثراً ما.
وأيضاً فإننا نجد الناظر إذا نظر إلى روضة خضراء متكاثفة وقد أشرق عليها ضوء الشمس، وأطال النظر إليها، ثم صرف بصره إلى موضع مظلم، فإنه يجد في الموضع المظلم صورة ذلك الضوء ومتلوناً بخضرة الزرع. ثم إن نظر في هذه الحال إلى مبصرات بيض، وكانت تلك المبصرات في الظل وفي موضع ضعيف الضوء، فإنه يجد ألوانها ملتبسة بلون الخضرة. فإن أطبق بصره أيضاً في هذه الحال وتأمل فإنه يجد في بصره صورة الضوء وصورة الخضرة ثم ينحل ذلك ويزول. وكذلك إذا نظر إلى جسم متلون بلون أرجواني أو لازوردي أو لون من الألوان المشرقة القوية وقد أشرق عليه ضوء الشمس وأطال النظر إليه ثم عطف ببصره إلى مبصرات بيض في موضع ضعيف الضوء وجد ألوانها ملتبسة بذلك اللون.
فتبين من هذا الاعتبار أن الألوان المضيئة تؤثر أيضاً في البصر.

وأيضاً فإننا نرى الكواكب في ضوء النهار، وليس الفرق بين الوقتين إلا أن الهواء المتوسط بين أبصارنا وبين السماء مضيء بالنهار وهو بالليل مظلم، فما دام الهواء مظلماً فنحن نرى الكواكب، فإذا أضاء الهواء المتوسط بين أبصارنا وبين الكواكب بضوء النهار خفيت عنا الكواكب.وكذلك إذا كان الناظر في الليل في موضع مضيء بضوء النار وكان ضوء النار منبسطاً على الأرض، وكان في الموضع مبصرات لطيفة أو مبصرات فيها معان لطيفة، وكانت في ظل من الأظلال، ولم يكن الضوء الذي عليها قوياً، ولم تكن النار متوسطة بين البصر وبين تلك المبصرات، وكان الناظر يدرك تلك المبصرات ويدرك المعاني اللطيفة التي فيها، ثم تحرك الناظر من موضعه حتى تصير النار متوسطة بين بصره وبين تلك المبصرات، فإن تلك المبصرات تخفى عنه إن كانت لطيفة، أو تخفى المعاني اللطيفة التي تكون فيها ولا يكاد يدركها ما دامت النار متوسطة بين بصره وبينها. وإن ستر النار عن بصره أدرك في الحال تلك المبصرات اللطيفة التي كانت تخفى عنه. وإن رفع الساتر الذي بين النار وبين بصره خفيت تلك المبصرات عنه.
فتدل هذه الأحوال على أن الأضواء القوية إذا أشرقت على البصر أو على الهواء المتوسط بين البصر والمبصر فإنها تعوق البصر عن إدراك بعض المبصرات التي أضواؤها ضعيفة.
وأيضاً فإنه إذا نظر الناظر إلى جسم صقيل، وكان في الجسم نقوش دقيقة، ولم تكن النقوش مخالفة اللون للون الجسم بل كانت النقوش بل كانت النقوش من لون ذلك الجسم، وكان الناظر في مكان معتدل الضوء، وكان ذلك المكان مقابلاً للسماء أو لبعض الجدران المضيئة بضوء قوي، ثم قابل بذلك الجسم السماء أو الجدار المضيء، فإنه ينعكس منه ضوء ما إلى البصر ويجد الضوء الذي يظهر في سطح الجسم وفي الموضع الذي ينعكس منه الضوء قد قوي وأشرق وفي هذه الحال إذا تأمل الناظر إلى الجسم الصقيل لم يظهر له فيه شيء من النقوش التي في موضع الضوء القوي المشرق من ذلك الجسم.ثم إن ميل الناظر الجسم عن ذلك الموضع حتى يصير الانعكاس إلى موضع غير الموضع الذي فيه بصره، ويكون مع ذلك على الجسم ضوء معتدل، فإن الناظر حينئذ يدرك النقوش التي فيه كانت تخفى عنه عند انعكاس الضوء عن الجسم إلى بصره.
وكذلك الخط الدقيق الذي في الورق الصقيل إذا انعكس الضوء عن الورق إلى البصر ذلك الخط ولم يفهمه ما دام الضوء منعكساً عنه إلى البصر. فإذا ميل سطح الورق حتى يتغير وضعه، فلا ينعكس الضوء عنه إلى البصر، أدرك البصر ذلك الخط وفهمه.
وأيضاً فإن النار الضعيفة إذا كانت في ضوء ضعيف ظهرت وأدركها البصر، وإذا كانت في ضوء الشمس ظهر الجسم الذي فيه النار ولم تظهر النار.وإن كان في تلك النار دخان ظهر الدخان ولم تظهر النار.
وأيضاً فإنه إن حصل في ضوء الشمس جسم كثيف متلون بلون مشرق قوي، وقرب من ذلك الجسم جسم أبيض نقي البياض، وكان هذا الجسم في الظل وفي ضوء ضعيف، ظهر عليه لون ذلك الجسم كما وصفنا من قبل. ثم إن قرب الجسم الأبيض حتى يصير في ضوء الشمس أو يقوى الضوء الذي عليه، خفي ذلك اللون الذي عليه. وإن رد إلى الظل وإلى الضوء الضعيف ظهر اللون عليه. وعند كونه في الضوء القوي أيضاً وخفاء اللون الذي عليه: إن ظلل الجسم بجسم كثيف وهو في مكانه حتى يضعف الضوء الذي عليه ظهر اللون عليه، وإن رفع الجسم المظل حتى يقوى الضوء على الجسم الأبيض خفي اللون الذي عليه.
وكذلك إذا قربنا جسماً مشفاً متلوناً لون بشرق إلى نار قوية وقربنا إلى ظل ذلك الجسم ثوباً أبيض، ظهر لون ذلك الجسم المشف على ذلك الثوب كما وصفنا من قبل. ثم قربنا إلى ذلك الثوب ناراً غير تلك النار حتى يشرق ضوؤها على ذلك الثوب خفي ذلك اللون الذي كان يظهر على الثوب فلم ير إلا بياض الثوب فقط. وإذا غيبنا تلك النار الثانية ظهر اللون على الثوب.
وأيضاً فإن بعض الحيوانات البحرية قد يكون لها أصداف وأغشية إذا حصلت في موضع مظلم لا ضوء فيه ظهرت تلك الأصداف كأنها نار، وإذا نظر إليها ناظر في ضوء النهار أو في ضوء النار أدرك تلك الأصداف ولم ير فيها شيئاً من النار وكذلك الحيوان المسمى اليراع إذا طار في الليل ظهر كأنه نار تخطف، وإذا نظر إليه ناظر في ضوء النهار أو في ضوء النار أدرك الحيوان ولم ير فيه ناراً.

فتدل هذه الأحوال كلها التي شرحناها على أن الأضواء القوية التي تكون المبصرات قد تخفي بعض المعاني التي في بعض المبصرات، وأن الأضواء الضعيفة التي تكون في المبصرات قد تظهر بعض المعاني التي في بعض المبصرات.
وأيضاً فإن المبصرات التي فيها نقو دقيقة أو وشوم أو معان لطيفة قد كثير من المعاني التي فيها إذا كانت في الأضواء الضعيفة وفي المواضع المغدرة، وإذا أبرزت إلى المواضع المضيئة وقوي الضوء الذي عليها أو جعلت في ضوء الشمس ظهرت المعاني التي تكون فيها التي كانت تخفى في المواضع المغدرة وفي الأضواء الضعيفة وكذلك الخط الدقيق قد يعجز البصر عن إدراكه في المواضع المغدرة وفي الأضواء الضعيفة، وإذا أبرز إلى الأضواء القوية أدركه البصر.
فتدل هذه الحال على أن الأضواء القوية قد تظهر كثيراً من المعاني التي في المبصرات، وأن الأضواء الضعيفة قد تخفي كثيراً من المعاني التي في المبصرات.
وأيضاً فإننا نجد الأجسام الكثيفة المتلونة بألوان مشرقة كالأرجوانية واللازوردية والخمرية والفرفيرية، إذا كانت في مواضع مغدرة وفي أضواء ضعيفة ظهرت ألوانها كدرة ، وإذا كانت في ضوء قوي ظهرت ألوانها مشرقة صافية، وكلما ازداد الضوء الذي عليها قوة ازدادت ألوانها إشراقاً وصفاءً. وإذا كان واحد من الأجسام في مكان مظلم، وليس فيه إلا ضوء يسير جداً، فإن ذلك الجسم يظهر مظلماً ولا يتيقن البصر لونه ويظن به انه أسود. فإذا اخرج إلى المواضع المضيئة وقوي الضوء الذي عليه ظهر لونه وتميز للبصر.
ونجد أيضاً الأجسام البيض الكثيفة إذا أشرق عليها ضوء قوي ازدادت بياضا ًوإشراقاً عند الحس، ونجد الأجسام الكدرة الألوان إذا أشرقت عليها الأضواء القوية صفت ألوانها وأسفرت.
وأيضاً فإننا نجد الأجسام المشفة المتلونة بألوان قوية، كالأشربة القوية الحمرة التي في الأواني المشفة، إذا كانت في مواضع مغدرة وفي أضواء ضعيفة فإنها تظهر سوداً مظلمة وكأنها غير مشفة وإن استشقت، وإذا كانت في الأضواء القوية أو أشرق عليها ضوء الشمس صفت ألوانها وأشرقت وظهر شفيفها.
وكذلك الجواهر المشفة المتلونة المشبعة الألوان إذا كانت في المواضع المغدرة ظهرت ألوانها كدرة، وإذا أشرق عليها ضوء قوي أو قوبل بها الضوء حتى ينفذ الضوء فيها صفت ألوانها وأشرقت وظهر شفيفها.
وأيضاً فإن الأجسام المشفة المتلونة إذا قوبل بها الضوء وقوبلت من الجهة المضادة لجهة الضوء بجسم أبيض، كما ذكرنا من قبل، فإنه إن كان الضوء قوياً ظهرت صورة ذلك اللون في ظله على الجسم الأبيض المقابل له، وإن كان الضوء الذي يشرق عليه ضعيفاً ظهر على الجسم الأبيض المقابل له ظل ولم يظهر اللون.
وأيضاً فإننا نجد أرياش الطواويس والثوب المسمى أبا قلمون تختلف ألوانها عند البصر في الأوقات المختلفة من النهار بحسب اختلاف الأضواء التي تشرق عليها.
فتدل هذه الأحوال التي تظهر في الألوان على أن الأجسام المتلونة إنما يدرك البصر ألوانها بحسب الأضواء المشرقة عليها.
فإذا كانت الأضواء القوية التي في المبصرات وقد تظهر بعض المعاني التي في بعض المبصرات،وكانت الأضواء الضعيفة التي تكون المبصرات قد تظهر بعض المعاني التي في بعض المبصرات وقد تخفي بعض المعاني التي في بعض المبصرات، وكانت الأجسام المتلونة قد تتغير ألوانها بحسب اختلاف الأضواء التي تشرق عليها، وكانت الأضواء القوية المشرقة على البصر قد تعوق البصر عن إدراك بعض المبصرات، وكان البصر مع جميع ذلك ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان مضيئاً، فإن الصورة إذن التي يدركها البصر من المبصر إنما تكون بحسب الضوء الذي في المبصر وبحسب الأضواء التي تشرق على البصر في حال إدراكه لذلك المبصر وعلى الهواء المتوسط بين البصر والمبصر.
فأما لم الأضواء القوية تعوق البصر عن إدراك بعض المبصرات فإننا نشرح علة ذلك عند كلامنا في كيفية الإبصار.

الفصل الخامس
هيئة البصر
البصر مركب من طبقات وأغشية وأجسام مختلفة، ومبدؤه ومنشؤه من مقدم الدماغ

ينشق من مقدم الدماغ عصبتان جوفاوان متشابهتان يبتدئان من موضعين عن جنبتي مقدم الدماغ ويقال إن كل واحدة منهما طبقتان وأنهما ينشآن من غشائي الدماغ فينتهيان إلى الوسط من ظاهر مقدم الدماغ، ثم يلتقيان فيصيران عصبة واحدة جوفاء، ثم تنقسم هذه العصبة فتصير أيضاً عصبتين جوفاويين متساويتين، ثم تمتد هاتان العصبتان حتى تنتهيا إلى حدبتي العظمين المقعرين المحيطين بجملتي العينين.
وفي وسطي تقعيري هذين العظمين ثقبان متساويان نافذان وضعهما من العصبة المشتركة وضع متشابه. فتدخل العصبتان في هذين الثقبين وتخرجان إلى تقعيري العظمين، فإذا وصلا إلى تقعيري العظمين انتشرا واتسعا وصار طرف كل واحد منهما كالقمع. وكل واحدة من العينين مركبة على هذا الطرف من العصبة الذي هو كالقمع وملتحم به. ووضع كل واحدة من العينين من العصبة المشتركة وضع متشابه.
وجملة كل واحدة من العينين مركبة من عدة طبقات.
فأولها شحمة بيضاء تملأ مقعر العظم وهي معظم العين وتسمى الملتحمة.
وفي داخل هذه الشحمة كرة مستديرة جوفاء سوداء في الأكثر وزرقاء وشهلاء في بعض الأبصار. وجسم هذه الكرة رقيق، ومع ذلك صفيق ليس بالسخيف، وظاهرها ملتصق بالملتحمة، وداخلها أجوف وفي باطن داخلها شبيه بالخمل، والملتحمة مشتملة على هذه الكرة ما سوى مقدمها فإن الملتحمة ليس تغطي مقدم هذه الكرة بل تستدير على مقدمها. وتسمى هذه الطبقة العنبية لأنها تشبه العنبة.وفي وسط مقدم العنبية ثقب مستدير نافذ إلى تجويفها، وهو مقابل لطرف تجويف العصبة التي العين مركبة عليها.
ويغطي هذا الثقب وجميع مقدم العنبية الذي حوله الملتحمة من خارج طبقة متينة بيضاء تسمى القرنية لأنها تشبه بالقرن الأبيض في المشف.
وفي صدر مقعر العنبية كرة صغيرة بيضاء رطبة متماسكة الرطوبة ومع ذلك ترفة وفيها شفيف ليس في الغاية بل فيها بعض الغلظ، ويشبه شفيفها شفيف الجليد، وتسمى الجليدية. وسميت بهذا الاسم من أجل شبه شفيفها وهي مركبة على طرف تجويف العصبة . وفي مقدم هذه الكرة تسطيح يسير يشبه تسطيح ظاهر العدسة، فسطح مقدمها قطعة من سطح كري أعظم من السطح الكري المحيط ببقيتها. وهذا السطح مقابل للثقب الذي في مقدم العنبية ووضعه منه وضع متشابه.
وهذه الرطوبة تنقسم بجزء ين مختلفي الشفيف ، أحدهما يلي مقدمها والجزء الآخر يلي مؤخرها. والجزء المتأخر منها يشبه شفيفه شفيف الزجاج المرضوض، فيسمى هذا الجزء بالرطوبة الزجاجية. وشكل مجموع الجزءين رقيق في غاية الرقة والسخافة يسمى العنكبوتية لنه يشبه بنسج العنكبوت.
وفي صدر مقعر العنبية ثقب مستدير هو على طرف تجويف العصبة، والجليدية مركبة في هذا الثقب. واستدارة هذا الثقب، وهو طرف العصبة، تحيط بوسط كرة الجليدية، وتلتحم العنبية بالجليدية من الدائرة المحيطة بهذا الثقب. ويقال إن العنبية منشأها من الطبقة الداخلة من طبقتي العصبة المجوفة وأن القرنية منشأها من الطبقة الخارجة من طبقتي هذه العصبة.
ويملأ تجويف العنبية رطوبة بيضاء رقيقة صافية مشفة تسمى الرطوبة البيضية لأنها تشبه بياض البيض في رقته وبياضه وشفيفه. وهي تمل تجويف العنبية وتماس مقدم الجليدية وتمل الثقب الذي في مقدم العنبية وتماس مقعر القرنية.
وكرة الجليدية مركبة على تجويف العصبة، ويلي تجويف العصبة الرطوبة الزجاجية، فتكون القرنية والرطوبة البيضية والرطوبة الجليدية والزجاجية متوالية متماسة. وجميع هذه الطبقات مشفة، والثقب الذي في مقدم العنبية مقابل لمقدم تجويف العصبة ، فيكون بين سطح القرنية وبين مقدم تجويف العصبة سموت مستقيمة تملأها أجسام مشفة متماسة.
ويقال عن الروح الباصرة تنبعث من مقدم الدماغ وتملأ تجويف العصبتين الأوليين المتصلتين بالدماغ، وتنتهي إلى العصبة المشتركة فتملأ تجويف هذه العصبة، وتمتد في العصبتين الثانيتين الجوفاوين فتملأهما وتنتهي إلى الجليدية فتغطيها القوة الباصرة.
وبين محيط الجليدية الملتحم بالعنبية وبين الثقب الذي في مقعر العظم الذي منه تخرج العصبة مسافة مقتدرة، والعصبة تمتد في هذه المسافة من نهاية الثقب إلى محيط الجليدية على انخراط واتساع، وكلما بعدت عن الثقب اتسعت إلى أن تنتهي إلى محيط كرة الجليدية وتلتحم بمحيطها.

وجسم الملتحمة مشتمل على هذا الجزء المنخرط من العصبة وعلى كرة العنبية، وكرة العنبية عن وسط الملتحمة إلى ما يلي ظاهر البصر، وجسم الملتحمة ملتحم بكرة العنبية وبالطرف المنخرط المتسع من العصبة وحافط لوضعها. فإذا تحركت العين تحركت بجملتها، فتنحني العصبة التي العين مركبة عليها عند حركتها ويكون انحناؤها عند الثقب الذي في مقعر العظم، لأن مقعر العظم يشتمل على جملة العين والعين تتحرك بجملتها في هذا التقعير.
والملتحمة ملتحمة بما في داخلها من العصبة ومن الطبقات الباقية وحافظة لأوضاعها وغير مفارقة لها. فانحناء العصبة عند حركة العين إنما يكون من وراء جملة العين، فهو عند الثقب الذي في مقعر العظم. وكذلك إذا كانت العين ساكنة ، وكانت العصبة منحنية، فإنما يكون انحناؤها عند الثقب الذي في مقعر العظم، لأن جملة العين ليس يتغير وضع أجزائها بعضها عند بعض لا عند حركتها ولا عند سكونها. فانحناء العصبة التي العين مركبة عليها ليس يكون إلا عند الثقب الذي في مقعر العظم تحركت العين ام سكنت.
والسطح الظاهر من القرنية سطح كري، ومع ذلك متصل بالسطح المحيط بالملتحمة وبجملة العين، وجملة العين أعظم من كرة العنبية التي هي بعضها ، فالسطح الظاهر من القرنية هو من سطح كري اعظم من كرة العنبية، فنصف قطره اعظم من نصف قطر العنبية.
والسطح الداخل من القرنية المنطبق على ثقب العنبية سطح مقعر كري موازي للسطح الظاهر منها، لأن هذا الموضع متساوي السمك، فمركز هذا السطح المقعر أيضاً هو مركز السطح المحدب الظاهر . وهذا السطح المقعر يقطع سطح كرة العنبية على محيط الثقب، فمركزه أبعد في العمق من مركز العنبية، لأن ذلك يلزم في خواص الأكر.
وأيضاً فلأن كرة العنبية ليست في وسط الملتحمة، وهي متقدمة إلى ما يلي سطح ظاهر البصر، وسطح ظاهر البصر من كرة اعظم من كرة العنبية، يكون مركز السطح الظاهر ابعد في العمق من مركز العنبية، فمركز سطح القرنية أبعد في العمق من مركز العنبية.
والخط المستقيم الذي يصل بين المركزين، أعني مركز سطح القرنية ومركز العنبية، إذا خرج على استقامة انتهى إلى مركز الثقب الذي في مقدم العنبية وإلى وسطي سطحي القرنية المتوازيين، لأن السطح المقعر من القرنية والسطح المحدب من العنبية سطحان كريان يتقاطعان، وكل سطحين كريين متقاطعين فإن الخط الذي يصل بين مركزيهما يمر بمركز الدائرة ويكون عموداً على سطحها يمر بمركزي الكرتين.
والسطح المقعر من القرنية مماس لسطح الرطوبة البيضية التي في داخل ثقب العنبية ومنطبق عليه، فسطح الرطوبة البيضية أيضاً سطح كري مركزه مركز السطح المنطبق عليه. فالسطح الظاهر من القرنية والسطح الداخل منها وسطح الرطوبة البيضية المماس لمقعر القرنية سطوح كرية متوازية مركزها نقطة واحدة مشتركة، وهي أبعد في العمق من مركز العنبية.
والخط الذي يمر بمركز العنبية وبمركز القرنية وبمركز الثقب الذي في مقدم العنبية، إذا امتد على استقامة ، فإنه يمر بوسط تجويف العصبة التي العين مركبة عليها، لأن الثقب الذي في مقدم العنبية مقابل للثقب الذي في صدر العنبية الذي هو طرف تجويف العصبة.

وسطح مقدم الجليدية أيضاً سطح كري، وهو يقطع كرة العنبية، فمركزه أبعد في العمق من مركز العنبية. والخط المستقيم الذي يصل بين مركزيهما يمر بمركز دائرة التقاطع ويكون عموداً عليها، دائرة التقاطع بين سطح مقدم الجليدية وبين سطح كرة العنبية هي إما الدائرة التي تحد نهاية الالتحام بين الجليدية وبين العنبية وإما موازية لها لأن التسطيح الذي في مقدم الجليدية مقابل للثقب الذي في مقدم العنبية ووضعه منه وضع متشابه، فنهاية هذا السطح، وهي دائرة التقاطع بين سطحي الجليدية، إما أن تكون هي دائرة الالتحام نفسها أو موازية لها. فإن كانت هذه الدائرة، اعني دائرة التقاطع بين سطحي الجليدية، وهي دائرة الالتحام فهذه الدائرة هي دائرة التقاطع بين سطحي مقدم الجليدية وبين العنبية . وإن كانت دائرة التقاطع بين سطحي الجليدية موازية لدائرة الالتحام فإن سطح مقدم الجليدية إذا توهم منبسطاً على ما هو عليه من كريته فإنه يقطع كرة العنبية على دائرة موازية لهذه الدائرة، أعني دائرة التقاطع بين سطحي الجليدية، لتشابه وضع هذه الدائرة من محيط كرة العنبية. وهذه الدائرة موازية لدائرة الالتحام. فتكون دائرة التقاطع بين سطح مقدم الجليدية وبين مركز العنبية موازية لدائرة الالتحام. فدائرة التقاطع بين سطح مقدم الجليدية وبين كرة العنبية إما هي دائرة الالتحام نفسها أو موازية لها. فإن كانت هذه الدائرة هي دائرة الالتحام نفسها فإن الخط المستقيم الذي يمر بمركز مقدم الجليدية ويمر بمركز العنبية يمر بمركز هذه الدائرة فيكون عموداً عليها، لأن هذه الدائرة تكون دائرة التقاطع بين السطحين الكريين. وإن كانت هذه الدائرة موازية لدائرة الالتحام، وهي موازية لدائرة التقاطع بين سطحي الجليدية، فهي مع دائرة الالتحام في سطح واحد كري وهو سطح كرة العنبية، وهي موازية لها، وهي مع دائرة التقاطع بين سطحي الجليدية في سطح واحد كري وهو سطح مقدم الجليدية، وهي موازية لها، فالخط المستقيم الذي يمر بمركز كرة العنبية وبمركز سطح مقدم الجليدية ويمر بمركز دائرة التقاطع ويكون عموداً عليها هو يمر بمركز دائرة التقاطع بين سطحي الجليدية ويكون عموداً عليها لن هذه الدائرة مع دائرة التقاطع بين كرة العنبية وبين سطح مقدم الجليدية في سطح واحد كري وهو سطح مقدم الجليدية، وهي موازية لها، وكل دائرتين متوازيتين في سطح كرة فإن الخط الذي يمر بمركز إحديهما ويكون عموداً عليها فهو يمر بمركز الدائرة الأخرى ويكون عموداً عليها. وهذا الخط أيضاً يمر بمركز دائرة الالتحام ويكون عموداً عليها لن دائرة التقاطع بين كرة العنبية وبين سطح مقدم الجليدية في سطح واحد كري وهو سطح كرة العنبية، وهي موازية لها، فالخط الذي يمر بمركز كرة العنبية وبمركز السطح المتقدم من الجليدية يمر بمركز دائرة الالتحام على تصاريف الأحوال، ويكون عموداً عليها،كانت دائرة الالتحام نفس دائرة التقاطع بين سطح مقدم الجليدية وبين كرة العنبية أو موازية لهذه الدائرة.
وأيضاً فإن سطح مقدم الجليدية وسطح بقية الجليدية سطحان كريان متقاطعان، فمركز السطح المتقدم ابعد في العمق من مركز السطح المتأخر. والخط المستقيم الذي يصل بين هذين المركزين يمر بمركز دائرة التقاطع ويكون عموداً عليها قد تبين أنه يمر بمركز دائرة الالتحام ويكون عموداً عليها لأن هذه الدائرة إما هي دائرة الالتحام أو موازية لها، فالخط إذن الذي يمر بمركز العنبية وبمركز مقدم الجليدية وبمركز دائرة الالتحام ويكون عموداً على هذه الدائرة يمر بمركز بقية الجليدية.

وإذا كان هذا الخط يمر بمركز بقية الجليدية وبمركز دائرة الالتحام، وهو قائم على سطح دائرة الالتحام على زوايا قائمة، فهو يمتد في وسط تجويف العصبة التي العين مركبة عليها، لن دائرة الالتحام هي طرف تجويف العصبة.وقد نبين أن الخط الذي يمر بمركز العنبية وبمركز القرنية وبمركز الثقب الذي في مقدم العنبية يمتد في وسط تجويف العصبة، فهذا الخط إذن الذي يمر بمركزي سطحي الجليدية وبمركز كرة العنبية هو الخط الذي يمر بمركز القرنية وبمركز العنبية وبمركزي سطحي الجليدية وبمركز الثقب الذي في مقدم العنبية وبمركز دائرة الالتحام، ويمر بأوساط جميع الطبقات المقابلة لثقب العنبية، وهو عمود على سطوح جميع الطبقات المقابلة لثقب العنبية وعمود على سطح ثقب العنبية وعمود على سطح دائرة الالتحام، ويمتد في وسط تجويف العصبة التي العين مركبة عليها.
وإذ قد تبين أن مركز القرنية ومركز سطح مقدم الجليدية هما جميعاً على هذا الخط، وهما جميعاً أبعد في العمق من مركز العنبية، فالأشبه أن يكون مركز سطح مقدم الجليدية وهو مركز القرنية لتكون مراكز جميع السطوح المقابلة لثقب العنبية نقطة واحدة مشتركة، فتكون جميع الخطوط الخارجة من المركز إلى سطح البصر أعمدة على جميع السطوح المقابلة للثقب، ومع ذلك فإنه يتبين من بعد بالدليل عند كلامنا في كيفية الإبصار أن مركز سطح القرنية ومركز السطح المتقدم من الجليدية هو نقطة واحدة مشتركة. طبقات البصر المقابلة لثقب العنبية سطوح كرية مركزها نقطة واحدة مشتركة.
وأيضاً فلأن هذا المركز هو مركز السطح الظاهر من البصر المتصل بالسطح المشتمل على جملة العين، فهو في داخل جملة العين، فمركز سطوح طبقات البصر المقابلة لثقب العنبية هو في داخل جملة العين.
فإذا تحركت العين فليس تتغير النقطة من العين التي هي مركز سطوح طبقات البصر، ولا يتغير وضعها من هذه السطوح بل تكون حافظة لوضعها، لأن العين إذا تحركت إنما تتحرك بجملتها، وأوضاع أجزاء جملتها بعضها عند بعض ليس تتغير عند الحركة . وهذا المركز هو في داخلها، فوضعه لا يتغير عند جملتها. وكذلك وضع طبقات البصر عند جملة العين ليس يتغير عند حركة البصر. فوضع هذا المركز عند سطوح طبقات البصر ليس يتغير عند حركة البصر ولا عند سكونه.
وقد تبين أن انحناء العصبة عند حركة البصر وعند سكونه إنما يكون عند الثقب الذي في مقعر العظم لأنه إنما يكون من وراء جملة العين،فانحناء العصبة إذن عند حركة البصر وعند سكونه ليس يكون إلا من وراء مركز البصر.
وأيضاً فإن جملة العين ليس يتغير وضع أجزائها بعضها عند بعض لا في حال حركتها ولا في حال سكونها، فأوضاع مراكز طبقات البصر عند جملة العين ليس تتغير عند حركة البصر ولا عند سكونه. فالخط المستقيم الذي يمر بالمراكز ليس يتغير وضعه عند جملة العين ولا عند أجزائها لا في حال حركة البصر ولا في حال سكونه. وإذا كان وضع هذا الخط ليس يتغير عند جملة العين ولا عند أجزائها فوضع هذا الخط إذن ليس يتغير عند سطح دائرة الالتحام ولا عند محيطها، وهذه الدائرة هي طرف تجويف العصبة، فوضع سطحها من سطح تجويف العصبة وضع متشابه، وميل الجزء المنخرط من العصبة على سطح هذه الدائرة ميل متشابه، لان وضع الجليدية من هذه العصبة وضع متشابه.
وإذا كانت جملة العين ليس يتغير وضع أجزائها بعضها عن بعض فسطح تجويف العصبة من لدن محيط دائرة الالتحام إلى وضع انحناء العصبة الذي هو الجزء المنخرط من العصبة لي يتغير وضعه عند جملة العين ولا عند دائرة الالتحام.

وقد تبين أن وضع الخط الذي يمر بالمراكز ليس يتغير عند دائرة الالتحام، وإنه يمتد في وسط تجويف العصبة. وإذا كان وضع هذا الخط ليس يتغير عند دائرة الالتحام، وكان سطح تجويف العصبة الذي من لدن محيط دائرة الالتحام إلى موضع الانحناء ليس يتغير وضعه عند سطح تجويف العصبة إلى أن ينتهي إلى موضع الانحناء، فالخط الذي يمر بمراكز طبقات البصر يمر بمركز دائرة الالتحام ويكون قائماً عليها على زوايا قائمة، فيمتد في وسط تجويف العصبة المنخرطة إلى أن ينتهي إلى موضع انحناء العصبة، ويكون وضعه أبداً من سطح تجويف العصبة الذي في داخل جملة العين ومن جميع أجزاء العين ومن جميع سطوح طبقات البصر وضعاً واحداً لا يتغير في حال حركة البصر ولا في حال سكونه.
فهذه هي أوضاع طبقات البصر وأوضاع مراكزها ووضع الخط المستقيم الذي يمر بمركزها.
والعينان جميعاً متشابهتان في جميع أحوالهما وطبقاتهما وفي أشكال طبقاتهما وفي وضع كل واحد من الطبقات عند جملة العين. وإذا كان ذلك كذلك فوضع كل واحد من المراكز التي تقدم تفصيلها عند جملة العين وعند أجزائها وضع المركز النظير لذلك المركز من العين الأخرى عند جملة العين شبيهة بنظائرها في العين الأخرى كان وضع الخط الذي يمر بالمراكز في إحدى العينين عند جملة العين وعند أجزائها وعند طبقاتها شبيهاً بوضع الخط الذي يمر بالمراكز التي في العين الأخرى عند جملة العين الأخرى وعند أجزائها وعند طبقاتها. فوضع الخطين اللذين يمران بمراكز طبقات البصرين من البصرين معاً وضع متشابه في جميع أحوالهما. وكل واحدة من الملتحمتين تلتحم بها من خارج عضلتان صغيرتان إحديهما مما يلي موق العين والأخرى مما يلي مؤخرها. ويشتمل على كل واحدة من العينين الأجفان والأهداب.
فهذا الذي شرحناه هو صفة تركيب البصر وهيئته وهيئة طبقاته، وجميع ما ذكرناه من طبقات العين وتركيبها قد بينه وشرحه أصحاب التشريح في كتب التشريح.

الفصل السادس
كيفية الإبصار
قد تبين فيما تقدم أن كل جسم مضيء بأي ضوء كان فإن الضوء الذي فيه يصدر منه ضوء إلى كل جهة تقابله . فإذا قابل البصر مبصراً من المبصرات، وكان المبصر مضيئاً بأي ضوء كان، فإن الضوء الذي في المبصر يرد منه ضوء إلى سطح البصر. وقد تبين أيضاً أن من خاصة الضوء أن يؤثر في البصر وأن من طبيعة البصر أن ينفعل بالضوء . فاخلق بأن يكون إحساس البصر بالضوء الذي في المبصر إنما هو من الضوء الذي يرد منه إلى البصر.
وقد تبين أيضاً أن كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة اللون الذي في ذلك الجسم تصحب أبداً الضوء الذي يصدر عنه إلى كل جهة تقابل ذلك الجسم، ويكون الضوء وصورة اللون أبداً معاً . فالضوء الذي يرد إلى البصر من الضوء الذي في الجسم المبصر يكون أبداً معه صورة اللون الذي في الجسم المبصر. وإذا كان الضوء واللون يردان معاً إلى سطح البصر، وكان البصر يحس بالضوء الذي في المبصر من الضوء الذي يرد إليه من المبصر، فأخلق بأن يكون إحساس البصر باللون الذي في المبصر أيضاً إنما هو من صورة اللون التي ترد عليه مع الضوء.
وأيضاً فإن صورة اللون تكون أبداً ممتزجة بصورة الضوء وغيره متميزة عنها، فليس يحس البصر بالضوء إلا ملتبساً باللون. فاخلق بأن يكون إحساس البصر بلون المبصر والضوء الذي فيه إنما هو من الصورة الممتزجة من الضوء واللون الذي يرد إليه من سطح البصر.
وأيضاً فإن طبقات البصر المسامتة لوسط مقدم البصر مشفة متماسة، والأولى منها وهي القرنية مماسة للهواء الذي فيه ترد الصورة، ومن خاصة الضوء أن ينفذ في كل جسم مشف، وكذلك خاصة اللون أن تنفذ صورته التي تصحب الضوء في الجسم المشف ولذلك تمتد في الهواء المشف كامتداد الضوء، ومن طبيعة الجسام المشفة أن تقبل صورة الأضواء والألوان وتؤديها إلى الجهات المقابلة لها، فالصورة التي ترد من المبصر إلى سطح البصر تنفذ في شفيف طبقات البصر من الثقب الذي في مقدم العنبية، فهي تصل إلى الرطوبة الجليدية وتنفذ أيضاً منها بحسب شفيفها. فأخلق بأن تكون طبقات البصر إنما كانت مشفة لتنفذ فيها صور الأضواء والألوان التي ترد إليها.
فلنحرر الآن ما تألف من جميع ذلك.

فنقول: إن البصر يحس بالضوء واللون اللذين في سطح المبصر من الصورة التي ترد إليه من الضوء واللون اللذين في سطح المبصر وتنفذ في شفيف طبقات البصر. وهذا المعنى هو الذي استقر عليه رأي أصحاب الطبيعة في كيفية الإبصار.
فنقول الآن عن كيفية الإبصار لا تصح أن تكون بهذه الصفة فقط ، لأن هذه الصفة تنتقد وتبطل إن لم ينضاف إليها غيرها. وذلك أن كل جسم متلون مضيء فإن ضوئه ولونه تمتد صورتهما في الهواء المشف المتصل به إلى جميع الجهات المقابلة له. وقد يقابل البصر في الوقت الواحد مبصرات كثيرة مختلفة الألوان كل واحد منها بينه وبين البصر سموت مستقيمة في الهواء المتصل المتوسط بينه وبينها. وإذا كان المبصر المقابل للبصر ترد صورة الضوء واللون اللذين فيه إلى سطح البصر فكل واحد من المبصرات التي تقابل البصر في وقت واحد ترد صورة ضوئه ولونه في ذلك الوقت إلى سطح البصر . وإذا كانت الصورة تمتد من المبصر إلى كل جهة تقابله، وكانت إنما تصل إلى البصر من أجل مقابلته، فإن الصورة التي تصل من المبصر إلى البصر تصل إلى جميع سطح البصر. وإذا كان ذلك كذلك فإن البصر إذا قابل مبصراً من المبصرات ، ووصلت صورة لونه وضوءه إلى سطح البصر، وحضر في الوقت مبصرات أخر مختلفة الألوان مقابلة للبصر ، فإن كل واحد من تلك المبصرات قد وردت صورة ضوءه ولونه إلى سطح البصر وتكون صورة كل واحد من جميع تلك المبصرات قد حصلت في جميع سطح البصر. فتحصل في جميع سطح البصر في وقت واحد ألوان كثيرة مختلفة وأضواء كثيرة مختلفة كل واحد منها قد ملا سطح البصر، فتحصل في سطح البصر صورة ممتزجة من ألوان مختلفة وأضواء مختلفة.
فإن أحس البصر بتلك الصورة الممتزجة فهو يحس بلون مخالف للون كل واحد من تلك المبصرات. وإن أحس بواحدة من تلك الصور ولم يحس بالباقية أدرك واحداً من المبصرات ولم يدرك الباقية. وهو يدرك جميع تلك المبصرات في وقت واحد ويدركها متميزة.
وإن لم يحس بواحدة من تلك الصور فليس يحس بشيء من المبصرات المقابلة. ولكنه يحس بجميعها.
وأيضاً فإن المبصر الواحد قد تكون فيه ألوان مختلفة وتخطيط وترتيب، وكل جزء من أجزائه يصدر منه الضوء واللون اللذين فيه في جميع السموت المستقيمة التي يصح أن تمتد في الهواء المتصل به. فإذا كانت أجزاء المبصر الواحد مختلفة الألوان ورد إلى جميع سطح البصر من كل واحد منها صورة اللون والضوء اللذين فيه، فتمتزج ألوان تلك الأجزاء في سطح البصر، فيدركها البصر ممتزجة أولا يدرك منها شيئاً. فإن أدركها ممتزجة لم تتميز ألوان ولم تترتب الأجزاء، وإن لم يدرك من تلك الصور شيئاً لم يدرك شيئاً من الأجزاء وإذا لم يدرك شيئاً من الأجزاء لم يدرك المبصر. لكن البصر يدرك المبصر المضيء المقابل له ويدرك أجزاءه المختلفة الألوان ويدركها متميزة مترتبة.
وإذا كان ذلك كذلك فكيفية الإبصار إما أن تكون بغير هذه الصفة جملة وإما أن تكون هذه الصفة هي بعض صفتها. فلننظر الآن هل يمكن أن ينضاف إلى هذه الصفة شروط تتميز بها ألوان المبصرات عند البصر وتكون موافقة للوجود.
فنقول: إن البصر إذا قابل مبصراً من المبصرات فإن كل نقطة من سطح المبصر ترد منها صورة اللون والضوء اللذين فيها إلى جميع سطح البصر، وكل نقطة من كل واحد من المبصرات المقابلة للبصر في تلك الحال أيضاً ترد منها صورة اللون والضوء اللذين فيها إلى جميع سطح البصر. فإن أحس البصر من جميع سطحه بصورة اللون والضوء التي ترد من نقطة واحدة من النقط التي في سطح المبصر فهو يحس من جميع سطحه بصورة كل نقطة من سطح ذلك المبصر وصورة كل نقطة من سطوح جميع المبصرات المقابلة له في تلك الحال، فلا تترتب له أجزاء المبصر الواحد ولا تتميز له المبصرات.

وإن احس البصر بالصورة التي ترد من نقطة واحدة من سطح المبصر إلى جميع سطح البصر من نقطة واحدة فقط من سطح البصر ولم يحس بصورة تلك النقطة من جميع سطحه ترتبت له أجزاء المبصر وتميزت له جميع المبصرات المقابلة له. وذلك أنه إذا أدرك لون النقطة الواحدة من نقطة واحدة فقط من سطحه أدرك لون الجزء الواحد من المبصر من جزء من سطحه وأدرك لون الجزء الآخر من جزء آخر من سطحه غير ذلك الجزء وأدرك كل واحد من المبصرات من موضع من سطحه غير الموضع الذي يدرك منه مبصراً آخر، فتترتب له المبصرات وتتميز وتترتب أجزاء كل واحد من المبصرات.
فلننظر الآن هل هذا المعنى ممكن ويصح أن يوافق الوجود. فنقول أولاً إن الإبصار إنما يكون بالجليدية كان الإبصار بصورة ترد من المبصر إلى البصر أو غير ذلك ، وليس يكون الإبصار بواحدة من الطبقات المتقدمة لها وإنما الطبقات المتقدمة آلات لها. وذلك إن لحق الرطوبة الجليدية آفة مع سلامة بقية الطبقات بطل الإبصار، وإن لحق بقية الطبقات آفة مع بقاء الشفيف الذي فيها أو بعضه ومع سلامة الجليدية لم يبطل الإبصار. وأيضاً فإنه إن حصل في ثقب العنبية سدة وبطل شفيف الرطوبة التي فيها بطل الإبصار مع سلامة القرنية، وإذا زالت السدة عاد الإبصار . وكذلك إن حصل في داخل الرطوبة البيضية جزء غليظ غير مشف، وكان في وجه الرطوبة الجليدية ومتوسطاً بينها وبين ثقب العنبية ، بطل الإبصار، وإذا زال ذلك الغلظ أ انحط الجزء الغليظ عن السمت المستقيم الذي بين الجليدية وبين ثقب العنبية أو مال عنه إلى بعض الجهات عاد الإبصار يشهد بجميع ذلك صناعة الطب.
فبطلان الإحساس عند فساد الجليدية مع سلامة بقية الطبقات المتقدمة لها دليل على أن الإحساس إنما يكون بهذه الرطوبة لا بالطبقات المتقدمة لها، وبطلان الإحساس عند انقطاع الشفيف بين الجليدية وبين سطح البصر بالجسم الكثيف يدل أيضاً على أن الإحساس إنما هو عند الجليدية لا عند سطح البصر، ويدل أيضاً على أن شفيف هذه الطبقات إنما هو ليتصل شفيف طبقات البصر بشفيف الهواء فتصير الأجسام التي بين الجليدية وبين البصر مشفة متصلة الشفيف. وبطلان الإحساس عند انقطاع السمت المستقيم الذي بين الجليدية وبين سطح البصر يدل على أن إحساس الجليدية ليس يكون إلا من السموت المستقيمة التي بينها وبين سطح البصر.
فنقول الآن إن كان إحساس البصر بلون المبصر والضوء الذي فيه من الصورة التي ترد من المبصر إلى سطح البصر، والإحساس إنما يكون بالجليدية لا بسطح البصر، فليس يحس بهذه الصورة إلا بعد أن يتجاوز سطح البصر ويصل إلى الجليدية. والصورة التي ترد من المبصر إلى سطح البصر هي تنفذ في شفيف طبقات البصر لأن من خاصة الشفيف أن تنفذ فيه صور الأضواء والألوان وتمتد فيه على استقامة ، وقد بينا ذلك في الهواء. وإذا اعتبرت جميع الأجسام المشفة وجد الضوء ليس يمتد فيها إلا على السموت المستقيمة، ونحن نبين من بعد عند كلامنا في الانعطاف كيف يعتبر ذلك وكيف تنتهي هذه الحال. وإن كان إحساس البصر باللون والضوء اللذين في المبصر من الصورة التي ترد إليه من المبصر فعند وصول هذه الصورة إلى الجليدية يقع الإحساس. وقد تبين انه ليس يصح أن يدرك البصر المبصر على ما هو عليه إلا إذا أدرك صورة النقطة الواحدة من المبصر من نقطة واحدة فقط من سطحه. فالجليدية إذن ليس يصح أن تدرك المبصر على ما هو عليه إلا إذا أدركت لون النقطة الواحدة من المبصر وضوءها من الصورة التي تصل إليها من نقطة واحدة فقط من سطح البصر. والصورة ترد من كل نقطة من سطح المبصر إلى جميع سطح البصر وتنفذ من جميع سطح البصر إلى داخل تجويف البصر. فإن كان ما يرد من النقطة الواحدة من المبصر إلى جميع سطح البصر وينفذ في طبقات البصر وينتهي إلى الجليدية تدرك الجليدية منه ما ينفذ إليها من نقطة واحدة فقط من سطح البصر، وتحس بلون تلك النقطة من المبصر وضوئها من الصورة التي تنفذ من تلك النقطة فقط من سطح البصر وتصل إلى نقطة واحدة فقط من سطحها ولا تدرك تلك النقطة من المبصر من بقية الصورة التي تصل إلى سطحها من بقية سطح البصر، تم الإبصار وترتبت أجزاء المبصرات وتميزت المبصرات عند البصر.

وليس يتم الإبصار إن كان من الصورة التي ترد إلى البصر إلا على هذه الصفة. وليس يصح أن يكون ذلك كذلك إلا إذا كانت واحدة من النقط التي في سطح البصر التي تنفذ فيها صورة النقطة الواحدة من سطح المبصر تتميز عن بقية النقط التي في سطح البصر، وكان الخط الذي عليه ترد الصورة إلى تلك النقطة من سطح البصر يتميز عن بقية الخطوط التي ترد عليها الصورة بخاصة من أجلها يصح أن تدرك الجليدية الصورة التي ترد على ذلك الخط ومن النقطة من سطح البصر التي على ذلك الخط ولا تدركها من غيرها.
وإذا استقرئت الأضواء واعتبرت كيفية نفوذها وامتدادها في الأجسام المشفة وجد الضوء يمتد في الجسم المشف على سموت مستقيمة ما دام الجسم المشف متشابه الشفيف، فإذا لقي جسماً آخر مخالف الشفيف للجسم الأول الذي امتد فيه فليس ينفذ على استقامة السموت التي كان يرتد عليها إلا إذا كانت تلك السموت قائمة على سطح الجسم الثاني المشف على زوايا قائمة. وإذا كان تتلك السموت مائلة على سطح الجسم الثاني وغير قائمة عليه على زوايا قائمة انعطف الضوء عند سطح الجسم الثاني ولم يمتد على استقامة. فإذا انعطف امتد في الجسم الثاني على سموت الخطوط المستقيمة التي ينعطف عليها، وتكون الخطوط التي ينعطف عليها الضوء في الجسم الثاني أيضاً مائلة على سطح الجسم الثاني ولا تكون أعمدة عليه. وإن كان بعض الخطوط التي يرد عليها الضوء في الجسم الأول قائماً على سطح الجسم الثاني وبعضها مائلاً امتد ما كان من الضوء على الخطوط القائمة في الجسم الثاني على استقامة، وما كان منه على الخطوط المائلة انعطف عند سطح الجسم الثاني على خطوط مائلة ممتدة فيه على استقامة تلك الخطوط المائلة التي انعطف عليها. وقد ذكرنا هذا المعنى من قبل وضمنا تبيينه، ونحن نبينه من بعد في الموضع الذي يليق به، وهو عند كلامنا في الانعطاف، ونرشد إلى الطريق الذي به تعتبر هذه الحال ويظهر هذا المعنى للحس ويقع معه اليقين.
وإذا كان ذلك كذلك فصورة الضوء واللون التي ترد من كل نقطة من المبصر إلى سطح البصر إذا وصلت إلى سطح البصر فليس ينفذ منها شيء في شفيفات طبقات البصر على استقامة إلا ما كان على الخط المستقيم القائم على سطح البصر على زوايا قائمة، وما كان على غيره من الخطوط فإنه ينعطف ولا ينفذ على استقامة، لأن شفيف طبقات البصر ليس كشفيف الهواء المماس لسطح البصر. والذي ينعطف من هذه الصور ينعطف أيضاً على خطوط مستقيمة مائلة لا على الأعمدة التي تمتد من مواضع الانعطاف. وكل نقطة من سطح البصر فليس يخرج إليها مستقيم يكون عموداً على سطح البصر إلا خط واحد فقط، ويخرج إليها خطوط بلا نهاية تكون مائلة على سطح البصر. والصورة التي ترد على استقامة العمود تنفذ في طبقات البصر على استقامة العمود، وجميع الصور التي ترد على الخطوط المائلة إلى تلك النقطة تنعطف عند تلك النقطة وتنفذ في طبقات البصر على خطوط مائلة أيضاً، ولا ينفذ شيء منها على استقامة الخطوط التي وردت عليها ولا على استقامة العمود القائم على تلك النقطة.
وكل نقطة من سطح البصر ترد إليها في الوقت الواحد صور جميع النقط التي في سطوح جميع المبصرات المضيئة المقابلة لها في ذلك الوقت، لأن بينها وبين كل نقطة مقابلة لها خطاً مستقيماً، ولأن كل نقطة من النقط التي في سطوح المبصرات المضيئة فإن صورتها تمتد على كل خط مستقيم يمتد من تلك النقطة. ونقطة واحدة فقط من جميع النقط المقابلة للبصر التي وردت صورها إلى سطح البصر على خطوط مائلة . فكل نقطة من سطح البصر ينفذ فيها في الوقت الواحد صور جميع النقط التي في سطوح جميع المبصرات المقابلة لها في ذلك الوقت. وصورة نقطة واحدة فقط من جميعها تنفذ على استقامة في شفيف طبقات البصر وهي النقطة التي عند طرف العمود الذي يخرج إلى تلك النقطة من سطح البصر. وصور جميع النقط الباقية تنعطف عند تلك النقطة من سطح البصر. وصور جميع النقط الباقية تنعطف عند تلك النقطة من سطح البصر وتنفذ في شفيف طبقات البصر على خطوط مائلة على سطح البصر.

وأيضاً فإن كل نقطة من سطح الجليدية يخرج منها خط واحد فقط يكون عموداً على سطح البصر، وتخرج منها خطوط بلا نهاية إلى سطح البصر وتكون مائلة عليه. فالنقطة من سطح الجليدية التي يخرج منها عمود على سطح البصر ويكون نافذاً في ثقب العنبية تخرج منها خطوط بلا نهاية تنفذ في ثقب العنبية وتنتهي إلى سطح البصر وتكون مائلة على سطح البصر ما سوى ذلك العمود فقط.
وجميع الخطوط التي تخرج من نقطة من سطح الجليدية وتنفذ في ثقب العنبية وتنتهي إلى سطح البصر وتكون مائلة عليه إذا توهمت منعطفة على الصفة التي يوجبها اختلاف الشفيف الذي بين شفيف جسم القرنية وبين شفيف الهواء فإن أطرافها تنتهي إلى مواضع مختلفة وإلى نقط مختلفة وإلى نقط مختلفة من النقط التي في سطوح المبصرات التي تقابل البصر في وقت واحد، وليس يلقي واحد من هذه الخطوط النقطة التي عند طرف العمود. والنقط التي عند أطراف جميع هذه الخطوط من سطوح المبصرات تمتد صورها على استقامة هذه الخطوط وتنتهي إلى سطح البصر وينعطف جميعها إلى النقطة الواحدة بعينها من سطح الجليدية، ما سوى النقطة التي عند طرف العمود فإن صورتها تمتد على استقامة العمود وتنفذ على استقامة إلى تلك النقطة من الجليدية تحس من النقطة الواحدة منها بجميع الصور التي ترد إليها من جميع السموت فهي تحس من كل نقطة منها بصورة ممتزجة من صور كثيرة وألوان ممتزجة من ألوان كثيرة من المبصرات المقابلة للبصر في ذلك الوقت، فلا يتميز لها شيء من النقط التي في سطوح المبصرات ولا تترتب لها النقط التي ترد صورها إلى تلك النقطة. وإن كانت الجليدية تحس من النقطة الواحدة منها يرد إليها من سمت واحد فقط تميزت لها النقط التي في سطوح المبصرات وترتبت لها النقطة التي في سطح كل واحد من المبصرات.
وليس واحدة من النقط التي تصل صورها إلى الجليدية على الخطوط المنعطفة أولى من غيرها من الصور المنعطفة، ولا واحد من السموت المنعطفة أولى من غيره. والصور المنعطفة إلى النقطة الواحدة من الجليدية في الوقت الواحد كثيرة غير محصورة. والنقطة التي ترد صورتها على استقامة العمود إلى النقطة الواحدة من الجليدية هي نقطة واحدة فقط، وليس يرد معها على استقامة العمود صورة غيرها، لأن جميع الصور المنعطفة ليس تنعطف إلا على خطوط مائلة . وأيضاً فإنه إذا كان مركز سطح البصر ومركز سطح الجليدية واحداً فإن العمود الذي يقوم على سطح البصر هو عمود على سطح الجليدية.
فالصورة التي ترد على العمود تتميز عن سائر الصور بحالتين: إحديهما أنها تمتد من سطح المبصر إلى النقطة من الجليدية على خط مستقيم، والباقية ترد على خطوط منعطفة. والثانية أن هذا العمود القائم أن هذا العمود القائم على سطح البصر هو عمود على سطح الجليدية أيضاً. والخطوط الباقية التي ترد عليها الصور المنعطفة هي مائلة على سطح الجليدية لأنها مائلة على سطح البصر.
وتأثير الأضواء التي ترد على الأعمدة يكون أقوى من تأثير ما يرد على الخطوط المائلة. فأخلق بأن تكون الجليدية إنما تحس من كل نقطة منها بالصورة التي ترد إليها على استقامة العمود فقط ولا تحس من تلك النقطة بما يرد إلى تلك النقطة من السموت المنعطفة.
وأيضاً فإنه إذا كان مركز سطح الجليدية نقطة واحدة فإن جميع الأعمدة التي تقوم على سطح الجليدية وعلى سطح الجليدية وعلى سطح البصر يلتقي جميعها عند المركز المشترك وتكون أقطاراً لسطوح طبقات البصر، ويكون كل واحد من الأعمدة يلقى سطح القرنية على نقطة واحدة، ويلقى سطح الجليدية على نقطة واحدة، ولا يخرج إلى تلك النقطة من القرنية عمود إلا عمود واحد فقط، ولا يخرج إلى تلك النقطة الجليدية إلا ذلك العمود بعينه فقط.فتكون الصورة التي تخرج من كل نقطة من سطح المبصر على العمود الذي يمتد منها إلى سطح البصر يلقى سطح البصر على نقطة واحدة لا يلقاه عليها غيرها من الصور التي ترد على الأعمدة، ويلقى سطح الجليدية أيضاً على نقطة واحدة لا يلقاه عليها غيرها من الصور التي ترد على الأعمدة. وأيضاً فإنه قد تبين أن كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن كل نقطة يخرج منها صورة الضوء واللون على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة.

وكل نقطة تقابل سطحاً من السطوح فإن بين تلك النقطة وبين كل نقطة من ذلك السطح خطاً مستقيماً متوهماً، وبين تلك النقطة وبين جميع ذلك السطح مخروط متوهم رأسه تلك النقطة وقاعدته ذلك السطح يشتمل على جميع الخطوط المستقيمة المتوهمة التي بين تلك النقطة وبين جميع النقط التي في ذلك السطح. فإذا كانت صورة الضوء واللون تخرج من كل نقطة من سطح الجسم المتلون المضيء على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة، فإن كل نقطة مقابلة للجسم المضيء المتلون فإن صورة الضوء واللون اللذين في سطح ذلك الجسم تمتد من كل نقطة من سطح ذلك الجسم إلى تلك النقطة المقابلة له على الخط المستقيم الممتد بينها وبين تلك النقطة، ويكون المخروط الذي يتشكل بين تلك النقطة وبين ذلك السطح يحيط بجميع الخطوط التي تمتد عليها الصور من جميع ذلك السطح إلى تلك النقطة. فكل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة الضوء واللون اللذين فيه تمتد من سطحه إلى كل نقطة تقابل ذلك السطح على سمت المخروط الذي يتشكل بين تلك النقطة وبين ذلك السطح، وتكون الصورة مرتبة في ذلك المخروط بالخطوط التي تلتقي عند تلك النقطة التي هي رأس المخروط كترتيب أجزاء اللون الذي في سطح ذلك الجسم.
فإذا قابل المبصر مبصراً من المبصرات فإنه يتشكل بين النقطة التي هي مركز البصر وبين سطح ذلك المبصر المقابل للبصر مخروط متوهم رأسه مركز البصر وقاعدته سطح ذلك المبصر. وإذا كان الهواء المتوسط بين ذلك المبصر وبين البصر متصلاً، ولم يتوسط بين البصر والمبصر جسم كثيف، وكان ذلك المبصر مضيئاً بأي ضوء كان، وكانت صورة الضوء واللون اللذين في سطح ذلك المبصر ممتدة إلى البصر على سمت ذلك المخروط، وكانت صورة كل نقطة من سطح ذلك المبصر ممتدة على استقامة الخط الذي بين تلك النقطة وبين راس المخروط الذي هو مركز البصر.
وإذا كان مركز البصر هو مركز سطح الجليدية كانت جميع هذه الخطوط أعمدة على سطح ظاهر البصر وعلى سطح الجليدية وعلى جميع سطوح طبقات البصر المتوازية، ويكون المخروط مشتملاً على جميع هذه الأعمدة ومشتملاً على الجزء من الهواء الذي فيه تمتد الصورة من جميع سطح ذلك المبصر المقابل للبصر على سموت الأعمدة، ويكون سطح الجليدية قاطعاً لهذا المخروط. فتحصل صورة الضوء واللون اللذين في ذلك المبصر في الجزء من سطح الجليدية الذي يحوزه المخروط، وتكون كل نقطة من هذا الجزء من سطح الجليدية قد وردت إليها صورة النقطة المقابلة لها من سطح المبصر على استقامة العمود يخرج من تلك النقطة من سطح المبصر على سطوح طبقات البصر وعلى سطح الجليدية ونفذت في شفيف طبقات البصر على استقامة ذلك العمود ولم تنفذ1 معها على استقامة ذلك العمود صورة غيرها. وتكون هذه الصورة التي تحصل في الجزء من سطح الجليدية مرتبة فيه بالخطوط التي وردت عليها إليه هي أعمدة عليه وتلتقي عند مركز البصر كترتيب أجزاء سطح المبصر المقابل للبصر. وتكون كل نقطة من هذا الجزء من سطح الجليدية مع جميع ذلك قد وردت إليها في تلك الحال صور كثيرة من نقط كثيرة من النقط التي في سطوح المبصرات المقابلة للبصر في ذلك الوقت. فتحصل في هذا الجزء من سطح الجليدية الذي انفصل بالمخروط صور كثيرة من ألوان كثيرة مختلفة.
فإن أحست الجليدية من الجزء الذي انفصل بالمخروط بالصورة التي وردت إلى ذلك الجزء من سمت ذلك المخروط فقط ولم تحس من ذلك الجزء من سطحها بصورة غير الصورة التي وردت على ذلك السمت أحست بصورة ذلك المبصر على ما هي عليه ومرتبة كترتيبها، وأمكن أن تحس أيضاً في تلك الحال بصور مبصرات أخر غير ذلك المبصر من المخروطات التي تفصل من سطحها أجزاء أخر غير ذلك الجزء، وأمكن أن تحس بصورة كل واحد من تلك المبصرات على ما هو عليه وان تحس بأوضاع بعضها من بعض على ما هي عليه.

وإن أحست الجليدية بالصور التي ترد إليها من السموت المنعطفة أحست من ذلك الجزء بعينه الذي انفصل من سطحها بذلك المخروط بصورة ممتزجة من صور أجزاء سطح أجزاء سطح ذلك المبصر ومن صور مبصرات كثيرة مختلفة وتكون ممتزجة من ألوان كثيرة مختلفة، وأحست من كل جزء من كل جزء من سطحها غير ذلك الجزء بصورة ممتزجة من صور مبصرات كثيرة مختلفة، فلا تحس بالصورة التي وردت على سمت ذلك المخروط على ما هي عليه ولا بشيء من الصور التي وردت على الأعمدة على ما هي عليه ولا بشيء من الصور التي وردت من السموت المنعطفة على ما هي عليه، فلا تحس بصورة المبصر الواحد على ما هي عليه ولا تتميز لها المبصرات التي تقابلها في وقت واحد بعضها من بعض.
والبصر إنما يدرك المبصرات متميزة ويدرك أجزاء المبصر الواحد مرتبة على ما هي عليه في سطح المبصر، ويدرك عدة من المبصرات معاً في وقت واحد. فإن كان الإبصار من الصور التي ترد من المبصرات إلى البصر فليس تحس الجليدية بشيء من صور المبصرات من السموت المنعطفة.
وأيضاً فإنه ليس شيء من الصور التي تصل إلى سطح الجليدية من صور المبصرات يترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه، ولا شيء من صور أجزاء المبصر الواحد إلا التي تصل إليها على استقامة الأعمدة التي تقوم على سطح البصر فقط. فأما الصور المنعطفة عند سطح البصر فإن أوضاعها تحصل في سطح الجليدية منعكسة، وتحصل صورة النقطة الواحدة مع ذلك في قطعة من سطح الجليدية، لا في نقطة واحدة. وذلك أن النقطة المتيامنة عن البصر إذا امتدت صورتها إلى نقطة من سطح البصر، وكان الخط الذي امتدت عليه الصورة مائلاً على سطح البصر، فإن صورتها تنعطف إلى الجهة المتياسرة عن العمود الذي يمتد من مركز البصر إلى تلك النقطة من سطحه. وتنتهي الصورة التي تنعطف من طرف العمود على هذه الصفة إلى نقطة متياسرة عن النقطة من سطح الجليدية التي يقطعه عليها ذلك العمود. وتكون صورة النقطة المتياسرة عن البصر التي تمتد إلى تلك النقطة بعينها من سطح البصر، وتكون مائلة عليه، تنعطف إلى نقطة متيامنة عن العمود وعن النقطة من سطح الجليدية التي على ذلك العمود الذي يخرج من موضع الانعطاف ولا تبلغ إلى العمود ولا تتجاوزه، لأن هذه هي خاصة الصور المنعطفة.
وكذلك صورتا النقطتين اللتين في جهة واحدة عن البصر اللتان تخرجان إلى نقطة واحدة من سطح البصر، وتكونان مائلتين عليه في جهة واحدة. تحصلان في سطح الجليدية منعكستين، لأن الخطين اللذين عليهما تمتد صورتا النقطتين يتقاطعان عند النقطة من سطح البصر التي عليها تلتقي الصورتان ويلقيان العمود الذي يخرج إلى تلك النقطة من سطح البصر على تلك النقطة. فإن كان هذان الخطان على سطح البصر في جهة واحدة جميعاً عن العمود الذي يخرج من مركز البصر إلى تلك النقطة انعطفت صورتا النقطتين إلى الجهة المقابلة لتلك الجهة. وأيضاً فلأن الخطين اللذين تمتد عليهما الصورتان إلى النقطة الواحدة من سطح البصر يتقاطعان على تلك النقطة فإنهما إذا امتدا على استقامتهما بعد التقاطع فإن وضعهما ينعكس بالقياس إلى البصر وإلى العمود، فيصير الخط الذي كان متيامناً قبل وصوله إلى سطح البصر من ذينك الخطين متياسراً بعد تجاوزه لسطح البصر، والمتياسر منهما متيامناً.
وكذلك يكون وضع الخطين اللذين عليهما تنعطف الصورتان من النقطة الواحدة من سطح البصر. فإن الصورتين اللتين تنعطفان من نقطة واحدة تقربان جميعاً من العمود، وتمتد الصورة التي كانت على خط أبعد من العمود بعد التقاطع على خط أبعد من العمود أيضاً، ولكن ببعد أقل من بعد الخط الذي كانت عليه. وتمتد الصورة التي كانت على خط أقرب إلى العمود بعد التقاطع على خط أقرب إلى العمود أيضاً، ولكن أشد قرباً من الخط الذي كانت عليه كذلك جميع الصور التي تنعطف من نقطة واحدة.
وإذا اعتبر هذا المعنى اعتباراً محرراً وجد على ما ذكرناه، ونحن نرشد إلى الطريق الذي به يعتبر هذا المعنى اعتباراً محققاً عند كلامنا في الانعطاف، وعند ذلك تنكشف جميع المعاني التي تتعلق بالانعطاف. ولسنا نستعمل هناك في تبيين المعاني التي استعملناها في هذه المقالة شيئاً مما بيناه بهذه المعاني في هذه المقالة .

فالنقطتان المائلتان إلى جهة واحدة عن البصر إذا امتدت صورتاهما إلى نقطة واحدة من سطح البصر فإنهما منعطفان على خطين يكون وضعهما عند البصر بالعكس من وضع الخطين الأولين اللذين عليهما امتدت الصورتان إلى سطح البصر، فيكون وضع النقطتين من سطح الجليدية اللتين تنتهي إليهما الصورتان بالعكس من وضع النقطتين اللتين منهما وردت الصورتان. فجميع الصور التي تنعطف من نقطة واحدة من سطح البصر تحصل في سطح الجليدية منعكسة.
وأيضاً فإن كل نقطة مقابلة للبصر فإن صورتها ترد إلى جميع سطح البصر، فهي تنعطف من جميع سطح البصر. والصورة التي تنعطف من جميع سطح البصر تنعطف إلى جزء له قدر من سطح الجليدية، لا إلى نقطة واحدة ، لأن الصور المنعطفة لو التقت بعد الانعطاف على نقطة واحدة لكانت تقطع الأعمدة التي انعطفت عند أطرافها وتتجاوزها أو تخرج الصورة عن السطح الذي انعطفت فيه. وليس شيء من الصور المنعطفة يلقى العمود الذي انعطفت عند طرفه بعد الانعطاف ولا تتجاوزه ولا يخرج عن السطح الذي انعطفت فيه. وجميع هذه المعاني تتبين عند الاعتبار. فليس تكون صورة النقطة الواحدة من المبصر التي تحصل في سطح الجليدية بالانعطاف في نقطة واحدة بل في جزء مقتدر من سطح الجليدية، ولا يكون وضع صور النقط المختلفة من سطح المبصر التي تحصل صورها في سطح الجليدية بالانعطاف بعضها عند بعض كأوضاعها التي هي عليها في سطوح المبصرات بل منعكسة. فليس شيء من صور المبصرات التي تصل إلى سطح الجليدية على السموت المنعطفة يترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه في سطوح المبصرات. وقد تبين أن الصور التي ترد على الأعمدة تترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه، لأنها تمتد على استقامة من سطوح المبصرات إلى سطح الجليدية. فليس شيء من صور المصرات التي ترد إلى سطح الجليدية يترتب في سطح الجليدية على ما هي عليه في سطوح المبصرات إلا الصور التي تمتد على سموت الأعمدة فقط.
فإن كان إحساس البصر بالمبصرات من الصور التي ترد إليه من سطوح المبصرات فإن البصر ليس يدرك شيئاً من صور المبصرات التي تصل إليه إلا من سموت الخطوط المستقيمة تلتقي أطرافها عند مركز البصر فقط، لأن البصر ليس يدرك شيئاً من صور المبصرات إلا مرتبة على ما هي عليه في سطوح المبصرات.
وأيضاً فإنه إذا كان مركز سطح البصر ليس هو مركز سطح الجليدية فإن الخطوط المستقيمة التي تخرج من سطح البصر وتمتد في ثقب العنبية وتنتهي إلى المبصرات ليس تكون أعمدة على سطح الجليدية بل مائلة عليها، ولا تكون أوضاعها على سطح الجليدية أوضاعاً متشابهة، إلا خط واحد منها فقط وهو الذي يمر بالمركزين. والصور التي ترد من سطوح المبصرات إلى سطح الجليدية ليس يصح أن تحس بها الجليدية إلا من سموت هذه الخطوط فقط، اعني التي هي أعمدة على سطح البصر الذي هو سطح القرنية، لأن الصور التي ترد على هذه الأعمدة فقط هي التي تترتب في سطح الجليدية كترتيبها في سطوح المبصرات.
فإن كانت الجليدية تدرك المبصرات من الصور التي ترد إليها، وكانت إنما تدرك الصور من سموت هذه الخطوط، وكانت هذه الخطوط ليست أعمدة على سطحها، فهي تدرك الصور إذاً من أوضاعها من سطحها أوضاع مختلفة ومائلة على سطحها. وإذا كانت تدرك الصور من سموت مختلفة الأوضاع عند سطحها. ولو كانت تدرك الصور المنعطفة من السموت المختلفة الأوضاع لم يتميز لها شيء من المبصرات كما تبين فيما تقدم. وإذا كان ليس يصح أن تدرك الصور المنعطفة من السموت المختلفة الأوضاع فليس يصح أن تدرك صور المبصرات من سموت الخطوط التي هي أعمدة على سطح البصر إلا إذا كانت هذه الخطوط أعمدة على سطحها وكانت أوضاعها من سطحها متشابهة. وليس تكون هذه الخطوط أعمدة على سطحها إلا إذا كان مركز سطحها ومركز سطح البصر نقطة واحدة مشتركة. وليس يدرك البصر شيئاً من صور المبصرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند هذا المركز فقط.

وليس يمتنع أن يكون المركزان واحداً، لأنه قد تبين أن المركزين جميعاً من وراء مركز العنبية وعلى الخط المستقيم الذي يمر بجميع المراكز. فإذا كان ليس يمتنع أن يكون المركزان واحداً، وان تكون الخطوط المستقيمة التي تخرج من المراكز أعمدة على السطحين جميعاً، أعني سطح الجليدية وسطح البصر، فليس يمتنع أن يكون إدراك البصر للمبصرات من الصور التي ترد إليه من صور الألوان والأضواء التي في سطوح المبصرات إذا كان إدراكه لهذه الصور من سموت الأعمدة فقط. وذلك بأن تكون طبيعة البصر قابلة لما يرد إليها من ضوء المبصرات، وأن تكون طبيعة البصر مع ذلك متخصصة بأن لا تقبل ما يرد عليها من الصور إلا من سموت مخصوصة، لا من جميع السموت، وهي سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر فقط، لتخصص هذه الخطوط بكونها أقطاراً له وبكونها أعمدة على سطح الجسم الحاس، فيكون الإحساس من الصورة الواردة من المبصرات، وتكون هذه الخطوط كالآلة للبصر بها تتميز له المبصرات وبها تترتب أجزاء كل واحد من المبصرات.
ولتخصص البصر ببعض السموت دون غيرها نظائر في الأمور الطبيعية. فإن الأضواء تشرق من الأجسام المضيئة وتمتد على السموت المستقيمة فقط وليس تمتد على الخطوط المقوسة ولا المنحنية. والأجسام الثقال تتحرك إلى السفل بالحركة الطبيعية على خطوط مستقيمة وليس تتحرك على خطوط منحنية ولا مقوسة ولا متعرجة، وليس تتحرك أيضاً على جميع الخطوط المستقيمة التي بينها وبين سطح الأرض بل على خطوط مستقيمة مخصوصة وهي التي تكون أعمدة على سطح الأرض وأقطاراً لها. والأجرام السماوية تتحرك على خطوط مستديرة وليس تتحرك على خطوط مستقيمة ولا على خطوط مختلفة الترتيب. وإذا تؤملت الحركات الطبيعية وجد لكل واحد منها تخصص ببعض السموت دون غيرها. فغير ممتنع أن يكون البصر متخصصاً في قبوله لتأثيرات الأضواء والألوان بالسموت المستقيمة التي تلتقي عند مركزه فقط التي هي أعمدة على سطحه. وإدراك البصر للمبصرات من سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر هو الذي اجتمع عليه جميع أصحاب التعاليم ولم يقع بينهم فيه اختلاف، وهذه الخطوط هي التي يسميها أصحاب التعاليم خطوط الشعاع.
وإذا كان هذا المعنى ممكناً وغير ممتنع، وكانت صور الأضواء والألوان ترد إلى البصر وتنفذ في شفيف طبقات البصر لأن خاصة هذه الصور أن تنفذ في الأجسام المشفة ومن خاصة الأجسام المشفة أن تقبل هذه الصور وتؤديها إلى الجهات المقابلة لها، وكان الإبصار لا يتم من قبول هذه الصور إلا إذا كان قبول البصر لها من سموت الأعمدة فقط، فالبصر إذن إنما يدرك الأضواء والألوان التي في سطوح المبصرات من الصور التي ترد إليه من سطوح المبصرات، وليس يدرك هذه الصور إلا سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر فقط.
فلنحرر الآن ما استقر من جميع ما ذكرناه.
فنقول: عن البصر يحس بالضوء واللون اللذين في سطح المبصر من الصورة التي تمتد من الضوء واللون اللذين في سطح المبصر من الصورة التي تمتد من الضوء واللون اللذين في سطح المبصر في الجسم المشف المتوسط بين البصر والمبصر، وليس يدرك البصر شيئاً من المبصرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة بين المبصر ومركز البصر فقط. وإذ قد تحرر ذلك، وتبين مع هذه الحال أن هذا المعنى ممكن وغير ممتنع، فإننا نحرر الآن الدعوى.
فنقول: إن الإبصار لا يصح أن يكون إلا على هذه الصفة.

وذلك أن البصر إذا أحس بالمبصر بعد أن كان لا يحس به فقد حدث فيه شيء ما بعد أن لم يكنن وليس يحدث شيء بعد أن لم يكن إلا لعلة. ونجد المبصر إذا قابل البصر أحس به البصر، وإذا زال عن مقابلة البصر لم يحس به البصر، وإذا عاد المبصر إلى مقابلة البصر عاد إليه الإحساس. وكذلك نجد البصر إذا أحس بالمبصر ثم أطبق أجفانه بطل ذلك الإحساس، وإذا فتح أجفانه والمبصر في مقابلته عاد ذلك الإحساس. والعلة هي التي إذا بطلت بطل المعلول وإذا عادت عاد المعلول. فالعلة إذن التي تحدث ذلك الشيء في البصر هو المبصر، وتحدثه عند مقابلته للبصر، لأنه متى حضر المبصر وكان في مقابلة البصر وقع الإحساس ومتى غاب المبصر وزال عن مقابلة البصر بطل الإحساس، فالبصر إذن إنما يحس بالمبصر من شيء ما يحدثه المبصر في البصر عند مقابلته للبصر.
وأيضاً فإن البصر ليس يدرك المبصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بينهما مشفاً. وليس إدراك البصر للمبصر من وراء الهواء المتوسط بينهما من اجل رطوبة الهواء وسخافته بل من أجل شفيفه، لأنه إذا توسط بين البصر والمبصر حجر من الأحجار المشفة أيضاً أو جسم من الأجسام المشفة، أي جسم كان، أدرك البصر المبصر الذي وراءه ويكون إدراك البصر للمبصر بحسب شفيف الجسم المتوسط، وكل ما كان الجسم المتوسط أشد شفيفاً كان إحساس البصر بذلك المبصر أصح وأبين. وكذلك إن توسط بين البصر والمبصر ماء صاف مشف أدرك البصر المبصر الذي من وراء الماء. وإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات في ماء صاف مشف، ثم صبغ ذلك الماء بصبغ من الأصباغ القوية حتى يبطل شفيفه ورطوبته باقية، فإن البصر حينئذ لا يدرك ذلك المبصر الذي في الماء.
فيتبين من هذه الأحوال أن الإبصار إنما يتم بشفيف الجسم المتوسط لا برطوبته وسخافته. فالشيء الذي يفعله المبصر في البصر عند مقابلته له الذي منه يقع الإحساس ليس يتم إلا بشفيف الجسم المتوسط بين البصر والمبصر وليس يتم إذا توسط بين البصر والمبصر جسم كثيف. فالضوء واللون اللذان في المبصر إذن ليس يدركهما البصر إلا من شيء ما يحدثه ذلك الضوء واللون في البصر، وليس يحدث ذلك الشيء من الضوء واللون في البصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بين البصر والمبصر مشفاً، وليس يحدث إذا كان الجسم المتوسط كثيفاً.
وليس يختص الشفيف بشيء مما يتعلق بالضوء واللون يخالف به الكثافة إلا أن صورة الضوء واللون تنفذ في الشفيف ولا تنفذ في الكثافة، وان الجسم المشف يقبل صورة الضوء واللون ويؤديها إلى الجهات المقابلة لذلك الضوء واللون . وليس للجسم الكثيف هذه الصفة. وإذا كان البصر ليس يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر إلا من حدوث شيء ما يحدثه الضوء واللون في البصر، وكان ذلك الشيء ليس يحدث في البصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بين البصر والمبصر مشفاً، وليس يحدث إذا توسط بينهما جسم كثيف، وكان الجسم المشف ليس يختص بشيء يتميز به عن الجسم الكثيف مما يتعلق بالضوء واللون إلا قبوله لصور الأضواء والألوان وتأديته لها إلى الجهات المقابلة، وكان قد تبين أن البصر إذا قابل المبصر فإن صورة الضوء واللون اللذين في المبصر تتأدى إلى البصر وتحصل في سطح العضو الحاس، فالبصر إذن إنما يحس بالضوء واللون الذين في المبصر من الصورة التي تمتد في الجسم المشف من المبصر إلى البصر، والشيء الذي يحدثه المبصر في البصر عند مقابلته له وتوسط الجسم المشف بينهما الذي منه يحس البصر بالضوء واللون اللذين في المبصر هو هذه الصورة.
وقد يحتمل أن يقال إن الجسم المشف يقبل من البصر شيئاً ما ويؤديه إلى المبصر وباتصال هذا الشيء بين البصر والمبصر يقع الإحساس، وهذا هو رأي أصحاب الشعاع.

فلنفرض أن الأمر كذلك وأن الشعاع يخرج من البصر وينفذ في شفيف الجسم المشف وينتهي إلى البصر وان الشعاع يكون الإحساس. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإحساس إنما يكون بهذا الشعاع، فالإحساس الذي يكون بهذا الشعاع إما أن يتأدى إلى البصر وإما أن لا يتأدى إلى البصر. فإن كان الإحساس يكون بالشعاع ولا يتأدى إلى البصر فليس يحس البصر بشيء. لكن البصر يحس بالمبصر. وإذا كان البصر يحس بالمبصر، وليس يحس به إلا بتوسط الشعاع بينهما، وكان قد تبين أن البصر ليس يحس بالمبصر إلا من شيء يحدثه المبصر بالبصر، فهذا الشعاع إذن الذي يحس بالمبصر يؤدي إلى البصر شيئاً ما منه يحس البصر بالمبصر. وإذا كان الشعاع يؤدي إلى البصر شيئاً ما منه يكون إحساس البصر بالمبصر فالبصر إذن إنما يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر من شيء يرد من الضوء واللون اللذين في المبصر إلى البصر، والشعاع هو الذي يؤدي ذلك الشيء. فعلى تصاريف الأحوال ليس يكون الإبصار إلا من ورود شيء ما من المبصر إلى البصر خرج من البصر شعاع أم لم يخرج.
وقد تبين أن الإبصار لا يتم إلا بشفيف الجسم المتوسط بين البصر والمبصر وليس يتم إذا توسط بينهما جسم كثيف. وهو بين أن الجسم المشف ليس يختص بشيء يخالف به الجسم الكثيف مما يتعلق بالضوء واللون إلا بقبوله صور الأضواء والألوان وتأديته لها إلى الجهات المقابلة لها. وقد تبين أن هذه الصور تمتد أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة ويقبلها الهواء والأجسام المشفة وتؤديها إلى جميع الجهات المقابلة لتلك الأضواء والألوان وتؤديها إلى البصر إذا كان مقابلاً لها . وإذا كان الإبصار ليس يكون إلا من ورود شيء ما من المبصر إلى البصر، وكان الإبصار ليس يتم إلا بشفيف الجسم المتوسط بين البصر والمبصر، وليس يتم إذا توسط بينهما جسم كثيف، وكان الجسم المشف ليس يختص بشيء يخالف به الجسم الكثيف مما يتعلق بالضوء واللون إلا بقبوله صور الأضواء والألوان وتأديته لها إلى الجهات المقابلة، وكان قد تبين أن صورة الضوء واللون اللذين في المبصر تصل إلى البصر إذا كان مقابلاً للمبصر، فالشيء إذن الذي يرد من المبصر إلى البصر الذي منه يدرك البصر الضوء واللون اللذين في المبصر على تصاريف الأحوال ليس هو إلا هذه الصورة خرج من البصر شعاع أم لم يخرج.
وقد تبين أن صور الأضواء والألوان تشرق أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة وتمتد فيها إلى الجهات المقابلة لها حضر البصر أم لم يحضر. وإذا كان البصر ليس يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر إلا من هذه الصورة، وكانت هذه الصورة تمتد أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة إلى الجهات المقابلة لها حضر البصر أم لم يحضر، فخروج الشعاع إذن عبث وفضل. فالبصر إنما يحس بالضوء واللون اللذين في المبصر من الصورة التي ترد إليه من الضوء واللون اللذين في المبصر، التي تشرق أبداً في الهواء وفي الأجسام المشفة، وتمتد إلى الجهات المقابلة لها.

وأيضاً فإنه قد تبين أن صورة كل نقطة من المبصر المقابل للبصر تصل إلى البصر على سموت كثيرة مختلفة، وانه ليس يصح أن يدرك البصر صورة المبصر مرتبة على ما هي عليه في سطح المبصر إذا كان إدراك البصر للمبصر من الصورة التي ترد إليه من المبصر إلا إذا كان قبول البصر للصور من سموت الخطوط المستقيمة التي تكون أعمدة على سطح البصر وتكون مع ذلك أعمدة على سطح العضو الحاس، وأن الخطوط المستقيمة ليس تكون أعمدة على هذين السطحين إلا إذا كان مركز هذين السطحين نقطة واحدة مشتركة فإن ذلك ممكن غير ممتنع. وإذا كان قد تبين الآن أن الإبصار ليس يصح أن يكون إلا من الصور التي ترد من المبصر إلى البصر، وكان يصح أن يدرك البصر المبصرات من الصور التي ترد إليه المبصرات إلا إذا كان قبوله لها من سموت الخطوط التي تكون أعمدة على سطح البصر وأعمدة على سطح العضو الحاس، وكانت الخطوط المستقيمة ليس يصح أن تكون أعمدة على هذين السطحين معاً إلا إذا كان مركز هذين السطحين نقطة واحدة مشتركة، فليس يصح إذن أن يكون مركز سطح الجليدية ومركز سطح البصر إلا نقطة واحدة مشتركة، وليس يصح أن يدرك البصر شيئاً من صور المبصرات إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند هذا المركز فقط. وهذا المعنى هو الذي كنا ضمنا من قبل عند كلامنا في هيئة البصر تبينه في هذا الفصل، وقد بيناه الآن أعني أن مركز الجليدية ومركز سطح البصر هو نقطة واحدة مشتركة.
وإذ قد تبين ذلك فقد بقي أن نكشف رأي أصحاب الشعاع ونبين فساد الفاسد منه وصحة الصحيح، فنقول إنه إن كان الإبصار إنما هو بشيء يخرج من البصر إلى المبصر فإن ذلك الشيء إما أن يكون جسماً أو غير جسم فإن كان جسماً فإننا إذا نظرنا إلى السماء ورأيناها ورأينا ما فيها من الكواكب وميزناها وتأملناها فإنه في ذلك الوقت قد خرج من أبصارنا جسم ملأ ما بين السماء والأرض ولم ينقص من البصر شيء، وهذا محال في غاية الاستحالة وفي غاية الشناعة، فليس الإبصار بجسم يخرج من البصر. وإذا كان الشيء الذي يخرج من البصر غير جسم فإن ذلك الشيء ليس يحس بالمبصر، لأن الإحساس ليس هو إلا للأجسام ذات الحياة، فليس يخرج من البصر المبصر شيء يحس بالمبصر.
وهو بين لأن الإبصار يكون بالبصر، فإذا كان الإبصار إنما هو بالبصر، وكان البصر ليس يدرك المبصر إلا بأن يخرج منه شيء إلى المبصر، وكان ذلك الشيء الذي يخرج من البصر ليس يحس بالمبصر، فالشيء الذي يخرج من البصر ليس يحس بالمبصر، والشيء الذي يخرج من البصر إلى المبصر إنما يؤدي إلى البصر شيئاً ما منه يدرك البصر المبصر. وليس هذا الذي يقال إنه يخرج من البصر شيئاً محسوساً وإنما هو مظنون. وليس يجوز أن يظن شيء من الأشياء إلا إذا كان هناك علة تدعو إلى الظن به. والعلة التي دعت أصحاب الشعاع إلى القول بالشعاع هي أنهم وجدوا البصر يدرك المبصر وبينه وبينه بعد، والمتعارف من الإحساس أنه لا يكون إلا بالملامسة، وكذلك ظنوا أن الإبصار ليس يكون إلا بشيء يخرج من البصر إلى المبصر ليكون ذلك الشيء إما أن يحس بالمبصر في موضعه وإما أن يأخذ من المبصر شيئاً ويؤديه إلى البصر فيحس به البصر عند وصوله إليه.

وإذا كان ليس يصح أن يخرج من البصر جسم يحس بالمبصر وليس يصح أن يحس بالمبصر شيء غير الجسم الحي، ولم يبق إلا أن يظن أن ذلك الشيء الذي يخرج من البصر إلى المبصر يقبل شيئاً ويؤديه إلى البصر.وإذا كان قد تبين أن الهواء والأجسام المشفة تقبل صورة المبصر وتؤديها إلى البصر وإلى كل جسم يقابل المبصر فذلك الشيء الذي يظن أنه يؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر إنما هو الهواء والأجسام المشفة المتوسطة بين البصر والمبصر. وإذا كان الهواء والأجسام المشفة تؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر في كل وقت وعلى تصاريف الأحوال إذا كان البصر مقابلاً للمبصر من غير حاجة إلى خروج شيء من المبصر فقد بطلت العلة التي دعت أصحاب الشعاع إلى القول بالشعاع. لأن هذا الذي دعاهم إلى القول بالشعاع هو اعتقادهم أن الإبصار لا يتم إلا بشيء يمتد بين البصر والمبصر ليؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر. وإذا كان الهواء والأجسام المشفة المتوسطة بين البصر والمبصر تؤدي إلى البصر شيئاً من المبصر من غير حاجة إلى شيء يخرج من البصر، وهي مع ذلك ممتدة بين البصر والمبصر، فقد سقطت الحاجة إلى إثبات شيء آخر يؤدي إلى البصر شيئاً، ولم تبق علة تدعوهم إلى أن شيئاً مظنوناً يؤدي من المبصر شيئاً إلى البصر. وإذا لم تبق علة تدعو أصحاب الشعاع إلى القول بالشعاع فقد بطل القول بالشعاع.
وأيضاً فإن جميع أصحاب التعاليم القائلين بالشعاع إنما يستعملون في مقاييسهم وبراهينهم خطوطاً متوهمة فقط ويسمونها الشعاع. وهذه الخطوط هي التي بينا أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا من سموتها فقط. فرأي من رأى أن خطوط الشعاع هي خطوط متوهمة هو رأي صحيح، وقد بينا انه ليس يتم الإبصار إلا بها. ورأي من رأى أنه يخرج من البصر شيء غير الخطوط المتوهمة هو رأي مستحيل، وقد بينا استحالته بأنه ليس يشهد به وجود ولا تدعو إليه علة ولا تقوم عليه حجة.
وقد تبين من جميع ما بيناه أن البصر إنما يحس بالضوء واللون اللذين في سطح البصر من صورة الضوء واللون اللذين في سطح المبصر التي تمتد من المبصر إلى البصر في الجسم المشف المتوسط بين البصر والمبصر، وأن البصر ليس يدرك شيئاً من الصور التي ترد إليه إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة بين المبصر وبين مركز البصر فقط التي هي أعمدة على جميع سطوح طبقات البصر، وذلك ما أردنا أن نبين.
وهذا هو كيفية الإبصار بالجملة . لأن البصر ليس يدرك من المبصر بمجرد الحس إلا الضوء واللون اللذين في المبصر فقط، فأما باقي المعاني التي يدركها البصر من المبصر كالشكل والوضع والعظم والحركة وما أشبه ذلك فليس يدركها البصر بمجرد الحس وإنما يدركها بقياس وأمارات، ونحن نبين هذا المعنى من بعد بياناً مستقصى في المقالة الثانية عند كلامنا في تفصيل المعاني التي يدركها البصر. وهذا المعنى الذي بيناه، أعني كيفية الإبصار، موافق لرأي المحصلين من أصحاب العلم الطبيعي وموافق للمتفق عليه من رأي أصحاب التعاليم. وقد تبين منه أن القبيلين محقان وأن المذهبين صحيحان ومتفقان وغير متناقضين، إلا أنه ليس يتم أحدهما إلا بالآخر ولا يصح أن يتم الإحساس بأحدهما دون الآخر، ولا يصح أن يكون الإبصار إلا بمجموع المعنيين.
والخطوط التي وصفناها هي التي يسميها أصحاب التعاليم خطوط الشعاع، وهي خطوط متوهمة فقط من سموتها فقد بهذه الصور يدرك البصر صور المبصرات. فالإحساس إنما هو من الصورة وهو تأثير الصورة في البصر ومن انفعال البصر بتأثيرها. والبصر متهيئ للانفعال بهذه الصور، ومتهيئ للانفعال على وضع غير محسوس وهو وضع سموت الأعمدة التي تقوم على سطحه فليس يحس بصور المبصرات إلا من سموت الأعمدة فقط، وإنما طبيعة البصر متخصصة بهذه الخاصة لأنه ليس تتميز المبصرات وتترتب أجزاء كل واحد من صور المبصرات عند البصر إلا إذا كان إحساسه بها من السموت فقط. فخطوط الشعاع هي خطوط متوهمة تتشكل بها كيفية الوضع الذي عليه ينفعل البصر بالصورة.

وقد تبين أن البصر إذا قابل المبصر فإنه يتشكل بين المبصر وبين مركز البصر مخروط رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر، فيكون بين كل نقطة من سطح المبصر وبين مركز البصر خط مستقيم متوهم هو عمود على سطوح طبقات البصر، ويكون المخروط مشتملاً على جميع هذه الخطوط، ويكون سطح الجليدية قاطعاً لهذا المخروط لأن مركز البصر الذي هو رأس المخروط من وراء سطح الجليدية. وإذا كان الهواء الذي بين البصر وذلك المبصر متصلاً فإن الصورة تكون ممتدة من ذلك المبصر على سمت هذا المخروط في الهواء الذي يحوزه هذا المخروط في طبقات البصر المشفة إلى الجزء من سطح الجليدية الذي ينفصل بهذا المخروط، ويكون المخروط مشتملاً على جميع السموت التي بين البصر والمبصر التي يدرك منها البصر صورة ذلك المبصر، وكون الصورة مرتبة في هذا المخروط كترتيبها في سطح المبصر، ويكون الجزء من سطح الجليدية الذي ينفصل بهذا المخروط يشتمل على جميع صورة المبصر الذي عند قاعدة هذا المخروط، وتكون الصورة مرتبة في هذا الجزء من سطح الجليدية بالخطوط المستقيمة الممتدة بين المبصر ومركز البصر التي من سموتها يدرك البصر تلك الصور كترتيب أجزاء سطح المبصر، لأن هذه الخطوط تقطع هذا الجزء من سطح الجليدية ويقطعه كل واحد منها على نقطة واحدة فقط.
وقد تبين أن الإحساس إنما يكون بالجلية . فإحساس البصر بالضوء واللون اللذين في سطح البصر إنما يكون من الجزء من الجليدية الذي يقدره المخروط المتشكل بين ذلك المبصر وبين مركز البصر وقد تقدم أن هذه الرطوبة فيها بعض الشفيف وفيها بعض الغلظ، ولذلك تشبه بالجليد. فلأن فيها بعض الشفيف فهي تقبل الصور فتنفذ الصور فيها بما فيها من الشفيف، ولأن فيها بعض الغلظ فهي تدافع الصور وتمنعها من النفوذ بما فيها من الغلظ، وتثبت الصور في سطحها وفي جسمها للغلظ الذي فيها. كذلك جسم مشف فيه بعض الغلظ إذا أشرق عليه الضوء نفذ الضوء فيه بحسب ما فيه من الشفيف وتثبت الصور في سطحه بحسب ما فيه من الغلظ كما تثبت في سطوح الأجسام الكثيفة، ويثبت الضوء أيضاً في جميع الجسم إذا نفذ فيه للغلظ الذي فيه فيظهر الضوء في سطحه وفي جميع الجسم بحسب ثبوته فيه.
وأيضاً فإن الجليدية متهيئة لقبول هذه الصور وللإحساس بها. فالصور تنفذ فيها للقوة القابلة الحساسة أيضاً التي هي فيها التي هي متهيئة للإحساس بها، وهي متهيئة لقبول هذه الصور من سموت خطوط الشعاع، فالصور تنفذ في جسمها على استقامة خطوط الشعاع.
فإذا حصلت الصورة في سطح الجليدية فهي تفعل فيها والجليدية تنفعل فيها، لأن من خاصة الضوء أن يفعل بالبصر ومن خاصة البصر أن ينفعل بالضوء. وهذا الذي يفعله الضوء بالجليدية ينفذ في جسم الجليدية على استقامة خطوط الشعاع فقط. وإذا نفذ الضوء في جسم الجليدية فاللون ينفذ معه لأن اللون ممتزج بالضوء. والجليدية تقبل هذا الفعل وهذا النفوذ من صور الأضواء والألوان لأنها متهيئة للانفعال بهذه الصور. ومن هذا الفعل وهذا الانفعال يكون إحساس الجليدية بتأثير صور المبصرات، ومن الصورة التي تحصل في سطحها وتنفذ في جميع جسمها يكون إحساسها بالمؤثر، ومن ترتب أجزاء الصورة فيسطحها وفي جميع جسمها يكون إحساسها بترتيب أجزاء المؤثر.

وهذا التأثير الذي يؤثره الضوء بالجليدية هو من جنس الألم. إلا ان من الآلام ما ينزعج له العضو المتألم وتقلق له النفس ومن الآلام ما يكون محتملاً فلا ينزعج له العضو المتألم ولا تقلق له النفس لسهولته. وما كان على هذه الصفة من الألم فليس يظهر للحس ولا يحكم المتألم به انه ألم لسهولته عليه. والذي يدل على أن تأثير الأضواء في البصر هو من جنس الألم هو أن الأضواء القوية تزعج البصر وتؤلمه. ويظهر للحس تألم البصر بالضوء القوي كضوء الشمس إذا حدق الناظر إلى نفس جرم الشمس، وكضوء الشمس المنعكس عن الأجسام الصقيلة إلى البصر، فإن هذه الأضواء تؤلم البصر وتزعجه إزعاجاً شديداً ويظهر تألم البصر بها. وتأثيرات جميع الأضواء في البصر من جنس واحد، وإنما تختلف بالأشد والأضعف. وإذا كانت كلها من جنس واحد، وكان تأثير القوي من الأضواء من جنس الألم، فجميع تأثيرات الأضواء في البصر من جنس الألم وإنما تختلف بالأشد والأضعف، ولسهولة تأثير الأضواء الضعيفة والمعتدلة في البصر يخفى عن الحس أنها آلام، فإحساس الجليدية بتأثيرات الأضواء هو إحساس من جنس الإحساس بالآلام. والجليدية متهيئة للانفعال بالأضواء والألوان والإحساس بها تهيؤاً في الغاية، فلذلك تحس بجميع الأضواء وجميع الألوان وتحس بالضعيف الخفي من الأضواء الذي يبعد في التخيل انه يؤلم البصر ويؤثر فيه تأثيراُ من جنس الألم للطف حسها وشدة تهيئها.
ثم عن هذا الإحساس الذي يقع عند الجليدية يمتد في العصبة الجوفاء، ويتأدى إلى مقدم الدماغ، وهناك يكون آخر الإحساس. والحاس الأخير الذي هو القوة النفسانية الحساسة تكون في مقدم الدماغ، وهذه القوة هي التي تدرك المحسوسات، والبصر إنما هو آلة من آلات هذه القوة، وغاية البصر ان يقبل صور المبصرات التي تحصل فيه ويؤديها إلى الحاس الأخير، والحاس الأخير هو الذي يدرك تلك الصور ويدرك منها المعاني المبصرة التي تكون في المبصرات. والصورة التي تحصل في سطح الجليدية تمتد في سطح الجليدية، ثم في الجسم اللطيف الذي في تجويف العصبة إلى أن تنتهي إلى العصبة المشتركة، وعند حصول الصورة في العصبة المشتركة يتم الإبصار، ومن الصورة التي تحصل في العصبة المشتركة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر.
والناظر إنما يدرك المبصرات ببصرين. وإذا كان الإبصار من الصورة التي تحصل في البصر، وكان الناظر يدرك المبصرات ببصرين، حصلت صور المبصرات في كل واحد من البصرين، فيحصل للمبصر الواحد في البصرين صورتان. ومع ذلك فإن الناظر يدرك المبصر الواحد في أكثر الأحوال واحداً، وإنما كان ذلك كذلك لأن الصورتين اللتين تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً إذا انتهتا إلى العصبة المشتركة التقت الصورتان وانطبقت إحديهما على الأخرى وصار منهما صورة واحدة، ومن الصورة التي تتحد من الصورتين يدرك الحاس الأخير صورة ذلك المبصر.
والذي يدل على أن الصورتين اللتين تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تجتمعان وتصيران صورة واحدة من قبل أن يدركها الحاس الأخير، وان الحاس الأخير إنما يدرك صورة المبصر في حال إدراكه واحداً من بعد اجتماع الصورتين، وهو أن الناظر إذا اعتمد بيده على إحدى عينيه فغمزها من جهة من الجهات غمزاً رفيقاً بلطف وتأييد حتى يتغير وضعها الذي هي عليه فتميل إلى اسفل وإلى فوق وإلى إحدى الجهات وتكون العين الأخرى ساكنة على حالها، ونظر في تلك الحال إلى مبصر من المبصرات التي في الجهة المقابلة للجهة التي كان فيها الغمز، ونظر بالبصرين، فإنه يرى المبصر الواحد اثنين، اعني أنه إن اعتمد على إحدى عينيه من أعلاها وغمزها إلى أسفل ونظر إلى الجهة السفلى فإنه يرى المبصر الواحد اثنين، وكذلك إن اعتمد على إحدى عينيه فغمزها من أسفلها إلى فوق فنظر إلى الجهة العليا فإنه يرى الواحد اثنين، وإذا أزال يده عن عينه ورجعت العين إلى وضعها الطبيعي، ثم نظر إلى ذلك المبصر، وقابله بالبصرين جميعاً فإنه يرى ذلك المبصر واحداً ويجد ذلك كذلك إذا كان ينظر بالعينين جميعاً فإن غمز إحدى عينيه وستر العين الأخرى لم ير المبصر الواحد إلا واحداً.

فلو كان الحاس يدرك المبصر الواحد من اجل أنه واحد لقد كان يدركه أبداً واحداً على اختلاف أحوال البصرين. ولو كان لا يرد إليه شيء من المبصر الواحد اثنين. وإذا كان الحاس الأخير إنما يدرك المبصرات من الصور التي ترد إليه، وكان يدرك المبصر الواحد في بعض الأحوال اثنين وفي بعض الأحوال واحداً، دل ذلك على أن الذي يرد إليه في حال إدراكه المبصر الواحد اثنين هو صورتان وأن الذي يرد إليه في حال إدراكه ذلك المبصر واحداً هو صورة واحدة . فإذا كان في كلا الحالين يحصل للمبصر الواحد في البصرين صورتان وكان الذي يتأدى إلى الحاس الأخير في بعض الأحوال هو صورتان وفي بعض الأحوال هو صورة واحدة، وكانت الصور التي تتأدى إلى الحاس الأخير إنما تتأدى إليه من المبصر، فإن الذي يتأدى إلى الحاس الأخير من الصورتين اللتان تحصلان في المبصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً هو صورة واحدة.
وليس تتأدى الصور إلى الحاس الأخير من أحد البصرين دون الأخر مع سلامة البصرين وإدراك ذلك المبصر بكل واحد من المبصرين. وإذا كان الذي يتأدى إلى الحاس من كل واحد من الصورتين اللتين تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراك ذلك المبصر واحداً هو صورة واحدة ، وكانت الصور تتأدى من البصرين جميعاً إلى الحاس الأخير، فالصورتان إذن اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد عند إدراكه واحداً تمتدان من البصرين وتلتقيان قبل إدراك الحاس الأخير لهما، ومن بعد التقائهما واتحادهما يدرك الحاس الأخير الصور المتحدة منهما. فالصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه اثنين تمتدان من البصرين ولا تلتقيان وتنتهيان إلى الحاس الأخير وهما صورتان. فالصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تلتقيان قبل وصولهما إلى الحاس الأخير، ومن بعد التقائهما يدرك الحاس الأخير من الصورة المتحدة منهما صورة ذلك المبصر.
وأيضاً فإن إدراك المبصر الواحد في بعض الأحوال واحداً وفي بعض الأحوال اثنين دليلاً على أن الإبصار ليس هو بالبصر فقط. لأنه لو كان الإبصار بالبصر فقط لكان البصران إدراك المبصر الواحد واحداً قد أدركا من الصورتين اللتين تحصلان فيهما للمبصر الواحد صورة واحدة ولكانا أبداً يدركان من الصورتين اللتين تحصلان فيهما للمبصر الواحد صورة واحدة.
وإذا كان المبصر الواحد يدرك في بعض الأحوال واحداً وفي بعض الأحوال اثنين، وفي كلا الحالين له في البصرين صورتان، دل ذلك على أن هناك حاساً آخر غير البصر تحصل عنده للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً صورة واحدة مع حصول صورتي ذلك المبصر في البصرين، وتحصل عنده للمبصر الواحد عند إدراكه اثنين صورتان، فإن الإحساس إنما يتم بذلك الحاس لا بالبصر فقط. ففي إدراك المبصر الواحد في بعض الأحوال واحداً وفي بعض الأحوال اثنين دليل على أن الصور التي تحصل في البصر تتأدى إلى الحاس الأخير، وإن بالحاس الأخير يكون تمام الإحساس لا بالبصر فقط، وفيه دليل على أن الصورتين اللتين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تلتقيان قبل إدراك الحاس الأخير لهما.

وأيضاً فإن الإحساس إنما يمتد من الأعضاء إلى الحاس الأخير في الأعصاب المتصلة بين الأعضاء وبين الدماغ. وإذا كان قد تبين أن الصور تمتد من البصر إلى الحاس الأخير الذي في مقدم الدماغ فالصور إذن تمتد من البصر في العصبة الممتدة بين البصر وبين الدماغ إلى أن تصل إلى الحاس الأخير. وإذا كان قد تبين أن الصورتين اللتين تحصلان للمبصر الواحد في البصرين في حال إدراك المبصر واحداً تمتدان إلى الحاس الأخير وتلتقيان قبل إدراك الحاس الأخير لهما، وكان امتداد الصور إلى الحاس الأخير إنما هو في العصاب، فإن هاتين الصورتين إذن تمتدان من البصرين في العصبتين الممتدتين من البصر وتلتقيان في الموضع الذي تلتقي فيه العصبتان. وقد تقدم في هيئة البصر أن العصبتين اللتين تمتدان من الدماغ إلى البصرين تلتقيان عند مقام الدماغ وتصيران عصبة واحدة، ثم تفترقان وتنتهيان إلى البصرين. وإذا كانت الصورتان تمتدان من البصرين في العصبتين وتلتقيان عند التقاء العصبتين فالصورتان إذن اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تمتدان من البصرين وتنتهيان إلى العصبة المشتركة وتلتقيان في هذه العصبة وتصيران صورة واحدة. وإذا كانت هاتان الصورتان تنتهيان إلى العصبة المشتركة فجميع الصور التي تحصل في البصر من صور المبصرات تنتهي إلى العصبة المشتركة.
ومما يدل دليلاً واضحاً على أن صور المبصرات تمتد في تجويف العصبة وتنتهي إلى الحاس الأخير ومن بعد امتدادها في تجويف العصبة يتم الإبصار هو أن هذه العصبة إذا حصل فيها سدة بطل الإبصار، وإذا زالت السدة عاد الإبصار تشهد بذلك صناعة الطب.
فأما لم تلتقي الصورتان في حال إدراك المبصر الواحد واحداً وليس تلتقيان في حال إدراكه اثنين فلأن المبصر الواحد إذا أدرك بالبصرين، وكان وضع البصرين وضعهما الطبيعي، كان وضع البصرين من المبصر الواحد وضعاً متشابهاً، فتحصل صورة المبصر الواحد في موضعين متشابهي الوضع من البصرين. وإذا ميل وضع البصرين اختلف وضع البصرين من ذلك المبصر، فتحصل صورتا ذلك المبصر في موضعين من البصرين مختلفي الوضع من البصرين. وقد تقدم في هيئة البصر أن العصبة المشتركة وضعها من البصرين وضع متشابه. وإذا كان وضع العصبة المشتركة من البصرين وضعاً متشابهاً كان وضع الموضعين المتشابهي الوضع من البصرين من موضع واحد بعينه من العصبة المشتركة وضعاً متشابهاً. فإذا امتدت الصورتان من الموضعين المتشابهي الموضع انتهتا إلى ذلك الموضع الواحد بعينه من العصبة المشتركة الذي وضعه من ذينك الموضعين وضع متشابه، فتنطبق الصورتان إحديهما على الأخرى وتصيران صورة واحدة.
والموضعان المختلفا الوضع من البصرين ليس يكون وضعهما من موضع واحد بعينه من العصبة المشتركة وضعاً متشابهاً. فإذا امتدت الصورتان من الموضعين المختلفي الوضع وانتهتا إلى العصبة المشتركة فإنهما تنتهيان إلى موضعين من هذه العصبة لا إلى موضع واحد، فتحصلان في هذه العصبة صورتين، وكذلك يدرك المبصر الواحد الذي على هذه الصفة اثنين.
وإنما التقت العصبتان اللتان تنشأن من مقدم الدماغ اللتان هما مبدأ البصرين وفي الموضع الذي وضعه من البصرين وضع متشابه، وصار تجويفهما تجويفاً واحداً، لتجتمع الصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد عند هذه العصبة وتصيران صورة واحدة، فيدرك الحاس الأخير المبصر الواحد واحداً. فجميع الصور التي تحصل في البصرين من صور المبصرات تمتد من البصرين في العصبتين الجوفاوين وتنتهي إلى تجويف العصبة المشتركة، والصورتان اللتان تحصلان في البصرين للمبصر الواحد في حال إدراكه واحداً تلتقيان في تجويف هذه العصبة وتحصلان صورة واحدة، ومن الصور التي تحصل في هذه العصبة يدرك الحاس الأخير صور المبصرات.

وقد يمكن أن يقال إن الصور التي تحصل في البصر ليس تنتهي إلى العصبة المشتركة لكن الإحساس الذي عند البصر يمتد من البصر إلى العصبة المشتركة كما يمتد الإحساس بالآلام والإحساس بالملموسات، وعن وصول الإحساس إلى العصبة المشتركة يدرك الحاس الأخير ذلك المحسوس، وأن الإحساس الذي يكون للمبصر الواحد في البصرين في حال إدراكه واحداً ينتهي أى موضع واحد من العصبة المشتركة، فيصير الإحساسان في موضع واحد من العصبة المشتركة، فلذلك يحس الحاس الأخير بالمبصر الواحد واحداً، فيكون الذي يصل إلى العصبة المشتركة هو الإحساس لا بالصور.
فنقول إن الإحساس الذي يحصل في البصر ينتهي إلى العصبة المشتركة لا محالة، ولكن الإحساس الذي يحصل في البصر ليس هو إحساس ألمٍ فقط بل هو إحساس بتأثير هو من جنس الألم وإحساس بإضاءة وإحساس بلون وإحساس بترتيب أجزاء المبصر. والإحساس باختلاف الألوان وبترتيب أجزاء المبصر ليس هو من جنس الألم وسنبين من بعد كيف يكون إحساس البصر بكل واحد من هذه المعاني والإحساس بصورة المبصر على ما هي عليه ليس يكون إلا من الإحساس بجميع المعاني التي في الصورة. وإذا كان الإحساس الذي يقع عند البصر ينتهي إلى العصبة المشتركة، ومن الإحساس الذي يحصل عند العصبة المشتركة تدرك القوة الحساسة صور المبصر فالإحساس إذن الذي يحصل في العصبة المشتركة هو إحساس بالضوء واللون والترتيب. فالشيء الذي يتأدى من البصر إلى العصبة المشتركة على تصاريف الأحوال الذي منه يدرك الحاس الأخير صورة المبصر هو شيء يدرك منه الحاس الأخير الضوء الذي في المبصر واللون الذي فيه وترتيب أجزائه. والشيء الذي يدرك منه الحاس الأخير الضوء واللون والترتيب هو صورة ما. فصورة المبصر التي تحصل في البصر يتأدى منها إلى العصبة المشتركة على تصاريف الأحوال صورة ما مترتبة، ومن الصورة المترتبة التي تحصل في هذه العصبة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر على ما هي عليه. فالإحساس بالتأثير الذي يحصل في سطح الجليدية يصل إلى العصبة المشتركة، وصورة الضوء واللون التي تحصل في سطح الجليدية تصل أيضاً إلى العصبة المشتركة وتصل مرتبة كترتيبها في سطح الجليدية.
فقد تبين من جميع ما ذكرناه أن الإبصار إنما يكون من الصور التي ترد من المبصرات إلى البصر، وأن هذه الصور تحصل في سطح الرطوبة الجليدية ، وتنفذ في جسم الجليدية وتحس بها الجليدية عند نفوذها فيها، وأن الجليدية إنما تحس بهذه الصورة من سموت خطوط الشعاع فقط، وأن الصورة التي تحس بها الجليدية تمتد في الجسم الحاس الممتد في تجويف العصبة وتنتهي إلى تجويف العصبة المشتركة، وأن جميع صور المبصرات التي يدركها البصر تنتهي إلى العصبة المشتركة، وأن الإبصار إنما يتم بإدراك الحاس الأخير لصور المبصرات، وأن الحاس الأخير إنما يدرك صور المبصرات من الصورة التي تحصل في العصبة المشتركة، وأن الصورتين اللتين تحصلان في البصر للمبصر الواحد في موضعين متشابهين تلتقيان في العصبة المشتركة وتصيران صورة واحدة، ومن الصورة الواحدة التي تحصل في هذه العصبة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر. وهذا هو مشروح كيفية الإبصار وترتيبه.
وقد بقي أن يقال إذا كانت صور الألوان والأضواء تمتد في الهواء وفي الأجسام المشفة وتصل إلى البصر، وكان الهواء والأجسام المشفة تقبل جميع الألوان والأضواء، وكانت جميع الألوان التي تحضر في وقت واحد تمتد صور جميعها في الوقت الواحد في هواء واحد وتصل إلى بصر واحد وينفذ أيضاً جميعها في شفيف طبقات البصر، فيلزم من ذلك أن تمتزج هذه الألوان والأضواء في الهواء وفي الأجسام المشفة وتصل إلى البصر ممتزجة وتؤثر في جسم البصر وهي ممتزجة، فلا تتميز للبصر ألوان المبصرات ولا تتميز له المبصرات. وإذا كان ذلك كذلك فليس إحساس البصر بالمبصرات من هذه الصور.

فنقول إن الهواء والأجسام المشفة ليس تنصبغ بالألوان والأضواء ولا تتغير بها تغيراً ثابتاً، وإنما خاصة الأضواء والألوان أن تمتد صورها على سموت مستقيمة.ومن خاصة الجسم المشف أن لا يمنع نفوذ صور الأضواء والألوان في شفيفه، فهو إنما يقبل هذه الصور قبول تأدية لا قبول استحالة. وقد تبين أن صور الأضواء والألوان ليس تمتد في الهواء والأجسام المشفة إلا على سموت الخطوط المستقيمة فقط. وإذا كانت صور الأضواء والألوان ليس تمتد إلا على السموت المستقيمة فكل جسم من الأجسام المتلونة المضيئة التي تحضر معاً في هواء واحد تمتد صورة الضوء واللون اللذين فيه على سموت الخطوط المستقيمة التي تمتد منه في ذلك الهواء، وتكون السموت التي تمتد عليها الصور المختلفة متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع، كل سمت منها متميز بالجسم الذي منه امتدت الصورة على ذلك السمت. وإذا كان الهواء والأجسام المشفة ليس تنصبغ بالألوان ولا بالأضواء ولا تتأثر بها تأثراً ثابتاً وإما تنفذ الصور فيها فقط فالصور التي تمتد من الأجسام المختلفة في هواء واحد تمتد كل صورة منها على سموتها وتنفذ إلى الجهات المقابلة لها من غير أن تمتزج بغيرها.
والذي يدل على أن الأضواء والألوان ليس تمتزج في الهواء ولا في الأجسام المشفة هو أنه إذا كانت في موضع واحد عدة سرج في أمكنة متفرقة، وكانت جميعها مقابلة لثقب واحد، وكان ذلك الثقب ينفذ إلى مكان مظلم، وكان مقابل ذلك الثقب في المكان المظلم جدار أو قوبل الثقب في المكان المظلم بجسم كثيف، فإن أضواء تلك السرج تظهر على ذلك الجسم أو ذلك الجدار متفرقة وبعدد تلك السرج وكل واحد منها مقابلاً لواحد من السرج على السمت المستقيم الذي يمر بالثقب. وإذا ستر واحد من السرج بطل من الأضواء التي في الموضع المظلم الضوء الذي كان يقابل ذلك السراج فقط، وإن رفع الساتر عن السراج عاد ذلك الضوء إلى مكانه. وأي سراج من تلك السرج ستر بطل من الموضع الضوء الذي كان يقابل ذلك السراج الذي ستر فقط، وإذا رفع الساتر عاد الضوء إلى موضعه.
وهذا المعنى يمكن أن يعتبر في كل وقت وبسهولة. وذلك بأن يعتمد المعتبر بيتاً من البيوت في ليل مظلم ويكون على البيت باب من مصراعين، ويحضر عدة من السرج ويجعلها مقابلة للباب ومتفرقة. ويدخل المعتبر إلى داخل البيت ويرد الباب ويفرج بين المصراعين ويفتح منهما مقداراً يسيراًن ثم يتأمل حائط البيت المقابل للباب: فإنه يجد عليه أضواءً متفرقة بعدد تلك السرج قد دخلت من فرجة الباب كل واحد منها مقابل لسراج من تلك السرج. ثم إن تقدم المعتبر بأن يستر واحداً من تلك السرج بطل الضوء المقابل لذلك السراج، وإذا رفع الساتر عاد الضوء. وإن ستر المعتبر الفرجة التي انفرجت من الباب وبقي منها ثقب صغير فقط، وكان الثقب مقابلاً للسرج ، فإنه يجد على حائط البيت أضواءً متفرقة أيضاً بعدد تلك السرج وكل واحد منها بحسب مقدار الثقب.
وجميع الأضواء التي تظهر في المكان المظلم إنما وصلت إليه من الثقب فقط، فقد اجتمعت أضواء جميع تلك السرج في الثقب ثم افترقت بعد نفوذها من الثقب. فلو كانت الأضواء تمتزج في الهواء لكانت أضواء السرج التي تجتمع في الثقب تمتزج في الهواء الذي في الثقب وفي الهواء المتقدم للثقب قبل وصولها إلى الثقب، وكانت إذا نفذت من الثقب تنفذ ممتزجة فلا تتميز بعد نفوذها. وليس نجد الأمر كذلك، وإنما يوجد نفوذها متميزة، فكل واحد منها مقابل للسراج الذي منه ذلك الضوء. وإذا كان ذلك كذلك فالأضواء إذن ليس تمتزج في الهواء، بل كل واحد منها يمتد على سموت مستقيمة، ويتميز بالسموت التي يمتد عليها، وتكون السموت التي تمتد عليها الأضواء المتفرقة متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع كل واحد من الأضواء تمتد صورته على جميع السموت التي يصح أن تمتد منه في ذلك الهواء، ومع ذلك فلا تمتزج في الهواء ولا ينصبغ الهواء بها وإنما تنفذ في شفيفه فقط والهواء مع ذلك حافظ لصورته.

وقد تبين أن صور الألوان تصحب ويوجدان أبداً معا. فصور الألوان أيضاً تمتد في الهواء على السموت المستقيمة التي تمتد عليها الأضواء، والألوان المتفرقة تمتد صورها على سموت متقاطعة ومتوازية ومختلفة الوضع كما تمتد صور الأضواء المتفرقة، وتكون مصاحبة للأضواء ، ولا تمتزج صور الألوان ولا ينصبغ الهواء بها بل تكون كل صورة من صور الألوان المختلفة المتفرقة متميزة بسموتها.
وكذلك الحال في جميع الأجسام المشفة تمتد صور الأضواء والألوان فيها ولا تمتزج ، ولا تنصبغ الأجسام المشفة بها، وكذلك طبقات البصر المشفة تنفذ فيها صور جميع الألوان والأضواء التي تقابل البصر في وقت واحد، ولا تمتزج الصور فيها ولا تنصبغ هي بها.
فأما العضو الحاس الذي هو الرطوبة الجليدية فليس قبوله لصور الألوان والأضواء كقبول الهواء والأجسام المشفة الغير حساسة بل على صفة مخالفة للصفة التي عليها تقبل الأجسام المشفة هذه الصور. وذلك أن هذا العضو متهيئ للإحساس بهذه الصور، فهو يقبلها بما هو حساس مع قبوله لها بما هو مشف. وقد تبين ان انفعاله بهذه الصور هو من جنس الألم، وكيفية قبوله لهذه الصور مخافة لكيفية قبول الأجسام المشفة الغير حساسة، إلا أن هذا العضو مع قبوله لهذه الصور بما هو حساس ومع تأثيرها فيه وتألمه بها ليس ينصبغ بهذه الصور انصباغاً ثابتاً ولا تبقى صور الألوان والأضواء فيه بعد انصرافه عن مقابلتها وانصرافها عن مقابلته.
وقد يمكن أن يعارض هذا القول أيضاً، أعني أن البصر ليس ينصبغ بالألوان والأضواء، فيقال: قد تقدم أن الأضواء القوية والألوان المشرقة التي تشرق عليها أضواء قوية تؤثر في البصر وتبقى آثارها في البصر بعد انصرافه عن مقابلتها، وتبقى صور الألوان في البصر زماناً محسوساً. ونجد البصر كلما يدركه من المبصرات في عقيب هذا التأثير ملتبساً بالألوان التي أثرت فيه.
وهذا المعنى ظاهر لا يقع فيه لبس. وإذا كان ذلك كذلك فالبصر إذن ينصبغ بالألوان والأضواء. ويلزم أيضاً من ذلك أن تكون الأجسام المشفة الرطبة تنصبغ بالألوان والأضواء.
فنقول إن هذا المعنى بعينه هو الذي يدل على أن البصر ليس ينصبغ بالألوان والأضواء ولا تبقى آثار الأضواء والألوان فيه. وذلك أن هذه الآثار التي ذكرناها إنما تكون بالإفراط ومن الأضواء المفرطة والألوان التي تشرق عليها أضواء في غاية القوة.وهو ظاهر أن هذه الآثار ليس تبقى بعد انصرافه عن مقابلة مؤثراتها إلا زماناً يسيراً ثم تزول. وهو ظاهر أيضاً أن الأضواء المعتدلة والضعيفة وآثار الألوان التي أضواؤها معتدلة وضعيفة ليس تبقى في البصر بعد انصرافه عن مقابلتها ولا يسيراً من الزمان. فالعضو الحاس إذن الذي هو الجليدية يتأثر بالأضواء والألوان بقدر ما يحس من الأثر بالمؤثر. ثم يزول منه ذلك الأثر بعد انصرافه عن مقابلة المؤثر. فتأثره بالألوان والأضواء هو انصباغ ما ولكنه انصباغ غير ثابت.
وأيضاً فإن البصر متهيئ للأثر والألوان والإحساس بها، فهو يتأثر بها، ومع ذلك ليس تبقى فيه الآثار. والهواء والأجسام المشفة الخارجة عن البصر والطبقات المشفة المتقدمة للجليدية من طبقات البصر ليست متهيئة للتأثر بالأضواء والألوان والإحساس بها، وإنما هي متهيئة لتأدية الأضواء والألوان فقط. فالهواء والأجسام المشفة تؤدي صور الأضواء والألوان ولا تنصبغ بها ولا تتأثر، بل تكون أبداً حافظة لصورتها، ومع ذلك تؤدي الصور التي تشرق عليها، وكذلك جميع الجسام المشفة وجميع طبقات البصر المشفة المتقدمة للجليدية.

فقد تبين مما ذكرناه أن البصر ليس ينصبغ بالألوان وصور الأضواء انصباغاً ثابتاً ولا تبقي آثارها فيه بل تؤثر فيه آثاراً غير باقية، والهواء والأجسام المشفة والطبقات المتقدمة للجليدية من طبقات البصر ليس تنصبغ بالألوان ولا بصور الأضواء ولا تتأثر بها، وإنما تؤدي هذه الصور فقط. وقد تبين أن صور الأضواء والألوان ليس تمتزج في الهواء والأجسام المشفة ولا تختلط بل تكون كل صورة منها متميزة بسموتها. فصور جميع الأضواء والألوان التي تحضر في وقت واحد تمتد في الهواء النتصل بها وفي جميع الأجسام المشفة المقابلة لها على جميع السموت المستقيمة التي يصح أن تتوهم ممتدة من تلك الأضواء والألوان في ذلك الهواء وفي تلك الأجسام المشفة، وكل واحدة منها متميزة بالسموت التي تمتد عليها وغير ممتزجة ولا مختلطة، وتكون هذه الصور أبداً في الهواء وفي جميع ما يتصل بها ويقابلها من الأجسام المشفة، ولكونها في جميع الهواء يدرك المبصر الواحد في الوقت الواحد جماعة من الأبصار من المواضع المختلفة من الهواء كل واحد من الأبصار يدركه من الجزء من الهواء الذي يحوزه المخروط المتشكل بين ذلك المبصر وبين مركز البصر، ولكون هذه الصورة أبداً في الهواء يدرك البصر كلما فتح أجفانه كلما قابله في الوقت الواحد من المبصرات، وكلما اجتاز في موضع من المواضع أدرك كلما في ذلك الموضع من المبصرات المقابلة له.
فأما لم ليس تظهر صور جميع الألوان على جميع الأقسام المقابلة لها ويظهر بعضها وليس يظهر البعض إلا إذا كان اللون قوياً، وكان الضوء الذي في اللون قوياً، وكان الضوء الذي في الجسم الذي تظهر عليه صورة اللون ضعيفاً، وكان لون ذلك الجسم مسفراً، مع امتداد جميع هذه الصور في الهواء وإشراقها أبداً على الجهات المقابلة لها، فإن ذلك لشيء يرجع إلى البصر لا أن هذه الصور ليس تشرق على الأجسام المقابلة لها، بل كل جسم متلون مضيء بأي ضوء كان فإن صورة ضوئه ولونه تشرقان أبداً على جميع الأجسام المقابلة له التي ليست أبعادها متفاوتة. أما الأضواء فأمرها ظاهر، لأنه إذا اعتبر كل جسم مضيء بأي ضوء كان بعد ان يكون الضوء الذي فيه ليس في غاية الضعف، واعتبر على الوجوه التي قدمناها بأن يقابل به مكان مظلم، ويحصل في المكان المظلم جسم أبيض، ويكون المنفذ الذي بين المكان المظلم وبين الجسم المضيء من ثقب أو من موضع ضيق، فإن الضوء يظهر على ذلك الجسم. وأما الألوان فإنه ليس يظهر منها إلا ما كان على صفة مخصوصة، وليس يظهر ما كان على خلاف الصفة. وذلك انه قد تبين بالاستقراء أن صور الألوان تكون أبداً أضعف من الألوان أنفسها، وكلما بعدت الصور عن مبدئها ازدادت ضعفاً. وكذلك صور الأضواء تكون أضعف من الأضواء أنفسها، وكلما بعدت ازدادت ضعفاً.
وقد تبين أيضاً بالاستقراء أن الألوان القوية إذا كانت في مواضع مظلمة، وكانت الأضواء التي عليها يسيرة جداً، فإن تلك الألوان تظهر مظلمة ولا تتميز للبصر. وإذا كانت في مواضع مضيئة وكانت الأضواء التي عليها قوية ظهرت الألوان وتميزت للبصر. وكذلك الأجسام المشفة المتلونة إذا أشرق عليها الضوء فإنه إذا كان الضوء قوياً ظهرت ألوانها من ورائها على الأجسام المقابلة لها، وإذا كان ذلك الضوء ضعيفاً ظهر من ورائها الظلال فقط، ولم تظهر الألوان، ولم تتميز كملا لم تتميز للبصر الألوان في المواضع المغدرة الضعيفة الضوء.
وقد تبين أيضاً بالاستقراء أن صور الألوان التي تظهر على الأجسام المقابلة لها إذا أشرق عليها ضوء قوي خفيت عن البصر، وإنما تظهر إذا كان الضوء الذي عليها ضعيفاً.
وقد تبين أيضاً أن الأضواء القوية إذا وصلت إلى البصر عاقته عن إدراك المبصرات الخفية التي تقابله في تلك الحال.

وقد تبين أن البصر إنما يدرك اللون من الصورة التي ترد إليه من ذلك اللون، وأن إدراكه يكون على سموت مخصوصة. فإذا نظر الناظر إلى الجسم من الأجسام الكثيفة التي قد أشرق عليها صورة لون من الألوان فإنه إنما يدرك تلك الصورة من صورة ثانية ترد إليه من تلك الصورة، وتكون هذه الصورة الثانية أضعف من الصورة الأولى التي على ذلك الجسم. والصورة الأولى أضعف من اللون نفسه. فالصورة الثانية التي ترد إلى البصر من الصورة الأولى تكون أضعف من اللون نفسه بكثير. وليس يدرك البصر الجسم الكثيف الذي تظهر عليه الصورة إلا إذا كان فيه ضوء ما أم الضوء الذي يرد مع صورة اللون المشرقة عليه أو ذلك الضوء وغيره من الأضواء. فالصورة الثانية التي ترد إلى البصر من صورة اللون الأولى ترد إليه مع صورة الضوء الذي في ذلك الجسم الكثيف. وذلك الجسم الكثيف الذي عليه الصورة هو مع ذلك مضيء يدرك البصر لونه أيضاً في تلك الحال. فصورة لونه أيضاً ترد إلى البصر مع الصورة الثانية التي ترد إليه من صورة اللون الذي عليه. وصورة لون هذا الجسم التي ترد إلى البصر في تلك الحال هي صورة أولى، والبصر إنما يدرك ما يدركه من سمت مخصوص، والسمت المخصوص الذي بينه وبين الجسم الكثيف الذي منه يدرك صورة لون ذلك الجسم الكثيف منه بعينه يدرك الصورة الثانية التي ترد من صورة من صورة اللون المشرق على ذلك الجسم الكثيف لأن تلك الصورة هي في أسطح ذلك الجسم، فالبصر يدركها من السموت التي بينه وبين ذلك السطح. وهو يدرك لون ذلك الجسم من السموت التي بينه وبين ذلك السطح بعينها، وكذلك الضوء الذي في ذلك الجسم يدركه البصر من تلك السموت بعينها. فالصور الثلثة التي ترد إلى البصر من ذلك الجسم يدركها البصر من سمت واحد بعينه.
وإذا كانت الصور الثلثة يدركها البصر من سمت واحد بعينه فهو يدركها ممتزجة. والصورة الثانية التي ترد إلى البصر من صورة اللون التي على الجسم المقابل له يدركها البصر ممتزجة بصورة لون ذلك الجسم وصورة ضوئه. فهو يدرك من مجموع اللونين صورة غير صورة كل واحد منهما. فإن كان الجسم الكثيف الذي عليه الصورة ذا لون قوي كانت صورته التي ترد إلى البصر قوية، وهي صورة أولى، وهي صورة ممتزجة بالصورة الثانية التي ترد إليه من صورة اللون المشرق على ذلك الجسم، وهذه الصورة ضعيفة، فليس تظهر هذه الصورة للبصر لأنه إذا مازج لون ضعيف للون قوي استظهر اللون القوي على الضعيف وخفي اللون الضعيف عن الحس كذلك توجد أبداً الألوان والأصباغ إذا امتزج بعضها ببعض. فالأجسام المتلونة القوية الألوان ليس تظهر صور الألوان المشرقة عليها لامتزاج هذه الصور بألوانها عند البصر واستظهار ألوانها على ألوان الصور المشرقة عليها. وإن كان الجسم الذي عليه الصورة أبيض أو مسفر اللون، وكان الضوء الذي عليه قوياً، فالصورة التي تشرق عليه تخفى لقوة الضوء الذي عليها كما تبين ذلك بالاستقراء مع كونها على ذلك الجسم. وإنما تخفى صورة اللون إذا كان الضوء الذي عليها قوياً، لأن صورتها الثانية ترد إلى البصر مع صورة الضوء القوي ومع بياض الجسم الذي هي عليه.
وقد تبين أن الضوء القوي إذا وصل إلى البصر فإنه يعوق البصر عن إدراك الصور الضعيفة. فإذا وصل إلى البصر ضوء قوي مع بياض الجسم الذي هو عليه فإنه يعوقه عن إدراك الصورة الثانية الضعيفة التي ترد إليه معها. وإذا كان الجسم الذي عليه صورة اللون أبيض، وكان الضوء الذي عليه ضعيفاً، وكانت صورة اللون التي عليه أيضاً ضعيفة وكانت الصورة في غاية الضعف، فإن صورة الضوء الذي في ذلك الجسم وإن كانت ضعيفة مع بياض ذلك الجسم ربما كانت مستظهرة على صورة اللون التي في غاية الضعف، فإذا وصلا إلى البصر لم تتميز تلك الصورة للبصر. وإن كان الجسم الذي عليه الصورة أبيض، وكان اللون الذي تشرق صورته عليه أسود أو مظلماً، فإنما تكسف تلك الصورة بياض ذلك الجسم فقط وتنقص منه وتكون كالظل، ويدرك البصر من ذلك الجسم بياضاً ليس في الغاية كما يدرك الجسم الأبيض في الظل، فلا تتميز له الصورة.

وجميع ذلك كذلك إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون قوياً وكانت الصورة التي تشرق منه على الجسم المقابل له مسفرة. فأما إذا كان الضوء الذي في الجسم المتلون ضعيفاً فإن الصورة التي تكون منه على الجسم المقابل له تكون مظلمة، فتكون عند البصر كالألوان التي يدركها في المواضع المظلمة التي الضوء فيها ضعيف جداً، وكألوان الأجسام المشفة التي تشرق عليها أضواء ضعيفة فتظهر أظلال تلك الأجسام من ورائعا ولا تظهر صور ألوان تلك الأجسام في تلك الأظلال. فصور الألوان التي في الأجسام المتلونة إذا كانت الأضواء التي عليها ضعيفة إذا أشرقت على الأجسام المقابلة إنما تكون أظلالاً فقط بالإضافة إلى إحساس البصر فلا تتميز ألوانها عند البصر. فإن كان الجسم المقابل للون الذي بهذه الصفة في مكان مظلم فليس يظهر عليه شيء لظلمته وظلمة الصورة التي ترد عليه. وإن كان الجسم المقابل لهذا اللون في مكان مضيء، وكان عليه ضوء من غير تلك الصورة، ويظهر للبصر لون هذا الجسم ولا تظهر الصورة بل تنقص الصورة من لونه فقط لأنها كالظل ولا يتميز للبصر هذا النقصان. وإن كان هذا الجسم الذي عليه الصورة أبيض، وكان مع ذلك مضيئاً بضوء غير ضوء الصورة، فإن الصورة تكسف بياض هذا الجسم وضوءه فقط لظلمتها، كما تفعل الأظلال في الأجسام البيض، ولا تتميز الصورة للبصر.في الأجسام البيض، ولا تتميز الصورة للبصر.
فإن كان الضوء الذي في الجسم المتلون قوياً، وكان الجسم الذي تشرق عليه الصورة ابيض، وكان الضوء الذي على هذا الجسم ضعيفاً، وكانت صورة اللون المشرقة عليه قوية بالإضافة إلى الضوء الذي عليه ع بياضه، وكانت الصورة من لون مشرق قوي، وكانت الصورة الثانية التي ترد إلى البصر من هذه الصورة قوية ومستظهرة على صورة الجسم الذي هي عليه وعلى الضوء الذي فيه، فإن البصر يدرك حينئذ هذه الصورة وتظهر له. والصور التي بهذه الصفة فقط هي التي يدركها البصر على الجسام المقابلة للألوان.
فالبصر إذن إنما يدرك صورة اللون على الجسم المقابل للون إذا كانت الصورة الثانية التي ترد إليه من صورة اللون أقوى واظهر من الصورة الأولى التي ترد إليه معها من الضوء واللون اللذين في الجسم الذي عليه الصورة. وهذه الصفة قليلة، فلذلك يقل ما يظهر من هذه الصور، ولا يظهر منها إلا ما كان من الألوان القوية المشرقة، وإذا كانت الأضواء التي عليها قوية، وما كان من هذه الصور على الأجسام النقية البياض والمسفرة الألوان، وإذا كانت الأضواء التي على هذه الأجسام ضعيفة بالإضافة إلى تلك الصور. ولا يظهر ما كان بخلاف هذه الصفة. والأكثر من صور المبصرات بخلاف هذه الصفة.
وكذلك الأضواء الضعيفة التي ليس يظهر ضوؤها على الأجسام المقابلة لها إنما ليس يظهر لأن الجسم المقابل للضوء الضعيف إذا كان مضيئاً بضوء غير ذلك الضوء امتزج الضوءان فلم يتميز الضوء الضعيف للبصر. وإذا كان الجسم المقابل للضوء الضعيف مظلماً فليس تظهر صورة اللون الضعيف عليه لن صورة الضوء الضعيف تكون ضعيفة وأضعف من الضوء نفسه، والصورة الثانية التي ترد إلى البصر من هذه الصورة التي منها يجب أن يدرك البصر هذه الصورة على الجسم المقابل للضوء تكون أضعف من هذه الصورة.فإذا كان الضوء ضعيفاً، وكان الجسم المقابل له مظلماً، كانت الصورة التي على الجسم المقابل له ضعيفة جداً، وكانت الصورة الثانية التي ترد منها إلى البصر في غاية الضعف. والبصر ليس يدرك الأضواء التي في غاية الضعف، ولا في قوة الحس أن يدرك ما كان في غاية اللطافة والضعف. فلذلك يدرك البصر صور الأضواء الضعيفة على الأجسام المقابلة لها، ويدرك مع ذلك الأضواء الضعيفة أنفسها إذا لم تكن في غاية الضعف، انه يدرك الأضواء أنفسها من الصورة الأولى التي ترد إليه منها، وهي أقوى من الصورة الثانية التي ترد إليه من الصورة التي على الجسم المقابل له ومع ذلك غير ممتزجة بغيرها.

فصور جميع الألوان المضيئة وصور جميع الأضواء تشرق على الأجسام المقابلة لها وتكون أبداً مشرقة عليها، وليس يظهر أكثرها للبصر للعلل التي ذكرناها، ويظهر بعضها للبصر إذا كان على الصفات التي وصفناها. فقد تبينت العلة التي من أجلها ليس يدرك البصر صور جميع الألوان التي في الأجسام المتلونة على جميع الأجسام المقابلة لها ويدرك بعضها ، وهو مع ذلك يدرك جميع الألوان التي في الأجسام المتلونة. وعلة ذلك هي أنه يدرك الألوان التي في الأجسام المتلونة من الصورة الأولى التي ترد إليه منها، وهي أقوى من الصورة الثانية التي ترد إليه من صور ألوانها التي على الأجسام المقابلة لها، ويدرك صور الألوان أيضاً منفردة غير ممتزجة بغيرها، ويدرك الصورة الثانية التي ترد من صور ألوانها ممتزجة بغيرها.
وهذا المعنى هو الذي ضمنا في آخر الفصل الثالث تبيينه في هذا الفصل. ويتبين من هذا المعنى أن الألوان التي يدركها البصر من المبصرات إنما يدركها ممتزجة بصور الأضواء التي هي فيها ممتزجة بجميع الصور المشرقة عليها من ألوان الأجسام المقابلة لها. وإن كان الجسم المشف المتوسط بينها وبين البصر فيه بعض الغلظ فإن لونه أيضاً يمتزج بألوانها، وليس يدرك البصر لوناً من الألوان مجرداً على انفراده من صورة تمازجه، إلا أن الصور التي تشرق على الأجسام المقابلة للأجسام المتلونة تكون في الأكثر في غاية الضعف والرقة، والصورة الثانية التي ترد من كل واحدة منها إلى ابصر تكون في الأكثر في غاية الضعف.
فلذلك تكون ألوان الأجسام أنفسها في الأكثر مستظهرة على الصورة التي تشرق عليها ولا تتميز للبصر الصورة المشرقة عليها. وكذلك إن كان الجسم المتوسط بين البصر والمبصر فيه غلظ يسير لم يتميز للبصر لونه من لون المبصر الذي يرد معه، إذا كان لون المبصر الذي يرد معه أقوى من لونه ومستظهراً على لونه.
فأما الأضواء القوية لم تعوق البصر عن إدراك المبصرات وتخفي عن البصر بعض المعاني التي تكون في المبصرات فإن ذلك إنما هو لأن الصور التي ترد إلى البصر على سمت واحد إنما يدركها البصر ممتزجة. فإذا كان بعض الصور الممتزجة قوياً مسرف القوة وبعضها ضعيفاً استظهرت الصورة القوية على الصورة الضعيفة فلم تتميز الصورة الضعيفة للبصر ولم يدركها البصر. وإذا كانت الصور الممتزجة متقاربة في القوة أدرك البصر كل واحدة منها ويكون إدراكه لكل واحدة من الصور الممتزجة بحسب ما يمازجها من الصور الممازجة لها، لأن الصور الممتزجة ليس يدرك البصر كل واحدة منها منفردة وإنما يدركها ممتزجة.
والكواكب ليس إنما يدركها البصر في ضوء النهار لأن ضوء الشمس الذي يحصل في الهواء أقوى من ضوء الكواكب. فإذا نظر ناظر إلى السماء في ضوء النهار كان الهواء الذي بينه وبين السماء مضيئاً بضوء الشمس ومتصلاً بالبصر، وكانت الكواكب من وراء ذلك الضوء، فتكون صورة الكوكب وصورة الضوء الذي في الهواء المتوسط بين البصر وذلك الكوكب يردان إلى البصر على سمت واحد فيدركهما البصر ممتزجين. وصورة الضوء التي ترد من الهواء المتوسط بين البصر وبين الكوكب بالنهار الذي هو من الأضواء الثواني أقوى من صورة ضوء الكوكب بكثير. فتستظهر صورة ضوء الهواء على صورة ضوء الكوكب، فلا تتميز للبصر صورة الكوكب، ولا يكون بين صورة الضوء الذي يحصل في الجزء من البصر المسامت للكوكب وبين صورة الضوء الذي يحصل في الأجزاء الباقية من البصر المحيطة بذلك الجزء اختلاف يدركه الحس لاستظهار صورة ضوء النهار على صورة ضوء الكوكب وغمور صورة ضوء الكوكب عند إدراكها بصورة ضوء النهار، فلذلك لا يدرك البصر الكواكب بالنهار.

وكذلك الأضواء الضعيفة التي تكون في وسط الأضواء القوية، كالنار الضعيفة التي تكون في ضوء الشمس ، وكالحيوان المسمى اليراع إذا أدركه البصر في ضوء النهار، وما جرى مجرى ذلك، فإن هذه المبصرات إذا كانت في ضوء الشمس أو في ضوء النهار فإن ضوء النهار يكون مشرقاً عليها وعلى الهواء المتوسط بينها وبين البصر، فصورها ترد إلى البصر ممتزجة بصورة الضوء القوي المشرق عليها وصورة الضوء القوي المشرق على الهواء المتوسط بينها وبين البصر، فيدرك البصر صورة ما هذه حاله من المبصرات ممتزجة بصورة ضوء قوي، وصورها ضعيفة، فستظهر صورة الضوء القوي على صورها الضعيفة، فلا تتميز صورها للبصر ولا يدركها البصر.
وقد تخفى الأضواء الضعيفة وصور المبصرات الضعيفة الضوء إذا حصل في البصر ضوء قوي وإن لم يكن ورود الصورتين إلى البصر من سمت واحد ، وذلك إذا كان ورود الصورتين من سمتين متجاورين وحصلا في البصرين في جزء ين متجاورين. وهذا المعنى يظهر في الليل وفي ضوء النار. وذلك ان البصر إذا أدرك ضوء النار، وكانت النار قريبة من البصر وكان ضوؤها ضوءاً قوياً، وكان مقابلاً للبصر في تلك الحال مبصرات فيها أضواء ضعيفة عرضية، وكانت تلك المبصرات أبعد عن البصر من النار، وكانت على سموت مجاورة لسمت النار وقريبة من سمت النار، فإن البصر لا يدرك تلك المبصرات إدراكاً صحيحاً، وإن كان فيها معان لطيفة أو أجزاء لطيفة لم يدركها البصر في تلك الحال. فإن ستر النار عن بصره أو تباعد عن سمت النار حتى يصير السمت الذي يدرك منه تلك المبصرات بعيداً عن السمت الذي يدرك منه النار فإنه حينئذ يدرك تلك المبصرات إدراكاً أبين مما كان يدركها في الحالة الأولى.
والعلة في ذلك أن المبصرات التي فيها أضواء ضعيفة عرضية تكون صورها وظلمة، فإذا أدركها البصر ولم يدرك معها في الحال ضوءاً قوياً أحس بالضوء الضعيف الذي فيها لظلمة داخل البصر أو عدم الضوء القوي من الجزء منه الذي تحصل فيه صورة الضوء الضعيف ومما يحيط به من أجزاء البصر وللتباين الذي بين الظلمة والضوء المقترنين. وإذا أحس البصر بالضوء الذي في الصورة وتميزت له تلك الصورة وأدركها إدراكاً ما بحسب الضوء الذي فيها. وإذا أدرك البصر الصورة المظلمة وأدرك معها في الحال ضوءاً قوياً، وأدرك ذلك الضوء القوي في الجزء من المبصر المماس للجزء الذي أدرك فيه الصورة المظلمة، لم يدرك البصر الضوء الضعيف الذي في الصورة المظلمة لحالتين: إحداهما أن الضوء القوي إذا حصل في البصر أضاء جميع داخل البصر، وإذا كان داخل البصر مضيئاً لم يظهر فيه الضوء الضعيف الذي يدركه البصر مع ضعفه من اجل ظلمة البصر وتباين الظلمة والضوء، وخاصة إذا كان الضوء الضعيف ضعيف النسبة جداً إلى الضوء القوي الذي حصل في البصر. والحالة الثانية هي اقتران الضوء الضعيف بالضوء القوي في جزءين متجاورين من البصر. والضوء الضعيف بالقياس إلى الضوء القوي هو ظلمة ما، فإذا تجاوز الصورة المظلمة الضعيفة الضوء وصورة الضوء القوي في البصر فليس يدرك البصر الضوء الذي في الصورة المظلمة للحالتين اللتين ذكرناهما. وإذا لم يدرك البصر الضوء الذي في الصورة المظلمة فلم يدرك من الصورة المظلمة إلا ظلمة فقط، وإذا لم يدرك البصر الضوء الذي في الصورة، ولم يدرك منها إلا ظلمة فقط، لم تتميز له الصورة ولم يدرك الصورة إدراكاً صحيحاً.ولالتباس صور الأضواء الضعيفة من أجل مجاورتها للأضواء القوية نظائر في الألوان. وذلك أن الصبغ الأدكن إذا وشم به جسم أبيض نقي البياض ونقط عليه منه نقط صغار أو نقش به نقوش دقاق ظهر ذلك الصبغ أسود أو مظلماً شديد الظلمة، ولم يظهر الإسفار الذي فيه، ولم يدرك البصر حقيقة لونه. وإذا وشم بذلك الصبغ بعينه جسم أسود حالك السواد ظهر ذلك الصبغ أبيض أو مسفر اللون، ولم يظهر الإظلام الذي فيه، ولم يدرك البصر حقيقة لونه. وإذا كان ذلك الصبغ بين أجسام ليست في غاية البياض ولا في غاية السواد ظهر لونه على ما هو عليه وأدرك البصر حقيقة لونه بحسب ما يصح أن يدركه البصر.
وكذلك الصبغ الأخضر الزرعي إذا نقش به جسم كحلي ظهر ذلك الصبغ صعوياً وصافي اللون، وإذا نقش به جسم صافي الصفرة ظهر ذلك الصبغ مسنياً ومظلم اللون. وكذلك كل صبغ متوسط بين طرفين.

فالمبصرات المتجاورة إذا كانت ألوانها أو أضواؤها متباينة تبياناً مفرطاً في القوة والضعف فإن الضعيف منها تخفى حقيقته، فلا يدرك البصر حقيقته عند اقترانه بالقوي المباين. وذلك لأن كيفيات الأضواء والألوان إنما يدركها البصر من قياس بعضها ببعض، فالأضواء القوية إنما تعوق البصر عن إدراك المبصرات التي أضواؤها ضعيفة لامتزاج صور الأضواء الضعيفة بصورها واستظهار صور الأضواء القوية على صور الأضواء الضعيفة عند امتزاجها أو لمجاورة الأضواء الضعيفة لها، وإدراك البصر للصور المجاورة المتجانسة من قياس بعضها إلى بعض، وقصور الحس عن إدراك ما كان ضعيف النسبة جداً إلى القوي المحسوس.
فقد أتينا على تبيين جميع المعاني التي تتعلق بهذا الفصل.

الفصل السابع
منافع آلات البصر
إن طبقات البصر التي ذكرناها ووصفناها في شرح هيئة البصر هي آلات للبصر بها يتم له الإبصار. وهيئة هذه الطبقات وأوضاع بعضها من بعض هو الذي به يتم وصول المبصرات إلى البصر.
أما الطبقة الأولى التي هي ظاهر البصر، وهي التي تسمى القرنية، فهي طبقة مشفة ومع ذلك متينة وهي منطبقة على الثقب الذي في مقدم العنبية. فأول منافعها أنها تغطي ثقب العنبية فتنضبط بذلك الرطوبة البيضية التي في داخل العنبية فتنحصر ولا تتشتت. فأما شفيفها فإنها إنما كانت مشفة لتنفذ فيها صور الأضواء والألوان إلى داخل البصر، لأن صور الأضواء والألوان ليس تنفذ إلا في الأجسام المشفة، ولا تقبلها وتؤديها إلا الأجسام المشفة. وأما متانتها فلئلا يسرع إليها الفساد لأنها منكشفة للهواء، فهي تحتمي بمتانتها من المؤذيات اللطيفة كالقذى والغبار والدخان وكالطرفة وما يجري مجرى ذلك. فهذه هي منافع هذه الطبقة.
فأما الرطوبة البيضية فهي مشفة ومع ذلك رطبة مائعة. أما شفيفها فلتنفذ فيها الصور وتصل إلى الرطوبة الجليدية التي بها يقع الإحساس. وأما رطوبتها فلترطب أبداً الرطوبة الجليدية وتحفظ عليها صورتها، لأن هذه الرطوبة اعني الجليدية، ترفة في الغاية، والغشاء الذي عليها رقيق في الغاية، واليسير من اليبس يفسدها ويغير صورتها. وكانت الرطوبة البيضية رطبة مائعة لترطب أبداً الجليدية وتحفظ عليها رطوبتها.فأما الطبقة السوداء المحيطة بالرطوبة البيضية، وهي التي تسمى العنبية، فهي سوداء وهي ضعيفة وفيها بعض المتانة. وهي كرية وفي مقدمها ثقب مستدير كما وصفنا ذلك في هيئة البصر. فأما سوادها فلتظلم به الرطوبة البيضية والرطوبة الجليدية، فتظهر فيها لظلمتها صور الألوان الضعيفة الخفية، فإن الأضواء الضعيفة جداً إذا كانت في مواضع مظلمة ظهرت للبصر، وإذا كانت في مواضع مضيئة لم تظهر للبصر. فسواد العنبية إنما هو ليظلم به داخل البصر فتحس الجليدية بما يصل إلى تجويف البصر من صور الأضواء وإن كانت ضعيفة يسيرة. وكانت هذه الطبقة صفيقة وفيها بعض المتانة لتضبط الرطوبة البيضية وتحفظها فلا يرشح منها شيء إلى خارج ولا تناقص، وليظلم بصفاقتها داخلها، لأنها لو كانت صفيقة اشتدت ظلمة داخلها. وكونها كرية لأن الكرة اعدل الأشكال المجسمة وأحماها مع ذلك من التغيير، فإن ذا الزوايا يسرع التغير إلى زواياه، وليس يكون ذلك في الكرة. فأما الثقب الذي في مقدمها فلتنفذ فيه الصور إلى داخل تجويف البصر. وكونه مستديراً لاعتدال الاستدارة، ولأن المستدير أوسع الأشكال التي إحاطتها متساوية.

فأما الرطوبة الجليدية فقد جمعت صفات بها يتم الإحساس. وذلك أنها رطبة ومع ذلك ترفة وفيها بعض الشقفيف وفيها بعض الغلظ، وعليها غشاء وغشاؤها في غاية الخفة. وشكل سطحها مركب من سطحين كريين مختلفين، والمقدم منهما أعظم كرية من كرية الباقي. فأما كونها رطبة فليسهل انفعالها بالأضواء لرطوبتها، فيسرع فيها تأثير الصور التي ترد إليها. وكونها ترفة فليلطف حسها فتحس باللطيف الضعيف من الصور، لأن الأجسام الترفة تكون لطيفة الحس. وكان فيها شفيف لتقبل الأضواء والألوان وتنفذ الأضواء والألوان فيها. كان فيها غلظ ولم تكن في غاية الشفيف لتدافع صور الأضواء والألوان التي ترد إليها وتمنعها من النفوذ فيها بما فيها من الغلظ. فيتم للصور بمدافعتها وثبوت الضوء تأثيرها فيها وتظهر للقوة الحساسة صورة الضوء واللون التي تثبت فيها. ولو كانت في غاية الشفيف لنفذت الصور فيها ولم تثبت فيها. ولو لم تثبت الصورة في هذه الرطوبة لم تحس هذه الرطوبة في سطحها ولا في جسمها بشيء من الصور، ولم تنفعل بالصور الانفعال الذي هو من جنس الألم، ولم تظهر الصورة لها ولم تدركها.
فأما الغشاء الذي على هذه الرطوبة فإنما هو ليضبطها فلا تتشتت لرطوبتها، وليشكلها أيضاً هذا الغشاء ويحفظ عليها شكلها، لأن الرطوبات إن لم يحصرها حاصر تشتت ولم تثبت مع ذلك على شكل واحد. وأيضاً فإن الرطوبات ليس تتشكل بشكل كري إلا إذا حصرها كري. فاشتمال الغشاء على هذه الرطوبة إنما هو ليضبطها وليشكلها بالشكل الكري. وكان هذا الغشاء خفيفاً وفي غاية الخفة لئلا يستر عنها الصور التي ترد إليها . فأما كريتها فلاعتدال شكل الكرة واحتمائه من التغير. وكون سطح مقدمها من كرة اعظم فليكون موازياً لسطح مقدم البصر ويكون مركزاهما نقطة واحدة.
فأما العصبة الجوفاء التي جملة العين مركبة عليها فإنما كانت جوفاء لتجري فيها الروح الباصرة من الدماغ وتصل إلى الجليدية فتغطيها القوة الحساسة على الاستمرار، ولينفذ أيضاً الضوء في تجويفها وفي الجسم اللطيف الجاري فيها إلى أن يصل إلى الحاس الأخير الذي في مقدم الدماغ.
وكان مبدأ العصبتين الجوفاوين اللتين تتركب عليهما العينان من جنبتي مقدم الدماغ ليكون وضع البصرين من مبدأيهما وضعاً متشابهاً معتدلاً. ولم يكن مبدؤهما من وسط مقدم الدماغ لأن هذا الموضع يختص بحاسة الشم. فلهاتين العلتين صار مبدأ العصبتين من جنبتي مقدم الدماغ.
فأما لم كان البصران اثنين ولم يكن البصر واحداً فإن ذلك رأفة من الصانع تعالى واستظهار من الطبيعة حتى متى حدث بأحدهما آفة بقي الآخر، ولتحسين صورة الجسم أيضاً بهما.
ثم إن العصبتين الجوفاوين تلتقيان عند وسط مقدم الدماغ وتصيران عصبة واحدة جوفاء ويصير واحداً. وإنما صار ذلك كذلك لما ذكرناه من قبل في كيفية الإبصار: وهو أن الشخص الواحد يبصر ببصرين، فإذا نظر الناظر إلى مبصر واحد بكل واحد من البصرين بصورة ذلك المبصر، فتحصل في البصر صورتان لذلك المبصر، فلو تأدت الصورتان إلى الحاس الأخير لكان يدرك المبصر الواحد اثنين، فالتقت العصبتان وصارت واحدة وصار تجويفهما تجويفاً واحداً لتنتهي الصورتان من البصرين إلى هذه العصبة وتنطبق إحديهما على الأخرى فتصيران صورة واحدة، فيدرك الحاس الأخير المبصر الواحد واحداً . فلهذه العلة التقت العصبتان وصارتا واحدة وصار التجويفان تجويفاً واحداً.
فأما سطوح طبقات البصر المشفة فهي سطوح كرية متوازية مركزها نقطة واحدة. وإنما كانت كرية لتكون الأعمدة التي تقوم على سطوحها تخرج من نقطة واحدة، وهي مركزها، ثم تسع ويبعد ما بين أطرافها كلما بعدت عن المركز، فيكون المخروط الذي يمتد من المركز إلى مبصر من المبصرات، الذي فيه تخرج جميع الأعمدة من ذلك المبصر على سطح البصر، يفصل من سطح البصر ومن سطح العضو الحاس جزءاً صغيراً، ويكون ذلك الجزء مع صغره يحيط بجميع الصورة التي ترد من ذلك المبصر إلى البصر. ولو كانت سطوح طبقات البصر مسطحة لكانت صورة المبصر لا تصل إلى البصر على الأعمدة إلا إذا كان البصر مساوياً للمبصر. وليس شكل من الأشكال فجميع الأعمدة التي تقوم على سطحه وتلتقي على نقطة واحدة وتحدث من الأعمدة التي تقوم عليه مخروطات تتسع أطرافها ويكون السطح الذي تقوم عليه متشابه الترتيب غير شكل الكرة.

وكانت سطوح طبقات البصر كرية لتكون الأعمدة التي تخرج من المبصر التي تأخذ من سطح العضو الحاس جزءاً يسيراً مع عظم المبصر ويحيط ذلك الجزء مع صغره بجميع صورة المبصر مع عظمه، وليمكن بهذه الحال أن يخرج من مركز البصر مخروطات كثيرة إلى مبصرات كثيرة في وقت واحد يفصل كل واحد من تلك المخروطات جزءاً يسيراً من سطح العضو الحاس يشتمل على صورة المبصر. وكانت كلها على مركز واحد لما قدمنا ذكره، وهو أن تكون الأعمدة التي تخرج من المبصر إلى واحد منها أعمدة على جميعها، ولتنفذ الصور في جميعها على سمت واحد بعينه.
فأما لم كان البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا من سموت هذه الأعمدة فقط فلأن بهذه العمدة فقط تترتب أجزاء المبصر في سطح العضو الحاس ولها تتميز جميع المبصرات عند الحاس. وقد تبين من قبل انه ليس يصح أن تترب صورة المبصر في سطح العضو الحاس إلا إذا كان قبوله للصور من هذه السموت فقط، فلذلك صارت طبيعة مختصة بهذه الخاصة ومطبوعة على أن لا تقبل شيئاً من الصور إلا من أوضاع هذه الخطوط فقط. وتخصص البصر بهذه الخاصة هو أحد المعاني التي تظهر منها حكمة الصانع جّلت عظمته ولطف صنيعه ويظهر منه حسن تأتي الطبيعة وتلطفها في تهيئة آلات البصر الهيئة التي بها يتم الإحساس وبها تتميز له المبصرات.
فأما الملتحمة فإنها مشتملة على جملة هذه الطبقات، وفيها بعض الرطوبة وهي مع ذلك متماسكة فيها بعض المتانة. وإنما كانت مشتملة على هذه الطبقات لتجمعها وتحفظها وتحرسها. وكان فيها بعض الرطوبة لتتوطأ للطبقات التي في داخلها مواضعها منها ولا يسرع أيضاً إلى تلك الطبقات اليبس بالمماسة والمجاورة. وكونها متماسكة فيها بعض المتانة لتحفظ على الطبقات التي في داخلها أشكالها وأوضاعها فلا تتغير أشكالها ولا أوضاعها. وكانت بيضاء لتشرق بها صورة الوجه وتحسن هيئته.
وكانت جملة العين مستديرة لأن الاستدارة اعدل الأشكال وأسهلها مع ذلك حركة، والعين محتاجة إلى الحركة وإلى سرعة الحركة. وكانت العين متحركة ومحتاجة إلى الحركة وإلى سرعة الحركة لتقابل بالحركة كثيراً من المبصرات في وقت واحد ومن نصبة واحدة تكون لصاحبها الذي يحركها، ولتقابل بالحركة جميع أجزاء المبصر بوسط الناظر، فيدركه بذلك إدراكاً بيناً ومع ذلك متشابهاً، لأن الإحساس أبين من الإحساس ببقيته وسنبين هذا المعنى من بعد في الموضع الأليق به. فأما سرعة حركة البصر وحاجته إلى سرعة الحركة فليتأمل بسرعة الحركة جميع أجزاء المبصر وجميع المبصرات التي تقابله في أقل القليل من الزمن.
فأما الأجفان فإنها جعلت وقاية للعين تحرسها من الأذى وتكنها عند النوم وتوقيها من المؤذيات ولتريح العين عند انطباقها عليها من ألام الأضواء ومباشرة الهواء، لأن الأضواء تؤذيها وتقرعها، فلو استمر عليها قرع الأضواء دائماً ولم تسترح لفسدت. وقد يظهر ذلك عند إطالة النظر إلى الأضواء المضيئة. ويتبين من ذلك أن استمرار مباشرة البصر للأضواء يضر بالبصر. وقد يستضر البصر أيضاًَ بالهواء في بعض الأوقات إذا كان به غبار أو دخان أو برد شديد، فجعلت الأجفان لتستر العين عن الأضواء عند حاجتها إلى ذلك ولتوقيها من الهواء وتدفع عنها كثيراً من المؤذيات، ثم إذا احتاجت إلى الراحة انطبقت الأجفان عليها واستمر ذلك زماناً إلى أن يزول كلاهما وتتكامل راحتها وذلك يكون عند النوم. وجعلت الأجفان متحركة لتنفتح في وقت الحاجة إلى الإبصار وتنطبق عند الحاجة إلى الانطباق، وجعلت سريعة الحركة ليسرع الانطباق عند قرب المؤذيات من العين.
فأما الأهداب فإنما كانت لتذب عن البصر ما يمر به من القذى والمؤذيات الخفية، ولتكسر عن البصر أيضاً بعض الأضواء إذا استضر بشدة الضوء، ولذلك يجمع الناظر عينه ويصرها وينظر من ضيق إذا استضر بالضوء الشديد.
فهذه المعاني التي ذكرناها هي منافع آلات البصر، وهي لطائف تتبين منها حكمة الصانع تعالى ورأفته وبديع صنعته وحسن تأتي الطبيعة ولطيف آثارها.

الفصل الثامن
علل المعاني
التي لا يتم الإبصار إلا بها وباجتماعها

قد تبين فيما تقدم أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه لها لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت له عدة معان: وهي أن يكون بينه وبينه بعد ما، ويكون مقابلاً للبصر اعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم، ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره، ويكون حجمه مقتدراً بالإضافة إلى قوة إحساس البصر، ويكون الهواء الذي بينه وبين سطح البصر مشفاً متصل الشفيف لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة، ويكون المبصر كثيفاً أو فيه بعض الكثافة، اعني أن لا يكون فيه شفيف أو يكون مشفاً ويكون شفيفه أغلظ من شفيف الهواء المتوسط بينه وبين البصر وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون، وكذلك المشف الذي فيه بعض الغلظ. وليس يدرك البصر المبصر إلا إذا اجتمعت للمبصر هذه المعاني الستة. وإن عدم المبصر واحداً من هذه المعاني أو أكثر من واحد منها فليس يدركه البصر.
وليس حاجة البصر إلى كل واحدة من هذه المعاني إلا لعلة ما من أجلها ليس يتم الإبصار إلا بذلك المعنى.
فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان بينهما بعد ما وليس يدركه إذا التصق به فإن ذلك لعلتين: إحداهما أن البصر ليس ييرك المبصر إلا إذا كان في المبصر ضوء ما. وإذا كان المبصر ملتصقاً بالبصر، وليس هو مضيئاً من ذاته، فليس يكون في سطحه الذي يلي البصر ضوء لأن جسم المبصر يستر عنه الأضواء. والأشياء المضيئة من ذواتها ليس يمكن أن تلتصق بالبصر، لأن الأشياء المضيئة من ذواتها إنما هي الكواكب والنار، وليس واحد من هذين يمكن أن يلتصق بالبصر. والعلة الثانية أن الإبصار إنما يكون من الجزء المقابل لثقب العنبية من وسط سطح البصر فقط، وليس يكون من بقية سطح البصر إحساس، وإذا التصق المبصر بالبصر فإنما ينطبق على هذا الجزء من البصر جزء مساو له فقط من المبصر. فلو كان البصر يدرك المبصر عند التصاقه به لكان يدرك منه الجزء الملتصق بالجزء المقابل للثقب فقط ولا يدرك بقية المبصر. فإن حرك المبصر على سطحه أو تحرك هو حتى يماس جميع سطح المبصر بالجزء المتوسط منه لكان يدرك من البصر جزءاً بعد جزء، وكان إذا أدرك الجزء الثاني لم يدرك الجزء الأول، وكان لا يدرك جميع المبصر معاً. وإذا لم يدرك جميع المبصر معاً لم تتشكل فيه صورة المبصر كما أنه لو كان مبصر من المبصرات من وراء جسم كثيف، وكان ذلك الجسم الكثيف ثقب وكان المبصر ملتصقاً بالثقب، وكان المبصر مع ذلك يزيد على مقدار الثقب، لكان البصر لا يدرك منه إلا الجزء المطابق للثقب فقط، ثم إن تحرك المبصر على الثقب حتى يدرك البصر منه جزءاً بعد جزء لما تشكلت له جملة صورته ولا تحقق شكله.
فلو كان الإبصار يكون بالمماسة لكان البصر يدرك جملة المبصر ولا يتحقق شكله وصورته إلا إذا كان البصر مساوياً للمبصر أو كان البصر مساوياً للجزء المتوسط من سطح البصر الذي منه يكون الإبصار، وكان مع ذلك لا يمكن أن يدرك البصر مبصرات كثيرة في وقت واحد ويكون إدراكه لها معاً. وإذا كان البصر على ما هو عليه، وكان بينه وبين المبصر بعد ما، فإنه يمكن أن يدرك جميع المبصر معاً في الوقت الواحد من الجزء اليسير الذي في وسطه الذي منه يكون الإحساس وإن عظم المبصر، ويمكن أن يدرك مبصرات كثيرة معاً في وقت واحد. وإذا كان بالبعد من البصر أمكن أيضاً أن يشرق الضوء على سطحه المواجه للبصر. فلهاتين العلتين صار البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان بينهما بعد ما.

فأما لم ليس يدرك البصر المبصر الذي هو معه في هواء واحد وفي الجهة المقابلة له إلا إذا كان بين كل نقطة منه وبين نقطة ما من سطح الجزء الذي منه يكون الإبصار إنما يكون من الصورة التي ترد من المبصر إلى البصر وان ليس تصدر عن المبصرات إلا على خطوط مستقيمة. فلهذه العلة ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كانت بينهما خطوط مستقيمة، ومتى قطع جميع الخطوط المستقيمة التي بينهما جسم كثيف خفي المبصر عن البصر، ومتى قطع الجسم الكثيف بعض الخطوط المستقيمة التي بين المبصر وبين سطح البصر خفي من المبصر الجزء الذي عند أطراف الخطوط التي انقطعت بالجسم الكثيف.فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان فيه ضوء ما فإن ذلك لأحد أمرين: غما أن تكون صور الألوان التي في المبصرات ليس تمتد في الهواء إلا إذا صار مع اللون ضوء ما وإذا لم يكن في المبصر ضوء لم تمتد صورة لونه في الهواء المتصل ليس فيه ضوء لأن لونه ليس تصل إلى البصر، وإما أن تكون صورة اللون تمتد في الهواء وإن لم يحضر الضوء، إلا أنها لا تؤثر في البصر تأثيراً محسوساً، وإذا كانت مع الضوء أثراً في البصر بمجموعها. وهو ظاهر أن صورة الضوء أقوى من صورة اللون وأن الضوء يقرع البصر ويؤثر فيه تأثيراً بيناً. وصورة اللون ضعيفة، فليس في قوتها أن تؤثر في البصر كتأثير الضوء. وصورة اللون الذي في الجسم المضيء تكون أبداً ممتزجة بصورة الضوء، فإذا وصلت صورة الضوء من المبصر إلى البصر فهي تؤثر فيه لقوتها ولتهيؤ البصر للانفعال بها، فالبصر يحس بها من تأثيرها ولأنها ممتزجة بصورة اللون وغير متميزة منها، فليس يحس البصر بصورة الضوء إلا ممتزجة، فهو يحس باللون من لون هذه الصورة، فيكون البصر إنما يحس بلون المبصر من اللون الممازج لصورة الضوء التي ترد إليه من المبصر. ولذلك يدرك البصر لون المبصر بحسب الضوء الذي يكون في المبصر، ولذلك تتغير ألوان كثير من المبصرات عند البصر بتغير الأضواء التي تشرق عليها. فلأن صورة اللون ليس تؤثر في البصر إلا إذا كانت ممتزجة بالضوء، وليس يكون من اللون صورة إلا إذا كان فيه ضوء، صار البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان فيه ضوء ما.
فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان حجمه مقتدراً فلأنه قد تبين أن صورة المبصر إنما تصل إلى البصر من المخروط الذي رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر، وأن هذا المخروط يفصل من سطح العضو الحاس جزءاً صغيراً فيه تترتب صورة المبصر ومنه يحس الحاس بالمبصر. فإذا كان المبصر في غاية الصغر كان المخروط الذي بينه وبين مركز البصر في غاية الدقة، فيكون الجزء الذي يفصله من سطح الحاس في غاية الصغر، فيكون بمنزلة النقطة التي لا قدر لها. والحاس إنما يحس بالصورة في سطحه إذا كان الجزء من سطحه الذي تحصل فيه الصورة له قدر محسوس عند جملته. وقوى الحواس متناهية، فإذا كان الجزء من العضو الحاس الذي تحصل فيه الصورة ليس له قدر محسوس عند جملة العضو الحاس لم يحس الحاس بالأثر الذي يحصل في ذلك الجزء لصغره. وإذا لم يحس بالأثر لم يدرك الصورة. فالمبصر الذي يصح أن يدركه البصر هو الذي يكون المخروط الذي يتشكل بينه وبين مركز البصر يفصل من سطح الجليدية جزءاً له قدر محسوس بالإضافة إلى جملة سطح الجليدية وهذا الإحساس يكون إلى الحد الذي تنتهي إليه قوة الحس، لا إلى ما لا نهاية. ويختلف أيضاً هذا الإحساس في الإبصار بحسب اختلاف قوى الإبصار، لأن بعض الإبصار يكون أقوى من بعض. وإذا كان المخروط الذي يتشكل بين المبصر وبين مركز البصر يفصل من سطح الجليدية جزءاً ليس له قدر محسوس بالإضافة إلى جملة سطح الجليدية فليس يصح أن يدرك البصر ذلك المبصر. فلذلك ليس يدرك البصر المبصر الذي هو في غاية الصغر ولا يدرك إلا ما كان حجمه مقتدراً.

فأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان الجسم المتوسط بينه وبين البصر مشفاً فلأن الإبصار إنما يكون من الصورة التي ترد من المبصر إلى البصر، وليس تمتد الصورة إلا في الأجسام المشفة ولا تقبلها وتؤديها إلا الأجسام المشفة، وليس يتم الإبصار إلا إذا كان المبصر مع البصر في هواء واحد وكان إدراكه له لا بالانعكاس إلا إذا كان الهواء متصلاً بين البصر والمبصر ولم يقطع السموت المستقيمة التي بينهما جسم كثيف، لأن الصورة ليس تمتد في الهواء المشف المتشابه الشفيف إلا على خطوط مستقيمة. فلذلك صار البصر لا يدرك المبصر الذي هو معه في هواء واحد وفي الجهة المقابلة للبصر إلا إذا كان الهواء الذي بينهما مشفاً متشابه الشفيف متصلاً، ولم يقطع السموت المستقيمة التي بينه وبين البصر جسم كثيف.
وأما لم ليس يدرك البصر المبصر إلا إذا كان كثيفاً أو كان فيه بعض الكثافة فإن ذلك لعلتين: إحداهما أن الكثيف متلون واللون تكون منه الصورة التي ترد إلى البصر التي يدرك البصر منها لون المبصر، والمشف الذي في غاية الشفيف ليس له لون، فليس تكون منه صورة تنتهي إلى البصر، فلذلك لا يدركه البصر. والعلة الثانية أن البصر ليس يدرك المبصر إلا إذا كان مضيئاً وورد من الضوء الذي فيه صورة ثانية إلى البصر مع صورة اللون. والضوء الذي يشرق على جسم من الأجسام ليس تكون منه صورة ثانية إلا إذا ثبت الضوء في ذلك الجسم ومانعه الجسم من النفوذ فيه كان منه صورة ثانية. والجسم المشف إذا أشرق عليه الضوء وكان في غاية الشفيف فليس يثبت الضوء فيه ولا في موضع منه وإنما يمتد في شفيفه فقط. فإذا كان الجسم المشف مقابلاً للبصر، وأشرق عليه الضوء من الجهة التي فيها البصر، فهو يمتد فيه ولا يثبت في سطحه ولا في شيء منه، فلا يكون في السطح المواجه للبصر من ذلك الجسم ضوء تكون منه صورة ترجع إلى البصر. وكذلك إن أشرق الضوء على الجسم المشف الذي في غاية الشفيف من أي جهة أشرق عليه نفذ فيه، فلا يكون في سطحه ولا في موضع منه ضوء ثابت تكون منه صورة ثانية ترد إلى البصر. وإن كان المضيء الذي يشرق ضوؤه على الجسم المشف مقابلاً للبصر نفذ ضوؤه في الجسم المشف وانتهى إلى ابصر ولم يجمل معه شيئاً من لون الجسم المشف، ولا يدرك الجسم المشف. فإذا كان الجسم المشف في غاية الشفيف لم تثبت الصورة عليه ولم تكن منه صورة تمتد في الهواء وتصل إلى البصر لا صورة ضوء ولا صورة لون . فلذلك ليس يدرك البصر المبصر الذي يكون في غاية الشفيف. وإن كان شفيف الجسم المشف شبيهاً بشفيف الهواء فإن حاله تكون كحال الهواء فلا يدركه البصر كما ليس يدرك الهواء. فالأجسام المشفة التي شفيفها ليس بأغلظ من شفيف الهواء ليس يدركها البصر لأنه ليس يرد منها إلى البصر صورة تؤثر في البصر. وكذلك إن توسط ين البصر والمبصر المشف جسم مشف غير الهواء وكان شفيف المبصر ليس بأغلظ من شفيف الجسم المتوسط.
وإذا كان المبصر كثيفاً كان متلوناً، وإذا أشرق عليه ضوء أي ضوء كان ثبت في سطحه، وكان من لونه ومن الضوء الذي يشرق عليه صورة تمتد في الهواء وفي الأجسام المشفة، ويقبلها الهواء والأجسام المشفة وتؤديها إلى الجهات المقابلة لها، وإذا انتهت هذه الصورة إلى البصر أثرت في البصر وأحس البصر منها بالمبصر. وإذا كان المبصر مشفاً وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء فإنه يكون له لون ما بحسب غلظه، وإذا أشرق عليه الضوء ثبت الضوء في سطحه ثبوتاً ما بحسب ما فيه من الغلظ مع نفوذه فيه بحسب شفيفه، وكان منه صورة في الهواء بحسب لونه وبحسب الضوء الذي يثبت في سطحه. وإذا وصلت تلك الصورة إلى ابص وأثرت في البصر وأحس البصر بذلك المبصر. فلهذه العلة صار البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان كثيفاً أو كان فيه بعض الكثافة.
فقد تبينت العلل التي من أجلها البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا اجتمعت فيه المعاني المذكورة. فهذه الفصول وما بيناه فيها هو الذي قصدنا لتبيينه في هذه المقالة.
تمت المقالة الأولى من كتاب الحسن بن الحسن في المناظر وكتب أحمد بن محمد بن جعفر يوم الأحد منتصف جمادى الأولى سنة ست وسبعين وأربعمائة وفيه انتهى النسخ والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله وسلامه.

المقالة الثانية
تفصيل المعاني التي يدركها البصر
وعللها وكيفية إدراكها
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
صدر المقالة
قد تبين في المقالة الأولى كيف يكون الإبصار بالجملة، وهو كيفية إحساس البصر لصورة الضوء واللون اللذين في المبصر مرتبة على ما هي عليه في سطح المبصر. والبصر يدرك من المبصرات معاني كثيرة من المعاني التي تكون في المبصرات غير الضوء واللون.
وأيضاً فإنه قد تبين في المقالة الأولى أن الإبصار إنما يكون من سموت خطوط الشعاع. وخطوط الشعاع تختلف أحوالها، وتختلف أحوال الصور التي ترد عليها إلى البصر.
وأيضاً فإن إدراك البصر للمبصرات ليس يكون في جميع الأوقات ولجميع المبصرات وعلى جميع الأحوال على صفة واحدة، بل تختلف كيفية إحساس البصر بالمبصرات، وتختلف كيفية إحساس البصر بالمبصر الواحد من البعد الواحد ومن الوضع الواحد بحسب قصد الناظر وتعمله لإدراك المبصر وتعمده لتمييز المعاني التي فيه.
ونحن نبين في هذه المقالة اختلاف أحوال خطوط الشعاع، ونميز خواصها، ونفصل أيضاً جميع المعاني التي يدركها البصر، ونبين كيف يدرك البصر كل واحد منها، ونميز كيفية إدراك ابصر للمبصرات، ونبين اختلاف إدراك البصر لها.
الفصل الثاني
تمييز خطوط الشعاع
قد تبين في المقالة الأولى أن خطوط الشعاع التي من سموتها يدرك البصر المبصرات هي الخطوط المستقيمة التي تلتقي أطرافها عند مركز البصر وقد تبين في هيئة البصر أن العضو الحاس الذي هو الرطوبة الجليدية مركب على طرف تجويف العصبة التي جملة العين مركبة عليها، وأن هذه العصبة إذا كانت منحنية فإن انحنائها يكون من خلف مركز البصر ومن وراء جملة العين وعند الثقب الذي في مقعر العظم.
وقد تبين أيضاً أن الخط المستقيم الذي يم بجميع مراكز طبقات البصر يمتد في وسط تجويف العصبة وينتهي على استقامة إلى وسط موضع الانحناء من تجويف العصبة التي في العين مركبة عليها، ويمر بمركز الثقب الذي في مقدم العنبية، وتبين أيضاً أن هذا الخط ليس يتغير وضعه عند جملة البصر ولا عند سطوح طبقات البصر ولا عند أجزاء البصر. فالخط المستقيم الذي يمر بجميع مراكز طبقات البصر يكون أبداً ممتداً على استقامة إلى موضع الانحناء من تجويف العصبة التي العين مركبة عليها على تصاريف أحوال البصر في حال حركته وفي حال سكونه. ولأن هذا الخط يمر بمركز البصر وبمركز الثقب الذي في مقدم العنبية فهو يمتد في وسط المخروط الذي رأسه مركز البصر ويحيط به محيط الثقب الذي في مقدم العنبية الذي فيه ترد الصور إلى البصر. فلنسم هذا الخط سهم المخروط.
وقد تبين أيضاً في المقالة الأولى أن المخروط الذي يتشكل بين المبصر ومركز البصر يفصل من سطح الجليدية جزءاً يشتمل على جميع صورة المبصر الذي عند قاعدة ذلك المخروط، وتكون الصورة مرتبة في هذا الجزء من سطح الجليدية بسموت خطوط الشعاع الممتدة بين المبصر ومركز البصر كترتيب أجزاء سطح المبصر، وإنما الجليدية تحس بالمبصر من الصورة التي تترتب في هذا الجزء من سطحها. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وحصلت صورته في الجزء من سطح الجليدية الذي يحوزه المخروط المتشكل بين البصر وذلك المبصر، فإن كل نقطة من الصورة التي تحصل في هذا الجزء من سطح الجليدية هي على خط الشعاع الممتد بين تلك النقطة وبين النقطة النظيرة لها من سطح المبصر الذي عليه وردت الصورة إلى تلك النقطة من سطح الجليدية على استقامة. فإذا كانت صورة المبصر في وسط سطح الجليدية كان السهم الذي ذكرناه أحد الخطوط التي وردت عليها صور النقط التي في سطح ذلك المبصر على استقامة، وتكون النقطة من سطح المبصر التي عند طرف هذا السهم هي التي وردت صورتها على هذا السهم.
وقد تبين في المقالة الأولى أن الصور التي يدركها البصر من المبصرات تمتد في جسم الجليدية وفي تجويف العصبة التي العين مركبة عليها، وتنتهي إلى العصبة المشتركة التي عند وسط مقدم الدماغ، وهناك يكون إدراك الحاس الأخير لصور المبصرات، وأن الإبصار ليس يتم إلا بوصول الصورة إلى العصبة المشتركة، وان امتداد الصور من سطح الجليدية في جسم الجليدية يكون على استقامة خطوط الشعاع فقط، لأن الجليدية ليس تقبل هذه الصور إلا من سموت خطوط الشعاع فقط.

والحاس الأخير إنما يدرك أوضاع أجزاء المبصر على ما هي عليه في سطح المبصر. وإذا كانت أوضاع أجزاء الصورة التي تحصل في سطح الجليدية بعضها عند بعض كأوضاع أجزاء سطح المبصر بعضها عند بعض، وكانت هذه الصورة تمتد في جسم الجليدية وفي تجويف العصبة إلى أن تصل إلى العصبة المشتركة، وكان الإبصار ليس يتم إلا بوصول هذه الصورة إلى العصبة المشتركة، وكان الحاس الأخير إنما يدرك صورة المبصر من هذه الصورة وعند وصولها إلى العصبة المشتركة، وكان الحاس الأخير مع ذلك يدرك أوضاع أجزاء المبصر على ما هي عليه، فليس يتم الإبصار إذن إلا بعد أن تصل الصورة التي تحصل في وسط الجليدية إلى العصبة المشتركة وأوضاع أجزائها على ما هي عليه في سطح الجليدية من غير أن يتغير شيء منها.
وليس تصل الصورة من سطح الجليدية إلى العصبة المشتركة إلا بامتدادها في تجويف العصبة التي الجليدية مركبة عليها. فإن لم تحصل الصورة في تجويف هذه العصبة وهي على هيئتها، وأوضاع أجزائها على ما هي عليه، فليس يصح أن تمتد الصورة من سطح الجليدية إلى تجويف العصبة على استقامة خطوط الشعاع وأوضاع أجزائها على ما هي عليه. وذلك أن هذه الخطوط تلتقي عند مركز البصر، ثم إذا امتدت على استقامتها من بعد المركز فإن أوضاعها تنعكس فيصير المتيامن منها متياسراً والمتياسر متيامناً والمتعالي متسافلاً والمتسافل متعالياً كذلك جميع الخطوط المتقاطعة على نقطة واحدة. فإن امتدت الصورة من سطح الجليدية على استقامة خطوط الشعاع فإنها تجتمع عند مركز البصر فتصير الصورة نقطة واحدة. ومركز البصر في وسط جملة العين ومتقدم لموضع الانحناء من تجويف العصبة وهي نقطة واحدة، فلا يحصل في تجويف العصبة صورة . وإن امتدت على استقامة خطوط الشعاع وتجاوزت المركز فإنها منعكسة بحسب انعكاس الخطوط المتقاطعة التي امتدت عليها.فإن وصلت إلى تجويف العصبة من بعد تجاوز المركز فهي تصل منعكسة. فليس يصح أن تصل الصورة من سطح الجليدية إلى تجويف العصبة، وأوضاع أجزائها على ما هي عليه، إذا امتدت على استقامة خطوط الشعاع. فليس يصح إذن أن تصل الصورة من سطح الجليدية إلى تجويف العصبة وأوضاع أجزائها على ما هي عليه إلا على خطوط منعطفة مقاطعة لخطوط الشعاع.وإذا كان ليس يتم الإبصار إلا بوصول الصورة التي تحصل في سطح الجليدية إلى العصبة المشتركة وأوضاع أجزائها على ما هي عليه، وكانت هذه الصورة ليس يصح أن تصل إلى تجويف العصبة وأوضاع أجزائها على ما هي عليه إلا منعطفة، فليس يتم الإبصار إذن إلا من بعد أن تنعطف الصورة التي تحصل في سطح الجليدية وتمتد على خطوط مقاطعة لخطوط الشعاع، ويكون انعطافها من قبل وصولها إلى المركز، لأنها إن انعطفت بعد تجاوزها المركز كانت منعكسة.

وقد تبين أن هذه الصور تنفذ في جسم الجليدية على استقامة خطوط الشعاع. وكان ليس يصح أن تصل إلى تجويف العصبة إلا بعد أن تنعطف على خطوط مقاطعة لخطوط الشعاع، فالصورة إذن إنما تنعطف من بعد نفوذها في جسم الجليدية. وليس يصح أن تنعطف الصورة في جسم الجليدية وجميع أحوال الجليدية على ما هي عليه. وقد تقدم في هيئة البصر أن جسم الجليدية مختلف الشفيف، وأن الجزء المتأخر منها، وهو الذي يسمى الزجاجية، مخالف الشفيف للجسم المتقدم. وليس في جسم الجليدية جسم مخالف الصورة لصورة الجسم المتقدم منها غير جسم الزجاجية. ومن خاصة صور الأضواء والألوان أن تنعطف إذا لقيت جسماً مخالف الشفيف للجسم الأول الذي هي فيه. فالصور إذن إنما تنعطف عند وصولها إلى الرطوبة الزجاجية. وهذا الجسم إنما كان مخالف الشفيف للجسم المتقدم من الجليدية لتنعطف الصور عند وصولها إليه.ويلزم أن يكون سطح هذا الجسم متقدماً لمركز البصر لتنعطف الصور عنده قبل أن تتجاوز المركز فتكون عند الانعطاف على هيئتها التي هي عليه في سطح المبصر. ويلزم أن يكون هذا السطح متشابه الترتيب، لأنه إن لم يكن متشابه الترتيب تشوهت الصورة بعد انعطافها عليه. والسطح المتشابه الترتيب إما مسطح وإما كري. وليس يصح أن يكون هذا السطح من كرة مركزها مركز البصر، لأنه إن كان كرياً مركزه مركز البصر كانت خطوط الشعاع أعمدة عليه فتمتد الصورة على استقامتها عند وصولها إليه ولا تنعطف. وليس يصح أن يكون من كرة صغيرة فإن الصورة إذا انعطفت عنه وامتدت عنه مقداراً يسيراً تشوهت. فهذا السطح إما سطح مستو وإما من كرة مقتدرة لا تؤثر في كريته في ترتيب الصورة، وليس مركزه مركز البصر.
فسطح الرطوبة الزجاجية الذي هو الفصل المشترك بين هذا الجسم والجسم المتقدم من الجليدية سطح متشابه الترتيب متقدم لمركز البصر. وجميع الصور التي تحصل في سطح الجليدية تمتد في جسم الجليدية على استقامة خطوط الشعاع إلى أن تصل إلى هذا السطح. فإذا وصلت إلى هذا السطح انعطفت عنده على خطوط متشابهة الترتيب مقاطعة لخطوط الشعاع. فخطوط الشعاع إنما تترتب بها صور المبصرات عند الجليدية فقط. لأن عند هذا العضو يكون ابتداء الحس. وقد تبين في المقالة الأولى أنه ما كان يمكن أن تترتب صورة المبصر في سطح البصر مع عظم المبصر وصغر العضو الحاس إلا بهذه الخطوط، فهذه الخطوط إنما هي آلة للبصر بها يتم للبصر إدراك المبصرات على ما هي عليه، ثم وصول الصور إلى الحاس الأخير ليس يحتاج إلى امتداد الصورة على استقامة هذه الخطوط. وقد تبين الآن أنه ليس يصح أن تمتد الصور إلى الحاس الأخير على استقامة هذه الخطوط.
وأيضاً فإنه ليس قبول العضو الحاس للصور كقبول الأجسام المشفة لهذه الصور. لأن العضو الحاس يقبل هذه الصور ويحس بها، وتنفذ الصور فيه لشفيفه وللقوة الحساسة التي هي فيه. فهو يقبل هذه الصور قبول إحساس، والأجسام المشفة إنما تقبل هذه الصور قبول تأدية فقط ولا تحس بها.وإذا كان قبول الجسم الحاس لهذه الصور ليس كقبول الأجسام المشفة الغير حساسة، فليس امتداد الصور في الجسم الحاس بحسب السموت التي توجبها الأجسام المشفة، وإنما تمتد بحسب امتداد الجسم الحاس. والبصر إنما تخصص بقبول الصور من سموت خطوط الشعاع فقط لن خاصة الصور ان تمتد في الأجسام المشفة على جميع السموت المستقيمة، فهي ترد إلى البصر على جميع السموت المستقيمة، فلو قبلها البصر من جميع السموت التي ترد عليها لما ترتبت الصور عنده، فتخصص البصر بقبول الصور من سموت هذه الخطوط فقط ليحس بالصور مرتبة على ما هي عليه في سطوح المبصرات. ثم إذا حصلت الصور عند العضو الحاس مترتبة، وأدركها العضو الحاس وهي مترتبة، لم يبق من بعد ذلك شيء لا يتم إلا بهذه السموت، وحصلت الصور في الجسم الحاس ليس كحصولها في الأجسام المشفة، فخطوط الشعاع إنما هي آلة يتم بها إحساس الجليدية فقط.

وإذا كان قد تبين أن الصور ليس يصح أن تمتد من بعد الجليدية على استقامة خطوط الشعاع، وإنما تنعطف من بعد الجليدية، وأن انعطافها إنما هو عند وصولها إلى الرطوبة الزجاجية، وأن امتداد الصور في هذا الجسم إنما هو على خطوط منعطفة لا على استقامة خطوط الشعاع، فليس لجسم الزجاجية إذن تخصص بسموت خطوط الشعاع، فالجز المتقدم فقط من الجليدية هو المتخصص بقبول الصور من سموت خطوط الشعاع. والجزء المتأخر الذي هو الزجاجية والقوة القابلة التي في هذا الجسم إنما هي متخصصة، مع الإحساس بهذه الصورة، بحفظ ترتيبها فقط.وإذا كان ذلك كذلك فكيفية قبول الزجاجية للصور ليس هو ككيفية قبول الجسم المتقدم من الجليدية ، والقوة القابلة التي في الزجاجية ليست القوة القابلة التي في الجزء المتقدم.
وإذا كان كيفية قبول الزجاجية للضوء ليس هي كيفية قبول الجزء المتقدم من الجليدية، وليس حاجة الزجاجية كحاجة الجزء المتقدم من الجليدية، وليس حاجة الزجاجية كحاجة الجزء المتقدم من الجليدية فانعطاف الصور عند سطح الزجاجية إنما هو لاختلاف كيفية القبول الحسي أيضاً الذي بين هذين الجسمين. فالصور إذن تنعطف عند الزجاجية لحالتين، إحداهما اختلاف شفيف الجسمين والأخرى اختلاف كيفية القبول الحسي الذي في هذين الجسمين.
وإنما يختلف الشفيف في هذين الجسمين لتتفق الخاصة التي يوجبها الشفيف والخاصة التي يوجبها اختلاف كيفية الإحساس، فتبقى الصورة على هيئتها. ولو كان شفيف الجسمين شفيفاً متشابهاً لكانت الصورة تمتد في جسم الزجاجية على استقامة خطوط الشعاع من أجل تشابه الشفيف، وكانت تنعطف من أجل اختلاف كيفية الإحساس، وكانت الصورة من بعد الانعطاف إما أن تتشوه لهذه الحال وإما أن تصير صورتين. وإذا كان اختلاف الشفيف يوجب لها الانعطاف واختلاف كيفية الحس يوجب لها ذلك الانعطاف كانت الصورة بعد الانعطاف صورة واحدة وعلى هيئتها. فلذلك اختلف شفيف جسم الزجاجية وشفيف الجسم المتقدم من الجليدية. فالصور تصل إلى الزجاجية وهي مرتبة كترتيبها في سطح المبصر فيقبلها هذا الجسم ويحس بها بما فيه من القوة الحساسة، ثم تنعطف الصورة في هذا الجسم من أجل اختلاف الشفيف ومن أجل اختلاف كيفية إحساس هذا الجسم بها، فتحصل الصورة في هذا الجسم على هيئتها التي كانت عليها، ثم يمتد هذا الإحساس وهذه الصور في هذا الجسم والجسم المتصل به إلى أن يصل الإحساس وتصل الصور إلى الحاس الأخير والصور على هيئتها. فيكون امتداد الحس وامتداد الصورة في جسم الزجاجية وفي الجسم الحاس الممتد في تجويف العصبة إلى الحاس الأخير كامتداد إحساس اللمس وكامتداد إحساس الألم إلى الحاس الأخير.
وإحساس اللمس وإحساس الألم إنما يمتد من الأعضاء في شظايا العصب وفي الروح الممتدة في تلك الشظايا. وصور المبصرات إذا حصلت في جسم الرطوبة الزجاجية وأحس بها هذا العضو امتد الحس من هذا العضو في الجسم الحاس الممتد في تجويف العصبة المتصلة بين البصر وبين مقدم الدماغ، وامتدت الصورة بامتداد الحس وتكون الصورة في حال امتدادها مترتبة على هيئتها من غير أن تتغير أوضاع أجزائها لأن الجسم الحاس مطبوع على حفظ ترتيب هذه الصور. وهذا الترتيب ينحفظ بالجسم الحاس لأن ترتيب أجزاء الجسم الحاس القابلة لأجزاء الصور وترتيب القوة القابلة التي في أجزاء الجسم الحاس هو في جسم الزجاجية وفي جميع الجسم اللطيف الممتد في تجويف العصبة ترتيب متشابه. وإذا كان ذلك كذلك فكل نقطة من سطح الزجاجية إذا وصلت الصورة إليها فإنها تجري في سمت متصل لا يتغير وضعه من تجويف العصبة الذي يمتد فيه الجسم الحاس، ويكون جميع السموت التي يجري فيها جميع النقط التي في الصورة متشابهة الترتيب بعضها عند بعض ، وتكون هذه السموت منحنية في حال انحناء العصبة، وتكون في حال انحنائها مرتبة كترتيبها قبل انحنائها وبعد انحنائها من أجل كيفية الإحساس الذي في هذا الجسم، فتصل الصورة إلى العصبة المشتركة وهي على هيئتها من غير أن يتغير شيء من ترتيبها. وليس يصح أن يكون امتداد صور المبصرات إلى الحاس الأخير إلا على هذه الصفة أنه ليس يصح أن تصل الصورة إلى العصبة المشتركة وهي على هيئتها إلا إذا كان امتدادها على هذه الصفة.

وإذا كانت الصور تمتد على هذا الترتيب فإن كل نقطة من سطح الجليدية تمتد الصورة التي تحصل فيها أبداً على سمت واحد بعينه إلى نقطة واحدة بعينها من الموضع الذي تحصل فيه الصورة من العصبة المشتركة، لأن كل نقطة من سطح الجليدية تنتهي الصورة التي تحصل فيها أبداً إلى نقطة واحدة بعينها من سطح الزجاجية. ويلزم من ذلك أن يكون كل نقطتين متشابهتي الوضع من البصرين تمتد الصورتان منهما جميعاً إلى نقطة واحدة بعينها من العصبة المشتركة.
وأيضاً فإنه يلزم أن يكون الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة فيه بعض الشفيف لتظهر فيه صور الأضواء والألوان. ويلزم أيضاً أن يكون شفيفه شبيهاً بشفيف الرطوبة الزجاجية، لئلا تنعطف الصور عند وصولها إلى السطح الأخير من الزجاجية الذي يلي تجويف العصبة. لأنه إذا كان شفيف الجسمين متشابهاً لم تنعطف الصور، وليس يصح أن تنعطف الصور عند هذا السطح لأن هذا السطح سطح كري وهو من كرة صغيرة، فلو انعطفت الصور من هذا السطح لم تبعد عند إلا يسيراً حتى تتشوه، فليس يصح أن تنعطف الصور عند هذا السطح.
وإذا كان شفيف الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة مخالفاً لشفيف الزجاجية لم يكن بد من أن يحدث هذا الاختلاف تشعيثاً للصورة. وإن كانت الصورة تمتد بامتداد الحس فليس شفيف الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة مخالفاً لشفيف جسم الزجاجية. وليس شفيف هذا الجسم لتمتد الصور فيه على السموت التي يوجبها الشفيف، وإنما شفيفه ليقبل صور الأضواء والألوان وتظهر الصور فيه. لأن الجسم ليس يقبل الضوء واللون وتنفذ فيه صور الأضواء والألوان إلا إذا كان مشفاً آو كان فيه بعض الشفيف. وليس يظهر الضوء واللون في الجسم المشف إلا إذا كان فيه مع الشفيف بعض الغلظ. كذلك جميع الأجسام التي تقبل الأضواء والألوان وتظهر الأضواء والألوان فيها، ولذلك لم تكن الجليدية في غاية الشفيف ولا في غاية الكثافة. فالجسم الحاس الذي في تجويف العصبة مشف وفيه بعض الغلظ، والصورة تنفذ في هذا الجسم بما فيه من الشفيف وتظهر الصور فيه لقوة الحساسة بما فيه من الغلظ. والحاس الأخير إنما يدرك صور الأضواء والألوان من الصور التي تحصل في هذا الجسم ند وصولها إلى العصبة المشتركة ، وهو يدرك الضوء من الإضاءة التي تحصل في هذا الجسم. فعلى هذه الصفة يكون وصول الصور إلى الحاس الأخير ويكون إدراك الحاس الأخير لها.
وإذ قد تبين أن الصور تنعطف عند سطح الزجاجية فإننا نقول إن سهم مخروط الشعاع ليس يصح أن يكون مائلاً على هذا السطح، وليس يصح أن يكون إلا عموداً عليه. لأن السهم إذا كان مائلاً على هذا السطح فإن الصور التي تحصل في سطح الجليدية إذا وصلت إلى هذا السطح اختلف ترتيبها وتغيرت هيئتها. وليس يصح أن تحصل الصور في سطح الزجاجية وهي على هيئتها إلا إذا قابل البصر مبصراً من المبصرات وحصل سهم الشعاع على سطح ذلك المبصر حصلت صورة ذلك المبصر في سطح الجليدية مرتبة كترتيب أجزاء سطح ذلك المبصر حصلت صورة ذلك المبصر في سطح الجليدية مرتبة كترتيب أجزاء سطح المبصر، وحصلت صورة النقطة التي عند طرف السهم من سطح المبصر في النقطة التي على السهم من سطح الجليدية، وحصلت صور جميع النقط من سطح المبصر التي أبعادها من النقطة التي عند طرف السهم متساوية في النقط من الصورة التي في سطح الجليدية التي أبعادها من النقطة التي على السهم أبعاد متساوية. لأن جميع النقط التي تحصل في سطح الجليدية هي خطوط الشعاع الممتدة من مركز البصر إلى سطح البصر. وسهم الشعاع عمود على سطح الجليدية. فجميع السطوح المستوية التي تخرج من السهم وتقطع سطح الجليدية تكون قائمة على هذا السطح على زوايا قائمة.

وقد تبين أن سطح الرطوبة الزجاجية إما مسطح وإما كري مركزه غير مركز البصر. فإن كان سهم الشعاع مائلاً على هذا السطح وليس هو عموداً عليه فليس يخرج من السهم سطح مستو يكون قائماً على هذا السطح على زوايا قائمة إلا سطح واحد فقط، وجميع السطوح الباقية التي تخرج من السهم تكون مائلة عليه، لأن ذلك هو خاصة الخطوط المائلة على السطوح المستوية وعلى السطوح الكرية. فلنتوهم السطح الذي يخرج من السهم ويكون قائماً على سطح الزجاجية على زوايا قائمة ممتداً من السهم ، فهو يقطع سطح الزجاجية وسطح الجليدية ويحدث فيهما فصلين مشتركين. ولنتوهم على الفصل المشترك الذي ين هذا السطح وبين سطح الجليدية نقطتين بعدما من النقطة التي على السهم من سطح الجليدية بعد مساو. ونتوهم خطين خارجين من المركز إلى هاتين النقطتين، فيكون هذان الخطان مع السهم في السطح المشترك القائم على سطح الزجاجية على زوايا قائمة، لأن النقطتين اللتين على الفصل المشترك من سطح الجليدية ونقطة المركز ثلاثتها في هذا السطح، وتكون الزاويتان اللتان تحدثان بين هذين الخطين وبين السهم متساويتين، ويكون هذان الخطان يقطعان الفصل المشترك الذي يحصل في سطح الزجاجية على نقطتين، ويكون السهم يقطع هذا الفصل أيضاً على نقطة متوسطة بين النقطتين اللتين على ذينك الخطين. فإن كان سطح الرطوبة الزجاجية سطحاً مستوياً فإن الفصل المشترك هو خط مستقيم. وإذا كان السهم مائلاً على سطح الرطوبة الزجاجية، وكان السطح الذي أحدث الفصل المشترك قائماً على هذا الخط، فتكون الزاويتان اللتان على جنبيه مختلفتين، لأنه لو كان السهم قائماً على هذا الفصل المشترك لكان قائماً على السطح. فإذا كان السهم مائلاً على هذا الخط والزاويتان اللتان عن جنبيه مختلفتين، وكانت الزاويتان اللتان عند مركز الجليدية الذي هو طرف السهم متساويتين، فإن قسمي الخط الذي هو الفصل المشترك مختلفان أحدهما من الأخر، فتكون نقطتا طرفيهما مختلفتي البعد عن النقطة التي على السم من هذا الخط. وهاتان النقطتان هما اللتان تصل إليهما صورتي النقطتين من سطح الجليدية المتساويتي البعد عن السهم، لأنهما عند طرفي خطي الشعاع المارين بهاتين النقطتين. والنقطة التي على السهم من سطح الجليدية، لأن الصور تمتد من سطح الجليدية إلى سطح الزجاجية على استقامة خطوط الشعاع. فإن كان السهم مائلاً على سطح الزجاجية، وكان سطح الزجاجية مسطحاً، فإن النقطتين من الصورة التي تحصل في سطح الجليدية اللتين بعدهما من النقطة التي على السهم بعد متساو واللتين هما في السطح القائم على سطح الزجاجية إذا وصلا إلى سطح الزجاجية كان بعدهما من النقطة التي تصل على السهم بعداً مختلفاً.
وإذا كان السهم مائلاً على سطح الزجاجية، وكان سطح الزجاجية مستوياً، فإن كل سطح يخرج من السهم ويقطع سطح الزجاجية فإن الفصل المشترك الذي يحدث منه يحيط مع السهم بزاويتين مختلفتين، ما سوى سطح واحد فقط، وهو الذي يقاطع السطح القائم على الزجاجية على زوايا قائمة، فإن فصله المشترك يحيط مع السهم بزاويتين قائمتين. وجميع السطوح الباقية يكون السهم مائلاً على فصولها المشتركة، لأن هذه هي خاصة الخطوط المائلة. وإذا كانت الزاويتان اللتان تحدثان بين السهم والفصل المشترك مختلفتين، وكانت الزاويتان اللتان يوترهما قسما الفصل المشترك، اللتان عند مركز سطح الجليدية، متساويتين، فإن قسمي الفصل المشترك الذي يكون في سطح الزجاجية يكونان مختلفين، وتكون النقطتان اللتان هما طرفا هذا الفصل المشترك مختلفتي البعد من النقطة التي على السهم، ويكون قسما الفصل المشترك اللذان في سطح الجليدية متساويتين، وتكون النقطتان اللتان هما طرفا هذا الفصل المشترك متساويتي البعد من النقطة التي على السهم من سطح الجليدية. وإذا كان ذلك كذلك فإن الصورة التي تحصل في سطح الجليدية، إذا وصلت إلى سطح الزجاجية، كان ترتيبها بخلاف ما هو عليه في سطح الجليدية، وبخلاف ما هو عليه في سطح المبصر.

وكذلك أيضاً يتبين إذا كان سطح الزجاجية كرياً وكان السهم مائلاً عليه أن النقط التي في سطح الجليدية التي أبعادها من السهم متساوية إذا وصلت إلى سطح الزجاجية كانت أبعادها من النقطة التي على السهم مختلفة، لأن السهم إذا لم يكن عموداً على سطح الزجاجية، وكان سطح الزجاجية كرياً، فليس يمر هذا السهم بمركز الزجاجية، وهو يمر بمركز سطح الجليدية، فالخطوط التي تخرج من مركز الجليدية إلى النقط التي أبعادها من النقطة التي على السهم من سطح الجليدية أبعاد متساوية تحيط مع السهم عند مركز الجليدية بزوايا متساوية. وإذا كانت هذه الخطوط تحيط عند مركز تحيط مركز الجليدية بزوايا متساوية، وكان مركز الجليدية ليس هو مركز الزجاجية، فإن هذه الخطوط تفصل من سطح الزجاجية قسياً مختلفة، وليس شيء من الخطوط التي تحيط مع السهم بزوايا متساوية، ويكون مع السهم في سطح واحد، يفصل من سطح الزجاجية قوسين متساويين إلا خطان فقط، وهما اللذان في السطح القاطع للسطح القائم على سطح الزجاجية على زوايا قائمة. فإذا كان السهم مائلاً على سطح الزجاجية فإن الصور التي تحصل في سطح الزجاجية تكون مختلفة الترتيب، كان هذا السطح مسطحاً أو كان كرياً وإذا كان السهم عموداً على سطح الزجاجية كان عموداً على جميع الفصول المشتركة، وكان كل خطين يخرجان من مركز الجليدية، الذي هو نقطة من السهم، يحيطان مع السهم بزاويتين متساويتين يفصلان من الفصل المشترك الذي في سطح الزجاجية قسمين متساويين، وكان بعد النقطتين اللتين هما طرفا القسمين المتساويين من الفصل المشترك عن النقطة التي هي على السهم من سطح الزجاجية متساويين، كان سطح الزجاجية مسطحاً أو كرياً. فعلى تصاريف الأحوال ليس تصل الصورة إلى سطح الزجاجية وأوضاع أجزائها على ما هي عليه في سطح المبصر إلا إذا كان السهم قائماً على سطح الزجاجية على زوايا قائمة. والحاس إنما يحس بالصورة على هيئتها التي هي عليها عند وصولها إليه، والحاس إنما يدرك ترتيب أجزاء المبصر على ما هي عليه في سطح المبصر.فليس يصح أن تحصل الصور في سطح الزجاجية وترتيب أجزائها على خلاف ما هي عليه، فليس يصح أن يكون سهم الشعاع مائلاً على سطح الزجاجية، فسهم الشعاع إذن قائم على سطح الزجاجية على زوايا قائمة. وإذ كان هذا السهم قائماً على سطح الزجاجية على زوايا قائمة، فجميع خطوط الشعاع الباقية تكون مائلة على هذا السطح، مستوياً كان هذا السطح أو كرياً، لأن جميعها يقاطع السهم على مركز الجليدية، وليس شيء من هذه الخطوط يمر بمركز سطح الزجاجية إن كان كرياً إلا السهم فقط لأنه عمود عليه ولأن مركز سطح الجليدية ليس هو مركز سطح الزجاجية. فإذا كان قد تبين أن الصور التي تحصل في سطح الجليدية ليس تصل إلى تجويف العصبة إلا بعد أن تنعطف، وأن انعطافها إنما هو عند سطح الزجاجية، وكان السطح قائماً على هذا السطح على زوايا قائمة، وكانت جميع الخطوط الباقية مائلة على هذا السطح، فإن الصور إذا وصلت إلى سطح الزجاجية انعطفت جميع النقط التي فيها ما سوى النقطة التي على السهم فإنها تمتد على استقامة السهم إلى أن تصل إلى موضع الانحناء من تجويف العصبة. فليس شيء من الصور التي تحصل في سطح الجليدية يمتد إلى تجويف العصبة على استقامة إلا النقطة التي على السهم فقط، وجميع النقط الباقية إنما تصل إلى تجويف العصبة على خطوط منعطفة.

فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات، وكان المبصر مقابلاً لوسط البصر، وكان السهم في داخل مخروط الشعاع الذي يحيط بذلك المبصر، فإن صورة ذلك المبصر ترد من سطح المبصر إلى سطح الجليدية على استقامة خطوط الشعاع وتحس بها الجليدية عند حصولها في سطحها، ثم تمتد الصورة من هذا السطح على استقامة خطوط الشعاع إلى أن تصل إلى سطح الرطوبة الزجاجية. فالنقطة التي تكون على السهم تمتد من هذا السطح على استقامة السهم إلى أن تصل إلى موضع الانحناء من تجويف العصبة، وجميع النقط التي على الخطوط الباقية تنعطف على خطوط مقاطعة لخطوط الشعاع ومتشابهة الترتيب إلى أن تصل إلى موضع الانحناء من تجويف العصبة، فتحصل الصورة في هذا الموضع مرتبة كترتيبها في سطح الجليدية وكترتيبها في سطح المبصر، وتكون النقطة منها التي وردت على السهم قد امتدت على استقامة إلى هذا الموضع، وتكون جميع النقط الباقية من الصور إنما وصلت إلى هذا الموضع على خطوط منعطفة. وليس حال الصور المنعطفة كحال الصور الممتدة على استقامة، لأن الانعطاف لا بد ان يغيرها تغيراً ما. فيلزم من هذه الحال أن تكون النقطة من الصورة التي تحصل في موضع الانحناء من تجويف العصبة التي امتدت على استقامة السهم أشد تحققاً من جميع النقط الباقية من الصور.
وأيضاً فإن الانعطاف الذي يكون من النقط التي تحصل في سطح الانعطاف ما كان منها قريباً من السهم يكون انعطافه يسيراً، وما كان منها بعيداً من السهم يكون أشد انعطافاً، لأن الانعطاف إنما يكون بحسب الزوايا التي تحدث بين الخطوط التي ترد عليها الصور وبين الأعمدة التي تقوم على سطح الانعطاف، والخطوط التي تحيط مع العمدة بزوايا أصغر يكون انعطافها على زوايا أصغر، والخطوط التي تحيط مع الأعمدة بزوايا اعظم يكون انعطافها على زوايا أعظم. وخطوط الشعاع ما كان منها قريباُ من السهم يكون ميله على سطح الانعطاف أقل، فهو يحيط مع الأعمدة التي تقوم على سطح الانعطاف بزوايا أصغر. وما كان منها بعيداً عن السهم يكون ميله على سطح الانعطاف أكثر، فهو يحيط مع الأعمدة التي تقوم على سطح الانعطاف بزوايا أعظم.فالنقط التي تكون قريبة من السهم يكون انعطافها أقل من انعطاف النقط البعيدة من السهم وكلما كان من النقط أشد تحققاً وأقل تشعثاً من الصور التي انعطافها أقل تكون اشد تحققاً واقل تشعثاً من الصور التي انعطافها أكثر. فالصور التي تحصل في موضع الانحناء من تجويف العصبة تكون النقطة منها التي على السهم أبين من جميع النقط الباقية وأشد تحققاً، وما فرب منها يكون أشد تحققاً مما بعد.
وهذه الصور هي التي تمتد إلى العصبة المشتركة وهي التي منها يدرك الحاس الأخير صورة المبصر. وإذا كانت هذه الصورة التي تحصل في موضع الانحناء من تجويف العصبة مختلفة الأحوال، والنقطة منها التي وردت على السهم أشد تحققاً من جميع النقط الباقية، وما قرب من هذه النقط اشد تحققاً مما بعد، فالصورة إذن التي تحصل في العصبة المشتركة التي منها تدرك القوة الحساسة صورة المبصر تكون مختلفة الأحوال، والنقطة منها النظيرة للنقطة التي عليها السهم من سطح المبصر تكون أشد تحققاً من جميع النقط الباقية من الصورة، وما قرب من هذه الصور يكون أشد تحققاً مما بعد. فصور المبصرات التي يدركها البصر ما كان منها عند السهم يكون أبين منها عند الحس واشد تحققاً مما كان عند أطراف الخطوط الباقية من خطوط الشعاع، وما كان عند أطراف الخطوط القريبة من السهم يكون أبين مما كان عند أطراف الخطوط البعيدة من السهم.

فإذا استقرئت أحوال المبصرات، وميزت كيفية إدراك البصر للمبصرات التي يدركها البصر معاً، وكيفية إدراك البصر لأجزاء المبصر الواحد، وجدت أحوالها موافقة للمعنى الذي حددناه ومطردة لا تختلف ولا تنتقض. وذلك أن الناظر إذا قابل في الوقت الواحد مبصرات كثيرة، وسكن بصره ولم يحركه، فإن ما كان من تلك المبصرات مقابلاً لوسط بصره يجده أبين مما يكون عن جوانب ذلك المتوسط، وما كان قريباً من المتوسط يكون أبين مما يكون بعيداً عنه. وكذلك إذا نظر الناظر إلى مبصر فسيح الأقطار وقابل ببصره وسط ذلك المبصر وسكن بصره، فإنه يدرك وسط ذلك المبصر أبين مما يدرك أطرافه وحواشيه. ويتبين هذا المعنى بياناً واضحاً إذا كانت أشخاص كثيرة أو مبصرات كثيرة، وكانت تلك المبصرات متتالية، وكانت على مسافة معترضة للبصر، وكان الناظر مقابلاً لشخص منها متوسط بين تلك الأشخاص الباقية ونظر الناظر إلى الشخص المتوسط وسكن بصره، فإنه يدرك ذلك الشخص إدراكاً بيناً محققاً، ويدرك مه ذلك أيضاً الأشخاص الباقية التي عن جنبتي ذلك الشخص ولكن إدراكاً ليس في غاية البيان، ويحس بما قرب من المتوسط أبين مما يحس بالبعيد منه. وتظهر هذه الحال ظهوراً أبين إذا كانت المسافة التي عليها تلك الأشخاص طويلة وكان بين المتطرف من تلك المبصرات وبين المتوسط منها مسافة مقتدرة، فإن المبصرات التي يدركها الناظر على هذه الصفة يكون بين إدراكه المتوسط منها وبين إدراكه المتطرف عند سكون البصر تفاوت ظاهر.
ثم إن حرك الناظر بصره وقابل بوسطه مبصراً آخر من تلك المبصرات غير ذلك المبصر الذي كان مقابلاً له، فإنه يدرك هذا الثاني إدراكاً بيناً، ويصير إدراكه للأول إدراكاً ضعيفاً. وإن قابل ببصره الشخص المتطرف من تلك الأشخاص وحقق التحديد إليه أدركه إدراكاً أبين مما كان يدركه مع ذلك الشخص المتوسط في هذه الحال إدراكاً ضعيفاً مع قربه منه، ويكون بين إدراكه للمبصر المتوسط في حال مقابلته للمتطرف وبين إدراكه لذلك المتوسط في حال مقابلته له تفاوت ظاهر محسوس.
وكذلك إذا نظر الناظر إلى جسم فسيح الأقطار، وكان بين أطرافه وبين وسطه أبعاد مقتدرة، وقابل بوسط بصره وسط ذلك المبصر، وسكن بصره وتفقد إدراكه لذلك المبصر، فإنه يجد إدراكه لوسط ذلك المبصر أبين من إدراكه لأطرافه، ويجد بين الإدراكين تفاوتاً ظاهراً، ويجد ما قرب من الوسط من أجزائه أبين مما بعد عن الوسط. وإن حرك بصره وقابل جزءاً غير ذلك الجزء من المبصر صار إدراكه للجزء الثاني أبين من إدراكه لذلك الجزء في الحالة الأولى، وصار إدراكه للجزء الأول أضعف من إدراكه له في الحالة الأولى.
فيتبين من هذا الاعتبار أن الإبصار بوسط البصر وبالسهم الذي حددناه أبين وأشد تحققاً من الإبصار بحواشي البصر وبالخطوط المحيطة بالسهم، وان الإبصار بما قرب من الوسط وبما قرب من السهم أبين من الإبصار بما بعد عن الوسط وعن السهم. فقد تبين بالاستقراء والاستدلال أن الإبصار يكون بسهم مخروط الشعاع أبين من الإبصار بجميع خطوط الشعاع الباقية وان الإبصار بما قرب من السهم أبين من الإبصار بما بعد عنه.

الفصل الثالث
كيفية إدراك المعاني الجزئية
كيفية إدراك كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر إن حاسة البصر ليس يدرك شيئاً من المعاني المبصرة إلا في الجسم. والأجسام تجمع معاني كثيرة وتعرض فيها معان كثيرة. وحاسة البصر يدرك من الأجسام كثيراً من المعاني التي تكون فيها وكثيراُ من المعاني التي تعرض فيها. واللون هو أحد المعاني التي تكون في الأجسام، والضوء أحد المعاني التي تكون في الأجسام واحد المعاني التي تعرض في الأجسام. وحاسة البصر يدرك هذين المعنيين من الأجسام، ويدرك من الأجسام معاني أخر غير هذين المعنيين، كالشكل والوضع والعظم والحركة وغير ذلك من المعاني التي يأتي تفصيلها من بعد. ويدرك أيضاً تشابه الألوان واختلافها وتشابه الأضواء واختلافها. ويدرك أيضاً تشابه الأشكال والأوضاع والحركات وتشابه جميع المعاني الجزئية. ويدرك أيضاً تشابه الأشخاص واختلافها وتشابه الألوان واختلافها.

إلا أنه ليس إدراك حاسة البصر لجميع المعاني على صفة واحدة ولا إدراكها لكل واحد من المعاني بمجرد الحس . وذلك أن حاسة البصر إذا أدركت شخصين من الأشخاص في وقت واحد وكان الشخصان متشابهين في الصورة فإنها تدرك الشخصين وتدرك أنهما متشابهان. وتشابه صورتي الشخص ليس هو الصورتين أنفسهما ولا واحدة منهما.
وإذا كانت حاسة البصر تدرك الشخصين من الصورتين اللتين تحصلان في البصر للشخصين فهي تدرك تشابه الشخصين من تشابه الصورتين اللتين تحصلان في البصر للشخصين. وتشابه الصورتين اللتين تحصلان في البصر ليس هو الصورتين أنفسهما اللتين في البصر ولا واحدة منهما. وليس يحصل في البصر صورة ثالثة للشخصين يدرك الحس منها التشابه. وليس يحصل في البصر للشخصين غير الصورتين فقط. فليس إدراك حاسة البصر للتشابه من صورة ثالثة تحصل في البصر تخص التشابه.
وأيضاً فإن التشابه الصورتين هو اتفاقهما في معنى من المعاني وحصول ذلك المعنى في كل واحد من الصورتين. فليس يدرك تشابه الصورتين إلا من قياس إحداهما بالأخرى وإدراك المعنى الذي به يتشابهان في كل واحدة منهما. وإذا كانت حاسة البصر تدرك التشابه، ولم يكن في البصر صورة ثالثة يدرك منها التشابه، وكان التشابه ليس يدرك إلا من قياس إحدى الصورتين بالأخرى، فحاسة البصر إذن إنما تدرك تشابه الصورتين من قياس إحدى الصورتين اللتين تحصلان في البصر إحداهما بالأخرى.
وكذلك أيضاً يدرك حاسة البصر اختلاف الصورتين المختلفتين من قياس إحدى الصورتين بالأخرى.
فتشابه الصور واختلافها إنما يدركه حاسة البصر من قياس الصور التي تحصل في البصر بعضها ببعض.
وإذا كان ذلك كذلك فإدراك حاسة البصر لتشابه الصور واختلافها ليس بمجرد الحس وإنما هو من قياس الصور التي يدركها بمجرد الحس بعضها ببعض.
وأيضاً فإن البصر إذا أدرك لونين من جنس واحد وكان أحدهما أقوى من الأخر كأخضر زنجاري وأخضر فستقي، فإن الحاس يدرك أنهما أخضران ويدرك أن أحدهما أشد خضرة من الآخر ويفرق بين الخضرتين، فهو يدرك تشابههما في الخضرة ويدرك اختلافهما في القوة والضعف. وكذلك يفرق بين الحمرتين وبين الزرقتين وكل لونين من جنس واحد إذا كان أحدهما أقوى من الآخر.
والتفريق بين الخضرتين ليس هو نفس الإحساس بالخضرة، لأن الإحساس بالخضرة إنما هو من اخضرار البصر بالخضرة، والبصر بكلى الخضرتين يخضر، ومن اخضراره بكلتي الخضرتين يدرك الحاس أنهما من جنس واحد. فإدراكه أن إحدى الخضرتين أقوى من الأخر وإدراكه أنهما من جنس واحد هو تمييز التلون الذي يحصل في البصر لا نفس الإحساس بالتلون.
وكذلك إذا كان اللونان متشابهين في القوة وكانا من جنس واحد فالحاس يدرك اللونين ويدرك انهما من جنس واحد. والحاس يدرك اللونين ويدرك أنهما من جنس واحد ويدرك أنهما متشابهان في القوة.
وكذلك حال الأضواء عند حاسة البصر. فإن حاسة البصر يدرك الأضواء ويفرق بين الضوء القوي والضوء الضعيف ويدرك تشابه الأضواء في القوة والضعف.
فإدراك حاسة البصر لتشابه الألوان واختلافها وإدراكها لتشابه الأضواء واختلافها وإدراكها لتشابه تخطيط صور المبصرات وهيئاتها ولاختلافها واختلاف هيئاتها إنما هو بتمييزها وقياس بعضها إلى بعض لا بمجرد الحس.
وأيضاً فإن حاسة البصر ليس يدرك شفيف الأجسام المشفة إلا بالتمييز والقياس. وذلك أن الأحجار المشفة التي شفيفها يسير ليس يدرك البصر شفيفها إلا بعد أن يقابل بها الضوء وتستشف. فإذا أدرك الضوء من ورائها أدرك أنها مشفة . وكذلك كل جسم مشف ليس يدرك البصر شفيفه إلا بعد أن يدرك ما وراءه من الأجسام، أو يدرك الضوء من ورائه، ويدرك التمييز مع ذلك أن الذي يظهر من ورائه هو غير الجسم المشف، وليس يدرك الشفيف إن لم يدرك ما وراء الجسم المشف أو يدرك نفوذ الضوء فيه ويدرك التمييز مع ذلك أن الذي يظهر من وراء ذلك الجسم هو غير ذلك الجسم.وإدراك أن ما وراء الجسم المشف هو غير ذلك الجسم ليس هو إدراكاً بمجرد الحس وإنما هو إدراك بالاستدلال، فالشفيف ليس يدرك إلا بالاستدلال. وإذا كان ليس يدرك الشفيف إلا بالتمييز والقياس.

وأيضاً فإن الكتابة ليس تدرك إلا من تمييز صور الحروف وتأليفها وقياسها بأمثالها التي قد عرفها الكاتب من قبل ذلك وألفها. وكذلك كثير من المعاني المبصرة إذا تؤملت كيفية إدراكها وجدت ليس تدرك بمجرد الإحساس وليس تدرك إلا بالتمييز والقياس.
وإذا كان ذلك كذلك فليس جميع ما يدرك بحاسة البصر يدرك بمجرد الحس، بل كثير من المعاني المبصرة تدرك بالتمييز والقياس مع الإحساس بصورة المبصر، لا بمجرد الحس فقط.
وليس للبصر قوة للتمييز ولكن القوة المميزة هي التي تميز هذه المعاني. إلا أن تمييز القوة المميزة للمعاني المبصرة ليس يكون إلا بتوسط حاسة البصر.
وأيضاً فإن البصر يعرف المبصرات ويدرك كثيراً من المبصرات وكثيراً من المعاني المبصرة بالمعرفة، فيعرف الإنسان أنه إنسان، ويعرف الفرس أنه فرس، ويعرف زيداً بعينه أنه زيد إذا كان قد شاهده من قبل وكان ذاكراً لمشاهدته، ويعرف الحيوانات المألوفة، ويعرف النبات والثمار والأحجار والجمادات التي قد شاهدها من قيل وشاهد أمثالها، ويعرف الآلات وما يكثر استعماله وتكثر مشاهدته، ويعرف جميع المعاني المألوفة التي تكون في المبصرات التي تكثر مشاهدته لها.
وليس يدرك البصرة شيء من المبصرات إلا بالمعرفة. والمعرفة ليس هي إدراكاً بمجرد الإحساس، وذلك أن البصر ليس يعرف كل ما شاهده من قبل. وإذا أدرك البصر شخصاً من الأشخاص وغاب عنه مدة ثم شاهده من بعد ولم يكن ذاكراً لمشاهدته الأولة فليس يعرفه وإنما يعرف ما يعرفه إذا كان ذاكراً لمشاهدته من قبل. فلو كانت المعرفة هي إدراكاً بمجرد الإحساس لكان البصر إذا رأى شخصاً قد شاهده من قبل عرفه عند المشاهدة الثانية على تصاريف الأحوال. ولكن البصر ليس يعرف الشخص الذي قد شاهده من قبل إلا إذا كان ذاكراً لمشاهدته الأولة ولصورته التي أدركها في الحالة الأولى أو في المرات التي تكررت عليه تلك الصورة من قبل. وليس تكون المعرفة إلا بالذكر فالمعرفة إذن ليس هي إدراكاً بمجرد الإحساس.
والإدراك بالمعرفة هو ضرب من ضروب القياس. وذلك أن المعرفة هو إدراك تشابه الصورتين، أعني الصورة التي يدركها البصر من المبصرات في حال المعرفة والصورة التي أدركها من ذلك المبصر أو من أمثاله في الحالة الأولى أو في المرات التي تقدمت إن كان أدرك ذلك المبصر أو أمثاله مرات كثيرة. ولذلك ليس تكون المعرفة إلا بالتذكير لأنه إن لم تكن الصورة الأولة حاضرة للذكر لم يدرك تشابه الصورتين ولم يعرف البصر المبصر.
والمعرفة قد تكون بالشخص وقد تكون بالنوع، فالمعرفة بالشخص تكون من تشبيه صورة الشخص المبصر التي أدركها البصر في حال معرفة الشخص بصورته التي أدركها من قبل. والمعرفة بالنوع تكون من تشبيه صورة المبصر بصورة أمثاله من أشخاص نوعه التي أدركها البصر من قبل.
وإدراك التشابه هو إدراك بقياس، لنه إنما هو من قياس إحدى الصورتين بالأخرى. فالمعرفة إذن إنما تكون بضرب من ضروب القياس. إلا أن هذا القياس يتميز عن جميع المقاييس. وذلك أن المعرفة ليس تكون باستقراء جميع المعاني التي في الصورة، بل إنما تكون المعرفة بالأمارات. فإذا أدرك البصر معنى من المعاني التي في الصورة، وكان ذاكراً للصورة الأولة، فقد عرف الصورة . وليس كذلك جميع ما يدرك بالقياس، فإن كثيراً مما يدرك بالقياس ليس يدرك إلا بعد استقراء جميع المعاني التي في الشخص الذي يدرك بالقياس أو أكثرها.

وكذلك كثير من المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس ليس تدرك إلا بعد استقراء جميع المعاني التي فيها. وذلك أن الإنسان الكاتب إذا لحظ صورة ابجد مكتوبة في ورقة فإنه في حال ملاحظته لها قد أدرك أنه ابجد لمعرفته بالصورة. فمن إدراكه لتقدم الألف وتأخر الدال قد أدرك أنه أبجد، أو من إدراكه لتشكل جملة الصورة قد أدرك أنها ابجد. وكذلك إذا رأى اسم الله تعالى مكتوباً فإنه في حال ملاحظته قد أدرك أنه اسم الله تعالى بالمعرفة. وكذلك جميع الكلمات المشهورة التي يكثر تكررها على البصر إذا شاهدها الكاتب أدرك ما هي الكلمة في الحال بالمعرفة من غير حاجة إلى استقراء حروفها حرفاً حرفاً. وليس كذلك إذا لحظ الكاتب كلمة غريبة مكتوبة وكانت كلمة لم ترد عليه قبل ذلك الوقت ولم يقرأ مثلها من قبل. وليس يدرك الكاتب الكلمة الغريبة التي لم ترد عليه من قبل إلا بعد أن يستقرئ حروفها حرفاً حرفاً ويميز معانيها، ومن بعد ذلك يدرك معنى الكلمة. وكذلك كل معنى يدرك بحاسة البصر إذا لم يكن قد ورد على البصر من قبل. فكل صورة لم تكن وردت على البصر من قبل ولم يرد عليه مثلها إذا أدركها البصر ليس يدرك البصر ما هي تلك الصورة أو ما هو ذلك المعنى، وليس يدرك أيضاً حقيقة تلك الصورة ولا حقيقة ذلك المعنى، إلا بعد أن يستقرئ جميع المعاني التي في تلك الصورة أو في ذلك المعنى أو كثيراً منها ويميز معانيها.
والصورة التي قد أدركها البصر من قبل أو قد أدرك أمثالها يدرك البصر ما هي تلك الصورة في حال إدراكه الصورة من إدراكه بعض المعاني التي في الصورة إذا كان ذاكراً لإدراكه لتلك الصورة أو أمثالها من قبل. فالذي يدرك بالمعرفة يدرك بالأمارة، وليس كل ما يدرك بالقياس يدرك بالأمارات. والإدراك بالمعرفة يتميز عن جميع ما يدرك بالقياس إذا لم يكن إدراكاً بالمعرفة، وهو يتميز بالسرعة لأنه إدراك بالأمارات. وأكثر المعاني المبصرة ليس تدرك إلا بالمعرفة، وليس تدرك مائية شيء من المبصرات ولا مائية شيء من المحسوسات بجميع الحواس إلا بالمعرفة.
والمعرفة ليس هي مجرد الإحساس. فحاسة البصر يدرك صور المبصرات من الصور التي ترد إلى البصر من ألوان المبصرات وأضوائها. وإدراكها للأضواء بما هي أضواء وللألوان بما هي ألوان يكون بمجرد الإحساس. ثم ما كان في الصور من المعاني قد أدركها البصر من قبل أو أدرك أمثالها، وهو ذاكر لما أدركه منها ومن أمثالها، فإنما يدركها في الحال بالمعرفة ومن الأمارات التي تكون في الصورة.ثم القوة المميزة تميز هذه الصورة فيدرك منها جميع المعاني التي تكون فيها من الترتيب والتخطيط والتشابه والاختلاف وجميع المعاني التي تكون في الصورة التي ليس يتم إدراكها بمجرد الحس ولا بالمعرفة. فالمعاني التي تدرك بحاسة البصر منها ما يدرك بالمعرفة ومنها ما يدرك بتمييز وقياس يزيد على مقاييس المعرفة.وأيضاً فإن أكثر المعاني المبصرة التي تدرك بالتمييز والقياس يدرك أكثرها في زمان في غاية الصغر، ولا يظهر في أكثر الأحوال أن إدراكها بتمييز وقياس لسرعة القياس الذي به تدرك هذه المعاني وسرعة إدراكها بالقياس. وذلك آن شكل الجسم وعظمه وشفيفه وما جرى هذا المجرى من المعاني التي في المبصرات تدرك في أكثر أحوالها إدراكاً في غاية السرعة ولا تدرك في الحال إذ إدراكها بقياس وتمييز إذا كان إدراكها في غاية السرعة. وسرعة إدراك هذه المعاني بالقياس إنما هو لظهور مقدماتها ولكثرة اعتياد القوة المميزة لتمييز هذه المعاني. فهي في حال ورود الصورة عليها قد أدركت جميع المعاني التي فيها. وإذا أدركت القوة المميزة جميع المعاني التي في الصورة فهي تتميز لها في حال إدراكها. وإذا تميزت لها جميع المعاني التي في الصورة فقد أدركت نتائج تلك المعاني في حال تمييزها.

وكذلك جميع المقاييس التي مقدماتها الكلية ظاهرة ومستقرة في النفس ليس تحتاج القوة المميزة في إدراك نتائجها إلى زمان مقتدر، بل في حال فهمها للمقدمة قد فهمت النتيجة. مثال ذلك لو طرق سمع سامع صحيح التمييز قول قائل هذا الشخص كاتب لكان ذلك السامع يدرك في الحال مع نفس فهمه لهذا اللفظ أن ذلك الشخص الذي سمع بصفته هو إنسان، وإن لم ير ذلك الشخص، ومن غير توقف ولا زمان مقتدر. وليس إدراكه لأن الشخص الكاتب إنسان إلا بالمقدمة الكلية وهي أن كل كاتب إنسان. فمن استقرار هذه المقدمة في النفس وظهورها عند القوة المميزة صار السامع متى سمع بالمقدمة الجزئية التي هي هذا الشخص كاتب فهم في الحال أن ذلك الشخص إنسان. وكذلك إن قال قائل ما أمضى هذا السيف فإن السامع المميز إذا سمع هذا اللفظ فهم في الحال أن ذلك السيف المشار إليه حديد. وليس إدراكه بأن ذلك السيف حديد إلا بالمقدمة الكلية التي هي كل سيف ماض فهو حديد.
وكذلك جميع المقاييس التي مقدماتها ظاهرة ومستقرة في النفس وحاضرة للذكر تدرك القوة المميزة نتائجها في حال استماعها للمقدمة الجزئية وفي زمان في غاية الصغر، ولا يكون بين الآن الذي يقع فيه فهم المقدمة الجزئية وبين الآن الذي تدرك فيه القوة المميزة النتيجة زمان ظاهر المقدار. والعلة في ذلك أن القوة المميزة ليس تقيس بترتيب وتأليف وبتكرير المقدمات كما يكون في ترتيب القياس باللفظ. وذلك أن القياس المنتج ليس يكون قياساً في اللفظ إلا بترتيب المقدمات، ومثاله هذا الشخص كاتب وكل كاتب إنسان فهذا الشخص إنسان. فبهذا الترتيب صار اللفظ قياساً وأنتجت النتيجة. ولو لم يرتب اللفظ هذا الترتيب لما أنتجت النتيجة. وليس كذلك قياس القوة المميزة، لأن القوة المميزة تدرك النتيجة من غير حاجة إلى اللفظ ومن غير حاجة إلى تكرير المقدمة وترتيبها ومن غير حاجة إلى تكرير اللفظ وترتيبه.
وترتيب لفظ القياس هو صفة كيفية إدراك التمييز للنتيجة، وإدراك التمييز للنتيجة ليس يحتاج إلى نعت الكيفية وإلى ترتيب كيفية الإدراك. فالقوة المميزة إذا أدركت المقدمة الجزئية، وكانت ذاكرة للمقدمة الكلية، فإنها في حال فهمها للمقدمة الجزئية قد فهمت النتيجة، لا في زمان له قدر يعتد به، بل في أقل القليل من الزمان، وإذا كانت المقدمة الكلية ظاهرة ند القوة المميزة.
فالمعاني المبصرة التي تدرك بالقياس يكون إدراك أكثرها إدراكاً في غاية السرعة. ولا يظهر في أكثر الأحوال أن إدراكها بالقياس والتمييز لسرعة إدراكها، وسرعة إدراكها إنما هو لظهور مقدماتها وكثرة اعتياد القوة المميزة لتمييزها. وأيضاً فإن المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس والتمييز إذا تكرر إدراكها بالقياس وفهمت القوة المميزة معانيها، وصار إدراك القوة المميزة لها، إذا وردت عليها من بعد استقرار فهمها، بالمعرفة من غير حاجة إلى أن تستقرئ جميع المعاني التي فيها، بل تدركها بالأمارات، وتصير تلك النتيجة من جملة المعاني التي تدرك لا باستئناف التمييز والقياس واستقراء جميع المعاني التي فيها. ومثال ذلك الكلمة الغريبة المكتوبة إذا وردت على الكاتب ولم تكن وردت عليه من قبل ولا ورد عليه مثلها. فليس يدركها إلا بعد أن يستقرئ حرفها حرفاً حرفاً. ثم إذا أدركها وفهمها وغابت عنه ثم أدركها ثانية وهو ذاكر لها، فإنه يدركها في الثاني أسرع مما أدركها في الأول. ثم إذا تكرر إدراكه لتلك الكلمة مرات كثيرة استقرت صورة تلك الكلمة في نفسه وصار إدراكه لها من بعد ذلك بالمعرفة، وفي حال ملاحظته لها قد أدركها من غير حاجة إلى استئناف تمييزها واستقراء جميع حروفها حرفاً حرفاً، بل يدركها في حال ملاحظته لها كما ذكرنا ويدرك صورة ابجد وكما يدرك الكلمات التي يعرفها.
وكذلك جميع المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس إذا تكرر إدراك البصر لها صار إدراكه لها بالمعرفة من غير استئناف القياس الذي به أدرك صحتها، وكذلك جميع المعاني التي تدرك بالقياس إذا كانت مقدماتها ظاهرة ونتائجها صادقة. فإنه إذا فهمت النفس النتيجة بالقياس واستقرت صحتها في الوهم ثم تكرر ذلك المعنى على النفس مرات كثيرة صارت النتيجة بمنزلة المقدمة الظاهرة فتصير متى وردت القضية على النفس حكم التمييز بالنتيجة من غير حاجة إلى استئناف القياس.

وكثير من المعاني التي ليس إدراك التمييز لصحتها إلا بالقياس يظن بها أنها علوم أول وأنها تدرك بفطرة العقل وليس إدراكها بقياس. ومثال ذلك آن الكل اعظم من الجزء يسمى علماً أول ويظن أنه يحكم بصحته بفطرة العقل وليس إدراك صحته بقياس لسرعة قبول الفهم ولن التمييز لا يشك فيه في وقت من الأوقات. والكل اعظم من الجزء ليس يدرك إلا بقياس ولا طريق إلى إدراك صحته إلا بالقياس لان التمييز لا طريق له إلى إدراك أن الكل أعظم من الجزء إلا بعد فهمه لمعنى الكل وفهمه لمعنى الجزء وفهمه لمعنى أعظم. لأنه لم يفهم التمييز معاني أجزاء اللفظ يفهم معنى جملة اللفظ. ومعنى الكل إنما هو الجملة ومعنى الجزء إنما هو البعض والأعظم إنما هو مضاف إلى غيره ومعنى الأعظم هو الذي يساوي الغير الذي هو مضاف إليه ببعضه ويزيد عليه بالباقي.ومن انطباق معنى الأعظم في الزيادة على معنى الكل في الزيادة ظهر أن الكل أعظم من الجزء. فمن فهم القوة المميزة لمعنى الكل ولمعنى الجزء ولمعنى الأعظم، ومن إدراكها لاتفاق معنى الكل ومعنى الأعظم في الزيادة، أدركت أن الكل اعظم من الجزء. وإذا كان إدراكها لأن الكل أعظم من الجزء إنما هو بهذه الطريقة فإدراكها له إنما هو بقياس لا بفطرة العقل. والذي هو في فطرة العقل إنما هو إدراكه لاتفاق معنى الكل ومعنى الأعظم في الزيادة فقط.وهذا المعنى هو المقدمة الكلية التي أنتجت النتيجة، وفي حال ملاحظة العقر لهذا المعنى قد فهم النتيجة، فالكل أعظم من الجزء هو نتيجة قياس هذا المعنى مقدمته الكلية.
وترتيب هذا القياس في اللفظ هو أن الكل يزيد على الجزء، وكلما يزيد على غيره فهو أعظم منه، فالكل أعظم من الجزء. فالقياس يترتب في اللفظ على هذه الصفة. وإدراك القوة المميزة لهذا المعنى بالقياس إنما هو من إدراكها لأن معنى الكل ومعنى اعظم متفقان في الزيادة، وسرعة إدراكها للنتيجة إنما هو لأن المقدمة الكلية ظاهرة. فإدراك القوة المميزة لأن الكل أعظم من الجزء هو بقياس ولكن مقدمته الكلية ظاهرة عندها فهي تدرك نتيجتها في حال ورود المقدمة الجزئية وفي حال فهمها لها، والمقدمة الجزئية هو معنى الكل في زيادته على الجزء. ولاستقرار صدق هذا القياس في النفس وصحتها في الفهم وحضورها للذكر صارت متى وردت القضية قبلها العقل من غير استئناف قياس بل من معرفته بها فقط.
وكلما كان من هذا الجنس من العلوم فإنه يسمى علماً أول ويظن به أنه يدرك بمجرد العقل وليس يحتاج في إدراك صحته إلى قياس. والعلة في ذلك أنه يدرك بالبديهة في حال وروده على العقل، وهو إنما يدرك بالبديهة بالمعرفة لاستقرار صحته في النفس ولذكر النفس له ولصحته ولمعرفة النفس بالقضية عند ورودها، فقبول العقل لما وصفته من العلوم بالبديهة إنما هو بالمعرفة، وإدراك صحته إنما هو لاستقرار صحته في النفس، وصحته إنما استقرت في النفس بالقياس وبتمييز مقدماته وفهم معانيها.
فالمقاييس التي مقدماتها الكلية ظاهرة ومستقرة في النفس تدرك القوة المميزة نتائجها في حال فهمها للمقدمة الجزئية وفي زمان غير محسوس. ثم إذا تكرر القياس الذي بهذه الصفة واستقرت صحة النتيجة في النفس، صارت النتيجة بمنزلة المقدمة الظاهرة، وصارت المقدمة الجزئية بمنزلة المقدمة الكلية في الظهور، وصارت القوة المميزة متى وردت عليها المقدمة الجزئية أدركت النتيجة بالمعرفة من غير استئناف للقياس الأول الذي به أدركت تلك النتيجة ومن غير تمييز لكيفية الإدراك. وعلى هذه الصفة يكون إدراك القوة المميزة لأكثر المعاني المدركة بالقياس من المعاني المبصرة في حال إدراكها للصورة وفي زمان غير محسوس. ثم إذا تكرر ذلك المعنى على البصر واستمر إدراكه له،واستقر فهم القوة المميزة لذلك المعنى بالمعرفة وفي حال ورود ذلك المعنى وبالأمارات، من غير استئناف للقياس الأول الذي يستقرئ فيه جميع المعاني التي في الصورة.

وأيضاً فإن المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس والمعاني التي تدرك بالمعرفة ليس تظهر في أكثر الأحوال كيفيات إدراكها في حال إدراكها، لأن إدراكها في غاية السرعة ولأن إدراك كيفية الإدراك إنما يكون بقياس ثان غير القياس الذي وقع به الإبصار. والقوة المميزة ليس تستعمل هذا القياس الثاني في الوقت الذي تدرك فيه معنى من المعاني المبصرة، ولا تميز كيف أدركت ذلك المعنى، ولا تقدر على هذه الحال لسرعة إدراكها للمعاني المدركة بالمعرفة ولسرعة إدراكها للمعاني المدركة بالقياس الذي مقدماته ظاهرة ومستقرة في النفس. وكذلك جميع المعني المدركة بالمعرفة وجميع المعاني المدركة بالقياس الذي مقدماته ظاهرة ومستقرة في النفس وإدراكها في غاية السرعة ليس يظهر في حال إدراكها كيفية إدراكها، لأن كيفية الإدراك ليس يدرك إلا بقياس ثان وليس تستعمل القوة المميزة هذا القياس الثاني في حال إدراك المعاني التي إدراكها في غاية السرعة وبالمعرفة. ولهذه العلة صار كثير من القضايا الصادقة التي تدرك بالمعرفة، وأصل استقرار صحتها بالقياس، لا يحس بكيفية إدراك صحتها في حال ورودها، لأن القوة المميزة إذا وردت عليها هذه المعاني فهي تحكم بصحتها بمعرفتها ولاستقرار صحتها عندها، وفي حال معرفتها ليس تبحث عن كيف كان استقرار صحتها في الأول، ولا تبحث عن كيفية إدراكها لصحتها في حال ورودها ومعرفتها، ولا متى استقرت صحتها عندها.
وأيضاً فإن القياس الثاني الذي به تدرك القوة المميزة كيفية إدراكها لما تدركه ليس هو قياساً في غاية السرعة بل يحتاج إلى فضل تأمل. لأن الإدراكات تختلف فمنها ما يكون بفطرة العقل، ومنها ما يكون بالمعرفة، ومنها ما يكون بفضل تمييز وتأمل. فإدراك كيفية الإدراك، وأي هذه الإدراكات هو، ليس يكون إلا بقياس بفضل تأمل وتمييز، لا قياساً في غاية السرعة. فالقوة المميزة إذا أدركت معنى من المعاني بالمعرفة أو بقياس في غاية السرعة فليس تدرك كيفية ذلك الإدراك في حال الإدراك. ولهذه العلة ليس يظهر في أكثر الأحوال كيفية إدراك المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس في حال إدراكها.
وأيضاً فإن الإنسان مطبوع على التمييز والقياس، فهو يميز ويقيس الشيء بالشيء دائماَ بالطبع بغير تكلف ولا فكر. والإنسان إنما يحس بأنه يقيس إذا تكلف القياس واستعمل الفكر وتمحل المقدمات. فأما إذا لم يستعمل الفكر ولم يتمحل المقدمات ولم يتكلف القياس فليس يحس بأنه يقيس.فالمقاييس المألوفة التي مقدماتها ظاهرة وليس تحتاج إلى تكلف قياس هي في طبيعة الإنسان، فليس يحس الإنسان في حال ما يدركه من نتائجها أن إدراك تلك المعاني بقياس. والذي يدل دليلاً ظاهراً على أن الإنسان مطبوع على القياس وانه يقيس ولا يحس في الحال أنه يقيس، ويدرك كثيراً من الأشياء بالقياس ولا يحس في الحال أن إدراكه لها بالقياس، هو ما يظهر في الأطفال في أول نشأتهم: فإن الطفل في أول نشوه وعند أول تنبهه قد يدرك أشياء كثيرة مما يدركها الكامل التمييز ويفعل كثيراً من الأفعال بالتمييز ومن قياس الأشياء بعضها ببعض. فمن ذلك أن الطفل الذي ليس في غاية الطفولية ولا كامل التمييز إذا عرض عليه شيئان من جنس واحد، كتحفتين أو ثوبين أو شيئين من الأشياء التي ترغب فيها الأطفال، وخير بين ذينك الشيئين، وكان أحد ذينك الشيئين حسن الصورة وكان الآخر قبيح الصورة، فإنه يختار الحسن وينفي القبيح إذا كان منتبهاً ولم يكن في غاية الطفولية. وإذا خير أيضاً بين شيئين من جنس واحد، وكانا جميعاً حسنين، وكان أحدهما أحسن من الآخر، فربما اختار الأحسن، وإذا كان الآخر حسناً، إذا كان منتبهاً. وليس اختيار الطفل للشيء الحسن على القبيح إلا بقياس أحدهما بالآخر. وإدراكه حسن الحسن وقبح القبيح وإيثاره الحسن على القبيح، وكذلك إذا اختار الأحسن على ما هو دونه في الحسن، فليس يختاره إلا بعد أن يقيس أحدهما بالآخر ويدرك صورة كل واحد منهما ويدرك زيادة حسن الحسن على ما هو دونه في الحسن ويؤثر الزائد الحسن.وليس إيثاره الأحسن إلا بالمقدمة الكلية، وهي أن الأحسن أخير والأخير أولى أن يختار. فهو يستعمل هذه المقدمة ولا يحس أنه قد استعملها.

فإذا تؤملت أفعال الأطفال وجد فيها كثير من المعاني التي لا تتم إلا بتمييز وقياس ما. وإذا كان ذلك كذلك فالطفل إذن يقيس ويميز. ولا خلاف ولا شبهة في آن الطفل لا يعرف معنى القياس ولا يعلم ما هو القياس، ولا يحس في حال ما يقيس انه يقيس، ولو أفهم أيضاً معنى القياس لم يفهمه. فإذا كان الطفل يقيس وهو لا يعلم ما القياس فالنفس الإنسانية إذن مطبوعة على القياس، وهي تقيس أبداً وتدرك جميع ما يدرك بالقياس من المعاني المحسوسة ومن المعاني الظاهرة في أكثر الأحوال بغير تكلف ولا تعمّل، ولا يحس الإنسان في الحال عند إدراك ما هذه صفته أن إدراكه إنما هو بقياس. إلا أن المعاني التي تدرك بالقياس على هذه الصفة إنما هي المعاني الظاهرة التي مقدماتها في غاية الظهور وتدرك باليسير من القياس وفي أقل القليل من الزمان. فإما المعاني التي مقدماتها ليست بكل الظاهرة ومقاييسها تحتاج إلى فضل تكلف، فإن الإنسان إذا أدركها ربما أحس في الحال إن إدراكها إنما هو بالقياس إذا كان صحيح التمييز وكان يعرف معنى القياس.
فقد تبين من جميع ما شرحناه أن المعاني التي تدرك بحاسة البصر منها ما يدرك بمجرد الإحساس ومنها ما يدرك بالمعرفة ومنها ما يدرك بتمييز وقياس يزيد على المعرفة، وان الذي يدرك بتمييز وقياس يزيد على المعرفة إذا تكرر إدراك البصر له واستقر فهمه في النفس صار إدراكه من بعد ذلك بالمعرفة، وان كيفية إدراك المعاني الجزئية المدركة بحاسة البصر ليس تظهر في اكثر الأحوال لسرعة ما تدرك بالمعرفة ولسرعة القياس الذي تدرك به المعاني المبصرة في أكثر الأحوال، ولأن القوة المميزة مطبوعة على هذه المقاييس وليس استعمالها لها بالفكر والتكلف بل بالطبع والعادة.
وأيضاً فإن الإنسان منذ طفوليته ومنذ مبدأ منشئه وعلى مرور الزمان يدرك المبصرات ويتكرر عليه إدراك المبصرات، فليس شيء من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر إلا وقد تكرر إدراك البصر لها. فقد صارت جميع المعاني الجزئية التي تدرك بالقياس مفهومة عند القوة المميزة ومستقرة في النفس، فقد صارت القوة المميزة تدرك جميع المعاني الجزئية التي تتكرر في المبصرات بالمعرفة وبالعادة وليس تحتاج إلى استئناف قياس في إدراك شيء من المعاني الجزئية التي تتكرر في المبصرات.
وأيضاً فإن المعاني التي تتكرر في المبصرات وتدرك بالتمييز والقياس تستقر معانيها في النفس من حيث لا يحس الإنسان باستقرارها ولا يكون لاستقرارها ابتداء محسوس، لن الإنسان منذ طفوليته فيه بعض التمييز، وخاصة التمييز الذي تدرك به المعاني المحسوسة، فهو يدرك المعاني المحسوسة بالتمييز والقياس، ويكتسب معرفة المعاني المحسوسة، وتتكرر عليه المعاني المحسوسة على استمرار الزمان فتستقر معانيها في نفسه من حيث لا يحس باستقرارها، فيصير المعنى الجزئي الذي أدركه بالتمييز والقياس ثم استقر في نفسه بكثرة تكرره في المبصرات إذا ورد عليه أدركه في حال وروده بالمعرفة، ومع ذلك لا يحس بكيفية إدراكه، ولا يحس أيضاً بكيفية معرفته ولا كيف استقرت معرفة ذلك المعنى في نفسه. فجميع المعاني الجزئية التي تدرك بقياس وتمييز وتتكرر في المبصرات قد أدركها الإنسان على مر الزمان وحصلت معانيها مستقرة في النفس وصار لكل معنى من المعاني الجزئية صورة كلية مستقرة في النفس، فهو يدرك هذه المعاني من المبصرات بالمعرفة وبالعادة ومن غير استئناف للتمييز والقياس الذي أدرك حقيقة ذلك المعنى، ومن غير إدراك لكيفية إدراكه في حال إدراكه، ومن غير إدراك لكيفية معرفته في حال معرفته، وليس يبقى شيء يحتاج إلى استئناف قياس وتمييز يزيد على المعرفة إلا المعاني الجزئية التي في الأشخاص الجزئية، كشكل في مبصر معين أو وضع مبصر معين أو عظم مبصر معين، أو قياس لون في مبصر معين بلون في مبصر معين، أو قياس صورة معينة إلى صورة معينة، وما جرى مجرى ذلك في الأشخاص الجزئية.وعلى هذه الصفات يكون إدراك جميع المعاني الجزئية التي تكون في المبصرات.
وإذ قد تبين جميع ذلك فإنا نشرع الآن في تبيين كيفيات إدراك كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر وكيفيات المقاييس التي بها تكتسب القوة المميزة المعاني المدركة بحاسة البصر.

والمعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر كثيرة، إلا أنها تنقسم بالجملة إلى اثنين وعشرين قسما، وهي: الضوء واللون والبعد والوضع والتجسم والشكل والعظم والتفرق والاتصال والعدد والحركة والسكون والخشونة والملامسة والشفيف والكثافة والظل والظلمة والحسن والقبح والتشابه والاختلاف في جميع المعني الجزئية على انفرادها وفي جميع الصور المركبة من المعاني الجزئية. فهذه هي جميع المعاني التي تدرك بحاسة البصر، وإن كان في المعاني المبصرة شيء غير هذه المعاني فهو يدخل تحت بعض هذه، كالترتيب الذي يدخل تحت الوضع، وكالكتابة والنقوش التي تدخل تحت الشكل والترتيب، وكالاستقامة والانحناء والتحدب والتقعير التي هي من التشكل فهي تدخل تحت الشكل، وكالكثرة والقلة اللتين تدخلان تحت العدد، وكالتساوي والتفاضل اللذين يدخلان تحت التشابه والاختلاف، وكالضحك والبشر والطلاقة والعبوس والتقطيب اللواتي تدرك بحاسة البصر من تشكل صورة الوجه فهي تدخل من تحت الشكل: وكالبكاء فإنه يدرك من تحت تشكل الوجه مع حركة الدموع فهو يدخل تحت الشكل والحركة، وكالرطوبة واليبس اللذين يدخلان تحت الحركة والسكون، لأن الرطوبة وحركة بعضه قبل بعض، واليبس يدرك بالبصر ولكن ليس يدرك اليبس بالبصر إلا من تماسك الجسم اليابس وعدم حركة السيلان فيه، وكذلك كل معنى من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر إذا ميزت كيفية إدراك البصر لها ظهر أنه يدخل تحت بعض الأقسام التي ذكرناها والمعاني التي فصلناها.
وجميع المعاني المبصرة إنما تدرك من الصور التي تحصل في البصر من صور ألوان المبصرات وأضوائها. وقد تبين أن صورة الضوء واللون اللذين في سطح المبصر تحصل في سطح الرطوبة الجليدية وتحصل مرتبة في هذا السطح كترتيبها في سطح المبصر، وان الصور تمتد من هذا السطح وتنفذ في جسم الجليدية وتنفذ في الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة المشتركة، وتكون في حال امتدادها مرتبة كترتيبها في سطح الجليدية، وتصل إلى تجويف العصبة المشتركة وهي على هيئتها وترتيبها الذي هي عليه في سطح الجليدية والذي هي عليه في سطح المبصر، وأن الحاس الأخير إنما يدرك صورة المبصرات من الصور التي تحصل في تجويف العصبة المشتركة. وقد تبين أن الإحساس ليس يتم إلا بإدراك الحاس الأخير لصور المبصرات. وإذا كان جميع ذلك كذلك فالتمييز والقياس يكون من القوة المميزة للمعاني التي تكون في صور المبصرات، ومعرفة الصور ومعرفة الأمارات التي في الصور، وجميع ما يدرك بالتمييز والقياس والمعرفة، إنما تكون من تمييز القوة المميزة للصور التي تحصل في تجويف العصبة المشتركة عند إدراك الحاس الأخير لها ومن معرفة الأمارات التي في هذه الصور والتي تدرك بهذه الصفة.
وأيضاً فإن الجسم الحاس الممتد من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة، الذي هو الروح الباصرة، جميعه حساس، فالقوة الحساسة هي في جميع هذا الجسم. فإذا امتدت الصورة من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة، فإن كل جزء من الجسم الحاس يحس بالصورة.فإذا حصلت الصورة في تجويف العصبة المشتركة أدركها الحاس الأخير، وعند ذلك يقع التمييز والقياس. فالقوة الحساسة تحس بصورة المبصر من جميع الجسم الحاس الممتد من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة، والقوة المميزة تميز المعاني التي في الصورة عند إدراك الحاس الأخير للصورة. فعلى هذه الصفة يكون إدراك القوة الحساسة والحاس الأخير والقوة المميزة لصور المبصرات. ويتبين من هذه الحال أن القوة الحساسة تحس بالموضع من العضو الحاس الذي تحصل فيه الصورة لأنها تحس بالصورة من الموضع الذي تحصل فيه الصورة.

وأيضاً فإنه قد تبين في الفصل الذي قبل هذا الفصل آن كل نقطة من سطح الجليدية تمتد الصورة منها على سمت واحد بعينه متصل على ما فيه من الانعطاف والانحناء إلى أن يصل إلى نقطة بعينها من الموضع الذي تحصل فيه الصورة من تجويف العصبة المشتركة. وإذا كانت كل نقطة من سطح الجليدية تمتد الصورة منها إلى نقطة بعينها من تجويف العصبة المشتركة، فالصورة التي تحصل في جزء من سطح الجليدية تمتد من ذلك الجزء إلى جزء بعينه من تجويف العصبة المشتركة، والمبصرات المختلفة التي يدركها البصر معاً في وقت واحد تمتد صورة كل واحد منها إلى موضع بعينه من تجويف العصبة المشتركة، وتحصل صور جميع تلك المبصرات في تجويف العصبة المشتركة معاً، ويكون ترتيب صورها في تجويف العصبة المشتركة بعضها عند بعض كترتيب المبصرات أنفسها التي يدركها البصر معاً بعضها عند بعض. فإذا قابل البصر مبصراً من المبصرات فإن صور الضوء واللون اللذين في ذلك المبصر تحصل في سطح البصر، وتحصل في سطح الجليدية، وتمتد على السموت المخصوصة التي قدمنا تحديدها وهي على هيئتها وترتيبها، إلى أن تصل إلى تجويف العصبة المشتركة. وتدركها القوة الحساسة ند حصولها في جسم الجليدية وعند حصولها في جميع الجسم الحاس. ثم عند وصولها في تجويف العصبة المشتركة يدركها الحاس الأخير وتميز القوة المميزة جميع المعاني التي تكون فيها. وصورة المبصر المتلون التي تحصل في تجويف العصبة هي لون المبصر والضوء الذي في المبصر مرتبة كترتيب سطح المبصر. وصورة اللون وصورة الضوء إنما تصل إلى تجويف العصبة لأن الجسم الحاس الممتد في تجويف العصبة يتلون بصورة اللون ويضيء بصورة الضوء . وتنتهي الصورة إلى تجويف العصبة المشتركة فيحصل الجزء من الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة المشتركة الذي انتهت إليه صورة المبصر متلوناً بلون ذلك المبصر مضيئاً بالضوء الذي في ذلك المبصر. ذا لون واحد كان ذلك الجزء من الجسم الحاس ذا لون واحد، وإن كانت أجزاء المبصر مختلفة الألوان كانت أجزاء ذلك الجزء من الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة المشتركة مختلفة الألوان. والحاس الأخير يدرك لون المبصر المتلون من التلون الذي يجده في ذلك الجزء، ويدرك الضوء الذي في المبصر من الإضاءة التي يجدها في ذلك الجزء. والقوة المميزة تدرك المعاني الجزئية التي في المبصر من تمييزها للمعاني التي في تلك الصورة التي هي ترتيب أجزاء الصورة وتشكل محيط الصورة وتشكل أجزاءها واختلاف الألوان والأوضاع والترتيبات التي في أجزاء تلك الصورة وتشابهها واختلافها وما جرى مجرى هذه المعاني من المعاني التي تكون في المبصرات.

وأيضاً فإن الضوء الذي يرد من المبصر المتلون إلى البصر ليس يرد منفرداً من اللون، وصورة اللون التي ترد من المبصر المتلون إلى البصر ليس ترد من الضوء. وليس ترد صورة الضوء وصورة اللون اللذين في المبصر المتلون إلا ممتزجتين، وليس يدركهما الحاس الأخير إلا ممتزجتين. ومع ذلك فإن الحاس يدرك أن المبصر مضيء وأن الضوء الذي يظهر في المبصر هو غير اللون وأنهما معنيان. وهذا الإدراك هو تمييز، والتمييز هو للقوة المميزة لا للقوة الحساسة، إلا أن هذا المعنى مع إدراك القوة المميزة له قد استقر في النفس وليس يحتاج إلى استئناف تمييز وقياس عند ورود كل صورة، بل كل صورة ممتزجة من الضوء واللون فهو مستقر في النفس أن الضوء الذي فيها هو غير اللون الذي فيها. وإدراك القوة المميزة لأن الضوء العرضي الذي في المبصر المتلون غير اللون الذي فيه من أن المبصر الواحد بعينه قد تختلف عليه الأضواء ويزيد الضوء الذي فيه وينقص ولونه مع لون واحد، وإن كان يختلف إشراق اللون باختلاف الأضواء عليه فجنس اللون ليس يختلف. وأيضاً فإن الضوء العرضي الذي يحصل في المبصر ربما وصل إليه من منفذ أو من باب وإذا سد ذلك المنفذ أو أغلق ذلك الباب أظلم ذلك المبصر ولم يبق فيه شيء من الضوء. فمن إدراك القوة المميزة لاختلاف الأضواء على المبصرات ومن إدراكها لإضاءة المبصر في الأوقات وعدم الضوء منه في بعض الأوقات أدركت أن الألوان التي في المبصرات غير الأضواء التي تعرض فيها. ثم من تكرر هذا المعنى من المبصرات استقر في النفس استقراراً كلياً أن الألوان التي في المبصرات المتلونة غير الأضواء التي فيها. فالصورة التي يدركها الحاس من المبصر المتلون هي صورة ممتزجة من صورة الضوء وصورة اللون اللذين في المبصر، فهو ضوء متلون، والقوة الميزة تدرك أن اللون الذي فيها هو غير الضوء الذي فيها، وهذا الإدراك هو إدراك بالمعرفة في حال ورود الصورة على الحاس لأنه قد استقر في النفس أن كل صورة ممتزجة من الضوء واللون فإن الضوء الذي فيها هو غير اللون الذي فيها.
وأول ما تدركه القوة المميزة من الصورة المتلونة من المعاني التي تخص الصورة هو مائية اللون. ومائية اللون إنما تدركها القوة المميزة بالمعرفة إذا كان اللون الذي في المبصر من الألوان المألوفة. فإدراك القوة المميزة لمائية اللون بالمعرفة إنما هو من قياسها صورة اللون بالصور التي أدركتها من قبل من اللون الأحمر وأدرك أنه أحمر فإنه إنما يدرك أنه أحمر لأنه يعرفه، ومعرفته به إنما هي من تشبيهه صورته بما قد أدركه من قبل من أمثاله. ولو لم يكن البصر أدرك اللون الأحمر قبل إدراكه اللون الأحمر الأخير لما علم عند إدراك اللون الأحمر الأخير انه أحمر. فإذا كان اللون من الألوان المألوفة فإن البصر يدرك مائيته بالمعرفة، وإذا كان اللون من الألوان الغريبة ولم يكن البصر أدرك مثله من قبل فليس يدرك البصر مائيته. وإذا لم يدرك مائيته ولم يعرفه، فإنه يشبهه بأقرب الألوان التي يعرفها شبهاً به. فأصل إدراك اللون يكون بمجرد الحس، ثم إذا تكرر اللون على البصر صار إدراك البصر له أي لون هو بالمعرفة.
ومائية الضوء أيضاً إنما يدركها البصر بالمعرفة. فإن البصر يعرف ضوء الشمس ويفرق بينه وبين ضوء القمر وبين ضوء النار. وكذلك يعرف ضوء القمر ويعرف ضوء النار. فإدراك البصر لمائية كل واحد من هذه الأضواء إنما هو بالمعرفة.
وكيفية الضوء في القوة والضعف يدركها البصر بالتمييز والقياس ومن قياس صورة الضوء الذي يدركه في الحال بما تقدم من إدراكه له من صور الأضواء.

فالذي يدركه البصر بمجرد الحس هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون. ثم جميع ما يدرك بحاسة البصر من بعد الضوء واللون ليس يدرك بمجرد الحس بل يدرك بالتمييز والقياس والمعرفة مع الحس، لن جميع ما يدرك بالتمييز والقياس من المعاني المبصرة إنما يدرك من تمييز المعاني التي في الصورة المحسوسة. وكذلك ما يدرك بالمعرفة ليس يدرك إلا من إدراك الأمارات التي في الصورة المحسوسة. فالمعاني التي تدرك بالتمييز والقياس والمعرفة من المعاني المبصرة إنما تدرك مع الإحساس بالصورة. والضوء الذي في الجسم المضيء من ذاته يدركه البصر على ما هو عليه وعلى انفراده من نفس الإحساس، والضوء واللون اللذان في الجسم المتلون المضيء بضوء عرضي يدركهما البصر معاً وممتزجتين ويدركهما بمجرد الإحساس. فالضوء الذاتي يدركه الحاس من إضاءة الجسم الحاس، واللون يدركه الحاس من تغير صورة الجسم الحاس وتلونه مع إدراكه لإضاءة الجسم الحاس بالضوء العرضي الممازج لذلك اللون . فالحاس يدرك من الجسم الحاس عند حصول صورة اللون فيه ضوءاً متلوناً، ويدركه عند حصول صورة الضوء الذاتي فيه ضوءاً مجرداً. وهذان المعنيان فقط هما اللذان يدركهما البصر بمجرد الإحساس.
وأيضاً فإننا نقول إن إدراك اللون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون، أعني أن البصر يدرك اللون ويحس أنه لون ويعلم الناظر إليه أنه لون قبل أن يحس أي لون هو. وذلك انه في حال حصول الصورة في البصر قد تلون البصر ، فإذا تلون البصر أحس أنه متلون، وإذا أحس بأنه متلون فقد أحس باللون. ثم من تمييز اللون وقياسه بالألوان التي قد عرفها البصر يدرك مائية اللون، فيكون إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائية اللون، ويكون إدراك مائية اللون بالمعرفة. والذي يدل على أن ابصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو، هو المبصرات التي ألوانها قوية كالكحلي والخمري والمسني وما أشبه ذلك إذ كانت في موضع مغدر ولم يكن الموضع شديد الغدرة. فإن البصر إذا أدرك اللون من هذه الألوان في الموضع المغدر فإنما يدركه لوناً مظلماً فقط ويحس أنه لون ولا يتميز له أي لون هو في أول إدراكه. فإذا كان الموضع ليس بشديد الغدرة فإن البصر إذا تأمل ذلك اللون فضل تأمل أدرك أي لون هو. وإن قوي الضوء في ذلك الموضع تميز للبصر أي لون هو ذلك اللون. فيتبين من هذا الاعتبار أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو.
والذي يدركه البصر من اللون في أول حصوله في البصر هو التلون. والتلون هو ظلمة ما، أو كالظل إذا كان اللون رقيقاً. فإن كان المبصر ذا ألوان مختلفة فإن أول ما يدرك البصر من صورته هو ظلمة أجزاؤها مختلفة الكيفية في القوة والضعف، وكالأظلال المختلفة في القوة والضعف. فأول ما يدركه البصر من صورة اللون هو تغير العضو الحاس وتلونه الذي هو ظلمة أو ما يجري مجرى الظلمة. ثم يميز الحاس ذلك التلون، فإذا كان المبصر مضيئاً تميز للبصر ذلك اللون وأدرك أمثالها دائماً فإنه يدرك مائيته في أقل القليل من الزمان وفي الآن الثاني الذي ليس بينه وبين الآن الأول الذي أدرك فيه اللون بما هو لون زمان محسوس. وإن كان من الألوان المشتبهة التي لم يدرك البصر أمثالها من قبل إلا يسيراً، أو كان في موضع مغدر ضعيف الضوء، فليس يدرك البصر مائيته إلا في زمان محسوس. وإن كان المبصر مظلماً وليس فيه إلا ضوء يسير، كالذي يدرك في الليل وفي الغلس وفي المواضع المغدرة الشديدة الغدرة، فإن الحاس إذا ميز اللون الذي يدركه في هذه المواضع لم يتميز له ولم يحصل له منه إلا ظلمة فقط. فيتبين من إدراك الألوان في المواضع المغدرة أن إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائيته، ويخفى أن إدراك مائية اللون يكون بعد التمييز ومن بعد إدراك الألوان المشرقة المألوفة في المواضع المضيئة.
ومما يدل أيضاً على أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو الألوان الغريبة. فأن البصر إذا أدرك لوناً غريباً لم ير مثله من قبل، فإنه يدرك انه لون ومع ذلك لا يعلم أي لون هو، وإذا تأمله فضل تأمل شبهه بأقرب الألوان التي يعرفها شبهاً به.

فمن الاعتبار بأمثال المبصرات التي وصفناها يتبين بياناً واضحاً أن إدراك البصر للون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون، ويتبين أيضاً من هذه الاعتبارات أن إدراك مائية اللون إنما يكون بالتمييز وتشبيه اللون بما قد عرفه البصر من الألوان. وإذا كان ذلك كذلك فمائية اللون ليس تدرك إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. وكذلك الضوء ليس تدرك مائيته وليس تدرك كيفيته في القوة والضعف إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. فالذي يدركه البصر بمجرد الحس إنما هو اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء فقط، وما سوى ذلك ليس يدرك بمجرد الحسن وليس يدرك ما سوى هذين المعنيين إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. والضوء واللون المضيء هو أول ما يدركه البصر من الصورة، ثم ما سوى ذلك يدرك من بعد إدراك اللون المضيء أو الضوء المجرد.
وأيضاً فإننا نقول إن إدراك مائية اللون ليست تكون إلا في زمان. وذلك أن إدراك مائية اللون ليس تكون إلا بالتمييز والتشبيه، والتمييز ليس يكون إلا في زمان، فإدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان. والذي يدل دليلاً ظاهراً يشهد به الحس على أن إدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان ما يظهر في الدوامة عند حركتها. فإن الدوامة إذا كان فيها أصباغ مختلفة، وكانت تلك الأصباغ خطوطاً ممتدة من وسط سطحها الظاهر وما يلي عنقها إلى نهاية محيطها، ثم أديرت الدوامة بحركة شديدة فإنها تتحرك على الاستدارة حركة في غاية السرعة.
وفي حال حركتها إذا تأملها الناظر فإنه يدرك لوناً واحداً مخالفاً لجميع الألوان التي فيها كأنه مركب من جميع ألوان تلك الخطوط، ولا يدرك تخطيطها ولا اختلاف ألوانها، ويدرك مع ذلك كأنها ساكنة إذا كانت حركتها شديدة السرعة. وإذا كانت الدوامة تتحرك حركة سريعة فإن كل نقطة منها ليس تثبت في موضع واحد زماناً محسوساً وهي تقطع في أقل القليل من الزمان جميع الدائرة التي تدور عليها، فتحصل صورة النقطة في البصر على محيط دائرة في البصر في أقل القليل من الزمان. فالبصر إنما يدرك لون تلك النقطة في أقل القليل من الزمان من جميع محيط الدائرة التي تحصل في البصر، فيدرك لون تلك النقطة في أقل القليل من الزمان مستديراً. وكذلك جميع النقط التي في سطح الدوامة يدرك البصر لون كل واحد منها على جميع محيط الدائرة التي تتحرك عليها تلك النقطة في أقل القليل من الزمان. وجميع النقط التي أبعادها من المركز متساوية تتحرك عند استدارة الدوامة على محيط دائرة واحدة. فيعرض من ذلك أن يظهر لون كل نقطة من النقط التي أبعادها من المركز متساوية على محيط دائرة واحدة بعينها في أقل القليل من الزمان الذي هو زمان الدورة وهو زمان واحد بعينه، فتظهر ألوان جميع تلك النقط في جميع محيط تلك الدائرة ممتزجة ولا تتميز للبصر، وكذلك يدرك لون سطح الدوامة لوناً واحداً ممتزجاً من جميع الألوان التي في سطحها.
فلو كان البصر يدرك مائية اللون في آن واحد في كل آن من الآنات التي في الزمان الذي تتحرك فيه الدوامة لأدرك مائيات جميع الألوان التي في الدوامة متميزة في حال حركتها. لأنه إذا كان لا يحتاج في إدراك مائيتها إلى زمان فإنه يدرك مائياتها وهي متحركة في جزء من زمان الدورة كما يدرك مائياتها وهي ساكنة، لأن مائيات جميع ألوان المبصرات المألوفة في حال سكونها وفي حال حركتها هي واحدة لا تتغير. ففي كل آن من الآنات التي يتحرك فيها المبصر يكون لونه واحداً لا يتغير، وتكون مائيات ألوان المبصرات في الآن الواحد وفي الزمان الممتد واحدة لا تتغير، وإذا لم يكن الزمان متفاوت الطول. فإذا كان البصر ليس يدرك الألوان التي تكون في سطح الدوامة إذا كانت الدوامة متحركة حركة سريعة، وهو يدركها إذا كانت الدوامة ساكنة وإذا كانت متحركة حركة بطيئة، فالبصر إذن ليس يدرك مائية اللون غلا إذا كان اللون ثابتاً في موضع واحد زماناً محسوساً، أو كان متحركاً في زمان محسوس مسافةً لا يؤثر مقدارها في وضع ذلك اللون من البصر تأثيراً متفاوتاً.

فيتبين من هذه الحال أن إدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان، ويتبين من هذه الحال أن إدراك مائيات جميع المبصرات ليس يكون إلا في زمان، لأنه إذا كان اللون الذي يدرك بمجرد الحس ليس يدرك البصر مائيته إلا في زمان فما سوى ذلك من صور المبصرات ومن المعاني المبصرة التي تدرك بالتمييز والقياس أشد حاجة إلى الزمان، فإدراك مائيات المبصرات والإدراك بالمعرفة والإدراك بالتمييز والقياس ليس يكون إلا في زمان، إلا أنه قد يكون ذلك في أكثر الأحوال في زمان يسير المقدار وفي زمان لا يظهر للناظر ظهوراً بيناً.

وأيضاً فإنا نقول إن اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء ليس يدركه البصر إلا في زمان، اعني أن الآن الذي عنده يقع إدراك اللون بما هو لون أو إدراك الضوء بما هو ضوء هو غير الآن الذي هو أول آن ماس فيه سطح البصر الهواء الحامل للصورة. وذلك أن اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء ليس يدركهما الحاس إلا بعد حصول الصورة في الجسم الحاس، وليس يدركهما الحاس الأخير غلا بعد وصول الصورة إلى تجويف العصبة المشتركة. ووصول الصورة إلى العصبة المشتركة إنما هو كوصول الضوء من المنافذ والثقوب التي يدخل منها الضوء إلى الأجسام المقابلة لتلك المنافذ وتلك الثقوب إذا كان الثقب مستتراً ثم رفع الساتر. ووصل الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يكون إلا في زمان وإن كان خفياً عن الحس. لأن وصول الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الضوء يحصل في الجزء من الهواء الذي يلي الثقب قبل أن يحصل في الجزء الذي يليه ثم في الجزء الذي يليه ثم في الجزء الذي يلي ذلك الجزء من الهواء إلى أن يصل إلى الجسم المقابل للثقب وعلى الجسم نفسه المقابل للثقب دفعة واحدة، ويكون جميع الهواء يقبل الضوء دفعة لا جزءاً منه بعد جزء. فإن كان الهواء يقبل الضوء جزءاً بعد جزء فالضوء إنما يصل إلى الجسم المقابل للثقب بحركة، والحركة ليس تكون إلا في زمان. وإن كان الهواء يقبل الضوء دفعة واحدة، فإن حصول الضوء في الهواء بعد أن لم يكن فيه ضوء ليس يكون أيضاً إلا في زمان وإن خفي عن الحس. وذلك الثقب الذي يدخل منه الضوء إذا كان مستتراً، ثم رفع الساتر الذي في وجهه، فإن الآن الذي يزول فيه الساتر عن أول جزء من الثقب ويصير فيه الهواء الذي في الثقب منكشفاً لجزء من الضوء هو غير الآن الذي يحصل عنده الضوء في الهواء المماس لذلك الجزء من داخل الثقب وفي الهواء المتصل بذلك الهواء من داخل الثقب على تصاريف الأحوال. لأنه ليس يحصل الضوء في شيء من الهواء الذي في داخل الثقب المستتر عن الضوء إلا بعد أن ينكشف شيء من الثقب للضوء، وليس ينكشف شيء من الثقب في اقل من آن واحد ، والآن ليس ينقسم، فليس يحصل شيء من الضوء في ذلك الثقب في الآن الذي انكشف فيه ما انكشف من الثقب، لأن الذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد ليس ينكشف جزءاً بعد جزء، وليس يكون الذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد جزءاً له قدر، وإنما ينكشف منه في الآن الواحد نقطة لا مساحة لها أو خط لا عرض له، لأن ما له عرض وطول ليس ينكشف عنه الساتر إلا جزءاً بعد جزء وليس يكون انكشاف ما له عرض من الثقب إلا بالحركة، والحركة ليس تكون إلا في زمان، فالذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد الذي لا ينقسم هو شيء لا عرض له، فليس ينكشف ذلك الشيء جزءاً بعد جزء. وإذا كان ذلك كذلك فإن الذي ينكشف من الثقب في الآن الذي لا ينقسم هو نقطة لا مساحة لها. والخط الذي لا عرض له ليس هو جزءاً من الهواء، لأن أصغر الصغير من أجزاء الهواء ليس يكون إلا جسماً. فالنقطة التي لا مساحة لها أو الخط الذي لا عرض له هو أول شيء ينكشف من الثقب الذي ينكشف في الآن الذي لا ينقسم إنما هو نهاية جزء من أجزاء الهواء الذي في داخل الثقب لا جزء من الهواء. والنقطة التي لا مساحة لها لا تقبل الضوء، وكذلك الخط الذي لا عرض له، وليس يقبل الضوء إلا الأجسام. فإذا كانت النقطة التي لا مساحة لها والخط الذي لا عرض له لا يقبلان الضوء، فليس يحصل شيء من الضوء في الهواء الذي في داخل الثقب في الآن الذي ينكشف فيه أول شيء ينكشف من الثقب. فلآن إذن الذي هو أول آن تحصل عند الصورة في الهواء الذي في داخل الثقب أو في جزء منه غير الآن الذي انكشف فيه أول شيء انكشف من الثقب. وكل أنين فبينهما زمان، فليس يصير الضوء من الهواء الذي في خارج الثقب إلى الهواء الذي في داخل الثقب إلا في زمان، إلا أن هذا الزمان خفي عن الحس جداً لسرعة قبول الهواء لصور الأضواء.

وكذلك إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له، وماساً الهواء الحامل لصورة المبصر سطح البصر بعد أن لم يكن شيء من ذلك الهواء مماساً له، فإن الصورة ليس تصير من الهواء الحامل للصورة إلى داخل تجويف العصبة المشتركة إلا في زمان، إلا أن هذا الزمان ليس للحس طريق إلى إدراكه ولا اعتباره لصغره وغلظ الحس وقصور قوته عن إدراك ما هو في غاية الصغر. فهذا الزمان بالقياس إلى الحس بمنزلة الآن بالقياس إلى التمييز.
وأيضاً فإن العضو الحاس ليس يحس بالصور التي ترد إليه من المبصرات إلا بعد أن ينفعل بالصور، فليس يحس باللون بما هو لون وبالضوء بما هو ضوء إلا بعد أن ينفعل بصورة اللون وبصورة الضوء. وانفعال العضو الحاس بصورة اللون وبصورة الضوء هو تغير ما، وليس يكون التغير إلا في زمان، فليس يدرك البصر اللون بما هو لون ولا الضوء بما هو ضوء إلا في زمان ، وفي الزمان الذي تمتد فيه الصور من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة وفي ما يليه يكون إدراك القوة الحساسة التي في جميع الجسم الحاس للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء، لأن القوة الباصرة إنما هي في هذه المسافة وهي في جميع هذه المسافة. وعند حصول الصورة في تجويف العصبة المشتركة يكون إدراك الحاس الأخير للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء. فإدراك الحاس الأخير للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء يكون في الزمان الذي يلي الزمان الذي فيه تصل الصورة من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة.
وأيضاً فإن الآن الذي هو أول آن تحصل عنده الصورة في سطح البصر هو غير الآن الذي هو أول آن يماس فيه الهواء الحامل للصورة أول نقطة يماسها من سطح البصر، إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أو بعد فتح البصر أجفانه وهو مقابل للبصر بعد أن كانت أجفانه مطبقة. لأن البصر إذا قابل المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له، أو فتح أجفانه بعد أن كانت مطبقة، فإن أول ما يماس سطح البصر من الهواء الحامل لصورة ذلك المبصر هو نقطة واحدة أو خط لا عرض له، ثم جزءاً من بعد جزء إلى أن يصير الهواء الحامل للصورة مماساً لجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه الصورة. وفي حالة مماسة النقطة التي لا قدر لها أو الخط الذي لا عرض له من سطح البصر للنقطة التي لا قدر لها أو الخط الذي لا عرض له من سطح الهواء الحامل للصورة ليس يحصل شيء من صورة الضوء واللون في سطح البصر. لأن أقل القليل من السطح الذي يحصل فيه ضوء أو صورة لون ليس يكون إلا سطحاً. فالآن الذي يماس فيه نقطة من سطح البصر أول نقطة يماسها من الهواء الحامل للصورة ليس يحصل فيه شيء من الصورة في سطح البصر. والآن إذن الذي هو أول آن تحصل عنده الصورة في سطح البصر هو غير الآن الذي هو أول آن ماس عنده الهواء الحامل للصورة سطح البصر إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أو فتح أجفانه بعد أن كانت أجفانه مغلقة.
وإذا كان ذلك كذلك فليس تحصل صورة اللون ولا الضوء في شيء من العضو الحاس ولا في سطح البصر إلا في زمان، وليس يدرك الحاس شيء من اللون ولا الضوء ما لم تحصل صورة اللون والضوء في شيء من العضو الحاس، فليس يدرك الحاس اللون بما هو لون ولا الضوء بما هو ضوء إلا في زمان، أعني أن الآن الذي يقع عنده الإحساس باللون بما هو لون وبالضوء بما هو ضوء هو غير الآن الذي هو أول آن ماس عنده الهواء الحامل لصورة سطح البصر.
فقد تبين من جميع ما ذكرنا كيف يدرك البصر الضوء بما هو ضوء، وكيف يدرك اللون بما هو لون، وكيف يدرك مائية اللون، وكيف يدرك مائية الضوء، وكيف يدرك كيفية الضوء.

إدراك البعد
فأما البعد، فهو بعد المبصر عن البصر فإن البصر ليس يدركه بمجرد الإحساس. وليس إدراك بعد المبصر هو إدراك موضع المبصر، ولا إدراك المبصر في موضعه من إدراك بعده فقط، ولا إدراك موضع المبصر من إدراك بعده فقط. وذلك أن موضع البصر يتقوم من ثلاث معان: من البعد ومن الجهة ومن كمية البعد.

وكمية البعد غير معنى البعد بما هو بعد، لأن معنى البعد بين الجسمين هو عدم التماس، وعدم التماس هو حصول مسافة ما بين الجسمين المتباعد أحدهما عن الآخر. وكمية البعد هو كمية تلك المسافة. فمعنى البعد بما هو بعد هو من قبيل الوضع، فهو غير كمية البعد. فإدراك معنى البعد الذي هو عدم التماس هو غير إدراك كمية المسافة التي هي مقدار البعد، وكيفية إدراك الكل واحدة من هذين المعنيين هو غير كيفية إدراك المعنى الآخر.
إدراك الوضع وإدراك كمية البعد هو من إدراك العظم، وإدراك بعد المبصر وإدراك جهته هما جميعاً من إدراك الوضع، وكيفية إدراك كل واحد منهما هو غير كيفية إدراك الآخر. لأن عدم التماس هو غير الجهة، فليس إدراك موضع المبصر هو إدراك بعد المبصر.
وإدراك المبصر في موضعه يتقوم من إدراك خمسة معان: من إدراك الضوء الذي فيه، وإدراك لونه، وإدراك بعده، وإدراك جهته، وإدراك كمية بعده. وليس يدرك كل واحد من هذه المعاني منفرداً، ولا تدرك هذه المعاني واحداً بعد واحد، بل يدرك جميعها معاً، لأنها تدرك بالمعرفة لا باستئناف التمييز والقياس. فليس ينفرد البعد بإدراك يكون في حالة الإحساس.
ومن إدراك المبصر في موضعه اعتقد أصحاب الشعاع أن الإبصار يكون بشعاع يخرج من البصر وينتهي إلى المبصر، وأن الإبصار يكون بأطراف الشعاع. واحتج هؤلاء على أصحاب العلم الطبيعي بأن قالوا: إذا كان الإبصار بصورة ترد من المبصر إلى البصر، وكانت الصورة تحصل في داخل البصر، فلم يدرك المبصر في موضعه الذي هو خارج البصر وصورته قد حصلت في داخل البصر؟ وذهب على هؤلاء أن الإبصار ليس يتم بمجرد الإحساس فقط، وأن الإبصار ليس يتم إلا بالتمييز وبتقدم المعرفة، وأنه لولا التمييز وتقدم المعرفة لم يتم للبصر شيء من الإبصار ولا أدركت مائية المبصر في حال إبصاره. لأن ما هو المبصر ليس يدرك بمجرد الحس، وليس يدرك ما هو المبصر إلا بالمعرفة أو باستئناف التمييز والقياس في حال الإبصار. فلو كان الإبصار إنما هو بمجرد الإحساس فقط، وكان جميع ما يدرك من المعاني التي في المبصرات ليس يدرك إلا بمجرد الإحساس، لما كان يدرك المبصر في موضعه غلا بعد أن يصل إليه شيء يلامسه ويحس به. فأما إذا كان الإبصار ليس يتم بمجرد الإحساس، وليس جميع المعاني التي تدرك من المبصرات تدرك بمجرد الإحساس ، وليس يتم الإبصار إلا بالتمييز والقياس والمعرفة، وكان كثيراً من المعاني المبصرة ليس يدرك إلا بالتمييز، فليس يحتاج في إدراك المبصر في موضعه إلى حاس يمتد إليه ويلامسه.
فلنرجع الآن إلى نعت كيفية إدراك البعد، فنقول: إن بعد المبصر إنما يدرك منفرداً بالتمييز. ومع ذلك فإن هذا المعنى من المعاني التي استقرت في النفس على مر الزمان من حيث لم تحس باستقراره لاستمرار هذا المعنى وتكرره على القوة المميزة. فليس تحتاج في إدراكه إلى استئناف تمييز وقياس عند إدراك كل مبصر. ولا تبحث القوة المميزة أيضاً عند إدراك كل مبصر كيف استقر معنى البعد عندها، لأنها ليس تميز كيفية الإدراك عند إدراك كل مبصر. ولا تبحث القوة المميزة أيضاً عند إدراك كل مبصر كيف استقر معنى البعد عندها، لأنها ليس تميز كيفية الإدراك عند إدراك كل مبصر. فهي إنما تدرك البعد مع غيره من المعاني التي في المبصر، وتدرك ذلك في حال إدراك المبصر بتقدم المعرفة.

فأما كيف إدراك القوة المميزة للبعد بالتمييز، فإن البصر إذا قابل المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أدرك المبصر، وإذا أعرض البصر عن ذلك المبصر والتفت عنه بطل ذلك الإدراك. وكذلك إذا فتح البصر أجفانه بعد أن كانت مطبقة، وكان مقابلاً له مبصر من المبصرات، أدرك البصر ذلك المبصر، وإذا أطبق أجفانه من بعد إدراك ذلك المبصر بطل ذلك الإدراك. وفي فطرة العقل أن ما يحدث في البصر عند وضع من الأوضاع ويبطل في حال الالتفات ليس هو شيئاً ثابتاً في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر. وفي فطرة العقل أيضاً أن ما يحدث عند فتح الأجفان ويبطل عند انطباق الأجفان ليس هو شيئاً ثابتاً في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر. وإذا أدركت القوة المميزة أن المعنى الذي يحدث في البصر الذي منه يدرك البصر المبصر ليس هو شيئاً ثابتاً في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر، فقد أدركت أن ذلك الذي يحدث في البصر هو شيء يرد من خارج ومحدثه خارج عن البصر. وإذا كان الإبصار يبطل عند انطباق الأجفان وعند الإعراض ويحدث عند فتح الأجفان وعند المقابلة، فالقوة المميزة تدرك أن الذي يبصر ليس هو ملتصقاً بالبصر. وإذا أدركت القوة المميزة أن الذي يبصر ليس هو في داخل البصر ولا هو ملتصقاً بالبصر، فقد أدركت أنه بينه وبين البصر بعداً. لأن في فطرة العقل أو في غاية الظهور للتمييز أن ما ليس هو في الجسم ولا ملتصقاً به فإن بينه وبينه بعداً. وهذا هو كيفية إدراك حقيقة بعد المبصر بما هو بعد.
وليس تحتاج القوة المميزة في إدراك البعد إلى التفصيل الذي فصلناه، وإن ما فصلناه للتبيين . والقوة المميزة تدرك نتيجة هذا التفصيل وفي حال الإبصار من غير حاجة إلى تفصيل. فمن إدراك البصر للمبصر عند مقابلته وبطلان الإدراك عند الإعراض عنه أو عند انطباق الأجفان قد أدركت القوة المميزة في الحال أن المبصر خارج عن البصر وغير ملتصق بالبصر. وعلى هذه الصفة أدركت القوة المميزة أن بين المبصر وبين البصر بعداً. ثم لاستمرار هذا المعنى ولتكرره استقر في النفس من حيث لم يحس باستقراره ولا بكيفية استقراره أن جميع المبصرات خارجة عن البصر وأن كل مبصر فبينه وبين البصر بعد. فبعد المبصر عن البصر إنما أدرك بالتمييز وباليسير من التمييز، وهو من إدراك القوة المميزة أن الإبصار الذي يحدث في البصر هو لمعنى خارج عن البصر. ثم استقر هذا المعنى في النفس، فصار كل مبصر يدركه البصر قد فهمت القوة المميزة انه خارج عن البصر وبينه وبين البصر بعد.
ومع ذلك فليس يدرك البعد منفرداً كما ذكرنا من قبل، وليس يدرك البعد إلا مع غيره. وعند كلامنا في كيفية إدراك الوضع يتبين كيف يدرك البعد مع الوضع وكيف يدرك المبصر في موضعه.
فأما كمية البعد فيختلف إدراك البصر لها، ومنها ما يدرك بحاسة البصر لها، ومنها ما يدرك بحاسة البصر ويتحقق مقداره، ومنها ما ليس يدرك بحاسة البصر حقيقة مقداره. فبعد المبصر عن البصر يدرك من كل مبصر، ويتحقق من كل مبصر، وكمية البعد ليس يتحققها البصر من كل مبصر. وذلك أن المبصرات منها ما يكون بينه وبين البصر أجسام مرتبة متصلة، ومنها ما ليس بينه وبين البصر أجسام مرتبة متصلة فإنه إذا أدرك البصر الأجسام المرتبة التي تسامت أبعادها فهو يدرك مقادير تلك الأجسام، وإذا أدرك مقادير تلك الأجسام فهو يدرك مقادير المسافات التي بين أطرافها. والمسافة التي ين طرفي الجسم المرئي المسامت للبعد الذي بين البصر والمبصر، اللذين أحدهما يلي المبصر والآخر يلي الإنسان الناظر، وهي بعد المبصر عن البصر، لأنها تسامت المسافة بين البصر والمبصر. فإذا أدرك البصر مقدار هذه المسافة فقد أدرك مقدار بعد المبصر. فالبصر يدرك كمية أبعاد المبصرات التي أبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة من إدراكه لمقادير الأجسام المرتبة المسامتة لأبعادها.

وهذه المبصرات منها ما أبعادها معتدلة ومنها ما أبعادها خارجة عن الاعتدال. فالتي أبعادها معتدلة فالبصر يدرك مقادير أبعادها إدراكاً صحيحاً متيقناً. وذلك أن المبصرات التي أبعادها معتدلة وبينها وبين البصر أجسام مرتبة متصلة فإن البصر يدركها إدراكاً صحيحاً متيقناً. وإذا أدرك هذه المبصرات إدراكاً متيقناً فهو يدرك الأجسام المرتبة المتوسطة بينه وبينها إدراكاً متيقناً. فإذا أدرك هذه الأجسام إدراكاً متيقناً فهو يدرك المسافات التي بين أطرافها إدراكاً متيقناً. وإذا كان يدرك المسافات إدراكاً متيقناً فهو يدرك مقادير أبعاد المبصرات المسامتة لهذه المبصرات المسامتة لهذه المسافات إدراكاً متيقناً. فالمبصرات التي أبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة وأبعادها عن البصر أبعاد معتدلة فالبصر يدرك ومقادير أبعادها إدراكاً صحيحاً متيقناً. وأريد بالمتيقن غاية ما يدركه الحس.
فأما المبصرات التي أبعادها خارجة عن الاعتدال، وأبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة، والبصر مع ذلك يدرك تلك الأجسام، فإن إدراك البصر لمقادير أبعادها ليس هو إدراكاً صحيحاً متيقناً. وذلك أن المبصرات التي أبعادها خارجة عن الاعتدال ليس يدركها البصر إدراكاً محققاً. فإذا كان بين البصر وبين هذه المبصرات أجسام مرتبة متصلة فليس يدرك البصر جميع هذه الأجسام إدراكاً محققاً، فليس يدرك المسافات التي بين أطرافها إدراكاً محققاً، فليس يدرك الأبعاد التي بينه وبين المبصرات التي عند أطراف هذه الجسام إدراكاً محققاً. فالمبصرات التي أبعادها خارجة عن الاعتدال، وبينها وبين البصر أجسام مرتبة متصلة، فليس يدرك البصر كميات أبعادها إدراكاً محققاً.
فأما المبصرات التي ليس لها تسامت أبعادها أجساماً مرتبة متصلة فليس يدرك البصر كمية أبعادها. ولذلك إذا أدرك البصر السحاب في السهول وفي المواضع التي لا جبال فيها ظن أنه متفاوت البعد قياساً على الأجرام السماوية. وإذا كان السحاب فيما بين الجبال وكان متصلاً فإنه ربما استترت رؤوس الجبال بالسحاب. وإذا كان السحاب منقطعاً ربما ظهرت رؤوس الجبال من فوق السحاب، وربما أدرك البصر القطع من السحاب ملتصقة ببطن الجبل، وربما كان ذلك في الجبال التي ليست بالشاهقة. فيظهر من هذا الاعتبار أن أبعاد السحاب ليست بالمتفاوتة وأن كثيراً منها أقرب إلى الأرض من رؤوس الجبال وأن ما يظن من تفاوت بعدها غلط لا حقيقة له. ويتبين من ذلك أن البصر ليس يدرك مقدار بعد السحاب إذا أدركه في السهول وان مقدار بعد السحاب يدركه البصر إذا كان فيما بين الجبال وظهرت رؤوس الجبال في أعلاه وأدركت المواضع من الجبال التي يماسها السحاب.

وقد يوجد هذا المعنى في كثير من المبصرات التي على وجه الأرض أيضاً، اعني أن الأبعاد التي ليس تسامت أجساماً مرتبة متصلة ليس يدرك البصر مقاديرها. فمما يظهر به ظهوراً بيناً أن ليس يدرك تلك الأجسام ويتحقق مقاديرها، هو أن يعتمد المعتبر بيتاً أو موضعاً لم يدخله من قبل وقت الاعتبار، ويكون في بعض حيطان ذلك البيت أو الموضع ثقب ضيق، ويكون من وراء ذلك الثقب فضاء لم يشاهده المعتبر قبل ذلك الوقت، ويكون في ذلك الفضاء جداران قائمان، ويكون أحد الجدارين أقرب إلى الثقب من الجدار الآخر، ويكون بين الجدارين بعد له قدر، ويكون الجدار الأقرب يستر بعض الجدار الأبعد، ويكون البعض من الجدار البعد ظاهراً، ويكون الثقب مرتفعاً عن الأرض وبحيث إذا نظر الناظر لم ير وجه الأرض التي من وراء الحائط الذي فيه الثقب، فإن المعتبر إذا حصل في هذا الموضع ونظر في الثقب فإنه يرى الجدارين معاً ولا يدرك البعد الذي بينهما. وإن كان بعد الجدار الأول عن الثقب بعداً كبيراً متفاوتاً فإنه يدرك الجدارين كأنهما متماسان وربما ظن انهما واحد متصل إذا كان لوناهما واحداً. وإن كان الجدار الأول على بعد معتدل من الثقب وأحس أن الجدارين اثنان فإنه يظن أنهما متقاربان أو متماسان ولا يتحقق البعد الذي بينهما. ومع ذلك فإنه يدرك الجدار الأول إذا كان بعده معتدلاً كأنه قريب من الثقب ولا يتحقق بعده أيضاً. وليس يتحقق البعد الذي بين الجسمين اللذين بهذه الصفة بحاسة البصر، على تحقيقه إذا لم يكن شاهد ذلك الموضع ولا شاهد ذينك الجدارين من قبل ذلك الوقت ولا تقدم علمه بالبعد الذي بينهما. وربما أدرك البصر الجسمين اللذين بهذه الصفة كأنهما متماسان وإن كان قد تقدم علمه بالبعد الذي بينهما.
وإذا كان البصر ليس يدرك البعد الذي بين الجسمين اللذين بهذه الصفة، فليس يدرك كمية بعد الجسم الأخير، وهو مع ذلك يدرك صورته.وإذا كان ليس يدرك كمية بعد هذا الجسم مع إدراكه لهذا الجسم إذا لم يدرك الأجسام المسامتة لبعده، فليس يدرك البصر كمية بعد المبصر على التحقيق من إدراكه لصورة المبصر، وليس يدرك البصر كمية بعد المبصر إلا بالاستدلال. وليس يستدل بحاسة البصر على مقدار من المقادير إلا بقياس ذلك المقدار إلى مقدار قد أدركه ابصر من قبل أو مقدار يدركه معه في الحال. وليس شيء يقدر به البصر بعد المبصر ويقيسه به ويدرك مع ذلك مقداره على التحقيق بالقياس إلى ذلك الشيء إلا الأجسام المرتبة المسامتة لبعد المبصر. فأما إن قدر البعد بغير هذه الأجسام فهو حدث لا تقدير محقق. فليس تدرك كمية بعد المبصر بحاسة ابصر إلا إذا كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها.
وللاعتبار الذي ذكرناه نظائر كثيرة من المبصرات. وذلك أن الناظر إذا رأى شخصين قائمين على وجه الأرض أو عمودين أو نخلتين، وكان بينهما بعد له قدر، وكان أحدهما يستر بعض الآخر في رأي العين، ولم يدرك الأرض التي بينهما في حال إدراكهما لاستتارهما بالشخص الأول، ولم يكن البصر رأى ذينيك العمودين أو الشخصين قبل ذلك الوقت ، وكان بعد الشخص الأخير ليس من العاد المتفاوتة، فإنه إذا نظر إليهما معاً يظن أنهما متماسان وبينهما بعد يسير ولا يحس بمقدار البعد الذي بينهما. ثم إذا انحرف عن موضعه حتى يرى الأرض المتصلة ينهما أدرك بعد الشخص الأخير وأدرك البعد الذي بين الشخصين وأحس بغلظ البصر في الإدراك الأول. فلو كان الناظر إلى هذين الشخصين يدرك مقدار بعد كل واحد منهما عن البصر من غير إحساسه بالأرض المتصلة بينهما، لقد كان يدرك مقدار بعد أحدهما عن الآخر في حال إدراكهما معاً وأحدهما يستر الآخر ومن قبل أن يدرك الأرض المتصلة بينهما.
وكذلك إن كان الناظر ينظر إلى ثقب ، وكان من وراء الثقب فضاء، وكان ذلك الفضاء حبل ممدود معترض أو عود معترض، وكان بين الحبل والعود وبين الثقب بعد مقتدر، وكان الناظر لا يرى الأرض المتصلة المسامتة للبعد الذي بين الحبل أو العود وبين الثقب، فإن الناظر يظن بذلك الحبل المعترض أو العود المعترض أو المعترض أنه مماس للثقب أو قريب جداً منه، ولا يدرك كمية البعد الذي بين الحبل المعترض أو العود وبين الثقب ما لم يدرك الجسم المتصل المسامت لبعده ولم يتقدم علمه به.

فمن الاعتبار بهذه المعاني يتبين أن البصر ليس يدرك مقادير أبعاد المبصرات عنه إلا إذا كانت أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة متصلة، وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها.
فأما أبعاد المبصرات المتفرقة بعضها من بعض فإن البصر يدركها من إدراك التفرق الذي بين المبصرات. فأما كمية أبعاد المبصرات. فأما كمية أبعاد المبصرات بعضها من بعض فإن أحوالها عند البصر كأحوال أبعاد المبصرات عن البصر. وذلك أن المبصرين المتفرقين إن كان بينهما أجسام مرتبة متصلة، وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها، فهو يدرك كمية البعد الذي بين ذينك المبصرين. وإن لم يكن بين المبصرين أجسام مرتبة متصلة فليس يدرك البصر كمية البعد الذي بين ذينك المبصرين على التحقيق. وكذلك إن كان بين المبصرين أجسام مرتبة متصلة، وكانت على بعد متفاوت، ولم يتحقق البصر مقادير تلك الأجسام، فليس يتحقق مقدار البعد الذي بين ذينك المبصرين.
فأبعاد المبصرات من البصر إنما تدرك بالتمييز من إدراك القوة المميزة لأن الإبصار الذي يحدث في البصر إنما يحدث لمعنى خارج ومن حصول هذا المعنى في النفس واستقراره على مر الزمان من حيث لم يحس باستقراره. وكميات أبعاد المبصرات ليس شيء منها يدرك بحاسة البصر إدراكاً محققاً إلا أبعاد المبصرات التي أبعادها مسامتة لأجسام متصلة وأبعادها مع ذلك معتدلة والبصر مع ذلك يدرك الأجسام المرتبة المسامتة لأبعادها ويتحقق مقادير تلك الأجسام. وما سوى ذلك من المبصرات فليس يتحقق البصر مقادير أبعادها. والتي ليس يتحقق البصر مقادير أبعادها منها ما تكون أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة متصلة والبصر مع ذلك يدرك تلك الأجسام، وهي التي تكون أبعاد أطرافها متفاوتة. ومنها ما أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة متصلة والبصر ليس يدرك تلك الأجسام كانت أبعادها متفاوتة أو كانت معتدلة. ومنها ما ليس يسامت أبعادها أجساماً مرتبة متصلة، وهي المبصرات المرتفعة عن الأرض المتفاوتة البعد والتي ليس بالقرب منها جبل ولا جدار يسامت بعدها. وجميع المبصرات تنقسم إلى هذه الأقسام.
والمبصرات التي ليس يتحقق البصر مقادير أبعادها إذا أدركها البصر فإن القوة المميزة تحدس في حال إدراكها على مقادير أبعادها حدساً، وتقيس أبعادها بأبعاد أمثالها من المبصرات التي أدركها البصر من قبل وتحقق مقادير أبعادها، وتعتمد في القياس على صورة المبصر فتقيس صورة المبصر بصور المبصرات الشبيهة به التي أدركها البصر من قبل وتحققت القوة المميزة مقادير أبعادها، فتقيس بعد المبصر الذي ليس تتحقق مقدار بعده بأبعاد المبصرات الشبيهة به التي أدركها البصر من قبل وتحققت القوة المميزة مقادير أبعادها. وإذا لم تتحقق القوة المميزة تخطيط صورة المبصر قاست مقدار جملة صورته بمقادير صور المبصرات المساوية لتلك الصور في المقدار التي قد تحققت مقادير أبعادها فتشبه بعد المبصر الذي ليس تتحقق مقدار بعده بأبعاد المبصرات المساوية لذلك المبصر في المقدار التي قد تحققت أبعادها. هذا هو غاية ما تقدر عليه القوة المميزة في التوصل إلى إدراك مقادير أبعاد المبصرات. فربما اتفق لها بهذا القياس أن تصيب في إدراك بعد ما هذه صفته من المبصرات، وربما وقع عليها الغلط. والذي تصيب فيه أيضاً ليس تتحقق أنها مصيبة فيه. وهذا الحدس يكون في غاية السرعة لكثرة اعتياد القوة المميزة لإدراك أبعاد المبصرات بالحدس والتيقن.
وقد تحدث القوة المميزة على مقدار بعد المبصر وإن كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة وكان من الأبعاد المعتدلة وكان يمكن للبصر أن يتحقق مقادير تلك الأجسام، وذلك لاعتياد القوة المميزة للحدس على أبعاد المبصرات ولسرعة حدسها. وإذا كان بعد المبصر من الأبعاد المعتدلة فليس يكون الحدس على بعده وبين حقيقة بعده تفاوت مسرف.

فكل مبصر من المبصرات إذا أدركه البصر فإنه في حال إدراكه قد أدركت القوة المميزة بعده وأدركت مقدار ما في حال إدراكه إما بالتيقن وإما بالحدس، ويحصل لبعده في الحال مقدار متخيل في النفس. فما كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة وكان بعده مع ذلك معتدلاً وكان يدرك تلك الأجسام المرتبة المسامتة لبعده ولحظ ابصر مع تلك الأجسام وكان قد تقدم علم القوة المميزة بها وتحقق مقدارها، فالمقدار الذي يدرك بحاسة البصر لبعد ذلك المبصر وحصلت صورته متخيلة في النفس هو مقدار محقق متيقن.
وما لم يكن بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة وكان يدرك تلك الأجسام وكان البعد مع ذلك متفاوتاً ولم يتحقق البصر مقادير تلك الأجسام، أو كان مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة ولم يكن يدرك تلك الأجسام ولا يتحقق مقاديرها، أو كان البصر يمكن أن يدرك تلك الأجسام ولكن لم يلحظها في الحال ولم يعتبر مقدارها كانت أبعاد تلك المبصرات متفاوتة أو كانت معتدلة فالمقدار الذي يدرك بحاسة البصر لبعد المبصر الذي يأخذ هذه الصفات ويحصل متخيلاً في النفس هو مقدار غير محقق ولا متيقن.
والأبعاد التي بين المبصرات المتفرقة إنما تدرك من إدراك التفرق الذي بين المبصرات. وإدراك كميات الأبعاد التي بين المبصرات المتفرقة كمثل إدراك كميات أبعاد المبصرات عن البصر: منها ما يدرك إدراكاً متيقناً ومنها ما يدرك بالحدس. وإذا أدرك البصر: مبصرين فهو يدرك البعد الذي بينهما ويتخيل مقدار البعد الذي بينهما على مقدار البعد الذي بينهما على مقدار ما. فالمبصران اللذان فيما بينهما أجسام مرتبة متصلة، والبصر يدرك تلك الأجسام ويتحقق مقاديرها، فالمقدار الذي تخيله البصر للبعد الذي بين ذينك المبصرين هو مقدار متحقق متيقن. والمبصرات اللذان ليس ينهما أجسام مرتبة متصلة، أو بينهما أجسام مرتبة متصلة وليس يتحقق البصر مقادير تلك الأجسام، أو ليس يدرك البصر تلك الأجسام، فالمقدار الذي يتخيله البصر للبعد الذي بين ذينك المبصرين هو مقدار غير محقق ولا متيقن. فعلى هذه الصفات يكون إدراك أبعاد المبصرات بحاسة البصر.
وأيضاً فإن المبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة التي يدركها البصر دائماً وعلى الاستمرار ويدرك أبعادها، فإنه يدرك الأجسام المسامتة لأبعادها ويتيقن مقادير أبعادها لكثرة تكررها على البصر، وكثرة تكرار أبعادها على البصر قد صار البصر يدرك مقادير أبعادها بالمعرفة. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات المألوفة وكان على بعد من الأبعاد المألوفة عرفه وعرف بعده وحدس على كمية بعده. وإذا حدس على كمية بعد ما هذه صفته من المبصرات فليس يكون بين حدسه وبين حقيقته كمية ذلك البعد تفاوت مسرف. فالمبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة يدرك البصر كميات أبعادها بالمعرفة من حدسه على كميات أبعادها. وإذا حدس على كميات أبعادها فليس يكون بين الحدس عليها وبين حقيقتها تفاوت كثير. واكثر أبعاد المبصرات يدرك على هذه الصفة.

إدراك الوضع
فأما الوضع الذي يدركه البصر من المبصرات فهو ينقسم إلى ثلثة أنواع. أحدها وضع جملة المبصر عند البصر، أو وضع الجزء من أجزاء المبصر عند البصر، وهذا النوع هو المقابلة، والنوع الثاني هو وضع سطح المبصر المقابل للبصر عند البصر، وأوضاع سطوح المبصر المقابلة للبصر عند البصر إذا كان المبصر كثير السطوح وكان الذي يظهر منه عدة سطوح، وأوضاع نهايات سطوح المبصرات عند ابصر، وأوضاع الخطوط والمسافات التي بين كل نقطتين أو كل مبصرين يدركهما البصر معاً وتتخيل المسافة التي بينهما عند البصر. والنوع الثالث هو أوضاع أجزاء المبصر بعضها عند بعض، وأوضاع أجزاء سطح المبصر بعضها عند بعض، وأوضاع نهايات سطح المبصر بعضها عند بعض، وأوضاع أجزاء نهايات سطح المبصر بعضها عند بعض. وهذا النوع هو الترتيب، وكذلك أوضاع المبصرات المتفرقة بعضها عند بعض هي من جملة هذا النوع. فجميع الأوضاع التي يدركها البصر من المبصرات تنقسم إلى هذه الأنواع الثلثة.

ووضع كل موضوع عند غيره إنما يتقوم من بعد ذلك الموضوع عن ذلك الغير ومن نصبه ذلك الموضوع بالقياس إلى ذلك الغير. فمقابلة المبصر للبصر تتقوم من بعد المبصر عن البصر ومن الجهة التي فيها المبصر بالإضافة إلى البصر. فأما إدراك بعد المبصر فقد تبين أنه معنى قد استقر في النفس. فأما جهة المبصر فإن الحاس يدركها من وضع البصر في حال الإبصار. وذلك أن ابصر إنما يدرك المبصر في مقابلته وعند محاذاة البصر للجهة التي فيها المبصر. والجهات يدركها الحس ويدركها التمييز، ويفرق الحس والتمييز بين الجهات وإن لم يكن فيها شيء من المبصرات. ويفرق التمييز بين الجهة المحاذية للبصر والقريبة منها، وتدرك القوة المميزة جميع الجهات بالتخيل والتمييز. فإذا كان البصر محاذياً لجهة من الجهات وأدرك مبصراً من المبصرات، ثم أعرض عن تلك الجهة وحاذى جهة غيرها، بطل إبصار ذلك المبصر. وإذا عاد إلى محاذاة تلك الجهة عاد إبصار جهة غيرها، بطل إبصار ذلك المبصر. وإذا عاد إلى محاذاة تلك الجهة عاد إبصار ذلك المبصر.
وإذا كان البصر يدرك المبصر عند محاذاته للجهة التي فيها المبصر، وكانت القوة المميزة تدرك الجهة المحاذية للبصر في حال إدراك ذلك المبصر، وكان البصر إذا عدل عن محاذاة تلك الجهة بطل إبصار ذلك المبصر، فالقوة المميزة تدرك أن المبصر إنما هو في الجهة المحاذية للبصر في حال إبصار ذلك المبصر. فمن محاذاة البصر للجهة التي فيها المبصر في حال الإبصار قد تعين للحاس وللقوة المميزة الجهة التي فيها المبصر.
وأيضاً فإنه قد تبين أن البصر متخصص بقبول الصور من سموت هذه الخطوط فقط. وقد تبين أيضاً أن الصور تمتد في جسم البصر على استقامة خطوط الشعاع. فإذا حصلت صورة المبصر في البصر فإن الحاس يحس بالصورة ويحس بالجزء من المبصر الذي فيه حصلت الصورة، ويحس بالسمت الذي فيه تمتد الصورة في جسم العضو الحاس، ومنه إدراك تلك الصورة، الذي هو سمت خطوط الشعاع الممتدة بين البصر وبين ذلك المبصر. وإذا أدرك البصر موضع الصورة من البصر وأدرك السمت الذي فيه امتدت الصورة، أدركت القوة المميزة الجهة التي فيها يمتد ذلك السمت. والجهة التي فيها المبصر.فمن إدراك الحاس للجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر، ومن إدراكه للسمت الذي فيه تمتد الصورة ومنه ينفعل ابصر بالصورة، قد أدركت القوة المميزة السمت الذي فيه امتدت صورة المبصر على التحرير. وعلى هذه الصفة تتميز المبصرات بجهاتها، لأن المبصرات المتفرقة إنما تتميز للبصر من تمييزه للمواضع المتفرقة من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صور المبصرات المتفرقة.
ولإدراك جهة المبصر على هذه الصفة نظير في المسموعات. فإن الحاس يدرك الصوت بحاسة السمع، ويدرك الجهة التي منها يرد الصوت، ويفرق بين الصوت الذي يرد من ميمنته وبين الصوت الذي يرد من ميسرته، ويفرق بين الصوت الذي يرد من أمامه وبين الصوت الذي يرد من ورائه. ويفرق بين جهات الأصوات تفريقاً ألطف من هذا التفريق، ويفرق بين الجهات المتقاربة التي ترد منها الأصوات، فيفرق بين الصوت الذي يرد من الجهة المواجهة له وبين الصوت الذي يرد من الجهة المائلة عن سمت المواجهة. وليس يتميز للحاس الجهات التي منها ترد الأصوات بالقياس إلى السمع ليس تتميز إلا بهذه السموت. فحاسة السمع يدرك الأصوات ويدرك السموت التي ترد منها الأصوات. ومن إدراك السموت التي عليها ترد الأصوات إلى السمع وعى استقامتها يقرع الصوت السمع تدرك القوة المميزة الجهة التي منها ورد الصوت. فكما أن جهات الأصوات تدرك بحاسة السمع وتدركها القوة المميزة بتوسط السمع، كذلك جهات المبصرات تدركها القوة المميزة بحاسة البصر.

والذي يظهر به ظهوراً بيناً أن الحاس يدرك السمت الذي عليه ينفعل البصر بصورة المبصر هو ما يدرك بالانعكاس في المرايا. فإن المبصر الذي يدركه البصر بالانعكاس في المرآة إنما يدركه البصر في مقابلته. وليس هو مقابلاً له، وإنما صورته تصل إلى البصر على طول الخطوط المستقيمة التي هي خطوط الشعاع الممتدة من البصر في جهة المقابلة. فإذا أحس البصر بالصورة من سموت خطوط الشعاع ظن بالمبصر أنه عند أطراف تلك الخطوط. لنه ليس يدرك شيئاً من المبرات المألوفة التي يدركهما دائماً إلا عند أطراف الخطوط المتوهمة بين البصر والمبصر التي هي خطوط الشعاع. فمن إدراك البصر للمبصر بالانعكاس في مقابلته وعلى استقامة السموت التي عليها تصل الصور المنعكسة إلى البصر، ويظهر أن الحاس يحس بالسمت الذي منه ترد الصورة ومنه ينفعل البصر بالصورة. وإذا أحس الحاس بالسمت الذي منه ينفعل بالصورة أدركت القوة المميزة الجهة التي يمتد فيها ذلك السمت، وأدركت جهة المبصر. فجهة المبصر يدركها الحاس إدراكاً مجملاً من إدراكه لوضع البصر في حال الإبصار، وتدركها القوة المميزة إدراكاً مجملاً من إدراكها لوضع البصر في حال الإبصار، وتدركها إدراكاً محققاً على التحرير من إدراكها للسمت الذي منه ينفعل البصر بصورة المبصر. وبعد المبصر هو معنى قد استقر في النفس. ففي حال حصول صورة المبصر في البصر قد أدركت القوة المميزة جهة المبصر مع استقرار معنى البعد عندها. واجتماع البعد والجهة هو المقابلة. فإذا أدركت القوة المميزة جهة المبصر وبعده معاً فقد أدركت مقابلته. فإدراك المقابلة يكون من إدراك جهة المبصر وإدراك بعد المبصر معاً. وإدراك الجهة يكون على الصفة التي ذكرناها. فإذا حصلت صورة المبصر في البصر أحس الحاس بالموضع من العضو الحاس الذي فيه حصلت الصورة، وأدركت القوة المميزة جهة المبصر من السمت الذي منه تمتد الصورة. ومعنى البعد مستقر عندها. فهي تدرك الجهة وتدرك البعد معاً في حال إدراك الحاس للصورة. ففي حال إدراك الحاس للصورة قد أدركت القوة المميزة المقابلة. فعلى هذه الصفة يكون إدراك المقابلة.

إدراك الضوء واللون
وقد تبين كيف يدرك البصر صورة المبصر بمجرد الإحساس. ففي حال حصول صورة المبصر في البصر قد أدرك الحاس لون المبصر وضوءه والموضع من البصر الذي تلون وأضاء بتلك الصورة، وأدركت القوة المميزة جهته وبعده في حال إدراك الحاس لضوئه ولونه. فيصير إدراك الضوء واللون والجهة والبعد معاً، اعني في أقل القليل من الزمان. والجهة والبعد هما المقابلة، والضوء واللون هما صورة المبصر، وإدراك الصورة مع إدراك المقابلة هو الذي يتقوم منه إدراك المبصر في مقابلة البصر إنما هو من أجل أن الضوء والمقابلة يدركان معاً. ثم لاستمرار هذا المعنى وكثرة تكرره صارت الصورة أمارة للحاس وللقوة المميزة. ففي حال حصول الصورة في البصر قد أدركها الحاس وأدركت القوة المميزة المقابلة وتقوم منهما إدراك المبصر في موضعه. فعلى هذه الصفة يكون إدراك المبصر في موضعه وكذلك كل جزء من أجزاء المبصر.
فإن كان بعد المبصر من البعاد المعتدلة المتيقنة المقدار كان موضع المبصر الذي فيه يدركه البصر هو موضعه الحقيقي. وإن لم يكن بعد المبصر من الأبعاد المتيقنة المقدار فإدراك المبصر في مقابلة البصر يكون متيقناً على جميع الأحوال، لأن المقابلة تتقوم من الجهة ومن البعد بما هو بعد. وموضع المبصر الذي يدركه البصر فيه يكون مظنوناً غير متيقن لأن الموضع المتيقن إنما يدرك من تيقن مقدار البعد.
فأما أوضاع سطوح المبصرات عند البصر فإنها تنقسم قسمين: هما المواجهة والميل. والسطح المواجه للبصر هو الذي إذا أدركه البصر في حال المواجهة كان سهم الشعاع يلقي نقطة منه ويكون السهم مع ذلك قائماً على السطح قياماً معتدلاً. والسطح المائل هو الذي إذا أدركه البصر في حال ميله ولقي سهم الشعاع نقطة منه كان مائلاً على السطح لا قائماً عليه قياماً معتدلاً على اختلاف ضروب الميل.

فأما نهايات سطوح المبصرات وبين أجزاء المبصرات فإنها تنقسم قسمين:فأحدهما الخطوط والمسافات المقاطعة لخطوط الشعاع، والآخر الخطوط والمسافات الموازية لخطوط الشعاع المسامتة لها. والخطوط والمسافات المقاطعة لخطوط الشعاع تنقسم أوضاعها إلى الميل والمواجهة على مثل ما تنقسم إليه أوضاع السطوح. والخط المواجه هو الذي ينتهي سهم الشعاع إلى نقطة منه ويكون قائماً عليه على زوايا قائمة. والخط المائل هو الذي إذا انتهى سهم الشعاع إلى نقطة منه كان مائلاً عليه لا قائماً.
والبصر يدرك ميل السطوح والخطوط ومواجهتها من إدراكه لاختلاف أبعاد أطراف السطوح والخطوط وتشابهها. فإذا أدرك البصر سطح المبصر، وأدرك أبعاد أطرافه، وأحس بتساوي أبعاد أطراف السطح عنه، أو بتساوي أبعاد موضعين متقابلين متساويي البعد الذي يحدق إليه من السطح، أدرك السطح مواجهاً، وحكمت القوة المميزة بمواجهته. وإذا أدرك البصر سطح المبصر ، وأدرك اختلاف أبعاد أطرافه، ولم يجد في السطح موضعين متساويي البعد عن الموضع الذي يحدق إليه من السطح يكون بعداهما عنه متساويين، أدرك السطح مائلاً بالإضافة إليه، وحكمت القوة المميزة بميله.
وكذلك أوضاع الخطوط والمسافات المواجهة والمائلة يدرك البصر مواجهة الخط والمسافة إذا أحس ببعدي طرفي الخط أو المسافة عنه متساويين أو بعدي نقطتين من الخط أو المسافة بعداهما عن النقطة التي يحدق إليها من الخط أو المسافة متساويين. ويدرك ميل الخط والمسافة إذا أحس ببعدي طرفي الخط أو المسافة عنه أو بعدي نقطتين متساويتي البعد عن النقطة التي يحدق إليها من الخط أو المسافة مختلفين. وهذا التساوي والاختلاف يدركه الحاس في أكثر الأحوال بالحدس والأمارات. فعلى هذه الصفة يكون إدراك البصر للميل والمواجهة.
وإذا كان السطح أو الخط مواجهاً للبصر بجملته، فإن كل جزء منه انفراده ليس يكون مواجهاً، وليس يكون جزء منه مواجهاً للبصر على انفراده إلا الجزء الذي عليه السهم في حال المواجهة. فإذا تحرك سهم الشعاع على السطح المواجه فإن كل جزء يمر به السهم يكون مائلاً عليه ما خلا الجزء الأول الذي فيه النقطة التي كان السهم قائماً عليها. فيكون كل جزء من أجزاء السطح المواجه والخط المواجه إذا أخذ منفرداً كان مائلاً ما خلا الجزء الأول الذي قدمنا ذكره. وإذا أخذت جملة السطح وجملة الخط كانت الجملة مواجهة. وإذا كانت النقطة التي عندها يكون السهم قائماً على السطح أو الخط في النقطة في غير الوسط كان السطح أو الخط مواجهاً ولكن ليس في غاية المواجهة. وكلما كانت النقطة التي إذا لقيها السهم كان قائماً على السطح أو الخط أقرب إلى وسط السطح أو الخط كان السطح أو الخط أشد مواجهة.
فأما الخطوط والمسافات الموازية لخطوط الشعاع فإن البصر يدرك أوضاعها من إدراكه للمقابلة. فإذا أدرك البصر أطراف الخطوط والمسافات التي تلي المبصرات المقابلة له وأطرافها القريبة التي تلي البصر نفسه أو ما قرب من البصر، فقد أدرك امتدادها في سمت المقابلة.
فعلى هذه الصفات يكون إدراك البصر لأوضاع السطوح والخطوط والمسافات بالقياس إليه.
والسطوح والخطوط والمسافات المقاطعة لخطوط الشعاع منها ما هو مفرط الميل على خطوط الشعاع التي تخرج إليها، ومنها ما هو مفرط الميل لكن مائل على خطوط الشعاع ميلاً يسيراً، ومنها ما هو قائم على بعض خطوط الشعاع على زوايا قائمة، وهي السطوح والمسافات المواجهة للبصر.

والسطوح والخطوط والمسافات المفرطة الميل على خطوط الشعاع يكون الطرف الأبعد من كل واحد منها يلي جهة التباعد عن البصر التي تلي أطراف خطوط الشعاع ويكون الطرف الأقرب يلي جهة التقارب من البصر. والبصر إذا أدرك خطاً من الخطوط أو مسافة من المسافات فإنه يدرك الجهتين اللتين تليان طرفي ذلك الخط أو تلك المسافة، وكذلك إذا أدرك البصر سطحاً من السطوح فإنه من إدراكه لامتداد ذلك السطح في الطول والعرض يدرك الجهات التي تلي أطراف ذلك السطح. فإذا أدرك البصر السطح المائل على خطوط الشعاع، وكان ذلك السطح مفرط الميل، فإنه في حال إدراكه للسطح يدرك الجهة التي تلي طرفه البعد ويدرك أنها تلي أطراف خطوط الشعاع، ويدرك الجهة التي تلي طرفه الأدنى، ويدرك أنها تلي ما يقرب من البصر، وكذلك إذا أدرك الخط أو المسافة المفرطتي الميل. وإذا أحس البصر بأن أحد طرفي السطح أو الخط أو المسافة تلي جهة التباعد عن البصر، وأن الطرف الآخر يلي جهة التقارب من البصر، فقد أحس بعد أحد طرفي ذلك السطح أو الخط أو المسافة وقرب الآخر. وإذا أحس ببعد طرفي السطح أو الخط أو المسافة. فالسطوح والخطوط والمسافات المائلة على خطوط الشعاع المفرطة الميل يدرك البصر ميلها من إدراكه لجهة طرفيها.
فأما السطوح والخطوط والمسافات اليسيرة الميل والمواجهة للبصر فليس يدرك البصر ميلها ومواجهتها إدراكاً محققاً إلا إذا كانت أبعادها معتدلة، وكانت أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة، وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها، ويدرك من مقادير تلك الجسام مقادير أبعاد أطراف تلك السطوح والخطوط والمسافات، ويدرك تساوي بعدي طرفي السطح أو الخط أو المسافة أو اختلافها. لأن السطوح والخطوط والمسافات المواجهة والمائلة ميلاً يسيراً ليس شيء من الجهات التي أطرافها يلي البصر، وإنما أطرافها المتقابلة تلي الجهات المتيامنة والجهات المتياسرة أو المتعالية أو المتسافلة أو الجهات التي فيما بين ذلك. فإن لم يدرك البصر مقادير أبعاد ما هذه حالة من السطوح والخطوط والمسافات عن البصر فليس يدرك اختلاف أبعاد أطرافها المتقابلة أو تساويها.وإذا لم يدرك اختلاف أبعاد أطرافها أو تساويها فليس يدرك ميلها ولا مواجهتها. فإذا كانت السطوح والخطوط والمسافات على أبعاد متفاوتة، وكان ميلها يسيراً فإن البصر ليس يدرك ميلها ولا يفرق بين المائل منها ميلاً يسيراً وبين المواجه. لأن السطوح والخطوط والمسافات التي أبعادها متفاوتة ليس يتحقق البصر كميات أبعادها وإنما يحدس على كميات أبعادها حدساً . وإذا كانت أبعادها متفاوتة وكانت مع ذلك مائلة يسيراً كان الاختلاف الذي بين أبعاد أطرافها المتقابلة ليس له قدر بالإضافة إلى كميات أبعادها. وإذ لم يتحقق البصر مقادير أبعاد أطرافها لم يدرك الاختلاف الذي بين أبعاد أطرافها. وإذا لم يدرك الاختلاف الذي بين أبعاد أطراف السطح والخط والمسافة ظن بتلك الأبعاد أنها متساوية ولم يدرك ميل ذلك السطح أو الخط أو المسافة. وإذا لم يدرك ميل السطح أو الخط أو المسافة ظنه مواجهاً. فالسطح والخطوط والمسافات التي أبعادها متفاوتة ليس يدرك البصر ميل المائل منها إذا كان ميله يسيراً. فهو يدرك جميع السطوح والخطوط والمسافات المتفاوتة البعد اليسيرة الميل كأنها مواجهة له، ولا يتحقق وضعها ولا يفرق بين المائل منها والمواجه من البعد المتفاوت، بل يدرك المائل والمواجه على صفة واحدة، كان إدراكه للواحد منها منفرداً أو كان إدراكه للمائل والمواجه معاً، لأنه يدرك أبعاد أطرافها المتقابلة متساوية إذا لم يحس باختلافها.

وكذلك السطوح والخطوط والمسافات التي أبعادها معتدلة إذا لم تسامت أجسامها أجساماً مرتبة، أو لم يدرك البصر الأجسام المسامتة لأبعادها ولم يتحقق كميات أبعادها، فليس يتحقق أوضاعها ولا يفرق بين المائل منها والمواجه، وإنما يحدس أوضاعها حدساً، وربما ظن بما هذه صفته من السطوح والخطوط أنها مواجهة وإن كانت مائلة. وإذا كانت السطوح والخطوط والمسافات على أبعاد معتدلة وكانت أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها، فإن البصر يدرك مقادير أبعاد أطراف تلك السطوح والخطوط والمسافات، ويدرك تساوي ما يتساوى من أبعاد أطرافها المتقابلة واختلاف ما يختلف منها. وإذا أدرك تساوي أبعاد أطراف السطح أو الخط أو المسافة أو اختلافها أدرك مواجهة ذلك السطح أو الخط أو المسافة أو ميله إدراكاً محققاً.
والسطوح والخطوط والمسافات المفرطة الميل أيضاً ليس يدرك البصر ميلها إلا إذا كانت على أبعاد معتدلة بالقياس إلى أعظامها، لأن البصر ليس يدرك الجهات التي تلي أطراف السطح أو الخط أو المسافة إلا إذا أدرك كيفية امتداد ذلك السطح أو الخط أو المسافة. وليس يدرك البصر كيفية امتداد السطح والخط والمسافة إلا إذا كان على بعد معتدل بالقياس إلى مقدار ذلك السطح أو الخط أو المسافة. والسطوح والخطوط والمسافات المقاطعة لخطوط الشعاع ما كان منها مفرط الميل فالبصر يدرك ميله من إدراكه لجهات أطرافه. وما كان منها يسير الميل، ومواجهاً للبصر، فإن البصر يدرك ميله ومواجهته من إدراكه لمقادير أبعاد أطرافها المتقابلة. وليس يتحقق البصر أوضاع السطوح والخطوط والمسافات المفرطة الميل إلا إذا تحقق كيفية امتدادها. وليس يتحقق أوضاع السطوح والخطوط والمسافات اليسيرة الميل والمواجهة إلا إذا تحقق مقادير أبعاد أطرافها وأدرك اختلاف أبعاد أطرافها المتقابلة أو تساويها. إلا أن البصر قل ما يحرر أوضاع المبصرات. وأكثر ما يدركه البصر من أوضاع المبصرات إنما يدركه بالحدس من حدسه على مقادير أبعاد أطرافها ومن إدراكه لتساوي أبعاد أطرافها واختلافها بالحدس. فمعول البصر في إدراك أوضاع المبصرات إنما هو على الحدس. فإذا أراد الناظر أن يتحقق وضع سطح من سطوح المبصرات، أو وضع خط من الخطوط التي في المبصرات، أو وضع مسافة من المسافات التي في سطوح المبصرات، فإنه يتأمل صورة ذلك المبصر ويتأمل كيفية امتداد ذلك السطح أو الخط أو المسافة. فإن كانت صورة ذلك المبصر الذي فيه ذلك السطح أو الخط أو المسافة. فإن كانت صورة ذلك المبصر الذي فيه ذلك السطح أو الخط أو المسافة. فإن كانت صورة ذلك المبصر الذي فيه ذلك السطح أو الخط أو المسافة بينة محققة، وكان ميل ذلك السطح أو الخط أو المسافة ميلاً مفرطاً، أدرك البصر حقيقة ميله من إدراكه لكيفية امتداده وإدراكه لجهتي طرفيه المتقابلين. وإن كانت صورة ذلك المبصر بينة، ولم يكن مفرط الميل، وكان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة، فإنه يلاحظ الأجسام المسامتة لأبعاد أطرافه ويعتبر مقدارها، فيدرك ميل ذلك السطح أو الخط أو المسافة ومقدار ميله، أو مواجهته إن كان مواجهاً، من إدراكه لمقادير أبعاد أطرافه.
وإن كانت صورة المبصر مشتبهة، أو كانت بينة ولم يكن الميل مفرطاً، ولم يكن البعد مسامتاً لأجسام مرتبة، فليس يدرك البصر حقيقة وضع السطح أو الخط أو المسافة التي بهذه الصفة. ومع ذلك فإن البصر إذا أدرك الصورة مشتبهة، ولم يجدها بينة، ولم يجد أبعادها تسامت أجساماً مرتبة، فإنه يحس في الحال أن وضع ذلك السطح أو الخط أو المسافة غير متيقن إذا كان يعتبر وضع السطح أو الخط أو المسافة.
فعلى هذه الصفات يدرك البصر أوضاع سطوح المبصرات وأوضاع الخطوط والمسافات التي في سطوح المبصرات التي جميعها مقاطعة لخطوط الشعاع.

فأما المسافات التي بين المبصرات المتفرقة فأن ما كان منها على أبعاد متفاوتة، أعني إذا كان بعد كل واحد من المبصرين اللذين عند طرفي المسافة بعداً متفاوتاً، فإن ابصر يدرك المسافات التي بهذه الصفة كأنها مواجهة وإن كانت مائلة، لأنه يدرك الاختلاف الذي بين أبعاد أطرافها.وإن كان أحد المبصرين اللذين عند طرفي المسافة أقرب من الآخر وكان البصر يحس بقرب القريب منها. فإنه يدرك المسافة التي بينهما مائلة بحسب ما يدركه من قرب القريب من المبصرين اللذين عند طرفيها وبعد البعيد منهما. وإن كان أحد المبصرين أقرب، ولم يدرك البصر قربه، فليس يحس بميل المسافة التي بينهما. فجميع السطوح والخطوط والمسافات المقاطعة لخطوط الشعاع التي يتحقق البصر أوضاعها منه هي التي تكون أبعادها معتدلة، ويكون البصر مع ذلك يتحقق تساوي أبعاد أطرافها واختلافها. وما لم يتحقق البصر تساوي أبعاد أطرافها واختلافها فليس يتحقق وضعها منه.
وأكثر ما يدركه البصر من أوضاع المبصرات إنما يدركه بالحدس. فما كان منها على أبعاد معتدلة فليس يكون بين وضعه الذي يدركه البصر بالحدس وبين وضعه الحقيقي تفاوت مسرف. وما كان منها على أبعاد متفاوتة ولم يدرك البصر بين أبعاد أطرافها اختلافاً فإنه يدركها مواجهة له وإن كانت مائلة، ولا يفرق بين المائل من المبصرات التي أبعادها متفاوتة وبين المواجه منها لأن البصر إذا لم يدرك اختلاف بعدي طرفي المبصر أدرك بعدي طرفيه متساويين، وإذا أدرك بعدي الطرفين متساويين حكم المواجهة.
فعلى هذه الصفات يكون إدراك أوضاع السطوح والخطوط والمسافات بحاسة البصر.
فأما أوضاع أجزاء المبصر بعضها عند بعض، وأوضاع نهايات سطح المبصر أو سطوحه بعضها عند بعض، التي جميعها تدخل تحت الترتيب، فإن البصر يدركها من إدراك المواضع من المبصر التي تحصل فيها صور الأجزاء ومن إدراك القوة المميزة لترتيب أجزاء الصورة التي تحصل في البصر لجملة المبصر. وذلك أن صور المبصرات تحصل في سطح العضو الحاس، وكل جزء من سطح المبصر تحصل صورته في جزء من الجزء من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صورة الكل. وإذا كان سطح المبصر مختلف الألوان، أو كانت بين أجزائه فصول تتفرق بها الأجزاء بعضها من بعض، فإن الصورة التي تحصل في البصر تكون مختلفة الألوان أو تكون أجزاؤها مفصلة كتفصيل أجزاء سطح المبصر. والحاس يحس بالصورة ويحس بكل جزء من أجزاء الصورة من إحساسه بألوان تلك الأجزاء والأضواء التي فيها، ويحس بمواضع صور الأجزاء من البصر من إحساسه بألوان الأجزاء وأضوائها. والقوة المميزة تدرك ترتيب تلك المواضع من جملة الصورة ومن إدراكها لاختلاف ألوان أجزاء الصورة ومن إدراكها لفصول الأجزاء، فتدرك المتيامن منها والمتياسر والمرتفع والمنخفض من قياس بعضها ببعض، وتدرك المتماس والمتفرق.
فأما أوضاع أجزاء المبصر بعضها من بعض في التقدم والتأخر فإنما يدركها البصر من إدراك كميات أبعاد الأجزاء عنده، وإدراك اختلاف أبعاد الأجزاء بالزيادة والنقصان. فما كان من المبصرات على أبعاد معتدلة، وكان البصر يدرك مقادير أبعاد أجزائها، ويدرك الاختلاف الذي بين أبعاد الأجزاء نه وتساويها، فهو يدرك أوضاع أجزاء ذلك المبصر بعضها عند بعض في التقدم والتأخر، أعني في الشخوص والغؤور. وما لم يتحقق البصر مقادير أبعادها ومقادير أبعاد أجزائها فليس يدرك البصر ترتيب أجزائها في التقدم والتأخر في حال إبصارها. فما كان مما هذه حاله من المبصرات المألوفة التي يعرفها البصر ويعرف ترتيب صورها، فهو يدرك ترتيب أجزائها في التقدم والتأخر وهيئة سطوحها بالمعرفة لا بمجرد الإبصار في الحال التي ليس يتحقق منها مقادير أبعادها. وما كان من المبصرات الغريبة التي ليس يعرفها البصر فهو يدرك أبعاد أجزائها، وإن كانت أجزاؤها مختلفة الترتيب في التقدم والتأخر. وهذا المعنى يظهر إذا نظر البصر إلى جسم فيه تحديب أو تقعير وكان على بعد متفاوت. فإن البصر لا يدرك التحديب والتقعير الذي يكون فيه وإنما يدركه البصر كأنه مسطح لا اختلاف فيه.

فأوضاع أجزاء سطح المبصر بعضها عند بعض في اختلاف الجهات وفي التفرق والاتصال إنما يدركها البصر ويدرك ترتيبها من إدراكه لأجزاء الصورة التي تحصل في البصر لجملة المبصر وإدراكه لاختلاف الألوان والفصول التي تتميز بها الأجزاء، ومن إدراك القوة المميزة لترتيب أجزاء الصورة. وأوضاع أجزاء سطح المبصر بعضها عند بعض في التقدم والتأخر بالقياس إلى البصر إنما يدركها البصر من إدراكه لكميات أبعاد الأجزاء وإدراكه لاختلاف كميات أبعادها وتساوي أبعادها. فما يتحقق البصر مقادير أبعاد أجزائه فهو يدرك ترتيب أجزائه فهو يدرك ترتيب أجزائه فهو يدرك ترتيب أجزائه في التقدم والتأخر، وما ليس يتحقق مقادير أبعاد أجزائه فليس يدرك ترتيب أجزائه في التقدم والتأخر. فحاسة البصر في الحال التي ليس فيها مقادير أبعاد أجزاء المبصر، إذا كان من المبصرات المألوفة التي يعرفها البصر، فهو يدرك ترتيب أجزائه بالمعرفة، وما كان من المبصرات الغريبة فليس يدرك ترتيب أجزائه في التقدم والتأخر إذا لم يدرك مقادير أبعاد أجزائه. فأما أجزاء المبصر المتميزة التي بينها تفرق فإن البصر يدرك ترتيبها من إدراكه المواضع من البصر التي تحصل فيها صور تلك الأجزاء ومن إدراك القوة المميزة للتفرق الذي بين تلك المواضع من البصر. وكذلك المبصرات المختلفة المتفرقة يدرك البصر ترتيبها من إدراكه للتفرق الذي بين المواضع من البصر التي تحصل فيها صور تلك المبصرات. فأما نهايات سطح المبصر أو سطوحه فإن البصر يدركها ويدرك ترتيبها من إدراكه للجزء من سطحه الذي يحصل فيه لون ذلك السطح وضوؤه ومن إدراك القوة المميزة لنهايات ذلك الجزء ومن إدراكها لترتيب محيط ذلك الجزء. فعلى هذه الصفات يدرك البصر أوضاع أجزاء المبصرات وأوضاع أجزاء سطوح المبصرات بعضها عند بعض، وأوضاع نهايات السطوح وأوضاع الأجزاء المتميزة من المبصرات بعضها عند بعض وأوضاع المبصرات المتفرقة بعضها عند بعض.

إدراك التجسم
فأما التجسم، وهو امتداد الجسم في الأبعاد الثلثة، فإن البصر يدركه من بعض الأجسام. إلا أن الإنسان المميز قد تقرر عنده بالعلم والاعتبار ليس يدرك بحاسة البصر إلا الأجسام، فهو إذا رأى المبصر علم أنه جسم وحكم ببديهة الإبصار أن المبصر جسم وإن لم يدرك امتداده في البعاد الثلثة فإن البصر يدرك من جميع الأجسام امتدادها في الطول والعرض من إدراكه لسطوح الأجسام المقابلة له. فإذا أدرك سطح الجسم فقد أدرك امتداد السطح في الطول والعرض، اعني طول السطح وعرضه. وإذا أدرك امتداد السطح في الطول والعرض مع استقرار العلم بان المبصر جسم فقد أدرك امتداد ذلك الجسم في الطول والعرض، أعني بعدين من أبعاده، ولم يبق إلا البعد الثالث.والأجسام منها ما يحيط به سطوح مسطحة متقاطعة منعطف بعضها إلى بعض، ومنها ما يحيط به سطوح محدبة أو مقعرة، ومنها ما يحيط به سطوح مختلفة الهيئات متقاطعة منعطف بعضها إلى بعض، ومنها ما يحيط به سطح واحد مستدير. فالجسم الذي يحيط به سطوح متقاطعة وأحد سطوحه مسطح، إذا أدركه البصر، وكان سطحه المسطح مقابلاً للبصر ومواجهاً له وكانت سطوحه الباقية المقاطعة للسطح المواجه قائمة على السطح المواجه أو مائلة عليه إلى جهة التضايق من وراء السطح المواجه ولم يظهر للبصر من هذا الجسم إلا السطح المواجه فقط، فليس يحس البصر من هذا الجسم وأمثاله إلا امتدادها في الطول والعرض فقط، فليس يحس البصر بتجسم الأجسام التي بهذه الصفة. والجسم الذي يحيط به سطوح متقاطعة، إذا أدركه البصر، وكان سطحه المقابل للبصر مائلاً عن مواجهة البصر على أي هيئة كان ذلك السطح، وكان موضع التقاطع من هذا السطح وسطح آخر من سطوح ذلك الجسم يلي البصر، وكان البصر يدرك تقاطع السطحين من الجسم الذي بهذه الصفة، ويدرك السطحين معاً، فلتقاطع السطحين يدرك انعطاف سطح الجسم إلى حيث العمق. وإذا أدرك انعطاف سطح الجسم فهو يدرك امتداد الجسم في ذلك العمق. وهو يدرك من السطح المائل امتداد الجسم في الطول والعرض. وإذا أدرك امتداد الجسم في الطول والعرض والعمق فقد أدرك تجسم الجسم. فالأجسام التي بهذه الصفة ووضعها من البصر هذا الوضع فإن البصر يدرك تجسمها.

وكذلك إذا كان أحد سطوح الجسم مواجهاً للبصر، على أي هيئة كان ذلك السطح، وكانت السطوح المقاطعة لذلك السطح أو أحدها مائلاً على السطح المواجه إلى جهة الاتساع من وراء السطح المواجه، فإن البصر يدرك من هذا الجسم السطح الموجه ويدرك السطح المائل أيضاً أو السطوح المائلة المقاطعة للسطح المواجه، ويدرك تقاطع تلك السطوح. وإذا أدرك التقاطع، وأدرك السطح المواجه، وأدرك السطح المائل أو السطوح المائلة، فهو يدرك انعطاف سطح الجسم في جهة العمق. وإذا أدرك انعطاف الجسم في جهة العمق مع إدراكه لامتداد الجسم في الطول والعرض من السطح المواجه فقد أدرك تجسم الجسم. فالأجسام التي بهذه الصفة أيضاً فإن البصر يدرك تجسمها. وبالجملة فإن كل جسم يدرك البصر من سطحين متقاطعين فإنه يدرك تجسمه.
فأما الجسم الذي فيه سطح محدب إذا كان سطحه المحدب يلي البصر، كان الذي يحيط به سطحاً واحداً أو كان الذي يحيط به سطوحاً كثيرة، مختلفة كانت سطوحه أو متشابهة، فإنه إذا أدركه البصر، وكان سطحه المحدب يلي البصر، وكان البصر يدرك تحديب سطحه، فإنه يدرك تجسمه من إدراكه لتحديب سطحه. وذلك أن السطح المحدب إذا كان مقابلاً للبصر فإن أبعاد أجزائه من البصر تكون مختلفة ويكون وسطه أقرب إلى البصر من حواشيه. وإذا كان البصر يدرك تحديبه فهو يدرك أن وسطه أقرب إليه من أطرافه. فإذا أحس بأن وسطه أقرب من أطرافه وأن أطرافه أبعد أحس بأن السطح منعطف في جهة التباعد. وإذا أحس بانعطاف السطح في جهة التباعد فقد أحس بامتداد الجسم في العمق بالإضافة إلى سطحه المواجه. وهو يدرك امتداد ذلك الجسم في الطول والعرض من إدراكه لامتداد السطح المحدب في الطول والعرض. وكذلك إذا كان سطح آخر من سطوح الجسم غير السطح المواجه للبصر محدباً وأدرك البصر تحديبه، فأنه يدرك امتداده في الأبعاد الثلاثة. فالأجسام التي سطوحها محدبة أو فيها سطح محدب إذا أدرك البصر تحديب سطوحها فإنه يدرك تجسيمها.
فأما الجسم الذي فيه سطح مقعر إذا أدركه البصر وأدرك سطحه المقعر، وأحس البصر مع ذلك بسطح آخر من سطوحه، وأحس بمقاطعته للسطح المقعر، فهو يحس بانعطاف سطح ذلك الجسم. وإذا أحس بانعطاف سطحه فقد أحس بتجسمه. فإن كان سطحه المقعر يلي البصر ولم يظهر للبصر شيء من سطوحه الباقية، فليس يدرك البصر تجسم ذلك الجسم، وليس يدرك البصر من الجسم الذي بهذه الصفة إلا امتداده في بعدين فقط من إدراكه لامتداد السطح المقعر في الطول والعرض. فليس يحس البصر بتجسم ما هذه صفته من الأجسام إلا بتقدم العلم فقط، لا من إحساسه بامتداده في الأبعاد الثلثة. والسطح المقعر يمتد في العمق أيضاً لقرب أطرافه من البصر وبعد وسطه مع امتداده في الطول والعرض. إلا أنه إذا كان التقعير يلي البصر فامتداد السطح المقعر في العمق إنما يدرك منه امتداد الفضاء الذي هو التقعير في العمق، لا امتداد الجسم المبصر الذي ذلك السطح المقعر سطحه.
فإدراك البصر لتجسم الأجسام إنما هو من إدراكه لانعطافات سطوح الأجسام. وانعطافات سطوح الأجسام التي بها يستدل البصر على تجسم الأجسام إنما يدركها البصر من الأجسام التي أبعادها معتدلة التي يتحقق البصر مقادير أبعادها. فأما الأجسام المتفاوتة الأبعاد والأجسام التي ليس يتحقق البصر مقادير أبعادها، فليس يدرك البصر انعطاف سطوحها. وإذا لم يدرك انعطاف سطوحها فليس يدرك تجسمها بحاسة البصر، لأن المبصرات المتفاوتة الأبعاد والتي لا يتحقق البصر مقادير لأبعادها، ليس يدرك البصر أوضاع أجزاء سطوحها بعضها من بعض وليس يدرك سطوحها إلا مسطحة. وإذا لم يدرك البصر أوضاع أجزاء سطوحها بعضها عند بعض فليس يدرك انعطاف سطوحها. وإذا لم يدرك انعطاف سطوحها، ولم يدركها إلا مسطحة، فليس يدرك تجسمها. فليس يدرك البصر تجسم الأجسام المتفاوتة الأبعاد، ولا الأجسام التي لا يتحقق أبعادها ولا يدرك انعطافات سطوحها.
فابصر يدرك تجسم الأجسام من إدراكه لانعطاف سطوح الجسام. وانعطافات سطوح الأجسام من إدراكه لانعطاف سطوح الأجسام. وانعطافات سطوح الأجسام إنما يدركها البصر من المبصرات المعتدلة الأبعاد التي يدرك أوضاع سطوحها بعضها عند بعض. وما سوى ذلك من المبصرات فليس يدرك تجسمها بحاسة البصر، وإنما يدرك تجسمها بتقدم العلم فقط.

إدراك الشكل

فأما الشكل، وهو شكل المبصر، فإنه ينقسم إلى نوعين: أحدهما هو شكل محيط البصر أو محيط جزء من أجزاء سطح المبصر، والنوع الثاني هو شكل تجسم المبصر أو شكل تجسم جزء من أجزاء المبصر، وهذا النوع هو هيئة سطح المبصر الذي يدرك البصر تجسمه أو هيئة الجزء من سطح المبصر الذي يدرك تجسمه. وجميع ما يدركه البصر من أشكال المبصرات ينقسم إلى هذين النوعين.
فأما شكل محيط المبصر فإن الحاس يدركه من إدراكه لمحيط الصورة التي تحصل في تجويف العصبة المشتركة ومن إدراكه لمحيط الجزء من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صورة المبصر، لأن كل واحد من هذين الموضعين يتشكل فيه محيط سطح المبصر، فأي الموضعين اعتبره الحاس أدرك منه شكل محيط البصر. وكذلك شكل محيط كل جزء من أجزاء سطح المبصر يدركه الحاس من إحساسه بترتيب أجزاء نهايات الجزء من أجزاء الصورة. وإذا أراد الحاس أن يتحقق شكل محيط جزء من أجزاء سطح المبصر فإنه يحرك سهم الشعاع على محيط المبصر أو شكل محيط جزء من أجزاء سطح المبصر فإنه يحرك سهم الشعاع على محيط المبصر فتتحرر بالحركة أوضاع أجزاء نهايات صورة السطح أو الجزء من السطح التي في سطح العضو الحاس والتي في تجويف العصبة المشتركة، فيدرك من تحقيق أوضاع نهايات الصورة شكل محيط السطح. فعلى هذه الصفة يكون إدراك شكل محيط سطح المبصر وشكل محيط كل جزء من أجزاء سطح البصر بحاسة البصر.
فأما هيئة سطح المبصر فإنما يدركها البصر من إدراكه لأوضاع أجزاء سطح المبصر ومن تشابه أوضاع أجزاء السطح واختلافها، ويتحقق هيئة السطح من إدراكه لاختلاف أبعاد أجزاء سطح المبصر وتساويها واختلاف ارتفاعات أجزاء سطحه أو تساويها. وذلك أن تحديب السطح إنما يدركه البصر من إدراكه لقرب الأجزاء المتوسطة من السطح وبعد أجزاء محيط السطح أو من اختلاف ارتفاعات أجزائه إذا كان السطح الأعلى من الجسم محدباً. وكذلك تحديب نهاية السطح ليس يدركه البصر إلا من إدراكه لقرب وسطه وبعد طرفيه إذا كان تحديبه يلي البصر، أو من اختلاف ارتفاعات أجزائه إذا كان تحديبه إلى العلو أو إلى الأسفل، أو من اختلاف تيامن أجزائه وتياسرها إذا كان تحديبه متيامناً أو متياسراً.
فأما تقعير السطح، إذا كان التقعير يلي البصر، فإن البصر يدركه من إدراكه لبعد الأجزاء المتوسطة منه وقرب أجزاء محيطه، وكذلك تقعير نهاية السطح إذا كان تقعيره يلي البصر. وليس يدرك تقعير السطح إذا كان التقعير يلي العلو أو السفل أو الجنبتين إلا إذا كان السطح المقعر منقطعاً وظهر تقويس نهايته التي تلي البصر.
فأما استواء السطح فإنما يدركه البصر من إدراكه لتساوي أبعاد أجزائه المتقاربة وتشابه ترتيبها، وكذلك استقامة نهاية السطح إذا كانت النهاية تلي البصر. فأما استقامة نهاية السطح وتقويسه وانحناؤه إذا كان السطح مقابلاً للبصر وكانت النهايات محيطة به، فإن البصر يدركه من ترتيب أجزائه بعضها عند بعض.

فتحديب سطح المبصر الذي يلي البصر وتقعيره واستواؤه إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف أبعاد أجزاء السطح أو ارتفاعاتها أو عروضها وتساويها ومن مقادير تفاضل أبعاد الأجزاء أو ارتفاعاتها أو عروضها بعضها من بعض. وكذلك كل جزء من أجزاء سطح المبصر إنما يدرك البصر تحديبه وتقعيره واستواؤه من إدراكه لتفاضل أبعاد أجزاء ذلك الجزء أو تفاضل ارتفاعاتها أو عروضها وتساويها. ولهذه العلة ليس يدرك البصر التحديب والتقعير إلا من المبصرات التي أبعادها معتدلة والتي يتحقق مقادير أبعادها ومقادير تفاضل أبعادها أو مقادير تفاضل ارتفاعاتها أو عروضها. والبصر يستدل على قرب بعض أجزاء السطح وبعد بعضها بما يجاور السطح من الأجسام وما يسامت أبعاد الأجزاء من الأجسام وما يقرب منها من الأجسام التي يتحقق البصر قربها وبعدها. وإذا كان بعض أجزاء السطح شاخصة وبعضها غائرة، فإن البصر يستدل على شخوص الشاخص منها وغؤور الغائر منها بانعطافات سطوح الأجزاء وتقاطعها وانحنائها في مواضع الغؤور وبأوضاع سطوح الأجزاء بعضها عند بعض. هذا إذا لم يكن البصر أدرك ذلك السطح من قبل ولم يدرك شيئاً من جنسه. فأما إذا كان من المبصرات المألوفة فإن البصر يدرك هيئته وهيئة سطحه بتقدم المعرفة. فأما المبصر الذي يحيط به سطوح متقاطعة ومختلفة الوضع فإن البصر يدرك هيئته من إدراكه لتقاطع سطوحه ومن إدراكه لوضع كل واحد من سطوحه.
فهيئات أشكال المبصرات التي يدرك البصر تجسمها يكون إدراك البصر لها من إدراكه لهيئات سطوحها ومن إدراكه لأوضاع سطوحها بعضها عند بعض. فالمبصرات التي أجزاؤها مختلفة الوضع يدرك البصر هيئة سطوحها من إدراكه لتحديب المحدب من أجزاء سطوحها وتقعير المقعر واستواء المستوي منها وشخوص ما هو شاخص من أجزاء السطح وغؤور ما هو غائر منها. فعلى هذه الصفات يكون إدراك البصر لهيئات سطوح المبصرات وأشكالها. وإذا أراد الحاس أن يتحقق هيئة الجزء من أجزاء سطح المبصر فإنه يحرك البصر في مقابلته ويمر سهم الشعاع على جميع أجزاءه حتى يحس بأبعاد أجزائه ووضع كل واحد منها عند البصر وأوضاع الأجزاء بعضها عند بعض. فإذا أدرك الحاس أبعاد أجزاء سطح المبصر، وأدرك أوضاع أجزاء سطح المبصر، وأدرك الشاخص من الأجزاء والغائر والمتطامن، فقد أدرك هيئة سطح ذلك المبصر وتحقق شكله. فإن كان ما أدركه من مقادير أبعاد أجزاء سطح المبصرات إدراكاً محققاً كان ما أدركه من هيئة شكل المبصر إدراكاً محققاً، وإن كان ما أدركه من مقادير أبعاد أجزاء سطح المبصر إدراكاً غير محقق كان ما أدركه من هيئة شكل المبصر إدراكاً غير محقق. وكثيراً ما يغلط البصر فيما يدركه من هيئات سطوح المبصرات وهيئات أشكال المبصرات ولا يحس بغلطه. وذلك أن التحديب اليسير والتقعير والغضون والجحوظ الذي يكون تفاضل أبعاد أجزائه عن البصر تفاضلاً يسيراً فربما يدرك البصر تفاضلاً يسيراً فربما لم يدرك البصر تفاضلها وإن كانت أبعادها معتدلة إذا لم تكن قريبة جداً من البصر.
فالمبصرات التي يدرك البصر هيئتها وهيئات سطوحها هي التي يدرك البصر مقادير أجزاء سطوحها ويدرك تفاضل أبعاد أجزائها وتساوي أبعاد أجزائها. والتي يتحقق هيئاتها وهيئات سطوحها هي التي يتحقق مقادير أبعاد أجزاء سطوحها ويتحقق مقادير تفاضل أبعاد أجزائها. وكذلك أشكال محيطات سطوح المبصرات، وأشكال محيطات أجزاء سطوح المبصرات إنما يتحقق البصر أشكالها إذا كانت على أبعاد معتدلة ويحقق ترتيب نهاياتها وأوضاع أجزاء نهاياتها بعضها عند بعض ويحقق زواياها. وما ليس يتحقق أوضاع نهاياتها ويتحقق زواياها، إن كان فيها زوايا، فليس يتحقق أشكالها. فجميع أشكال المبصرات يدركها البصر على الصفات التي بيناها.

إدراك العظم

فأما إدراك العظم، وهو مقدار المبصر، فإن كيفية إدراكه من المعاني الملتبسة. وقد اختلف أصحاب التعاليم في كيفية إدراك العظم: فرأى جمهور أصحاب التعاليم آن مقدار عظم المبصر إنما يدركه البصر من مقدار الزاوية التي تحدث عند مركز البصر التي يحيط بها سطح مخروط الشعاع المحيط قاعدته بالمبصر، وأن البصر يقيس مقادير المبصرات بمقادير الزوايا التي تحدثها الشعاعات التي تحيط بالمبصرات عند مركز البصر، ولا يعولون في إدراك العظم إلا على الزوايا فقط ولا يعتدون بشيء غيرها في إدراك العظم. وبعضهم يرى أن إدراك العظم ليس يتم من القياس بالزوايا فقط، بل ليس يتم إدراك العظم إلا باعتبار البصر لبعد المبصر واعتباره لوضعه مع القياس بالزوايا.
والصحيح أنه ليس يصح أن يكون إدراك البصر لمقادير المبصرات من القياس بالزوايا التي توترها المبصرات عند مركز البصر فقط. وذلك أن المبصر الواحد ليس يختلف مقداره عند البصر إذا اختلفت أبعاده اختلافاً ليس بالمتفاوت. فإن المبصر إذا كان قريباً من البصر وأدرك البصر مقداره ثم تباعد عن البصر مقداراً ليس بالمتفاوت فليس يصغر مقداره عند البصر وليس يدرك البصر مقداره إلا على مثل ما كان يدركه من البعد الأول إذا كان البعد الثاني من الأبعاد المعتدلة. وجميع المبصرات المألوفة ليس يختلف مقدار الواحد منها عند البصر إذا اختلفت أبعاده وكانت أبعاده مع اختلافها من الأبعاد المعتدلة.
وكذلك الأشخاص المتساوية المختلفة الأبعاد إذا كان بعد أبعادها من الأبعاد المعتدلة فليس يدركها البصر إلا متساوية. والزوايا التي يوترها المبصر الواحد من الأبعاد المختلفة المعتدلة تكون مختلفة اختلافاً له قدر. فإن المبصر إذا كان بعده من البصر بعد ذراع ثم تباعد عن البصر حتى يصير بعده بقدر ذراعين فإن الزاويتين اللتين تحدثان عند البصر من ذلك المبصر يكون بينهما تفاضل له قدر. وليس يدرك البصر المبصر من ذراعين أصغر مما يدركه من بعد ذراع واحد. وكذلك إن تباعد المبصر عن البصر ثلث أذرع وأربع أذرع فليس يرى أصغر مما كان يرى من البعد الأول. وإذا تباعد المبصر عن البصر أضعاف بعده الأول اختلفت الزوايا التي يحدثها عند البصر اختلافاً متفاوتاً. وكذلك المبصرات المتساوية التي أبعادها على هذه الصفة تكون الزوايا التي توترها عند مركز البصر مختلفة اختلافاً متفاوتاً، ومع ذلك فليس ترى مقاديرها مختلفة ولا ترى إلا متساوية.
وأيضاً فإنه إن رسم في سطح جسم من الجسام شكل مربع متساوي الأضلاع قائم الزوايا ورفع ذلك الجسم حتى يصير سطحه الذي فيه المربع قريباً من موازاة البصر وبحيث يدرك البصر مع ذلك الشكل المربع الذي في سطحه، فإن البصر يدرك الشكل المربع متساوي الأضلاع، ومع ذلك فإن الزوايا التي توترها أضلاع المربع عند مركز البصر إذا كان مركز البصر قريباً من السطح الذي فيه المربع تكون مختلفة اختلافاً متفاوتاً، ومع هذه الحال فليس يدرك البصر أضلاع المربع مختلفة.
وكذلك الدائرة إذا أخرج فيها أقطار مختلفة الوضع، ثم رفع السطح الذي فيه الدائرة حتى يصير قريباً من موازاة البصر، فإن الزوايا التي توترها أقطار الدائرة عند مركز البصر إذا كانت الأقطار مختلفة الوضع تكون مختلفة اختلافاً كثيراً بحسب اختلاف وضع الأقطار. ومع ذلك فليس يدرك البصر أقطار الدائرة وإن كانت مختلفة الأوضاع إلا متساوية إذا كان بعدها من البصر من الأبعاد المعتدلة.
فلو كان إدراك البصر لمقادير المبصرات إنما هو من قياسها بالزوايا فقط التي تحدثها المبصرات عند مركز البصر لما كان يدرك أضلاع المربع المتساوي الأضلاع متساوية، ولا أقطار الدائرة متساوية، ولما كان يدرك الدائرة مستديرة، ولما كان يدرك المبصر الواحد من الأبعاد المختلفة قط على مقدار واحد إن كانت أبعاده المختلفة من الأبعاد المعتدلة، ولما كان يدرك المبصرات المتساوية المختلفة الأبعاد التي أبعادها معتدلة قط متساوية. فمن الاعتبار بهذه المعاني يتبين بياناً واضحاً أن إدراك مقادير المبصرات ليس هو من القياس بالزوايا فقط.

وإذ قد تبين ذلك فإننا نحرر الآن كيفية إدراك العظم فنقول: إنه قد تبين أن المعول في إدراك أكثر المعاني المحسوسة إنما هو على القياس والتمييز، وأنه لولا القياس والتمييز لم يرك أكثر المعاني المحسوسة عند الحس. والعظم هو أحد المعاني التي تدرك بالقياس والتمييز. والأصل الذي تعتمد عليه القوة المميزة في تمييز مقدار عظم المبصر إنما هو مقادير الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر. والجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر ينحصر ويتقدر بالزاوية التي عند مركز البصر التي يحيط بها مخروط الشعاع الذي يحيط بالمبصر ويحيط بالجزء من المبصر الذي تحصل فيه صورة المبصر. فالجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر والزاوية التي يحيط بها مخروط الشعاع المحيط بذلك الجزء هما الأصل الذي لا يستغني التمييز والحس في إدراك عظم المبصر عن الاعتبار بهما وبمقدار كل واحد منهما.
إلا أنه ليس يقتنع التمييز في إدراك العظم باعتبار الزاوية فقط أو اعتبار الجزء من البصر الذي يوتر الزاوية . وذلك أن المبصر الواحد إذا أدركه البصر وهو قريب منه فإن الحاس يدرك الموضع من البصر الذي حصلت فيه صورة ذلك المبصر ويدرك مقدار ذلك الموضع. ثم إذا تباعد ذلك المبصر في الحال عن إدراكه ابصر أيضاً وأدرك الحاس الموضع من البصر الذي تحصل فيه صورته في الحال الثانية وأدرك مقدار الموضع. فإذا تباعد المبصر عن البصر فإن الموضع الذي تحصل فيه صورته من المبصر يكون أصغر من الموضع الأول، لأن موضع الصورة من البصر يكون بحسب مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر عند مركز البصر، لأن مخروط الشعاع يحيط بالجميع وكلما تباعد المبصر ضاق المخروط المحيط به وضاقت زاوية المخروط وصغر الموضع من البصر الذي تحصل فيه الصورة. فإذا كان الحاس يدرك الموضع الذي تحصل فيه صورة المبصر ويدرك مقدار الموضع فهو يدرك تصاغر الموضع عند تباعد المبصر عن البصر.
وهذا المعنى كثيراً ما يتكرر على البصر دائماً، أعني تباعد المبصر وقربه. فإن المبصرات تبعد دائماَ عن البصر ويبعد البصر عنها دائما ًوتقرب من البصر ويقرب منها البصر دائماً، والبصر يدركها مع تباعدها ويدرك تصاغر مواضع صورها عند البصر من تباعدها ويدرك تعاظم مواضع صورها من البصر عند تقاربها. فمن تكرر هذا المعنى على البصر قد تقرر في النفس وعند القوة المميزة أن المبصر كلما تباعد عن البصر صغر موضع صورته من البصر وصغرت الزاوية التي يوترها المبصر عند مركز البصر. وإذا تقرر في التمييز أن المبصر كلما تباعد عن البصر صغر موضع صورته من البصر وصغرت الزاوية التي يوترها المبصر عند مركز البصر، فقد استقر في التمييز أن الموضع الذي تحصل فيه صورة المبصر والزاوية التي يوترها المبصر عند مركز البصر إنما يكونان بحسب بعد المبصر عن البصر. وإذا كان قد استقر في النفس أن الزاوية والموضع من البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر إنما يكونان بحسب بعد المبصر ، فالقوة المميزة عند تمييزها لمقدار المبصر ليس تعتبر بالزاوية فقط وإنما تعتبر بالزاوية والبعد معاً، لأنه قد استقر عندها أن الزاوية إنما تكون بحسب البعد. فمقدار المبصرات إنما يدرك بالتمييز والقياس. والقياس الذي يدرك به مقدار المبصر هو قياس قاعدة مخروط الشعاع التي هي سطح المبصر بزاوية المخروط وبمقدار طول المخروط الذي هو بعد المبصر عن البصر، واعتبار القوة المميزة إنما هو بالجزء من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صورة المبصر مع الاعتبار ببعد المبصر عن سطح البصر. إلا أن مقدار الجزء الذي تحصل فيه الصورة إنما يكون أبداً بحسب الزاوية التي يوترها ذلك الجزء عند مركز البصر، وبعد المبصر عن سطح البصر ليس بينه وبين بعده عن مركز البصر في أكثر الأحوال تفاوت يؤثر في البعد.

وأيضاً فإنه قد تبين أن الحاس يدرك السموت التي بين مركز البصر وبين المبصر التي هي سموت خطوط الشعاع ويدرك ترتيب السموت وترتيب المبصرات وترتيب أجزاء المبصر. وإذا كان الحاس يدرك السموت التي تمتد إلى المبصرات فالقوة المميزة تدرك أن هذه السموت كلما تباعدت عن البصر اتسعت المسافات التي بين أطرافها. وهذا المعنى قد تكرر أيضاً على القوة المميزة واستقرت صورته في النفس. وإذا استقر في النفس أن خطوط الشعاع كلما امتدت وبعدت عن البصر اتسعت المسافات التي بين أطرافها فقد استقر في النفس أن خطوط الشعاع كلما بعدت عن البصر كان المبصر الذي عند أطرافها الذي تحيط به تلك الخطوط أعظم. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وأدرك نهاياته فإنه يدرك السموت التي منها يدرك نهايات ذلك المبصر. والسموت التي منها يدرك نهايات المبصر هي الخطوط التي تحيط بالزاوية التي عند مركز البصر التي يوترها ذلك المبصر، وهي الخطوط التي تحيط بالموضع من البصر التي فيه تحصل صورة المبصر. فإذا أدرك البصر هذه السموت تخيلت القوة المميزة امتداد هذه الخطوط من مركز البصر إلى نهايات المبصر. وإذا كانت مع ذلك قد أدركت مقدار بعد المبصر فهي تتخيل مقدار أطوال هذه الخطوط وتتخيل مقدار المسافة التي بين أطراف هذه الخطوط. والمسافات التي بين أطراف هذه الخطوط هي أقطار المبصر. وإذا تخيلت القوة المميزة مقدار الزاوية وامتداد خطوط الشعاع التي تحيط بالزاوية ومقادير أطوال هذه الخطوط، وتخيلت مقادير المسافات التي بين أطراف هذه الخطوط التي هي أقطار المبصر، فقد أدركت مقدار المبصر على ما هو عليه.
وكل مبصر يدركه البصر ويدرك نهايته فإن الحاس والقوة المميزة يدركان السموت التي تمتد بين مركز البصر وبين نهاياته، ويدركان مقدار الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر الذي تحيط به تلك السموت ويوتر الزاوية التي تحيط بها تلك السموت. وإذا أدركت القوة المميزة سموت خطوط الشعاع وأدركت مقدار الجزء من سطح العضو الحاس الذي تحيط به تلك الخطوط فقد أدركت وضع بعضها من بعض وأدركت تفاوتها أو تباعدها وأدركت كيفية امتدادها، ولم يبق شيء يتم به إدراك عظم المبصر الذي عند أطراف تلك الخطوط إلا مقدار بعد المبصر.
وقد تبين في كيفية إدراك البعد أن كل مبصر يدركه البصر فإنه يدرك بعده بمقدار ما إما متيقناً أو مظنوناً. فكل مبصر يدركه البصر فإنه في حال إدراكه له قد تخيلت القوة المميزة مقدار بعده إما بالتيقن وإما بالحدس. وإذا أدركت القوة المميزة أوضاع خطوط الشعاع التي تحيط بنهايات المبصر ومقدار الجزء الذي بينها من سطح العضو الحاس الذي هو مقدار الزاوية، وكانت مع ذلك تتخيل مقدار بعد المبصر، فإنها في حال إدراك البصر للمبصر قد تخيلت مقدار الزاوية ومقدار البعد معاً، فإذا تخيلت مقدار الزاوية ومقدار البعد معاً فإنها تدرك مقدار المبصر بحسب مقدار الزاوية وبحسب مقدار البعد معاً فإنها تدرك مقدار المبصر بحسب مقدار الزاوية وبحسب مقدار البعد معاً. وكل مبصر يدركه البصر فإن القوة المميزة تتخيل مقدار بعده وتتخيل السموت التي تحيط بنهاياته، فيحصل لها بهذا التخيل هيئة المخروط الذي يحيط بالمبصر ومقدار قاعدته التي هي المبصر، فيحصل لها من هذا التخيل مقدار المبصر.

والذي يدل دليلاً ظاهراً على أن إدراك عظم المبصر يكون بقياس العظم إلى بعد المبصر هو أن البصر إذا أدرك مبصرين مختلفي البعد أحدهما اقرب إلى البصر من الآخر، وكانا يوتران زاوية واحدة بعينها عند مركز البصر، أعني أن تكون الشعاعات التي تمر بأطراف الأول منها تنتهي إلى أطراف الثاني، وكان الأول لا يستر جميع الثاني من جميع جهاته، بل كان بعض الثاني يظهر من وراء الأول، وكان البصر يدرك بعد كل واحد منهما إدراكاً متيقناً، فإن المبصر الأبعد يدركه البصر أبداً أعظم من المبصر الأقرب، وكلما كان المبصر الأبعد أكثر بعداً وكان البصر يتيقن مقدار بعده، فإنه يدرك مقداره أكثر عظماً. ومثال ذلك أن الإنسان إذا نظر إلى جدار فسيح الأقطار وكان بعده من البصر بعداً معتدلاً وكان البصر يتيقن بعد ذلك الجدار ويتيقن مقدار عرضه، ثم رفع يده وقابل بها أحد بصريه حتى تصير متوسطة بين بصره وبين ذلك الجدار وغمض البصر الآخر ونظر في هذه الحال إلى ذلك الجدار، فإنه يجد يده قد سترت قطعة عظيمة القدر من ذلك الجدار ويدرك مقدار يده في تلك الحال ويدرك أن المقدار الذي استتر بيده من الجدار أعظم بكثير من مقدار يده. وخطوط الشعاع التي تنتهي إلى محيط يده وإلى محيط المستتر من الجدار في تلك الحال هي خطوط واحدة بأعيانها، والزاوية التي تحيط بها تلك الخطوط هي زاوية واحدة بعينها، والعرض الذي بين تلك الخطوط هو واحد بعينه، والبصر يدرك سموت خطوط الشعاع ويدرك الزاوية التي توترها يده والجدار المستتر بيده هي زاوية واحدة بعينها، وهو يدرك تلك الحال أن الجدار المستتر بيده أعظم كثيراً من يده. وإذا كان ذلك كذلك فإن القوة المميزة في تلك الحال تدرك أن المبصرين المختلفي البعد اللذين يوتران زاوية واحدة يكون الأبعد منهما أعظم قدراً.
ثم إذا ميل الناظر بصره في تلك الحال، ونظر إلى جدار أخر هو أبعد من ذلك الجدار وقابل بصره بيده فإنه يجد مقدار المستتر من الجدار الثاني أعظم من مقدار ما استتر من الجدار الأول. وإذا نظر في تلك الحال إلى السماء فإنه يجد يده قد سترت نصف ما يظهر من السماء أو قطعة عظيمة منها.ولا يشك الناظر في أن يده ليس لها قدر محسوس بالقياس إلى ما استتر من السماء. فيتبين من هذا الاعتبار أن البصر يدرك مقدار عظم المبصر من قياس عظم المبصر بمقدار بعده مع القياس بالزاوية، لا من القياس بالزاوية فقط. ولو كان إدراك مقدار العظم بحسب الزاوية فقط لكان المبصران المختلفا البعد اللذان يوتران زاوية واحدة بعينها عند مركز البصر يريان متساويين. وليس يدرك البصر المبصرين اللذين بهذه الصفة قط متساويين إذا كان يدرك بعديهما ويتيقن مقداري بعدهما. فمقدار عظم المبصر إنما يدرك بالتمييز من تخيل القوة المميزة للمخروط الذي يحيط بالمبصر ومن تخيلها لمقدار زاوية المخروط مع تخيلها لمقدار طول المخروط ومن قياس قاعدة المخروط بمقدار زاويته ومقدار طوله معاً. وهذا هو كيفية إدراك العظم.
والبصر لكثرة اعتياده لتمييز أبعاد المبصرات فهو في حال إحساسه بالصورة وببعد المبصر قد تخيل مقدار موضع الصورة ومقدار البعد، وأدرك من مجموع المعنيين عظم البصر. إلا أن مقادير أبعاد المبصرات هي من جملة الأعظام التي يدركها البصر. وقد تقدم أن مقادير أبعاد المبصرات منها ما يدرك بالتيقن ومنها ما يدرك بالحدس. والتي تدرك بالحدس إنما تدرك من تشبيه بعد المبصر بأبعاد أمثاله من المبصرات المتيقنة البعد، والأبعاد المتيقنة المقادير هي التي تسامت أجساماً مرتبة متصلة. ومن إدراك البصر للأجسام المرتبة المتصلة التي تسامتها ومن تيقنه لمقادير تلك الأجسام يكون تيقن مقادير أبعاد المبصرات التي عند أطرافها. فقد بقي أن نبين كيف يدرك البصر مقادير أبعاد المبصرات التي تسامت أجساماً مرتبة متصلة وكيف يتبين مقادير الأجسام المرتبة المتصلة التي تسامت أبعاد المبصرات.

والأجسام المرتبة المتصلة التي تسامت أبعاد المبصرات هي في الأكثر أجزاء الأرض التي تلي القدمين. والمبصرات المألوفة التي يدركها البصر دائماً وعلى الاستمرار هي المبصرات التي على وجه الأرض التي جسم الأرض متوسط بينها وبين جسم الإنسان الناظر إليها. ومقادير الأجزاء من الأرض المتوسطة بين الناظر وبين المبصرات التي على وجه الأرض التي تسامت أبعاد هذه المبصرات عن البصر يدركها البصر دائماً ويقدرها ويدرك مقاديرها. وإدراك البصر لمقادير الأجزاء من الأرض المتوسطة بين الناظر وبين المبصرات التي على وجه الأرض إنما هو من تقديره بعضها ببعض ومن تقدير ما بعد عنه من أجزاء الأرض بما قرب إليه منها وما تيقن منها. ثم من استمرار إدراكه لأجزاء الأرض واستمرار تقديره لها وكثرة تكرر هذا المعنى على البصر صار يدرك مقادير أجزاء الأرض التي تلي القدمين بالمعرفة وبتشبهها بما أدركه من أمثالها. فالبصر إذا لحظ الجزء من الأرض المتوسطة بينه وبين مبصر من المبصرات فقد عرف مقداره لكثرة تكرر إدراكه لأمثال ذلك الجزء من الأرض وتوسط أمثال ذلك الجزء بينه وبين المبصرات. وهذا المعنى هو من المعاني التي يكتسبها الحاس منذ أول النشوء ومنذ الطفولية وعلى مر الزمان، فتحصل مقادير أبعاد المألوف من المبصرات متشكلة في التخيل ومستقرة في النفس من حيث لا يحس الإنسان بكيفية استقرارها.
فإما كيف ابتداء إدراك الحاس لمقادير أجزاء الأرض المتوسطة بينه وبين المبصرات فإن أول ما يتحقق مقداره منها هو ما يلي القدمين. فإن ما يلي القدمين من الأرض يدرك البصر مقداره، وتدرك القوة المميزة مقداره وتتحقق مقداره وسعته بمساحة جسم الإنسان له. فإن ما يلي القدمين من الأرض فالإنسان يقدره دائماً من غير قصد بقدميه حين يخطو عليه وبذراعه وباعه حين يمد يده إليه. فكل ما قرب من الإنسان من جسم الأرض فهو يتقدر دائما ًبجسم الإنسان من غير قصد. والبصر يدرك هذا التقدير ويحس به، والقوة المميزة تدرك هذا التقدير وتفهمه وتتيقن منه مقادير أجزاء الأرض المتصلة بجسم الإنسان والقريبة منه. فمقادير أجزاء الأرض القريبة من الإنسان وما حوله منها فقد حصلت مفهومة عند الحاس وعند القوة المميزة، وقد حصلت صورتها متخيلة عند القوة المميزة ومستقرة في النفس. والبصر يدرك هذه الجزاء من الأرض دائماً، والحاس يحس بالسموت التي تمتد من البصر إلى أطراف هذه الأجزاء عند إدراك البصر لها وعند تفقد البصر لجسم الأرض والأبعاد المتوسطة بينه وبين المبصرات من جسم الأرض، ويدرك الأجزاء من سطح العضو الحاس التي تحصل فيها صورة هذه الأجزاء من الأرض، ويدرك مقادير الأجزاء من البصر ومقادير الزوايا التي توترها هذه الجزاء من البصر. فالزوايا التي توترها الأجزاء من الأرض القريبة من الإنسان قد حصلت مقاديرها مفهومة عند الحاس على مر الزمان وحصلت صورتها متخيلة في النفس. ومقادير أطوال خطوط الشعاع التي تمتد من مركز البصر إلى أطراف الأجزاء من الأرض القريبة من الإنسان يدركها الحاس وتدركها القوة المميزة وتتيقن مقاديرها، لأن أطوال هذه السموت هي تتقدر أبداً بجسم الإنسان بغير قصد. فإن كان الإنسان قائماً ونظر إلى الأرض وإلى ما يلي قدميه من الأرض فإن أطوال خطوط الشعاع تتقدر بقامته، وتفهم القوة المميزة فهماً يقينياً أن البعد الذي بين البصر وبين الجزء من الأرض الذي يلي القدمين هو مقدار قامة الإنسان.
وكذلك إن كان جالساً ونظر إلى ما يلي جلسته من الأرض ، فإن القوة المميزة تدرك أن بعد الجزء من الأرض الذي يلي موضع جلوسه عن البصر هو مقدار ارتفاع جلسته. فأبعاد المواضع من الأرض المتصلة بجسم الإنسان مفهومة المقادير عند القوة المميزة وصورها مستقرة في النفس. فإذا لحظ البصر الجزء من الأرض الذي يلي القدمين فقد أدرك الحاس السموت التي تنتهي إلى أطراف ذلك الجزء وتخيلت القوة المميزة مقادير أطوال السموت التي تنتهي إلى أطرافها ومقادير الزوايا التي تحيط بها تلك السموت. وإذا تخيلت القوة المميزة مقادير أطوال السموت ومقادير الزوايا التي تحيط بها السموت أدركت مقدار المسافة التي بين أطراف تلك السموت إدراكاً متيقناً. فعلى هذه الصفة تتيقن مقادير الأجزاء من الأرض المحيطة بالإنسان بحاسة البصر.

ثم ما يلي هذه الأجزاء من الأرض في جهة التباعد يدرك البصر مقاديرها من قياس مقادير خطوط الشعاع التي تمتد إلى أطرافها بمقادير خطوط الشعاع التي تمتد إلى الجزاء الأول التي تلي الإنسان، فتقيس القوة المميزة الشعاع الثالث الذي ينتهي إلى الطرف الأبعد من الجزء الثاني بالشعاع الثاني المشترك للجزء الأول وللجزء الثاني، فتحس بمقدار زيادة الشعاع الثالث على الثاني. وإذا أحست بزيادة الشعاع الثالث على الثاني فقد أحست بمقدار الشعاع الثالث. وهي تدرك مقدار الشعاع الثاني إدراكاً متيقناً، فيصير الشعاعان المحيطان بالجزء الثاني من الأرض، أعني بعدي السمتين، معلومي المقدار عند القوة المميزة. ووضع أحدهما عند الآخر الذي منه تتقوم الزاوية معلوم لها من إدراكها للجزء من البصر الذي يحيط به هذان الشعاعان. وإذا أدركت طولي الشعاعين ووضعهما فقد أدركت المسافة التي بين طرفيها إدراكاً متيقناً. فعلى هذه الصفة تدرك القوة المميزة أيضاً مقادير الأجزاء من الأرض التي تلي الأجزاء المحيطة بالقدمين.
وأيضاً فإن الأجزاء التي تلي الأجزاء المحيطة بالقدمين هي تتقدر أيضاً بجسم الإنسان. فإن الإنسان إذا مشى على الأرض يقدر ما يمشي عليه من الأرض بقدميه وخطوه وأدركت القوة المميزة مقداره. وإذا مشى الإنسان على الأرض فإنه إذا تجاوز الموضع الذي كان فيه والأجزاء المتصلة بقدميه من الأرض، وصار إلى ما يلي تلك الأجزاء من سطح الأرض، فإن الأجزاء التي تنتهي إليها التي كانت تالية لما يلي قدميه تصير هي التي تلي قدميه وتتقدر كمثل ما تقدرت الأجزاء الأول. فتتحقق مقادير الأجزاء التوالي من الأرض على هذه الصفة، ويصير البصر يدرك التالي على مثل ما كان يدرك الأول. فإذا أدرك البصر الجزء الثاني في الحال الثانية وهو يلي القدمين فهو يدرك مقداره إدراكاً متيقناً لا لبس فيه، وقد أدركه في الحالة الأولى تالياً، فيتحقق له بالإدراك الثاني الإدراك الأول. فإن لم يكن مقداره تحقق بالقياس الأول تحقق بالقياس الثاني، وتحرر له القياس الأول، فيصير من بعد ذلك إذا أدرك جزءاً تالياً من أجزاء الأرض لم يغلط في قياس مقداره. وهذا التقدير وهذا التمييز يدركه الحاس ويقدره دائماً من غير قصد، بل من نظر البصر دائماً إلى أجزاء الأرض وإلى المواضع التي يخطو عليها الإنسان يدرك الحاس والتمييز هذا المعنى بطريق العرض من غير قصد، ثم من استمرار هذا المعنى وكثرة تكرره وتكرر إدراك البصر لمقادير أجزاء الأرض قد تحررت مقادير الأجزاء التي تلي القدمين من الأرض ومقادير ما يليها ويتصل بها من الأجزاء من جسم الأرض. فعلى هذه الصفة يكتسب الحاس والتمييز مقادير أجزاء الأرض المحيطة بالإنسان والقريبة منه المتوسطة بين ابصر وبين المبصرات. وهذا الاكتساب يكون في أول النشوء، ثم تستقر مقادير أبعاد المبصرات المألوفة التي على وجه الأرض عند الحاس وعند القوة المميزة، فيصير إدراك أبعاد هذه المبصرات المألوفة التي على وجه الأرض بالمعرفة ومن تشبيه أبعاد بعضها بأبعاد بعض وفي حال ملاحظة الأجسام المتوسطة بينها وبين البصر ومن غير استئناف تمييز وقياس بل بالمعرفة والتشبيه فقط.
ولسنا نعني بإدراك الحاس والتمييز لمقادير أبعاد المبصرات التي على وجه الأرض بالاكتساب أن يدرك كم ذراع هو كل بعد من الأبعاد، ولكنه يحصل لكل بعد ولكل جزء من الأرض مقدار متخيل محصور، فيقيس مقادير أبعاد المبصرات التي يدركها من بعد بتلك المقادير المحصورة التي حصلت عنده ويشبهها به. وقد حصل للذراع أيضاً وللشبر ولكل واحد من المقادير التي يقاس بها مقدار محصور عنده، فمتى أدرك الناظر بعداً ما أو مسافة ما وأحب أن يعلم كم ذراع هي ، قاس الصورة التي حصلت في التخيل لذلك البعد أو تلك المسافة بالصورة التي حصلت في التخيل للذراع، فيدرك بهذا القياس كمية البعد بالقياس إلى الذراع أو ما يجري مجراه على غاية ما يمكن من التقريب بالتخيل. ولهذا يقول الإنسان كان بيني وبين فلان عشر خطوات أو خمس خطوات أو كذا ذراعاً أو قيد رمح أو شوط فرس أو غلوة سهم، إذا قاس البعد الذي بينه وبين ذلك الإنسان بالخطوة أو بالذراع أو بالباع أو إحدى المقادير التي لها صورة في نفسه.

وأيضاً فإن من عادة الإنسان إذا أراد أن يتحقق معنى من المعاني فإنه يكرر النظر إليه ويتأمله ويميز معانيه ويعتبرها فيدرك بالتأمل والتمييز وتكرير النظر حقيقة ذلك المعنى. فالناظر إذا أدرك مبصراً من المبصرات التي على وجه الأرض وأراد أن يتحقق بعده فإنه يتأمل الجزء المتصل من الأرض بينه وبينه ويحرك البصر في طول الجزء الذي بينه وبينه. وإذا تحرك البصر في طول الجزء من الأرض الذي بين المبصر وبين الناظر إليه تحرك سهم الشعاع على ذلك الجزء فمسحه مساحة وأدركه جزءاً جزءاً وأحس بأجزائه الصغار إذا كان بعد آخر المسافة من الأبعاد المعتدلة. وإذا أدرك البصر أجزاء الأرض وأدرك أجزائها الصغار أدركت القوة المميزة مقدار جميع المسافة. وذلك بأن بحركة سهم الشعاع على المسافة يتحرر للقوة المميزة مقدار الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة تلك المسافة ومقدار الزاوية المتوهمة التي توترها تلك المسافة ومقدار طول الشعاع الذي يمتد إلى آخر المسافة بتيقنه امتداده على مسامته جزء جزء من المسافة. فإذا تحرر هذان المعنيان للقوة المميزة فقد تحرر مقدار الجزء المبصر من الأرض. وكذلك الأجسام المرتفعة على الأرض الممتدة في جهة التباعد كالجدران والأبنية والجبال يدرك البصر مقادير أطوالها الممتدة على وجه الأرض على مثال ما يدرك مقادير أجزاء الأرض، ويدرك أبعاد المبصرات المسامتة لها من إدراكه لمقادير أطوالها. فعلى هذه الصفة يتحقق البصر مقادير أبعاد المبصرات إذا كانت أبعادها من الأبعاد المعتدلة وكانت مسامته لأجسام مرتبة متصلة.
والمبصرات التي على وجه الأرض منها ما أبعادها معتدلة ومقادير الأجزاء من الأرض المتوسطة بينها وبين البصر مقادير معتدلة، ومنها ما أبعادها متفاوتة وخارجة عن حد الاعتدال، ومقادير الأرض المتوسطة بينها وبين البصر متفاوتة العظم.
ومقادير أجزاء الأرض يدركها البصر على الوجه الذي بيناه. فما كان منها قريباً ومعتدل المقدار فالبصر يدرك مقاديرها ويتحقق مقاديرها على الوجه الذي بيناه، وما كان منها متفاوتاً في التباعد فليس يتحقق البصر مقداره ولا يقدر على تحققه.
وذلك أن البصر إذا اعتبر المسافات وتأملها فإن ما يدرك مقاديرها ما دام يحس بزيادة طول الشعاع وما دام يحس بالزوايا التي توترها الأجزاء الصغار من أجزاء المسافة عند حركة السهم على المسافة.
وهو يتحقق مقدار المسافة ما دام يحس بالزيادة اليسيرة في طول الشعاع وبالزيادة اليسيرة في الزاوية التي توترها المسافة.
وإذا تفاوت البعد لم يحس بالزيادة اليسيرة في طول الشعاع ولم يحس في حركة الشعاع على الجزء الصغير من المسافة الذي بعده متفاوت ولم يحس بالزاوية التي يوترها الجزء الصغير من البعد المتفاوت، فلا يتحقق طول الشعاع الذي ينتهي إلى طرف المسافة ولا يتحقق مقدار الزاوية التي توترها تلك المسافة وإذا لم يتحقق طول الشعاع الذي ينتهي إلى طرف المسافة ولم يتحقق مقدار الزاوية التي توترها المسافة لم يتحقق مقدار المسافة.
وأيضاً فإنه إذا تفوت البعد فإن الأجزاء الصغار من المسافة التي في آخر المسافة ليس يدركها البصر ولا تتميز للبصر لأن المقدار الصغير إذا كان على بعد متفاوت خفي عن البصر. فإذا تحرك سهم الشعاع على المسافة البعيدة المتفاوتة، فهو إذا انتهى إلى البعد المتفاوت فإنه يقطع الجزء الصغير من المسافة ولا يحس الحاس بحركته، لأن الجزء الصغير ليس يفعل عند مركز البصر من البعد المتفاوت زاوية محسوسة، فيصير سهم الشعاع إذا تحرك على المسافة البعيدة وأحس البصر بأنه قد قطع جزءاً من المسافة فإن مقدار ذلك الجزء الذي قطعه ليس هو المقدار الذي أدركه الحس بل هو أعظم مما أدركه الحس وكلما زاد بعد المسافة كانت الأجزاء التي تخفى عند آخر المسافة وتخفى حركة الشعاع عليها أعظم. فالأبعاد المتفاوتة التي على وجه الأرض ليس يتحقق البصر مقاديرها لأنه ليس يتحقق مقدار طول الشعاع الذي ينتهي إلى آخرها ول مقدار الزاوية التي توترها تلك المسافة.

وأيضاً فإن الحاس يحس بتيقن مقدار المسافة والتباس حقيقة مقدار المسافة. وذلك أن المبصرات ما كان منها قريباً من البصر على أبعاد معتدلة فإنها تكون أصدق رؤية، أعني أن صورها تكون أبين ويدركها البصر إدراكاً أبين وتكون ألوانها بينة وأضواؤها ظاهرة وأوضاع سطوحها عند البصر وأوضاع أجزائها وصورة أجزائها وأجزاء سطوحها تكون بينة للبصر، وإذا كان فيها تخطيط أو غضون أو وشوم أو أجزاء صغار متميزة ظهرت للبصر ظهوراً بيناً وأدركها البصر إدراكاً محققاً. وليس كذلك المبصرات المتفاوتة الأبعاد، فإن المبصر إذا كان على بعد متفاوت فليس يتحقق البصر صورته على ما هي عليه ولا يكون بيناً للبصر، فلونه يكون متشابهاً وضوؤه وهيئة سطوحه ولا يظهر فيه شيء من المعاني اللطيفة ولا من الأجزاء الصغار. وهذا المعنى ظاهر للحس، فالبصر في حال ملاحظة المبصر يحس بتحقق صورته واشتباهها. فإذا أدرك البصر مسافة من المسافات التي على وجه الأرض فإنه في حال ملاحظته لآخرها ومن ملاحظته لبعض المبصرات التي في آخرها قد أحس أنها من المسافات المعتدلة المقدار أو المسافات المتفاوتة المقدار من تحققه لصورة آخرها أو لصورة مبصر من المبصرات التي عند آخرها أو من التباس الصورة واشتباهها. فإن تحقق صورة آخرها أو صورة المبصر الذي عند آخرها وجد الصورة بينة وتأمل مع ذلك المسافة و ميز مقدارها على الوجه الذي تقدم فهو يتحقق مقدار تلك المسافة. وإذا تحقق مقدار المسافة التي بهذه الصفة فالقوة المميزة تدرك أن مقدار تلك المسافة متيقن من إدراكها لظهور صورة آخرها أو صورة المبصر الذي عند آخرها. وإن لم يتحقق صورة آخرها أو صورة مبصر من المبصرات التي عند آخرها فليس يتحقق مقدار تلك المسافة، ومع ذلك فالقوة المميزة عند تأمل تلك المسافة تدرك أن تلك المسافة غير متيقنة المقدار من التباس صورة آخرها وصورة المبصر الذي عند آخرها.
فمقادير أبعاد المبصرات تتميز للبصر عند تأملها وتتحقق كيفية إدراكه لمقاديرها عند تأملها. والناظر إذا أراد أن يتحقق مقدار المبصر ويتحقق مقدار بعد المبصر فإنه يتأمل البعد ويميزه وإذا تأمل البعد وميزه تميز له البعد المتيقن من البعد الملتبس عن الوجه الذي تبين. فأبعاد المبصرات ليس منها شي يتيقن مقداره إلا الأبعاد التي تسامت أجساماً مرتبة متصلة وتكون مع ذلك من الأبعاد المعتدلة. والتي بهذه الصفة من الأبعاد فالبصر يدرك مقاديرها على الوجه الذي بيناه وحددناه ويتيقن مقاديرها ويحس بتبينه لمقاديرها. وما سوى ذلك من أبعاد المبصرات فليس منها شيء يتحقق مقداره بحاسة البصر، وإن ما يحدس الحاس عليه حدساً ويشبهه تشبيهاً فيشبه بعد البصر ببعد أمثاله من المبصرات المألوفة التي قد تيقن مقادير أبعادها. وإذا أحس البصر بالتباس صورة المبصر من أجل بعده كان شاكاً في مقدار بعده مع حدسه على مقداره.فالبعد المعتدل الذي يتحقق البصر مقداره هو البعد الذي ليس يخفى عند آخره جزءاً له نسبة محسوسة بالقياس إلى جميع البعد. والبعد المعتدل بالقياس إلى المبصر الذي منه يدرك البصر حقيقة مقدار المبصر هو البعد المعتدل الذي ليس يخفى عند آخره جزء من المبصر له نسبة محسوسة بالقياس إلى مقدار المبصر إذا تفقد البصر ذلك الجزء منفرداً. فكل مسافة يكون كل جزء من آخرها لطوله نسبة محسوسة إلى الجزء منفرداً. فكل مسافة يكون كل جزء من آخرها لطوله نسبة محسوسة إلى مقدار طول المسافة يدركه البصر، ولا يخفى عن البصر من أجزاء المسافة التي عند آخرها إلا ما ليس له نسبة محسوسة إلى طول تلك المسافة، فإن تلك المسافة من الأبعاد المعتدلة. والبعد الخارج عن حد الاعتدال في العظم هو الذي يخفى عند آخره مقدار له نسبة محسوسة إلى جملة ذلك البعد ولا يدركه البصر. والبعد الخارج عن الاعتدال بالقياس إلى المبصر هو البعد الذي قد يخفى منه مقدار من ذلك المبصر له نسبة محسوسة إلى جملة ذلك المبصر، أو معنى من المعاني التي في المبصر يؤثر خفاؤه في مائية ذلك المبصر.

وأيضاً فإن الحاس قد يدرك مقدار بعد المبصر من مقدار الزاوية التي يوترها المبصر. وذلك أن المبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة إذا أدركها البصر فإن البصر يعرفها في حال إدراكها. وإذا عرفها عرف مقادير أعظامها قد كان يحققها بتكرر إدراكه لكل واحد من المبصرات المألوفة وحصلت مقادير أعظامها مستقرة في التخيل. والبصر في حال إدراكه للمبصر المألوف يدرك الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر ويدرك الزاوية التي يوترها ذلك الجزء. وإذا أدرك الحاس مقدار عظم المبصر بالمعرفة وأدرك الزاوية التي يوترها ذلك المبصر في تلك الحال فهو يدرك مقدار بعد ذلك المبصر في تلك الحال لأن الزاوية التي يوترها ذلك المبصر إنما تكون بحسب مقدار البعد. فكما أن الحاس يستدل على مقدار العظم بالبعد مع تلك الزاوية كذلك يستدل على مقدار البعد بمقدار العظم المعروف عنده تلك الزاوية، لأن العظم ليس يوتر تلك الزاوية إلا من ذلك البعد بعينه أو بعد مساو له لا من جميع الأبعاد. وإذا كان الحاس قد أدرك مقدار بعد ذلك المبصر المألوف على الاستمرار ومرات كثيرة في الأوقات التي يوتر ذلك المبصر عند مركز البصر مثل تلك الزاوية، وكان قد استدل مرات كثيرة على مقدار عظم ذلك المبصر بمقدار بعد ذلك المبصر مع مقدار الزاوية المساوية لتلك الزاوية ، فقد فهمت القوة المميزة مقدار البعد الذي أدركت منه عظم ذلك المبصر بالقياس إلى تلك الزاوية. وإذا كانت القوة المميزة قد فهمت مقدار بعد ذلك المبصر بالقياس إلى تلك الزاوية، وأدركت من هذا البعد عظم ذلك المبصر بالقياس إلى تلك الزاوية بعينها، فإن القوة المميزة إذا عرفت ذلك المبصر وعرفت مقدار عظمه الذي قد أدركته قبل وأدركت في الحال مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر في تلك الحال، عرفت مقدار البعد الذي يحسبه يوتر ذلك العظم تلك الزاوية. فالحاس قد يدرك مقادير أبعاد المبصرات المألوفة من قياس الزاوية التي يوترها المبصر إلى عظم ذلك المبصر. ثم إذا تكرر إدراك الحاس لبعد المبصر المألوف في حال إدراك البصر له مع معرفة ذلك المبصر أمارة تدل على مقدار بعد ذلك المبصر. وأكثر أبعاد المبصرات المألوفة تدرك على هذا الوجه. وهذا الإدراك ليس هو إدراكاً في غاية التحرير، إلا أنه ليس بينه وبين البعد المحرر تفاوت مسرف. ومن هذا الإدراك أخذ أصحاب التعاليم أن عظم المبصر يدرك بالزاوية، وهذا الإدراك هو في المبصرات المألوفة فقط وبالحدس لا بالتيقن.
وقد يشبه البصر أيضاً أعظام المبصرات الغير مألوفة بأعظام المبصرات المألوفة ويستدل على مقادير أبعادها على هذا الوجه. فالمبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة إذا أدركها البصر وعرفها واستدل على مقادير أبعادها بهذه الطريقة فهو يصيب في الأكثر في مقادير أبعادها، أو لا يكون بين ما يدركه من مقادير أبعادها وبين حقائق أبعادها تفاوت مسرف. والمبصرات الغريبة والتي ليس يكثر إدراك البصر لها والمبصرات الملتبسة الصور والتي يغلط البصر في معرفتها والتي لا يتحقق مائياتها فإن ما يدركه من مقادير أبعادها على هذه الصفة يكون في أكثر الأحوال غالطاً فيه. ومع ذلك فربما اتفقت له الإصابة فيما يدركه من مقاديرها بهذا الوجه. فعلى هذه الصفات التي شرحناها تدرك مقادير أبعاد المبصرات بحاسة البصر.

وإذ قد تبين كيفية إدراك البصر لمقادير المبصرات وتميزت أبعاد المبصرات فإننا نميز أعظام المبصرات التي يدركها البصر ونميز إدراك البصر لها، فنقول: إن الأعظام التي يدركها البصر في حال مقابلة البصر للمبصرات هي مقادير سطوح المبصرات ومقادير نهايات المبصرات ومقادير المسافات التي بين نهايات أجزاء سطوح المبصرات ومقادير المسافات التي بين المبصرات المتفرقة. وهذه هي جميع أنواع المقادير التي يدركها البصر في حال مقابلة البصر. فأما مقدار جسم المبصر فليس يدركه البصر في حال مقابلته لأن البصر يدرك جميع سطح الجسم في حال مقابلته وإنما يدرك ما يقابله من سطح الجسم أو سطوحه، وإن صغر الجسم. وإن أدرك البصر تجسم الجسم فليس يدرك مقدار جسمه وإنما يدرك هيئة تجسمه فقط. فإن تحرك الجسم أو تحرك البصر حول الجسم حتى يدرك البصر جميع سطح الجسم بالحس أو بالاستدلال فإنما يدرك التمييز حينئذ مقدار تجسمه بقياس ثان غير القياس الذي يستعمل في حال الإبصار. وكذلك مقدار كل جزء من أجزاء الجسم إن أدرك التمييز مقدار تجسمه فإنما يدركه بقياس ثان غير القياس الذي هو حال الإبصار. فالذي يدركه البصر من المقادير في حال مقابلتها إنما هو مقادير السطوح والخطوط التي حددناها فقط.
وقد تبين أن إدراك العظم إنما هو من قياس قاعدة مخروط الشعاع الذي يحيط بالعظم بزاوية المخروط الذي عند مركز البصر وبطول المخروط الذي هو بعد العظم المبصر. وقد تبين أن أبعاد المبصرات منها ما هو متيقن ومنها ما هو مظنون غير متيقن. فالمبصرات التي أبعادها متيقنة فالبصر يدرك أعظامها من قياس أعظامها بالزوايا التي توترها تلك الأعظام عند مركز البصر وبأبعادها المتيقنة. فإدراك مقادير أعظام ما هذه صفته من المبصرات يكون إدراكاً متيقناً. والمبصرات التي أبعادها مظنونة وغير متيقنة يدرك البصر مقادير أعظامها من قياس أعظامها بالزوايا التي توترها تلك الأعظام عند مركز البصر وبأبعادها المظنونة غير المتيقنة. فإدراك مقادير أعظام ما هذه صفته من المبصرات يكون إدراكاً غير متيقن. فإذا أراد الحاس أن يتحقق مقدار عظم مبصر من المبصرات فإنه يحرك البصر على أقطاره فيتحرك سهم الشعاع على جميع أجزاء المبصر. فإن كان بعد المبصر من الأبعاد المتفاوتة فإنه في حال تأمله يظهر للحس التباس صورته ويتبين الحاس أن مقداره غير متيقن. وإن كان بعد المبصر من الأبعاد المعتدلة فإنه في حال تأمله يظهر للحس صحة رؤيته. فإذا تحرك الشعاع على ما هذه صفته من المبصرات فإنه يمسحه مساحة فيدرك أجزاءه جزءاً جزءاً ويتحقق مقادير أجزائه، فيتحقق بالحركة مقدار الجزء من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر ومقدار زاوية المخروط المحيط به التي يوترها ذلك الجزء. وإذا أراد أن يتحقق بعده حرك البصر على الجسم المسامت لبعده فيتحقق بالحركة مقدار الجسم المسامت لبعده الذي هو مساو في الحس لأطوال خطوط الشعاع التي هي مقدار بعده. وإذا تحقق الحاس مقدار بعد المبصر ومقدار الزاوية التي يحيط بها المخروط الذي يحيط بالمبصر تحقق مقدار ذلك المبصر.
وحركة السهم على أجزاء المبصر ليس تكون بأن ينحني السهم عن موضع المركز ويتحرك على انفراده على أجزاء المبصر، لأنه قد تبين أن هذا الخط يكون أبداً ممتداً على استقامة إلى موضع انحناء العصبة التي العين مركبة عليها ولا يتغير وضعه من البصر. وإنما جملة العين تتحرك في مقابلة المبصر ويقابل وسط موضع الإحساس من البصر كل جزء من أجزاء المبصر. وإذا تحرك البصر بجملته في مقابلة المبصر وقابل وسط البصر كل جزء من أجزاء المبصر، فإن السهم في هذه الحال يمر بكل أجزاء المبصر وتمتد صورة كل جزء من أجزاء المبصر إلى البصر عند حصول السم عليه على استقامة السهم، ويكون السهم مع ذلك لزماً لوضعه وغير متنقل عن موضعه من جملة العين ويكون انحناؤه في هذه الحال عند حركة جملة البصر من موضع العصبة التي عند مقعر العظم فقط.

وإذا انعمل البصر لتأمل المبصر وابتدأ بالتأمل من طرف المبصر صار طرف السهم على الجزء المتطرف من المبصر فيصير في هذه الحال جمهور صورة المبصر في جزء من سطح البصر مائل عن السهم إلى جهة واحدة، ما سوى الجزء الذي عليه السهم فإن صورته تكون في وسط البصر وفي موضع السهم من البصر، وتكون بقية الصورة مائلة إلى جهة واحدة عن السهم. ثم إذا تحرك البصر من بعد هذه الحال على قطر من أقطار المبصر، انتقل إلى الجزء الذي يلي ذلك الجزء من ذلك القطر، وصارت صورة الجزء الأول مائلة إلى الجهة الأخرى المقابلة للجهة التي تحرك إليها السهم. ثم لا تزال الصورة تميل كلما تحرك السهم على ذلك القطر إلى أن ينتهي السهم إلى آخر ذلك القطر من المبصر وإلى الجزء المتطرف من المبصر المقابل للجزء الأول، فتصير صورة جملة المبصر في هذه الحال مائلة إلى الجهة المقابلة للجهة التي كانت مائلة إليها في الأول، ما سوى الجزء الأخير المتطرف فإنه يكون على السهم وفي وسط البصر.
والسهم في جميع هذه الحركة لازم لوضعه من البصر، وهذه الحركة تكون في غاية السرعة وتكون في الأكثر غير محسوسة لسرعتها، وليس ينطبق السهم في حركته على نهايات الزاوية التي يوترها المبصر عند مركز البصر ولا يقطع عرض الزاوية التي يوترها قطر من أقطار المبصر، لأن ذلك ليس يكون إلا إذا كان السهم على انفراده متحركاً وجملة العين ساكنة، وليس ذلك ممكناً، بل جملة العين هي التي تتحرك عند التأمل والسهم يتحرك بحركتها، وإنما يدرك الحاس مقدار الزاوية التي يوترها المبصر عند مركز البصر من إدراكه لمقدار الجزء من سطح البصر الذي تتشكل فيه صورة المبصر وتخيله للزاوية التي يوترها ذلك الجزء من مركز البصر.
وحاسة البصر مطبوعة على إدراك مقادير أجزاء البصر التي تتشكل فيها الصورة ومطبوعة على تخيل الزوايا التي توترها هذه الأجزاء. وحركة البصر عند تأمل البصر إنما يتحقق بها الحاس صورة المبصر ومقدار عظم المبصر، لأنه بهذه الحركة يدرك كل جزء من أجزاء المبصر بوسطه وبموضع السهم من البصر، وبهذه الحركة تتحرك صورة المبصر على سطح البصر فيتغير الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه الصورة، وتصير صورة المبصر عند الحركة في جزء بعد جزء من سطح البصر. وكلما أدرك الحاس الجزء من المبصر الذي عند طرف السهم فهو يدرك مع ذلك جملة المبصر ويدرك جملة الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة جملة المبصر، ويدرك مقدار ذلك الجزء ويدرك مقدار الزاوية التي يوترها ذلك الجزء عند مركز البصر. فيتكرر على الحاس بحركة التأمل إدراك مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر فيتحقق بهذا التكرر مقدار الزاوية ويتحقق صورة المبصر وصورة بعده، وتفهم القوة المميزة مقدار الزاوية ومقدار البعد، فيدرك من مجموعها مقدار عظم المبصر على التحقيق. فعلى هذه الصفة يكون تأمل البصر للمبصرات ويكون تحقق الحاس لمقادير أعظام المبصرات بالتأمل.
وأيضاً فإنه إذا أدرك البصر مقادير أطوال خطوط الشعاع التي بين البصر وبين نهايات المبصر أو بين نهايات أجزاء سطح المبصر، فهو يحس بتساويها واختلافها. فإن كان سطح المبصر الذي يدركه البصر أو المسافة التي يدركها البصر مائلة أحس بميلها من إحساسه باختلاف مقادير أبعاد أطرافها. وإن كان السطح أو المسافة مواجهة أحس بمواجهتها من إحساسه بتساوي أبعاد أطرافها. وإذا أحس بمسل المسافة أو مواجهتها فليس يلتبس على القوة المميزة مقدار عظمها، لأن التمييز يدرك من اختلاف بعدي طرفي المسافة المائلة ميل المخروط المحيط بها، وإذا أحس التمييز بميل المخروط أحس بفضل عظم قاعدته من أجل ميله. وإنما يلتبس مقدار عظم المائل بعظم المواجه إذا كان القياس بالزاوية فقط. فأما إذا كان القياس بالزاوية وبأطوال خطوط الشعاع التي بين البصر وبين أطراف المبصر فليس يلتبس مقدار العظم.

فمقادير أعظام الخطوط والسطوح والمسافات المائلة يدركها البصر من إدراكه لمقادير أبعاد أطرافها وإدراكه لاختلافها. إلا أن أبعد الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى المبصر إذا كان المبصر مائلاً أصغر من أبعد الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى ذلك المبصر بعينه إذا كان مواجهاً. لأن البعد المعتدل بالقياس إلى المبصر هو الذي ليس يخفى منه جزء من المبصر له نسبة محسوسة إلى جملة المبصر. وإذا كان المبصر مائلاً فإن الزاوية التي يحيط بها الشعاعان الخارجان من البصر إلى جزء من أجزاء المبصر المائل قد تكون أصغر من الزاوية التي يحيط بها الشعاعان الخارجان من البصر إلى ذلك الجزء بعينه وإلى ذلك البعد بعينه وإلى ذلك البعد بعينه إذا كان المبصر مواجهاً للبصر. فالجزء الذي له نسبة محسوسة إلى جملة المبصر إذا كان المبصر مائلاً قد يخفى منه ذلك الجزء بعينه إذا كان ذلك المبصر مواجهاً. وإذا كان ذلك كذلك فالبعد المعتدل الذي ليس يخفى منه جزء له نسبة محسوسة إلى جملة المبصر، إذا كان ذلك المبصر مواجهاً، قد يخفى منه جزء له نسبة محسوسة إلى جملة المبصر إذا كان ذلك المبصر مائلاً. فأبعد الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى المبصر المائل أصغر من أبعد الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى ذلك المبصر بعينه إذا كان ذلك المبصر مواجهاً. والمبصر المائل بجملته يخفى من بعد أصغر من البعد الذي يخفى منه ذلك المبصر كان مواجهاً، ويتصاغر مقداره من بعد أصغر من البعد الذي يتصاغر منه مقداره إذا كان مواجهاً.
فأعظام المبصرات التي يتحقق البصر مقاديرها هي التي أبعادها معتدلة وأبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة، والبصر يدركها من قياسها بزوايا مخروطات الشعاع المحيطة بها وبأطوال خطوط الشعاع التي هي أبعاد أطرافها. والأبعاد المعتدلة بالقياس إلى مبصر من المبصرات تكون بحسب وضع ذلك المبصر في الميل والمواجهة. والزوايا إنما تتحقق وتتحرر بحركة البصر على أقطار سطح المبصر وعلى المسافة التي يريد معرفة عظمها. والبعد يتحقق ويتحرر بحركة البصر على الجسم المسامت لأبعاد أطراف ذلك السطح أو تلك المسافة. وبالجملة فإن المبصر الذي بعده معتدل وبعده مع ذلك يسامت جسماً مرتباً فإن صورته مع صورة بعده يحصلان متشكلين في التخيل معاً في حال ملاحظة المبصر إذا أدرك البصر الجسم المسامت لبعد المبصر في حال إدراكه للمبصر. وإذا حصلت صورة المبصر مع صورة بعده المتيقن متشكلين في التخيل معاً أدركت القوة المميزة عظم المبصر بحسب مقدار صورة بعده المتيقن المقترنة بصورته. والمبصرات التي بهذه الصفة فقط هي التي تدرك مقاديرها بحاسة البصر إدراكاً محققاً. والمبصرات المألوفة التي على الأبعاد المألوفة قد يدرك البصر أعظامها بالمعرفة، ويدرك مقادير أبعادها من قياس أعظامها التي يدركها البصر بالمعرفة بالزوايا التي توترها هذه المبصرات عند مركز البصر في حال إدراك هذه المبصرات. فعلى هذه الصفات التي بيناها تدرك أعظام المبصرات بحاسة البصر.
فإما لم يدرك المبصر من البعد البعيد المتفاوت أصغر من مقداره الحقيقي، ولم يدرك مقدار المبصر من البعد القريب المتفاوت القرب أعظم من مقداره الحقيقي، فإن هذين المعنيين هما من أغلاط البصر ونحن نبينها ونذكر عللهما عند كلامنا في أغلاط البصر.

إدراك التفرق

فأما التفرق الذي بين المبصرات فإن البصر يدركه من تفرق صورتي الجسمين المبصرين المفترقين اللتين تحصلان في البصر. إلا أن كل جسمين مفترقين فإن التفرق الذي بينهما إما أن يظهر منه ضوء أو جسم متلون مضيء أو يكون موضع التفرق مظلماً لا يظهر ما وراءه. وإذا أدرك البصر جسمين متفرقين وحصلت صورتاهما في البصر فإن صورة الضوء الذي يظهر من التفرق أو صورة لون الجسم المتلون الذي يظهر من التفريق أو الظلمة التي تكون في موضع التفريق تحصل في الجزء من البصر الذي فيما بين صورتي الجسمين المتفرقين اللتين تحصلان في البصر. والضوء واللون أو الظلمة قد يحتمل أن تكون في جسم متوسط بين الجسمين متصل بكل واحد من الجسمين. فإن لم يحس البصر أن الضوء أو اللون أو الظلمة التي في موضع التفرق ليس هو في جسم متصل بالجسمين اللذين عن جنبتيه فليس بتفريق الجسمين. وأيضاً فإن سطح كل واحد من الجسمين المتفرقين منعطف إلى جهة التباعد في موضع التفرق، فربما كان انعطاف سطحي الجسمين أو سطح أحد الجسمين ظاهراً للبصر وربما لم يظهر للبصر. وإذا ظهر انعطاف سطحي الجسمين أو سطح أحد الجسمين للبصر أحس البصر من ذلك بتفرق الجسمين . فالبصر يدرك تفرق الأجسام من إدراكه لأحد المعاني التي ذكرناها: إما من إدراكه الضوء من موضع التفرق مع إحساسه بأن ذلك الضوء من وراء سطحي الجسمين المتفرقين، أو من إدراكه جسماً متلوناً في موضع التفرق مع إحساسه بأن ذلك الجسم غير كل واحد من الجسمين المتفرقين، أو من إدراكه ظلمة موضع التفريق مع إدراك القوة المميزة أن ذلك هو ظلمة وليس هو جسماً متصلاً بالجسمين، أو من إدراكه لانعطاف كل واحد من سطحي الجسمين في موضع التفرق أو انعطاف سطح أحد الجسمين. فجميع ما يدركه البصر من تفرق الأجسام إنما يدركه بالاستدلال من أحد هذه المعاني أو أكثر من واحد منها.
والتفرق قد يكون بين جسمين منفصلين، وقد يكون بين جسمين غير منفصلين وهو أن يكون الجسمان متصلين ببعض أجزائهما منفصلين ببعضهما، كالأنامل وأعضاء الحيوان وكثير من الجدران وكأغصان الشجر. وعلى كلى الحالين فالبصر إنما يدرك التفرق على الوجوه التي بيناها كان الجسمان المتفرقان منفصلين بالكلية أو كانا متصلين ببعض أجزائهما مفترقين ببعضهما. وقد يدرك تفرق الأجسام بالمعرفة وبتقدم العلم، ولكن ليس ذلك الإدراك بإحساس البصر.
وتفرق الأجسام منه ما هو فسيح وفيه سعة ومنه ما هو ضيق ويسير. فالتفرق الفسيح ليس يخفى عن البصر في أكثر الأحوال ولا يشتبه على البصر لظهور الجسم المسامت للتفرق وإحساس البصر به وبأنه غير كل واحد من الجسمين المتفرقين، أو أدرك الضوء والفضاء المضيء المسامت للتفرق. فأما التفرق اليسير والغضون الضيقة فإنما يدركها البصر من البعد الذي ليس يخفى منه الجسم المساوي مقداره لمقدار سعة التفرق. فأما إذا كان التفرق بين الجسمين ضيقاً خفياً، وكان بعد الجسمين عن البصر بعداً قد تخفى من مثله الأجسام التي مقاديرها كمقدار سعة التفرق، فليس يدرك البصر تفرقها وإن كان بعد الجسمين عن البصر من الأبعاد المعتدلة وكان البصر يدرك الجسمين إدراكاً صحيحاً. لأن البعد المعتدل إنما هو البعد الذي ليس يخفى منه مقدار محسوس النسبة إلى مقدار جملة البعد، والإدراك الصحيح هو الذي ليس بينه وبين حقيقة المبصر تفاوت محسوس النسبة إلى جملة البصر. والتفرق قد تكون سعته بمقدار ليس له نسبة محسوسة إلى بعد المبصر ولا قدر محسوس عند كل واحد من الجسمين المتفرقين، لأن التفرق ربما كان بمقدار ما تستره شعرة أو قريباً من ذلك، وليس تخرجه هذه الحال من أن يكون تفرقاً، فالأبعاد التي منها يدرك البصر التفرق تكون بحسب مقدار سعة التفرق. فالتفرق بين المبصرات يدركه البصر على الصفات التي بيناها.

إدراك الاتصال
فأما الاتصال فإن البصر يدركه من عدم التفرق. فإذا لم يحس البصر في الجسم بشيء من التفرق أدركه متصلاً. وإن كان في الجسم تفرق خفي ولم يدركه البصر، فإن البصر يدرك ذلك الجسم متصلاً، وإن كان فيه تفرق. فالاتصال إنما يدركه البصر من عدم التفرق.

والبصر يدرك التماس أيضاً، ويفرق بين التماس والاتصال ، من إدراكه لاجتماع نهايتي الجسمين مع العلم بأن كل واحد من الجسمين منفصل عن الآخر. وليس يحكم البصر بالتماس إلا بعد العلم بأن كل واحد من الجسمين المتماسين غير الآخر منفصل عن الآخر، فإن الفصل الذي بين المتماسين قد يوجد متله في الأجسام المتصلة. فإن لم يحس الحاس أن كل واحد من الجسمين المتماسين غير الأخر ومنفصل عنه لم يحس بالتماس وحكم بالاتصال.

إدراك العدد
فأما العدد فإن البصر يدركه بالاستدلال من المعدودات. وذلك أن البصر قد يدرك عدة من المبصرات المتفرقة معاً في وقت واحد. وإذا أدرك البصر المبصرات المتفرقة وأدرك تفرقها فقد أدرك أن كل واحد منها غير الآخر. وإذا أدرك أن كل واحد منها غير الآخر فقد أدرك الكثرة. وإذا أدرك الكثرة فالقوة المميزة تدرك من الكثرة العدد. فالعدد يدرك بحاسة البصر من إدراك البصر لعدة من المبصرات المتفرقة إذا أدركها البصر معاً وأدرك تفرقها وأدرك أن كل واحد منها غير الآخر. فعلى هذه الصفة يدرك العدد بحاسة البصر.
إدراك الحركة
فأما الحركة فالبصر يدركها بالاستدلال من قياس المتحرك إلى غيره من المبصرات. وذلك أن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك وأدرك معه غيره من المبصرات فإنه يدرك وضعه من تلك المبصرات ومسامتته لتلك المبصرات. وإذا كان المبصر متحركاً وكانت تلك المبصرات غير متحركة بحركة ذلك المبصر المتحرك فإن وضع ذلك المبصر المتحرك يختلف عند تلك المبصرات في حال تحركه. وإذا كان البصر يدركه ويدرك تلك المبصرات معه ويدرك وضعه من تلك المبصرات أدركته حركته. فالحركة يدركها البصر من إدراكه لاختلاف وضع المبصر المتحرك إلى عدة من المبصرات، أو من قياس المبصر المتحرك إلى مبصر واحد بعينه، أو من قياس المبصر المتحرك إلى البصر نفسه. أما قياس المبصر المتحرك إلى عدة من المبصرات، فإن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك وأدركه مسامتاً لمبصر من المبصرات، ثم أدركه مسامتاً لمبصر آخر غير ذلك المبصر مع ثبوت البصر في موضعه، فإنه يحس بحركة ذلك المبصر. وأما قياس المبصر المتحرك إلى مبصر واحد بعينه، فإن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك وأدرك وضعه من مبصر آخر، ثم أدرك وضعه قد تغير عند ذلك المبصر الآخر بعينه، إما بأن يبعد عنه بأكثر من بعده الأول، وإما بأن يقرب منه، وإما بأن يكون في جهة من الجهات بالقياس إلى ذلك المبصر فيصير في جهة غيرها بالقياس إليه بعينه مع ثبوت البصر في موضعه، وإما يتغير وضع جزء من أجزاء المبصر المتحرك بالقياس إلى ذلك المبصر أو تغير وضع أجزائه بالقياس إلى ذلك المبصر وعلى هذه الصفة الأخيرة يدرك البصر حركة المبصر المتحرك على الاستدارة إذا قاسه إلى مبصر آخر، فإذا أدرك البصر وضع المبصر المتحرك أو وضع المتحرك أو وضع أجزائه أو وضع جزء من أجزائه قد تغير بالقياس إلى مبصر آخر فقد أدرك حركة المبصر المتحرك.

وأما قياس المبصر المتحرك إلى البصر نفسه، فإن البصر إذا أدرك المبصر المتحرك فإنه يدرك جهته ويدرك بعده. وإذا كان البصر ساكناً والمبصر متحركاً فإن وضع المبصر المتحرك بالقياس إلى البصر. فإن كانت حركة المبصر على مسافة معترضة فإن جهته تتغير ويحس بتغير جهته. وإذا أحس البصر بتغير جهته مع سكون البصر أحس بحركته. وإن كانت حركة المبصر على السمت الممتد بينه وبين البصر، وكانت حركته في جهة التباعد أو في جهة التقارب، فإنه يبعد عن البصر أو يقرب منه. وإذا أحس البصر ببعده عنه أو قربه منه مع ثبوت البصر في موضعه، فهو يحس بحكته. وإن كانت حركة المبصر على الاستدارة فإن الجزء منه الذي يلي البصر ويتبدل. وإذا تغير ما يلي البصر من أجزاء البصر بتغيرها مع ثبوت البصر في موضعه أحس بحركة المبصر. فعلى هذه الصفات يدرك البصر الحركة إذا كان ثابتاً في موضعه. البصر متحركاً. وذلك يكون إذا أحس البصر باختلاف وضع المبصر المتحرك مع إحساسه بأن ذلك الاختلاف ليس هو من أجل حركة البصر. وفرق في الحال بين اختلاف الوضع الذي يعرض لذلك المبصر من أجل حركة المبصر نفسه وبين اختلاف الوضع الذي يعرض لذلك المبصر من أجل حركة المبصر نفسه وبين اختلاف الوضع الذي يعرض له من أجل حركة البصر. فإذا أحس البصر باختلاف وضع المبصر المتحرك، وأحس بأن اختلاف وضعه ليس هو من أجل حركة البصر، أحس بحركة المبصر. وقد تتحرك صورة المبصر المتحرك في البصر من أجل حركته، ولكن ليس يدرك البصر حركة المبصر من تحرك صورته في البصر فقط. وليس يدرك البصر الحركة إلا بقياس المبصر المتحرك إلى غيره على الوجوه التي بيناها. وذلك أن المبصر الساكن قد تحركت صورته في البصر مع سكونه، ولا يدركه البصر من أجل ذلك متحركاً. لأن البصر إذا تحرك في مقابلة المبصرات عند تأمل المبصرات فإن صورة كل واحد من المبصرات المقابلة للبصر تتحرك في سطح البصر عند حركته ما كان منها ساكناً وما كان منها متحركاً والبصر قد ألف حركة صور المبصرات في سطحه مع سكون المبصرات، فليس يحكم بحركة المبصر من أجل حركة صورته إلا إذا حصل في البصر صورة آخر وأدرك البصر اختلاف وضع صورة المبصر المتحرك بالقياس إلى صورة المبصر الآخر أو من تبدل الصور في الموضع الواحد من البصر الذي يكون من حركة الاستدارة. فليس يدرك البصر الحركة إلا على الوجوه التي فصلناها.
والبصر يدرك حركة المبصر ويدرك كيفية حركته. أما إدراكه للحركة فعلى الصفات التي ذكرناها. وأما إدراكه لكيفية الحركة فمن إدراكه للمسافة التي يتحرك عليها المبصر إذا كان المبصر ينتقل بجملته. ويتحقق البصر كيفية الحركة إذا تحقق شكل المسافة التي يتحرك عليها المبصر المتحرك. وإذا كان المبصر يتحرك على نفسه حركة مستديرة فإن البصر يدرك أن حركته مستديرة من إدراكه لتبدل أجزائه التي تلي البصر، أو تبدل أجزائه التي تلي مبصراً من المبصرات، أو من مسامتة جزء من أجزائه لمبصرات مختلفة واحداً بعد واحد، أو لأجزاء مبصر واحد جزءاً بعد جزء مع ثبوت جملة البصر في موضعه.
وإن كانت حركة المبصر مركبة من الاستدارة مع الانتقال من موضعه على مسافة من المسافات، فإن البصر يدرك أن تلك الحركة مركبة من إدراكه لتبدل أجزاء المبصر المتحرك بتلك الحركة بالقياس إلى البصر أو إلى مبصر آخر مع إدراكه لانتقال جملة المبصر من موضعه وتبدل مكانه. فعلى هذه الصفات يدرك البصر كيفيات حركات المبصرات.
وليس يدرك البصر الحركة إلا في زمان، وذلك أن الحركة ليس تكون إلا في زمان وكل جزء من الحركة ليس يكون إلا في زمان. والبصر ليس يدرك حركة المبصر إلا من إدراك المبصر في موضعين مختلفين أو على وضعين مختلفين. ولا يختلف وضع المبصر إلا في زمان، وليس يكون المبصر في موضعين مختلفين ولا على وضعين مختلفين إلا في وقتين مختلفين. وإذا أدرك البصر المبصر في موضعين مختلفين أو على وضعين مختلفين فإن إدراكه له في الموضعين أو على الوضعين إنما يكون في وقتين مختلفين فبينهما زمان، فليس يدرك البصر الحركة إلا في زمان.

فنقول إن الزمان الذي يدرك فيه البصر الحركة ليس يكون إلا محسوساً. وذلك أن البصر إنما يدرك الحركة من إدراك المبصر في موضعين مختلفين موضع بعد موضع، أو على وضعين مختلفين وضع بعد وضع. فإذا أدرك البصر المبصر المتحرك في الموضع الثاني ولم يدركه في تلك الحال في الموضع الأول الذي أدركه فيه من قبل فقد أحس الحاس أن الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الأول الذي أدركه فيه من قبل فقد أحس الحاس أن الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الثاني غير الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الأول. وإذا أحس بأن الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الثاني هو غير الوقت الذي أدركه فيه في الموضع الأول فقد أحس باختلاف الوقتين. وكذلك إذا أدرك الحركة من اختلاف وضع المتحرك.لأنه إذا أدرك المتحرك على الوضع الثاني ولم يدركه في تلك الحال على الوضع الأول الذي أدركه عليه من قبل فقد أحس باختلاف الوقتين. وإذا أحس الحاس باختلاف الوقتين فقد أحس بالزمان الذي بينهما. وإذا كان ذلك كذلك فالزمان الذي يدرك فيه البصر الحركة ليس يكون إلا محسوساً.
وإذ قد تبينت جميع هذه المعاني مشروحة فإنا نقتص ما تبين جميعها فنقول: إن البصر يدرك الحركة من إدراكه للمبصر المتحرك على وضعين مختلفين في وقتين مختلفين يكون الزمان الذي بينهما محسوساً، وهذه هي كيفية إدراك البصر للحركة.
والبصر يدرك اختلاف الحركات في السرعة والبطء ويدرك تساوي الحركات من إدراكه للمسافات التي تتحرك عليها المبصرات المتحركة. فإذا أدرك البصر مبصرين متحركين، وأدرك المسافتين اللتين يتحرك عليهما المبصران، وأحس بأن إحدى المسافتين اللتين قطعهما المبصران المتحركان في زمان واحد أعظم من الأخرى، أحس بسرعة حركة المبصر الذي قطع المسافة العظمى. وإذا كانت المسافتان اللتان يتحرك عليهما المبصران وقطعاهما في زمان واحد بتساوي حركتي المتحركين. وكذلك إن أحس بتساوي المسافتين مع اختلاف زماني الحركتين، فإنه يحس بسرعة حركة المتحرك الذي قطع المسافة في زمان أصغر. وكذلك إن قطع المتحركان في زمانين متساويين مسافتين متساويتين، وأحس البصر بتساوي الزمانين وتساوي المسافتين، أحس بتساوي الحركتين. فقد تبين كيف يدرك البصر الحركات وكيف يميز الحركات وكيف يدرك كيفياتها وكيف يدرك تساويها واختلافها.

إدراك السكون
فأما السكون فإن البصر يدركه من إدراك المبصر في زمان محسوس في موضع واحد على وضع واحد. فإذا أدرك البصر المبصر في موضع واحد على وضع واحد في وقتين مختلفين بينهما زمان محسوس، أدرك المبصر في ذلك القدر من الزمان ساكناً. والبصر يدرك وضع المبصر الساكن بالقياس إلى غيره من المبصرات وبالقياس إلى البصر نفسه. فعلى هذه الصفة يكون إدراك البصر لسكون المبصرات.
إدراك الخشونة
فأما الخشونة فإن البصر يدركها في الأكثر من صورة الضوء الذي يظهر في سطح الجسم الخشن. وذلك أن الخشونة هي اختلاف وضع أجزاء سطح الجسم، وهو أن يكون بعض أجزاء السطح شاخصة وبعضها غائرة. وإذا كانت أجزاء سطح الجسم مختلفة الوضع، فإن الضوء إذا أشرق على سطح ذلك الجسم كان للأجزاء الشاخصة أظلال على الأجزاء الغائرة في أكثر الأحوال. وإذا وصل الضوء إلى الأجزاء الغائرة فإنه يكون معه أظلال عن بعض الأضواء. والأجزاء الشاخصة ظاهرة للضوء، فليس تستتر عن الضوء الذي يحصل في ذلك السطح. وإذا حصل في الأجزاء الغائرة أظلال، وليس على الأجزاء الشاخصة أظلال، اختلفت صورة الضوء في سطح ذلك الجسم.والسطح الأملس أجزاؤه متشابهة الوضع، فإذا أشرق عليه الضوء كانت صورة الضوء في جميع السطح متشابهة. فصورة الضوء في سطح الجسم الخشن مخالفة لصورة الضوء في السطح الأملس. والبصر يعرف صورة الضوء الذي في السطوح الخشنة وصورة الضوء الذي في السطوح الملس بكثرة مشاهدته للسطوح الخشنة والسطوح الملس. فإذا أحس البصر بالضوء الذي في سطح الجسم على الصفة التي قد ألفها في السطوح الخشنة حكم بخشونة سطح ذلك الجسم. وإذا أحس بالضوء الذي في سطح الجسم على الصفة التي قد ألفها من السطوح الملس حكم بملاسة سطح ذلك الجسم. فالخشونة يدركها البصر في الأكثر من صورة الضوء الذي يدركه سطح الجسم الخشن.

وإذا كانت الخشونة مسرفة كانت الأجزاء الشاخصة مقتدرة المقادير. وإذا كان سطح الجسم بهذه الصفة فإن البصر يدرك الأجزاء الشاخصة، ويدرك شخوصها، ويدرك اختلاف أوضاع أجزاء سطح الجسم من إدراكه التفرق الذي بين الأجزاء. وإذا أدرك البصر اختلاف أوضاع أجزاء سطح الجسم، فقد أدرك خشونته من غير حاجة إلى اعتبار الضوء. فقد يدرك البصر خشونة سطح الجسم على هذه الصفة أيضاً إذا كانت الخشونة مسرفة.
وأيضاً فإن الجسم إذا كانت خشونته مسرفة وأشرق عليه الضوء كانت صورة الضوء في سطحه مختلفة اختلافاً متفاوتاً، فيظهر من اختلاف صورة الضوء تفرق الأجزاء واختلاف وضعها، ويظهر من ذلك خشونة الجسم. فإذا كان الضوء المشرق على الجسم الخشن من الجهة المقابلة للسطح الخشن، وكان الضوء قوياً ولم يظهر في سطح الجسم اختلاف لصورة الضوء، فإن البصر ليس يدرك خشونة الجسم الذي بهذه الصفة إلا إذا أدرك أجزاءه متميزة وأدرك شخوص بعضها وغؤور بعض. فإن كانت خشونة الجسم الذي بهذه الصفة مسرفة، فإن البصر يدرك تميز الجزاء واختلاف وضعها ويدرك خشونة الجسم في الأكثر. وإن كانت الخشونة يسيرة، وكانت الأجزاء الغائرة والمسام التي في ذلك الجسم في غاية الصغر، فإنها قد تخفى عن البصر في أكثر الأحوال إذا كان الضوء المشرق على الجسم قوياً ولم يظهر اختلاف صورته في سطح الجسم. وليس يدرك البصر خشونة الجسم الذي بهذه الصفة إلا من القرب الشديد ومع تأمل أجزاء سطح الجسم. فإذا ظهر للبصر تميز الأجزاء من الجسم الذي بهذه الصفة وشخوص ما هو شاخص من الأجزاء وغؤور ما هو غائر أدرك خشونته. وإن لم يظهر تميز أجزائه ولا غؤورها فليس يدرك خشونته. فالخشونة يدركها البصر من إدراكه لاختلاف أوضاع أجزاء سطح الجسم أو من صورة الضوء التي قد ألفها البصر في سطوح الأجسام الخشنة. وقد يستدل البصر على الخشونة من عدم الصقال، فإذا لم يحس البصر في الجسم بشيء من الصقال حكم بخشونته. إلا أن كثيراُ ما يعرض للبصر الغلط في الخشونة إذا استدل عليها بهذا المعنى، لأنه قد يكون السطح صقيلاً ولا يظهر صقاله لأن الصقال ليس يظهر إلا من وضع مخصوص.

إدراك الملاسة
فأما الملاسة، وهي استواء سطح الجسم، فإن البصر يدركها في الأكثر من صورة الضوء الذي يظهر في سطح الجسم الأملس التي قد ألفها في السطوح الملس. وإذا كان الضوء الذي في سطح الجسم متشابه الصورة استدل البصر على ملامسة السطح. وقد يدرك البصر الملامسة بالتأمل أيضاً. فإذا تأمل البصر سطح الجسم الأملس أدرك تطامن أجزائه واستواءها، وإذا أدرك تطامن الأجزاء واستواءها فقد أدرك ملاسته.
فأما الصقال، وهو شدة الملاسة، فإن البصر يدركه من بريق الضوء ولمعانه في سطح الجسم. وليس يدرك البصر الصقال وشدة الملاسة إلا من بريق الضوء ولمعانه في سطح الجسم. فالملاسة يدركها البصر من إدراكه لاستواء السطح. واستواء السطح يدركه البصر في الأكثر من تشابه صورة الضوء في سطح الجسم، وقد يدركه بالتأمل. والصقال يدركه البصر من لمعان الضوء في سطح الجسم ومن الوضع الذي يحسبه ينعكس الضوء.
وقد تجتمع الخشونة والملاسة معاً في السطح الواحد. وذلك بان يكون في سطح الجسم أجزاء مختلفة الوضع شاخصة وغائرة، وتكون أجزاء سطح كل واحد من الأجزاء المختلفة الوضع الشاخصة والغائرة أو بعضها متطامنة ومتشابهة الوضع، فيكون السطح بجملته خشناً، وتكون أجزاؤه أو بعضها ملساً وصقيلة. وتظهر خشونة السطح الذي بهذه الصفة للبصر من إدراكه لاختلاف وضع الأجزاء الشاخصة والغائرة، وتظهر ملاسة الأجزاء وصقالها من صور الضوء الذي يدركه البصر في سطوح الأجزاء. وقد يدرك البصر ملاسة الأجزاء التي بهذه الصفة بالتأمل أيضاً من إدراكه لتطامن سطح كل واحد منها. فعلى هذه الصفات يدرك البصر الملاسة والصقال والخشونة.
إدراك الشفيف

فأما الشفيف فإن البصر يدركه بالاستدلال من إدراكه لما وراء الجسم المشف. وليس يدرك شفيف الجسم المشف إلا إذا كان فيه بعض الكثافة وكان شفيفه أغلظ من شفيف الهواء المتوسط بينه وبين البصر. فأما إذا كان في غاية الشفيف فليس يدرك البصر شفيفه ولا يحس به، وإنما يدرك ما وراءه فقط. وإذا كان فيه بعض الكثافة أدركه البصر بما فيه من الكثافة، وأدرك شفيفه من إدراكه لما وراءه. فإن الجسم المشف إذا كان وراءه ضوء أو جسم متلون مضيء فإنه يظهر من وراء الجسم المشف ويحس به البصر. وليس يحس البصر بشفيف الجسم، إذا أحس بما وراءه، إلا إذا أحس الضوء واللون الذي يدركه من وراء الجسم المشف هو ضوء أو لون من وراء الجسم المشف وليس هو لون الجسم نفسه ولا ضوءه. فإن لم يحس بأن الضوء الذي يدركه من وراء الجسم المشف أو اللون هو من وراء الجسم المشف فليس يحس بشفيف الجسم المشف. وإن لم يكن وراء الجسم المشف ضوء ولا جسم مضيء، ولا عن جوانبه، ولم يظهر من ورائه ولا من جهة من جهاته شيء من الضوء أو اللون، فليس يحس البصر بشفيف ذلك الجسم. وذلك يكون إذا كان الجسم المشف ملتصقاً بجسم من الأجسام الكثيفة، وكان الجسم الكثيف مشتملاً عليه أو مسامتاً له من جميع جهاته، وكان الجسم الكثيف ذا لون مظلم يحس البصر بشفيف الجسم الذي بهذه الصفة.
وكذلك إذا كان وراء الجسم المشف مكان مظلم ولم يظهر من ورائه شيء من الضوء، فإن الجسم الكثيف الذي من وراء الجسم المشف ذا لون مسفر، وكان الضوء الذي في الجسم المشف يصل إلى الجسم الكثيف ويظهر للبصر لون ذلك الجسم الكثيف، فإن البصر يدرك الجسم المشف الذي بهذه الصفة إذا أحس بأن اللون الذي يدركه من ورائه هو لون جسم غيره وليس هو لونه. فإذا أحس بأن اللون الذي يدركه من ورائه هو لون جسم من وراء الجسم المشف، فقد أحس بشفيف الجسم المشف. وكذلك إذا كان الجسم المشف ضعيف الشفيف وكان الجسم الذي وراءه والأجسام التي حوله ضعيفة الضوء، فليس يدرك البصر شفيفه إلا إذا استشفه وقابل به ضوءاً قوياً، فإذا أحس بالضوء من ورائه أدرك شفيفه. فعلى هذه الصفات يدرك ابصر شفيف الأجسام المشفة.

إدراك الكثافة
فأما الكثافة فإن البصر يدركها من عدم الشفيف. وإذا أدرك البصر الجسم ولم يحس فيه بشيء من الشفيف حكم بكثافته. والكثافة إنما هي عدم الشفيف.
إدراك الظل
فأما إدراك الظل فإن البصر يدركه بالقياس إلى ما يجاوره من الأضواء أو بما تقدم العلم به من الأضواء. وذلك أن الظل هو عدم بعض الأضواء مع إضاءة موضع الظل بغير ذلك الضوء المعدوم من موضع الظل. فإذا أحس البصر بموضع الظل وأحس بما يجاوره من الأجسام، وكان على الأجسام المجاورة لموضع الظل ضوء قوي أقوى من الضوء الذي في موضع الظل، أحس باستظلال ذلك الموضع عن الضوء القوى المشرق على الأجسام المجاورة له. وكذلك إذا أحس بضوء ما في موضع من المواضع، وعدم في ذلك الموضع ضوء الشمس أو ضوء من الأضواء القوية الموجودة في ذلك الوقت، أحس استظلال ذلك الموضع عن ضوء الشمس أو عن ذلك الضوء القوي. وربما أحس البصر بالجسم المظل، وربما لم يتميز له في الحال الجسم المظل. إلا أن البصر إذا أدرك موضعاً فيه ضوء ضعيف، وأدرك الأجسام المجاورة له، وأدرك الضوء الذي على الأجسام المجاورة لموضع الضوء الضعيف أقوى من ذلك الضوء الضعيف، فقد أحس بالظل الذي في ذلك الموضع. فعلى هذه الصفة يدرك البصر الظل.
إدراك الظلمة
فأما الظلمة فأن البصر يدركها بالاستدلال من عدم الضوء. وذلك أن الظلمة هي عدم الضوء بالجملة. فإذا أدرك البصر موضعاً من المواضع ولم يدرك فيه شيئاً من الضوء فقد أحس بالظلمة يدركها الحاس من عدم إحساسه بالضوء.
إدراك الحسن
فأما الحسن المدرك بحاسة البصر فإن البصر يدركه من إدراكه للمعاني الجزئية التي قد تبين كيفية إدراك البصر لها. وذلك أن كل واحد من المعاني الجزئية التي تقدم بيانها يفعل نوعاً من الحسن بانفراده، وتفعل هذه المعاني أنواعاً من الحسن باقتران بعضها ببعض. والبصر إنما يدرك الحسن من صور المبصرات التي تدرك بحاسة البصر، وصور المبصرات مركبة من المعاني الجزئية التي تبين تفصيلها، والبصر يدرك الصور من إدراكه لهذه المعاني، فهو يدرك الحسن من إدراكه لهذه المعاني.

وأنواع الحسن التي يدركها البصر من صور المبصرات كثيرة: فمنها ما تكون علته واحدة من المعاني الجزئية التي في الصورة، ومنها ما تكون علته عدة من المعاني الجزئية التي في الصورة، ومنها ما تكون علته اقتران المعاني بعضها ببعض لا المعاني أنفسها، ومنها ما تكون علته مركبة من المعاني وتألفها. والبصر يدرك كل واحد من المعاني التي في كل واحدة من الصور منفرداً، ويدركها مركبة، ويدرك اقترانها وتألفها. فالبصر يدرك الحسن على وجوه مختلفة، وجميع الوجوه التي منها يدرك البصر الحسن ترجع إلى إدراك المعاني الجزئية.
فأما أن هذه المعاني الجزئية هي التي تفعل الحسن منفردة وأعني بقولي تفعل الحسن أي تؤثر في النفس استحسان الصورة المستحسنة فإنه يظهر باليسير من التأمل. وذلك أن الضوء يفعل الحسن. ولذلك تستحسن الشمس والقمر والكواكب. وليس في الشمس والقمر والكواكب علة تستحسن من أجلها وتروق صورتها بسببها غير الضوء وإشراقه. فالضوء على انفراده يفعل الحسن.
واللون أيضاً يفعل الحسن. وذلك أن كل واحد من الألوان المشرقة كالأرجوانية والفرفيرية والزرعية والوردية والصعوية وأشباهها تروق الناظر ويلتذ البصر بالنظر إليها. وكذلك تستحسن المصنعات من الثياب والفروش والآلات وتستحسن الأزهار والأنوار والرياض. فاللون على انفراده يفعل الحسن.
والبعد أيضاً قد يفعل الحسن بطريق العرض. وذلك أن الصور المستحسنة منها ما يكون فيها وشوم وغضون ومسام تشين الصورة وتشعث حسنها. فإذا بعدت عن البصر فضل بعد خفيت تلك المعاني الدقيقة التي تشين تلك الصورة، فيظهر عند خفاء تلك المعاني حسن الصورة. وكذلك أيضاً كثير من الصور المستحسنة قد تكون فيها معان لطيفة من أجلها كانت الصورة كالنقوش الدقيقة والتخطيط والترتيب. وكثير من هذه المعاني قد تخفى عن البصر من كثير من الأبعاد المعتدلة، فإذا قربت من البصر فضل قرب ظهرت تلك المعاني اللطيفة للبصر ظهر حسن الصورة للبصر. فزيادة البعد ونقصان البعد قد يظهر الحسن. فالبعد على انفراده قد يفعل الحسن.
والبعد أيضاً قد يفعل الحسن بطريق العرض. وذلك أن الصور المستحسنة منها ما يكون فيها وشوم وغضون ومسام تشين الصورة وتشعث حسنها. فإذا بعدت عن البصر فضل بعد خفيت تلك المعاني الدقيقة التي تشين تلك الصورة، فيظهر عند خفاء تلك المعاني حسن الصورة. وكذلك أيضاً كثير من الصور المستحسنة قد تكون فيها معان لطيفة من أجلها كانت الصورة حسنة كالنقوش الدقيقة والتخطيط والترتيب. وكثير من هذه المعاني قد تخفى عن البصر من كثير من الأبعاد المعتدلة، فإذا قربت من البصر فضل قرب ظهرت تلك المعاني اللطيفة للبصر وظهر حسن الصورة للبصر. فزيادة البعد ونقصان البعد قد يظهر الحسن. فالبعد على انفراده قد يفعل الحسن.
والوضع قد يفعل الحسن، وكثير من المعاني المستحسنة إنما تستحسن من أجل الترتيب والوضع فقط. وذلك أن النقوش كلها إنما تستحسن من أجل الترتيب. والكتابة المستحسنة إنما تستحسن من أجل الترتيب. لأن حسن الخط إنما هو من تقويم أشكال الحروف ومن تأليف بعضها ببعض. فإن لم يكن تأليف الحروف وترتيبها منتظماً متناسباً فليس يكون الخط حسناً وإن كانت أشكال حروفه على انفرادها صحيحة مقومة. وقد يستحسن الخط إذا كان تأليفه تأليفاً منتظماً وإن لم تكن حروفه في غاية التقويم. وكذلك كثير من صور المبصرات إنما تحسن وتروق من أجل تأليف أجزائها وترتيب بعضها عند بعض.
والتجسم يفعل الحسن، ولذلك تستحسن الأجسام الخصبة من أشخاص الناس وأشخاص كثير من الحيوان.
والشكل يفعل الحسن، ولذلك يستحسن الهلال. والصور المستحسنة من الناس وأشخاص كثير من الحيوانات والشجر والنبات إنما تستحسن من أجل أشكالها وأشكال أجزاء الصورة.
والعظم يفعل الحسن. ولذلك صار القمر أحسن من كل واحد من الكواكب وصارت الكواكب الكبار أحسن من الكواكب الصغار.
والتفرق يفعل الحسن، ولذلك صارت الكواكب المتفرقة أحسن من اللطخات وأحسن من المجرة. ولذلك أيضاً صارت المصابيح والشموع المتفرقة أحسن من النار المتصلة المجتمعة. ولذلك أيضاً توجد الأنوار والأزهار المتفرقة في الرياض أحسن من المجتمع منها والمتراص.

والاتصال يفعل الحسن، ولذلك صارت الرياض المتصلة النبات المتكاثفة أحسن من المتقطع منها والمتفرق. وإن كانت الرياض مستحسنة من أجل ألوانها فالمتصل منها أحسن. والحسن الزائد الذي في المتصل منها إنما يفعله الاتصال فقط.
والعدد يفعل الحسن. ولذلك صارت المواضع الكثيرة الكواكب من السماء أحسن من المواضع القليلة الكواكب. ولذلك أيضاً تستحسن المصابيح والشموع إذا اجتمع منها عدد كثير في موضع واحد.
والحركة تفعل الحسن. ولذلك يستحسن الرقص وحركات الراقص وكثير من الإشارات وحركات الإنسان في كلامه وأفعاله.
والسكون يفعل الحسن. ولذلك يستحسن الوقار والسمت.
والخشونة تفعل الحسن. ولذلك يستحسن الخشن من كثير من الثياب والفروش. ولذلك يحسن كثير من الصياغات بأن تخشن وجوهها وتحرش.
والملاسة تفعل الحسن. ولذلك يستحسن الصقال في الثياب والآلات.
والشفيف يفعل الحسن. ولذلك تستحسن الجواهر المشفة والأواني المشفة.
والكثافة تفعل الحسن، لأن الألوان والأضواء والأشكال والتخطيط وجميع المعاني المستحسنة التي تظهر في صور المبصرات ليس يدركها البصر إلا من أجل الكثافة.
والظل قد يظهر الحسن. وذلك لأن كثيراً من صور المبصرات قد يكون فيها وشوم وغضون ومسام لطيفة تشينها وتكسف حسنها. فإذا كانت في ضوء الشمس وفي الأضواء القوية ظهرت الوشوم والمسام التي فيها فتخفى محاسنها. وإذا كانت في الظل وفي الأضواء الضعيفة خفيت تلك الوشوم والغضون والمسام التي شانتها فتظهر محاسنها. وأيضاً فإن التقازيح التي تظهر في أرياش الحيوانات وفي النوع المسمى أباقلمون إنما تظهر في الظل وفي الأضواء المنكسرة. وإذا كانت في ضوء الشمس وفي الأضواء القوية خفيت التقازيح والمحاسن التي تظهر فيها إذا كانت في الظل وفي الأضواء المنكسرة.
والظلمة تظهر الحسن. وذلك أن الكواكب إنما تظهر في الظلام. وكذلك المصابيح والشموع والنيران إنما يظهر حسنها في سواد الليل وفي المواضع المظلمة، وليس يظهر حسنها في ضوء النهار وفي الأضواء القوية. والكواكب في الليالي المظلمة أحسن منها في الليالي المقمرة.
والتشابه يفعل الحسن. وذلك أن أعضاء الحيوان المتماثلة ليس تحسن إلا إذا كانت متشابهة. فإن العينين إن كانت مختلفتي الشكل وكانت إحداهما مستديرة والأخرى مستطيلة كانت في غاية القبح. وكذلك إن كانت إحداهن أكبر من الأخرى. وكذلك الوجنتان إن كانت إحداهن جاحظة والأخرى غائرة وكانت في غاية القبح. وكذلك الحاجبان إن كان أحدهما غليظاً والآخر دقيقاً كانا في غاية القبح. وكذلك إن كان أحدهما طويلاً والآخر قصيراً كانا مستقبحين. فجميع أعضاء الحيوانان متماثلة ليس تحسن إلا إذا كانت متشابهة. وكذلك النقوش وحروف الكتابة ليس تحسن إلا إذا كانت الحروف المتماثلة منها والأجزاء المتماثلة منها متشابهة.
والاختلاف يفعل الحسن. وذلك أن أشكال أعضاء الحيوان مختلفة الأجزاء، وليس تحسن إلا على ما هي عليه من الاختلاف. وذلك أن الأنف لو أنه متساوي الغلظ أوله مساوي الغلظ لآخره لكان في غاية القبح. وليس حسنه إلا باختلاف طرفيه وانخراطه. وكذلك الحاجبان ليس حسنهما إلا إذا كان طرفاهما أدق من بقيتهما. وكذلك جميع أعضاء الحيوان إذا تؤملت يوجد حسنها إنما هو اختلاف أشكال أجزائها. وكذلك النقوش وحروف الكتابة لو تساوت أجزاؤها في الغلظ لما كانت مستحسنة. وذلك أن أطراف الحروف وأواخر التعريقات إنما تحسن إذا كانت مستدقة وأدق من بقية الحروف. ولو تساوت أواخر الحروف وأوساطها وأوائلها ووصولها وتعليقاتها، وكانت جميعها في الغلظ على هيئة واحدة، لكان الخط في غاية القبح. فالاختلاف قد يفعل الحسن في كثير من صور المبصرات.

فقد تبين مما ذكرناه آن كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر التي بينا تفصيلها قد تفعل الحسن على انفراده. وإذا استقرئت وجد كل واحد من هذه المعاني قد تفعل الحسن في مواضع كثيرة. وإنما ذكرنا ما ذكرناه على طريق المثال، وليستدل بكل واحد من الأمثلة على نظائره، وليتطرق به إلى استقراء أمثاله من أراد البحث عن كيفية تأثيرات هذه المعاني في الصور المستحسنة. إلا أنه ليس تفعل هذه المعاني الحسن في كل المواضع ولا يفعل الواحد من هذه المعاني الحسن في كل صورة يحصل فيها ذلك المعنى، بل في بعض الصور دون بعضها. ومثال ذلك العظم ليس يفعل الحسن في كل جسم مقتدر العظم. وكذلك اللون: ليس كل لون يفعل الحسن، ولا اللون الواحد يفعل الحسن في كل جسم يحصل فيه ذلك اللون. وكذلك الشكل:ليس كل شكل يفعل الحسن. وكل واحد من المعاني الجزئية التي ذكرناها تفعل الحسن بانفراده، ولكن في بعض المواضع دون بعضها وعلى بعض الصفات دون بعضها.
وأيضاً فإن هذه المعاني قد تفعل الحسن باقتران بعضها ببعض. وذلك أن الخط الحسن هو الذي تكون أشكال حروفه أشكالاً مستحسنة وتأليف بعضها ببعض تأليفاً مستحسناً، وهو غاية حسن الخط. فإن الخط الذي يجتمع فيه هذان المعنيان أحسن من الخط الذي يكون فيه أحد هذين المعنيين دون الآخر. فغاية حسن الخط إنما يكون من اقتران الشكل والوضع.
وكذلك الألوان المشرقة الرائقة والنقوش إذا كانت مرتبة ترتيباً منتظماً متشاكلاً كانت أحسن الألوان والنقوش التي ليس لها ترتيب منتظم.وكذلك صور أشخاص الناس والحيوانات قد يظهر فيها الحسن من اقتران المعاني الجزئية التي فيها. وذلك أن كبر العينين الكبر المعتدل مع تلويز شكلها أحسن من العين التي لي لها إلا الكبر فقط أو التلويز فقط. وكذلك سهولة الخدين مع ورقة اللون أحسن من الخدين السهلين مع انكساف اللون وأحسن من الخدين الجاحظين وإن كانا رقيقي اللون. وكذلك استدارة الوجه مع رقة اللون أحسن من صغر الفم مع غلظ الشفتين وأحسن من رقة الشفتين مع سعة الفم. وهذا المعنى كثير التيقن.
وإذا استقرئت الصور المستحسنة في جميع المبصرات وجد اقتران المعاني الجزئية التي تكون في الصور تفعل فيها أنواعاً من الحسن لا يفعله الواحد من المعاني على انفراده. وأكثر الحسن الذي يدرك بحاسة البصر إنما يتقوم من اقتران هذه المعاني بعضها ببعض. فالمعاني الجزئية التي ذكرناها تفعل الحسن بانفرادها وتفعل الحسن باقتران بعضها ببعض.
وقد يتقوم الحسن من الحسن من معنى آخر غير كل واحد من المعنيين اللذين ذكرناهما، وهو الناسب والإئتلاف. وذلك أن الصور المركبة المتألفة من أعضاء مختلفة يحصل لأجزائها أشكال مختلفة وأعظام مختلفة وأوضاع مختلفة واتصال وافتراق، ويحصل في كل واحد منها عدة معان من المعاني الجزئية، وليس جميعها يكون متناسباً ومتآلفاً. وذلك أنه ليس كل شكل يحسن مع كل شكل ولا عظم يحسن مع كل عظم ولا كل وضع يحسن مع كل وضع ولا كل شكل يحسن مع كل عظم ولا كل عظم مع كل وضع، بل كل واحد من المعاني الجزئية يتناسب بعض المعاني ويباين بعضها، وكل مقدار فهو يناسب بعض المقادير ويباين بعضها. ومثال ذلك قنو الأنف مع غؤور العينين غير مستحسن، وكذلك كبر العينين مع كبر الأنف المسرف الكبر غير مستحسن، وكذلك نتوء الجبهة مع غؤور العينين غير مستحسن وتطامن الجبهة مع جحوظ العينين غير مستحسن. فلكل عضو من الأعضاء شكل وأشكال تحسن صورته، ومع ذلك فكل شكل من أشكال كل واحد من الأعضاء إنما يناسب بعض الأشكال التي للأعضاء الباقية دون بعضها، وتحسن الصورة باجتماع الأشكال المناسبة لأعضاء الصورة.

وكذلك أعظام الأعضاء وأوضاعها وترتيبها. فإن كبر العينين مع حسن شكلها ومع قنو الأنف وبالاعتدال وبالعظم المناسب لكبر العينين مستحسن. وكذلك تلويز العينين وحلاوة شكلها وإن صغرتا مع دقة الأنف واعتدال شكله ومقداره إذا اجتمعا في الوجه كان مستحسناً. وكذلك دقة الشفتين مع لطافة الفم مستحسن إذا كانت لطافة الفم مناسبة لدقة الشفتين، أعني أن لا تكون الشفتان في غاية الدقة والفم ليس في غاية الصغر، بل يكون صغر الفم معتدلاً والشفتان دقيقتين ومع ذلك مناسبة لمقدار الفم. وكذلك سعة الوجه إذا كان مناسباً لمقادير أعضاء الوجه كان مستحسناً، أعني أن لا يكون الوجه في غاية السعة وأعضاء الوجه صغاراً أعني غير مناسبة لمقدار جملة الوجه. فإن الوجه إذا كان واسعاً مسرف السعة وكانت الأعضاء التي فيه صغاراً غير مناسبة لمقداره كان الوجه غير مستحسن وإن كانت مقادير الأعضاء متناسبة وأشكالها مستحسنة. وكذلك إن كان الوجه صغيراً ضيقاً وأعضاؤه كباراً غير مناسبة لمقداره كان الوجه مستقبحاً. وإذا كانت الأعضاء متناسبة ومناسبة لمقدار سعة الوجه فإن الصورة تكون مستحسنة وإن لم يكن كل واحد من الأعضاء على انفراده مستحسناً في شكله ومقداره.
بل التناسب فقط قد يفعل الحسن إذا لم نكن الأعضاء على انفرادها مستقبحة وإن لم تكن في غاية حسنها. فإذا اجتمع في الصورة حسن أشكال كل واحد من أجزائها وحسن مقاديرها وحسن تأليفها وتناسب الأعضاء في الأشكال والأعظام والأوضاع وجميع المعاني التي يقتضيها التناسب، وكانت مع ذلك مناسبة لجملة شكل الوجه ومقداره، فهو غاية الحسن. والصورة التي يحصل فيها بعض هذه المعاني دون بعض يكون حسنها بحسب ما فيها من المعاني المستحسنة.
وكذلك الخط ليس يكون مستحسناً إلا إذا كانت حروفه متناسبة في أشكالها ومقاديرها وترتيبها. وكذلك جميع أنواع المبصرات التي يجتمع فيها أجزاء مختلفة.
فإذا استقرئت الصور المستحسنة من جميع أنواع المبصرات وجد التناسب يفعل فيها من الحسن ما ليس يفعله كل واحد من المعاني الجزئية على انفراده وما ليس تفعله المعاني الجزئية أيضاً التي تجتمع في الصورة باقتران بعضها ببعض. وإذا تؤملت المعاني المستحسنة التي تفعلها المعاني الجزئية باقتران بعضها ببعض أيضاً وجد الحسن الذي يظهر من اقترانها إنما يظهر لتناسب ما يحصل فيما بين تلك المعاني المقترنة وائتلافها. لأنه ليس كلما اجتمع ذلك المعنيان أو تلك المعاني حدث ذلك الحسن، بل في بعض الصور دون بعض، وهو لتناسب يؤلف بين المعنيين أو المعاني المجتمعة في الصورة. فالحسن إنما يكون من المعاني الجزئية، وتمامه وكماله إنما هو من التناسب والائتلاف الذي يحدث بين المعاني الجزئية.

قد تبين من جميع ما ذكرناه أن المحاسن والصور المستحسنة التي تدرك بحاسة البصر إنما تكون من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر ومن اقتران بعضها ببعض ومن مناسبة بعضها لبعض. والبصر يدرك المعاني الجزئية التي قدمنا ذكرها مفردة ومقترنة، ويدرك الصور المتألفة منها. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات، وكان في ذلك المبصر معنى من المعاني الجزئية التي قدمنا ذكرها التي تفعل الحسن منفرداً، وتأمل البصر ذلك المعنى منفرداً، حصلت صورة ذلك المعنى بعد التأمل عند الحاس وأدركت القوة المميزة حسن المبصر الذي فيه ذلك المعنى. لأن صورة كل مبصر من المبصرات مركبة من عدة معان من المعاني التي قد قدمنا تفصيلها. فإذا أدرك البصر المبصر ولم يميز المعاني التي فيه، وكان أحد المعاني التي في ذلك المبصر على الصفة التي تفعل الحسن في النفس، فإن البصر عند تأمل ذلك المعنى يدرك ذلك المعنى منفرداً. فإذا كان ذلك المعنى منفرداً حصل ذلك الإدراك عند الحاس. وإذا حصل إدراك صورة المعنى الذي يفعل الحسن عند الحاس أدركت القوة المميزة الحسن الذي فيه، فأدركت بذلك الإدراك حسن ذلك المبصر. وإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات، وكان في ذلك المبصر حسن مركب من معان مقترن بعضها بعض ومن معان مناسب بعضها لبعض، وتأمل البصر ذلك المبصر وميز المعاني التي فيه وأدرك المعاني التي فيه، وأدرك المعاني التي تفعل الحسن باقتران بعضها ببعض أو مناسبة بعضها لبعض، وحصل ذلك الإدراك عند الحاس، وقاست القوة المميزة تلك المعاني بعضها ببعض، أدركت حسن ذلك المبصر المركب من اقتران المعاني المتألفة التي فيه. فالبصر يدرك الحسن الذي في المبصرات من قياس تلك المعاني بعضها ببعض على الصفة التي فصلناها.

إدراك القبح
فأما القبح فهو الصورة التي تخلو من كل واحد من المعاني المستحسنة. وذلك انه قد تقدم أن المعاني الجزئية قد تفعل الحسن ولكن ليس تفعله في كل المواضع ولا في كل الصور، بل في بعض الصور دون بعض. وكذلك التناسب ليس يكون في جميع الصور بل في بعض الصور دون بعض. فالصور التي ليس يفعل فيها شيء من المعاني الجزئية شيئاً من الحسن على انفراد المعاني ولا باقترانها ولا يكون فيها شيء من التناسب في أجزائها فليس فيها شيء من الحسن. وإذا لم يكن فيها شيء من الحسن كانت مستقبحة. لأن قبح الصورة هو عدم الحسن فيها. وقد يجتمع في الصورة الواحدة معان مستحسنة ومعان مستقبحة، والبصر يدرك حسن الحسن منها وقبح القبيح إذا ميز المعاني التي فيها وتأملها. والقبح يدركه البصر من الصور التي قد عدمت جميع المحاسن من عدمه الحسن عند إدراكها. وكذلك كل معنى مستقبح.
إدراك التشابه
فأما إدراك البصر للتشابه فإن التشابه هو تساوي الصورتين أو المعنيين في المعنى الذي يتشابهان فيهز والبصر يدرك الصور والمعاني التي في الصور على ما هي عليه. فإذا أدرك البصر صورتين متشابهتين معاً أو معنيين متشابهين فهو يدرك تشابههما من إدراكه لكل واحدة من الصورتين أو المعنيين، ومن قياس إحدى الصورتين بالأخرى أو المعنيين أحدهما بالآخر، ومن إدراكه لتساويهما في المعنى الذي فيه يتشابهان. فالبصر يدرك التشابه في الصور المتشابهة وفي المعاني المتشابهة من إدراكه لكل واحد من الصور والمعاني على ما هي عليه، ومن قياس بعضهما ببعض.
إدراك الاختلاف
فأما الاختلاف فإن البصر يدركه في الصور المختلفة من إدراكه لكل واحدة من الصورتين المختلفتين ومن قياس إحديهما بالأخرى ومن إدراكه لعدم التساوي في هيئتهما وفي جميع المعاني التي فيهما التي يختلفان فيها، أعني إحساس الحاس بعدم التساوي فيهما. فالاختلاف يدرك بحاسة البصر من إدراك البصر لكل واحدة من الصور والمعاني على انفرادها ومن قياس بعضها ببعض ومن إحساس الحاس بعدم التساوي فيهما.
فقد أتينا على تبيين كيفيات إدراك البصر لكل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر. وقد تبين من جميع ذلك أن المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر منها ما يدرك بمجرد الحس ومنها ما يدرك بالمعرفة ومنها ما يدرك بالقياس والاستدلالات. وهذه المعاني التي قصدنا لتبيينها في هذا الفصل.
الفصل الرابع
تمييز إدراك البصر للمبصرات

قد تبين كيف يدرك البصر كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر. والبصر إنما يدرك صور المبصرات التي هي الأجسام. وصور المبصرات إنما هي مركبة من المعاني الجزئية التي تقدم بيانها كالشكل والعظم واللون والوضع والترتيب وأمثال ذلك من المعاني الجزئية التي تقدم بيانها. فالبصر إنما يدرك كل واحد من المعاني الجزئية من إدراكه لصور المبصرات التي هي مركبة من المعاني الجزئية. والبصر يدرك من كل صورة من صور المبصرات جميع المعاني الجزئية التي في الصورة معاً. وليس يدرك البصر شيئاً من المعاني الجزئية منفرداً، لأنه ليس ينفرد واحد من المعاني الجزئية التي تقدم بيانها متحداً لا يقترن به غيره، لأن جميع المعاني الجزئية التي تقدم بيانها ليس توجد إلا في أجسام، والجسم ليس ينفرد بمعنى واحد من هذه المعاني دون غيرها، بل ليس يخلو واحد من الأجسام من أن يجتمع فيه عدة من المعاني الجزئية المدركة بحاسة البصر. فالبصر إنما يدرك صور المبصرات، وكل واحدة من صور المبصرات مركبة من عدة من المعاني الجزئية، فالبصر يدرك في كل واحدة من صور المبصرات عدة من المعاني الجزئية منفرداً في التخيل والتمييز. فالبصر يدرك كل واحد من المعاني الجزئية عند ملاحظة المبصر مقترناً بغيره من المعاني الجزئية، ثم من تمييزه للمعاني التي في الصورة يدرك كل واحد من المعاني على انفراده.
وقد تبين بالتفصيل والتحرير كيف يدرك البصر صور المبصرات التي هي مركبة من المعاني الجزئية الذي هو إدراك المعاني الجزئية المجتمعة في الصورة معاً. والمعاني الجزئية التي منها تتألف صور المبصرات منها ما يظهر في حال ملاحظة البصر للمبصر ومنها ما ليس يظهر إلا بعد التفقد والتأمل. ومثال ذلك النقوش الدقيقة وحروف الكتابة والوشوم والغضون واختلاف الألوان المتقاربة الشبه. وجميع المعاني اللطيفة ليس تظهر للبصر في حال ملاحظة البصر، وليس تظهر إلا بعد التفقد والتأمل. وحقيقة صورة المبصر التي تدرك بحاسة البصر هي التي تتقوم من جميع المعاني الجزئية التي تكون في صورة المبصر التي يصح أن يدركها البصر. وليس تدرك حقيقة صورة المبصر التي يصح أن يدركها البصر إلا بإدراك جميع المعاني الجزئية التي تكون في صورة المبصر. وإذا كان ذلك كذلك فحقيقة صورة المبصر الذي فيه معان لطيفة ليس يدركها البصر إلا من بعد التفقد والتأمل.
وأيضاً فإنه إذا كان البصر ليس يدرك المعاني اللطيفة إلا بالتفقد والتأمل، وليس تظهر المعاني اللطيفة للبصر في حال الملاحظة، فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات وأدرك صورته، ولم يكن في ذلك المبصر شيء من المعاني اللطيفة، ولم يدرك البصر في صورته شيئاً من المعاني اللطيفة، فإنه ليس يتحقق الحاس مع ذلك أن ليس في ذلك المبصر معان لطيفة، إذ كانت المعاني اللطيفة ليس تظهر إلا بالتأمل. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات، ولم يكن في ذلك المبصر شيء من المعاني اللطيفة، فهو يدرك صورته الحقيقية، ولكن ليس يتحقق أن تلك هي صورته الحقيقية. وليس يتحقق أن تلك هي صورته الحقيقية إلا بعد أن يتفقد كل جزء من أجزاء ذلك المبصر ويتحقق أنه ليس فيها شيء من المعاني اللطيفة. ومن بعد تفقد جميع أجزائه يتحقق أن الذي أدركه هو صورته الحقيقية.
فعلى تصاريف الأحوال ليس يتحقق البصر صورة المبصر إلا بتفقد جميع أجزاء المبصر وتأمل جميع المعاني التي يصح أن تظهر من المبصر. وإذا كان ذلك كذلك فحقائق صور المبصرات التي يدركها البصر ليس تدرك إلا بالتأمل.

وإذ وقد تبين ذلك فإننا نقول إن إدراك البصر للمبصرات يكون على وجهين، إدراكاً بالبديهة وإدراكاً بالتأمل. وذلك أن البصر إذا لحظ المبصر فإنه يدرك منه المعاني الظاهرة التي فيه في حال ملاحظته. ثم ربما تأمله من بعد ذلك وربما لم يتأمله. فإن تأمله واستقرأ جميع أجزائه تحقق صورته. وإن لم يتأمله ويتفقد جميع أجزائه فقد أدرك منه صورة غير محققة إما هي صورته الحقيقية، وليس يتحقق أنها صورته الحقيقية، وإما هي غير صورته الحقيقية. وكثيراً ما يدرك البصر المبصر وينصرف عنه من غير تأمل. فإذا أدرك البصر المبصر ولم يتأمله فإنه يدرك منه صورة غير محققة، وهو يدركها بالبديهة. وإذا أدرك البصر المبصر وتأمله فهو يدرك منه صورة محققة ويكون إدراكها بالتأمل. وإذا كان ذلك كذلك فإدراك البصر للمبصرات يكون على وجهين، إدراك بالبديهة وإدراك بالتأمل. والإدراك بالبديهة هو إدراك غير محقق والإدراك غير محقق والإدراك بالتأمل هو الذي به تحقق صور المبصرات.
وإذ قد تبين ذلك فإنا نقول إن التأمل الذي به تدرك حقائق صور المبصرات يكون بالبصر نفسه ويكون بالتمييز. وذلك أنه قد تبين في تمييز خطوط الشعاع أن الصور التي يدركها البصر من سهم الشعاع وما قرب من السهم تكون أبين وأشد تحقاً مما يدرك من السموت الباقية. فإذا قابل البصر مبصراً من المبصرات ولم يكن المبصر في غاية الصغر، بل كان حجمه مقتدراً، وثبت البصر في مقابلته ولم يتحرك عليه في حال ملاحظته، فإن ما قابل وسط البصر من ذلك المبصر وكان على السهم وعلى ما قرب من السهم يكون أبين من بقية أجزاء المبصر. والبصر يحس بهذه الحال لأنه إذا أدرك جملة المبصر فإنه يجد الموضع المقابل لوسطه الذي تحصل صورته في وسط البصر أبين من الأجزاء الباقية.
وقد تبين من قبل أن هذا المعنى يظهر للحس إذا كان المبصر فسيح الأقطار. فإذا أدرك البصر المبصر وأدرك جملته فإنه يجد صورة الجزء المقابل لوسطه أبين من جميع الأجزاء الباقية. فإذا أراد أن يتحقق صورة المبصر فهو يتحرك ويقابل بوسطه كل جزء من أجزاء المبصر وبذلك يدرك صورة كل جزء من أجزاء المبصر إدراكاً بيناً محققاً،كما أدرك الجزء الذي كان مقابلاً لوسطه في حال ملاحظة المبصر. فالحاس إذا أراد أن يتحقق صورة المبصر فإن البصر يتحرك حتى يقابل بوسطه كل جزء من أجزاء المبصر جزءاً بعد جزء، فيدرك بهذه الحركة صورة كل جزء من أجزاء المبصر على أبين ما يمكن أن يدركه.
والقوة المميزة تميز جميع ما يرد عليها من الصور. فهي تميز ألوان الأجزاء واختلاف ألوانها إذا كانت مختلفة الألوان، وترتيب الأجزاء بعضها عند بعض وتفصيلها وهيئة كل واحد منها، وجميع المعاني التي تظهر بالتأمل من المبصر وهيئة جملة المبصر المتألفة من تلك الأجزاء ومن تلك المعاني. فعلى هذه الصفة يكون تحقق كل جزء من أجزاء المبصر على ما هي عليه وتحقق جميع المعاني التي في المبصر. وليس تتحقق صورة كل جزء من أجزاء المبصر ويظهر جميع المعاني التي في المبصر إلا بعد تحرك البصر على جميع الأجزاء أو مرور السهم أو ما قرب من السهم بكل واحد من تلك الأجزاء. ومع ذلك فإن البصر مطبوع على حركة التأمل وإمرار سهم الشعاع على جميع أجزاء المبصر، فإذا همت القوة المميزة بتأمل المبصر تحرك سهم الشعاع على ميع أجزاء المبصر. وإذا كانت المعاني اللطيفة التي في المبصر ليس تظهر إلا بحركة البصر ومرور السهم أو ما قرب منه خطوط الشعاع على كل جزء من أجزاء المبصر، فليس تحصل صورة المبصر محققة عند الحاس إذا كان حجمه مقتدراً إلا بتحرك البصر ومقابلة كل جزء من أجزاء المبصر بوسط البصر.

وأيضاً فإن المبصر إذا كان في غاية الصغر ولم يكن مقابلاً لوسط البصر فليس يتم تأمله إلا بعد أن يتحرك البصر حتى يمر السهم بذلك المبصر وتحصل صورة ذلك المبصر في وسط البصر وتظهر ظهوراً بيناً. وأيضاً فإنه ليس يدرك جميع المعاني التي تكون في المبصر إلا بتمييز جميع المعاني التي في جميع أجزاء المبصر. وإذا كان ذلك كذلك فالتأمل الذي به تدرك حقائق صور المبصرات تكون بالبصر نفسه وتكون بالبصر والتمييز معاً. فإدراك البصر لحقيقة صورة المبصر ليس يكون إلا بالتأمل. والتأمل الذي به تتحقق صورة المبصر ليس يتم إلا بتحرك البصر. وإذا كان حجم المبصر مقتدراً فليس يتم تأمله إلا بتحرك سهم الشعاع أو ما قرب منه من خطوط الشعاع في جميع أقطار المبصر. وإلى هذا المعنى ذهب من رأى أن الإبصار ليس يكون إلا بحركة وأنه ليس شيء من المبصرات يبصر جميعاً معاً، فإنه إنما أراد الإبصار المحقق الذي ليس يكون إلا بالتأمل وبحركة البصر وبحركة سهم الشعاع في جميع أقطار المبصر.
فأما كيف يتحقق الحاس بالتأمل والحركة صورة المبصر فالبصر إذا قابل المبصر فإنه في حال مقابلته وحصول الصورة في البصر فإن الحاس يدرك جملة الصورة إدراكاً مجملاً ويدرك الجزء الذي عند طرف السهم إدراكاً بيناً على غاية ما يصح أن يدرك ذلك الجزء، ويدرك مع ذلك في هذه الحال كل جزء من الأجزاء الباقية التي في الصورة إدراكاً ما. ثم إذا تحرك البصر وانتقل السهم من الجزء الذي كان عليه إلى جزء آخر أدرك الحاس في هذه الحال صورة جملة المبصر إدراكاً ثانياً وأدرك الجزء الذي عند طرف السهم إدراكاً ثانياً أيضاً ومع ذلك يكون إدراكه لهذا الجزء الذي عند طرف السهم في الحال الثانية أبين من إدراكه في الحال الأولى. وفي هذه الحال فإن الحاس يدرك أيضاً الأجزاء الباقية إدراكاً ما. وكذلك إذا انتقل السهم بالحركة إلى جزء ثالث فإن الحاس يدرك في الحال الثالثة جملة المبصر إدراكاً ثالثاً، ويدرك الجزء الذي عند طرف السهم إدراكاً ثالثاً أيضاً، ويكون إدراكه لهذا الجزء في هذه الحال أبين من إدراكه في الحالتين الأوليين، ومع ذلك فإن الحاس في هذه الحال يدرك أيضاً كل جزء من الأجزاء الباقية إدراكاً ما. فبحركة البصر على أجزاء المبصر تحصل للحاس حالتان: إحداهما تكرر جملة المبصر ولك جزء من أجزاء المبصر، والحال الثانية أنه يدرك كل جزء من أجزاء المبصر بسهم الشعاع وما قرب من السهم على أبين ما يمكن أن يدركه، فيظهر للحس بهذا التبيين جميع ما يصح أن يظهر من تلك الأجزاء. وإذا تكرر إدراك الحس لجملة المبصر ولكل جزء من أجزاء المبصر، وظهر جميع ما يصح أن يظهر لهمن ذلك المبصر، أدرك بهذه الحال جميع ما يصح أن يدركه من ذلك المبصر ومع ذلك إدراكاً مكرراً.
وفي تضاعيف هذه الجملة وهذا التكرر فالقوة المميزة تميز جميع ما يظهر من ألوان الأجزاء وأعظامها وأبعادها وأشكالها وأوضاعها وتساوي ما يتساوى منها في هذه المعاني واختلاف ما يختلف منها في جميع هذه المعاني أو في بعضها ومن ترتيب الأجزاء بعضها عند بعض، وتدرك من تمييز جميع هذه المعاني ومن قياس هذه المعاني بما تعرفه من أمثالها الهيئة المتألفة من جميع ذلك لجملة المبصر، فيتحرر بالتكرر والتبيين والتمييز جميع المعاني التي في المبصر ويتشكل في التخيل الهيئة التي تتألف من جميع تلك المعاني لجملة المبصر. وإذا تحررت جميع المعاني التي في المبصر وتشكلت في التخيل الهيئة التي تتألف من جميع تلك المعاني لجملة المبصر تحققت صورة المبصر التي بها يتخصص ذلك المبصر عند الحاس. فعلى هذه الصفة يتحقق الحاس بالتأمل صور المبصرات.

وأيضاً فإننا نقول إن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات وتحققت صورته عند الحاس فإن صورة ذلك المبصر تبقى في النفس وتكون متشكلة في التخيل، وإذا تكرر إدراك البصر للمبصر كانت صورته أثبت في النفس من صورة المبصر الذي لم يدركه البصر إلا مرة واحدة أو لم يكثر إدراك البصر له، وإن البصر إذا أدرك شخصاً من الأشخاص ثم أدرك أشخاصاً أخر من نوع ذلك الشخص وتكرر إدراكه لأشخاص ذلك النوع واستمر ذلك دائماً وتقررت صورة ذلك النوع في النفس وحصلت في النفس صورة كلية متشكلة في التخيل لذلك النوع. والذي يدل على أن صور المبصرات تبقى في النفس وفي التخيل هو أن الإنسان إذا تذكر إنساناً يعرفه وقد شاهده من قبل ذلك واجتمع معه وتحقق صورته وكان ذاكراً للوقت الذي شاهد فيه ذلك الإنسان والموضع الذي اجتمع معه فيه ذكراً صحيحاً، فإنه يتخيل في الحال شخص ذلك الإنسان وتخطيط وجهه وهيئته ونصبته التي كان عليها في ذلك الوقت، ويتخيل الموضع الذي شاهده فيه، وربما تخيل في الحال مبصرات أخر قد كانت حاضرة في الموضع الذي شاهد فيه ذلك الإنسان. فتخيله صورة ذلك الإنسان عند تذكره وصورة الموضع الذي شاهده فيه والحال التي كان عليها مع غيبة ذلك الإنسان وغيبة ذلك الموضع دليل ظاهر على أن صورة ذلك الإنسان وصورة ذلك الموضع حاصلة في نفسه وباقية في تخيله. وكذلك إذا تذكر الإنسان بلداً قد شاهده ثم غاب عنه، فإنه يتخيل صورة ذلك البلد وصورة المواضع التي كان فيها من ذلك البلد وصور الأشخاص الذي عرفهم في ذلك البلد، إذا كان ذاكراً لجميع ذلك مع غيبة ذلك البلد وغيبة ما شاهده فيه. وكذلك ما شاهده الإنسان من المبصرات إذا تذكرها وكان ذاكراً لمشاهدته لها ذكراً صحيحاً فإنه يتخيل صورها على ما شاهدها عليه في وقت مشاهدتها. فتخيل الإنسان لصور المبصرات التي قد شاهدها من قبل وهي غائبة عنه في حال تذكرها دليل ظاهر على أن صور المبصرات التي قد أدركها البصر تحصل في النفس وتتشكل في التخيل.
فأما أن صورة المبصر الذي يتكرر إدراك البصر له تكون أثبت في النفس وفي التخيل من صورة المبصر الذي لم يتكرر إدراك البصر له فإن ذلك لأن النفس إذا ورد عليها معنى من المعاني حصلت صورة ذلك المعنى في النفس. فإذا تمادى الزمان على ذلك المعنى ولم يعد مرة ثانية على النفس ربما أنسيت النفس ذلك المعنى أو أنسيت بعض المعاني التي فيه. فإذا عاد ذلك المعنى على النفس قبل نسيانه وقبل نسيان المعاني التي فيه أو جمهورها تجددت صورة ذلك المعنى في النفس، فذكرت النفس بالصورة الثانية الصورة الأولى وقرب عهد النفس بذلك المعنى من الصورة الثانية. فإذا تكرر ورود المعنى على النفس مرات كثيرة كانت النفس لذلك المعنى أذكر وبه آنس وكان ذلك المعنى أثبت في النفس.
وأيضاً فإنه في أول مرة يرد المعنى على النفس أو ترد صورة المبصر على النفس ربما لم تدرك النفس جميع المعاني التي في تلك الصورة ولم تتحققها وأدركت بعض المعاني التي فيها، فإذا عادت الصورة مرة ثانية أدركت النفس منها ما لم تكن أدركته في المرة الأولى. وكلما تكررت الصورة على النفس ظهر منها ما لم يكن ظهر إذا لم يكن ظهر فيها جميع المعاني التي فيها في أول مرة. وإذا أدركت النفس من الصورة دقائق معانيها وجميع ما فيها وتحققت صورتها كانت أبين في النفس وأثبت في التخيل من الصورة التي لم تدرك النفس جميع المعاني التي فيها في أول مرة ثم تكرر ورود الصورة عليها، ولم تدرك فيها بعد المرة الأولى معنى زائداً، تحققت أن الذي أدركته في أول مرة هو حقيقة صورتها. والصورة المتحققة المتيقنة تكون أثبت في النفس وفي التخيل من الصورة الغير محققة، فصورة المبصر إذا تكرر إدراك البصر لها تحققت صورتها عند النفس وفي التخيل، وتكون النفس بكثرة تكرر الصورة أذكر للصورة وآنس بها، وبتحقق الصورة وذكر النفس لها يكون ثبوت الصورة في النفس وفي التخيل. فلذلك تكون الصورة المتكررة على البصر أثبت في النفس وفي التخيل من الصورة التي لم يكثر إدراك البصر لها.

والذي يدل دليلاً واضحاً على أن المعاني والصور إذا تكررت على النفس كانت أثبت في النفس من المعاني والصور التي لم تتكرر على النفس هو أن الإنسان إذا أراد أن يحفظ علماً من العلوم أو أدباً من الآداب أو خبراً أو ما يجري مجرى ذلك، فإنه يكرر قراءة هذا المعنى مرات كثيرة، فإذا كرر قراءته ثبت في نفسه، وكلما كرره أكثر كان أشد ثبوتاً وأبعد نسياناً، وإذا قرأه مرة واحدة لم يثبت في نفسه، وإن قرأه مرات قليلة أيضاً لم يثبت في نفسه وإن ثبت نسيه سريعاً، وإذا نسي الإنسان شيئاً كان قد حفظه فإنه إذا عاود درسه وكرره مرات كثيرة عاد حفظه لذلك المعنى وثبت في نفسه. فمن الاعتبار بهذا المعنى يتبين بياناً واضحاً أن الصور التي ترد على النفس كلما تكررت كانت أثبت في النفس وفي التخيل من الصور التي لم يتكرر ورودها على النفس.
فأما الصور الكلية التي تحصل في النفس لأنواع المبصرات وتكون متشكلة في التخيل فإن لكل نوع من أنواع المبصرات هيئة وشكلاً يتساوى فيها جميع أشخاص ذلك النوع، وتختلف تلك الأشخاص بمعان جزئية مما يدرك بحاسة البصر أيضاً. وربما كان اللون في جميع أشخاص النوع واحداً. والهيئة والشكل واللون وجميع المعاني التي تتقوم منها هيئة كل شخص من أشخاص النوع. والبصر يدرك تلك الهيئة وذلك الشكل ويدرك كل معنى تتساوى فيه أشخاص النوع من جميع الأشخاص التي يدركها من أشخاص ذلك النوع، ويدرك أيضاً المعاني الجزئية التي تختلف بها تلك الأشخاص مع اتفاقها في المعاني الكلية. فبتكرر إدراك البصر لأشخاص النوع الواحد تتكرر عليه الصورة الكلية التي في ذلك النوع مع اختلاف الصور الجزئية التي لتلك الأشخاص. وإذا تكررت الصورة الكلية على النفس ثبتت في النفس واستقرت. ومن اختلاف الصور الجزئية التي ترد مع الصور الكلية عند تكررها تدرك النفس أن الصورة التي تتساوى فيها جميع أشخاص ذلك النوع هي صورة كلية لذلك النوع. فعلى هذه الصفة يكون حصول الصور الكلية التي يدركها البصر من أنواع المبصرات في النفس وفي التخيل.
فصور أشخاص المبصرات وصور أنواع المبصرات التي قد أدركها البصر تبقى في النفس وتثبت في التخيل، وكلما تكرر إدراك البصر لها كانت صورته أثبت في النفس وفي التخيل، ومن الصور الحاصلة في النفس لأنواع المبصرات وأشخاصها تكون معرفة الحاس بالمبصرات . ومعول الحاس واعتماده في إدراك مائيات المبصرات إنما هو على الصور الحاصلة في النفس، لأن إدراك مائيات المبصرات ليس يكون إلا المعرفة، والمعرفة إنما هي من قياس الصورة التي يدركها البصر في الحال بالصورة الثابتة في التخيل من صور المبصرات التي أدركها البصر من قبل ومن إدراك تشبه الصورة المدركة في الحال بإحدى الصور الحاصلة في التخيل. فإدراك مائية المبصر إنما هو إدراك تشبه صورة المبصر بصورة من الصور المستقرة في النفس الثابتة في التخيل لأنواع المبصرات. فمعول الحاس من إدراك مائيات المبصرات إنما هو على الصور الكلية الحاصلة في النفس لأنواع المبصرات ومعوله في معرفة أشخاص المبصرات إنما هو على صور الأشخاص الحاصلة في النفس لكل واحد من الأشخاص التي قد أدركها البصر من قبل وتخيل صورها. والقوة المميزة مطبوعة على تشبيه صور المبصرات في حال الإبصار بالصورة الثابتة في التخيل التي قد اقتنتها النفس من صور المبصرات فإن القوة المميزة تطلب شبهه في الصور الحاصلة في التخيل. فإذا وجدت في التخيل صورة تشبه صورة ذلك المبصر عرفت ذلك المبصر وأدركت مائيته، وإن لم تجد في الصور الحاصلة في التخيل صورة تشبه صورة ذلك المبصر فليس تعرف ذلك المبصر ولا تدرك مائيته. ولسرعة تشبيه القوة المميزة لصورة المبصر في حال الإبصار ربما عرض لها الغلط فتشبه المبصر بغيره من المبصرات إذا كان في المبصر معنى من المعاني هو في ذلك الغير. ثم تأملت ذلك المبصر من بعد هذه الحال وتحققت صورته شبهته بصورته الشبيهة به في الحقيقة، ويتبين لها في الحال الثانية أنها كانت غالطة في التشبيه الأول. فعلى هذه الصفات تدرك مائيات المبصرات بحاسة البصر.

وإذ قد تبينت جميع هذه المعاني فإنا نقول إن إدراك المبصرات بالتأمل يكون على وجهين: إدراكاً بمجرد التأمل وإدراكاً بالتأمل مع تقدم المعرفة. أما الإدراك الذي بمجرد التأمل فهو إدراك المبصرات الغريبة التي لم يميزها البصر من قبل، والمبصرات التي أدركها البصر من قبل وليس هو ذاكراً لمشاهدتها. فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات ولم يكن رأى ذلك المبصر من قبل ذلك الوقت ولم يكن رأى مبصراً من نوعه، وأراد الناظر أن يتحقق صورة ذلك المبصر، فإنه يتأمله ويستقرئ بالتأمل جميع المعاني التي فيه فيدرك بالتأمل صورته الحقيقية التي تدرك بالبصر. فإذا لم يكن رأى ذلك المبصر من قبل ذلك الوقت ولم ير شيئاً من نوعه فإنه عند إدراك صورته ليس يعرف صورته، فهو يقتني بالتأمل صورة حقيقته، ولا يكون مع ذلك قد عرفه، فيكون تحققه لصورة ما هذه صفته من المبصرات إنما هو بمجرد التأمل فقط. وكذلك إذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وكان قد شاهد ذلك المبصر من قبل ولم يكن ذاكراً لمشاهدته فإنه عند تأمله إذا لم يكن ذاكراً لصورته الأولة فليس يعرف صورته في الحال الثانية فيكون إدراكه للمبصر الذي بهذه الصفة بمجرد التأمل.
فأما الإدراك الذي يكون بالتأمل مع تقدم المعرفة فهو إدراك جميع أنواع المبصرات التي قد أدركها البصر من قبل وأدرك مبصرات من نوعها وحصلت صور أنواعها وأشخاصها في النفس والنفس ذاكرة لها ولصورها إذا استأنفت تأملها مع معرفتها. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات التي قد أدركها من قبل ذلك الوقت وأدرك شيئاً من أنواعها فإنه في حال ملاحظة ذلك المبصر قد أدرك جملة صورته التي يدركها بالبديهة، ثم باليسير من التأمل قد أدرك جملة هيئته التي هي الصورة الكلية التي تخص نوعه. فإذا كان قد أدرك من قبل ذلك الوقت مبصرات من نوع ذلك المبصر وقد حصلت صورة نوع ذلك المبصر في نفسه وكان ذاكراً للصورة الكلية التي لنوع المبصر، فإنه يعرف الصورة الكلية التي أدركها من ذلك المبصر في حال إدراكها، وفي حال معرفته بالصورة الكلية التي يدركها من ذلك المبصر قد عرف ذلك المبصر بالنوع. ثم إذا تأمل المعاني الباقية التي في ذلك المبصر تحقق صورته الجزئية. فإن لم يكن شاهد ذلك المبصر بعينه قبل ذلك الوقت أو كان شاهده ولم يكن ذاكراً لمشاهدته ولصورته التي أدركها عند المشاهدة الأولة، لم يعرف الصورة الجزئية، وإذا لم يعرف الصورة الجزئية لم يعرف المبصر نفسه، فتكون معرفته لذلك المبصر بالنوع فقط، ويقتني من تأمله وتحقق صورته صورته الجزئية التي تخص شخصه. وإن كان شاهد ذلك المبصر قبل ذلك الوقت مع مشاهدته لأشخاص من نوعه وكان ذاكراً لمشاهدته وللصورة التي أدركها من قبل من ذلك المبصر، فإنه إذا أدرك صورته الجزئية فإنه يعرف الصورة الجزئية في حال إدراكها، وفي حال معرفة الصورة الجزئية قد عرف المبصر، فيتحقق بإدراك صورته الجزئية صورة المبصر، ومع ذلك يعرف المبصر نفسه، وتكون معرفته لذلك المبصر بالنوع وبالشخص جميعاً. وإن كان قد شاهد ذلك المبصر من قبل ولم يشاهد من نوع ذلك المبصر غير ذلك الشخص فقط، ولم تتميز له الصورة الكلية التي لنوع ذلك المبصر، فإنه إذا أدرك ذلك المبصر وأدرك المعاني الكلية التي في ذلك المبصر التي تعم نوع ذلك المبصر فإنه لا يعرف ذلك المبصر ولا يدرك مائيته من إدراك صورته الكلية. فإذا أدرك المعاني الباقية التي في ذلك المبصر وأدرك صورته الجزئية وكان ذاكراً للصورة الجزئية التي أدركها من ذلك المبصر، فإنه يعرف الصورة الجزئية عند إدراكها، وإذا عرف الصورة الجزئية عرف المبصر بعينه وتكون معرفته لذلك المبصر بالشخص نفسه. وليس يدرك شيء من المبصرات بالتأمل إلا على إحدى هذه الصفات. فإدراك جميع المبصرات إذن بالتأمل يكون على وجهين، إدراكاً بمجرد التأمل وإدراكاً بالتأمل مع تقدم المعرفة. والمعرفة قد تكون بالنوع فقط وقد تكون بالنوع وبالشخص معاً.

وأيضاً فإن الإدراك بالتأمل ليس يكون إلا في زمان، لأن التأمل إنما هو بالتمييز وحركة البصر، والتمييز ليس يكون إلا في زمان والحركة ليس تكون إلا في زمان، فالتأمل ليس يكون إلا في زمان. وقد تبين أيضاً فيما تقدم أن الإدراك بالمعرفة والإدراك بالتمييز ليس يكون إلا في زمان، وإذ قد تبين أيضاً فيما تقدم أن الإدراك بالمعرفة والإدراك بالتمييز ليس يكون إلا في زمان، وإذ قد تبين أن إدراك المبصرات بالتأمل يكون بمجرد التأمل ويكون بالتأمل مع تقدم المعرفة، وأن ما يدرك بالتأمل وما يدرك بالمعرفة ليس يدرك إلا في زمان، فإننا نقول إن الإدراك الذي يكون بالتأمل مع تقدم المعرفة يكون في أكثر الأحوال في زمان أقصر من الزمان الذي يكون فيه الإدراك بمجرد التأمل. وذلك أن المعاني القائمة في النفس وحاضرة للذكر ليس يحتاج في معرفتها عند حضورها إلى استقراء جميع المعاني التي منها تتقوم حقيقتها، بل يقنع في إدراكها إدراك معنى من المعاني التي تخصها. فإذا أدركت القوة المميزة من الصورة التي ترد إليها معنى من المعاني التي تخص تلك الصورة وكانت ذاكرة للصورة الأولة، فإنها تعرف بالخاصة جميع الصور التي وردت عليها، لأن كل معنى يخص الصورة فهو أمارة تدل على تلك الصورة.
ومثال ذلك شخص الإنسان إذا أدركه البصر فإنه إذا أدركه البصر فإنه إذا أدرك تخطيط يده فقط قد أدرك أن إنسان قبل أن يدرك تخطيط وجهه وقبل أن يدرك تخطيط بقية أجزائه. وكذلك إن أدرك تخطيط رجله. وكذلك إن أدرك تخطيط وجهه قبل أن يدرك بقية أجزائه. فمن إدراك البصر لبعض المعاني التي تخص هيئة الإنسان قد أدرك أن ذلك المبصر إنسان من غير حاجة إلى إدراك بقية أجزائه، لأنه يدرك بقية أجزائه بتقدم المعرفة من الصور الحاصلة في النفس لهيئة الإنسان. وكذلك الشخص المعين الذي شاهده البصر من قبل إذا أدرك البصر بعض المعاني التي تخص صورته الجزئية كفطسة تكون في أنفه إن كان إنساناً أو زرقة في عينه أو قرنة في حاجبه أو غضون في جبهته، فإنه من إدراك بعض هذه الأمارات مع إدراكه لجملة صورته قد أدرك ذلك الشخص وعرفه. وكذلك الفرس يعرفه بشينة أو ببعض شينة أو ببلقة تكون في موضع منه أو بغرة غي جبهته. وكذلك الكتابة فإن الكاتب الماهر بالكتابة إذا أدرك صورة أبجد فقد أدرك أنها أبجد من جملة صورتها، ومن قبل أن يستقرئ حروفها قد أدرك أنها أبجد. وكذلك جميع كلمات الكتابة التي تتكرر على الكتاب يعرفها الكاتب في حال إدراكها من إدراك بعض حروفها ومن قبل أن يستقرئ كل حرف من حروفها.

والمبصرات التي تقدم إدراك البصر لها وهو عارف بصورها وذاكر لها قد يدركها البصر بالأمارات، وليس كذلك المبصرات الغريبة التي لم يرها البصر من قبل والمبصرات التي قد شاهدها البصر وأنسي مشاهدتها. فإن البصر إذا أدرك مبصراً لم يره من قبل ذلك الوقت، لأنه ليس عنده لبقية أجزائه، فليس يدرك من ذلك البعض مائية ذلك المبصر، لأنه ليس عنده لبقية أجزائه صورة مستقرة، فليس يدرك البصر حقيقة المبصر الذي لم يره من قبل إلا باستقراء جميع أجزائه وجميع المعاني التي فيه. وكذلك المبصر الذي شاهده البصر من قبل وليس هو ذاكراً لمشاهدته ليس يتحقق صورته إلا بعد أن يتأمل جميع المعاني التي فيه. وإدراك بعض المعاني التي في الصورة تكون في زمان أقصر من الزمان الذي تدرك فيه جميع المعاني التي في الصورة. والإبصار الذي يكون بالتأمل مع تقدم المعرفة قد يكون في أكثر الأحوال في زمان أقصر من الزمان الذي يكون فيه الإبصار بمجرد التأمل، ولهذه العلة صار البصر يدرك المبصرات المألوفة إدراكاً في غاية السرعة وفي زمان خفي عن الحس ولا يكون بين مقابلة البصر للمبصر وبين إدراكه لمائية المبصر المألوف زمان محسوس في أكثر الأحوال. وذلك أن الإنسان منذ الطفولية ومنذ مبدأ النشوء يدرك المبصرات وتتكرر عليه أشخاص المبصرات وتتكرر عليه الصور الكلية التي لأنواع المبصرات. وقد تبين أن صور المبصرات التي يدركها البصر تحصل في النفس وتتشكل في التخيل ، وأن الصور التي تتكرر على ابصر تثبت في النفس ويستقر تشكلها في التخيل. فجميع المبصرات المألوفة جميع الأنواع المألوفة وجميع المعاني المشهورة قد حصلت صورها مستقرة في النفس ومتشكلة في التخيل وحاضرة للذكر. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات المألوفة وأدرك جملة صورته وأدرك من بعد الجملة أمارة تخص ذلك المبصر في حال إدراكه لتلك الأمارة، ويكون إدراكه المبصر بتقدم المعرفة وباليسير من التأمل لاستئناف تأمل جميع المعاني التي فيه في حال إدراكه الذي عرفه فيه. والمبصرات المألوفة يدركها البصر ويدرك مائياتها بالأمارات وبتقدم المعرفة، فيكون إدراكه لمائياتها في أكثر الأحوال في زمان غير محسوس، لأنه يكون باليسير من التأمل ومن إدراكه بعض المعاني التي فيها بالتأمل.
وأيضاً فإن إدراك البصر لنوعية المبصر يكون في زمان أقصر من الزمان الذي يدرك فيه شخصية المبصر. وذلك أن المبصر إذا أدرك شخصاً من أشخاص الناس فإنه يدرك إنساناً قبل أن يدرك صورته الجزئية التي تخص شخصه. وقد يدرك أنه إنسان وإن لم يدرك تخطيط وجهه بل من انتصاب قامته وترتيب أعضائه قد أدرك أنه إنسان وإن لم يميز وجهه. وكذلك أنواع المبصرات المألوفة يدرك البصر نوعية الشخص منها ببعض الأمارات التي تخص ذلك النوع. وليس كذلك إدراك شخصية المبصر، فإن شخصية المبصر ليس تدرك إلا من إدراك المعاني الجزئية التي تخص شخص المبصر ومن إدراك بعضها. وإدراك المعاني الجزئية التي تخص الشخص ليس تدرك إلا من بعد إدراك المعاني الكلية التي في ذلك الشخص أو إدراك بعضها. وبالجملة فإن المعاني التي في الصورة الكلية التي لنوع الشخص هي بعض المعاني التي في صورته الشخصية. وإدراك البعض يكون في زمان أقل من الزمان الذي يدرك فيه الكل، فإدراك البصر لنوعية المبصر يكون في زمان أقصر من الزمان الذي يدرك فيه شخصية ذلك المبصر.

وأيضاً فإن المبصرات المألوفة تختلف أزمان إدراك نوعياتها، لأن أنواع المبصرات المألوفة منها ما يشتبه بغيرها من الأنواع ومنها ما ليس يشتبه بغيره. كنوع الإنسان ونوع الفرس: فإن الإنسان ليس تشتبه صورة نوعه بنوع غيره من الحيوان، وليس كذلك الفرس، لأن الفرس يشبهه كثير من الدواب في جملة هيئته. وليس الزمان الذي يدرك فيه البصر من شخص الإنسان نوعيته ويدرك أنه إنسان كالزمان الذي يدرك فيه من شخص الفرس ونوعيته ويدرك أنه فرس، وخاصة إذا كان إدراكه لكل واحد من هذين من بعد مقتدر، لأن البصر إذا أدرك شخص الإنسان متحركاً فإنه في الحال من انتصاب قامته مع حركته قد أدرك أنه إنسان، فمن الحركة يدرك أنه حيوان ومن انتصاب القامة يدرك أنه إنسان. وليس كذلك إذا أدرك شخص الفرس فإن البصر إذا أدرك شخص الفرس وأدركه متحركاً، وأدرك مع جملة ذلك هيئته وعدد قوائمه، فليس يدرك من جميع ذلك أنه فرس، لأن هذه المعاني هي في كثير من ذوات الأربع وهي تساوي الفرس في هذه المعاني وغيرها، وخاصة البغل فإنه يشبه الفرس في أكثر أحواله، وإنما يتميز الفرس عن البغل بمعاني ليست بكل الظاهرة كتخطيط وجهه وامتداد عنقه وسرعة حركته وسعة خطوه. فإن لم يدرك البصر واحداً من هذه المعاني التي يتميز بها الفرس مع إدراكه لجملة هيئته فليس يدرك أنه فرس. وليس الزمان الذي يدرك البصر فيه انتصاب قامة الإنسان كالزمان الذي يدرك فيه هيئة الفرس مع المعاني الجزئية التي يتميز بها الفرس عن غيره. وإدراك البصر لنوعية الإنسان يكون في زمان أقصر من الزمان الذي يدرك فيه نوعية الفرس، وإن كان الزمانان قصيرين وأحدهما على تصاريف الأحوال يزيد على الآخر.
وكذلك إذا أدرك البصر توريد الورد في بعض البساتين فإنه يدرك في الحال أن ذلك المبصر هو الورد للون الذي يخص الورد مع كونه في البستان، من قبل إدراكه لاستدارة أوراقه وتراصف الأوراق بعضها على بعض، وقبل إدراك جميع المعاني التي تتقوم منها صورة الورد. وإن كان يشبه الورد غيره من الأنوار فإنه يدرك على كل حال أنه نور، لا من ورق الشجر والنبات. وليس كذلك إذا أدرك البصر خضرة الريحان في البستان، فإن البصر إذا أدرك من الريحان خضرته فقط مع كونه في البستان فليس يدرك من إدراك الخضرة فقط أنه ريحان، لأن أكثر النبات أخضر، ومع ذلك فإن كثيراً من النبات يشبه الريحان في الخضرة والشكل، كالنمام وأمثاله من النبات. فإن لم يدرك من الريحان شكل أوراقه وتكاثفها والمعنى الذي يتخصص به الريحان فليس يدرك أنه ريحان. وليس الزمان الذي يدرك فيه البصر أشكال أوراق الريحان والمعاني التي يتخصص بها الريحان، مع إدراك خضرته، كالزمان الذي يدرك فيه من الورد توريده فقط. وكذلك جميع الأنواع المشتبهة، ليس يدرك البصر مائيتها إلا بفضل تأمل، والمبصرات القليلة الشبه يدرك البصر مائيتها باليسير من التأمل. وكذلك الأشخاص، فإن الشخص الذي يعرفه البصر ولا يشبهه غيره من الأشخاص التي يعرفه البصر ويشبهه غيره من الأشخاص التي يعرفها البصر يكون إدراك البصر له بفضل تأمل.
فجميع المبصرات المألوفة يدرك البصر نوعياتها وشخصياتها باليسير من التأمل مع تقدم المعرفة، ويكون إدراكها في أكثر الأحوال في زمان غير محسوس، وتختلف مع ذلك أزمان إدراكها بحسب اختلاف أنواعها واختلاف أشخاصها، ويكون إدراك نوعية الشخص أسرع من إدراك شخصيته، ويكون إدراك نوعية ما يقل شبهه من الأنواع أسرع من إدراك نوعية ما يكثر شبهه، ويكون إدراك شخصية الشخص القليل الشبه أسرع من إدراك شخصية الشخص الكثير الشبه.

وأيضاً فإن زمان التأمل يختلف بحسب المعاني التي تتأمل من المبصرات. ومثال ذلك أن البصر إذا أدرك حيواناً كثير الأرجل وكانت أرجله صغاراً وكان متحركاً، فإن البصر إذا أدركه وتأمله باليسير من التأمل يدرك حركته، وإذا أدرك حركته فقد أدرك أنه حيوان، ثم باليسير من التأمل إذا تأمل أرجله فقد أدرك انه كثير الأرجل من إدراكه للتفرق الذي بين أرجله، ومع ذلك فليس يعرف في الحال كم عدد أرجله، فإن أراد أن يعرف كم عدد أرجله احتاج إلى فضل تأمل وفضل زمان. فإدراكه لحيوانيته يكون في زمان يسير، ثم إدراكه لكثرة أرجله يكون في زمان يسير أيضاً، وعدد أرجله ليس يدركه إلا بعد أن يثبت البصر على واحد واحد من الأرجل ويعدها، وليس يكون ذلك إلا في زمان له قدر، ويكون مقدار الزمان أيضاً بحسب كثرة الأرجل وقتلها. وكذلك إذا أدرك البصر شكلاً مستديراً وكان في داخله شكل كثير الأضلاع وكانت أضلاع ذلك الشكل صغاراً وكان مع ذلك مختلف الأضلاع اختلافاً متقارباً ولم يكن متفاوتاً، فإنه في حال إدراكه لجملة الشكل قد أدرك أنه مستدير، وليس يدرك في الحال أن في داخله شكلاً مضلعاً إن كانت أضلاع الشكل في غاية الصغر. وإذا تأمل الشكل المستدير فضل تأمل ظهر له الشكل المضلع الذي في داخله.فيكون إدراكه لاستدارة الشكل المستدير أسرع من إدراكه للشكل المضلع الذي في داخله. ثم في حال إدراكه للشكل المضلع ليس يظهر اختلاف أضلاع ذلك الشكل ولا يتميز له أنها متساوية أو مختلفة، وليس يظهر اختلاف أضلاع الشكل المضلع، إذا كانت أضلاعه صغاراً وكان الاختلاف الذي بينها متقارباً وليس بالمتفاوت، إلا بفضل تأمل وفي زمان له قدر.
وأيضاً فإن الحاس إذا أراد أن يتأمل شكل جملة المبصر فيكفيه أن يمر البصر على محيط المبصر فقط. وكذلك إذا أراد أن يتأمل لون المبصر فيكفيه أن يمر البصر عليه إمراراً. وكذلك إذا أراد أن يتأمل خشونة سطح المبصر أو ملامسته أو شفيفه أو كثافته فإنه يكفيه أن يمر البصر عليه إمراراً سريعاً. وليس كذلك المعاني الخفية والمعاني اللطيفة التي تكون في المبصرات، كأشكال كل واحد من أجزاء المبصرات وتشابه أشكالها، ومقادير الأجزاء واختلاف الأجزاء واختلاف مقاديرها، واختلاف ألوانها وتشابهها، وترتيب الأجزاء الصغار بعضها عند بعض إن كان في المبصر أجزاء صغار متميزة. فإن المعاني ليس تدرك بالتأمل إلا بعد أن يثبت البصر على كل واحد من الأجزاء، ويدور حول شكل كل واحد من أشكال تلك الأجزاء، ويقيس كل واحد من الأجزاء بالآخر. وليس يتم ذلك ويتحرر في زمان يسير وبحركة سريعة، بل في زمان له قدر وكذلك جميع المعاني اللطيفة. فتأمل البصر للمعاني المبصرة تختلف أزمانه بحسب اختلاف المعاني المتأملة.

وإذ قد تبين جميع ذلك فإننا نقول إن الإبصار الذي يكون بتقدم المعرفة، إذا كان بالأمارات واليسير من التأمل، ولم يستأنف البصر تأمل جميع المعاني التي في المبصر، فليس هو إدراكاً محققاً. وذلك أن إدراك المبصر بتقدم المعرفة وبالأمارات إنما يدرك به جملة المبصر على ما هي عليه، وتدرك القوة المميزة المعاني الجزئية التي في ذلك المبصر على الصفة التي تعرفها لذلك المبصر من الصورة الأولة التي هي حاصلة في النفس لذلك المبصر. وقد تتغير المعاني الجزئية التي تكون في المبصرات بمرور الزمان، ومع ذلك فليس يدرك البصر المعاني التي تتغير من المبصر بتقدم المعرفة. وإذا كان التغير خفياً وليس بكل الظاهر فليس يدركه البصر بالبديهة، وليس يدرك التغير إذا لم يكن في غاية الظهور إلا بالتأمل. ومثال ذلك أن البصر إذا كان يعرف إنساناً ما، وكانت صورة ذلك الإنسان سليمة، وكان البصر يتحقق صورته، ثم غاب ذلك الإنسان عن البصر مدة من الزمان فحدث في وجهه في زمان غيبته نمش أو آثار أو كلف، وكان ذلك النمش أو تلك الآثار خفية ولم تكن في غاية الظهور، ثم أدرك البصر هذا الشخص من تلك الآثار خفية ولم تكن في غاية الظهور، ثم أدرك البصر هذا الشخص من بعد هذه الحال وعرفه في حال إدراكه، فإنه في حال إدراكه لذلك الشخص ومعرفته به ليس يدرك النمش الذي حدث في وجهه أو الآثار التي حدثت فيه إذا لم تكن بكل الظاهرة، وهو يعرف صورة ذلك المبصر سليمة من الآثار. فإذا شاهده وعرفه ولم يستأنف تأمله فهو يعتقد فيه أنه سليم الصورة لما قد عرفه من صورته من قبل. ثم إن لم يستأنف تأمله يكون قد أدرك ذلك المبصر على خلاف ما هو عليه، وإن تأمله فضل تأمل ظهرت له الآثار التي في وجهه وأدرك صورته على ما هي عليه.
وكذلك إن أدرك البصر ثمرة من الثمار وتأملها وتحقق صورتها ثم غاب عنها أياماً فنمت تلك الثمرة في تلك الأيام وزاد مقدارها وتغير شكلها، أو كان في جزء منها حمرة فزاد الجزء المحمر منها أو اشتدت حمرته، ولم تكن الزيادة والتغيير الذي حدث في الثمرة تغيراً يسيراً، ثم عاد البصر إلى تلك الثمرة وشاهدها وعرفها، فإنه في حال إدراكها ومعرفته بها ليس يدرك التغير اليسير الذي حدث فيها. وإن استأنف تأملها في الحال الثانية، وكان ذاكراً مع ذلك لحقيقة صورتها في الحالة الأولى، فإنه يدرك التغير الذي حدث فيها ويتحقق صورتها في الحال الثانية. وإن لم يستأنف تأملها فليس تكون الصورة التي أدركها من تلك الثمرة بتقدم المعرفة هي صورتها الحقيقية التي هي عليها في حال إدراكه لها في الثاني.
وكذلك إن أدرك البصر جداراً في بعض المواضع وكان ذلك الجدار أملس وكانت فيه نقوش وتزايين، وتأمل البصر ذلك الجدار وتحقق صورته، ثم غاب عن ذلك الموضع مدة، وحدث في ذلك الجدار تغير من خشونة سطحه أو تشعث بعض النقوش التي فيه، ولم يكن التشعث بكل الظاهر، ثم عاد البصر إلى ذلك الموضع وشاهد ذلك الجدار، وكان ذاكراً لصورته الأولة ولمشاهدته، فإنه في حال مشاهدته ومعرفته ليس يدرك التشعيث الخفي الذي حدث فيه، وهو يعرف صورته على صفة ليس فيها ذلك التشعيث. فإن كان حدث فيه خشونة فهو يظنه أملس كما عهده، وإن كانت نقوشه في الأول كانت محققة ثم تغيرت فهو يظن بنقوشه في الثاني أنها محققة. فهو في حال إدراكه لذلك الجدار ومعرفته به يدرك صورته بالمعرفة، فإن لم يستأنف تأمله فقد أدرك صورته على خلاف ما هي عليه، وإن استأنف تأمله ظهرت له المعاني التي تغيرت من ذلك الدار وأدرك صورته على ما هي عليه.

وجميع المبصرات التي في التي في عالم الكون والفساد قابلة لتغير في ألوانها وفي أشكالها وفي أعظامها وفي هيئاتها وفي ملاستها وغفي خشونتها وفي ترتيب أجزائها وفي كثير من المعاني الجزئية التي تكون فيها، لأن طبيعتها مستحيلة متغيرة، ولأنها مع ذلك متهيئة للانفعال بما يعرض فيها من خارج. فالتغير طبيعي لها، والتغير الذي يصح أن يدركه البصر ممكن في جميعها وإن كان فيها ما ليس يمكن أن يظهر للبصر تغيره في الاستحالة، فليس شيء منها ليس يمكن أن يعرض له من خارج تغير يصح أن يظهر للبصر. فليس شيء من المبصرات التي في عالم الكون والفساد ليس يمكن أن يقبل تغيراً يظهر للبصر. وإذا كانت جميع المبصرات متهيئة للتغير ويمكن أن تتغير تغيراً ظاهراً للبصر، فليس شيء من المبصرات التي يدركها البصر وقد تقدم إدراكه لها وتحقق صورته وهو ذاكر لصورها يكون واثقاً عند إدراكه لها في الثاني بأنه على صورته التي كان عليها في الأول ولم يحدث فيه تغير، إذ كان التغير ممكناً في جميع المبصرات. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات، وكان قد أدرك ذلك المبصر من قبل ذلك الوقت وتأمله وتحقق صورته، وكان ذاكراً لصورته، فإنه في حال مشاهدته قد أدركه وقد عرفه. فإن كان قد حدث في ذلك المبصر تغير ظاهراً أدرك ذلك التغير في حال مشاهدته. وإن لم يكن حدث فيه تغير ظاهر فهو يعرفه ويظنه عند معرفته على الصفة التي يعرفها منه، ومع ذلك فإنه إذا لم يستأنف تأمله فليس هو واثقاً بأن صورته التي يعرفها منه باقية على هيئتها ولم يتغير شيء منها، إذ كان ممكناً أن يكون قد حدث فيه تغير خفي لا يظهر إلا بالتأمل، فإن استأنف تأمله تحققت له صورته، وإن لم يستأنف تأمله فليس يكون بإدراكه لذلك المبصر ومعرفته به متحققاً لصورته. فإدراك البصر للمبصرات بتقدم المعرفة وبالأمارات وباليسير من التأمل ليس هو إدراكاً محققاً، وليس يدرك البصر المبصر إدراكاً محققاً إلا بتأمل المبصر في حال إدراكه لذلك المبصر وبتفقد جميع المعاني الني في ذلك المبصر وتمييز جميعها في حال إدراكه لذلك المبصر.
فالإبصار يكون على وجهين: إبصار بالبديهة وإبصار بالتأمل. والإبصار بالبديهة يدرك به المبصر المعاني الظاهرة فقط، وليس يتحقق بالبديهة صورة المبصر. والإبصار بالبديهة يكون بمجرد البديهة وقد يكون بالبديهة مع تقدم المعرفة. والإبصار بمجرد البديهة هو إبصار المبصرات التي لا يعرفها البصر في حال ملاحظتها ولا يتأملها مع ذلك في الحال. والإبصار بالبديهة مع تقدم المعرفة هو إبصار المبصرات التي تقدمت معرفة البصر بها إذا عرفها البصر في حال ملاحظتها ولم يستأنف مع ذلك تأملها. وعلى كلى الحالين ليس يدرك البصر بالبديهة حقيقة المبصر، تقدمت معرفته بالمبصر أو لم تتقدم معرفته به.
والإبصار بالتأمل يكون على وجهين: إبصار بمجرد التأمل هو إبصار المبصرات التي لم يدركها البصر من قبل، أو ليس يذكر إدراكه لها إذا تأملها في حال إدراكها. والإبصار بالتأمل مع تقدم المعرفة هو إبصار جميع المبصرات التي قد أدركها البصر من قبل، وهو ذاكر لإبصارها، إذا استأنف مع معرفتها تأملها واستقرأ المعاني التي فيها. وهذا الإبصار ينقسم قسمين: أحدهما هو الإبصار المألوف للمبصرات المألوفة، وهذا القسم يكون بالأمارات التي تدرك باليسير من التأمل، واستقراء بعض المعاني التي في المبصر مع تقدم المعرفة. ويكون هذا الإبصار في أكثر الأحوال في زمان غير محسوس، وليس يكون ما يدرك على هذه الصفة إدراكاُ في غاية التحقيق. والقسم الثاني الذي يكون بغاية التأمل واستقراء جميع المعاني التي في المبصر في حال إدراك المبصر مع تقدم المعرفة بذلك المبصر، ويكون في الأكثر في زمان محسوس، ويختلف زمانه بحسب المعاني التي تكون في المبصر. والإبصار الذي بهذه الصفة هو الذي تدرك به المبصرات المألوفة إدراكاً في غاية التحقيق.

وبالجملة فإنه ليس يدرك البصر شيئاً من المبصرات إدراكاً محققاً على غاية التحقيق إلا بتأمل جميع المعاني التي في المبصر وتفقد جميع أجزاء المبصر وتمييز جميع المعاني التي في المبصر في حال إدراك البصر للمبصر، تقدمت المعرفة بذلك المبصر أو لم تتقدم. وهذا التحقيق هو بالإضافة إلى الحس، ومعنى محققاً ومعنى غاية التحقيق هو بالإضافة إلى الحس، ومعنى محققاً ومعنى غاية التحقيق في هذه المواضع هو غاية ما يدركه الحس. ومع جميع ذلك فإن إدراك البصر للمبصرات يكون بحسب قوة البصر، فإن الأبصار يختلف إحساسها في القوة والضعف.
فعلى هذه الصفات يكون إدراك البصر للمبصرات. وهذه هي جميع أنواع الإبصار، وهو الذي قصدنا لتبيينه في هذا الفصل. وقد أتينا على تفصيل جميع المبصرات وتفصيل جميع المعاني المبصرة، وبينا جميع المعاني التي بها يتوصل البصر إلى إدراك المبصرات وإلى إدراك المعاني المبصرة، وميزنا جميع الأقسام التي إليها تنقسم جميع أنواع الإبصار. وهذه هي المعاني التي قصدنا لتبيينها في هذه المقالة.
تمت المقالة الثانية من كتاب الحسن بن الحسن في المناظر وانتهى النسخ عشية الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأخرى سنة ست وسبعين وأربعمائة بالبصرة وكتب أحمد بن محمد بن جعفر حامداً لله ومصلياً على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه.

المقالة الثالثة
أغلاط البصر
فيما يدركه على استقامة وعللها
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
صدر المقالة
قد تبين في المقالة الأولى والثانية كيف يدرك البصر المبصرات على ما هي عليه إذا كان إدراكه لها على استقامة، وكيف يتحقق صورة المبصر، وكيف يدرك كل واحد من المعاني الجزئية على ما هي عليه وكيف يتحققه. وليس كل مبصر يدركه البصر على ما هو عليه، ولا كل معنى يدركه البصر ويتخيل الناظر أنه قد أدرك حقيقته يكون مصيباً في إدراكه وفي تخيله. بل قد يغلط البصر في كثير مما يدركه من المبصرات ويدركها على خلاف ما هي عليه، وربما أحس بغلطه في حال غلطه وربما لم يحس بغلطه وظن أنه مصيب ويكون غالطاً. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات، وكان على بعد متفاوت، فإنه يدرك مقدار أصغر من مقداره الحقيقي، وإذا كان المبصر قريباً جداً من البصر أدرك مقداره أعظم من مقداره الحقيقي، وإذا أدرك البصر شكلاً مربعاً أو كثير الأضلاع من البعد المتفاوت أدركه مستديراً إذا كان متساوي الأقطار ومستطيلاً إذا كان مختلف الأقطار، وإذا أدرك الكرة من البعد المتفاوت أدركها مسطحة. وأمثال هذه المعاني كثيرة وكثيرة الأنواع. وجميع ما يدركه البصر على هذه الصفة فهو غالط فيه.
وأيضاً فإن البصر إذا نظر إلى كوكب من الكواكب فإنه يدركه في الحال ساكناً والكوكب مع ذلك متحرك. وإذا رجع الناظر إلى عمله علم أن الكوكب متحرك في حال نظره إليه، فإذا ميز الناظر هذا المعنى أحس في الحال أنه غالط فيما يدركه من سكون الكوكب. وإذا نظر الناظر إلى شخص من الأشخاص التي على وجه الأرض من بعد متفاوت، وكان ذلك الشخص متحركاً حركة بطيئة مسرفة البطء ولم يطل النظر إليه في حال نظره إليه، يدركه ساكناً. وإذا لم يتقدم علم الناظر بحركة ذلك الشخص، ولم يلبث زماناً طويلاً في مقابلته، فليس يعلم في الحال أنه غالط فيما يدركه من سكون ذلك الشخص، فيكون في إدراكه ما هذه صفته غالطاً ومع ذلك يحس بغلطه. فقد يعرض للبصر الغلط في كثير مما يدركه من المبصرات وربما أحس بغلطه وربما لم يحس به.
وإذ قد تبين في المقالتين المتقدمتين كيف يدرك البصر المبصرات على ما هي عليه، وقد تبين مما ذكرناه في هذا الفصل أن البصر قد يعرض له الغلط في كثير مما يدركه من المبصرات، فقد بقي أن نبين لم يعرض للبصر الغلط ومتى يعرض له الغلط وكيف يعرض له الغلط. ونحن نقصر هذه المقالة على الكلام في أغلاط البصر فيما يدركه على الاستقامة، ونبين العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط، وإلى كم نوع تنقسم أنواع الغلط، ونبين كيف يعرض الغلط في كل نوع من أنواع الغلط، ونقدم ما يجب تقديمه لتبيين الكلام في الأغلاط.
الفصل الثاني
تقديم ما يجب تقديمه
لتبيين الكلام في أغلاط البصر

قد تبين في المقالة الأولى أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا من سموت خطوط الشعاع، وأن المبصرات وأجزاء كل واحد من المبصرات إنما يدرك البصر ترتيبها من ترتيب خطوط الشعاع. وقد تقدم أيضاً أن المبصر الواحد الذي يدرك بالبصرين معاً إنما يدرك واحداً إذا كان وضعه من البصرين جميعاً وضعاً متشابهاً، وإذا كان وضع المبصر الواحد من البصرين وضعاً مختلفاً فإن الناظر إليه يدركه اثنين، والمبصرات المألوفة التي تدرك دائماً بالبصرين معاً ليس يدرك الواحد منها إلا واحداً. وإذا كان ذلك كذلك فيجب أن نقرر كيف يدرك المبصر الواحد بالبصرين معاً واحداً في أكثر الأوقات وعلى أكثر الأوضاع، وكيف يكون وضع المبصر الواحد من البصرين في أكثر الأوقات وعلى أكثر الأوضاع وضعاً متشابهاً، ونبين أيضاً كيف يكون وضع المبصر الواحد من البصرين وضعاً مختلفاً ومتى يقع ذلك. وقد ذكرنا هذا المعنى في المقالة الأولى وبيناه بقول مجمل ونحن الآن نفصل هذا المعنى ونلخصه، ونبين أيضاً كيف نعتبر هذه المعاني اعتباراً يقع معه اليقين، فنقول: إن الناظر إذا نظر إلى مبصر من المبصرات فإن كل واحد من البصرين يلحظ ذلك المبصر، وإذا حدق الناظر إلى ذلك المبصر فإن كل واحد من البصرين يحدق إلى ذلك المبصر تحديقاً متشابهاً متساوياً، وإن تأمل الناظر المبصر فإن كل واحد من البصرين يتأمل ذلك المبصر بالسواء، وإذا تحرك البصر على المبصر لتأمله فإن البصرين جميعاً يتحركان عليه ويتأملانه.
وإذا حدق الناظر إلى المبصر فإن سهمي البصرين يجتمعان على ذلك المبصر ويلتقيان على نقطة من سطحه. وإن تأمل الناظر ذلك المبصر فإن السهمين يتحركان معاً على سطح ذلك المبصر ويمران معاً بجميع أجزاء المبصر.
وبالجملة فإن البصرين متساويان في جميع أحوالهما، والقوة الحساسة التي فيهما واحدة، وفعلهما وانفعالهما أبداً متساو ومتشابه. فإذا تحرك أحد البصرين للإبصار، فإن البصر الآخر يتحرك لذلك الإبصار بعينه مثل تلك الحركة بعينها، وإن سكن أحد البصرين سكن الآخر. وليس يمكن أن يتحرك أحد البصرين الإبصار ويسكن الآخر، ولا يعتمد أحد البصرين النظر إلى مبصر من المبصرات ولا يعتمد البصر الآخر النظر إلى ذلك المبصر، إلا يعوق أحدهما عائق أو يستره ساتر أو يعرض له عارض، فيعتاق بذلك العارض أو الساتر عن فعل ما يفعله البصر الآخر. وإذا تؤملت حال البصرين عند إدراك المبصرات وتفقدت أفعالهما وحركاتهما أبداً متساوية متشابهة.

وقد تبين فيما تقدم أن بين كل مبصر من المبصرات وبين مركز البصر في حال الإبصار مخروطاً متوهماً رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر الذي يدركه البصر. غير أن هذا المخروط يشتمل على جميع السموت التي منها يدرك البصر ذلك المبصر، فإذا التقى سهما البصرين على نقطة من سطح المبصر الذي يلي البصرين فإن سطح المبصر تكون قاعدته مشتركة لمخروطي الشعاع المتشكلين بين مركزي البصرين وبين ذلك المبصر، ويكون وضع النقطة التي التقى عليهما السهمان عند البصرين جميعاً وضعاً متشابهاً، لأنها تكون مقابلة لوسطي البصرين، والسهمان اللذان بينها وبين البصرين هما عمودان على سطحي البصرين وعلى سطحي البصرين. فأما بقية سطح المبصر فإن كل نقطة منه يكون بينها وبين مركزي البصرين وضعهما بالقياس إلى السهمين وضع متشابه في الجهة، أعني أن كل خطين متوهمان بين مركزي البصرين وبين نقطة من سطح المبصر الذي التقى عليه سهما البصرين يكونان جميعاً مائلين عن السهمين إلى جهة واحدة بعينها، ونقطة الالتقاء هي على كل واحد من السهمين. فأما أبعاد هذه الخطوط عن السهمين فإن النقط القريبة جداً من نقطة الالتقاء يكون كل خطين يخرجان من مركزي البصرين إلى كل نقطة منها بعدهما عن السهمين بعداً متساوياً بالقياس إلى الحس. وذلك أن السهمين الخارجين إلى نقطة الالتقاء يكونان متساويين وليس بينهما اختلاف محسوس إذا لم يكن المبصر قريباً جداً من البصر وكان بعده عن البصر من البعاد المعتلة. وكذلك يكون حال كل نقطة قريبة جداً من نقطة الالتقاء، يكون كل خطين يخرجان من مركزي البصرين إلى كل نقطة منها ليس بين طولهما اختلاف متفاوت بالقياس إلى الحس، وربما كانا متساويين. أما إذا كان الخطان المائلان في السطح الذي فيه السهمان فإنهما يكونان مختلفين.وذلك أن الخط الذي يخرج من النقطة التي يلتقي عليهما السهمان إلى النقطة المائلة عنها يحيط مع السهمين بزاويتين مختلفتين، والسهمان متساويان، والخط الواصل بين النقطتين مشترك، فالخطان المائلان مختلفان. إلا أن هذا الاختلاف ليس يؤثر في الحس إذا كانت النقطة المائلة قريبة من نقطة الالتقاء. وإن كان الخطان المائلان تحت السهمين أو فوقهما فقد يكونان متساويين، لأنه قد تكون الزاويتان اللتان يحيط بهما السهمان مع الخط الواصل بين النقطتين المتساويتين إذا كانت النقطة تحت السهمين أو فوقهما. والأوضاع التي بين هذين الوضعين يكون الاختلاف الذي ين الخطين المائلين عليهما أقل من الاختلاف الذي بين الخطين الأولين المائلين، فلا يكون بين أطوالهما تفاوت يؤثر في الحس.
فالخطان اللذان يخرجان من مركزي البصرين إلى النقطة القريبة من النقطة التي التقى عليها السهمان ليس يكون بين طوليهما اختلاف مؤثر في الحس، والسهمان متساويان، والخط الذي يصل بين نقطة الالتقاء وبين النقطة المائلة التي يخرج إليها الخطان من المركزين مشترك للمثلثين اللذين يحدثان من هذه الخطوط، فالزاويتان اللتان تحدثان عند مركزي البصرين اللتان يوترهما عند سطح المبصر الخط المشترك تكونان متساويتين أو ليس بينهما اختلاف محسوس. وهاتان الزاويتان تكونان أبداً صغيرتين جداً إذا كانت النقطة قريبة جداً من التقاء السهمين.
وإذا كان الخطان اللذان يخرجان إلى كل نقطة قريبة من نقطة الالتقاء يحيطان مع السهمين بزاويتين متساويتين، فبعد كل خطين يخرجان إلى نقطة واحدة بعينها من النقط القريبة من نقطة الالتقاء عن سهمي البصرين بعد متساو.

وإذا كان ذلك كذلك فكل نقطة من سطح المبصر الذي يلتقي عليه سهما البصرين، إذا كانت قريبة من نقطة الالتقاء، فإن وضعها من البصرين جميعاَ وضع متشابه في البعد عن السهمين. فأما النقط البعيدة عن نقط الالتقاء، المائلة إلى جهة واحدة عن السهمين جميعاً، فإن الزاويتين اللتين تحدثان بين الخطين اللذين يخرجان إلى النقطة الواحدة منها وبين السهمين ربما اختلفا اختلافاً له قدر. وكلما كانت هذه حاله من النقط البعيدة من نقطة الالتقاء فإن وضعها من البصرين جميعاً وضع متشابه في الجهة فقط وليس بالمتشابه بالبعد عن السهمين.فالمبصر الذي يدرك بالبصرين معاً، إذا كان مقتدر الحجم ومتقارب الأقطار وليس بفسيح الأقطار، فإن وضع كل نقطة منه عند البصرين وضع متشابه في الجهة وفي البعد معاً، فصورته تحصل في البصرين في موضعين متشابهي الوضع من البصرين. وإذا كان المبصر الذي يدرك بالبصرين فسيح الأقطار فإن النقطة منه التي يلتقي عليها السهمان يكون وضعها من البصرين وضعاً متشابهاً، وكلما قرب منها من النقط التي في سطح ذلك المبصر فإن وضع كل نقطة منها من البصرين أيضاً وضع متشابه في الجهة وفي البعد معاً، وكلما كان من النقط التي في سطح ذلك المبصر بعيداً عن نقطة الالتقاء ومائلاً عن السهمين جميعاً إلى جهة واحدة فإن وضع كل نقطة منها عن البصرين وضع متشابه في الجهة وربما تشابه في البعد أيضاً وربما لم يتشابه في البعد. فصور الجزء الذي عند موضع الالتقاء ، أعني السهمين، من المبصر الذي بهذه الصفة وما كان محيطاً بنقطة الالتقاء منه وفي تناء منها تحصل في موضعين من البصرين متشابهي الوضع في جميع الأحوال، وتحصل صورة الأجزاء الباقية البعيدة عن نقطة الالتقاء المحيطة بالجزء المتشابه الوضع متصلة بصورة الجزء المتشابه الوضع، فتحصل جملة الصورتين في موضعين من البصرين ليس بينهما في الوضع اختلاف متفاوت، بل يكون الاختلاف، إذا كان، فهو بين أطرافهما فقط ويكون يسيراً من أجل اتصال الأطراف بالوسطين المتشابهي الوضع، هذا ما دام البصران ثابتين في مقابلة المبصر والسهمان ثابتين على نقطة واحدة منه. فإذا تحرك البصران على المبصر وانتقل السهمان من تلك النقطة وتحركا معاً على أقطار ذلك المبصر، فإن كل نقطة من ذلك المبصر يصير وضعها ووضع النقط القريبة منها من المبصرين عند التقاء السهمين عليها وضعاً متشابهاً في غاية التشابه، وتصير صورة كل جزء من المبصر عند حركة السهمين على سطح المبصر في موضعين متشابهي الوضع من البصرين، وتصير صورة جميع أجزاء المبصر عند الحركة والتأمل متشابهة الحال عند البصرين جميعاً.
وكذلك أيضاً إذا كان البصر يدرك مبصرات متفرقة في وقت واحد معاً، والتقى السهمان على واحد منها وثبتا عليه، وكان المبصر الذي التقى عليه السهمان متقارب الأقطار، فإن صورة ذلك المبصر تحصل في موضعين من البصرين متشابهي الوضع. وكلما قرب من ذلك المبصر أيضاً من المبصرات إذا كان صغير الحجم ولم يكن فسيح الأقطار فإن صورته تحصل في موضعين من البصرين ليس بين وضعيهما اختلاف محسوس. وما كان من المبصرات بعيداً عن المبصر الذي عليه السهمان، وكان البصران جميعاً يدركان ذلك المبصر، فإنه ما دام السهمان ثابتين على ذلك المبصر فإن صورة المبصر البعيد منه تحصل في موضعين من البصرين متشابهي الوضع في الجهة فقط وليس بمتشابهي الوضع في البعد، وليس جميع أجزائهما متشابهة الوضع في البعد عن السهمين، فتكون صورة ما هذه حاله من المبصرات ملتبسة وغير محققة. ثم إذا تحرك البصران وتحرك السهمان والتقيا على كل واحد من المبصرات التي أدركت معاً، فإن صورة كل واحد منها تحصل في موضعين متشابهي الوضع من البصرين في الجهة وفي البعد معاً، وعند ذلك تتحقق صورة كل واحد من تلك المبصرات.

وقد يلتقي سهما البصرين على مبصر من المبصرات ويدرك البصران مع ذلك مبصراً آخر ويكون وضع ذلك المبصر الآخر من البصرين وضعاً مختلفاً في الجهة. وذلك إذا كان المبصر الآخر أقرب إلى البصرين من المبصر الذي التقى عليه السهمان وكان مع ذلك فيما بين السهمين، أو كان أبعد عن البصرين من المبصر الذي التقى عليه السهمان، وكان أيضاً فيما بين السهمين إذا توهما ممتدين بعد التقائهما، وكان المبصر الذي التقى عليه السهمان لا يستر المبصر الذي هو أبعد منه أو يستر بعضه.
فعلى هذه الصفات يكون إدراك المبصرات بالبصرين جميعاً.
وأيضاً فإنه قد تبين في المقالة الثانية أن سم الشعاع في كل واحد من البصرين هو خط واحد بعينه لا يتغير، وأنه يمر بمراكز جميع طبقات البصر، وأنه ممتد على استقامة إلى وسط موضع الانحناء من تجويف العصبة التي العين مركبة عليها الذي هو عند الثقب الذي في مقعر العظم، وأنه لازم لجميع المراكز وغير مفارق لها، وأن وضعه من جميع أجزاء البصر أبداً وضع واحد لا يتغير في حال حركة البصر ولا في حال سكونه، وان وضع السهمين من البصرين وضع متشابه. وقد تبين أيضاً أن وضع كل جزئ ين متشابهي الوضع من البصرين عند تجويف العصبة المشتركة الذي منه يدرك الحاس الأخير صور المبصرات وضع متشابه. فلنتوهم خطاً مستقيماً يصل بين مركزي الثقبين اللذين في مقعري العظمين المحيطين بالعينين، ونتوهم خطين خارجين من مركزي ثقبي العظمين ممتدين في وسطي تجويفي العصبتين، فهما يلتقيان في وسط تجويف العصبة المشتركة، ويكون وضع هذين الخطين من الخط الذي يصل بين مركزي الثقبين وضعاً متشابهاً، لأن وضعي العصبتين من الثقبين وضع متشابه، فتكون الزاويتان اللتان تحدثان بين هذين الخطين وبين الخط الذي يصل بين مركزي الثقبين متساويين.
ولنتوهم الخط الذي يصل بين مركزي الثقبين مقسوماً بنصفين، ونتوهم خطاً خارجاً من النقطة التي في وسط تجويف العصبة المشتركة التي التقى عليها الخطان الممتدان في تجويفي العصبتين ممتداً إلى النقطة القاسمة للخط الواصل بين مركزي الثقبين بنصفين، فيكون هذا الخط عموداً على الخط الواصل بين مركزي الثقبين. وليتوهم هذا العمود ممتداً على استقامة إلى خارج في الجعة المقابلة للبصر، فيكون هذا الخط ثابتاً على حال واحدة لا يتغير وضعه، لأن النقطة التي في وسط تجويف العصبة المشتركة التي التقى عليها الخطان الممتدان في وسطي تجويفي العصبتين واحدة لا تتغير. والنقطة التي تقسم الخط الواصل بين مركزي الثقبين هي أيضاً نقطة واحدة لا تتغير. فوضع الخط المستقيم المار بهما وضع واحد لا يتغير. فلنسم هذا الخط السهم المشترك.
ولنتوهم عند نقطة من هذا الخط في الجهة المقابلة للبصرين مبصراً من المبصرات، ولنتوهم البصرين ناظرين إلى ذلك المبصر، ولنتوهم سهمي البصرين قد التقيا على النقطة من سطح المبصر التي عليها لقي السهم المشترك سطح ذلك المبصر فإن ذلك ممكن في كل مبصر يكون وضعه من البصرين وضعاً متشابهاً. وإذا التقى السهمان على نقطة من السهم المشترك صار السهمان والسهم المشترك والخط الذي يصل بين مركزي ثقبي العظمين والخطان الممتدان في تجويفي العصبتين جميعهما في سطح واحد، لأن السهمين يمران بمركزي الثقبين في موضع انخراط العصبتين، فإذا التقى السهمان على السهم المشترك كانا جميعاً في السطح الذي فيه السهم المشترك والخط المقاطع له الذي يصل بين مركزي ثقبي العظمين، ويكون السهمان من لدن مركزي الثقبين إلى نقطة الالتقاء التي على السهم المشترك متساويين ويكون وضعهما من السهم المشترك وضعاً متشابهاً، ويكون القسمان من السهمين اللذان من مركزي البصرين إلى نقطة الالتقاء متساويين، لأن بعد مركزي البصرين من ثقبي العظمين ومن مركزي الثقبين بعد متساو، ويكون القسمان من السهمين اللذان من سطحي البصرين إلى نقطة الالتقاء أيضاً متساويين، لأن نصفي قطري كرتي البصر متساويان. ولأن جميع ذلك كذلك يكون وضع النقطة من سطح المبصر التي التقى عليهما السهمان من النقطتين اللتين يمر بهما السهمان من سطحي البصرين وضعاً متشابهاً وبعدها عنهما بعداً متساوياً. وهاتان النقطتان من سطحي البصرين هما اللتان تحصل فيهما صورتا النقطة التي التقى عليهما السهمان.

وأيضاً فإن وضع كل واحدة من النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين عند تجويف العصبة المشتركة وضع متشابه، ووضع هاتين النقطتين من كل نقطة على السهم المشترك وضع متشابه، فوضع النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين عند النقطة من السهم المشترك التي في وسط تجويف العصبة المشتركة التي التقى عليها الخطان الخارجان من مركزي الثقبين وضع في غاية التشابه والتساوي. فالصورتان اللتان تحصلان في النقطتين من سطحي البصرين اللتين على السهمين إذا انتهتا إلى تجويف العصبة المشتركة فإنهما تحصلان جميعاً في النقطة التي على السهم المشترك التي في وسط تجويف العصبة المشتركة التي التقت عليها الخطوط وتصيران نقطة واحدة.
فإذا حصلت الصورتان اللتان في النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين في النقطة التي على السهم المشترك التي في وسط تجويف العصبة المشتركة، فالصور التي في النقط المحيطة بكل واحدة من النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين تحصل في تجويف العصبة المشتركة في النقط المحيطة بالنقطة التي على السهم المشترك. وكل نقطتين من سطحي البصرين وضعهما من النقطتين المتوسطتين اللتين على السهمين من البصرين وضع متشابه في الجهة وفي البعد فإن وضعهما من نقطة واحدة بعينها من تجويف العصبة المشتركة وضع متشابه. والنقط التي وضعها منها وضع متشابه تكون مائلة عن النقطة التي على السهم المشترك التي في موضع التقاء الخطوط من تجويف العصبة المشتركة في الجهة التي النقطتان جميعاً اللتان في سطحي البصرين مائلين إليها، وبعدها عنها بحسب بعدهما عن السهمين. والصورتان اللتان تحصلان في النقطتين المتشابهتي الوضع من سطحي البصرين تنتهيان إلى تينك النقطة الواحدة بعينها من تجويف العصبة المشتركة، وتنطبق الصورتان إحديهما على الأخرى عند تلك النقطة وتصيران صورة واحدة. والنقط من سطح المبصر التي حوالي النقطة التي على السهم المشترك وضع كل واحد منها من سهمي البصرين وضع متشابه، فصورة كل نقطة منها تحصل في البصرين في موضعين متشابهي الوضع بالقياس إلى النقطتين اللتين هما في البصرين في موضعين متشابهي الوضع بالقياس إلى النقطتين اللتين هما على السهمين من سطحي البصرين. فالمبصر الذي يلتقي عليه السهام الثلثة تحصل صورتاه في وسطي سطحي البصرين، وتحصل صورتا النقطة التي التقت عليا السهام الثلثة في النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين، وتحصل كل نقطة من الصورتين في موضعين متشابهي الوضع من البصرينن ثم تنتهي صورتا المبصر في سطحي البصرين إلى تجويف العصبة المشتركة: فتنتهي الصورتان اللتان في النقطتين اللتين على السهمين منها إلى النقطة التي على السهم المشترك وتصيران صورة واحدة بعينها من النقط المحيطة بالنقطة التي على السهم المشترك، فتنطبق الصورتان اللتان لجملة المبصر إحداهما على الأخرى وتصيران صورة واحدة ويدرك المبصر واحداً.
فعلى هذه الصفة تصير الصورتان اللتان تحصلان في ابصر للمبصر الواحد الذي وضعه من البصرين وضع متشابه صورة واحدة، ويدرك الحاس المبصر الواحد واحداً مع حصول صورتين له في البصرين.
وإذا كانت الصورتان اللتان في النقطتين اللتين في وسطي سطحي البصرين اللتين تحصلان في سطحي البصرين في النقطتين اللتين على السهمين فإنهما تنتهيان أبداً إلى تلك النقطة بعينها من تجويف العصبة المشتركة التي على السهم المشترك. لأن النقطتين اللتين يمر بهما سهما البصرين ليس تتغيران بل هما نقطتان بأعيانهما، لأن وضع السهمين من البصرين أبداً وضع واحد لا يتغير موضعاهما من البصرين أبداً لا يتغير. فالنقطة من تجويف العصبة المشتركة التي إليها تنتهي الصورتان اللتان تحصلان في النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين هي أبداً نقطة واحدة بعينها، وهي النقطة التي على السهم المشترك التي يلتقي عليها الخطان الخارجان من مركزي ثقبي العظمين الممتدين من وسطي تجويفي العصبتين. فلنسم هذه النقطة التي في تجويف العصبة المشتركة التي هي على السهم المشترك المركز.

وإذ قد تبين هذا المعنى فقد تبين منه أن كل مبصر يدرك بالبصرين معاً، ويلتقي سهما البصرين على نقطة من سطحه، فإن صورته تحصل في وسطي سطحي البصرين جميعاً، ثم تنتهي صورتاه من البصرين إلى تجويف العصبة المشتركة إلى موضع واحد بعينه، وتنطبق إحداهما على الأخرى وتصير صورة واحدة. والنقطة التي يلتقي عليها السهمان من المبصر تحصل صورتاها في النقطتين اللتين على السهمين من سطحي البصرين وتصير من هاتين النقطتين إلى نقطة المركز من تجويف العصبة المشتركة كانت النقطة التي يلتقي عليها السهمان من المبصر على السهم المشترك أو خارجة عنه. إلا أنه إذا كان المبصر على السهم المشترك، والتقى السهمان على النقطة منه التي على السهم المشترك، كانت صورتا هذه النقطة أشد تشابهاً، لأن بعدي هذه النقطة من النقطتين اللتين تحصل فيهما صورتا هذه النقطة من سطحي البصرين وهما اللتان على السهام يكونان متساويين، لأن السهمين في هذه الحال يكونان متساويين في الطول.وكذلك كل نقطة قريبة من هذه النقطة يكون بعداها من النقطتين اللتين تحصل فيهما صورتاها من سطحي البصرين متساويين بالقياس إلى الحس، فتكون صورتاها أشد تشابهاً، فتكون صورتا المبصر الذي على السهم المشترك اللتان تحصلان في سطحي البصرين أشد تشابهاً، فتكون صورتا المبصر الذي على السهم المشترك اللتان تحصلان في سطحي البصرين أشد تشابهاً من صورتي المبصر الخارج عن السهم المشترك، فتكون صورة المبصر الذي على السهم المشترك إذا حصلت في تجويف العصبة المشتركة أشد تحققاً. إلا أنه إذا كان المبصر خارجاً عن السهم المشترك، ولم يكن بعده عنه بعداً متفاوتاً، فليس تختلف صورتاه اللتان تحصلان في البصرين اختلافاً متفاوتاً، فليس تكون صورته التي تحصل في تجويف العصبة المشتركة صورتين.
وإذا كان المبصر خارجاً عن السهم المشترك، وكان بعده عنه بعداً متفاوتاً، والتقى مع ذلك سهما البصرين على نقطة منه، فإن صورته تحصل في تجويف العصبة المشتركة صورة واحدة، وتحصل صورة النقطة منه التي التقى عليها السهمان في نقطة المركز، إلا أن صورته ليس تكون محققة بل تكون مشتبهة. فالنقطة التي يلتقي عليها السهمان من المبصر تحصل صورتها على تصاريف الأحوال في نقطة المركز من تجويف العصبة المشتركة، كانت نقطة الالتقاء على السهم المشترك أو خارجة عنه، وتحصل بقية صورة المبصر محيطة بنقطة المركز. فإن كان المبصر صغير الحجم ومتقارب الأقطار، وكان على السهم المشترك أو قريباً منه فإن صورته تحصل في تجويف العصبة المشتركة صورة واحدة ومع ذلك محققة، لأن كل نقطة منه يكون وضعها من البصرين وضعاً متشابهاً لما تبين من قبل، فإن كان المبصر عظيم الحجم وفسيح الأقطار، وكان مع ذلك على السهم المشترك، فإن الجزء منه الذي عند موضع التقاء السهمين الذي يحيط بنقطة الالتقاء تحصل صورته في العصبة المشتركة صورة واحدة ومحققة، وتحصل صورة بقية أجزاءه متصلة بصورة هذا الجزء، فتحصل صورة جملة المبصر واحدة على جميع الأحوال، إلا أن صورة أطرافه وحواشيه وكلما كان بعيداً عن الالتقاء تكون مشتبهة غير محققة. لأنه ليس كل نقطة بعيدة عن نقطة الالتقاء تحصل صورتاها في نقطتين متشابهتي الوضع من البصرين في غاية التشابه، بل إنما تحصل صورة كل نقطة بعيدة من نقطة الالتقاء في نقطتين من البصرين وضعهما من البصرين وضع متشابه في الجهة، وربما كان متشابهاً في البعد عن السهمين، وربما لم يكن متشابهاً في البعد عن السهمين. والتي ليست متشابهة البعد تحصل صورتاها في تجويف العصبة المشتركة في نقطتين مائلتين عن المركز في جهة واحدة، إلا أنهما يكونان اثنين. فإن كان المبصر ذا لون واحد فليس يؤثر ذلك فيه كثير تأثير لتشابه اللون ولاتصال الصورة، وإذا كان المبصر ذا ألوان مختلفة أو كان فيه تخطيط أو نقوش أو معان لطيفة فإن هذا المعنى يؤثر فيه فتكون صورة أطرافه مشتبهة غير محققة.

وإذا كان المبصر عظيم الحجم فسيح الأقطار، وكان سهما البصرين ثابتين على نقطة منه وغير متحركين، فإن صورته تظهر واحدة، ويكون موضع الالتقاء منه وما يليه محققاً غير مشتبه، ويكون ما يلي أطرافه وحواشيه ملتبساً غير محقق لحالتين: إحداهما أن أطرافه تدرك بشعاعات بعيدة عن السهم فليس تكون في غاية البيان، والثانية أنه ليس كل نقطة منه تحصل صورتها في تجويف العصبة المشتركة في نقطة واحدة. فإذا تحرك السهمان على جميع أجزاء المبصر الذي بهذه الصفة فحينئذ تتحقق صورته. فإن كان المبصر خارجاً عن السهم المشترك وبعيداً عنه، فإن صورته ليس تكون محققة، لأن وضع كل نقطة منه من البصرين ليس يكون وضعاً متشابهاً لاختلاف بعدي النقطة من المبصر الذي بهذه الصفة عن النقطتين من سطحي البصرين اللتين تحصل فيهما صورتاها وعن السهمين. فإذا مال البصران معاً إلى المبصر الذي بهذه الصفة حتى يصير السهم المشترك على هذا المبصر أو قريباً منه تحققت حينئذ صورته.
وكذلك إذا أراد البصر عدة من المبصرات معاً، والتقى سهما البصرين على واحد من تلك المبصرات وثبتا عليه، وكانت المبصرات الباقية خارجة عن السهم، وكان المبصر الذي التقى عليه السهمان صغير الحجم، فإن صورة المبصر الذي التقى عليه السهمان تحصل في تجويف العصبة المشتركة صورة واحدة ومحققة. وإن كان المبصر على السهم المشترك كانت صورته أشد تحققاً من صورة المبصر الخارج عن السهم المشترك وإن التقى عليه السهمان. وما كان من المبصرات الباقية التي يدركها البصر في تلك الحال قريباً من المبصر الذي التقى عليه السهمان، وكان مع ذلك صغير الحجم، فإن صورته تحصل في تجويف العصبة المشتركة واحدة وليس فيها اشتباه يؤثر في صورتها، لأن صورته تكون قريبة من المركز. وما كان من المبصرات التي يدركها البصر في تلك الحال بعيداً عن المبصر الذي التقى عليه السهمان فإن صورته تحصل في تجويف العصبة المشتركة ملتبسة. فإما تكون صورتين وتكونا متداخلتين لأنهما في جهة واحدة والاختلاف الذي بين وضعيهما في البعد ليس يكون متفاوتاً، وإذا كان الاختلاف في البعد الذي بين الصورتين يسيراً كانت الصورتان متداخلتين، وإما أن تكون صورة بعض أجزائه صورتين وصورة بعض أجزائه صورة واحدة، فتكون صورة ما هذه حاله من المبصرات ملتبسة على جميع الأحوال، من أجل اختلاف وضع الشعاعات التي تخرج إليه ومن أجل أن الشعاعات الخارجة إليه تكون بعيدة عن السهمين. فالمبصر المائل عن السهمين البعيد عن موضع التقاء السهمين تكون صورته ملتبسة غير محققة ما دام بعيداً عن ملتقى السهمين، فإذا تحرك السهمان والتقيا عليه تحققت صورته.
فأما إذا التقى سهما البصرين على مبصر من المبصرات وكان البصران مع ذلك يدركان مبصراً آخر، وكان ذلك المبصر الآخر أقرب إلى البصرين من المبصر الذي التقى عليه السهمان أو بعد منه، وكان مع ذلك فيما بين السهمين، فإن وضعه من البصرين يكون مختلفاً في الجهة. وذلك أنه كان فيما بين السهمين، فإنه يكون متيامناً عن أحد السهمين ومتياسراً عن الآخر، وتكون الشعاعات التي تخرج إليه من أحد البصرين متيامنة عن السهم والتي تخرج إليه من البصر الآخر متياسرة عن السهم، فيكون وضعه من البصرين وضعاً مختلفاً في الجهة. وما هذه حاله من المبصرات فإن صورته تحصل في البصرين في موضعين مختلفي الوضع، وتنتهي صورتاه التي تحصل في البصرين إلى موضعين مختلفين من تجويف العصبة المشتركة، وتكونان عن جنبتي المركز، فتكونان صورتين ولا تنطبق إحديهما على الأخرى.
وكذلك إذا كان المبصر على أحد السهمين، وكان خارجاً عن السم الآخر، فإن صورته تحصل في تجويف العصبة المشتركة صورتين إحديهما على المركز والأخرى مائلة عن المركز ولا تنطبق إحداهما على الأخرى.
فأما كيف تعتبر جميع هذه المعاني اعتباراً يقع معه اليقين فإن ذلك يكون كما نصف.

يتخذ لوح من خشب خفيف مسفر اللون يكون طوله قدر عظم الذراع وعرضه أربع أصابع مقتدرة. وليكن سطحه مستوياً أملس وتكون نهايتا طوليه متوازين. وليخرج فيه قطران يتقاطعان ويخرج من موضع التقاطع خط مستقيم مواز لنهاية الطولين، ويخرج من موضع التقاطع أيضاً خط مستقيم قائم على الخط الأول المتوسط على زوايا قائمة. ولتصبغ هذه الخطوط بأصباغ مشرقة مختلفة الألوان لتكون ظاهرة، وليكن القطران منها متشابهي اللون. ولنخرق في وسط عرض اللوح عند طرف الخط المستقيم المتوسط وفيما بين القطرين خرقاً مستديراً ومع ذلك منخرطاً أوله أوسع من آخره بقدر ما تدخل فيه قرنة الأنف إذا ركب اللوح عليه إلى أن تصل زاويتا اللوح إلى غاية القرب من وسطي سطحي البصرين وتصيران قريبتين من مماسة البصرين ولا يماسانها.
وليكن اللوح على مثال شكل ا ب ج د ، وليكن قطراه ا د و ب ج ، ولتكن نقطة التقاطع نقطة ك، وليكن الخط الذي في وسطه الممتد في طوله ه ك، وليكن الخط الذي يقطع هذا الخط على زوايا قائمة ح ك ط ، وليكن الخرق الذي في وسط عرض اللوح هو الذي يحيط به خط م ه ن.
فإذا اتخذ اللوح وفرغ من تخطيطه على هذه الصفة، فليؤخذ جزء يسير من الشمع الأبيض فيعمل منه ثلثة أشخاص صغار أسطوانية، ولتصبغ الثلثة بألوان مختلفة كل واحد منها بلون يخالف لون الآخر، وليقم أحد الأشخاص في وسط اللوح على نقطة ك، وليلصق باللوح حتى لا يزول من موضعه وليكن قائماً على اللوح قياماً معتدلاً، وليقم الشخصان الآخران على طرفي الخط المعترض على نقطتي ح ط ، فتصير الأشخاص الثلثة على سمت واحد. ثم يرفع المعتبر هذا اللوح ويركب الخرق الذي في وسط عرضه على قرنة أنفه وفيما بين عينيه حتى تدخل قرنة الأنف في الخرق وتلتصق باللوح وتصير زاويتا اللوح عند وسطي البصرين وقريبتين من مماستهما. ثم يعتمد المعتبر النظر إلى الشخص الذي في وسط اللوح ويحدق إليه تحديقاً شديداً. فإذا نظر المعتبر إلى الشخص المتوسط وحدق إليه فإن سهمي البصرين يلتقيان على هذا الشخص، ويكون السهمان مطابقين للقطرين أو موازيين لهما، ويصير السهم المشترك الذي حددناه من قبل مطابقاً للخط الممتد في وسط طول اللوح.
ثم يبغي للمعتبر أن يتأمل عند هذه الحال جميع ما في سطح اللوح. فإنه يجد الأشخاص الثلثة التي على نقط ح ط كل واحد منهما واحداً،ويجد خط ح ك ط أيضاً واحداً. فأما خط ه ز الممتد في طول اللوح فإنه يجده خطين متقاطعين عند الشخص المتوسط. وكذلك القطران أيضاً إذا تأملهما المعتبر في تلك الحال وجدهما أربعة، كل واحد منهما اثنين.
ثم ينبغي للمعتبر أن يحدق إلى أحد الشخصين اللذين على نقطتي ح ط ليلتقي السهمان على الشخص المتطرف. ثم يتأمل أيضاً في هذه الحال: فإنه يجد الأشخاص الثلثة كل واحد منهما واحداً، ويجد الخط المعترض أيضاً واحداً، ويجد الخط المتوسط الممتد في طول اللوح اثنين، ويجد كل واحد من القطرين اثنين.
فإذا أدرك المعتبر هذه الخطوط والأشخاص القائمة على اللوح،فليحط اللوح وينزع الشخصين اللذين على نقطتي ح ط ، وليثبتهما على خط ه ز الممتد في الطول، أحدهما على نقطة ل التي تلي البصرين، والآخر على نقطة ف التي من وراء الشخص المتوسط. ثم يعيد اللوح إلى وضعه الذي كان عليه، أعني يقربه من البصرين على مثل ما كان، ويحدق أيضاً إلى الشخص المتوسط. فإنه يجد الشخصين أربعة، ويجدها مائلة عن الوسط، اثنين متيامنين واثنين متياسرين، ويجدها على الخطين اللذين هما خط واحد في الوسط ويظهر اثنين، ويجد كل اثنين من الأشخاص الأربعة على واحد من الخطين، وكذلك إذا نزع الشخصين عن هذا الخط وأثبتهما على أحد القطرين أحدهما مما يلي البصر من وراء الشخص الأوسط، وكذلك إن أثبت الشخصين على القطرين جميعاً كل واحد منهما على أحد القطرين وجعلهما جميعاً مما يلي البصرين، فإنه يجدهما أربعة: اثنين منها متقاربين واثنين متباعدين. وكذلك إن أثبت الشخصين على القطرين من وراء الشخص المتوسط فإنه يجدهما أربعة: اثنين منهما متقاربين واثنين متباعدين.

ثم ينبغي للمعتبر أن ينزع الشخصين عن اللوح، ويثبت أحدهما على حاشية اللوح من وراء نقطة ح وقريباً منها جداً على مثل نقطة ي، ويعيد اللوح إلى وضعه، ويحدق إلى الشخص المتوسط: فإنه يجد الشخص الذي على نقطة ي واحداً. ثم ينزع الشخص في تلك الحال من نقطة ي ، ويثبته على حاشية اللوح أيضاً من وراء نقطة ي على نقطة بعيدة عن نقطة ح مثل نقطة ق، ويحدق إلى الشخص المتوسط، فإنه يجد الشخص الذي عند نقطة ق اثنين.
ويجد المعتبر جميع ما ذكرناه على ما ذكرناه ما دام محدقاً إلى الشخص الأوسط، أو إلى شخص ثابت على الخط المعترض، أو نقطة من الخط المعترض أي نقطة كانت، وما دام السهمان متلاقيين على الشخص الأوسط أو على نقطة من الخط المعترض. فإن حدق المعتبر في تلك الحال إلى شخص خارج عن الخط المعترض، أو إلى نقطة خارجة عن الخط المعترض، فإن الشخص المتوسط أيضاً يرى اثنين. وإن كان الشخصان الآخران على نقطتي ح ط، فإن كل واحد منهما يرى اثنين. ثم إذا عاد المعتبر بالتحديق إلى الشخص الأوسط أو إلى موضع من الخط المعترض عادت الحال إلى مثل ما كانت عليه.
فلنخرج في شكل ا ب ج د للبرهان خطوط ب ح و ب ي و ب ق، فيكون خط ح ب أعظم من خط ب ط. وخط ح ك مساو لخط ك ط، فزاوية ط ب ك أعظم من زاوية ك ب ح.
وزاوية ط ب ك مساوية لزاوية ح ا ك، فزاوية ح ا ك اعظم من زاوية ح ب ك، فبعد خط ا ح عن سهم ا ك أعظم من بعد خط ب ح عن سهم ب ك، غلا أن الاختلاف الذي بين البعدين يسير لأن الاختلاف الذي بين زاويتي ح ا ك وزاوية ح ب ك يسير.
والشخص الذي يكون عند نقطة ح يرى أبداً بالبصرين جميعاً واحداً إذا كان السهمان متلاقيين على الشخص الذي عند نقطة ك، وخطا ا ح و ب ح ما مسامتان للشعاعين الخارجين إلى الشخص الذي يكون عند نقطة ح إذا كان السهمان متلاقيين على الشخص الذي عند نقطة ك، وكذلك حال الشخص الذي عند نقطة ي تكون الشعاعات الخارجة إليه مسامتة لخطي ا ي وخط ب ي وهو يرى واحداً، وزاويتا ي ا ك و ي ب ك ليس بينهما اختلاف متفاوت أيضاً، لأن زاوية ح ب ي ليس لها قدر محسوس إذا كانت نقطة ي قريبة جداً من نقطة ح.
فيتبين من هذه الحال أن المبصر الذي وضعه من السهمين وضع واحد في الجهة، وبعد الشعاعات الخارجة إليه من البصرين ليس بينهما اختلاف متفاوت، فإن ذلك المبصر يرى بالبصرين جميعاً واحداً.
فأما زاويتا ق ا ك و ق ب ك فمختلفتان اختلافاً متفاوتاً، والشخص الذي يكون عند نقطة ق يرى اثنين إذا كان السهمان متلاقيين على الشخص الذي عند نقطة ك.
فيتبين من هذه الحال أن المبصر الذي يختلف وضع الشعاعات الخارجة إليه من البصرين في البعد عن السهمين اختلافاً متفاوتاً، فإنه يرى اثنين، وإن كان وضعه بالقياس إلى السهمين وضعاً واحداً في الجهة.
وأما خط ه ك ز فإن وضعه من سهمي البصرين وضع مختلف في الجهة. وذلك أن الشعاعات الخارجة إلى قسم م ك من البصر الأيمن تكون متياسرة عن سهم ا ك، والشعاعات الخارجة إلى هذا القسم من البصر الأيسر تكون متيامنة عن سهم ب ك، وقسم ك ز منه تكون الشعاعات الخارجة إليه من البصر الأيمن متيامنة عن سهم ا ك، والشعاعات الخارجة إليه من البصر الأيسر متياسرة عن سهم ب ك، فالشعاعات التي تخرج إليه مختلفة الوضع في الجهة. وكل نقطة من هذا الخط فإن الشعاعين الخارجين إليها من البصرين يكون بعدهما عن السهمين بعداً متساوياً. وهذا الخط وجميع ما عليه سوى الشخص المتوسط يرى أبداً اثنين، إذا كان السهمان متلاقيين على الشخص المتوسط.
فيتبين من هذه الحال أن المبصر الذي وضعه بالقياس إلى السهمين وضع مختلف في الجهة يرى أبداً اثنين وإن تساوت أبعاد الشعاعات الخارجة إليه من البصرين عن السهمين. وذلك أن كل شعاعين يخرجان من البصرين إلى نقطة منه يكونان في جهتين مختلفتين، فتحصل صورتا كل نقطة منه في نقطتين من تجويف العصبة المشتركة عن جنبتي المركز.

وكذلك أيضاً حال كل واحد من القطرين: تكون الشعاعات الخارجة إلى كل واحد منهما من البصر الذي يليه من وسط البصر وقريبة من السهم ومن تحت السهم ومن فوقه. والشعاعات الخارجة إليه من البصر الآخر تكون مائلة عن السهم الآخر. أما التي تخرج من البصر الأيمن إلى القطر الأيسر فتكون متياسرة عن السهم. وأما التي تخرج من البصر الأيسر إلى القطر الأيمن فتكون متيامنة عن السهم. وكل واحد من هذين القطرين وكلما يكون عليهما من المبصرات يرى اثنين ما سوى الشخص المتوسط إذا كان السهمان متلاقيين على الشخص المتوسط.
فيتبين من هذه الحال أن المبصر الذي يكون بالقياس إلى أحد البصرين مقابلاً لوسطه وبالقياس إلى البصر الآخر مائلاً عن الوسط، فإنه يرى اثنين. وذلك لأن صورة النقطة التي تحصل في وسط أحد البصرين تصير إلى المركز، وصورة النقطة التي تكون مائلة عن وسط البصر الآخر تصير في نقطة غير المركز ومائلة عن المركز بحسب ميل النقطة من سطح البصر.
فيتبين من جميع الاعتبار الذي وصفنا والشرح الذي شرحنا بياناً واضحاً أن المبصر الذي يلتقي عليه السمان يرى أبداً واحداً، وأن المبصرات أيضاً التي تلتقي عليها الشعاعات المتشابهة الوضع في الجهة وليس بينهما في البعد عن السهم اختلاف متفاوت فإن كل واحد منها يرى أيضاً واحداً، وأن المبصر الذي تلتقي عليه الشعاعات المتشابهة الوضع في الجهة ومختلفة الوضع في العبد عن السهمين اختلافاً متفاوتاً فإنه يرى اثنين، وأن المبصر الذي يدرك بشعاعات مختلفة الوضع في الجهة فإنه يرى اثنين وإن تساوت أبعاد الشعاعات الخارجة إليها عن السهمين، وأن جميع ذلك كذلك ما دام السهمان متلاقيين على مبصر واحد.
وجميع المبصرات المألوفة تكون مقابلة للبصرين جميعاً والبصران جميعاً ينظران إلى كل واحد منهما، فسهما البصرين أبداً يلتقيان عليها، والشعاعات الباقية التي تلتقي على كل نقطة منها وضعها في الجهة وضعاً متشابهاً، ولا يكون بينها في البعد عن السهمين اختلاف متفاوت، فلذلك يرى كل واحد من المبصرات المألوفة بالبصرين جميعاً واحداً. وليسمن المبصرات المألوفة بالبصرين جميعاً واحداً. وليس يرى واحد من المبصرات اثنين إلا نادراً، لأنه ليس يرى واحداً من المبصرات اثنين إلا إذا كان وضعه من البصرين وضعاً مختلفاً اختلافاً متفاوتاً إما في الجهة وإما في البعد وإما في الجهة والبعد معاً، وليس يختلف وضع المبصر الواحد عند البصرين اختلافاً متفاوتاً إلا في النادر.
فقد تبينت العلة التي من أجلها يرى كل واحد من المبصرات المألوفة بالبصرين جميعاً واحداً بالقياس والاعتبار جميعاً.
وأيضاً فإن المعتبر إذا رفع الشخص الذي في وسط اللوح، ونظر إلى نقطة التقاطع التي في وسط اللوح، وتأمل في الحال الخطوط التي في اللوح، فإنه يجد القطرين أربعة، ويجد مع ذلك اثنين من الأربعة متقاربين واثنين متباعدين، وجميعها مع ذلك متقاطعة على النقطة المتوسطة التي هي نقطة تقاطع القطرين التي على السهم المشترك، ويجد كل واحد من المتباعدين تباعده عن الوسط أكثر من تباعده الحقيقي. ثم إذا ستر المعتبر أحد البصرين فإنه يرى القطرين اثنين، ويرى البعد الذي بينهما أوسع من مقداره الحقيقي على انخراطه الذي أوسع موضع منه هو عرض اللوح، ويظهر أن القطر المتباعد عن الوسط هو القطر الذي يلي البصر المستتر.

فيتبين من ذلك أن القطرين الذين يريان متقاربين إذا كان الإبصار بالبصرين معاً هما اللذان يرى كل واحد منهما بالبصر الذي يليه، وإن القطرين المتباعدين هما اللذان يرى كل واحد منهما بالبصر المائل عنه. فأما تقارب الاثنين من الأربعة، فلأن السهمين إذا كانا ملتقيين على الشخص المتوسط، فإن كل واحد من القطرين يدركه البصر الذي يليه بشعاعات قريبة جداً من السهم، فتصير صورتاهما من أجل ذلك في تجويف العصبة المشتركة قريبتين جداً من المركز، وتكون نقطة التقاطع منهما على نفس المركز، وكذلك يريان متقاربين وقريبين من الوسط. وتباعد الاثنين من الأربعة لأن كل واحد من القطرين يدرك أيضاً بالبصر الآخر المائل عنه، فهو يدركه بشعاعات بعيدة عن السهم، ويدرك أحدهما بشعاعات متيامنة عن السهم ويدرك الآخر بشعاعات متياسرة عن السهم الآخر، فتحصل صورتاهما من أجل ذلك في تجويف العصبة المشتركة متباعدتين، لأنهما تحصلان في جهتين متضادتين بالقياس إلى المركز ومع ذلك بعيدين عن المركز. فلذلك يوجد للقطرين صورتان متقاربتين وصورتان متباعدتين. فأما لم يدرك تباعد كل واحد من المتباعدين عن الوسط أكثر من تباعده الحقيقي، فإن ذلك البعد الذي بين القطرين يدركه كل واحد من البصرين أعظم من مقداره الحقيقي. ويظهر ذلك إذا ستر المعتبر أحد البصرين ونظر ببصر واحد. فأما لم إذا ستر المعتبر أحد البصرين ونظر ببصر واحد وجد البعد الذي بين القطرين أوسع من مقداره الحقيقي فذلك لأن البعد الذي بين القطرين قريب جداً من البصر، وكلما كان قريباً جداً من البصر فإنه يرى أعظم من مقداره الحقيقي. فأما علة ذلك فإنها تتبين من بعد في موضعها عند كلامنا في أغلاط البصر.
فمن اعتبار أحوال القطرين الذين في اللوح والأشخاص التي تثبت عليهما على غير الوسط يظهر أن كل مبصر يكون على السهم المشترك ويدركه البصر بسهم الشعاع فإنه يدركه في موضعه، كان إدراكه ببصر واحد وبسهم واحد من سهمي البصرين أو كان إدراكه ببصرين وبالسهمين معاً.ويتبين أن كل مبصر يدرك ببصر واحد وبسهم الشعاع ولا يكون ذلك المبصر على السهم المشترك، فإنه يدركه في موضع أقرب إلى السهم المشترك من موضعها الحقيقي. وتلزم هذه الحال أيضاً فيما يدرك بالشعاعات الباقية غير السهم، لأنه إذا كان البصر يدرك المبصر على ما هو عليه، وتحصل صورته في تجويف العصبة المشتركة في موضع واحد ومتصلاً بعضها ببعض بحسب اتصال المبصر، وكانت النقطة من المبصر التي على سهم الشعاع إذا لم تكن على السهم المشترك ترى في موضع أقرب إلى السهم المشترك من موضعها الحقيقي، فإن النقط الباقية أيضاً ترى في موضع أقرب إلى السهم المشترك من موضعها الحقيقي، لأنها متصلة بالجزء الذي عند طرف السهم.
وإن التقى سهما البصرين على مبصر خارج عن السهم المشترك فإنه يلزم في هذه الحال أيضاً، أعني أنه يرى في موضع أقرب إلى السهم المشترك من موضعه الحقيقي. إلا أن هذا الوضع قل ما يتفق. فإنه إذا التقى سهما البصرين على البصر، فإنه في أكثر الأحوال يكون السهم المشترك ماراً بذلك المبصر، وليس يلتقي سهما البصرين على المبصر وهو خارج عن السهم المشترك إلا بتكلف أو بعائق يضطر البصر إلى التكلف. وليس تظهر هذه الحال في المبصرات المألوفة لأنه إذا عرض هذا المعنى في مبصر من المبصرات المألوفة فإنه يلزم في جميع ما يتصل بذلك المبصر من المبصرات، فليس يتغير بهذه الحال وضع المبصرات بعضها عن بعض: فإذا لم يتغير وضع ذلك المبصر مما يجاوره من المبصرات فليس يظهر تغير موضعه. فهذا المعنى إذا عرض في المبصرات المألوفة فليس يظهر للعلة التي ذكرناها. فإذا اعتبر بالطريق الذي قدمناه يبين من الاعتبار أن ذلك لازم في جميع المبصرات التي يلتقي عليها سهما البصرين وتكون خارجة عن السهم المشترك.

وأيضاً فإنه ينبغي للمعتبر أن يعتمد قرطاساً فيقطع منه ثلث جزازات صغار متساويات، وليثبت في إحداهن كلمة كيف ما اتفقت ولتكن كتابة بينة، وليثبت في كل واحدة من الجزازتين الباقيتين مثل تلك الكلمة وعلى مقدارها وهيئتها. وليثبت المعتبر الشخص في وسط اللوح على مثل ما تقدم، ويثبت أيضاً أحد الشخصين الآخرين على نقطة ح . ويلصق إحدى الجزازتين االباقيتين بالشخص الذي على نقطة ح، وليتحر أن يكون وضعها مثل وضع الجزازة الأولى. ويقدم اللوح إلى بصره على مثل ما تقدم، ويحدق إلى الجزازة التي على الشخص الأوسط ويتأملها. فإنه يدرك الكلمة المكتوبة عليها إدراكاً محققاً، ويدرك مع ذلك في تلك الحال الجزازة الأخرى ويدرك الكلمة التي فيها إلا أنه لا يجدها في البيان كبيان الكلمة النظيرة لها التي في الجزازة المتوسطة، بل يجد الكلمة التي في الجزازة المتوسطة أبين وأشد تحققاً مع تشابهها في الشكل والهيئة والمقدار.
ثم في هذه الحال ينبغي للمعتبر أن يأخذ الجزازة الثالثة باليد التي تلي نقطة ح ويقيمها في سمت الجزازتين اللتين على اللوح وعلى استقامة امتداد الخط المعترض الذي في سطح اللوح في الحس، ولتكن بعيدة عن اللوح.والسمت الذي على الصفة نسميه سمت المواجهة. وليتحر المعتبر أن يكون وضع الجزازة الثالثة ووضع الكلمة التي فيها في حال نصب الجزازة الثالثة ووضع الكلمة التي فيها في حال نصب الجزازة شبيهاً بوضع الجزازتين اللتين على اللوح. وليثبت البصرين على الجزازة المتوسطة ويحدق إليها. فإنه يدرك الجزازة الثالثة في هذه الحال إذا لم تكن بعيدة جداً عن اللوح. إلا انه يدرك صورة الكلمة التي فيها مشتبهة غير مفهومة، ولا يجدها بينة كما يجد صورة الكلمة النظيرة لها في وسط اللوح، ولا كما يجد صورة الكلمة التي عند نقطة ح ما دام البصران محدقين إلى الجزازة التي في وسط اللوح.
ثم فليرفع المعتبر الشخص الذي عند نقطة ح والجزازة التي عليه ويقدم الجزازة التي في يده إلى أن يلصقها إلى جانب الجزازة الملتصقة بالشخص المتوسط، ويتحرى أن تكون الجزازة قائمة على الخط المعترض، ويحدق كما كان إلى الجزازة المتوسطة. فإنه يدرك الكلمتين جميعاً اللتين في الجزازتين إدراكاً بيناً محققاً ولا يكون بين صورتي الكلمتين في البيان والتحقق تفاوت محسوس.
ثم يحرك المعتبر الجزازة التي بيده تحريكاً رفيقاً على الخط المعترض في اللوح ويتحرى أن تكون نصبتها على ما كانت عليه، ويعتمد التحديق إلى الجزازة المتوسطة وينعم تأمل الجزازتين في هذه الحال. فإنه يجد الجزازة المتحركة كلما بعدت عن الوسط تناقص بيان الكلمة التي فيها. فإذا صارت عند نقطة ح فإنه يجد صورة الكلمة التي فيها مفهومة، إلا انها ليست في البيان كما كانت عند التصاقها بالجزازة المتوسطة.
ثم يحرك المعتبر الجزازة أيضاً ويخرجها عن اللوح ويبعدها عنه قليلاً قليلاً على سمت الخط المعترض وينعم التأمل مع التحديق إلى الجزازة الوسطى. فإنه يجد الجزازة المتحركة كلما بعدت عن الوسط تناقص بيان الكلمة التي فيها حتى تصير بحيث لا يفهم صورتها ولا يتحققها. ثم إذا حركها بعد ذلك وجدها كلما بعدت ازدادت صورة الكلمة التي فيها اشتباهاً وخفاءً.
وأيضاً فليستر المعتبر الذي يلي نقطة ط ويثبت اللوح على حاله ويحدق بالبصر الواحد الذي يلي نقطة ح إلى الجزازة المتوسطة. وليلصق الجزازة الأخرى إلى جانب الجزازة المتوسطة كما فعل في الأول. فإنه يجد الكلمة التي في الجزازة المتوسطة بينة ومحققة، ويجد الكلمة التي في الجزازة الأخرى أيضاً بينة ليس بينها وبين الجزازة المتوسطة في البيان تفوت محسوس. ثم يحرك الجزازة الثانية على مثل ما تقدم ويعتمد التحديق إلى الجزازة المتوسطة وينعم بالتأمل. فإنه يجد الكلمة التي في الجزازة الثانية عند الحركة ينقص بيانها. فإذا وصلت إلى النقطة ح كان بين بيانها في هذه الحال وبين بيانها عند كونها ملتصقة بالوسطى تفاوت محسوس. ثم يحرك هذه الجزازة ويخرجها عن اللوح كمثل الفعل الأول وينعم التأمل مع التحديق إلى الجزازة الوسطى. فإنه يجد الجزازة المتحركة كلما بعدت عن الوسط ازدادت خفاءً.

فيظهر من هذا الاعتبار أن أبين المبصرات المواجهة للبصر التي تدرك بالبصرين معاً هو الذي يكون عند ملتقى السهمين، وأن ما قرب من ملتقى السهمين يكون أبين مما بعد، فإن المبصر البعيد عن ملتقى السهمين تكون صورته مشتبهة غير محققة، وإن أدرك بالبصرين جميعاً. ويظهر أيضاً من هذا الاعتبار أن أبين المبصرات المواجهة التي تدرك ببصر واحد هو الذي يرى بسهم الشعاع، وأن ما قرب منه يكون أبين مما بعد، فإن المبصر البعيد عن سهم الشعاع تكون صورته مشتبهة غير محققة. ويظهر من هذا الاعتبار أيضاً أن البصر ليس يدرك المبصر الفسيح الأقطار إدراكاً محققاً إلا إذا حرك سهم الشعاع على جميع أقطاره وعلى جميع أجزائه كان الإبصار ببصرين أو كان الإبصار ببصر واحد، وأن البصر إذا كان ثابتاً في مقابلة المبصر الفسيح الأقطار فليس يدرك جميعه إدراكاً محققاً، وإنما يدرك منه ما كان على السهم وقريباً منه إدراكاً محققاً ويدرك بقية أجزائه وما بعد عن السهم إدراكاً غير محقق وإن كان المبصر مواجهاً، كان الإبصار ببصرين أو كان ببصر واحد.
وأيضاً فإنه ينبغي للمعتبر أن يعتمد قرطاساً قدره أربع أصابع في مثلها، فيثبت فيه أسطر الخط دقيقاً، وليكن الخط مفهوماً. ثم يرفع المعتبر الشخص الذي على اللوح ويقدم اللوح إلى بصره على مثل ما كان ثم يقيم القرطاس على الخط المعترض الذي في وسط اللوح، ويحدق بالبصرين جميعاً إلى وسط القرطاس ويتأمله. فإنه يجد الكتابة التي في القرطاس بينة مفهومة ويتمكن من قراءتها. إلا أنه يجد ما كان من الكتابة في وسط القرطاس أبين مما هو في أطرافه، إذا كان البصر محدقاً إلى وسط القرطاس ولم يتحرك على جميع أقطاره.
ثم فليميل القرطاس حتى يتقاطع به الخط المعترض على النقطة التي في وسط اللوح التي هي نقطة التقاطع، وليكن ميل القرطاس على الخط المعترض ميلاً يسيراً، ولينظر بالبصرين جميعاً إلى وسط القرطاس. فإنه يجدها لما كان القرطاس مواجهاً.
ثم ينبغي للمعتبر أن يميل القرطاس ميلاً زائداً على الميل الأول ويكون وسط حاشيته على نقطة التقاطع، ويحدق أيضاً بالبصرين جميعاً إلى وسطه. فإنه يجد الكتابة أضعف من بيانها الأول. ثم يزيد في ميل القرطاس قليلاً قليلاً ويكون وسط حاشيته على نقطة التقاطع، ويتأمله في جميع ميله مرة بعد مرة. فإنه يجد الكتابة تشتبه عليه عند ميل القرطاس. وكلما ازداد القرطاس ميلاً ازدادت الكتابة اشتباهاً إلى أن يقرب القرطاس من الخط الممتد في وسط طول اللوح، فإنه يجد الكتابة التي في القرطاس مشتبهة اشتباهاً شديداً حتى لا يتمكن من قراءتها ولا من فهمها ولا يتحقق صورتها.
ثم ينبغي للمعتبر آن يعيد القرطاس إلى الوضع الأول، ويقيمه على الخط المعترض، ويستر أحد البصرين وينظر إلى القرطاس ببصر واحد، فإنه يجد الكتابة بينة مفهومة ويتمكن من قراءتها وفهمها. ثم يميل القرطاس على الصفة الأولى وينظر إليه بالبصر الواحد، فإنه يجد الكتابة أضعف بياناً مما كانت عليه عند المواجهة. ثم يزيد في ميل القرطاس قليلاً قليلاً ويتأمله مرة بعد مرة. فإنه يجده كلما ازداد ميلاً ازداد بيان الكلمة ضعفاً إلى أن يقرب القرطاس من القطر الذي يلي البصر الناظر إليه. وليتأمل في هذه الحال بالبصر الواحد، فإنه يجد الكتابة مشتبهة اشتباهاً شديداً ولا يتمكن من قراءتها ولا من فهمها.
فيتبين من هذا الاعتبار أن أبين المبصرات التي تكون على سهم الشعاع هو المواجه للبصر، وأن ما قرب وضعه من المواجهة يكون أبين مما بعد عن المواجهة، وأن المائل على سهم الشعاع ميلاً متفاوتاً تكون صورته مشتبهة غير مفهومة، كان الإبصار بالبصرين معاً أو كان الإبصار ببصر واحد.

ثم ينبغي للمعتبر أن يرد الشخص الذي كان على اللوح ويثبته في وسط اللوح ويلصقه على نقطة التقاطع على مثل ما كان في الاعتبار الأول. ثم يقيم القرطاس على أحد قسمي الخط المعترض على سمت المواجهة ويحدق بالبصرين معاً إلى الشخص المتوسط. فإنه في هذه الحال يدرك القرطاس ويدرك الكتابة التي فيه، إلا أنه يجد ما يلي الشخص المتوسط من الكتابة بيناً وما بعد عنه مشتبهاً خفياً، ويجد ما قرب إلى الشخص المتوسط مفهوماً ويتمكن من قراءته مع تحديقه إلى الشخص المتوسط، ويجد ما بعد عن الشخص المتوسط من الكتابة ملتبساً لا يتمكن من قراءته ولا من فهمه، ويجد كل ما كان أبعد عن الشخص كان أشد التباساً.
وأيضاً فإنه ينبغي للمعتبر أن يميل القرطاس في هذه الحال ويقاطع به الخط المعترض على نقطة من إحدى قسميه، ويجعل ميله عن الخط المعترض ميلاً يسيراً، ويحدق بالنظر إلى الشخص المتوسط. فإنه يجد الكتابة التي القرطاس في هذه الحال أضعف بياناً مما كانت عليه عند المواجهة. ثم فليزد في ميل القرطاس ويحدق إلى الشخص المتوسط. فإنه يجد الكتابة مشتبهة غير مفهومة ولا بينة.
ثم ينبغي للمعتبر أن يستر أحد البصرين وينظر بالبصر الواحد، ويعيد القرطاس إلى وضعه الأول، ويقيمه على قسم الخط المعترض الذي يلي البصر الذي ينظر به. ويحدق بالبصر الواحد إلى الشخص المتوسط. فإنه يدرك أيضاً الكتابة التي في القرطاس، ويجد ما قرب منها من الشخص أبين مما بعد، ويجد ما بعد عن الشخص من الكتابة مشتبهاً غير مفهوم.
ثم فليملل المعتبر القرطاس ويقاطع به الخط المعترض على نقطة من القسم الذي كان قائماَ عليه، وينظر إلى الشخص المتوسط بالبصر الواحد الذي كان ينظر به، فإنه يجد الكتابة التي في القرطاس مشتبهة غير مفهومة وأشد اشتباهاً منها لما كان القرطاس في سمت المواجهة. ثم فليزد في ميلها قليلاً قليلاً، فإنه يجد كل ما ازداد القرطاس ميلاً ازدادت الكتابة اشتباهاً والتباساً.
فيظهر من هذا الاعتبار أن المبصر الذي على سمت المواجهة يكون أبين من المبصر المائل وإن لم يكن المبصر على سم الشعاع وكان خارجاً عن السهم، وأن المبصر إذا كان شديد الميل كانت صورته مشتبهة وإن لم يكن على سهم الشعاع كان الإبصار بالبصرين معاً أو كان الإبصار ببصر واحد.
وأيضاً فينبغي للمعتبر أن يرفع الشخص من اللوح، ويقيم القرطاس على طرف اللوح، ويطابق بنهايته نهاية عرض اللوح الذي هو خط ج د ، ويحدق بالبصرين جميعاً إلى وسط القرطاس. فإنه يجد الكتابة بينة مفهومة.
ثم فليملل القرطاس ويقاطع به عرض اللوح على نقطة ز التي في وسط عرض اللوح، ويحدق بالبصرين جميعاً إلى وسط القرطاس. فإنه يجد الكتابة أضعف بياناً مما كانت عليه. ثم فليزد في ميل القرطاس قليلاً قليلاً، فإنه يجد الكتابة يزداد بيانها ضعفاً. فإذا تفاوت ميل القرطاس، فإنه يجد الكتابة مشتبهة اشتباهاً شديداً على مثل الحال التي كان يجدها عليها عند اعتبارها في وسط اللوح. وكذلك إذا اعتبره في هذا الموضع ببصر واحد.
ثم ينبغي للمعتبر أن يقيم الشخص على نقطة ز ويقيم القرطاس على أحد قسمي العرض وعند طرف اللوح مثل ما فعله في وسط اللوح، ويحدق إلى الشخص المتوسط ويتأمل القرطاس ويعتبره. ثم يقاطع به العرض أيضاً ويعتبره. فإنه يجد الحال على مثل ما كان وجدها في وسط اللوح إذا اعتبرها بالبصرين معاً وبالبصر الواحد أيضاً.
وينبغي للمعتبر أن يعتبر أيضاً الجزازات الصغار التي تقدم وصفها عند طرف اللوح كما اعتبرها في وسطه. فإنه يجد الحال على مثل ما كان وجدها في الوسط، أعني انه يجد الكلمة التي في الجزازة المتوسطة أبين من الكلمة التي في الجزازة المتطرفة البعيدة عن الوسط. وكل ما ازدادت الجزازة المتطرفة بعداً عن الوسط ازدادت الكلمة التي فيها اشتباهاً، إلا انه يجد البعد عن الوسط الذي تشتبه عنده الكلمة المتطرفة إذا كان الاعتبار عند طرف اللوح يكون بحسب البعد عن الوسط الذي تشتبه عنده الكلمة المتطرفة إذا كان الاعتبار في وسط اللوح لأنه يكون بحسب بعد الشعاع المتطرف عن السهم. فتكون نسبة البعد الذي تلتبس عنده الصورة المتطرفة عن الصورة المتوسطة إلى بعد الصورة المتوسطة عن البصر نسبة واحدة في الاعتبار عند وسط اللوح وفي الاعتبار عند طرفه.

وكذلك أيضاً إن رفع المعتبر اللوح، ووضع القرطاس الذي فيه الكتابة على بعد أكثر من طول اللوح وبحيث يتمكن من قراءة ما فيه، وجعله مواجهاً للبصر، وتأمله وقرأ ما فيه من الكتابة، ثم ميله وهو في موضعه ميل اًيسيراً، فإنه يجده أضعف بياناً. ثم إذا زاد في ميله قليلاً قليلاً فإنه يجده كلما ازداد ميلاً ازداد بيانه ضعفاً. ثم إذا ميله ميلاً شديداً حتى يصير وضعه قريباً من وضع الشعاع الذي يمتد إلى وسطه، فإنه يجد الكتابة التي في القرطاس مشتبهة اشتباهاً شديداً حتى لا يتمكن من قراءتها ولا يفهمها. ويجد الأمر كذلك إن كان الاعتبار بالبصرين معاً وإن كان الاعتبار ببصر واحد.
وكذلك أيضاً إذا أثبت إحدى الجزازات الصغار في موضع مقابل للبصر أبعد من طول اللوح وجعلها مواجهة للبصر وحدق إليها بالبصرين جميعاً، وجعل الجزازة الأخرى مائلة عن تلك الجزازة إلى جهة اليمين أو جهة الشمال ونصبها على سمت المواجهة، فإنه يجدها أضعف بياناً.
ثم إن تقدم إلى محرك يحرك الجزازة الثانية ويبعدها قليلاً قليلاً عن الجزازة التي يحدق إليها، فإنه يجد الكلمة التي في الجزازة المتطرفة كلما تباعدت عن الجزازة الثانية ازدادت صورة الكلمة التي فيها اشتباهاً إلى أن تخفى صورة الكلمة فلا يفهمها. وكذلك إذا اعتبر هاتين الجزازتين ببصر واحد فإنه يجد الحال كذلك.
فيتبين من جميع هذه الاعتبارات أن أبين المبصرات من جميع الأبعاد هو الذي يكون على سهم الشعاع، وأن ما قرب من السهم يكون أبين مما بعد، وان المبصر البعيد عن السهم بعداً متفاوتاً يكون مشتبه الصورة ولا يتحقق البصر صورته كان الإبصار ببصر واحد أو كان بالبصرين جميعاً، وأن المبصر أيضاً المواجه للبصر يكون من جميع الأبعاد أبين من المبصر المائل، وانه كلما قرب وضع المبصر من المواجهة كان أبين مما بعد عنها، وأن المبصر المائل على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً تكون صورته مشتبهة اشتباهاً شديداً ولا يتحققها البصر، كان الإبصار ببصر واحد أو كان بالبصرين جميعاً، كان المبصر على السهم أو كان خارجاً عن السهم.
فأما لم صار المائل المسرف الميل مشتبه الصورة مع اعتدال بعده ومع إدراك عظمه على ما هو عليه، ولم صار المواجه أبين من المائل، فإن ذلك لأن المائل المسرف الميل تحصل صورته في سطح البصر مجتمعة من أجل ميله. لأنه إذا كان المبصر مسرف الميل كانت الزاوية التي يوترها عند مركز البصر صغيرة، وكان الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر أصغر بكثير من الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورته إذا كان مواجهاً للبصر، وتكون أجزاؤه الصغار توتر عند البصر زوايا غير محسوسة من أجل فرط ميلها، لأن الجزء الصغير إذا كان في غاية الميل انطبق الخطان اللذان يخرجان من مركز البصر إلى طرفيه وصارا بمنزلة الخط الواحد ولم يدرك الحاس الزاوية التي فيما بينهما ولا الجزء الذي يفصلانه من سطح البصر.
فالمبصر المسرف الميل تكون صورته التي تحصل في البصر مجتمعة اجتماعاً متفاوتاً، وتكون أجزاءه الصغار غير محسوسة، فلذلك تكون صورته مشتبهة. فإذا كان في المبصر الذي بهذه الصفة معان لطيفة لم يدركها البصر لخفاء أجزائها الصغار ولاجتماع الصورة. والمبصر المواجه بخلاف هذه الحال، لأن المبصر المواجه تكون صورته التي تحصل في البصر مرتبة على ما هي عليه في سطح المبصر، وتكون أجزاؤه الصغار التي يمكن أن يدركها البصر بينة. وإذا كانت الأجزاء الصغار من المبصر بينة وحصلت أجزاؤه مرتبة في سطح البصر كترتيبها الذي هي عليه في سطح المبصر، كانت صورته بينة غير مشتبهة.
وبالجملة فإن المعاني اللطيفة والأجزاء اللطيفة وترتيب أجزاء المبصر ليس يدركها البصر إدراكاً محققاً إلا إذا انتقشت الصورة في سطح العضو الحاس وحصل كل جزء منها في جزء محسوس من سطح العضو الحاس. وإذا كان البصر مائلاً ميلاً متفاوتاً فليس تنتقش صورته في البصر وليس تحصل صورة كل جزء من أجزائه الصغار في جزء محسوس من البصر. وليس تنتقش صورة المبصر في سطح العضو الحاس وتحصل صورة كل جزء من أجزائه في جزء محسوس من البصر إلا إذا كان المبصر مواجهاً أو كان ميله يسيراً، وكان بعده مع ذلك من الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى المعاني التي في ذلك المبصر.

فأما إدراك عظم المبصر المائل المسرف الميل على ما هو عليه إذا كان على بعد معتدل مع تفوت ميله، فإن ذلك ليس يدركه البصر من صورته نفسها التي تحصل في البصر فقط بل من قياس خارج عن الصورة، وهو من إدراكه لاختلاف بعدي طرفيه مع إدراكه لمقدار الصورة. فإذا أدرك البصر اختلاف بعدي طرفي المبصر المائل المسرف الميل، وأدرك تفاوت اختلافهما، تخيلت القوة المميزة وضع ذلك المبصر، وأدركت مقداره بحسب اختلاف بعدي طرفيه وبحسب مقدار الجزء الذي تحصل فيه الصورة ومقدار الزاوية التي يوترها ذلك الجزء عند مركز البصر، لا من الصورة نفسها فقط. والقوة المميزة إذا أدركت اختلاف بعدي طرفي المبصر المائل المسرف الميل، وأدركت ميله أحست باجتماع الصورة، فهي تدرك مقداره إذا أحست مقدار ميله لا بحسب مقدار الصورة بل بحسب وضعه. والأجزاء الصغار والمعاني اللطيفة التي تكون في المبصر ليس يمكن أن تدرك بقياس إذا لم يحس البصر بتلك الأجزاء ولا بتلك المعاني.
فاشتباه صورة المبصر المائل المسرف الميل إنما هو اجتماع صورته في البصر وخفاء أجزائه الصغار. وبيان صورة المبصر الواحد إذا كان على بعد معتدل إنما هو لانتقاش الصورة في البصر على ما هي عليه وإحساس البصر بأجزائه الصغار.
فقد تبينت العلة التي من أجلها صارت صورة المبصر المائل المسرف الميل مشتبهة وصورة المبصر المواجه بينة.
وإذا قد تبينت جميع هذه المعاني فلنشرع الآن في الكلام على أغلاط البصر ونبين عللها ونقسم أنواعها.

الفصل الثالث
العلل المسببة للغلط
العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط قد تبين في المقالة الأولى أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه لها على الاستقامة إلا بعد أن يجتمع للمبصر عدة معان وهي البعد والمقابلة والضوء وأن يكون حجمه مقتدراً وأن يكون كثيفاً أو فيه بعض الكثافة وأن يكون الهواء المتوسط بينه وبين البصر مشفاً متصل الشفيف لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة. فإذا اجتمعت للمبصر هذه المعاني وكان البصر إليه سليماً من الآفات والعوائق التي تمنعه من إدراك المبصرات فإن البصر يدرك ذلك المبصر. وإن عدم البصر والمبصر واحداً من هذه المعاني فليس يدرك المبصر الذي يعدم منه ذلك المعنى.
وقد تبين في المقالة الثانية أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا في زمان. وإذا كان ذلك كذلك فالزمان أيضاً هو أحد المعاني التي بها يتم الإبصار. فالإبصار ليس يتم إلا باجتماع هذه المعاني.
وأيضاً فإن البصر إذا كانت به آفة أو عاقه عائق ولم يمنعه ذلك عن إدراك المبصر بالكلية، فليس يدرك المبصر إدراكاً محققاً ما دام معوقاً أو به آفة، وليس يدرك البصر المبصر إدراكاً محققاً إلا إذا كان سليماً من الآفات والعوائق أو كان به ما لا يؤثر فيه كثير تأثير. وإذا كان ذلك كذلك فصحة البصر وسلامته هو أحد المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه.
وقد تبين في الفصل الذي قبل هذا الفصل أن المبصر إذا كان خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه، فإن البصر ليس يدركه إدراكاً محققاً، وإن كان على سمت المواجهة. وتبين أيضاً أن المبصر إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً، فليس يدركه البصر إدراكاً محققاً، وإن كان سهم الشعاع ومقابلاً لوسط البصر. وإذا كان ذلك كذلك فليس يدرك البصر المبصر على ما هو عليه، وإن كان مقابلاً له، إلا إذا كان المبصر على وضع مخصوص، وهو أن يكون مواجهاً للبصر أو قريباً من المواجهة وأن يكون مع ذلك على سهم الشعاع أو قريباً منه.
فالمعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه ثمينة وهي البعد والوضع المخصوص والضوء واقتدار الحجم والكثافة وشفيف الهواء والزمان وصحة البصر. فإذا اجتمعت للمبصر جميع المعاني التي ذكرناها أدرك المبصر إدراكاً محققاً، وإن عدم المبصر بعض هذه المعاني وأدركه البصر مع ذلك فليس يدركه إدراكاً محققاً.

فنقول إن لكل واحد من هذه المعاني بالقياس إلى كل واحد من المبصرات عرضاً ما فيه يدرك البصر ذلك المبصر على ما هو عليه. وما دامت هذه المعاني مجتمعة للمبصر وكل واحد منها في عرض الاعتدال الذي به يتم إدراك المبصر على ما هو عليه، فإن البصر يدرك ذلك المبصر على ما هو عليه. وإذا تجاوز واحد من هذه المعاني أو أكثر من واحد منها ذلك العرض بالإفراط فليس يدرك البصر ذلك المبصر على ما هو عليه. وذلك أن المبصر البعيد جداً عن البصر المتفاوت البعد ليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً، وكذلك المبصر القريب جداً من البصر ليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. وفيما بين الطرفين أبعاد كثيرة يدرك البصر منها المبصر إدراكاً صحيحاً لا لبس فيه. إلا أن الأبعاد التي يدرك منها البصر المبصر إدراكاً صحيحاً تكون إلى حد ما، وليس شيء منها متفاوتاً لا في البعد ولا في القرب، وهي في كل واحد من المبصرات بحسب ذلك المبصر. لأن المبصر المقتدر الحجم قد يدرك البصر صورته إدراكاً صحيحاً من بعد قد تخفى من مثله صورة المبصر الصغير الحجم أو تشتبه. وكذلك المبصر القوي الضوء قد يدرك البصر صورته من بعد قد تخفى من مثله صورة المبصر الضعيف الضوء.
وأيضاً فإن المبصر الذي ليس هو مقابلاً لوسط البصر، المائل عن الوسط ميلاً متفاوتاً، وليس يلقى سهم الشعاع شيئاً من أجزائه ولا يقرب منه، فليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. والمبصر الذي يدرك بالبصرين معاً ولا يلتقي عليه سهما البصرين والشعاعات المتشابهة الوضع، ولا يكون وضعه من البصرين وضعاً متشابهاً، فليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. والمبصر أيضاً الذي تكون خطوط الشعاع مائلة عليه ميلاً متفاوتاً ليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. والمبصر المقابل لوسط البصر الذي يكون سهم الشعاع على نقطة منه أو قريباً منه إذا لم يكن فسيح الأقطار فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً وإن لم يتحرك السهم على جميع أقطاره. والمبصر الذي يدرك بالبصرين معاً، ويكون وضعه من البصرين وضعاً متشابهاً، فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً. والمبصر المواجه للبصر والقريب من وضع المواجهة أيضاً المائل ميلاً يسيراً يدرك البصر صورته إدراكاً صحيحاً. إلا أن الميل اليسير الذي يدرك معه البصر حقيقة صورة المبصر يكون بحسب المعاني التي في المبصر. وكذلك البعد عن سهم الشعاع اليسير الذي يدرك معه حقيقة المبصر يكون بحسب المعاني التي في المبصر. فإن المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة قد يدرك البصر حقيقة صورته وهو خارج عن سهم الشعاع وبعيد عنه بعداً يسيراً. وكذلك قد يدرك البصر حقيقته إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً يسيراً. والمبصر الذي فيه معان لطيفة قد تخفى حقيقة صورته إذا كان خارجاً عن سهم الشعاع، وكان بعده عن السهم مثل البعد الذي يدرك منه حقيقة صورة المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة. وكذلك قد تخفى حقيقة صورته إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع مثل الميل الذي يدرك معه حقيقة صورة المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة.
وأيضاً فإن المبصر الذي فيه ضوء يسير وليس ضوؤه بكل البين ليس يدرك البصر صورته إدراكاً صحيحاً، وخاصة إذا كان فيه معان لطيفة. وكذلك إذا كان المبصر نيراً قوي الضوء، أو كان صقيلاً وأشرق عليه ضوء قوي، فليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. وفيما بين الضوء الخفي والضوء المشرق أضواء كثيرة يدرك البصر منها المبصر إدراكاً صحيحاً. وتوجد الأضواء التي تدرك فيها المبصرات إدراكاً صحيحاً تكون أبداً إلى حد ما، وليس فيها شيء متفاوت في القوة ولا في الضعف. ويوجد الضوء أيضاً الذي يدرك فيه البصر صورة المبصر إدراكاً صحيحاً يكون بحسب المعاني التي في المبصر وبحسب عظم المبصر. فإن المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة قد يدرك البصر حقيقته في ضوء يسير قد تشتبه في مثله صورة المبصر الذي فيه معان لطيفة. وكذلك المبصر المقتدر الحجم قد يدركه البصر في ضوء يسير قد يخفى في مثله المبصر الذي في غاية الصغر.

والمبصر أيضاً إذا كان في غاية الصغر وكانت فيه معان لطيفة وأجزاء متميزة فليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً، كالحيوانات التي في غاية الصغر التي أعضاؤها المتميزة وتخطيط وجوهها وجوارحها في حد من الصغر ليس في قوة البصر إدراكه. فإن ما هذه صفته من الحيوانات إذا أدركها البصر فليس يدركها إدراكاً صحيحاً، ولا يتحقق صورتها، لأن الحيوان إذا لم يدرك البصر جميع أعضائه المتميزة التي هي ظاهر جسمه فما أدرك حقيقة صورته. وإذا كان حجم الحيوان مقتدراً، كانت أعضاؤه مناسبة له، وأمكن البصر أن يدرك كل واحد من أعضائه المتميزة التي في ظاهر جسمه. وإذا أدرك البصر كل واحد من أعضائه المتميزة التي في ظاهره فقد أدرك صورته على ما هي عليه. وكذلك جميع المبصرات التي فيها معان في غاية الدقة ليس يدرك البصر حقائق صورها. وإذا كانت تلك المعاني في مبصرات مقتدرة، وكانت مناسبة لها، فإن البصر يدرك تلك المبصرات إدراكاً صحيحاً.
والمبصر أيضاً إذا كان مشفاً وكان فيه بعض الكثافة وكانت كثافته يسيرة جداً، فلي يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. وإذا لم يكن مشفاً أو كان فيه شفيف يسير وكانت كثافته بينة، فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً. وكلما كان المشف أرق لوناً احتاج في إدراكه إلى الزيادة في الكثافة، وكلما كان أقوى لوناً أمكن البصر أن يدركه مع كثافة يسيرة لا يدرك معها حقيقة المبصر الرقيق اللون إدراكاً صحيحاً. والهواء المتوسط بين البصر والمبصر إذا كان غليظاً كدراً مسف الغلظ كالضباب والقتام والدخان وما جرى مجرى ذلك، وكانت فيه مبصرات لطيفة ومبصرات فيها معان لطيفة، فليس يدرك البصر تلك المبصرات إدراكاً صحيحاً. وكذلك إذا قطع الهواء المتوسط بين البصر والمبصر جسم مشف فيه بعض الغلظ فليس يدرك البصر ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً. وإذا كان الهواء صافياً مشفاً لطيفاً متشابه الشفيف ولم يقطعه جسم من الأجسام التي فيها كثافة فإن البصر يدرك المبصرات التي تكون في ذلك الهواء إدراكاً صحيحاً. وكذلك إذا كان في الهواء بعض الغلظ، وكان الغلظ الذي فيه يسيراً، وكان فيه مبصرات ليست في غاية الصغر، وليس فيها معان في غاية اللطافة، فإن البصر يدرك تلك المبصرات إدراكاً صحيحاً، ولا يعوقه ذلك الهواء عن إدراكها وإن كان فيه بعض الغلظ، ويكون غلظ الهواء الذي يدرك فيه المبصر إدراكاً صحيحاً بحسب المعاني التي في المبصر، فإن المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة قد يدرك البصر حقيقته في هواء فيه بع الغلظ ولا يدرك في ذلك الهواء حقيقة المبصر الذي فيه معان لطيفة.
والمبصر أيضاً إذا كان متحركاً حركة سريعة في غاية السرعة وقطع المسافة التي يدركه البصر فيها في أقل القليل من الزمان فليس يدرك البصر مائية ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً. كالناظر إذا كان ينظر من ثقب أو من باب، وكان بعيداً عن الثقب أو الباب، وكان المبصر من وراء الثقب مجتازاً وكان متحركاً حركة سريعة كالخطف، وأدركه البصر من الثقب، فإنه ليس يدرك مائيته ولا يتحقق صورته أو لا يدرك صورته إدراكاً صحيحاً. وإذا ثبت المبصر في قبالة البصر، أو تحرك في قبالة البصر مسافة ليست متفاوتة العظم في زمان محسوس، فإن البصر يدرك مائية ذلك المبصر ويدرك حقيقته.والحركة أيضاً إذا كانت مستديرة كحركة الدوامة وكانت شديدة السرعة، فإن البصر ليس يدركها، ويدرك الدوامة أو الجسم المتحرك بحركة الدوامة إذا كان شديد السرعة كأنه ساكن. وكذلك أيضاً الحركة البطيئة المسرفة البطء ليس يدركها البصر في اليسير من الزمان، ويدرك البصر المبصر المتحرك حركة بطيئة مسرفة البطء في زمان محسوس المقدار كأنه ساكن وغير متحرك.
والبصر أيضاً إذا كانت به آفة مؤثرة فيه ولم يكن صحيحاً سليماً أو عرض له عارض يغيره تغييراً مؤثراً فليس يدرك المبصر إدراكاً صحيحاً. وإذا كان صحيحاً سليماً من الآفات والعوارض فإنه يدرك المبصر إدراكاً صحيحاً. وإن كان به عارض يسير أيضاً فإنه قد يدرك المبصرات التي ليست في غاية الصغر ولا فيها معان في غاية اللطافة إدراكاً صحيحاً.

فقد تبين مما فصلناه وشرحناه أن لكل واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه بالقياس إلى كل واحد من المبصرات عرضاً ما في تضاعيفه يدرك البصر المبصر على ما هو عليه، وإذا تجاوز ذلك العرض بالإفراط فليس يدرك البصر المبصر مع إفراط ذلك المعنى. والخروج عن العرض الذي من أجله ليس يتم إدراك المبصر على ما هو عليه يكون في البعد بالإفراط في الزيادة وفي النقصان، ويكون الوضع بالبعد عن سهم الشعاع وباختلاف وضع المبصر من البصرين إذا كان الإبصار بالبصرين معاً، لأنه إذا اختلف وضع المبصر من البصرين كانت الشعاعات التي تلتقي على المبصر من البصرين غير متشابهة الوضع، وبإفراط ميل سطح المبصر على خطوط الشعاع، وبامتداد سطح المبصر أو المسافة التي بين المبصرين على استقامة خطوط الشعاع. وبالجملة فإن كل وضع لا يتم معه إدراك المبصر على ما هو عليه فهو وضع خارج عن الاعتدال. ويكون في الحجم بالإفراط في الصغر. ويكون بالكثافة بالإفراط بالشفيف، ويكون في الهواء بالإفراط في الغلظ في جميعه أو بعضه. ويكون في الزمان بالإفراط في القصر. ويكون البصر بالإفراط في الضعف أو في التغير.
وإذا قد تبين ذلك فلنسم العرض الذي فيه يدرك البصر المبصر على ما هو عليه في كل واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه عرض الاعتدال. وإذا كان لكل واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه عرض فيه يدرك البصر المبصر على ما هو عليه، وإذا تجاوز ذلك المعنى ذلك العرض لم يدرك البصر المبصر على ما هو عليه، فقد وجب أن نحد هذا العرض بحد يفرزه عن الإفراط الذي يخرج عنه، فنقول: إن عرض الاعتدال في كل واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه هو العرض الذي ليس يكون بين الصورة التي يدركها البصر من المبصرفي تضاعيفه وبين صورته الحقيقية تفاوت محسوس مؤثر في حقيقة صورة المبصر. فهذا الحد يتم في كل واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه. وغاية العرض في كل واحد من هذه المعاني يختلف بحسب اختلاف المبصرات، ويكون عرض كل واحد من هذه المعاني بالقياس إلى مبصر من المبصرات بحسب كل واحد من المعاني الباقية التي بها يتم الإبصار، وبحسب لون ذلك المبصر أيضاً وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون فيه إن كانت فيه معان لطيفة كالتخطيط والنقوش والكتابة والأجزاء المتميزة. فيكون عرض الاعتدال في البعد بالقياس إلى كل مبصر من المبصرات بحسب لون ذلك المبصر ، وبحسب المعاني اللطيفة التي في ذلك المبصر، وبحسب الضوء الذي فيه، وبحسب وضعه، وبحسب حجمه، وبحسب كثافته، وبحسب الهواء المتوسط بينه وبين البصر، وبحسب الزمان، وبحسب صحة البصر وقوته.
وذلك أن المبصر النقي البياض والمشرق اللون تظهر حقيقته من بعد أعظم من غاية البعد الذي يدرك منه حقيقة المبصر المنكسف اللون والترابي اللون المساوي لذلك المبصر في جميع المعاني الباقية التي فيه. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى المبصر المنكسف اللون والترابي اللون يكون أضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر النقي البياض والمشرق اللون.
وكذلك أيضاً المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة ولا أجزاء متميزة تظهر حقيقته من أعظم من غاية البعد الذي تظهر منه حقيقة المبصر الذي فيه معان دقيقة وأجزاء لطيفة متميزة. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى المبصر الذي فيه معان لطيفة أضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر الذي ليس فيه معان لطيفة.

وكذلك أيضاً المبصر إذا كان مقابلاً لوسط البصر وعلى سهم الشعاع، أو على ملتقى السهمين إذا كان الإبصار بالبصرين، يكون أبين منه نفسه إذا كان مائلاً عن السهم وبعيداً عنه أو ملتقى السهمين. وإذا كان المبصر أيضاً مواجهاً للبصر يكون أبين منه نفسه إذا كان مائلاً ولم يكن مواجهاً للبصر كان الإبصار ببصرين أو كان الإبصار ببصر واحد. والأبين تدرك حقيقته من بعد أعظم من غاية البعد الذي تدرك منه حقيقة المبصر الذي ليس بكل البين. فعرض البعد الذي منه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى المبصر البعيد عن السهم والمائل على السهم وعلى خطوط الشعاع أضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر المقابل لوسط البصر وعلى ملتقى السهمين، وأضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر المواجه للبصر.
وكذلك أيضاً المبصر الذي فيه ضوء قوي قد يدرك البصر حقيقته من بعد أعظم من غاية البعد الذي يدرك منه حقيقة ذلك المبصر إذا كان الضوء الذي فيه ضعيفاً. فعرض البعد الذي يدرك فيه البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى المبصر الضعيف الضوء أضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر القوي الضوء.
وكذلك أيضاً المبصر العظيم الحجم قد يدرك البصر حقيقته من بعد أعظم من غاية البعد الذي يدرك منه حقيقة المبصر الصغير الحجم. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى المبصر الصغير الحجم أضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر العظيم الحجم.
وكذلك أيضاً المبصر الكثيف الذي ليس فيه شيء من الشفيف والمبصر الذي فيه شفيف يسير أيضاً قد يدرك البصر حقيقته من أعظم من غاية البعد الذي يدرك منه البصر حقيقة المبصر الشديد الشفيف الذي فيه يسير من الكثافة. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى المبصر المشف الذي فيه يسير من الكثافة أضيق من عرض البعد بالقياس إلى المبصر الكثيف والمبصر المشف اليسير الشفيف.
وكذلك أيضاً إذا كان المبصر في هواء نقي متناهي الشفيف متصل الشفيف، فإن البصر قد يدرك حقيقة ذلك المبصر من بعد أعظم من غاية البعد الذي يدرك منه حقيقة ذلك المبصر إذا كان في هواء غليظ أو في هواء فيه بعض الكدر أو بعض العوائق. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى الهواء الغليظ والمعوق أضيق من عرض البعد بالقياس إلى الهواء النقي الصافي الشفيف.
وأيضاً فإن المبصر إذا كان قريباً من البصر فإن البصر يدرك حقيقته في زمان أقصر من الزمان الذي يدرك فيه حقيقة ذلك المبصر إذا كان بعيداً عن البصر. وإذا اعتبرت هذه الحال من المبصرات وجدت كذلك دائماً، وخاصة إذا كان في المبصر معان لطيفة. وإذا كان ذلك كذلك دائماً وخاصة إذا كان في المبصر معان لطيفة، فإن الزمان الذي يدرك فيه المبصر إذا اتفق أن يكون محصوراً، فإن عرض البعد الذي يصح أن يدرك فيه البصر حقيقة المبصر يكون بحسب ذلك الزمان. وذلك أن البصر إذا لحظ المبصر ثم انصرف عنه في الحال، أو كان البصر متحركاً وأدرك في حال حركته مبصراً من المبصرات ثم خفي عنه ذلك المبصر في الحال من أجل الحركة، أو كان المبصر متحركاً وأدركه البصر في حال حركته ثم خفي عنه من أجل الحركة، ولم يثبت في مقابلة البصر، وكان الزمان الذي أدركه فيه يسيراً، فإن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان قريباً من البصر فقد يدرك البصر حقيقته، وإن كان الزمان الذي يدركه فيه يسيراً. وإذا كان بعيداً عن البصر فليس يدرك البصر حقيقته في أقل القليل من الزمان الذي يدرك فيه البصر حقيقة ذلك المبصر إذا كان قريباً من البصر. فإذا كان الزمان الذي يتمكن فيه البصر من تأمل المبصر محصوراً، وكان يسيراً، فإن عرض البعد الذي يصح أن يدرك فيه البصر حقيقة ذلك المبصر في ذلك القدر من الزمان يكون أضيق من عرض البعد الذي يدرك فيه البصر حقيقة ذلك المبصر في زمان أوسع من ذلك الزمان. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى الزمان اليسير الذي يدرك فيه البصر المبصر ويتمكن من تأمله يكون أضيق من عرض البعد بالقياس إلى الزمان المتنفس الذي يدرك فيه المبصر ويتأمله تأملاً صحيحاً إذا كان الزمان محصوراً.

وكذلك أيضاً إذا كان البصر صحيحاً قوياً ليس به شيء من الآفات ولا شيء من العوارض، فإنه يدرك حقيقة المبصر من بعد أعظم من غاية البعد الذي يدرك منه البصر الضعيف والمأوف والمعوق حقيقة ذلك المبصر. فعرض البعد الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بالقياس إلى البصر المأوف والمعوق يكون أضيق من عرض البعد بالقياس إلى البصر الصحيح.
فقد تبين مما شرحناه أن عرض الاعتدال في البعد يكون بحسب المعاني التي في المبصر التي بينا تفصيلها.
وكذلك أيضاً عرض الاعتدال في الوضع يكون بحسب لون المبصر، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر إن كانت فيه معان لطيفة، وبحسب بعده، وبحسب الضوء الذي يكون فيه، وبحسب حجمه، وبحسب كثافته، وبحسب الهواء ، وبحسب الزمان إذا كان الزمان محصوراً، وبحسب صحة البصر وقوته.
ويكون عرض الاعتدال في الضوء الذي في المبصر بحسب لون المبصر، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون فيه، وبحسب بعده، وبحسب وضعه، وبحسب حجمه، وبحسب كثافته، وبحسب الهواء، وبحسب الزمان الذي يتأمل في البصر المبصر إذا كان الزمان محصوراً، وبحسب صحة البصر وقوته.
ويكون عرض الاعتدال في الحجم بحسب لون المبصر، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون فيه، وبحسب بعده، وبحسب وضعه، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون فيه، وبحسب بعده، وبحسب وضعه، وبحسب ضوئه، وبحسب كثافته، وبحسب الهواء، وبحسب الزمان، وبحسب صحة البصر وقوته.
فأما عرض الاعتدال في الكثافة فإنه يكون في الأجسام المشفة التي فيها بعض الكثافة، فيكون عرض الاعتدال في الكثافة التي في الجسم المشف بحسب لون المبصر، وبحسب اللون الذي يظهر من وراء ذلك المبصر، أو الضوء الذي يظهر من ورائه، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون في ذلك المبصر، وبحسب بعد ذلك المبصر، وبحسب وضعه، وبحسب ضوئه، وبحسب حجمه، وبحسب الهواء، وبحسب الزمان الذي يتمكن فيه البصر من تأمل المبصر، وبحسب البصر وقوته.
ويكون عرض الاعتدال في شفيف الهواء بحسب لون المبصر، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر، وبحسب بعده، وبحسب وضعه، وبحسب ضوئه، وبحسب حجمه، وبحسب كثافته، وبحسب الزمان، وبحسب صحة البصر وقوته.
ويكون عرض الاعتدال في الزمان الذي فيه يدرك البصر حقيقة المبصر بحسب لون المبصر أيضاً، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون فيه، وبحسب بعده، وبحسب وضعه، وبحسب ضوئه، وبحسب حجمه، وبحسب كثافته، وبحسب الهواء، وبحسب صحة البصر.
ويكون عر الاعتدال في صحة البصر وسلامته من الآفات والعوائق بحسب لون المبصر، وبحسب المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر، وبحسب بعده، وبحسب وضعه، وبحسب ضوئه، وبحسب حجمه، وبحسب كثافته، وبحسب الهواء، وبحسب الزمان.
وإذا فصل كل واحد من المعاني على مثل ما فصلت في البعد، تبين أن عرض الاعتدال في كل واحد منها يكون بحسب كل واحد من المعاني المذكورة في ذلك المعنى. فقد تبين من جميع ما شرحناه وفصلناه أن لكل واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه، بالقياس إلى كل واحد من المبصرات، عرضاً ما في تضاعيفه يدرك البصر ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً ويدرك صورته على ما هي عليه، وإذا تجاوز ذلك العرض بالإفراط فإن البصر إما أن لا يدرك ذلك المبصر وإما أن يدركه على خلاف ما هو عليه، وأن عرض كل واحد من المعاني بالقياس إلى مبصر من المبصرات يكون بحسب المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي تبين تفصيلها. فإذا كان كل واحد من المعاني، التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه، في عرض الاعتدال بالقياس إلى مبصر من المبصرات فإن البصر يدرك ذلك المبصر على ما هو عليه.

وإذا كان ذلك كذلك فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات على خلاف ما هو عليه، فإن المعاني التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه ليس كل واحد منها في عرض الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر، بل قد خرجت أو بعضها أو واحد منها عن عرض الاعتدال. فيلزم من هذه الحال أن يكون البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات على خلاف ما هو عليه إلا إذا كان واحد من هذه المعاني أو أكثر من واحد منها خارجاً عن عرض الاعتدال، لأن هذه المعاني إذا كان جميعها في عرض الاعتدال بالقياس إلى المبصر فإن البصر يدرك ذلك المبصر على ما هو عليه. وأيضاً فإنه إذا كان ليس يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر، فإنه إذا خرج واحد من هذه المعاني عن عرض الاعتدال، أو أكثر من واحد منها، فإن البصر ليس يدرك ذلك المبصر على ما هو عليه بل يدركه على خلاف ما هو عليه. وإذا كان متى خرج واحد من هذه المعاني عن عرض الاعتدال فإن البصر يدرك المبصر على خلاف ما هو عليه، ومتى كان جميع هذه المعاني في عرض الاعتدال فإن البصر يدرك المبصر على ما هو عليه، فإن العلة التي من أجلها يدرك البصر المبصر على خلاف ما هو عليه إنما هي خروج واحد من هذه المعاني عن عرض الاعتدال فإن البصر يدرك المبصر على ما هو عليه، فإن العلة التي من أجلها يدرك البصر المبصر على خلاف ما هو عليه إنما هي خروج واحد من هذه المعاني عن عرض الاعتدال أو أكثر من واحد منها. وغلط البصر إنما هو إدراك المبصر على خلاف ما هو عليه. وإذا كان غلط البصر إنما هو إدراك المبصر على خلاف ما هو عليه، وكان البصر ليس يدرك المبصر على خلاف ما هو عليه إلا من أجل خروج واحد من هذه المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه عن عرض الاعتدال أو أكثر من واحد منها، فالعلة إذن التي من اجلها يعرض للبصر الغلط هو خروج واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه عن عرض الاعتدال أو أكثر من واحد منها. فعلل جميع أغلاط البصر إنما هي خروج المعاني التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه عن عرض الاعتدال التي هي المعاني التي بينا تفصيلها. وهذا هو الذي قصدنا لتبيينه في هذا الفصل.

الفصل الرابع
تمييز أغلاط البصر
قد تبين في المقالة الثانية أن إدراك البصر للمبصرات يكون على ثلثة أوجه: يكون بمجرد الحس ويكون بالمعرفة ويكون بالقياس والتمييز في حال إدراك المبصر. وإذا كان ذلك كذلك فالمعنى الذي يدركه البصر بمجرد الحس إذا عرض في إدراكه الغلط غلطاً في نفس الإحساس. والمعنى الذي يدركه البصر بالمعرفة إذا عرض في إدراكه الغلط فإنما يكون ذلك الغلط في المعرفة. والمعنى الذي يدرك بالقياس والتمييز في حال الإبصار إذا عرض في إدراكه الغلط فإنما يكون ذلك الغلط غلطاً في القياس والتمييز أو في المقدمات التي بها وقع القياس والتمييز. وقد تبين أيضاً في المقالة الثانية أن الذي يدركه البصر بمجرد الحس هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون فقط.

فأما المعاني التي يدركها البصر بالمعرفة والصور التي يدركها البصر بالمعرفة فهي جميع المبصرات المألوفة التي قد تكرر إدراك البصر لها ولأنواعها وألفها البصر لكثرة إدراكها. فمنها ما أصل إدراك البصر لها بمجرد الحس، ثم لكثرة تكررها على البصر صار البصر يعرفها في حال إدراكه لها، كأنواع الأضواء وأنواع الألوان، فإن البصر يعرف ضوء الشمس لكثرة تكرره عليه، ويفرق بينه وبين ضوء القمر وبين ضوء النار، وأصل إدراكه لضوء الشمس ولكل واحد من الأضواء إنما هو بمجرد الحس. ويعرف أيضاً كل واحد من الألوان المألوفة ويفرق بينها بالمعرفة لكثرة تكرر الألوان المألوفة على البصر، وأصل إدراكه لكل لون من الألوان إنما هو بمجرد الحس، كما تبين في المقالة الثانية، لأن أصل إدراكه بما هو لون. ومنها ما أصل إدراك البصر لها بالقياس والتمييز ثم لكثرة تكررها على البصر صار البصر يدركها ويعرفها في حال إدراكه لها من غير استئناف قياس وتمييز بل بالأمارات فقط. وهذه هي جميع الصور المركبة التي قد ألفها البصر وكثر إدراكه لها، كصور الحيوانات المألوفة والثمار والنبات والآلات والجمادات وسائر المبصرات المألوفات، وجميع المعاني الجزئية أيضاً التي تدرك بقياس وتمييز وتكرر في المبصرات كالأشكال المألوفة التي هي الاستدارة والاستقامة والتثليث والتربيع، وكالملاسة والخشونة، وكظل مخصوص وظلمة مخصوصة وكحسن مخصوص وقبح مخصوص، وما يجري مجرى ذلك من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر، وجميع المعاني الكلية التي توجد في أشخاص كل نوع من أنواع المبصرات كشكل الإنسان وشكل الفرس وهيئة الشجرة وهيئة النخلة وما يجري مجرى ذلك من المعاني الكلية التي توجد في كل نوع من أنواع المبصرات. فإنه قد تبين أن إدراك البصر لهذه المعاني يكون في مبدأ النشوء بالقياس والتمييز، ثم إذا استقرت صورها في النفس صار إدراك البصر لها بالمعرفة من غير استئناف قياس وتمييز في حال الإحساس. وكذلك الصور المركبة التي يكثر تكررها على البصر إنما يدركها البصر في أول وؤيتها بالتمييز والقياس، ثم إذا تكرر إدراكها وألفها البصر صار إدراكه لها بالمعرفة من غير استئناف قياس في حال الإحساس بل بالأمارات فقط.
فأما المعاني التي يدركها البصر بالقياس والتمييز في حال الإحساس فهي جميع الصور المركبة التي لم تتكرر على البصر ولم يكثر إدراك البصر لها وجميع المعاني الجزئية التي في الأشخاص الجزئية التي قد تبين أنها تدرك بالتمييز والقياس.
فجميع ما يدركه البصر من المبصرات ينقسم إلى هذه الأقسام الثلثة، فجميع أغلاط البصر ينقسم إلى هذه الثلثة الأقسام، فأنواع أغلاط البصر إذن ثلثة: غلط في مجرد الإحساس وغلط في المعرفة وغلط في التمييز والقياس.
والمثال في الغلط الذي يعرض في مجرد الإحساس فكإدراك البصر لمبصر ذي ألوان مختلفة وتكون ألواناً قوية كالكحلي والخمري والفرفيري وما جرى مجراها إذا كان في موضع مغدر شديد الغدرة. فإن الجسم المتلون بهذه الألوان إذا كان في موضع مغدر شديد الغدرة، وليس فيه إلا ضوء يسير، فإن البصر يدرك المبصر الذي بهذه الصفة ذا لون واحد مظلم، ولا يتحقق حقيقة ألوانه. فإن لكم يكن تقدم علم الناظر بذلك المبصر فإنه يظنه ذا لون واحد أسود أو مظلم وإن كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال ما سوى الضوء. فيكون البصر قد غلط في إدراكه للون ذلك المبصر. فإن أدركه ذا لون واحد وهو ذو ألوان كثيرة، واللون بما هو لون إنما يدرك بمجرد الحس، فيكون هذا الغلط غلطاً بمجرد الإحساس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في ذلك المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان. لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا خرج من الموضع المغدر الذي هو فيه إلى ضوء معتدل، وكانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال، فإن البصر يدرك ألوان ذلك المبصر مختلفة ويدرك كل واحد منها على ما هو عليه.

فأما المثال في الغلط الذي يعرض في المعرفة فكإدراك البصر لشخص إنسان من بعد بعيد ويكون ذلك الإنسان يشبه زيداً، وبالمثال، الذي يعرفه ذلك الناظر وقد ألفه. فإذا رأى الناظر ذلك الشخص من البعد ربما ظنه زيداً وليس هو زيداً، وإن كانت المعاني الباقية التي في ذلك الشخص التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال ما سوى البعد. فيكون البصر قد غلط في إدراك ذلك الشخص، ويكون غلطه غلطاً في المعرفة، ويكون علة هذا الغلط هو خروج بعد ذلك الشخص عن عروض الاعتدال.لأن الشخص إذا كان على مسافة قريبة من البصر، فليس يشتبه على الناظر صورته بصورة من قد عرفه وألفه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الشخص التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
فأما المثال في الغلط الذي يعرض في القياس والتمييز في حال إدراك المبصر فكإدراك البصر لحركة القمر إذا كان في وجه القمر سحاب رقيق متقطع أو مختلف الصورة وكان السحاب متحركاً حركة سريعة. فإن البصر يرى القمر كأنه يتحرك حركة سريعة، وإذا أدرك القمر يتحرك حركة سريعة فهو غالط فيما يدركه من حركته، والغلط في الحركة هو غلط في القياس لأن الحركة ليس تدرك إلا بالقياس في حال الإحساس، وعلة هذا الغلط هو خروج بعد القمر عن عرض الاعتدال بالتفاوت المسرف. لأن المبصرات التي على وجه الأرض القريبة من البصر إذا تحرك في وجهها جسم مشف، فليس ترى متحركة إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. وقد يوجد ذلك في الأجسام التي على وجه الأرض، وهي الأجسام التي تكون في الماء إذا كان الماء جارياً وكان مع ذلك صافياً. فإن البصر إذا تأمل المبصر الذي في الماء الصافي، وكان الماء جارياً، فليس يدرك ذلك المبصر متحركاً وهو يدرك القمر من وراء السحاب متحركاً.
والقياس الذي من أجله يعرض هذا الغلط هو قياس القمر إلى أجزاء السحاب. فإن السحاب إذا كان متحركاً فإن أجزاءه المسامتة للقمر تتبدل وأطراف القطع المتقطعة من السحاب يبعد بعضها عن القمر وهو ما تجاوز القمر منها ويقرب بعضها من القمر وهو المتحرك منها إلى جهة القمر. فإذا كان البصر ناظراً إلى القمر وهو من وراء السحاب وكان السحاب متحركاً حركة سريعة وكانت أجزاؤه مختلفة الصورة، فإنه يرى القمر في الحال يسامت من السحاب جزءاً بعد جزء. وإذا كان السحاب متشابه الأجزاء، فإنه إذا قاس البصر القمر بطرف قطعة بعد قطعة من السحاب المتقطع أدركه يقرب من طرف كل واحدة من تلك القطع ويبعد من طرف القطعة الأخرى، ويخرج من قطعة من السحاب ويدخل في قطعة غيرها، فيظنه من أجل اختلاف وضعه بالقياس إلى قطع السحاب وإلى أجزاء السحاب أنه متحرك. لأن البصر كذلك يدرك الأجسام المتحركة التي على وجه الأرض التي يدركها دائماً، فإنه يرى الجسم المتحرك على وجه الأرض يسامت من سطح الأرض جزءاً بعد جزء، ويبعد من جزء ويقرب من آخر، فإدراك البصر للقمر من وراء السحاب السريع الحركة متحركاً إنما هو من قياسه جزءاً من القمر إلى أجزاء السحاب التي تتبدل عليه. وظنه أن ذلك التبدل هو من أجل حركة القمر لا من أجل حركة السحاب إنما هو من أجل أن السحاب إذا كان يغشى السماء أو قطعة من السماء فليس يظهر ببديهة الحس أنه متحرك، بل إذا لحظ البصر السحاب وهو مغشي للسماء أو لقطعة من السماء فإنه يظنه في الحال ساكناً. وإنما يدرك البصر حركة السحاب إذا تأمل أطرافه أو جزءاً من أجزائه وقاسه بمبصر من المبصرات الثابتة على وجه الأرض أو بالبصر نفسه وتأمله زماناً، فإذا وجده بعد زمان محسوس قد تغير وضعه أدرك حركته، فأما في ملاحظة السحاب فليس تظهر حركته بل يظنه ساكناً. وإذا ظهر السحاب ساكناً ووجد القمر يسامت جزءاً منه بعد جزء حكم للقمر بالحركة. وهذا الغلط إنما هو من أجل تفاوت البعد، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت قريبة من البصر فليس يعرض فيها الغلط.
فعلى هذه الأمثلة تكون أغلاط البصر على هذه الوجوه الثلثة. فأنواع جميع أغلاط البصر تنقسم إلى هذه الأنواع الثلثة.

الفصل الخامس
كيفيات أغلاط البصر التي تكون بمجرد الحس
بحسب كل واحد من العلل التي من أجلها يعرض الغلط

قد تقدم أن الذي يدركه البصر بمجرد الحس إنما هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون فقط. وإذا كان البصر ليس يدرك بمجرد الحس إلا هذين المعنيين فقط. والغلط في الضوء بما هو ضوء فليس يكون إلا في اختلاف كيفية الضوء في القوة والضعف فقط لأنه ليس يدرك البصر من الضوء بما هو ضوء إلا من إضاءة فقط. وأما اللون بما هو لون فقد تبين في المقالة الثانية أن البصر إنما يدرك منه تلوناً فقط يجري مجرى الظلمة أو مجرى الظل. والغلط في الظلمة وفيما يجري مجرى الظلمة وفي الظل وفيما يجري مجرى الظل ليس يكون إلا في اختلاف كيفيتها في القوة والضعف فقط.
وإذا كان ذلك كذلك فالغلط في اللون بما هو لون، إذا كان المبصر ذا لون واحد، ليس يكون إلا في القوة والضعف فقط. فإذا كان المبصر ذا ألوان مختلفة وكانت جميعها قوية ومتقاربة الشبه، أو كانت جميعها رقيقة ومتقاربة الشبه، فقد يدرك البصر جميعها لوناً واحداً، لأنه يدرك من جميعها إذا كانت قوية ظلمة فقط، وإذا كانت متقاربة الشبه في القوة فإنه يدرك من جميعها ظلمة متشابهة فيظنها لوناً واحداً، وإذا كانت جميعها رقيقة أدرك البصر من جميعها ظلاً فقط، وإذا كانت مع رقتها متقاربة الشبه في الرقة فإنه يدرك من جميعها ظلاً متشابهاً فيظنها لوناً واحداً.
وإذا كان المبصر مختلف الألوان وكان بعضها قوياً وبعضها رقيقاً، أدرك البصر ألوانه بمنزلة الظل والظلمة المتجاورين فيدركه البصر ذا لونين وإن كان كثير الألوان. فقد يقع الغلط بمجرد الحس في اختلاف ألوان المبصر المختلف الألوان أيضاً وتشابهها. وقد يعرض أيضاً أن يدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد إذا كانت أجزاؤه المختلفة الألوان أو بعضها صغاراً في غاية الصغر، فلا يدرك البصر كل واحد منها على انفراده لصغرها، وإذا لم يدرك كل واحد من الأجزاء الصغار على انفراده لم تتميز له ألوانها، وإذا لم تتميز له ألوانها فهو يدرك جملة المبصر ذا لون واحد إذا كانت أجزاؤه المخالفة اللون للون جملته في غاية الصغر. وإن كانت أجزاؤه المخالفة اللون للون جملته بعضها صغاراً وبعضها كباراً أدرك جملة المبصر مختلفة الألوان بالاختلاف الذي في الجزاء الكبار ولم يدرك الألوان التي في الأجزاء الصغار. فقد يعرض الغلط بمجرد الحس في اختلاف الألوان من أجل صغر الأجزاء أيضاً. وليس يوجد الغلط بمجرد الحس فيما سوى هذه المعاني.
فليس يعرض للبصر الغلط بمجرد الحس إلا في الضوء بما هو ضوء وفي اللون بما هو لون. وليس يعرض الغلط في الضوء بما هو ضوء إلا في اختلاف كيفية الضوء في القوة والضعف فقط، وليس يعرض الغلط في اللون بما هو لون إلا في اختلاف كيفيته في القوة والضعف. وإذا كان المبصر ذا ألوان مختلفة فربما عرض الغلط في اختلاف ألوانه وفي عددها. فأما غلط البصر في مائية اللون فإنما هو غلط في المعرفة، لأن مائية اللون إنما تدرك بالمعرفة كما تبين في المقالة الثانية، وكذلك مائية الضوء. فغلط البصر في مجرد الحس إنما يكون على الصفات التي بيناها.
فأما كيف يكون الغلط في مجرد الحس بحسب كل واحد من العلل التي فصلناها فإنه يكون كما نصف: أما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يكون مقتدر الحجم ويكون ذا ألوان مختلفة ويكون كل واحد من أجزائه المتلون بلون من تلك الألوان صغير الحجم ويكون على بعد متفاوت، فإن المبصر الذي بهذه الصفة يدركه البصر ذا لون واحد مشتبه. وإذا اعتبر المعتبر مبصراً من المبصرات مختلف الألوان من بعد متفاوت فإنه يجده على ما وصفناه.

والعلة في ذلك أن البعد المتفاوت الخارج عن عرض الاعتدال بالقياس إلى جملة المبصر قد يخفى منه كل واحد من أجزائه الصغار على انفراده. فالمبصر المختلف الألوان إذا كان على بعد متفاوت بالقياس إلى جملة المبصر، وكان كل واحد من أجزائه المختلفة الألوان يخفى مقداره ويخفى كل مبصر يكون على مقداره من البعد لصغر حجمه بالقياس إلى ذلك العد، وكان مقدار جملة المبصر لا يخفى من ذلك البعد لاقتدار جملة حجمه بالقياس إلى ذلك البعد، فإن البصر يدرك جملة المبصر من ذلك البعد المتفاوت الذي يخفى منه كل واحد من أجزائه على انفرادها، وإن لم يظهر منه حقيقة صورته على تفصيلها، ولم يظهر كل واحد من أجزائه على انفرادها إذا لم يكن البعد في غاية التفاوت الذي يخفى منه جملة المبصر. وإذا أدرك البصر جملة المبصر فهو يدركه ذا لون على تصاريف الأحوال، وإذا لم يدرك كل واحد من أجزائه على انفراده لم يتميز له اختلاف ألوان الأجزاء، وإذا أدرك جملة المبصر ذا لون ولم يتميز له اختلاف الألوان التي فيه يدركه ذا لون واحد مشتبه.
فالمبصر إذا كان ذا ألوان مختلفة، وكان كل واحد من أجزائه المختلفة الألوان صغير الحجم، وكان المبصر عن البصر بعداً متفاوتاً يخفى منه كل واحد من الأجزاء على انفرادها وتخفى منه حقيقة صورة ذلك المبصر ولا تخفى منه جملة المبصر، فإن البصر يدرك ذلك المبصر ذا لون واحد وهو ذو ألوان مختلفة فيكون غالطاً فيما يدركه من لونه. واللون يدرك بمجرد الحس، فيكون هذا الغلط غلطاً في مجرد الحس، ويكون علة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان على بعد معتدل يصح أن يدرك منه البصر كل واحد من أجزائه المختلفة الألوان على انفراده، فإن البصر الناظر إليه يدرك كل واحد من أجزائه على انفرادها ويدرك ألوانها على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي فيه ألوان مختلفة وتكون ألوانها قوية كالكحلي والخمري والمسني وما يجري مجراها ولا يكون فيما بينها شيء من الألوان المسفرة بل تكون جميعها قوية مشبعة ومتقاربة الشبه، ويكون ذلك المبصر مائلاً عن مقابلة وسط البصر ميلاً متفاوتاً وبعيداً عن سهم الشعاع، ويكون البصر محدق إليه، ويكون البصران أو البصر الواحد مع ذلك يدرك المبصر المختلف الألوان مع ميله عن وسط البصر وبعده عن سهم الشعاع، فإن البصر يدرك المبصر المختلف الألوان إذا كان على هذا الوضع ذا لون واحد. وإنما ذلك كذلك لما تبين في الفصل الأول من هذه المقالة، وهو أن المبصر إذا كان مائلاً عن سهم الشعاع ميلاً متفاوتاً فإن صورته نكون مشتبهة غير محققة ولا تتميز له أجزاؤه. ومتى اعتبر المعتبر المبصر المختلف الألوان الذي ألوانه على الصفة التي ذكرناها في الفصل الأول وجعل وضعه خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه بعداً متفاوتاً وجده على الصفة التي ذكرناها أعني أنه يجد ذلك المبصر ذا لون واحد مشتبه. وإذا أدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد، فهو غالط فيما يدركه من لونه، واللون يدرك بمجرد الحس، فيكون هذا الغلط غلطاً في مجرد الحس، ويكون علة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر المختلف الألوان الذي على الصفة التي حددناها إذا تحرك البصر حتى يصير سهم الشعاع عليه ويمر بكل نقطة منه، فإن البصر يدرك اختلاف ألوانه ويدرك كل واحد من ألوانه على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر المختلف الألوان أيضاً الذي ألوانه قوية ومتقاربة الشبه إذا أدركه البصر في ضوء نار ضعيفة. فإن البصر يدرك المبصر الذي بهذه الصفة ذا لون واحد مظلم، لأن الألوان القوية إذا كانت في ضوء ضعيف فإنها تظهر مظلمة، وكل واحد من الألوان التي في المبصر المختلف الألوان الذي وصفناه يظهر مظلماً، فيظهر جميع المبصر مظلماً، فيظن الناظر أن ذلك المبصر ذو لون واحد مظلم إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بألوانه. وإذا أدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد فهو غالط فيما يدركه من لونه، فيكون هذا الغلط غلطاً في مجرد الحس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان في ضوء قوي أدرك البصر الألوان التي فيه على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الضوء عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الحجم عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يكون فيه مسام ووشوم ونقط مختلفة الألوان ومخالفة للون جملة المبصر، ويكون كل واحد منها في غاية الصغر وبقدر ما لا يدركه البصر لصغره، ويكون اللون الذي يعم جميع المبصر لوناً واحداً. فإن المبصر الذي بهذه الصفة يدرك البصر منه اللون الذي يعم جميعه، ولا يدرك المسام والوشوم التي تكون فيه ولا يدرك ألوانها إذا كانت في غاية الصغر وبقدر ما لا يصح أن يدركها البصر. فيدرك البصر المبصر الذي بهذه الصفة ذا لون واحد، وهو اللون الذي يعم جميعه، والمبصر مع ذلك ذو ألوان مختلفة. فيكون البصر غالطاً فيما يدركه من لون ذلك المبصر ويكون غلطه في مجرد الحس، ويكون علة غلطه هو خروج حجم كل واحد من الأجزاء المختلفة الألوان عن عرض الاعتدال، لأن تلك النقط وتلك المسام إذا كانت مقاديرها أعظم مما هي عليه فإن البصر يدركها ويدرك ألوانها ويتحقق جميع الأوان التي تكون في المبصر الذي تلك أجزاؤه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الحجم عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يكون في غاية الشفيف وليس فيه من الكثافة إلا قدر يسير كالبلور الصافي النقي وكالزجاج الأبيض النقي البياض الرقيق الحجم إذا كان وراء الجسم منها وملتصقاً به جسم ذو ألوان مختلفة قوية، وكان البصر يدرك ذلك المبصر ويدرك الألوان التي تكون من ورائه، وكان مع ذلك لا يعلم أن الألوان التي يدركها هي ألوان من وراء ذلك الجسم، ولم تكن هناك أمارة يتنبه بها البصر على أن الألوان التي يدركها هي ألوان جسم آخر من وراء ذلك الجسم. فإن المبصر المشف النقي البياض الذي بهذه الصفة يدركه البصر متلوناً بالألوان التي تظهر من ورائه، ولا يحس بياضه ونقاء لونه ولا يعلم أنه ذو لون واحد. فإذا أدرك البصر المبصر المشف الأبيض ذا ألوان مختلفة فهو غلط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج كثافة المبصر المشف عن عرض الاعتدال. لأن المبصر إذا كانت كثافته قوية وكان شفيفه يسيراً فإن البصر يدركه ويدرك لونه، وإن كان وراءه جسم آخر متلون بألوان أقوى من لونه، ولا يخفى لونه مع الشفيف اليسير الذي يكون فيه، فلا يدركه البصر ذا ألوان مختلفة إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر في الدخان القوي. فإن البصر إذا أدرك المبصر في الدخان فإنه يدرك لونه ممتزجاً بلون الدخان، فإذا كان مسفر اللون أدركه البصر مظلم اللون، وخاصة إذا كان البصر خارجاً من الدخان. وإذا أدرك لون المبصر مظلماً والمبصر مسفر اللون فهو غلط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. لأن الهواء إذا كان نقياً صافي الشفيف أدرك البصر ألوان المبصرات التي تكون فيه على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي يتم بها إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال فكالمبصر المختلف الألوان الذي يكون في موضع مغدر وليس بشديد الغدرة وتكون ألوانه قوية ومتقاربة الشبه. فإن البصر إذا لمح المبصر الذي بهذه الصفة في الموضع المغدر لمحة خفيفة ثم التفت عنه في الحال، فإنه يظنه ذا لون واحد ولا يحس باختلاف ألوانه في حال ملاحظته إذا كان الضوء الذي في الموضع يسيراً. وإذا ثبت البصر في مقابلة المبصر الذي بهذه الصفة زماناً متنفساً فإنه قد يدرك اختلاف ألوانه إذا لم يكن الموضع مسرف الغدرة. وإذا أدرك البصر المبصر المختلف الألوان ذا لون واحد فهو غالط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، ويكون علة غلطه هو خروج الزمان الذي فيه يدرك ذلك المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر المختلف الألوان التي بهذه الصفة إذا ثبت البصر في مقابلته زماناً متنفساً فإنه قد يدرك اختلاف ألوانه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر في عرض الاعتدال.
فإما لم ليس يدرك البصر اختلاف ألوان المبصر المختلف الألوان إذا كان في موضع مغدر في حال ملاحظته وفي أقل القليل من الزمان فإن ذلك لأن الضوء الضعيف جداً ليس يؤثر في البصر في حال حصول الصورة في البصر، وليس يؤثر الضوء الضعيف في البصر ويحس البصر بتأثيره إلا في زمان له قدر لضعف قوة الضوء اليسير وضعف تأثيره. وإذا لم يحس البصر بالضوء الضعيف إلا في زمان متنفس فليس يحس باللون الممازج له إلا في زمان متنفس.

فأما غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال فكالبصر الذي ينظر إلى ضوء قوي ويطيل النظر إليه ثم يلتفت فينظر إلى جسم أبيض أو مسفر اللون، ويكون ذلك الجسم في ظل وضوء معتدل، فإن البصر يدرك لون ذلك الجسم مظلماً. لأن البصر إذا أطال النظر إلى الضوء القوي أثر فيه الضوء العشا، فتحصل فيه ظلمة زماناً ثم تنجلي تلك الظلمة، فإذا نظر البصر في حال تأثير الضوء فيه إلى مبصر أبيض أو مسفر اللون فإنه يجده مظلماً. وإذا أدرك البصر المبصر الأبيض المسفر اللون مظلماً فهو غالط في لونه، ويكون غلطه في مجرد الحس، ويكون علة هذا الغلط هو خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال. لأن البصر إذا كان سليماً من الآفات ولم يعرض له عارض يغير صورته فإنه يدرك ألوان المبصرات على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. وكذلك أيضاً إذا عرض للبصر مرض فأظلم البصر فإنه يدرك ألوان المبصرات مظلمة كدرة على خلاف ما هي عليه، ويكون غالطاً في ألوانها، ويكون علة غلطه هو خروج نفسه عن عرض الاعتدال بالمرض العارض له. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في مجرد الحس من أجل خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال.
فقد تبين من جميع ما شرحناه من الأمثلة كيف يكون غلط البصر في مجرد الحس بحسب كل واحد من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط.

الفصل السادس
كيفيات أغلاط البصر التي تكون في المعرفة
بحسب كل واحد من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط
قد تبين في المقالة الثانية إن إدراك مائيات جميع المبصرات إنما يكون بالمعرفة، لأن إدراك مائية المبصر إنما هو من تشبيه صورة المبصر بصورة أمثال ذلك المبصر التي يعرفها البصر. وتشبيه الصورة بما يعرفه البصر من أمثالها هو المعرفة بالنوع. وقد تبين أيضاً أن معرفة الشخص إنما هي من تشبيه صورة الشخص التي يدركها البصر في حال معرفة الشخص بصورته التي أدركها من قبل وهو ذاكر لها. وإذا كان ذلك كذلك فغلط البصر في مائية المبصر إنما هو غلط في المعرفة وهو غلط في نوعية المبصر. وكذلك أيضاً إذا شبه البصر شخصاً من الأشخاص بشخص قد عرفه من قبل وظنه ذلك الشخص بعينه، ولم يكن ذلك الشخص، يكون ذلك غلطاً في المعرفة. والغلط في تشبيه صورة الشخص بصورة شخص آخر بعينه هو غلط في الشخصية. وليس تكون المعرفة إلا بالشخص أو النوع أو بمجموعهما.
ومن عادة البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات أنه في حال ملاحظته يشبه صورته بأمثالها من صور المبصرات التي يعرفها وتكثر مشاهدته لها، ويشبه المعاني التي في المبصر أيضاً بأمثالها من المعاني التي في المبصرات، فيعرف بذلك شخصية ذلك المبصر أو نوعيته أو مجموعهما ويعرف المعاني التي في ذلك المبصر. ومعرفة البصر بجميع ما يعرفه من المبصرات وبجميع ما يعرفه من المعاني المدركة بحاسة البصر إنما هو على هذه الصفة.
وإذا شك البصر في مائية المبصر أو في شيء من المعاني التي يدركها، ولم يعرفه في حال ملاحظته، فإنه يشبهه بأقرب الأشياء شبهاً به مما قد عرفه وألفه. والقوة الحساسة مطبوعة على تشبيه ما تدركه في الحال بما أدركته من قبل، وهذا المعنى موجود في جميع الحواس. ومن تشبيه البصر ما يدركه من المبصرات بما يعرفه من أمثاله، ومما هو مطبوع عليه من هذه الحال، يعرض له الغلط في معرفة المبصر الذي يغلط في معرفته إذا لم يكن إدراكه المبصر على غاية التحقيق. وإذا كان إدراك البصر للمبصر إدراكاً محققاً فليس يعرض له الغلط في معرفة المبصر. وليس يكون إدراك البصر للمبصر إدراكاً غير محقق إلا إذا كان واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه خارجاً عن عرض الاعتدال أو أكثر من واحد منها.

فأما كيف يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال فكالشخص الذي يدركه البصر من بعد متفاوت فيشبهه بشخص يعرفه فيظنه ذلك الشخص بعينه ولا يكون ذلك الشخص، فيكون غالطاً في إدراكه ويكون ذلك الغلط غلطاً في المعرفة. لأنه إذا شبه الشخص بشخص يعرفه وظنه ذلك الذي يعرفه بعينه فإنه يظن أنه قد عرفه، وإذا لم يكن الشخص ذلك الشخص بعينه فإنه يكون غالطاً في معرفته، وتكون علة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لأن ذلك الشخص بعينه إذا كان قريباً من البصر وعلى بعد معتدل فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً ولا تشتبه عليه صورته بصورة غيره إذا كانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
وهذا النوع من الغلط كثير ويعرض للبصر دائماً. لأن البصر إذا رأى إنساناً من بعد فربما شبهه بإنسان يعرفه ولا يكون ذلك الإنسان. وكذلك إذا رأى فرساً أو بغلاً أو حماراً أو شجرة أو ثمرة أو نباتاً أو حجراً أو ثوباً أو آنية من الأواني التي يستعملها الناس أو آلة من الآلات، وكانت رؤيته لذلك من بعد مفرط، فإنه ربما شبهه بنظير له قد أدركه من قبل ذلك الوقت، وهو ذاكر له وعارف به، ولا يكون ذلك بعينه.
وكذلك قد يعرض للبصر الغلط من البعد المتفاوت في نوعية المبصر. فإن البصر إذا رأى فرساً من بعد متفاوت فربما ظنه حماراً، لأنه يراه من البعد المتفاوت أصغر من مقداره الحقيقي، وربما ظنه حماراً بعينه إذا كان قد ألف في ذلك الموضع حماراً بعينه، فيكون غالطاً في نوعية ذلك الفرس وفي شخصيته جميعاً. وربما رأى البصر من البعد حماراً ويظنه رساً، ويظن أن صغره إنما هو لبعده. وربما رأى بغلاً فظنه فرساً. وربما رأى ثوراً فظنه حماراً. وربما رأى عنزاً فظنه كلباً. وكذلك أيضاً ربما رأى من البعد شجراً فظنها نباتاً لأنه يراها من البعد صغاراً. وربما رأى نباتاً فظنه شجراً، ويظن أن صغرها هو لبعدها. وربما رأى ثمرة فشبهها بغيرها من الثمار. وربما رأى نباتاً فشبهه بغيره من النبات. وهذا النوع من الغلط كثير، وجميعه غلط في المعرفة لأن البصر يشبه ما هذه حاله بما قد عرفه ويظنه ذلك الذي يعرفه بعينه أو من نوعه، ولا يكون كذلك. وعلة جميع هذا النوع من الغلط هو البعد المتفاوت الخارج عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك جميع المبصرات من البعد المعتدل فليس تشتبه عليه صورها إذا كانت جميع المعاني الباقية التي فيها التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. وهذه الأغلاط هي الأغلاط المتعارفة التي يغلط البصر فيها دائماً.
وقد يعرض الغلط في المعرفة في معان غريبة أيضاً من أجل خروج البعد عن عرض الاعتدال. فمن ذلك أن البصر إذا رأى في سواد الليل ناراً من بعد نتفاوت، وكانت النار على رأس جبل أو في موضع مرتفع عن الأرض، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بأن في ذلك الموضع ناراً، وكانت الجذوة من النار تظهر من ذلك البعد صغيرة الحجم، فإن الناظر إذا رأى النار التي بهذه الصفة بسواد الليل ربما ظنه كوكباً في السماء، وهي نار في الأرض، فيكون غالطاً في مائيتها. والغلط في مائية المبصر هو غلط في المعرفة، لأن مائيات المبصرات إنما تدرك بالمعرفة. وعلة هذا الغلط إنما هو خروج بعد موضع النار عن عرض الاعتدال، لأن تلك النار بعينها إذا كانت قريبة من البصر أو كان البصر قريباً منها لم يشتبه عليه أنها نار، ولم يظنها قط كوكباً في السماء. فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر بالمعرفة من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر وهو خارج عن سهم الشعاع وبعيد عنه، ويكون البصر محدقاً إلى مبصر آخر، ويكو ن المبصر الآخر مقابلاً لوسط البصر وعلى سهم الشعاع، فإن المبصر المائل عن سهم الشعاع الذي يدركه البصر على هذه الصفة ليس يدركه إدراكاً صحيحاً. وإذا لم يدركه إدراكاً صحيحاً فقد يعرض له الغلط في مائيته. وإذا كان ذلك المبصر إنساناً فربما شبهه في الحال بإنسان يعرفه ويظنه ذلك الإنسان بعينه، ولا يكون ذلك الإنسان. وكذلك إذا رأى فرساً فربما شبهه بفرس بعينه يعرفه، ولا يكون ذلك الفرس. وكذلك ربما رأى على هذه الصفة فرساً فظنه حماراً أو رأى حماراً فظنه فرساً إذا كان بعده عن سهم الشعاع بعداً متفاوتاً. وكذلك ربما رأى شجرة أو ثمرة أو نباتاً أو ثوباً أو آنية فشبه ذلك بما يشبهه في بعض المعاني التي فيه، فربما أصاب وربما أخطأ، لأن المبصر إذا كان خارجاً عن سهم الشعاع خروجاً متفاوتاً فليس يكون بيناً، وإذا لم يكن بيناً فليس يتحقق البصر صورته، وإذا لم يتحقق البصر صورته وشبهه مع ذلك بما يشبهه في بعض المعاني التي يدركها منه فربما عرض له الغلط في تشبيهه.
وغلط البصر على هذا الوجه هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن وضع الاعتدال، لأن المبصر الذي يغلط البصر في معرفته على هذه الصفة إذا كان على سهم الشعاع ومقابلاً لوسط البصر، وكانت المعاني الباقية التي فيه بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال، فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً ولا تشتبه عليه صورته.
وكذلك إذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وكان المبصر على سهم الشعاع أو خارجاً عنه وكان السهم وخطوط الشعاع التي تنتهي إليه مائلة على سطح ذلك المبصر ميلاً متفاوتاً، وكان في ذلك المبصر نقوش دقيقة أو معان لطيفة، فإن البصر لا يدرك تلك النقوش ولا تلك المعاني اللطيفة ويدرك المبصر ساذجاً. لآن المبصر إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً فإن صورته تكون مشتبهة غير بينة كما تبين في الفصل المتقدم من هذه المقالة. وإذا لم تكن الصورة بينة لم تظهر المعاني اللطيفة التي تكون فيها، وقد تبين كيف يظهر هذا المعنى بالاعتبار. فإذا أدرك البصر المبصر ساذجاً فإنه يشبهه بأمثاله من المبصرات السواذج التي لا نقوش فيها ولا معاني لطيفة، التي تشبه ذلك المبصر في لونه أو شكله أو هيئته أو عظمه أو مجموع ذلك، فيكون غالطاً في إدراكه ويكون غلطه في المعرفة، لأنه يشبهه بما يعرفه من المبصرات ويظن أنه قد عرفه. وهذا الغلط هو غلط في نوعية المبصر. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان مواجهاً للبصر وكانت جميع المعاني الباقية التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال، فإن البصر يدرك المعاني اللطيفة التي تكون في ذلك المبصر ويدرك صورة ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً ولا يعرض له الغلط في معرفته. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال فكالشخص الذي يدركه البصر في الغلس أو في موضع مغدر ولا يتحقق صورته. فإن كان إنساناً وكان الناظر قد ألف في ذلك الموضع إنساناً بعينه فربما ظن بذلك الشخص الذي رآه في ذلك الموضع انه ذلك الإنسان بعينه الذي يعرفه في ذلك الموضع ولا يكون ذلك الإنسان. وربما شبه الشخص من صورته نفسها من إنسان يعرفه، ولا يكون ذلك الإنسان، إذا لم يتحقق صورته في الحال من أجل ضعف الضوء. وكذلك إذا رأى في موضع مغدر حيواناً غير الإنسان كفرس أو حمار أو غير ذلك من الحيوانات المألوفة فربما شبهه بنظير له قد كان يعهده في ذلك الموضع ولا يكون ذلك الذي شبهه به. وربما شبهه من نفس صورته بغيره ولا يكون ذلك الغير الذي شبهه به. وربما شبه الحيوان الذي يدركه في الموضع المغدر بغيره من الحيوانات التي ليست من نوعه قريباً من نوعه. وهذا النوع من الغلط يعرض للبصر كثيراً إذا رأى المبصر في الغلس أو في سواد الليل ولم يكن في الموضع ضوء قوي. وهذا الغلط هو غلط في المعرفة، لأن البصر إذا أدرك المبصر على هذه الصفة وشبهه بنظير له من الأشخاص التي يعرفها إما بالشخص وإما بالنوع وظنه ذلك الذي يعرفه فإنه يكون غلطه في شخصية المبصر أو في نوعيته الذي هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن الشخص الذي يدركه البصر في الموضع المغدر ولا يتحقق صورته إذا أدركه في ضوء قوي لم يعرض له الغلط في معرفته، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
وأيضاً فإن الحيوان الذي يسمى اليراع الذي يطير في الليل فيظهر في سواد الليل كأنه نار تخطف إذا أدركه البصر في ضوء النهار لم ير فيه شيئاً من النار التي تظهر في الليل. وكذلك الأصداف والأغشية التي تكون لبعض الحيوانات البحرية التي تظهر في الظلام كأنها نار إذا أدركها البصر في ضوء النهار وأدرك تلك الأصداف وتلك الأغشية لم ير فيها شيئاً من النارية. وهذا الفراش يشبه الفراش الذي يطير في الليل حول السراج. فإذا أدرك البصر الفراش الذي بهذه الصفة فإنه ربما شبهه بالفراش الذي يطير حول السراج وليس هو ذلك الفراش. وكذلك الأصداف إذا أدركها في ضوء النهار فإنه يشبهها بالأصداف التي تشبهها التي ليست بنيرة.
وإذا أدرك البصر الجسم النير غير نير وشبهه بغيره من المبصرات الغير نيرة فهو غالط في مائيته. والغلط في مائية المبصر هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال إذا أدركت بالنهار بالإفراط في الضوء بالقياس إلى هذه المبصرات. لأن هذه المبصرات إذا كانت في الظلام وفي سواد الليل وفي المواضع التي ليس فيها من الضوء إلا ما يظهر على وجه الأرض من الضوء اليسير في الليل فإن البصر يدركها نيرة كأنها نار. والضوء المعتدل الذي به تدرك هذه المبصرات هو الضوء الذي فيها فقط. وإن زاد عليه ضوء آخر فاليسير الذي لا يؤثر في ضوئها كمثل الضوء الذي يكون في الليل على وجه الأرض، فإن زاد الضوء على ذلك زيادة بينة خرج الضوء الذي يحصل في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال الذي به تدرك ناريتها على ما هي عليه، ولم يظهر ضوؤها الذاتي لإفراط الضوء الذي يشرق عليها. فعلى هذه الصفات التي شرحناها وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصرات التي تكون في غاية الصغر إذا كان فيها معان لطيفة وأجزاء متميزة وتخطيط في غاية الدقة، وكان البصر لا يدرك المعاني اللطيفة وتلك الأجزاء المتميزة وذلك التخطيط لصغر ذلك ولطافته، أو يدرك بعضها ولا يدرك البعض، ولا يدرك هيآتها، وكان مع ذلك يدرك جملة المبصر مع صغره لأنه أنفس من كل واحد من أجزائه. فإن البصر إذا أدرك المبصرات التي بهذه الصفة ربما لم يتحقق صورها فيعرض له الغلط في مائياتها. وذلك أن البصر إذا أدرك حيواناً في غاية الصغر فربما ظنه غيره من الحيوانات التي تشبهه. ومثال ذلك إذا رأى البصر نملة على حائط أو على بعض الثمار أو على بعض الحبوب فربما ظنها سوسة، أو رأى سوسة على حائط فربما ظنها نملة، أو رأى برغوثاً فربما ظنه سوسة وربما ظنه نملة إذا لم يثب البرغوث في الحال وظل ساكناً، أو رأى بعوضة سوداء فربما ظنها نملة إذا كانت ساقطة ولم تكن طائرة. وكذلك إذا رأى البصر حباً من الحبوب الصغار كالخردل والرشاد وما يجري مجراها فربما ظن النوع من هذه الأنواع نوعاً من أنواع الحبوب التي تشبهه. وأمثال هذه المبصرات كثير كثيراً ما يقع للبصر الغلط في إدراكها.
وإذا أدرك البصر حيواناً وظنه حيواناً غيره، أو حباً من الحبوب وظنه غيره من الحبوب، فهو غالط في إدراكه، وغلطه في هذا المعنى إنما هو غلط في المعرفة، لأن الغلط في نوعية المبصر إنما هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الجنس من الغلط إنما هو خروج حجم المبصر عن حد الاعتدال، لأن الحيوان إذا كان مقتدر الحجم فليس يغلط البصر في مائيته إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. وكذلك أنواع جميع المبصرات ليس يعرض للبصر في مائياتها إذا ما كانت مقتدرة الحجم وكانت المعاني الباقية التي فيها التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من اجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر المشف إذا كان شديد الشفيف، وكان لونه مع ذلك لوناً رقيقاً صافياً، وكان وراءه جسم متلون بلون قوي مشرق غير ذلك اللون الذي في الجسم المشف ومن غير نوعه، وكان ذلك الجسم مماساً للجسم المشف. فإن البصر إذا أدرك المبصر المشف الذي بهذه الصفة فإنه يدرك اللون الذي يظهر من ورائه، ويظن أن ذلك اللون هو لون الجسم المشف، إذا لم يكن قد تقدم علمه بلون ذلك الجسم.
وإذا أدرك البصر المبصر متلوناً بلون من الألوان وكان لونه غير ذلك اللون فهو غالط في مائية لونه، ومائية اللون إنما تدرك بالمعرفة، فيكون غلط البصر فيما هذه حاله غلطاً في المعرفة، وتكون علة هذا الغلط هو خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر إذا كان كثيفاً، أو كانت فيه كثافة قوية مع شفيف يسير، فإن المبصر ليس يغلط في مائية لونه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الكثافة التي في المبصر عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر والمبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر من وراء جسم مشف يقطع الهواء المتوسط بين البصر والمبصر، ويكون لون ذلك المبصر رقيقاً، ويكون الجسم الذي يقطع بينه وبين المبصر ذا لون قوي مع الشفيف الذي فيه كالزجاج المشف القوي اللون وكالثياب الرقاق المشفة المتلونة بألوان قوية. فإن البصر يدرك لون المبصر الذي بهذه الصفة من وراء الجسم المشف ممتزجاً بلون الجسم المشف، فيدرك لونه على خلاف ما هو عليه. فإن كان أخضر وكان الجسم المتوسط كحلياً، أدرك البصر لون ذلك المبصر أخضر. وإن كان أبيض، وكان لون الجسم المتوسط كحلياً، ظهر أزرق. وبالجملة فإن المبصر الذي على هذه الصفة يظهر لونه كمثل اللون الممتزج من لونه ولون الجسم المتوسط بينه وبين البصر.وإذا أدرك البصر لون المبصر على خلاف ما هو عليه فهو غالط في مائية لونه، والغلط هو غلط في المعرفة، وعلة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر وبين المبصر عن عرض الاعتدال. لأن ذلك المبصر إذا أدركه البصر وشفيف الهواء المتوسط بينه وبين البصر متصلاً لا يقطعه شيء من الأجسام المتلونة المشفة التي فيها بعض الكثافة، أدرك لونه على ما هو عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر الجسم المتلون من وراء الثوب المشف ممتزج اللون بلون الثوب المشف، والثوب المشف إنما هو خيوط كثيفة مضموم بعضها إلى بعض، وإنما يظهر ما يظهر من وراء الثوب المشف من أجل أن الثقوب التي فيما بين تلك الخيوط تكون نافذة ومن أجل أن تلك الخيوط دقاق، فقد كان يجب أن يظهر لون الجسم المتلون الذي يدركه البصر من وراء الثوب المشف أجزاء صغاراً متفرقة بحسب تلك الثقوب ويدرك لون الخيوط فيما بين تلك الأجزاء، وإذا أدرك الجسم المتلون والثوب المشف على هذه الصفة أدرك كل واحد من اللونين على ما هو عليه وأدرك اللونين متميزين وغير ممتزجين، وليس يوجد الأمر كذلك.
فنقول في جواب هذا الشك إن الثوب المشف الذي يظهر ما وراءه ليس تكون خيوطه إلا دقاقاً وتكون ثقوبه نافذة، وإذا كانت الخيوط دقاقاً ونظر البصر إلى هذا الثوب فإن الجزء من الخيط الذي يلي ثقباً من الثقوب تحصل صورته في جزء من البصر في غاية الصغر أيضاً، وهذا الجزء يقترن بالجزء الذي حصلت فيه صورة الجزء من الخيط، فيحصل لون الجزء من الخيط ولون الجسم المتلون الذي نفذ من الثقب في جزء ين من البصر مجموعهما بمنزلة النقطة بالقياس إلى الحس. وإذا كان الجزءان من البصر المتجاوران مجموعهما بمنزلة النقطة لم يتميز الجزءان للحس، فيصير الحاس يدرك اللونين اللذين بهذه الصفة من جزء هو في غاية الصغر وغير منقسم للحس. وإذا كان ذلك كذلك صار الحاس يدرك ذينك اللونين من جزء واحد من البصر غير منقسم. وإذا أدرك الحاس لونين من جزء واحد من البصر غير منقسم فهو يدرك اللونين ممتزجين ، لأن الحاس إنما يدرك اللونين ممتزجين متى أدركهما معاً من جزء واحد من البصر. فلهذه العلة صار البصر يدرك لون الجسم المتلون من وراء الثوب المشف ممتزجاً بلون الثوب المشف. فهذه العلة التي من اجلها يدرك البصر المبصر المختلف الألوان في الهواء المتصل ذا لون واحد إذا كان بعده عن البصر بعداً متفاوتاً بالقياس إلى كل واحد من الأجزاء المختلفة الألوان. وقد ذكرنا هذا المعنى في الفصل الذي قبل هذا الفصل.

وقد يكون الثوب المشف في خيوطه بعض الغلظ وفي ثقوبه بعض السعة، ويدرك البصر خيوط ذلك الثوب متفرقة ويدرك ثقوبه متفرقة، ومع ذلك يدرك لون الجسم المتلون الذي يظهر من وراءه ممتزجاً بلونه. إلا أن الجسم المتلون الذي يدرك على هذه الصفة ليس يكون امتزاج لونه بلون الثوب امتزاجاً قوياً، بل يكون الذي يمازج لونه من لون الثوب دون ما يمازج لونه من لون الثوب المشف الذي في غاية دقة الخيوط والثقوب. والجسم المتلون الذي يدرك من وراء الثوب المقتدر الخيوط والثقوب إنما يمازج لونه لون الثوب لأن الخيوط لها زئبر دقيق، وكل ثقب من ثقوب ذلك الثوب يعترض فيه زئبر متفرق لتلك الخيوط، ويكون التفرق الذي فيما بين الزئبر في غاية الدقة. فإذا نفذت صورة لون ذلك الجسم المتلون من تلك الثقوب كان في تضاعيفها لون ذلك الزئبر، فتصير الجزاء من البصر التي يحصل فيها لون ذلك الزئبر، فتصير الأجزاء من البصر التي يحصل فيها لون ذلك الزئبر في غاية الصغر، ولون الصورة التي تنفذ فيما بين ذلك الزئبر في تضاعيف تلك الأجزاء الصغار من البصر، فلذلك يظهر لون الجسم المتلون من وراء الثوب المتلون الذي بهذه الصفة ممتزجاً بلون الثوب امتزاجاً ما. والثوب الدقيق الخيوط أيضا ًيكون فيه مثل هذا الزئبر، فيجتمع في الثوب الذي بهذه الصفة صغر الأجزاء التي يحصل فيها لون الخيوط وصغر الأجزاء التي يحصل فيها لون الزئبر، فلا تتميز للبصر هذه الأجزاء، فيدرك البصر لون الجسم المتلون من وراء هذا الثوب ممتزجاً بلونه، ومع ذلك لا تتميز خيوط الثقب لصغرها، ولذلك يكون امتزاج لون هذا الثوب بلون الجسم المتلون الذي يظهر من ورائه أشد من امتزاج الجسم المتلون بلون الثوب المقتدر الخيوط والثقوب.
وأيضاً فإن البصر إذا أدرك الخيال الذي يظهر من خلف الإزار، وكان الخيال أشخاصاً يحركها المخيل فتظهر أظلالها على الجدار الذي من وراء الإزار وعلى الإزار نفسه، فإن البصر يدرك تلك الأظلال من وراء الإزار ويظنها أجساماً وحيوانات تتحرك إذا لم يتقدم علم الناظر بأنها أظلال ولم يدرك الأشخاص التي يحركها المخيل في تلك الحال التي تلك الأظلال أظلالها.
وإذا أدرك البصر الأظلال وظنها حيوانات وأشخاصاً فهو غالط في مائيات تلك الحيوانات وتلك الأشخاص، والغلط في مائية المبصر هو غلط في المعرفة، وعلة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر وبين تلك المبصرات عن عرض الاعتدال.لأنه لو رفع الإزار الذي يقطع الهواء المتوسط بين البصر وبين تلك الأظلال لأدرك البصر تلك الأظلال أظلالاً ولم يظنها أشخاصاً ولا حيوانات ولم يعرض له الغلط في مائياتها إذا كانت المعاني الباقية التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يعرض للبصر الغلط في المعرفة من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال.

فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر من باب أو منفذ أو خرق أو موضع مخصوص، ويكون ذلك المبصر متحركاً مجتازاً بذلك الباب أو المنفذ، فيدركه البصر في مدة قطعه لعرض ذلك الباب أو المنفذ فقط ثم يغيب عنه، فيعرض من ذلك أن يكون الزمان الذي يدرك فيه المبصر محصوراً. فإذا كان ذلك المبصر يتحرك حركة سريعة فإن الزمان الذي يقطع فيه المبصر المتحرك عرض تلك المسافة التي يدركه فيها البصر يكون زماناً يسيراً جداً. وإذا كان الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر يسيراً محصوراً فإنه ربما لم يتمكن في ذلك القدر من الزمان من تأمل المبصر تأملاً محققاً. وإذا لم يتمكن من تأمل المبصر تأولاً محققاً فربما اشتبهت عليه صورته ولم يدركها إدراكاً محققاً. وإذا كان لمبصر المتحرك إنساناً فربما شبهه بإنسان آخر يعرفه إذا كان في ذلك المبصر مشابه من ذلك الإنسان الذي يشبهه به ويظنه ذلك الإنسان بعينه ولا يكون ذلك الإنسان. وكذلك إن كان حيواناً غير الإنسان فربما أشبهه البصر بنظير له ولا يكون ذلك النظير الذي شبهه به. وكذلك إن كان المبصر جماداً كثوب أو آنية أو نبات أو ثمر أو غير ذلك من الجمادات إذا اجتاز به مجتاز فربما شبهه البصر بغيره ولا يكون ذلك الغير. وكذلك إن كان البصر متحركاً ولمح في حركته مبصراً من المبصرات وتجاوزه قبل أن يتمكن من تأمله لسرعة حركته، فإنه ربما شبهه بغيره وظنه ذلك الغير ولا يكون ذلك الغير.
وإذا شبه البصر المبصر بنظير له وظنه ذلك بعينه ولم يكن ذلك الذي شبهه به فهو غالط في إدراكه ويكون غلطه غلطاً في المعرفة. لأنه إذا شبهه بغيره ولم يكن ذلك الغير فهو غالط في شخصيته أو في نوعيته. وعلة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر ذلك المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في القصر. لأن البصر إذا أدرك ذلك المبصر، وكان الزمان الذي يدركه فيه فسيحاً يتمكن فيه من تأمل ذلك المبصر، فليس يعرض للبصر الغلط في مائية ذلك المبصر إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال فكالبصر إذا نظر إلى روضة خضراء قد أشرق عليها ضوء الشمس وأطال النظر إليها، أو نظر إلى جسم مشرق اللون كالأرجواني والفرفيري والصعوي أو ما شابه ذلك وقد أشرق عليه ضوء الشمس، وأطال النظر إليه، ثم التفت إلى مبصرات بيض، وتكون تلك المبصرات في الظل وفي ضوء معتدل، فإنه يدرك تلك المبصرات خضراء إذا كان قد أطال النظر إلى الرياض.وإذا كان قد أطال النظر إلى جسم ذي لون مشرق صبغ أدرك تلك المبصرات التي يدركها من بعده ملتبسة بلونه. وذلك لأن البصر إذا أطال النظر إلى الرياض أو إلى لون من الألوان المشرقة التي قد أشرق عليها ضوء الشمس حصلت صورة تلك الخضرة أو ذلك اللون المشرق في البصر وتلك الصورة ثابتة فيه زماناً، فإذا التفت البصر إلى المبصرات البيض في تلك الحال وتلك الصورة باقية فيه أدرك بياض تلك المبصرات ملتبساً بصورة اللون التي قد حصلت فيه. وإذا لم يكن قد أدرك تلك المبصرات البيض قبل تلك الحال فإنه لا يعلم أنها بيض.
وإذا أدرك البصر المبصرات البيض خضراً أو ذوات لون صبغ فإنه غالط في ألوانها، ومائية اللون إنما تدرك بالمعرفة، فيكون غلط البصر فيما هذه حاله غلطاً في المعرفة، وتكون علة هذا الغلط هو خروج المبصر نفسه عن عرض الاعتدال بالتغير الذي حصل فيه. لأن البصر إذا كان سليماً ولم يعرض له عارض يغير صورته فإنه يدرك ألوان المبصرات على ما هي عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.

وكذلك إذا عرض للبصر عشاً أو مرض يغير صورته ولم يمنعه ذلك المرض عن إدراك المبصرات بالكلية، فإنه إذا أدرك البصر وهو على ما به من العشا أو المرض فليس يدرك صورته إدراكاً محققاً، ومع ذلك فربما شبه البصر المبصر الذي يدركه في تلك الحال بما يعرفه من أمثاله. وإذا لم يتحقق البصر صورة المبصر وشبهه مع ذلك بما يعرفه من المبصرات التي تشبهه في المعاني التي يدركها من المبصر فربما عرض له الغلط في تشبيهه.
وإذا شبه البصر المبصر بغيره وظنه ذلك الغير ولم يكن ذلك الغير، فهو غالط في شخصيته أو في نوعيته أو في مجموعهما، فيكون غلطه في المعرفة، وتكون علة هذا الغلط هو خروج البصر عن عرض الاعتدال. لأن البصر إذا كان صحيحاً فإنه يدرك المبصرات على ما هي عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال.
فقد تبين من جميع ما شرحناه كيف يكون غلط البصر في المعرفة بحسب كل واحدة من العلل التي من اجلها يعرض للبصر الغلط.

الفصل السابع
كيفيات أغلاط البصر التي تكون في القياس
بحسب كل واحدة من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط
قد تبين في المقالة الثانية ان أكثر المعاني التي تدرك بحاسة البصر إنما تدرك بالقياس، وتبين ما هي المعاني التي تدرك بالقياس. وقد تبين أن صور جميع المبصرات إنما هي مركبة من المعاني الجزئية. وأكثر أغلاط البصر في المعاني الجزئية وصور المبصرات إنما يكون غلطاً في القياس. والغلط في القياس يكون على وجهين: يكون في المقدمات ويكون في ترتيب القياس. والغلط في المقدمات يكون على ثلثة أوجه: أحدها أن يأخذ التمييز مقدمة كاذبة ويظنها صادقة، والثاني أن يأخذ مقدمة جزئية ويظنها كلية، والوجه الثالث هو الغلط في اكتسب المقدمات. وذلك يكون في الإبصار إذا كان في المبصر معان ظاهرة ومعان خفية وقد يمكن أن تظهر عند استقصاء التأمل، واعتمد البصر ما يظهر في المبصر من المعاني التي فيه ولم يستقرئ جميع المعاني التي فيه ولم يتأمله تأملاً محققاً، إما على طريق السهو وضعف التمييز وإما لأنه لا يتمكن في الحال من تأمله. وإذا لم يستقرئ البصر جميع المعاني التي في المبصر التي يمكن أن يدركها البصر واعتمد المعاني الظاهرة التي في المبصر وحكم بنتائجها وقطع بنتائجها فهو غالط فيما يدركه من نتائج تلك المعاني. وذلك لأن البصر إذا تأمل المبصر تأملاً محققاً، وأدرك المعاني المحققة التي لم يكن أدركها، كانت نتيجة المعاني التي يظهرها التأمل المحقق مع المعاني الظاهرة غير النتيجة التي تنتجها المعاني الظاهرة فقط. وإذا لم يتمكن البصر من تأمل المبصر التأمل المحقق، وأحس بأنه ليس يتمكن من تأمله، فإنه لا يقطع بنتيجة المقدمات الظاهرة، بل يكون شاكاً غير متيقن لتلك النتيجة. فإن لم يستقرئ البصر جميع المعاني التي في المبصر ولم يتمكن من استقراء جميع المعاني التي في المبصر، وعول على المعاني الظاهرة، وسكن إلى نتائجها ولم يشك مع ذلك في نتائجها، فهو غالط في القياس من حيث هو غالط في اكتساب مقدمات القياس ومنتج ببعض المقدمات التي ينبغي أن تكون النتيجة بجميعها. وأغلاط البصر في القياس تمون على الوجوه التي فصلناها.
غلط البصر في القياس من أجل البعد
من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال
البعد

فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، إذا عرض الغلط في مقدار البعد، فكالأشخاص القائمة على وجه الأرض، مثل النخل والشجر والعمد، إذا أدركها البصر من بعد متفاوت مسرف التفاوت، وكانت تلك النخل والشجر والعمد مختلفة الأبعاد وكانت على سموت متفرقة بحيث لا يستر بعضها بعضاً، وكانت مع ذلك متشابهة الصور في اللون وفي الضوء المشرق عليها: فإن البصر إذا أدرك الأشخاص التي بهذه الصفة فإنه لا يدرك اختلاف أبعادها، ولا يفرق بين الأبعد منها والقرب إذا كان أقربها متفاوت البعد مسرف التفاوت. وإذا لم يفرق بين الأبعد منها والأقرب فإنه ربما ظن بتلك الأشخاص أو ببعضها أنها متساوية الأبعاد. وإذا ظن البصر بالمبصرات المختلفة الأبعاد أنها متساوية الأبعاد فهو غالط في أبعادها. والغلط في البعد وفي اختلاف البعد وفي تساوي الأبعاد فهو غلط في القياس لأن هذه المعاني إنما تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج أبعاد الأشخاص التي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال. لأن الأشخاص التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد معتدلة فإن البصر يدرك اختلاف أبعادها على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه الأشخاص في عرض الاعتدال.
وإنما ليس يدرك البصر اختلاف هذه الأشخاص من البعد المتفاوت لن الأبعاد المتفاوتة ليس يدرك البصر مقاديرها إدراكاً محققاً، وإذا لم يتحقق مقادير الأبعاد لم يدرك تفاضل بعضها على بعض، وإذا لم يدرك تفاضل بعضها على بعض، ولم تكن المبصرات يستر بعضها بعضاً، لم يفرق البصر بين الأبعد منها والأقرب. وهذا الغلط بعينه يعرض للبصر دائماً إذا نظر إلى الكواكب واتفق أن يكون فيها كوكب من الكواكب المتحيرة، فإذا أدرك الكوكب من الكواكب المتحيرة والكوكب من الكواكب الثابتة معاً فإنه لا يدرك الاختلاف الذي بين بعد الكوكب المتحير وبين أبعاد الكواكب الثابتة، وإنما يدركها كأنها جميعها في سطح واحد، المتحيرة منها والثابتة، مع الاختلاف المتفاوت بين أبعاد الكواكب الثابتة والمتحيرة. وإنما يعرض للبصر هذا الغلط لتفاوت أبعاد الكواكب، لأن الأبعاد المتفاوتة ليس يدرك البصر مقاديرها ولا يدرك زيادة بعضها على بعض، ولأن البصر إنما يدرك أبعاد المبصرات إذا كانت أبعادها من الأبعاد المعتدلة وكانت مع ذلك مسامتة لأجسام مرتبة. فإذا كانت المبصرات متفاوتة البعاد، ولم يستر بعضها بعضاً، فليس يدرك البصر مقادير أبعادها، كانت أبعادها مسامتة لأجسام مرتبة.
الوضع وقد يعرض للبصر الغلط في أوضاع المبصرات أيضاً من اجل خروج البعد عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى مبصر متفاوت البعد، وكان ذلك المبصر مائلاً على خطوط الشعاع ولم يكن مواجهاً، فإن البصر يدركه كأنه مواجه ولا يحس بميله. ولذلك صار البصر يدرك الجسم المربع الشكل المتساوي الأضلاع من البعد المتفاوت مستطيلاً، ويدرك الجسم المستدير المسطح مستطيلاً، إذا كانا مائلين على خطوط الشعاع. ولو كان البصر يحس بميل المربع والمستدير من البعد المتفاوت إذا كانا مائلين على خطوط الشعاع لأحس بتساوي أضلاع المربع واستدارة المستدير من البعد المتفاوت. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن وضع المبصر يدرك بالقياس، وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لن المربع والمستدير إذا أدركهما البصر من بعد معتدل فإنه يدرك تربيع المربع ويدرك استدارة المستدير على ما هما عليه وإن كانا مائلين على خطوط الشعاع، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.

فأما لم يدرك البصر المبصر المائل من البعد المتفاوت مواجهاً، ولم يدرك المربع المتساوي الأضلاع والمستدير مستطيلين، فإن ذلك لن الميل إنما يدركه البصر من إحساسه باختلاف بعدي طرفي المبصر المائل. فإذا أحس البصر باختلاف بعدي طرفي المبصر المائل أحس بميله، وإذا لم يحس باختلاف بعدي طرفي المبصر المائل فليس يحس بميله. وإذا كان بعد المبصر متفاوتاً بالقياس إلى عظم المبصر وكان المبصر مائلاً كان التفاوت بين بعدي طرفيه يسير المقدار عند جملة البعد. إذا كان التفاوت يسير المقدار عن جملة البعد لم يدرك البصر ذلك التفاوت، وإذا لم يدرك التفاوت الذي بين بعدي طرفي المبصر ظن أن أبعاد أطرافه متساوية، وإذا ظن أن أبعاد أطرافه متساوية ظنه مواجهاً ولم يحس بميله.
فأما المربع المتساوي الأضلاع إذا كان على بعد متفاوت، وكان مائلاً على خطوط الشعاع، فإن الزاوية التي يوترها عرض المربع الذي هو العرض المائل تكون أصغر من الزاوية التي يوترها طوله المواجه. وكذلك المستدير إذا كان مائلاً، وكان بعده متفاوتاً، يكون قطره المائل يوتر زاوية عند البصر أصغر من الزاوية التي يوترها قطره المواجه. وإذا كان البعد متفاوتاً لم يحس البصر باختلاف بعدي طرفي العرض المائل، وإذا لم يحس باختلاف بعدي طرفي العرض المائل فإنه يظن أن بعدي طرفي العرض المائل متساويين. وإذا كان ذلك كذلك فهو مقدار عرض المربع المائل وقطر المستدير المائل بالقياس إلى زاوية أصغر من الزاوية التي يوترها الطول المواجه، فلذلك يدرك العرض أصغر من الطول. فإذا أدرك العرض أصغر من الطول أدرك المربع المتساوي الأضلاع مستطيلاً والمستدير أيضاً مستطيلاً، فيعرض للبصر من غلطه في وضع المبصرات التي بهذه الصفة الغلط في شكلها أيضاً والغلط في مقدار عرضها مع الغلط في وضعها. وإذا كانت هذه المبصرات على بعد معتدل أدرك البصر اختلاف أبعاد أطرافها. وإذا أدرك اختلاف أبعاد أطرافها أدرك ميلها على ما هي عليه، وأدرك أشكالها على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
وقد يدرك البصر المبصرات التي بهذه الصفة من البعد الذي ليس بكل المتفاوت أيضاً مستطيلة ويحس مع ذلك بميلها، وذلك إذا كان المربع أو المستدير مائلاً ميلاً شديداً. إلا أن ذلك يعرض إذا لم يدرك البصر مقدار ميله إدراكاً محققاً، فيدرك ميله دون ما هو عليه من الميل، فيحس بمقدار العرض المائل بحسب ما يدركه من ميله. وإذا كان ما يدركه من ميله دون ميله الحقيقي أدرك مقداره دون مقداره الحقيقي، وإذا أدرك مقدار العرض دون مقداره الحقيقي، وأدرك طوله المواجه على ما هو عليه، أدرك المربع المتساوي الأضلاع مستطيلاً والمستدير أيضاً مستطيلاً مع إحساسه بميلهما. إلا أن الذي يعرض من الغلط في هذه الأشكال مع إحساس البصر بميلها إنما يكون يسيراً ليس كما يعرض من البعد المسرف التفاوت، فيدرك في هذه الأشكال، إذا كان يحس بميلها، استطالة يسيرة دون ما يدركه من استطالتها من البعد المسرف التفاوت بحسب التفاوت بين ميله الحقيقي وبين ما يظهر له ويحس به من ميله.
التجسم

فأما التجسم فإن البصر يحس به من إحساسه بانعطاف السطوح كما تبين من قبل. والإحساس بانعطاف سطوح الجسام هو إحساس بمائية سطح الجسم، فالغلط في التجسم إن عرض فهو إنما يكون من اجل الغلط في هيئة سطح الجسم. لأن الغلط في التجسم إنما يكون إذا أدرك البصر المبصر المسطح محدباً، وإذا أدرك البصر المسطح محدباً أو أدرك المحدب مسطحاً فإنما هو غالط في هيئة سطح ذلك المبصر. وهيئة السطح إنما هو شكل جملة السطح، لأن شكل السطح يكون على جهتين: فإحداهما شكل محيط السطح والأخرى شكل جملة السطح الذي يسمى هيئة السطح. وإذا كان ذلك كذلك فالغلط في التجسم يدخل تحت الغلط في الشكل مع الغلط في الوضع من أجل تفاوت البعد، فقد يعرض الغلط في شكل المبصر أيضاً من أجل تفاوت البعد وإن لم يعرض الغلط في وضعه. وذلك أن الجسم الكثير الأضلاع المتساوي الأقطار إذا كان على بعد متفاوت وكان مواجهاً للبصر فإن البصر يدركه مستديراً، وإذا أدرك الجسم المضلع مستديراً فهو غالط في شكله، والغلط في الشكل والهيئة إذا كان على بعد متفاوت فهو غلط في القياس . لأن الشكل والهيئة إذا كانا على بعد معتدل وكان من الأشكال المألوفة فقد يدركه البصر بالمعرفة، واصل إدراكه بالقياس. وإذا كان على بعد متفاوت فليس يدرك إلا بالقياس في حال الإحساس كان ذلك الشكل من الأشكال المألوفة أو من الأشكال الغريبة، لأن شكل المبصر من البعد المتفاوت ليس يدرك إلا بالتأمل في حال إدراك المبصر، وليس يدرك الشكل من البعد المتفاوت بالبديهة ولا بالأمارات، فالغلط في الشكل من البعد المتفاوت ليس يكون إلا غلطاً في القياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر المضلع إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك شكله على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك المضلع مستديراً من البعد المتفاوت فذلك لأن المبصر إذا بعد عن البصر بعداً شديداً خفي عن البصر، والبعد الذي يخفى منه المبصر يكون بحسب مقدار البصر، فالمبصر الصغير الحجم يخفى من بعد أصغر من البعد الذي يخفى منه المبصر العظيم الحجم. وكل واحد من أجزاء المبصر أصغر من جملة المبصر. فإذا تباعد المبصر تباعداً متفاوتاً كان المقدار الذي له نسبة محسوسة إلى جملة المبصر يخفى عن البصر من ذلك البعد، فيكون كل واحد من أجزائه الصغار على انفراده خفياً عن البصر. وإذا كان ذلك كذلك كان المبصر إذا كان على بعد متفاوت فإن البصر يدرك جملته ولا يدرك كل واحد من أجزائه الصغار على انفراده. وكل واحدة من زوايا المبصر المضلع أصغر من جملته، وهي مع ذلك متفرقة. فكل واحدة من الزوايا تخفى عن البصر من بعد قد يظهر منه جملة المبصر. فإذا كان المبصر متفاوت البعد، وكان بعده بعداً يخفى من مثله كل واحدة من زواياه على انفرادها، ولا تخفى جملته من ذلك البعد، وكانت أقطار ذلك المبصر مع هذه الحال متساوية أو قريبة من التساوي، فإن المبصر إذا كان على هذا البعد فإن جملته تظهر للبصر ولا يظهر شيء من زواياه. وإذا أدرك مواجهاً للبصر، أدركه البصر مستديراً مسطحاً كان أو مجسماً. فلهذه العلة صار البصر يدرك المبصر المضلع المتساوي الأقطار من البعد المتفاوت مستديراً إذا كان مواجهاً للبصر.

وكذلك أيضاً يعرض الغلط في تقويس الجسم من البعد المتفاوت. فإن الجسم المقوس إذا كان على بعد متفاوت، وكانت حدبته أو تقعيره تلي البصر، فإن البصر يدرك ذلك المقوس مستقيماً، لأن التقويس إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف مقادير أبعاد أجزائه إذا كانت حدبته أو تقعيره تلي البصر. فإن أحس البصر أن وسطه وما يلي الوسط أبعد من طرفيه أحس بتقويسه وأحس أن تقعيره يلي البصر. فإذا كان المقوس على بعد متفاوت وكانت حدبته أو تقعيره يلي البصر. فإذا كان المقوس على بعد متفاوت وكانت حدبته أو تقعيره يلي البصر يدرك البصر التفاوت الذي بين بعد وسطه وبين طرفيه. وإذا لم يدرك التفاوت الذي بين أبعاد وسطه وطرفيه فليس يدرك تقويسه. وإذا لم يدرك تقويسه في الحال، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بتقويسه، فليس يفرق بينه وبين الأجسام المستقيمة الطول المألوفة، واكثر الأجسام المألوفة المستطيلة تكون مستقيمة الطول أو قريبة من الاستقامة، فهو يدركه مستقيماً إذا لم يحس في الحال بتقويسه. وإذا أدرك البصر المقوس مستقيماً فهو غالط في شكله. والغلط في الشكل من البعد المتفاوت هو غلط في القياس، لأن الشكل ليس يدرك من البعد المتفاوت إلا بالقياس، وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر المقوس إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك تقويسه ولا يعرض له فيه غلط، كانت حدبته تلي البصر أو كان تقعيره يلي البصر، إذا كانت المعاني التي فيه في عرض الاعتدال.
الشكل وقد يعرض الغلط في شكل سطح المبصر أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أن الجسم الكري يظهر من البعد المتفاوت مسطحاً مستديراً، وكذلك جميع الأجسام التي فيها تحديب أو أجزاء مقعرة. ومتى اعتبر المعتبر جسماً من الأجسام المحدبة أو المقعرة من البعد المتفاوت فإنه يجده في الحس مسطحاً، وهذا الغلط هو غلط في القياس، لأن التحديب والتقعير والتسطيح يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات إذا كانت على أبعاد معتدلة وكانت محدبة أو فيها أجزاء محدبة أو كانت مقعرة أو فيها أجزاء مقعرة فإن البصر يدرك تحديبها أو تقعيرها على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر الكرة والأجسام المحدبة من البعد المتفاوت مسطحة، فلذلك لأن التحديب إنما يدركه البصر إذا أحس بقرب أجزائه المتوسطة وبعد أجزائه المتطرفة، وإذا لم يحس البصر بقرب بعض الأجزاء وبعد بعضها فليس يحس بتحديب المبصر. والكرة والأجسام المحدبة إذا كانت على بعد متفاوت بالقياس إلى حجمها فإن التفاوت الذي بين أبعاد أطرافها وبين وسطها يكون يسيراً بالقياس إلى جملة البعد. وإذا كان التفاوت يسيراً بالقياس إلى جملة البعد لم يدرك البصر ذلك التفاوت. وإذا لم يدرك البصر ذلك التفاوت بين أبعاد أطراف المبصر المحدب وبين بعد وسطه لم يحس بتحديبه، ولذلك يدرك البصر الكرة والأجسام المحدبة من البعد المتفاوت مسطحة، ولذلك يظهر جرم الشمس وجرم القمر كأنهما سطحان وهما مع ذلك كريان لتفاوت أبعادهما عن البصر. وإذا كانت المبصرات على بعد معتدل وكانت كرية أو محدبة أدرك البصر اختلاف أبعاد أجزائها وأحس بانعطافات سطوحها. وإذا أدرك البصر اختلاف أبعاد أجزاء المبصر وأدرك انعطافات سطحه أدرك تحديبه وكريته إن كان كرياً وأدرك تجسمه. وكذلك حال الأجسام المقعرة إذا كانت على بعد متفاوت. فليس يدرك البصر تقعيرها لأنه لا يدرك التفاوت الذي بين أبعاد أطرافها وبين بعد وسطها. وإذا كانت على أبعاد معتدلة أدرك البصر ذلك التفاوت وأدرك تقعيرها.
العظم وقد يعرض الغلط في أعظم المبصر أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات من بعد متفاوت فإنه يدرك مقداره أصغر من مقداره الحقيقي، والعظم إنما يدرك بالقياس، فيكون هذا الغلط غلطاً في القياس. وعلة هذا الغلط إنما هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك عظمه على ما هو عليه ولا يعرض له الغلط في مقداره، إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.

فأما لم إذا كان بعد المبصر بعداً متفاوتاً أدرك البصر مقدار ذلك المبصر أصغر من مقداره الحقيقي، فإن ذلك لأن عظم المبصر إنما يدركه البصر من قياسه عظم المبصر بزاوية المخروط الذي بذلك المبصر ومقدار بعد ذلك المبصر. وقد تبين في كيفية إدراك العظم أن ذلك كذلك. وإذا كان المبصر على بعد متفاوت في العظم فإن زاوية المخروط المحيطة به تكون في غاية الصغر. والبعد المتفاوت الذي يظهر منه مقدار المبصر أصغر من مقداره الحقيقي هو البعد الذي يخفى منه مقدار له نسبة مقتدرة إلى جملة المبصر. لأن البعد الذي لا يخفى منه مقدار مقتدر النسبة إلى المبصر هو من الأبعاد المعتدلة التي يدرك منها المبصر على ما هو عليه. وإذا كان ذلك كذلك فالجزء من الزاوية الذي يوتره الجزء من المبصر المقتدر النسبة إلى جملة المبصر الذي يخفى مثله من ذلك البعد والجزء من سطح العضو الحاس الذي تحصل فيه صورة ذلك الجزء من المبصر ويوتر ذلك الجزء من الزاوية ليس يدركه الحس في تلك الحال. ومع ذلك فإن نسبة هذه الزاوية إلى جملة الزاوية التي يوترها جملة المبصر نسبة مقتدرة. وكذلك نسبة الجزء من سطح البصر الذي يوتر هذه الزاوية إلى جملة الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة جملة المبصر نسبة مقتدرة، لأنها كنسبة الجزء الذي يخفي مثله من ذلك البعد إلى جملة ذلك المبصر التي هي نسبة مقتدرة. وكل مبصر متفاوت البعد فإن الجزء من سطح العضو الحاس والجزء من الزاوية الذي يوتره الجزء من المبصر المقتدر النسبة إلى جملة المبصر، الذي يخفي مثله من ذلك البعد، ليس يدركه الحس. فإذا تأمل البصر ذلك المبصر وحرك السهم على أقطاره فإن الحاس ليس يحس بحركة السهم إلا بعد أن يقطع من الجزء الذي حصل فيه الصورة لجملة المبصر جزءاً أعظم من الجزء الذي تحصل فيه صورة الجزء من المبصر الذي يخفي مثله من ذلك البعد. فإذا قطع السهم من الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر الجزء الذي يخفي مثله من ذلك البعد، فليس يحس الحاس بحركة السهم، وليس يحس الحاس من حركة السهم على الجزء من المبصر الذي يخفي مثله من ذلك البعد بصورة ولا زاوية.
وكذلك إذا تحرك السهم على جميع المبصر فإنه كلما قطع منه جزءاً يخفى مثله من ذلك البعد فإن الحاس لا يحس بحركته، فإذا قطع منه جزءاً أعظم من ذلك الجزء أحس بحركته، فإذا انتهى السهم إلى أجزاء المبصر وقطع جميع الجزء من سطح العضو الحاس الذي حصل فيه صورة المبصر فإنه يدرك مقدار ذلك الجزء أصغر من مقداره الحقيقي من أجل ما تقدم تفصيله.

وأيضاً فإنه إذا ثبت البصر في مقابلة ذلك المبصر، وأدرك الحاس الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر، فإن الحاس يدرك مقدار ذلك الجزء ومقدار الزاوية التي يوترها ذلك الجزء من إدراكه المسافة التي بين نهايتي عرض ذلك الجزء من سطح البصر. والمسافة التي بين نهايتي عرض ذلك الجزء من سطح البصر هي في غاية الصغر، ونهايتا تلك المسافة التي يدركها الحس ليس هما نقطتان متوهمتين لأن النقطة المتوهمة لا يدركها الحس وليس يدرك الحس إلا ما كان ذا مقدار، فالنهاية التي بها يحد الحس عرض ذلك الجز من عرض ذلك الجزء. وذلك الجزء هو النهاية هو نقطة في الحس ليس لها مقدار يعتد به الحس، وهي مع ذلك ذات مقدار له نسبة مقتدرة إلى المسافة التي هي عرض الجزء الذي حصلت فيه صورة المبصر، فالنهاية التي يحد الحاس الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر المتفاوت البعد الذي ليس يعتد الحاس بمقدارها لها نسبة مقتدرة إلى عرض ذلك الجزء الذي فيه تحصل صورة المبصر، لأن ذلك الجزء في غاية الصغر، وإنما يزيد عرض ذلك الجزء على النقطة المحسوسة التي هي النهاية بمقدار يسير. فالنقطة المحسوسة التي هي نهاية عرض الجزء الذي فيه تحصل صورة المبصر المتفاوت البعد لها نسبة مقتدرة إلى عرض ذلك الجزء ومؤثرة في مقدار ذلك الجزء، ومع ذلك فهذه النقطة هي النهاية التي لا يعتد الحاس بمقدارها، فإذا أدرك البصر مقدار عرض الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر المتفاوت البعد فهو يدركه أصغر من مقداره الحقيقي بمقدار النقطتين اللتين هما نهايتا ذلك العرض اللتان هما جزءان مقتدرا النسبة إلى جملة ذلك العرض. وكذلك الزاوية التي يوترها الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه الصورة يدرك الحاس مقدارها أصغر من مقدارها الحقيقي بالمقدار الذي توتره النقطتان اللتان هما نهايتا عرض ذلك الجزء اللتان لا يعتد الحاس بمقدارهما. ولذلك يدرك الحاس جميع أجزاء البصر التي تحصل فيها صور المبصرات ويدرك كل واحد منها بالمقدار الذي هو نقطتا نهايتي عرض ذلك الجزء، وكذلك يدرك جميع الزوايا التي توترها جميع المبصرات عند مركز البصر، إلا أن النقطتين اللتين هما نهايتا عرض الجزء الذي تحصل فيه صورة المبصر، إذا كان المبصر على بعد معتدل، يكون الجزءان من المبصر اللذان تحصل صورتاهما في تينك النقطتين ليس لهما قدر مؤثر في جملة مقدار المبصر، فليس لتينك النقطتين قدر عند جملة الجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر من البعد المعتدل، وكذلك ليس للزاويتين التين توترهما تانك النقطتان قدر عند جملة الزاوية. فإذا كان المبصر على بعد متفاوت بالقياس إلى ذلك المبصر كانت النقطتان اللتان هما نهايتا عرض الجزء الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر من سطح البصر لهما قدر مؤثر عند جملة الجزء الذي تحصل فيه الصورة. لأن جميع الجزء الذي تحصل فيه الصورة عند تفاوت بعد المبصر يكون قد تصاغر حتى صار في غاية الصغر، والنقطة التي هي النهاية التي هي أصغر جزء يدركه الحس من سطح البصر هي مقدار واحد بعينه ليس يتغير كبر الجزء الذي تحصل فيه الصورة أم صغر، لأنه ما كان أصغر من تلك النقطة فليس يدركه الحس. والجزء من المبصر الذي تحصل صورته في تلك النقطة من البعد المتفاوت يكون أعظم من الجزء من المبصر الذي تحصل صورته في تلك النقطة من البعد المعتدل. وإذا كان ذلك كذلك فالجزءان من المبصر اللذان تحصل صورتاهما في تينك النقطتين يكون لهما قدر مؤثر كبير النسبة إلى جملة المبصر إذا كان المبصر على بعد متفاوت، فتكون الزاويتان اللتان يوترهما ذانك الجزءان عند مركز البصر، اللتان ليس يدركهما الحس، لهما قدر مؤثر في جملة الزاوية التي يوترها جميع ذلك المبصر من البعد المتفاوت. وكل مبصر يدركه البصر من بعد متفاوت فإن الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة ذلك المبصر والزاوية التي يوترها ذلك المبصر عند مركز البصر يدرك الحس مقداريهما أصغر من مقداريهما الحقيقيين بمقدار مؤثر في جملة مقداريهما الذي يوجبه ذلك البعد المتفاوت.

وأيضاً فإنه قد تبين أن مقدار بعد المبصر إذا كان متيقناً وكان من الأبعاد المعتدلة بالقياس إلى ذلك المبصر كان الذي يدركه البصر من مقدار عظم ذلك المبصر متيقناً، وإذا كان مقدار بعد المبصر غير متيقن كان يدركه البصر من مقدار عظم المبصر غير متيقن. وقد تبين أيضاً أن المبصر إذا كان متفاوت العظم لا يتبين مقدار ذلك البعد كان ذلك البعد مسامتاً لأجسام مرتبة أو لم يكن مسامتاً لأجسام مرتبة. وتبين أيضاً أن البصر إذا لم يتيقن مقدار بعد المبصر فإنه يحدس على مقدار بعد المبصر فإنه يحدس على مقدار بعده حدساً ويشبه بعده بأبعاد المبصرات المألوفة التي تشبه ذلك المبصر في مقداره وفي جملة ما يظهر من صورته التي يدركها من البعاد المألوفة. وإذا كان ذلك كذلك فالمبصر المتفاوت البعد يتخيل البصر مقدار بعده بالحدس أصغر من مقداره الحقيقي، لنه يشبهه بالأبعاد المألوفة التي يدركها من المبصرات المألوفة التي توتر زوايا مثل الزاوية التي يوترها ذلك المبصر من البعد المتفاوت. والأبعاد المألوفة التي يدرك منها المبصرات المألوفة ليس منها شيء متفاوت العظم، فالمبصر المتفاوت البعد إنما يدرك البصر مقدار بعده بالحدس أصغر من مقداره الحقيقي، فالزاوية التي يوترها المبصر إذا كان متفاوت العد يدرك البصر مقدارها أصغر من مقدارها الحقيقي، وبعد المبصر إذا كان متفاوت البعد يدرك البصر مقداره أصغر من مقداره الحقيقي. ومقدار عظم المبصر إنما يدرك من قياس العظم إلى الزاوية التي يوترها ذلك العظم عند مركز البصر مع القياس إلى مقدار بعد ذلك العظم. فالمبصر المتفاوت البعد يدرك البصر مقداره من قياس عظمه بزاوية أصغر من الزاوية الحقيقية التي يوترها ذلك المبصر من ذلك البعد وببعد أصغر من بعده الحقيقي، فلذلك يدرك البصر مقدار المبصر المتفاوت البعد أصغر من مقداره الحقيقي، وكلما ازداد مقداره في الحس صغراً لأن الغلط في الزاوية التي يوترها ذلك المبصر يتزايد كلما تزايد بعده، ومقدار التفاوت الذي بين بعده الحقيقي وبين ما يتخيله البصر من مقدار بعده المنظور يتزايد أيضاً كلما تباعد المبصر، فلذلك كلما ازداد المبصر بعداً ازداد مقداره في الحس صغراً. وإذا تمادى البصر في التباعد انتهى إلى الحد الذي يخفى منه عن البصر فلا يدركه البصر.
والحد من البعد الذي تخفى منه جملة المبصر فلا يدركه البصر هو الحد الذي يصير فيه الجزء من البصر الذي تحصل فيه صورة المبصر هو النقطة التي ليس لها قدر محسوس يعتد به الحاس ويدرك مقداره، فتصير صورة المبصر عند هذه الحال بمنزلة صورة المبصر الذي في غاية الصغر الذي ليس في قدرة الحس إدراكه من أجل صغر حجمه وإن كان قريباً من البصر.
وأيضاً فإن المبصر إذا تباعد بعداً متفاوتاً فإن صورة لونه تتغير وتضعف. وذلك انه قد تبين أن صورة اللون كلما بعدت عن اللون الذي عنه تصدر الصورة ضعفت، وكذلك صورة الضوء. فإن كان المبصر رقيق اللون أو سحابي اللون وكان بعده عن البصر بعداً متفاوتاً فقد يخفى عن البصر من بعد قد يدرك البصر منه مبصراً مساوياً له في العظم إذا كان مشرق اللون، من أجل أن صورة اللون الرقيق أضعف من صورة اللون القوي، فهي تخفى من بعد أقل من البعد الذي تخفى منه صورة اللون القوي.

وقد يخفى المبصر أيضاً من أجل اشتباه لونه بألوان المبصرات المجاورة والمسامتة له. وذلك ان المبصرات التي على وجه الأرض ليس يخلوا أن يكون وراءها أو تحتها أو حولها أجسام أخر، والبصر يدرك الأجسام التي حول المبصر ووراءه وتحته ومسامتاً له عند إدراك ذلك المبصر، فإذا كان لون المبصر شبيهاً بألوان تلك المبصرات وكان بعده مع ذلك بعداً متفاوتاً، فإنه ربما خفي ذلك المبصر عن البصر فلم يتميز للبصر ذلك المبصر من غيره من أجل اشتباهه بالأجسام المجاورة له والمسامتة له التي يدركها البصر معه. وذلك مثل الأجسام الترابية التي تكون على وجه الأرض والأجسام الخضر المشرقة الخضرة إذا كانت فيما بين الزروع أو في تضاعيف ورق الشجر، وكالأجسام البيض المتشابهة الأجزاء التي تكون في وسط الثلج، وكالجسم الذي يكون وراءه أو تحته أو حوله جسم أعظم جثة منه شبيهة اللون بلونه. فإن كثيراً من المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد متفاوتة قد تخفى عن البصر ولا تتميز للبصر من الأجسام التي يدركها معها من أجل اشتباه ألوانها بألوان تلك الأجسام. وإذا كان في تلك الأجسام. وإذا كان في تلك المواضع بعينها وعلى تلك البعاد بأعيانها مبصرات مساوية لتلك المبصرات في أعظامها ومخالفة اللون لألوان الجسام التي في تلك المواضع فإن البصر يدرك تلك المبصرات من تلك البعاد بعينها. فقد يكون خفاء المبصر عن البصر من أجل اشتباه لونه بألوان ما يجاوره من الأجسام.
وقد يكون خفاء المبصر من أجل رقة لونه وضعف صورته، وما هذه حاله من المبصرات فليس يكون خفاؤه من أجل تصاغر صورته التي تحصل في البصر ولكن من اشتباه صورته بصورة ما يدرك معه من المبصرات أو من ضعف صورته. فالبعد الذي يخفى منه المبصر عن البصر من أجل تصاغر مقداره هو البعد الذي يكون المخروط المتوهم المتشكل بينه وبين مركز البصر يفصل من سطح العضو الحاس جزءاً مقداره مقدار النقطة التي لا يدرك الحس مقدارها، وهذا البعد هو أقرب الأبعاد التي يخفى منها المبصر عن البصر من أجل تصاغر صورته. ثم كلما زاد على البعد من الأبعاد فهو من الأبعاد التي يخفى منها ذلك المبصر عن البصر، ويكون المخروط الذي يخرج إليه من مركز البصر يفصل من سطح العضو الحاس جزءاً أصغر من الجزء الأول الذي يفصله من البعد القرب الذي لا يدركه الحس من اجل صغره.
وقد يعرض الغلط أيضاً في عظم بعض المبصرات مع تيقن مقدار بعد ذلك المبصر. وذلك يكون في المبصرات الصغار المتفاوتة الصغر. فإن المبصر الذي في غاية الصغر قد يخفى من بعد ليس بالمتفاوت العظم إذا كان بعداً خارجاً عن الاعتدال بالقياس إلى مقدار ذلك المبصر. وقد يكون البعد الذي يخفى منه المبصر الذي في غاية الصغر مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة، وإذا لم يكن البعد متفاوت العظم وكان مع ذلك مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة فإنه قد يكون متيقن المقدار. وإذا خفي المبصر من بعد ما من أجل مقداره فإنه من بعد قبل ذاك البعد قد يدرك البصر مقداره أصغر من مقداره الحقيقي، لأن المبصر إذا تباعد عن البصر وتمادى في التباعد فإنه يتصاغر أولاً في الحس ثم يخفى إذا كان خفاؤه من جهة مقداره. فقد يدرك البصر مقدار المبصر الذي في غاية الصغر أصغر من مقداره الحقيقي من بعد متيقن المقدار، إلا أن البعد المتيقن الذي يخفى منه المبصر والبعد الذي يدرك منه مقدار المبصر أصغر من مقداره الحقيقي هو بعد خارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر. وإذا كان البعد خارجاً عن الاعتدال بالقياس إلى المبصر وكانت جملة المبصر تظهر من ذلك البعد فإنه قد يخفى من ذلك البعد مقدار له نسبة مقتدرة إلى جملة ذلك المبصر.

وأيضاً فإن البعد الذي يدرك منه البصر مقدار المبصر الصغير المقدار أصغر من مقداره قد يخفى منه مقدار أصغر من ذلك المبصر من المبصرات التي قد يدركها البصر من بعد أقرب من ذلك البعد، لأن المبصر الذي يتصاغر مقداره عند البصر ليس هو أصغر المقادير التي يدركها البصر. والمبصر الذي يخفى من ذلك البعد إذا كان البصر يدركه من بعد أقرب من ذلك البعد فإن له نسبة مقتدرة إلى مقدار المبصر الصغير الذي يتصاغر مقداره من ذلك البعد، لأن المبصر الذي يدركه البصر من بعد ما على تصاريف الأحوال له نسبة مقتدرة إلى كل مبصر متفاوت الصغر. فالبعد الذي يدرك منه البصر مقدار المبصر المتفاوت الصغر أصغر من مقداره الحقيقي قد يخفى منه مقدار له نسبة مقتدرة إلى جملة ذلك المبصر. كذلك فالزاوية التي يوترها المبصر الصغير المقدار من البعد الخارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر يدرك الحاس مقدارها أصغر من مقدارها الحقيقي كما تبين ذلك من قبل. وإذا كان ذلك البعد متيقن المقدار فالمبصر الصغير المقدار المتفاوت الصغر الذي تخفى جملته من بعد متيقن المقدار قد يدرك البصر مقداره أصغر من مقداره الحقيقي من بعد متيقن المقدار من أجل غلط البصر في مقدار عظم الزاوية التي يوترها ذلك المبصر الصغير المقدار من ذلك البعد. فهو يدرك مقداره من قياس مقداره بزاوية أصغر من الزاوية الحقيقية التي يوترها ذلك المبصر من ذلك البعد وببعده المتيقن المقدار. فالغلط الذي يعرض للبصر في إدراك عظم المبصر من البعد المتفاوت الذي لا يتحقق البصر مقداره إنما هو من أجل غلطه في مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر ومن غلطه في كمية بعد ذلك المبصر معاً. فهو يشبه عظمه بعظم مبصر على بعد معتدل يوتر زاوية أصغر من الزاوية التي يوترها ذلك المبصر في تلك الحال. فلذلك يدرك مقدار المبصر المتفاوت البعد أصغر من مقداره الحقيقي. والغلط الذي يعرض للبصر في عظم المبصر من البعد المتيقن المقدار إنما هو من أجل غلط البصر في مقدار الزاوية التي يوترها ذلك المبصر في تلك الحال فقط. فقد تبينت العلة التي من أجلها يظهر مقدار المبصر من البعد المتفاوت الخارج عن الاعتدال بالقياس إلى عظم المبصر أصغر من مقداره الحقيقي.
وأيضاً فإن المبصر إذا قرب من البصر قرباً شديداً خارجاً عن الاعتدال فإن البصر يدرك مقداره أعظم من مقداره الحقيقي ، فيكون غالطاً في مقداره ، ويكون غلطه في القياس، لأن العظم ليس يدرك إلا بالقياس، وتكون علة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لن المبصر الذي يدرك البصر مقداره من القرب الشديد أعظم من مقداره الحقيقي إذا كان على بعد معتدل فإنه يدرك مقداره على ما هو عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.

فأما لم يدرك البصر المبصر من القرب الشديد أعظم من مقداره الحقيقي فإن ذلك لأن البصر إنما يدرك مقدار عظم المبصر من قياس العظم بزاوية المخروط الذي يحيط بذلك المبصر مع القياس بالبعد الذي بين البصر وبين ذلك المبصر. وإذا كان المبصر شديد القرب من البصر فإن زاوية المخروط المحيط به تكون عظيمة المقدار، ويكون البعد الذي إليه تقيس القوة المميزة مقدار المبصر ومن القياس إليه تدرك مقدار المبصر هو بعد المبصر عن سطح البصر، لأن مقدار البعد إنما يدركه البصر من إدراكه الأجسام المرتبة التي تسامت البعد، والبعد الذي تسامته الأجسام المرتبة الذي يدركه البصر دائماً ويقدره دائماً هو بعد المبصر عن سطح البصر. والبعد الذي بالقياس إليه يدرك مقدار المبصر على حقيقته هو البعد الذي بين المبصر ومركز البصر. فبين البعد الذي إليه تقيس القوة المميزة عظم المبصر وبين البعد الذي إليه يجب أن يكون القياس تفاوت مقداره هو نصف قطر كرة البصر. إلا أن الأبعاد المعتدلة التي منها يدرك البصر المبصرات المألوفة وإليها تقيس القوة المميزة أبداً مقادير المبصرات ليس يؤثر في مقاديرها مقدار نصف قطر كرة البصر، فلذلك يدرك البصر مقادير المبصرات من الأبعاد المعتدلة على ما هي عليه ولا يكون بين ما يدركه البصر من مقاديرها وبين مقاديرها الحقيقية تفاوت محسوس. فإذا صار المبصر قريباً جداً من البصر صار البعد الذي بينه وبين سطح البصر يسيراً جداً، وهو الذي إليه تقيس القوة المميزة مقدار المبصر، ويصير التفاوت الذي بين هذا البعد وبين البعد الذي إليه يجب أن يكون القياس، الذي هو مقدار نصف قطر كرة البصر، تفاوتاً له قدر مؤثر، لأن المبصر إذا كان قريباً جداً من البصر، وأدرك البصر مقداره أعظم من مقداره الحقيقي، فقد يكون بعده عن سطح البصر مثل نصف قطر كرة البصر، وربما كان بعده عن سطح البصر أقل من هذا القدر. وإن كان بعده الذي يظهر منه يظهر مقداره أعظم مما هو أكبر من نصف قطر كرة البصر بمقدار يسير البعد الذي يجب أن يكون القياس إليه مساوياً للبعد الذي إليه يقع القياس أو أعظم منه أو عظيم النسبة إلأيه، فيكون إدراك مقدار المبصر إذا كان شديد القرب من البصر من قياس مقدار المبصر بزاوية المخروط المحيط بذلك المبصر، وهي زاوية عظيمة، ومن القياس إلى بعد هو أصغر من البعد الذي يجب أن يكون القياس إليه بمقدار هو مثل البعد الذي إليه يقع القياس أو أعظم منه أو عظيم النسبة إليه. فلذلك يدرك البصر مقدار المبصر إذا كان شديد القرب من البصر أعظم من مقداره الحقيقي. وكلما زاد المبصر قرباً من البصر كان التفاوت الذي بين بعده الذي إليه يقع القياس وبين البعد الذي يجب أن يكون القياس إليه اعظم قدراً. فلذلك كلما ازداد المبصر قرباً من البصر ازداد مقداره في الحس عظماً. فقد تبينت العلة التي من أجلها يدرك البصر مقدار المبصر إذا كان شديد القرب من البصر أعظم من مقداره الحقيقي، وكلما ازداد المبصر قرباً من البصر ازداد مقداره في الحس عظماً.
التفرق وقد يعرض الغلط في التفرق من أجل تفاوت البعد. وذلك أنه إذا كان جسم فسيح الأقطار، وكان مختلف الألوان، وكان واحد من تلك الألوان يقسم سطح ذلك الجسم في مواضع متفرقة أو في موضع واحد، فيعرض من ذلك أن ينقسم سطح ذلك الجسم بذلك اللون في موضع أو في مواضع متفرقة، ويكون اللون الذي يقطع سطح ذلك الجسم من الألوان المظلمة، ويكون الموضع الذي فيه هذا اللون من سطح الجسم ذا عرض مقتدر، فإن البصر إذا أدرك الجسم الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت وأدرك اللون المظلم الذي يقطعه، فإنه يظهر للبصر أنه عدة أجسام متفرقة متجاورة، إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم، وظن بذلك اللون المظلم أنه تفرق بين تلك الأجسام، فيدرك الجسم المتصل متفرقاً. ومن الأجسام التي بهذه الصفة التي يعرض فيها مثل هذا الغلط هي الجدران التي يكون في تضاعيفها أو في وجوهها أخشاب قائمة إذا كان البصر يدركها من بعد متفاوت.

وكذلك إذا كان جسم فسيح الأقطار مسفر اللون وأشرق عليه ضوء الشمس ووقعت مع ذلك عليه أظلال متفرقة تقطع سطح ذلك الجسم ، أو ظل واحد يقطعه، وأدرك البصر الجسم الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت ولم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم ولم يحس في الحال بالأجسام التي منها تلك الأظلال، فإن البصر يدرك الجسم الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت كأنه أجسام متفرقة متجاورة إذا لم يحس بأن المواضع المنكسفة اللون هي اظلال.
وهذا الغلط أيضاً هو غلط في القياس لن التفرق إنما يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لن المبصر المتصل إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدركه متصلاً، وإن كان مختلف الألوان وكان عليه أظلال أو كانت فيه أخشاب، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
الاتصال وقد يعرض الغلط في الاتصال أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أنه إذا كانت مبصرات متشابهة اللون متفرقة وكان عرض التفرق الذي بينها يسيراً، أو كانت متماسة، وأدركها البصر من بعد متفاوت، فإن البصر يدرك المبصرات التي بهذه الصفة جسماً متصلاً إذا لم يكن قد تقدم العلم بتلك الأجسام. وذلك لأن التفرق اليسير والتماس الذي بين المبصرات قد يخفى من البعد البعيد الذي يدرك منه كل واحد من تلك المبصرات إذا كانت تلك المبصرات أفسح أقطاراً من عرض التفرق، وإذا خفي التفرق الذي بين الأجسام أدرك البصر تلك الأجسام متصلة كأنها جسم واحد. ومن المبصرات التي بهذه الصفة الستر التي ربما عملت على رؤوس الحيطان من الألواح الخشب التي يقترن بعضها ببعض. فإن الألواح التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر من بعد متفاوت، ولم يظهر الضوء من مواضع فصولها، فإنه يدركها كأنها جسم واحد متصل ولا يحس بمواضع فصولها. وكذلك الأسرة التي تتخذ من الألواح الخشب، إذا كان السرير من ألواح مقترن بعضها ببعض، فإن البصر إذا أدرك السرير الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت فإنه يدركه كأنه جسم واحد متصل ولا يحس بمواضع الفصول التي بين تلك الألواح. وكذلك كلما جرى هذا المجرى من الأجسام المتضامنة المتشابهة الألوان التي تكون فصولها ضيقة إذا أدركها البصر من بعد متفاوت.
وإذا أدرك البصر الأجسام المتفرقة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط فيما يدركه من اتصالها، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لن الاتصال يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد معتدلة فإن البصر يدرك التفريق والتماس الذي بين تلك المبصرات، ويدرك كل واحد من تلك المبصرات على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
قد يعرض للبصر من غلطه في التفريق وفي الاتصال أن يكون مع ذلك غالطاً في العدد أيضاً. فإنه إذا أدرك المبصرات المتفرقة الكثيرة واحداً، وأدرك المبصر الواحد المتصل كثيراً متفرقاً، فهو غالط في العدد.
الحركة وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا كان ينظر إلى القمر أو إلى كوكب من الكواكب، ثم تحرك الناظر على وجه الأرض وهو في حال حركته ناظر إلى القمر أو الكوكب، فإنه يرى القمر أو الكوكب سائراً معه. وإذا وقف الناظر في موضعه، ونظر إلى القمر أو الكوكب، فإنه يدرك القمر والكوكب في زمان له قدر محسوس ساكناً لا يتحرك. فيكون الناظر المتحرك إذا أدرك القمر والكوكب متحركاً بحركته غالطاً فيما يدركه من حركته، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس، لأن الحركة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الساكن والمبصر المتحرك حركة بطيئة، إذا كان على بعد معتدل، وكان الناظر الذي ينظر إليه متحركاً، فليس يدركه متحركاً بحركته بل يدرك الساكن ساكناً، ويدرك حركة المتحرك البطيء الحركة على ما هي عليه، ويدرك أنه غير متحرك بحركته إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.

فأما لم يدرك البصر القمر والكواكب متحركة بحركته فإن ذلك لأن المسافة التي يقطعها الناظر المتحرك من سطح الأرض في الزمان اليسير ليس لها قدر محسوس عند بعد القمر والكواكب عند البصر وعند جسم الناظر في الزمان الذي يقطع فيه الناظر المتحرك المسافة التي فيها يدرك القمر أو الكواكب متحركاً. وإذا لم يتغير وضع المبصر عند البصر وعند جسم الناظر، وكان الناظر مع ذلك متحركاً، فإن الناظر إذا وجد وضع المبصر منه في الحال الثانية شبيهاً بوضعه منه في الحال الأولى، ووجد المبصر مسامتاً له على مثل ما كانت مسامتته له، وكان الناظر يحس أنه قد انتقل عن الموضع الأول الذي كان فيه. فإنه يدرك ذلك المبصر منتقلاً بانتقاله، لأن البصر ليس يدرك مبصراً من المبصرات المألوفة ويدرك وضعه منه وضعاً واحداً لا يتغير ويكون الناظر مع ذلك متحركاً إلا إذا كان ذلك المبصر متحركاً حركة مساوية لحركة الناظر إليه وفي الجهة التي يتحرك إليها الناظر. فلذلك إذا كان الناظر متحركاً، وكان مع ذلك ينظر إلى القمر أو إلى كوكب من الكواكب، أدرك القمر والكوكب كأنهما متحركان معه حركة مساوية لحركته. وكذلك أيضاً الغلط في حركة القمر إذا أدركه الناظر من وراء السحاب الرقيق، فإنه يظن القمر متحركاً حركة سريعة، وتكون علة غلطه هو تفاوت بعده، ويكون طريق غلطه هو قياس القمر إلى أجزاء السحاب. وقد ذكرنا هذا المعنى من قبل.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من اجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، وهو ان المبصر إذا كان يتحرك حركة بطيئة، وكان البصر يدركه من بعد متفاوت، ولم يطل البصر النظر إلى ذلك المبصر، وكان ذلك البصر ربما لم يدرك حركة ذلك المبصر، وإذا لم يدرك البصر حركة المبصر فإنه يظنه ساكناً. وكذلك صار البصر إذا نظر إلى الكواكب أدركها في الحال ساكنة ولم يحس بحركتها مع سرعة حركتها. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن البصر إنما يدرك السكون بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر إذا كان على بعد معتدل، وكان متحركاً حركة مساوية لحركة الكوكب، فإن البصر يدرك حركته في الزمان الذي تخفى فيه حركته من البعد المتفاوت الذي يدركه فيه ساكناً.
فأما لم صار البصر يدرك المتحرك من البعد المتفاوت إذا لم يطل النظر إليه ساكناً فإن ذلك لأن المبصر إذا كان على ب متفاوت مسرف التفاوت فإنه يقطع في زمان محسوس مسافة غير محسوسة بالقياس إلى ذلك البعد على أي صفة كانت حركته، مستقيمة كانت حركته أو مستديرة، أعني أنه قد يقطع في زمان محسوس مسافة لا يدركها البصر من ذلك البعد. والبصر إنما يدرك المبصر ساكناً إذا أدركه في زمان محسوس على وضع واحد بالقياس إلى البصر أو إلى جسم من الأجسام. وإذا كان المبصر يتحرك ويقطع في زمان محسوس مسافة غير محسوسة من البعد المتفاوت، فإن البصر إذا نظر إلى المبصر الذي بهذه الصفة من ذلك البعد المتفاوت ولم يثبت في مقابلته إلا زماناً يسيراً فإن المبصر في ذلك القدر من الزمان قد يقطع مسافة غير محسوسة بالقياس إلى ذلك البعد. وإذا كان المبصر يقطع في ذلك القدر من الزمان مسافة غير محسوسة بالقياس إلى ذلك البعد، كان البصر يدرك ذلك المبصر من ذلك البعد في ذلك القدر من الزمان على وضع واحد بالقياس إلى البصر نفسه ويظن أنه لم يتغير وضعه، وإذا أدرك البصر المبصر على وضع واحد زماناً محسوساً فهو يدركه ساكناً، فلهذه العلة صار البصر يدرك المبصر المتحرك من البعد المتفاوت ساكناً إذا لم يطل النظر إليه.

وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً على وجه آخر. وذلك إذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات من بعد متفاوت وكان ذلك المبصر متحركاً حركة على الاستقامة في سمت المسافة الممتدة بين البصر وذلك المبصر الموازية لخطوط الشعاع الممتدة إلى ذلك المبصر، ولم تكن حركة في غاية السرعة، فإن البصر إذا أدرك المبصر الذي على هذه الصفة فإنه يدركه في الحال ساكناً ولا يحس بحركته إن كانت حركته في جهة التباعد أو إن كانت في جهة التقارب. وذلك لأن البصر إنما يدرك الحركة المستقيمة إذا أدرك المتحرك يسامت جسماً من الأجسام وأدركه يسامت من ذلك الجسم جزءاً بعد جزء، أو يدركه يسامت أجساماً مختلفة جسماً بعد جسم، أو يدرك المسافة التي يقطعها المتحرك في حال إحساسه بالحركة. لأنه إذا أدرك المسافة التي يقطعها المتحرك فقد أدرك المتحرك مسامتاً للجزء من الجسم المسامت لأول المسافة ثم أدركه مسامتاً للجزء من ذلك الجسم المسامت لآخر تلك المسافة. فعلى هذه الوجوه يدرك الحركة.
وإذا كان المتحرك على بعد متفاوت، وكانت حركته على سمت الشعاع الممتد إليه من البصر، وأدركه البصر زماناً يسيراً، فإن البصر لا يدرك المسافة التي قطعها ذلك المتحرك في ذلك القدر من الزمان. لن البصر يدرك المتحرك الذي على هذه الصفة على سمت واحد وعلى وضع واحد إذا كان متحركاً على سمت خطوط الشعاع الممتدة إليه من البصر. وإذا كان المتحرك الذي بهذه الصفة متحركاً على وجه الأرض فإن البصر لا يدرك المسافة التي تحرك عليها لتفاوت البعد. وليس يدرك البصر حركة المتحرك الذي بهذه الصفة إلا إذا أحس بأنه قد قرب أو قد بعد. وليس يحس ببعده وقربه من البعد المتفاوت إلا إذا قطع مسافة مقتدرة، لأنه إن كانت حركته في جهة التباعد فليس يحس بحركته إلا إذا تصاغر مقداره أو أدرك المسافة التي قطعها، وإن كانت حركته في جهة التقارب فليس يحس بحكته إلا إذا عظم مقداره أو أدرك المسافة التي قطعها. وليس يتصاغر مقدار المبصر بعد أن أدركه البصر من البعد المتفاوت ولا يتعاظم إلا إذا قطع مسافة مقتدرة. ولا يدرك البصر أيضاً المسافة التي يقطعها المبصر المتفاوت البعد إلا إذا كانت مقتدرة. فإذا أدرك البصر المبصر الذي على هذه الصفة، ولم يثبت في مقابلته إلا زماناً يسيراً، ولم تكن حركته شديدة السرعة، فليس يحس البصر بحركته لأنه ليس يقطع في الزمان اليسير مسافة مقتدرة يصح أن يدركها البصر من البعد المتفاوت أو يتصاغر أو يتعاظم.
وإذا لم يحس البصر بحركة المبصر فإنه يظنه ساكناً، وإذا أدرك البصر المبصر المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه، ويكون غلطاً في القياس لأن السكون ليس يدرك إلا بقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال لن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان على بعد معتدل، وكان على وجه الأرض أو مسامتاً لجسام مرتبة، فإن البصر يدرك وجه الأرض، ويدرك الأجسام المرتبة التي تسامت بعده، ويدرك المسافة التي يقطعها ذلك البصر المتحرك في الزمان اليسير الذي يدرك في مثله الحركات، إذا لم تكن حركته في غاية البطء، ويدرك حركته على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
الخشونة وقد يعرض الغلط في الخشونة أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك

يكون كثيراً في التزاويق. فإن المزوقين يشبهون ما يزوقونه من الصور والتزاويق بأمثالها من الأجسام المشاهدة، وقد يتأتون لتشبيه الحيوانات والأشخاص المعينة والنبات والآلات وسائر المبصرات المجسمة وسائر المعاني التي فيها بالصور المسطحة وفطنوا لمواضع التشبيه فهم يتلطفون في ذلك بالأصباغ والنقوش، فإذا صوروا صور الحيوانات ذوات الشعر والجشر والنبات ذوات الزغب والأوراق الخشنة السطوح والجمادات الخشنة الظاهرة الخشونة فهم يشبهونها بالنقوش والتخاطيط واختلاف الأصباغ بما يظهر من خشونة سطوح تلك الحيوانات وذلك النبات وتلك الجمادات، وتكون الصور التي يعملونها مع ذلك مسطحة ملساً وصقيلة أيضاً. وكذلك يصورون أشخاص الناس ويشبهون تخاطيط وجوههم وأجسامهم وما فيها من الشعر والمسام والغضون وتكاسير ملابسهم بما يظهر للحس من صور أشخاص الناس وخشونة ما يظهر من أبشارهم بالشعر والمسام وتكاسير لباسهم. والبصر يدرك الصور المصورة شبيهة بصورها التي هي شبيهة بها كان مزوقها حذاقاً بصناعة التزاويق. فإذا أدرك البصر صورة مصورة على حائط أو على خشب أو على قرطاس، وكانت تلك الصورة من صور الحيوانات ذوات الشعر والجشر، فإن البصر يدرك الشعر منها كأنه شعر والجشر منها كأنه جشر. وكذلك إذا أدرك البصر صور النبات الخشنة الأوراق فإنه يدركها كأنها خشنة، وكذلك يدرك صور الجمادات الظاهرة الخشونة، وكذلك يدرك صور أشخاص الناس المصورة كأنها صور مجسمة، وكان ما فيها من صور الشعر المتفرق شعر وما فيها من الغضون كأنه غضون وما في تكاسير اللباس التي على الصور المصورة كأنها تكاسير الثياب التي يلبسها الناس مع ملاسة سطوح تلك الصور وصقالها.
وإذا أدرك البصر الصورة الملساء خشنة فهو غالط في خشونتها، وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن الخشونة إنما تدرك بالقياس. وهذا الغلط قد يكون لعلة من العلل التي من اجلها يعرض للبصر الغلط. فمنها ما تكون علته هو بعد الصورة عن البصر، وذلك أن الصورة المصورة التي بهذه الصفة ليس يتحقق البصر ملاستها إلا بالتأمل، وليس يتمكن البصر من تأملها إلا إذا كانت قريبة من البصر شديدة القرب منه، لأنه ليس يظهر تطامن سطح المبصر وملاسته بالتأمل إلا من تأمل أجزاءه التي في غاية الصغر، والأجزاء التي في غاية الصغر ليس يدركها البصر إلا من القرب الشديد. وإذا كانت الصورة على بعد ليس يدرك منه البصر وضع الأجزاء التي في غاية الصغر التي يظنها من ذلك البعد أنها شاخصة ومختلفة الوضع، ولا يدرك استواء وضع جميع أجزاء السطح، فليس يدرك ملاسة سطح تلك الصورة.
وأيضاً فإن الخشونة التي تظهر للبصر في سطوح الصور المصورة قد تظهر من بعد ليس في غاية القرب، وليس يدرك البصر ملاسة سطوح الصور المصورة الشبيهة بالمبصرات الخشنة السطوح من صورة الضوء الذي يظهر في سطوحها التي يعرفها البصر في سطوح المبصرات الملس إذا لم يتقدم العلم بملاسة سطوح تلك الصور، لأن صور سطوح هذه الصور المصورة التي تظهر للبصر خشنة هي أشبه بصور السطوح الخشنة من صورة الضوء التي فيها بصور الأضواء التي في السطوح الملس لما قد تلطف في المزوقون من شدة تشبيهها بالسطوح الخشنة. فليس يدرك البصر ملاسة ما هذه صفته من الصور المصورة إلا بالتأمل المحقق. وليس يتمكن البصر من تأمل سطوح هذه الصور ويتحقق ملاستها إلا بالقرب الشديد. فإذا أدرك البصر صورة من هذه الصور من بعد مقتدر ليس في غاية القرب من البصر فهو يدركها خشنة السطح ولا يدرك ملاستها في الحال. والبعد المعتدل الذي منه يدرك البصر ملاسة الصور التي بهذه الصفة هو البعد اليسير الذي يظهر منه للبصر بالتأمل حقيقة ملاستها.

وقد يظهر صقال هذه الصور إذا كانت صقيلة من البعد المقتدر الذي تظهر منه خشونتها الغليظة، وذلك إذا كان وضع سطح الصورة الوضع الذي ينعكس منه الضوء إلى البصر، الذي هو لمعان الصقال. إلا أن سطوح الأجسام قد يجتمع فيها الصقال والخشونة معاً، إذا كانت أجزاؤها مختلفة الوضع، وكانت سطوح الأجزاء المختلفة الوضع صقيلة، وكانت الأجزاء الصقيلة متراصة ومتكاثفة كالشعر والأصداف وما جرى مجراها، فيكون السطح بجملته خشناً ويكون كل واحد من أجزائه المختلفة الوضع صقيلاً. وما هذه حاله من السطوح إذا انعكس الضوء عنها إلى البصر، أدرك البصر صقالها مع اختلاف وضع الأجزاء. وكثيراً ما يظهر الصقال في سطوحالأجسام المشعرة والتي فيها أجزاء مختلفة الوضع وتشتبه في الحال على البصر أنها مشعرة أو أجزاؤها مختلفة الوضع.
وإذا كان ذلك كذلك فليس يتحقق البصر ملاسة السطح إذا أدرك صقاله من بعد مقتدر معهما قد تقرر في النفس أن الصقال قد يجتمع مع الخشونة، فليس يتحقق البصر ملاسة ما هذه حاله من السطوح إلا من القرب الشديد. والصور المصورة المشبهة بالمبصرات الخشنة السطوح التي تظهر خشونتها من البعد المقتدر ليس يدرك البصر ملاستها وصقالها إلا من القرب الشديد، وهو بعدها المعتدل الذي تدرك منه ملاستها. والبعد المقتدر الذي يدرك منه خشونتها الغليظة هو بعد خارج عن الاعتدال بالقياس إلى تلك الصورة. فالغلط الذي يعرض للبصر فيما يدركه من خشونة سطوح الصور المصورة التي يشبهها المزوقون بالمبصرات الخشنة السطوح مع ملاسة سطوحها، إذا كانت على أبعاد مقتدرة ولم تكن شديدة القرب من البصر، إنما هو من أجل خروج بعد تلك الصور عن عرض الاعتدال الذي منه يدرك البصر ملاسة تلك الصور، الذي هو المسافة القريبة من البصر، لأن تلك الصور إذا كانت قريبة من البصر الذي هو بهدها المعتدل الذي يدرك منه ملاستها، أدرك البصر ملاستها على ما هي عليه ولم يدركها خشنة ولم يعرض له الغلط في خشونتها إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الملاسة وقد يعرض الغلط في الملاسة أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك ان المبصر الذي فيه خشونة يسيرة إذا كان على بعد متفاوت فليس يظهر للبصر خشونته وإن لم يكن البعد مسرف التفاوت. وذلك لأن الخشونة إنما يدركها البصر من إدراكه لاختلاف وضع أجزاء سطح المبصر، أو من إدراك اختلاف صورة الضوء الذي يكون في سطح المبصر. وإذا كانت الخشونة يسيرة فإن أجزاء سطح المبصر المختلفة الوضع تكون في غاية الصغر. وإذا كانت في غاية الصغر لم تتميز للبصر، ولم يتميز اختلاف أوضاعها للبصر من البعد المتفاوت، وإن لم يكن مسرف التفاوت. وإذا كانت الخشونة يسيرة فإن الاختلاف الذي في صورة الضوء يسيراً لم يظهر ذلك الاختلاف من البعد المتفاوت، ولم يفرق البصر بين الضوء الذي في ذلك السطح وبين صورة الضوء الذي يكون في السطح الأملس من البعد المتفاوت. وإذا لم يدرك البصر اختلاف أوضاع أجزاء المبصر، ولم يدرك اختلاف صورة الضوء الذي في سطح المبصر، لم يدرك خشونة المبصر، فهو يدرك ذلك المبصر كما يدرك الأجسام الملس التي سطوحها متشابهة الوضع، ولا يفرق بين السطح الخشن وبين السطح الأملس. فإذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات الخشنة السطوح من البعد المتفاوت فليس يدرك الخشونة التي فيها. وإذا لم يدرك الخشونة التي في سطح المبصر، ولم يكن بعد المبصر من البعاد المسرفة التفاوت، فهو يشبه صورته بصورة أمثاله من المبصرات الملس ويظنه أملس إذا لم يتقدم علم الناظر بخشونة ذلك المبصر.
وإذا ظن البصر بالخشن أنه أملس فهو غالط في ملاسته. والغلط في الملاسة هو غلط في القياس لن الملاسة إنما تدرك بالقياس. وعلة هذا الضغط هو خروج بعد لمبصر عن عرض الاعتدال، لن المبصرات التي في سطوحها خشنة إذا كانت على أبعاد معتدلة بالقياس إلى تلك المبصرات فإن البصر يدرك خشونتها ولا يدركها ملساً إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الشفيف

وقد يعرض الغلط في الشفيف أيضاً على وجه من الوجوه من اجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الناظر إذا قرب إلى إحدى عينيه جسماً كثيفاً دقيق الحجم كالخلالة أو الإبرة أو ما جرى مجرى ذلك وستر العين الأخرى، وكان قبالته جسم مسرف اللون كالحائط الأبيض أو غيره من الأجسام البيض ، وكان بعد الحائط من البصر بعداً مقتدراً وليس بالمتفاوت، فإن البصر يدرك المقدار الذي يدركه البصر من الجسم المسفر اللون المقابل للبصر جزءاً عرضه العرض الذي يظهر لذلك الجسم الكثيف الدقيق الحجم. ومع ذلك فإن البصر يدرك الجزء المستتر من الجسم المسفر اللون المقابل له كما يدرك الأجسام من وراء الجسم المشف، ويدرك ذلك الجسم الدقيق الحجم إذا كان شديد القرب من البصر كأنه مشف لأنه يدرك ما وراءه وأحس بأن الذي يدركه من ورائه هو غيره فهو يدرك ذلك الجسم مشفاً. وإذا كان ذلك الجسم كثيفاً وأدركه البصر مشفاً فهو غالط فيما يدركه من شفيفه، والغلط في الشفيف هو غلط في القياس لأن الشفيف ليس يدرك إلا بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في القرب، لأن المبصر الدقيق الحجم إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدركه كثيفاً ولا يدرك ما وراءه إذا كانت المعاني التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
فأما لم إذا قرب الجسم الكثيف الدقيق الحجم من البصر قرباً شديداً أدركه البصر مشفاً فإن ذلك لعلة تتبين من بعد هذا القول، ونحن نبين هذا المعنى بياناً واضحاً في الموضع اللائق به. فأما عظم عرضه الذي يظهر للبصر عند قربه من البصر فإن للعلة التي ذكرناها عند كلامنا في العظم، أعني العلة في المبصر إذا قرب من البصر قرباً شديداً أدركه البصر أعظم مما هو.
الكثافة وقد يعرض الغلط في الكثافة أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أن الجسم المشف الذي شفيفه يسير إذا كان لون قوي، وكان وراءه جسم متلون أو موضع مظلم، فإن البصر إذا أدركه من بعد متفاوت فإنه يدركه كثيفاً ولا يدرك شفيفه، إذا لم يتقدم علم الناظر بشفيف ذلك المبصر. وذلك أن البصر إذا أدرك المبصر المشف من البعد المتفاوت، وكان المشف ذا لون قوي، فإن البصر يدرك لونه. فإن كان وراءه جسم متلون أو مكان مظلم، وكان ذلك اللون أو تلك الظلمة تظهر من وراء الجسم المشف، فإنه يظهر ممتزجاً بلون الجسم المشف، ولا يتميز للبصر من البعد المتفاوت لون الجسم المشف من اللون الذي يظهر من ورائه. فإذا كان الجسم المشف ذا لون قوي ، وكان وراءه جسم متلون أو مكان مظلم، وكان البصر يدرك ذلك المبصر من بعد متفاوت، فليس يتميز للبصر شفيفه، وإذا لم يتميز للبصر شفيفه أدركه كثيفاً.
وإذا أدرك البصر المبصر المشف كثيفاً فهو غالط في كثافته، وهذا الغلط هو غلط في القياس لن الكثافة إنما تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط إنما هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر المشف إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك شفيفه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الظل وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر النقي البياض الفسيح الأقطار كالجدران البيض والمواضع من الأرض النقية البياض، إذا كان في تضاعيفها موضع أو مواضع ترابية اللون أو منكسفة اللون، وأشرق على المبصر الذي بهذه الصفة ضوء الشمس أو ضوء القمر أو ضوء النار، وأدركه البصر من بعد متفاوت، ولم يتقدم علم الناظر بذلك المبصر، فإن البصر يدرك الضوء الذي على المواضع البيض من ذلك المبصر ضوءاً مشرقاً ولا يشك فيه ويدرك الضوء على الأجزاء الترابية والمنكسفة الألوان منكسراً.

وإذا أدرك البصر الضوء في بعض المواضع من الجدران ومن سطح الأرض منكسراً، فإنه ربما ظنه من أجل انكساره ظلاً، وأن الضوء الذي في سطح ذلك الجدار أو في ذلك الموضع من الأرض ليس بمتشابه، وخاصة إذا كان المبصر الذي بهذه الصفة فيما بين جدران وأشخاص يحتمل أن تكون تلك المواضع المنكسفة والترابية أظلالاً لها. وإذا أدرك المواضع المضيئة التي لا ظل عليها مستظلة فهو غالط فيما يدركه من استظلالها. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن الظل يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان على بعد معتدل فإن البصر يدرك ألوانه على ما هي عليه ويدرك الضوء الذي فيه على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
وقد يعرض الغلط في الظلمة أيضاً من أجل تفاوت البعد. وذلك أن المبصر إذا أدرك جداراً أبيض نقي البياض من بعد متفاوت، وكان في ذلك الجدار جسم أسود كالمرايا التي تكون في الحيطان وكالأبواب التي تتخذ من الأخشاب السود، ولم يتقدم علم الناظر بذلك الجدار وبتلك الجسام السود، فإن البصر ربما ظن بتلك الأجسام السود أنها كوى ومنافذ تفضي إلى مواضع مظلمة وأن ذلك السواد إنما هو مظلمة.
وإذا أدرك البصر الجسم الأسود ظلمة فهو غالط فيما يدركه من الظلمة، وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن الظلمة إنما تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا أدركه البصر من بعد معتدل فإنه يدركه على ما هو عليه ويدرك الأجسام السود أجساماً ولا يعرض له الغلط في مائيتها إذا كانت المعاني الباقية في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الحسن وقد يعرض الغلط في الحسن أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر الحسن الصورة إذا كانت فيه وشوم أو غضون أو مسام أو آثار أو خشونة أو معان لطيفة تشين حسنه وتكسف صورته، فإنه إذا بعد عن البصر بعداً تخفى منه تلك الوشوم وتلك المعاني اللطيفة ولا يكون بعداً مسرفاً فإن صورته تظهر من ذلك البعد مستحسنة. والبعد الذي تخفى منه المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر هو خارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر، لأن البعد المعتدل بالقياس إلى المبصر هو البعد الذي يظهر منه جميع المعاني التي في ذلك المبصر ويدرك منه المبصر على ما هو عليه.
وإذا أدرك البصر المبصر الذي ليس بحسن حسناً، وأدرك صورته خالية من المعاني التي تشينه وتكسف حسنه، ولم يشك في حسنه مع خفاء المعاني اللطيفة التي فيه، فهو غالط فيما يدركه من حسنه. وهذا الغلط هو غلط في القياس، لأن الحسن يدرك بالقياس، ولأن هذا الغلط إنما هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة فقط وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان على بعد معتدل بالقياس إلى ذلك المبصر فإن البصر يدرك صورته غير مستحسنة، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
القبح وقد يعرض الغلط في القبح من أجل خروج بعد المبصر إذا كان ذا لون غير مستحسن أو شكل غير مستحسن أو هيئة غير مستحسنة، أو مجموع ذلك، وكانت فيه نقوش وتخاطيط وأجزاء صغار ومعان لطيفة، وكانت تلك التخاطيط وتلك المعاني الطيفة مستحسنة، وكان ذلك المبصر مستحسناً من أجل تلك المعاني التي فيه، فإن ذلك المبصر إذا أدركه البصر من بعد خارج عن الاعتدال ولم تظهر تلك المعاني التي فيه التي منها يظهر حسنه فإن البصر يدرك ذلك المبصر قبيحاً غير مستحسن، وربما لم يشك في قبحه، إذا لم يتقدم العلم بما في ذلك المبصر من المحاسن.

وإذا أدرك البصر المبصر المستحسن قبيحاً من غير أن يستقرئ جميع المعاني التي فيه ولم يشك مع ذلك في قبحه فهو غالط فيما يدركه من قبحه.وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن القبح يدرك بالقياس ولأن هذا الغلط هو من تعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها مع خفاء المعاني اللطيفة التي في ذلك المبصر. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا أدركه البصر من بعد معتدل بالقياس إلى ذلك المبصر فإنه يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال. وإذا أدرك البصر المعاني اللطيفة التي تكون فيه التي بها تحسن صورته فإنه يدركه مستحسناً.
التشابه وقد يعرض الغلط في التشابه أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال على الوجه الذي تقدم. وذلك أن المبصرين إذا كانت فيهما معان لطيفة مختلفة، أو كانت فيهما أجزاء صغار مختلفة في الشكل أو في الوضع أو في المقدار أو في مجموع ذلك، وكان المبصران مع ذلك متشابهين في اللون أو في جملة الشكل أو في العظم أ وفي مجموع ذلك، فإن البصر إذا أدرك المبصرين اللذين على هذه الصفة من بعد تخفى منه المعاني اللطيفة التي يختلفان فيها، وربما لم يشك في تشابههما ولم يحكم لهما بشيء من الاختلاف. والبعد الذي تخفى منه المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر هو بعد خارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر.
وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين بوجه من الوجوه متشابهين على الطلاق ولم يشك في تشابههما فهو غالط في تشابههما. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن التشابه ليس يدرك بالقياس ولأن هذا الغلط إنما هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال لن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كانت على أبعاد معتدلة بالقياس إلى المبصرات فإن البصر يدرك صورها على ما هي عليه، ويدرك الاختلاف الذي فيها ولا يعرض له الغلط في تشابهها واختلافها، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الاختلاف وقد يعرض الغلط في الاختلاف أيضاً من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصرين إذا كانا متشابهين في معان لطيفة تكون فيهما، وكانا مختلفين في لونيهما أو شكليهما أو عظميهما أو في المعاني الظاهرة التي تكون فيهما، فإن ذينك المبصرين إذا أدركهما البصر من بعد تخفى منه المعاني اللطيفة التي فيهما التي يتشابهان فيها ويظهر منه المعاني الظاهرة التي فيهما، فإن البصر يدرك ذينك المبصرين مختلفين ولا يحكم لهما بشيء من التشابه. وربما قطع باختلافهما ولم يشك في ذلك إذا لم يدرك المعاني التي يتشابهان فيها في حال إدراكهما وأدرك في الحال المعاني التي يختلفان فيها، والبعد الذي تخفى منه المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر التي بها يدرك حقيقة صورة المبصر هو بعد خارج عن الاعتدال بالقياس إلى ذلك المبصر.
وإذا أدرك البصر المبصرين المتشابهين بوجه من الوجوه مختلفين على الإطلاق، ولم يحس بشيء من تشابههما، ولم يشك في اختلافهما، فهو غالط فيما يدركه من اختلافهما. والغلط في الاختلاف هو غلط في القياس لن الاختلاف ليس يدرك إلا بالقياس ولأن هذا الغلط إنما هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة فقط وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر من أبعاد معتدلة فإنه يدرك تشابهها ويدرك صورها على ما هي عليه ولا يعرض له الغلط في تشابهها واختلافها إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج أبعاد المبصرات عن عرض الاعتدال.

غلط البصر في القياس من أجل وضع المبصر
عن عرض الاعتدال
البعد

فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، إذا عرض الغلط في مقدار البعد، فكالشخصين القائمين على وجه الأرض إذا كانا على سمت واحد بالقياس إلى البصر، وكان أحدهما يستر بعض الآخر، وكان البصر يدركهما جميعاً، وكان البصر مع ذلك لا يدرك سطح الأرض المتوسط منهما لاستتار المسافة التي بينهما بالشخص المتقدم منهما، فإن البصر يدرك الشخصين اللذين بهذه الصفة كأنهما متماسان أو متقاربان، ولا يحس بالبعد بينهما، إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بذينك الشخصين، ولم يكن رأى البعد الذي بينهما قبل ذلك الوقت، وإن كان أبعدهما من الأبعاد المعتدلة إذا لم يكن شديد القرب من البصر.
وإذا أدرك البصر الشخصين المتباعدين متماسين أو متقاربين فهو غالط فيما يدركه من بعد أحدهما. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن البعد يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع البعد الذي بين ذينك الشخصين عن عرض الاعتدال بامتداده على استقامة سمت خطوط الشعاع الذي يمتد إلى الشخصين، لأن الشخصين اللذين بهذه الصفة إذا كان البعد الذي بينهما معترضاً وقاطعاً لخطوط الشعاع فإن البصر يدرك البعد الذي بينهما ويدرك مقدار بعد كل واحد منهما إذا كانت المعاني الباقية التي في ذينك الشخصين في عرض الاعتدال.
الوضع وقد يعرض الغلط في وضع المبصر أيضاً من أجل خروج وضعه عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كان صغير الحجم، وكان خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عن السهم، وكان البصر مع ذلك محدقاً إلى مبصر آخر وسهم الشعاع على المبصر الذي يحدق إليه، وكان سطح المبصر البعيد عن السهم مائلاً عن سمت المواجهة ميلاً يسيراً، أعني أن يكون سطح المبصر مائلاً عن الخط المتوهم الذي يخرج من ذلك السطح إلى السهم المشترك ويكون عموداً عليه، ويكون ميله عن وضع هذا الخط ميلاً ليس بالمتفاوت، فإن البصر ليس يدرك ميل المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان بعيداً عن السهم وكان مع ذلك صغير الحجم، ولا يفرق البصر بين وضع المبصر المائل عن سمت المواجهة وبين المبصر الذي على سمت المواجهة إذا كان المبصر خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه وكان صغير الحجم، وذلك لأن المبصر البعيد عن سهم الشعاع ليس يدرك البصر صورته إدراكاً محققاً ولا يتمكن من تأمله وتمييز وضع سطوحه، وليس الخط المعترض الذي يحد سمت المواجهة موجوداً عند الإبصار المألوف فيقيس البصر وضع سطح المبصر في الحال إليه. وإذا لم يتحقق البصر صورة المبصر ولم يجد أمارة ظاهرة يقيس بها وضع سطح المبصر في الحال، ولم يكن ميل المبصر في الحال عن سمت المواجهة ميلاً متفاوتاً، فإنه يدرك ذلك المبصر على سمت المواجهة ولا يفرق بين وضعه وبين وضع المبصرات التي يدركها على سمت المواجهة، لأن الميل اليسير في أوضاع المبصرات ليس يدركه البصر إلا مع تحقق صورة المبصر وبالتأمل المستقصى، وإذا كان البصر محدقاً إلى مبصر آخر ومتأملاً له فليس يدرك المبصر الخارج عن سهم الشعاع إدراكاً محققاً ولا يتمكن من تحققه.
الشكل وإذا أدرك البصر المبصر المائل عن سمت المواجهة على سمت المواجهة ولم يفرق بينه وبين المواجهة فهو غالط في وضعه. وهذا الغلط هو غلط في القياس لأن الوضع يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر إذا كان مقابلاً لوسط البصر وكان على سهم الشعاع أو قريباً منه فإن البصر يدرك وضعه على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.

وقد يعرض الغلط في شكل المبصر أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر المستدير الشكل، كالطاس أو الكأس أو القصاع وما أشبه ذلك، إذا كان سطح استدارته مائلاً خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً، وكان أكثر جسم ذلك المبصر مستتراً لا يدركه البصر، وكان ذلك المبصر خارجاً عن سهم الشعاع، وكان سهم الشعاع على مبصر آخر والناظر محدق إلى ذلك المبصر الآخر، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بمائية ذلك المبصر ولا أدرك البصر استدارة ذلك الشكل قبل ذلك الوقت، فإن البصر في حال ملاحظته للشكل المستدير المقعر الذي بهذه الصفة يدركه مستطيلاً إذا كان سطح استدارته مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً ولم يكن في غاية القرب من البصر وكان خارجاً عن سم الشعاع. وإذا لم يكن قد تقدم علم الناظر باستدارته فإنه لا يشك في استطالته.
وكذلك المبصر المربع الأحرف كالحياض والصناديق المربعة وما أشبهها فإن سطوح أفواهها المربعة إذا كانت خارجة عن مقابلة وسط البصر، فإن البصر يدركها مستطيلة، وإن كان بعدها من البعاد المعتدلة، إذا لم تكن قريبة من البصر.
وقد تقدم القول في علة ذلك، وهي أن المبصر المائل المسرف الميل إذا لم يكن قريباً من البصر فليس يتحقق البصر مقدار ميله وإن كان بعده من الأبعاد المعتدلة التي يصح أن يدرك منها حقيقته إذا كان على غير ذلك الموضع، وأن المبصر الخارج عن سهم الشعاع ليس يتحقق البصر صورته. وإذا لم يتحقق البصر مقدار ميل المبصر فليس يدرك عرضه المائل على ما هو عليه، بل يدرك مقدار عرضه المائل أصغر من مقداره الحقيقي. وإذا أدرك البصر عرض المبصر أصغر من مقداره الحقيقي، وهو يدرك طوله المواجه على مقداره الحقيقي، فإنه يدرك شكله من أجل اختلاف مقداري طوله وعرضه مستطيلاً إن كان مستديراً وإن كان مربعاً متساوي الأضلاع. فإن كان مربعاً مستطيلاً أدرك استطالته أكبر مما هي عليه إن كان عرضه هو المائل، وإن كان طوله هو المائل أدرك استطالته أقل مما هي عليه أو أدركه متساوي الأضلاع إذا كان التفاضل الذي بين طوله وعرضه يسيراً.وإذا أدرك البصر شكل المبصر على خلاف ما هو عليه فهو غالط في شكله، ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الشكل يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كان استدارتها وتربيعها مواجهاً للبصر أو قريباً من المواجهة فإن البصر يدرك أشكالها على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال. وهذا المعنى بعينه هو غلط في العظم أيضاً مع الغلط في الشكل، لن المبصر المستدير والمربع اللذين يدركهما البصر مستطيلين على الصفة التي وصفناها إنما يدركهما البصر مستطيلين من أجل أنه يدرك مقدار عرض كل واحد منهما أصغر من مقداره الحقيقي فهو غالط في عظمه.

وقد يعرض الغلط في العظم من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال على وجه آخر أيضاً. وذلك أن البصر إذا أدرك أشخاصاً قائمة على وجه الأرض، وكانت تلك الأشخاص متساوية ومتتالية وعلى سمت واحد،وكان البصر على سمتها وكان أرفع منها في السمك، فإن البصر إذا أدرك تلك الأشخاص، ولم يكن أدركها من قبل ذلك الوقت ولا يحقق مقاديرها، ولم يكن تقدم علم الناظر بتساويها، فإن البصر يدركها في الحال مختلفة المقادير، ويدرك كل واحد منها أعظم من الذي قبله، ويدرك أبعدها أعظمها. لأن البصر إذا كان أرفع من الأشخاص القائمة وكانت الأشخاص على سمت واحد، وكان البصر على سمتها، وكانت الأشخاص متساوية، فإن كل واحد منها يستر بعض الشخص الذي وراءه، ويكون خط الشعاع الذي يمتد إلى طرف الشخص الثاني أرفع من خط الشعاع الذي يمتد إلى طرف الشخص الأول. وكذلك خط الشعاع الذي يمتد إلى طرف الشخص الثالث يكون أرفع من خط الشعاع الذي يمتد إلى طرف الشخص الثاني. وقد تبين فيما تقدم أن البصر يدرك سموت خطوط الشعاع، فإذا أدرك البصر الأشخاص التي بهذه الصفة فإنه يظن بالمتأخر منها أنه أرفع من المتقدم. والمألوف من الأشخاص القائمة على وجه الأرض إذا كانت مختلفة أن الأعظم منها يكون ارفع من الأصغر. فإذا أدرك البصر الأشخاص القائمة على وجه الأرض على الموضع الذي وصفناه، ووجد بعضها في الحس أرفع من بعض، ولم يتقدم علمه بتساويها فإنه يظن بالأرفع منها أنه أعظم، وإن كانت أبعادها من البعاد المعتدلة.
وإذا أدرك البصر المبصرات المتساوية المقادير مختلفة المقادير فهو غالط في أعظامها، والغلط في العظم هو غلط في القياس. والسبب الذي من اجله عرض الغلط في هذا القياس هو اختلاف أوضاع خطوط الشعاع الخارجة إلى الأشخاص التي بهذه الصفة واستمال القوة المميزة في الحال أن ما هو أرفع فهو أعظم، وهذه المقدمة إذا أخذت كلية كانت كاذبة. والعلة التي من أجلها عرض هذا السبب هو خروج وضع الأشخاص التي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال الذي منه يدرك تساويها بحاسة البصر.
والوضع المعتدل الذي منه يدرك البصر تساوي الأشخاص القائمة على وجه الأرض واختلافها إذا كانت على سمت واحد وكان البصر على سمتها، هو أن يكون البصر على الخط المستقيم الذي يخرج من طرف الشخص الأول موازياً لسطح الأرض التي الأشخاص قائمة عليه. وإذا كان مسطحاً فإن البصر، إذا كان على الخط الموازي لسطح الأرض الذي يمر بطرف الشخص الأول، فإنه يدرك الأشخاص الباقية التي وراءه مساوية له إذا كانت متساوية، ويكون إدراكه لتساويها إدراكاً صحيحاً، وإذا كانت مختلفة أدرك زيادة أحدها على الآخر وأدرك اختلاف مقاديرها، ويكون اختلاف مقاديرها، ويكون إدراكه لاختلاف مقاديرها إدراكاً صحيحاً. وذلك أن البصر إذا كان على الخط الموازي لسطح الأرض الذي يمر بطرف الشخص الأول، كان ذلك الخط خط الشعاع الذي يخرج من البصر إلى طرف الشخص الأول، ويكون هو بعينه يمد إلى أطراف الأشخاص الباقية التي وراءه إذا كانت متساوية. وإذا امتد الخط الواحد من خطوط الشعاع إلى أطراف جميع الأشخاص المتتالية القائمة على وجه الأرض على سمت واحد أدرك البصر تلك الأشخاص متساوية الارتفاع، وإذا أدركها متساوية الارتفاع أدركها متساوية المقادير، ويكون إدراكها لتساويها إدراكاً صحيحاً. وإذا كانت تلك الأشخاص مختلفة المقادير كانت خطوط الشعاع التي تخرج إلى أطرافها مختلفة الوضع، وكان بعضها أرفع من بعض، وكان الشخص الأول يستر من كل واحد منها مقداراً مساوياً له. وإذا كانت خطوط الشعاع التي تخرج إلى أطراف تلك الأشخاص مختلفة الوضع أدرك البصر تلك الأشخاص مختلفة الارتفاع وأدرك مقاديرها مختلفة. وإذا كان الشخص الأول يستر بعض كل واحد من تلك الأشخاص التي وراءه أدرك البصر زيادة كل واحد من تلك الأشخاص على الشخص الأول بحسب ما يظهر من زيادة مقداره على مقدار الشخص الأول،ويكون إدراكه لاختلاف مقادير الأشخاص التي بهذه الصفة ولمقادير اختلافها إدراكاً صحيحاً.

فغلط البصر في اختلاف مقادير الأشخاص المتساوية المتتالية القائمة على وجه الأرض، إذا كانت على سمت واحد وكان البصر أرفع منها، هو خروج وضعها عن عرض الاعتدال، لأن الاعتدال لوضع الأشخاص التي بهذه الصفة بالقياس إلى البصر الناظر إليها، الذي منه يدرك تساويها من قياس بعضها ببعض إدراكاً صحيحاً، هو أن يكون البصر على الخط المستقيم الموازي لسطح الأرض الذي يمر بطرف الشخص الأول.
العظم وقد يعرض الغلط في التفرق أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا كان ينظر إلى ألواح أو أخشاب أو أبواب، وكانت سطوح تلك الألواح أو الأخشاب أو الأبواب نائلة على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً، وكان في تلك الألواح أو في تلك الأخشاب أو في تلك الأبواب خطوط سود أو مظلمة اللون، فإن البصر ربما ظن بتلك الخطوط أنها شقوق في تلك الأجسام، إذا لم يكن قد تقدم على الناظر بأنها خطوط، وإن كان بعدها عن البصر من الأبعاد المعتدلة التي يدرك البصر منها حقيقتها إذا كانت على غير ذلك الوضع، إذا لم تكن شديدة القرب من البصر. وذلك لأن سطح المبصر إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً فإن التخاطيط والمعاني التي تكون في ذلك السطح ليس تكون بينة للبصر بياناً صحيحاً، وإذا كانت سطوح الألواح والأخشاب والأبواب ما جرى مجراها مائلة على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً فليس يكون إدراك البصر للمعاني التي في سطوحها والتخاطيط التي فيها إدراكاً صحيحاً. وإذا لم يدرك البصر المعاني التي في سطوح تلك الأجسام إدراكاً محققاً فليس يفرق بين الخطوط التي تكون فيها وبين الشقوق والتفرق، إذا كانت تلك الخطوط سوداً أو مظلمة الألوان ولم يكن قد تقدم علم الناظر بتلك الخطوط.
وعلة هذا الغلط هو خروج وضع تلك المبصرات عن عرض الاعتدال، لأن تلك الأجسام إذا كانت سطوحها مواجهة للبصر أو قريبة من المواجهة فإن البصر يدرك المعاني التي فيها من ذلك البعد بعينه، إذا كان من الأبعاد المعتدلة وكانت المعاني الباقية التي في تلك الأجسام في عرض الاعتدال، إدراكاً محققاً، ويدرك المعاني الباقية التي في تلك الأجسام في عرض الاعتدال، إدراكاً محققاً، ويدرك المعاني التي فيها ويدرك الخطوط التي فيها خطوطاً ولا يعرض له الغلط في شيء منها.
الاتصال وقد يعرض الغلط في الاتصال أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الحيطان والجدران إذا أدركها البصر وكانت سطوحها القائمة على وجه الأرض على خط واحد، وكانت هذه السطوح ممتدة على استقامة خطوط الشعاع، وكان في تضاعيف الجدران التي بهذه الصفة تفرق وكان بعضها منقطعاً عن بعض، وكان التفرق الذي بينهما ضيقاً، فإن البصر يدرك الجدران التي على هذه الصفة متصلة ولا يحس بالتفرق الذي فيها. لأن عرض التفرق يكون على استقامة خطوط الشعاع، فلا يدركه البصر ولا يدرك البصر الفضاء الذي في موضع التفرق لاستتاره بالجدار الأول الذي يلي البصر الذي سطحه على استقامة خط الشعاع وعلى استقامة عرض التفرق الذي في سطح الجدار. وكذلك إن الجدار الثاني خارجاً عن سمت الجدار الأول في موضع التفرق فإن البصر يحس عند الجدار الثاني بزاوية، ولا يحس بالتفرق الذي بينه وبين الجدار الأول، إذا كان سطح الجدار الأول وعرض التفرق على سمت خط الشعاع.
وإذا أدرك المبصر المبصرات المتفرقة متصلة فهو غالط في اتصالها، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لأن الاتصال يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن الجدران التي بهذه الصفة إذا كانت مواجهة للبصر وكان التفرق الذي في تضاعيفها مواجهاً للبصر أو قريباً من المواجهة فإن البصر يدرك التفرق الذي فيها على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
العدد

وقد يعرض الغلط في العدد أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك يظهر في المبصرات التي تدرك بالبصرين معاً إذا كانت الشعاعات التي تخرج إلى كل واحد منها من البصرين مختلفة الوضع في الجهة على الوجه الذي تبين في الأشخاص التي تثبت على اللوح الذي قدمنا وصفه إذا كان البصر محدقاً إلى الشخص الذي في وسط اللوح. فإنه قد تبين أن الأشخاص التي تثبت على اللوح الذي وصفناه إذا كانت خارجة عن الخط المعترض في وسط اللوح وبعيدة عنه فإن كل واحد منها يرى اثنين. فإذا أثبتت على اللوح عدة من الأشخاص على غير الخط المعترض فإن كل واحد منها يرى اثنين. وكذلك إذا كان البصر محدقاً إلى مبصر من المبصرات التي على وجه الأرض، وكان بين البصر وبين ذلك المبصر مبصرات أخر قريبة من البصر، أو كان المبصر الذي يحدق إليه البصر شخصاً قائماً على وجه الأرض أو مرتفعاً عن الأرض، وكان من وراء ذلك الشخص أشخاص أخر بعيدة عنه، فإن البصر يدرك المبصرات التي تكون أقرب إليه من المبصر الذي يحدق إليه كل واحد منها اثنين، ويدرك الأشخاص التي من وراء الشخص الذي يحدق غليه كل واحد منها اثنين.
فإذا أدرك البصر المبصرات التي بهذه الصفة، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بتلك المبصرات، فإنه يدرك عدد ما يدركه منها على هذه الصفة ضعف عددها فيكون غالطاً في عدد تلك المبصرات. والغلط هو خروج أوضاع تلك المبصرات عن عرض الاعتدال باختلاف وضع كل واحد منها عند البصرين واختلاف أوضاع الشعاع التي تخرج من البصرين إلى كل واحد منها، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا التقت عليها الشعاعات المتشابهة الوضع أدرك البصر عددها على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الحركة وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك إذا كان الناظر في سفينة وكانت السفينة سائرة في نهر جار، وكان شطا النهر أو أحد شطيه قريباً من السفينة بحيث يدركه البصر ويدرك ما فيه، وكان الناظر ينظر إلى السفينة أو إلى بعض المبصرات التي في السفينة وكان مع ذلك يرى شاطئ النهر ويرى ما فيه من الشجر والنخيل والجدران، وكان محدقاً إلى ما في داخل السفينة، وكانت السفينة شريعة السير، فإن البصر يرى جميع ما على شاطئ النهر من النخيل والشجر والجدران والنبات وسائر ما فيها كأنها تتحرك متصلة إلى ضد الجهة التي تتحرك إليها السفينة.
وإذا أدرك البصر الساكن متحركاً فهو غالط فيما يدركه من حركته، وهذا الغلط هو غلط في القياس لن الحركة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع تلك المبصرات عن عرض الاعتدال ببعدها عن سهم الشعاع عند تحديق الناظر إلى ما في داخل السفينة، لن المبصرات التي بهذه الصفة التي يدركها البصر متحركة إذا التفت الناظر إليها حتى تصير مواجهة وتحرك سهم الشعاع عليها فإنه يدرك ما قابله منها ساكناً على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن حجر الرحى إذا كان دائراً وكان الناظر ينظر إلى مبصر من المبصرات غير الرحى وكان محدقاً إلى ذلك المبصر وكان سهم الشعاع على ذلك المبصر، وكان حجر الرحى خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه، وكان البصر مع ذلك يدرك حجر الرحى، فإن البصر إذا أدرك الرحى على هذه الصفة وكانت الرحى متحركة فإنه يدركها ساكنة ولا يدرك حركتها. وذلك لأن حركة الرحى حركة سريعة، وحجر الرحى متشابه الصورة، فإذا تحرك حركة سريعة فليس تظهر حركته وتبدل أجزائه إلا بالتأمل والتفقد. وإذا كانت الرحى خارجة عن سهم الشعاع وبعيدة عنه، وكان الناظر محدقاً إلى مبصر آخر ومتأملاً لذلك المبصر الآخر فإنه في تلك الحال ليس يتمكن من تأمل حركة الرحى، ولا تكون صورة الرحى وحركتها بينة للبصر ولا يظهر تبدل الأجزاء للبصر في تلك الحال إذا كانت الرحى بعيدة عن السهم. وإذا كانت حقيقة صورة الرحى والمعاني التي فيها تكون غير بينة للبصر فليس يدرك البصر حركة الرحى في تلك الحال، وإذا لم يدرك حركة الرحى في تلك الحال فإنه يظنها ساكنة.

وإذا أدرك البصر الجسم المتحرك ساكناً فهو غالط فيما يدركه من سكونه فيكون هذا الغلط غلطاً في القياس لن السكون يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن الرحى إذا كانت مقابلة لوسط البصر، وكان سهم الشعاع متحركاً عليها، فإن البصر يدرك حركتها ولا تخفى عليه حركتها ، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الخشونة وقد يعرض الغلط في خشونة سطح المبصر أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك ان الصور التي يزوقها المزوقون، التي قدمنا وصفها في الفصل الذي قبل هذا، إذا كانت صور المبصرات الخشنة السطوح، وكانت مع ذلك صقيلة، فإن البصر يدركها خشنة مع ملاستها وصقالها، إذا لم يكن وضعها من البصر الوضع الذي ينعكس منه الضوء إلى البصر الذي يظهر منه صقال السطح وإذا كانت هذه الصورة قريبة من البصر وعلى بعد يصح أن يدرك منه صقالها وملاستها من الوضع المعتدل. وإذا كان وضع الصورة الوضع الذي ينعكس منه الضوء إلى البصر مع قربها من البصر ظهر صقالها ولم يعرض الغلط في خشونتها. والوضع الذي ينعكس منه الضوء إلى البصر هو الوضع المعتدل الذي منه يدرك البصر صقال سطح المبصر. والوضع الذي لا ينعكس منه الضوء إلى البصر هو وضع خارج عن الاعتدال في إدراك الصقال. فإذا كان وضع سطح الصورة وضعاً لا ينعكس منه الضوء إلى البصر ولا يظهر منه صقال الصورة، وكانت الصورة من صور المبصرات الخشنة السطوح، فإن البصر يدرك تلك الصورة كأنها خشنة السطح مع ملاستها وصقالها من البعد الذي يصح ان يدرك منه صقالها وملاستها من الوضع المعتدل. وليس يدرك البصر صقال الصورة التي بهذه الصفة وملاستها إلا إذا كانت قريبة من البصر وكان وضعها مع ذلك وضعاً ينعكس منه الضوء إلى البصر. وإذا لم يكن الناظر عارفاً بصناعة التزاويق ولم يتقدم علمه بملاسة الصورة فإنه لا يشك في خشونتها.
وإذا أدرك البصر المبصر الأملس خشناً فهو غالط فيما يدركه من خشونته. والغلط في الخشونة هو غلط في القياس لأن الخشونة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن الصور التي بهذه الصفة إذا غير الناظر وضع سطحها حتى تنعكس الصورة إلى البصر، وكانت الصورة مع ذلك قريبة من البصر، وكانت المعاني الباقية التي في تلك الصورة التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض لاعتدال، أدرك البصر ملاستها وصقالها على ما هو عليه ولم يعرض له الغلط في خشونتها.
الملاسة وقد يعرض الغلط في الملاسة أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك ان المبصر إذا كان سطحه خشناً وكانت خشونته يسيرة، وكان خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه، وكان البصر ناظراً إلى مبصر من المبصرات غير ذلك المبصر وسهم الشعاع على ذلك المبصر الآخر، وكان البصر مع ذلك يدرك المبصر الخشن السطح، فإن البصر إذا أدرك المبصر على هذه الصفة، وكان سطحه خشناً وكانت خشونته يسيرة، فإن البصر يدركه أملس إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بخشونة ذلك المبصر. وذلك لأن المبصر إذا كان خارجاً عن سم الشعاع وبعيداً عنه فليس يدرك البصر صورته إدراكاً محققاً، ولا يتمكن من تأمله ما دام محدقاً إلى غيره. والخشونة اليسيرة ليس يدركها البصر إلا بالتأمل ومن تحقق صورة السطح. فإذا كانت صورة السطح ملتبسة فإن البصر لا يدرك الخشونة اليسيرة التي تمون فيه، ولا يدرك أيضاً حقيقة صورة الضوء الذي في سطحه، ولا يتميز له في تلك الحال الفرق بين صورة الضوء الذي في ذلك السطح وبين الضوء الذي يدركه في السطوح الملس للتقارب الذي بينهما إذا كانت الخشونة التي في السطح يسيرة، ولأن الصورة ليس تكون بينة للبصر إذا كانت خارجة عن سهم الشعاع وبعيدة عنه.
وإذا لم يدرك البصر الخشونة التي في سطح المبصر فإنه يظنه أملس، وإذا أدرك السطح الخشن أملس فهو غالط فيما يدركه من ملاسته، وهذا الغلط هو في القياس لأن الملاسة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان مقابلاً لوسط البصر، وكان سهم الشعاع متحركاً على سطحه، فإنه يدرك خشونته على ما هي عليه ولا يدركه أملس، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.

الشفيف

وقد يعرض الغلط في الشفيف أيضاً وفي الكثافة من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الأواني المشفة إذا كان فيها شراب قوي اللون ولم يكن وراءها ضوء قوي فإن الأواني والشراب الذي فيها تظهر كثيفة ولا يظهر للبصر شيء من شفيفها. وإذا استشف الناظر أيضاً إناءً من هذه الأواني وقابل به الضوء القوي، فإنه إن كان الضوء القوي الذي وراءه يخرج إليه على خطوط قائمة على سطحه على زوايا قائمة فإن الضوء ينفذ فيه ويظهر شفيفه ظهوراً بيناً، وإن كان الضوء الذي وراءه مائلاً عنه وكان إشراقه على الإناء من سموت خطوط مائلة عليه فإن الضوء إما أن لا يظهر من ورائه وإما أن يظهر ظهوراً ضعيفاً. وإذا أدرك مبصراً من هذه المبصرات على هذه الصفة وكان الضوء الذي يظهر من ورائه مائلاً عليه فإنه يدرك شفيفه اقل من شفيفه الحقيقي. وإذا أدرك البصر شفيف الجسم المشف أقل من شفيفه الحقيقي فهو غالط في شفيفه.
وإذا استشف الناظر إناءً من هذه الأواني ولم يكن الضوء الذي ورائه في أكثر الأحوال. وإذا لم يظهر الضوء من ورائه فليس يدرك البصر شفيف ما هذه صفته وليس يدركه إلا كثيفاً. وإذا لم يظهر الضوء من ورائه فليس يدرك البصر شفيف ما هذه صفته وليس يدركه إلا كثيفاً. فإن لم يكن قد تقدم علم الناظر بشفيف ما في ذلك الإناء من الشراب فإنه ليس يشك في كثافته فيظنه بعض الأجسام السيالة التي ليس فيها شفيف إذا لم يكن قد سبق علمه بأنه شراب.
وإذا أدرك البصر الشراب المشف كثيفاً فهو غالط في كثافته. وهذان الغلطان اللذان في الشفيف والكثافة جميعاً هما غلطان في القياس لأن الشفيف والكثافة يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كان وراءها ضوء قوي وكان إشراق ذلك الضوء عليها على سموت خطوط هي أعمدة على سطوحها، وعلى خطوط قريبة من الأعمدة ومائلة عليها ميلاً ليس بالمتفاوت، فإن البصر يدرك شفيفها على ما هي عليه. والوضع المعتدل لهذه المبصرات الذي يدرك منه شفيف هذه المبصرات على ما هو عليه هو الوضع الذي يكون فيه الجسم من هذه الأجسام متوسطاً بين البصر وبين الضوء، ويكون الضوء الذي ينفذ فيه ويظهر من ورائه خارجاً إليه على سموت خطوط قائمة على سطحه وما يحيط بهذه الخطوط مما هو مائل عنه ميلاً يسيراً. والوضع الذي بخلاف هذه الصفة هو وضع خارج عن الاعتدال في إدراك شفيف هذه المبصرات.
الظل وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر النقي البياض كالجدران المبيضة إذا كانت فيها مواضع غير مبيضة، وكانت تلك المواضع ترابية اللون، وأشرق ضوء الشمس على جميع الجدار الذي بهذه الصفة، وكان البصر ينظر إلى مبصر من المبصرات خارج ذلك الجدار وبعيداً عنه، وكان البصر محدقاً إلى ذلك المبصر ومتأملاً له وكان سهم الشعاع على المبصر الذي إليه يحدق البصر، وكان الجدار والمواضع الترابية منه بعيدة عن السهم، وكان البصر مع ذلك يدرك ذلك الجدار، فإنه يدرك تلك المواضع الترابية كأنها أظلال. وإذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجدار وبتلك المواضع، ولم يكن أدرك ذلك الجدار قبل ذلك الوقت، فإنه ربما ظن بتلك المواضع الترابية المنكسفة الألوان أنها أظلال. وذلك لأن المبصر الخارج عن سهم الشعاع البعيد نه ليس يدركه البصر إدراكاً صحيحاً. والضوء إذا أشرق على المبصرات المختلفة الألوان فإن صورته تكون مختلفة، وإذا أشرق ضوء الشمس على الجدار النقي البياض الذي فيه مواضع ترابية فإن الضوء الذي يحصل على المواضع الشديدة البياض يكون شديد الإشراق وقوياً، والضوء الذي يحصل على المواضع الترابية يكون منكسفاً وشبيهاً بالظل. فإذا أدرك البصر المبصر الذي بهذه الصفة وكان خارجاً عن سم الشعاع وبعيداً عنه فإنه يدرك صورة الضوء الذي عليه مختلفة، ويدرك المواضع النقية البياض شديدة الإشراق ويدرك المواضع الترابية منكسفة الضوء. والبصر قد ألف الأظلال من تضاعيف الأضواء، فإذا أدرك المواضع الترابية منكسفة الضوء، ولم يدرك صورتها إدراكاً محققاً من أجل بعدها عن السهم، ولم يتقدم علم الناظر بأنها ترابية، فإنه ربما ظن بتلك المواضع أنها أظلال.

وإذا أدرك البصر الموضع المضيء الذي لا ظل فيه مستظلاً فهو غالط فيما يدركه من الظل. والغلط في الظل هو غلط في القياس لأن الظل يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر الذي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لأن هذا المبصر بعينه إذا كان البصر مقابلاً له، وكان سهم الشعاع متحركاً عليه، فإنه يدركه على ما هو عليه، ويدرك الضوء الذي فيه على ما هو عليه، ولا يدركه مستظلاً، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الظلمة وكذلك إذا كان الجدار وضعه هذا الوضع، وكان نقي البياض، وكانت فيه مواضع سود وأجسام سود كالمرايا التي تكون في الحيطان، وكان الضوء الذي على ذلك الجدار ضوءاً معتدلاً لا صريح ضوء الشمس، فإن البصر ربما ظن بتلك الأجسام السود وتلك المواضع أنها كوىً ومنافذ تفضي إلى مواضع مظلمة إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بتلك الأجسام السود.
وإذا ظن الحاس بسواد الأجسام المصمتة أنها كوى ومنافذ مظلمة فهو غالط فيما يظنه من الظلمة، ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الظلمة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان مقابلاً للبصر، وكان سهم الشعاع متحركاً على سطحه، فإنه يدرك الأجسام السود التي فيه أجساماً على ما هي عليه ولا يظنها مواضع مظلمة، إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصر الذي بهذه الصفة في عرض الاعتدال.
الحسن وقد يعرض الغلط في الحسن أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن وضع الاعتدال. وذلك أن المبصرات التي ظواهر معانيها حسنة، إذا كانت فيها معان دقيقة تشينها وتكسف حسنها وتقبحها، كالنمش والآثار والكلف في أشخاص الناس وكالزئبر والخشونة في الثياب الصقيلة وما يجري مجرى ذلك في سائر المبصرات، إذا كان المبصر الذي بهذه الصفة خارجاً عن سهم الشعاع وبعيداً عنه، وكان البصر ناظراً إلى مبصر آخر وسهم الشعاع على ذلك المبصر الآخر، وكان البصر مع ذلك يدرك ذلك المبصر الحسن الصورة المقبح بما فيه من المعاني الدقيقة، فإنه يدركه حسناً لا شين فيه. لأن البصر إذا أدرك المبصر على الوضع الذي وصفناه فليس يدركه إدراكاً محققاً، وإذا لم يدرك البصر المبصر الذي بهذه الصفة إدراكاً محققاً فليس يدرك المعاني اللطيفة التي تشينه وتقبحه، وإذا لم يدرك المعاني التي تقبحه وكانت المعاني الظاهرة التي فيه مستحسنة فإن البصر يدركه مستحسناً ولا يشك في حسنه ولا يحس بشيء من قبحه.
وإذا أدرك البصر المبصر القبيح الصورة حسناً فهو غالط في حسنه، ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الحسن يدرك بالقياس ولأن هذا الغلط هو لاقتناع البصر بالمقدمات الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلى هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان مقابلاً لوسط البصر وكان سهم الشعاع متحركاً على سطحه فإنه يدركه إدراكاً محققاً ويدرك جميع المعاني التي تشينه ويدرك صورته مقبحة على ما هي عليه، إذا كانت المعاني التي فيه في عرض الاعتدال.
القبح وقد يعرض الغلط في القبح أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الأحجار والجدران المنقوشة بالحفر والأخشاب والأبواب أيضاً المنقوشة بالحفر، إذا كانت نقوشها مستحسنة وكانت ألوانها وأشكالها غير مستحسنة، فإن البصر إذا أدرك المبصر من هذه وكان سطح ذلك المبصر مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً فإنه لا يدرك نقوشها ويدرك ألوانها وأشكالها. فإن أدرك شيئاً من تخاطيط نقوشها فليس يدركه على ما هو عليه ولا يتحقق معانيه، إذا كانت النقوش بالحفر وكان سطح المبصر شديد الميل. وإذا لم يدرك البصر النقوش المستحسنة التي في المبصرات التي بهذه الصفة التي بها تستحسن تلك المبصرات، أو لم يدرك النقوش المستحسنة إدراكاً محققاً يفهم معه معانيها، فليس يدرك محاسن تلك المبصرات ولا يحس بحسنها. والبصر مع ذلك يدرك ألوانها وأشكالها المستقبحة. وإذا لم يدرك البصر محاسن المبصر وأدرك مقابحه فهو يدركه في الحال قبيحاً.

وإذا أدرك البصر المبصر الحسن قبيحاً فهو غالط في قبحه، والغلط في القبح هو غلط في القياس لأن القبح يدرك بالقياس ولأن هذا الغلط هو لاقتناع البصر بالمقدمات الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان مواجهاً للبصر فإن البصر يدرك نقوشه على ما هي عليه، ويدرك محاسنه ولا يشك في حسنه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
التشابه وقد يعرض الغلط في التشابه أيضاً من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصرات قد تتشابه في المعاني الظاهرة كاللون والشكل والهيئة والجنس وتختلف مع ذلك في معان لطيفة، كأنواع الثياب والفروش والأواني والآلات. فإن الثياب قد تختلف في هيئة النسج وفي النقوش والتزايين التي يتلطف فيها صناع الثياب، وتكون مع ذلك متشابهة في الجنس وفي اللون. وكذلك الفروش والأواني والآلات قد تتشابه في الجنس وفي اللون وفي الشكل وفي الهيئة وتختلف مع ذلك في النقوش والتحاسين التي تكون فيها. فإذا أدرك البصر مبصرين من هذه المبصرات، وكانا من جنس واحد وكانا متشابهين في اللون وفي الشكل وفي الهيئة، وكانا مع ذلك مختلفين في المعاني اللطيفة التي وصفناها، وكان المبصران جميعاً خارجين عن سهم الشعاع وبعيدين عنه ومتجاورين، وكان البصر محدقاً إلى مبصر آخر على الصفة التي قد تكرر وصفها، فإن البصر يدرك من المبصرين اللذين بهذه الصفة المعاني الظاهرة التي يتشابهان فيها ولا يدرك المعاني اللطيفة التي يختلفان فيها ولا يحس بها، لأنه لا يدرك صورة المبصر إذا كان على الوضع الذي وصفناه إدراكاً محققاً. وإذا أدرك البصر تشابه المبصرين في المعاني الظاهرة، ولم يدرك شيئاً من المعاني اللطيفة التي يختلفان فيها، فهو يدركهما متشابهين، فيحكم بتشابههما على الإطلاق ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف، إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بالمعاني التي يختلفان فيها.
وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين متشابهين ولم يحس بشيء من اختلافهما ولم يشك في تشابههما. والغلط في التشابه هو غلط في القياس لأن التشابه يدرك بالقياس، لأن هذا الغلط هو لاقتناع البصر بالمقدمات الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصرين اللذين بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لأن المبصرين اللذين بهذه الصفة إذا كانا مقابلين لوسط البصر وكان سهم الشعاع متحركاً عليهما فإنه يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيهما ويدركهما مختلفين ولا يعرض له الغلط في اختلافهما إذا كانت المعاني التي فيهما في عرض الاعتدال.
الاختلاف وعلى هذه الصفة بعينها قد يعرض الغلط في الاختلاف إذا كان المبصران مختلفين في المعاني الظاهرة متشابهين في المعاني اللطيفة وكان البصر يدركهما على الوضع الذي وصفناه.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج أوضاع المبصرات عن عرض الاعتدال.

غلط البصر من أجل الخروج عن عرض الاعتدال
غلط البصر في القياس من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال.
البعد

فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدرك سواد الليل فارسين أو راجلين أو بهيمتين مجتازتين على مسافتين معترضتين للبصر، ويكون أحدهما متأخراً عن الآخر، ويكون بعدهما عن البصر بعداً مقتدراً ومن اعاد المعتدلة، ويكون أحدهما أقرب إلى البصر من الآخر ولا يكون الاختلاف الذي بين بعديهما متفاوتاً، فإن البصر إذا أدرك شخصين على هذه الصفة في سواد الليل فإنه يدرك التفرق الذي بينهما بحسب ما يقتضيه تأخر أحدهما عن الآخر، ويدركهما كأنهما متحركان على مسافة واحدة معترضة، ولا يدرك الاختلاف الذي بين بعديهما إذا لم يكن أقربهما شديد القرب من البصر. فلذلك لأن البصر إنما يدرك اختلاف أبعاد المبصرات إذا أدرك مقادير أبعاد تلك المبصرات وأدرك زيادة بعضها على بعض، وإذا كان أحد البعدين يشبه الأخر. ومقادير أبعاد المبصرات إنما يدركها البصر إذا كانت أبعادها تسامت أجساماً مرتبة متصلة وكان البصر يدرك تلك الأجسام ويدرك مقاديرها. وإذا أدرك البصر المبصرين اللذين بهذه الصفة في سواد الليل فليس يدرك سطح الأرض المتوسط بينه وبينهما إدراكاً صحيحاً ولا يتحقق مقداره من أجل ظلمة الليل. وإذا لم يدرك سطح الأرض في تلك الحال إدراكاً صحيحاً، ولم يتحقق مقدار المسافة التي بينه وبين ذينك المبصرين، فليس يدرك زيادة بعد أحدهما على الآخر ولا يدرك اختلاف بعديهما. وإذا لم يدرك اختلاف بعديهما فإنه يظنهما متحركين على مسافة واحدة معترضة وإن بعديهما عنه متساويان وليس بين بعديهما اختلاف يعتد به ولا يفرق بين بعد أبعدهما وبين بعد أقربهما.
وإذا أدرك البصر الشخصين المختلفي البعد كأنهما متساويا البعد فهو غالط في بعد كل واحد منهما أو في بعد أحدهما وغالط في تساوي بعديهما. والغلط في البعد وفي تساوي البعدين هو غلط في القياس لأن البعد وتساوي الأبعاد إنما يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال بالنقصان المفرط. لأن وجه الأرض في الليل مظلم وفيه مع ذلك ضوء يسير إذا كان منكشفاً للسماء، وليس هو مظلماً بالكلية، لأن المواضع المظلمة بالكلية هي المواضع المحتجبة عن السماء كدواخل البيوت ودواخل المغائر، فأما المواضع المنكشفة للسماء فإن فيها ضوءاً يسيراً وه وضوء السماء و الكواكب. فإذا أدرك البصر الشخصين اللذين وصفناهما في سواد الليل فهو يدركهما ولا يدرك الاختلاف الذي بين بعديهما، لأنه لا يدرك مقدار سطح الأرض المتوسطة بينه وبينهما ولا يتحقق مقداره للإفراط في نقصان الضوء الذي على وجه الأرض. وإنما يدرك الشخصين اللذين على هذه الصفة لتفرقهما وظهور السماء من ورائهما. فإذا أدرك البصر الشخصين اللذين على هذه الصفة في ضوء النهار، وكان بعد أبعدهما من الأبعاد المعتدلة، فإنه يدرك البعد الذي بينه وبين كل واحد منهما، ويدرك اختلاف بعديهما، ولا يعرض له الغلط في بعديهما، إذا كانت المعاني التي فيهما التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
الوضع وقد يعرض الغلط في وضع المبصر أيضاً من أجل خروج الضوء الذي فيه عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر الذي يدركه البصر في موضع مغدر شديد الغدرة وليس فيه إلا ضوء بسير، إذا كان سطحه مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً ليس بالمتفاوت، وكان مع ذلك صغير المقدار، فإن البصر لا يدرك ميله بل يدركه كأنه مواجه كما يدرك المبصرات المواجهة. وذلك أن المبصر إذا أدركه البصر في موضع مغدر شديد الغدرة فليس يدرك صورته إدراكاً محققاً، وكان مع ذلك صغير الحجم، وكان سطحه مظلماً ليس فيه إلا ضوء يسير، فإنما يدرك منه ظلمة فقط، ولا تتميز له هيئة وضعه ولا يحس بميله وإنما يدركه مقابلاً له فقط، فهو يدركه كما يدرك المبصرات المواجهة وليس يفرق بينه وبين المبصر المواجه. وإذا لم يفرق البصر بين وضع المبصر المائل وبين وضع المواجه فهو غالط في وضعه.
الشكل

وكذلك أيضاً إذا أدرك المبصر البصر في موضع مغدر أو في سواد الليل، وكان شكل المبصر شكلاً مضلعاً كثير الأضلاع، وكان ذلك المبصر صغير المقدار وكانت أقطاره مع ذلك متساوية، فإن البصر يدرك ذلك المبصر مستديراً ولا يحس بزواياه وأضلاعه. وذلك لأن المبصر الكثير الأضلاع إذا كان صغير المقدار كانت زواياه صغاراً، وإذا كانت زواياه صغاراً ولم يكن الضوء الذي عليه قوياً فإن زواياه تخفى عن البصر وإن لم تخف جملته لصغر الزوايا، ولأن المبصرات التي في غاية الصغر تخفى في المواضع المغدرة التي قد تظهر فيها المبصرات المقتدرة الحجم. فإذا كانت زوايا المبصر صغاراً وكانت أقطاره متساوية وكان في موضع شديد الغدرة، فإن البصر يدركه مستديراً ولا يحس بزواياه وأضلاعه.
وكذلك إن كان سطح المبصر كرياً أو كان فيه تحديب بأي شكل كان وكان تحديبه يسيراً، أو كان مقعراً وكان تقعيره يسيراً، وأدركه البصر في موضع مغدر شديد الغدرة أو في سواد الليل، فإنه يدركه مسطحاً ولا يحس بتحديب المحدب ولا تقعير المقعر إذا كان التحديب أو التقعير يسيراً وكان الموضع شديد الغدرة.
وإذا أدرك البصر المبصر المضلع مستديراً وأدرك المحدب والمقعر مسطحاً فهو غالط في شكل كل واحد منهما. والغلط في الوضع وفي الشكل وفي هيئات السطوح هي أغلاط في القياس لأن إدراك هذه المعاني إنما تكون بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات المائلة والمضلعة والمحدبة والمقعرة إذا كان الضوء الذي عليها قوياً فإن البصر يدرك وضعها وشكلها ويدرك هيئات سطوحها على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الشكل وقد يعرض الغلط في العظم أيضاً من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر في سواد الليل إلى شخص قائم كنخلة أو شجرة أو حائط، وكان من وراء ذلك الشخص جبل أو جدار، وكان الشخص أقرب إلى البصر من الجبل أو الجدار، وكان بين الشخص وبين الجبل أو الجدار بعد مقتدر، فإن البصر يدرك ذلك الشخص في سواد الليل كأنه في ضمن ذلك الجبل أو الجدار أو مماس له. وذلك لأن البصر لا يدرك البعد الذي بين الشخص والجبل أو الجدار الذي وراءه في سواد الليل. وإذا كان الشخص أقرب إلى البصر من الجبل أو الجدار فإن البصر يدرك رأس ذلك الشخص مسامتاً لموضع من أعلى الجبل أو الجدار إما ذروته أو موضع من أعلاه، ويكون الموضع الذي يدركه البصر من الجبل أو الجدار مع رأس ذلك الشخص أرفع من طول الشخص وربما كان أضعافاً كثيرة لمقدار طول الشخص بحسب البعد الذي بين الشخص وبين الجدار أو الجبل. وإذا أدرك البصر طرف الشخص مع ذروة الجبل أو الجدار أو مع موضع منه أي موضع كان، وكان مع ذلك يظن بالشخص أنه مجاور للجبل أو الجدار أو ملتصق به، فإنه يظن أن طول الشخص مساو لارتفاع الموضع من الجبل أو الجدار الذي يرى طرف الشخص مسامتاً له، وربما أدرك رأس الشخص أرفع من ذروة الجبل أو الجدار فيظنه أطول منه.
وإذا ظن البصر أن طول الشخص مساو لارتفاع الجبل أو الجدار الذي يراه من ورائه الذي بينه وبينه مسافة فهو غالط في مقدار طول الشخص أو في مقدار ارتفاع الجبل أو الجدار، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لأن العظم يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في الشخص وفي الجبل أو الجدار الذي وراءه عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان، لأن الشخص الذي بهذه الصفة إذا أدركه البصر في ضوء النهار فإنه يدرك ارتفاعه على ما هو عليه، ويدرك ارتفاع الجبل أو الجدار على ما هو عليه، ويدرك البعد الذي بينهما على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
ه ز

وقد يعرض الغلط في التفرق أيضاً من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الأخشاب الجسام إذا أراد النجار أن يشق منها ألواحاً فإنه يخط فيها خطوطاً مستقيمة بالسواد في المواضع التي يريد شقها، فإذا شقها صارت مواضع الخطوط شقوقاً نافذة. فإذا أدرك البصر جسماً من هذه الأجسام قبل أن تشق وكانت الخطوط مخطوطة فيه، وأدركه البصر في موضع مغدر شديد الغدرة أو أدركه في الغلس، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم، فإنه يظن بتلك الخطوط السود أنها تفرق وشقوق، وأن ذلك الجسم هو عدة ألواح قد شقت وبعضها منطبق على بعض، لأن النجار إذا شق الألواح قد شقت وبعضها منطبق على بعض، لأن النجار إذا شق الألواح التي بهذه الصفة فإنه يبقيها على وضعها ولا يفرق بينها إلى وقت الحاجة إليها. وإذا ظن البصر بالجسم الواحد المتصل أنه عدة أجسام مضموم بعضها إلى بعض، وأن الخطوط السود التي فيه هي تفرق بين تلك الأجسام إذا كانت واحداً وهو يظنها جماعة.
وكذلك إذا أدرك البصر عدة من المبصرات في موضع مغدر شديد الغدرة أو في سواد الليل، وكانت تلك المبصرات مظلمة الألوان ومتشابهة الألوان، وكانت متضامة ومنطبقاً بعضها على بعض وكان التفرق والتماس الذي بينها ضيقاً خفياً، فإن البصر يدرك المبصرات التي بهذه الصفة كأنها جسم واحد متصل ولا يدرك التفرق الذي بينها، لأن المعاني الدقيقة والتفرق الخفي الضيق ليس يظهر للبصر في المواضع الشديدة الغدرة وفي سواد الليل. وإذا كانت ألوان تلك المبصرات مظلمة كان جملتها مظلماً ولم تتميز ظلمتها من ظلمة التفرق الخفي الذي في تضاعيفها. وإذا أدرك البصر الأجسام المتفرقة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط فيما يدركه من اتصالها، وغالط في عددها أيضاً إذا كانت جماعة وهو يظن أنها واحد.
وكذلك إذا كانت مبصرات صقيلة شديدة الصقال وكانت متضامة ومماساً بعضها لبعض، وكان التفرق بينها ضيقاً خفياً، وكانت تلك المبصرات مع ذلك متشابهة في اللون، وكانت سطوحها متشابهة الوضع، وأشرق على هذه المبصرات ضوء الشمس، وكان البصر ينظر إلى هذه المبصرات وضوء ا لشمس منعكس من سطوحها الصقيلة إلى البصر، فإن البصر إذا أدرك المبصرات التي بهذه الصفة منعكس من سطوحها إلى البصر فإنه لا يدرك التفرق الذي فيها ويظن بها أنها جسم واحد متصل. وذلك أن سطح المبصر إذا كان صقيلاً وانعكس الضوء منه إلى البصر ليس يدرك صورة ذلك السطح إدراكاً محققاً، ولا يدرك المعاني الدقيقة التي تكون في ذلك السطح. فإن كان التفرق الذي بين المبصرات التي بهذه الصفة تفرقاً خفياً ضيقاً فإن البصر لا يدركه لانعكاس الضوء من سطوح تلك المبصرات إلى البصر. وإذا لم يدرك البصر التفرق الذي بين تلك المبصرات فهو يظن بها أنها جسم واحد متصل.
وإذا ظن البصر بالأجسام المتفرقة والمتماسة أنها جسم واحد متصل فهو غالط فيما يدركه من اتصالها وغالط في عددها. والغلط في التفرق وفي الاتصال وفي العدد هو غلط في القياس لأن التفرق والاتصال والعدد إنما يدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هو خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان وفي الزيادة، لأن المبصرات التي وصفناها إذا كان الضوء الذي عليها معتدلاً فإن البصر يدرك التفرق الذي فيها، ويدرك اتصال المتصل منها، ويدرك عددها، ويدرك جميع المعاني التي فيها على ما هي عليه، ولا يعرض له الغلط في شيء منها، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
الحركة

وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل نقصان الضوء. وذلك أن البصر إذا أدرك في سواد الليل شخصاً قائماً على وجه الأرض، وكان ذلك الشخص ثابتاً في موضعه غير متحرك، وكان من وراء ذلك الشخص جبل أو جدار، وكان بين ذلك الشخص وبين الجبل والجدار بعد ما ليس بالمتفاوت، وكان الشخص في حال إدراك البصر له مسامتاً لطرف الجبل أو الجدار، ثم تحرك الناظر نحو الجهة التي فيها ذلك الجبل أو الجدار على مسافة مائلة متباعدة ميلها عن الشخص لا في جهة الشخص، وهو مع ذلك يدرك الشخص ويدرك طرف الجبل والجدار المسامت للشخص، فإن الناظر إذا تمادى في الحركة على هذه الصفة فإن وضع ذلك الشخص يميل، ويصير خط الشعاع المتوهم بينه وبين البصر إذا امتد على استقامة لا ينتهي إلى طرف الجبل أو الجدار بل يكون مفارقاً له. وإذا انتهى البصر إلى هذا الموضع، وهو يدرك ذلك الشخص ويدرك طرف الجبل أو الجدار، فإنه يدرك بين الشخص وبين طرف الجبل أو الجدار تفرقاً ما وتظهر له السماء من ذلك التفرق. وليس يدرك البصر في تلك الحال حقيقة مقدار البعد الذي بين الشخصين وبين الجبل أو الجدار، ولا يدرك حقيقة وضع الشخص من ذلك الجبل أو الجدار، وإن لم يكن الشخص متفاوت البعد عن البصر، لظلمة الليل وضعف الضوء الذي على وجه الأرض في سواد الليل. ثم إذا تمادى الناظر في الحركة اتسع ذلك التفرق الذي يظهر له بين ذلك الشخص وبين الجبل أو الجدار، وأدركه البصر متمادياً في الاتسساع إذا كان الناظر متمادياً في الحركة، وهو مستقر في النفس أن الجبل أو الجدار ليس يتحرك. وإذا لم يتقدم علم الناظر بذلك الشخص وثبوته في موضعه فإنه ربما ظن بذلك الشخص أنه متحرك، وأن اتساع التفرق الذي يظهر بينه وبين الجبل أو الجدار وتماديه في الاتساع إنما هو للحركة. وإذا أدرك البصر الشخص الساكن متحركاً فهو غالط فيما يدركه من حركته.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل نقصان الضوء. وذلك أن البصر إذا أدرك في سواد الليل حجر الرحى وهو متحرك فإنه لا يحس بحركته بل يدركه كأنه ساكن. وكذلك إذا أدرك في الليل وفي الغلس جسماً متشابه الأجزاء من بعد، وهو يتحرك حركة مستديرة أو يضطرب أو يرتعد، فإنه لا يحس بحركته بل يدركه كأنه ساكن. وإذا أدرك البصر الجسم المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه. والغلط في الحركة وفي السكون جميعاً هما غلطان في القياس، لأن الحركة والسكون يدركان بالقياس، لأن الحركة والسكون يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في الضوء المعتدل فإنه يدرك حركاتها وسكونها على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها عرض الاعتدال.
الخشونة والملاسة وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة أيضاً من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصرات التي يدركها البصر في المواضع المغدرة وفي سواد الليل إذا كانت سطوحها خشنة وكانت الخشونة التي فيها يسيرة فإنه لا يدرك خشونتها. وكذلك المبصرات التي في سطوحها ملس صقيلة ليس يدرك البصر ملاستها وصقالها في المواضع المغدرة، ولا يفرق البصر بين السطوح الخشنة وبين السطوح الملس إذا أدركها في المواضع المغدرة وفي الغلس وفي سواد الليل. وإذا لم يحس البصر بالملاسة والخشونة فإنه ربما ظن بالأملس أنه خشن وبالخشن أنه أملس إذا شبه ذلك المبصر بمبصر آخر يشبهه في المعاني الظاهرة ويخالفه في الملاسة والخشونة. وإذا ظن البصر بالمبصر الأملس انه خشن فهو غالط في خشونته، وإذا ظن بالخشن أنه أملس فهو غالط في ملاسته.
وكذلك أيضاً إذا أدرك البصر الجسم المشف، وأدرك الضوء من ورائه، وكان الضوء الذي يظهر من ورائه يسيراً، فإنه يدرك شفيف ذلك الجسم دون شفيفه الحقيقي، وإذا أدرك شفيف الجسم دون شفيفه الحقيقي فهو غالط في شفيفه. وإذا أدرك البصر الجسم المشف في موضع مغدر شديد الغدرة فإنه لا يدرك شفيفه، وإذا لم يدرك شفيفه فإنه يظنه كثيفاً إذا لم يتقدم علم الناظر بشفيفه. وإذا ظن البصر بالمشف انه كثيف فهو غالط في كثافته.

والغلط في الخشونة والملاسة وفي الشفيف والكثافة هي أغلاط في القياس لأن الخشونة والشفيف والكثافة إنما تدرك بالقياس. وعلة هذه الغلاط على الصفات التي وصفناها هي خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال بالإفراط في النقصان، لأن هذه المبصرات إذا أدركها البصر في ضوء معتدل فإنه يدرك الخشونة في الخشن منها ويدرك الملاسة في الأملس منها، ويدرك الشفيف في المشف على ما هو عليه ويدرك كثافة الكثيف، ولا يعرض له الغلط في شيء من هذه المعاني إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
الظل وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من اجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك انه إذا كان في بيت من البيوت حائط، وكان بعض ذلك الحائط أبيض أو ذا لون مسفر وكان بعضه أسود أو ذا لون مظلم، وكان الفصل الذي بين جزءي الحائط الذي بهذه الصفة ممتداً في ارتفاع الحائط وذلك يكون في الحيطان التي توقد النار في فنائها دائماً فيسود بعضها بالدخان. وإذا كان الحائط الذي بهذه الصفة في صدر بيت وكان باب البيت مقابلاً لذلك الحائط، وكان خارج البيت سراج في ظلمة الليل وكان السراج مقابلاً لباب البيت وبعيداً عنه، ودخل ضوء السراج من باب البيت وأشرق على ذلك الحائط من بعد، وحصل الضوء على بعض الجزء الأبيض وبعض الجزء الأسود، وكان الضوء ضعيفاً من أجل بعد السراج، ونظر البصر إلى ذلك الحائط الذي بهذه الصفة، فإنه ربما ظن بالجزء الأسود الذي عليه الضوء انه ظل إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بسواد ذلك الموضع. وذلك لأن الحائط المقابل لباب البيت قد جرت العادة أن يستظل بالحائط المقابل له الذي فيه باب البيت، وإذا كان الضوء الذي على الحائط ضعيفاً فليس يتميز للبصر السواد من الظلمة، وخاصة إذا كان الجزء من الحائط المجاور لهذا الجزء أبيض أو مسفر اللون. والبصر من شأنه أن يشبه ما يدركه في الحال بما قد أدركه من أمثاله من قبل، فلذلك ربما ظن بالحائط الأسود والمظلم اللون المجاور للموضع الأبيض والمسفر اللون انه مستظل، مع إشراق ضوء السراج عليه، إذا كان الضوء ضعيفاً، وإذا أدرك البصر الجسم المضيء الذي لا ظل عليه مستظلاً فهو غالط فيما يدركه من الظل.
وكذلك إذا أدرك البصر في سواد الليل حائطاً أبيض، وكان في ذلك الحائط مواضع سود، وكان على ذلك الحائط ضوء خفي من ضوء مصباح، فإنه ربما ظن بالمواضع السود التي يدركها في ذلك الحائط أنها كوى وثقوب، وان السواد الذي يظهر فيها هو ظلمة تلك الثقوب.
وإذا ظن البصر بالجسم المصمت الأسود أنه مكان خال مظلم فهو غالط فيما يدركه من ظلمته. والغلط في الظل والظلمة هو غلط في القياس، لأن الظل والظلمة تدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن هذه المبصرات إذا أدركها البصر في ضوء معتدل، ومن ذلك البعد بعينه، فإنه يدركها على ما هي عليه ولا يعرض له الغلط في ظل ما ليس بمستظل ولا في ظلمة ما ليس هو مظلماً، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
الحسن

وقد يعرض الغلط في الحسن أيضاً من أجل خروج الضوء الذي وفي المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر الحسن الصورة إذا كانت فيه معان تشينه، ولم تكن تلك المعاني بكل الظاهرة بل كان فيها بعض اللطافة أو بعض الخفاء، وأدرك البصر ذلك المبصر في الليل وقد أشرق على ذلك المبصر ضوء مصباح ضعيف الضوء، فإن البصر يدرك المبصر الذي بهذه الصفة حسن الصورة ولا يدرك شيئاً من معانيه التي تشينه. وأمثال ذلك شخص جوارحه حسنة الصورة في أشكالها وهيئاتها وفيه مع ذلك زرقة في عينيه أو شقرة في شعره أو كلف في وجهه أو آثار قروح أو نمش في بشرته أو مجموع ذلك أو مجموع بعضه. وكل واحد من هذه المعاني يشين صورة الإنسان ويقبح محاسنه. فإذا أدرك البصر إنساناً بهذه الصفة في الليل وفي ضوء مصباح ليس بقوي الضوء فإنه يدرك هيئة أعضائه وأشكال جوارحه المقبولة الحسنة الجملة، ولا يدرك مع ذلك ما في جوارحه من الآثار، ولا الشقرة والزرقة اللواتي تشينه وتقبح صورته لضعف الضوء ولأن المعاني اللطيفة ليس يدركها البصر إلا في ضوء قوي. وما أكثر ما يستحسن البصر في ضوء السراج إذا كان ضعيفاً وفي المواضع المغدرة أشخاصاً ليست بمستحسنة. وكذلك جميع المبصرات التي محاسنها ظاهرة ومعانيها التي تشينها وتقبحها خفية وليست بكل البينة يدرك البصر محاسنها ولا يدرك مقابحها. وإذا أدرك البصر محاسن الصورة ولم يدرك مقابحها فإنه يدركها حسنة ولا يحكم لها بشيء من القبح. وإذا أدرك البصر الصور المشينة حسنة فهو غالط في حسنها.
وكذلك إذا أدرك البصر في الليل وفي الضوء الخفي وفي المواضع المغدرة المبصرات التي معانيها الظاهرة قبيحة وغير مستحسنة ومحسنة لجملة الصورة، فإنه يدركها قبيحة غير مستحسنة ولا يحكم لها بشيء من الحسن إذا لم يدرك المحاسن اللطيفة التي فيها.
وإذا أدرك البصر الصورة الحسنة قبيحة فهو غالط في قبحها. والغلط في الحسن وفي القبح هو غلط في القياس لأن الحسن والقبح يدركان بالقياس، ولأن هذا الغلط الذي على هذه الصفة إنما يكون لتعويل البصر على المعاني الظاهرة فقط وسكونه إلى نتائجها من غير اعتبار بما يجوز أن يخفى في الحال عن البصر من المعاني. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في الضوء المعتدل فإنه يدرك محاسن المستحسن منها ويدرك معايب المستقبح، ولا يعرض له الغلط في حسن المستحسن ولا في قبح المستقبح، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
التشابه والاختلاف وعلى هذه الصفة بعينها قد يعرض للبصر الغلط في التشابه والاختلاف أيضاً. وذلك أن البصر إذا أدرك شخصين في موضع مغدر أو في ضوء سراج ضعيف الضوء، وكان ذانك الشخصان متشابهين في المعاني الظاهرة التي هي اللون والشكل والهيئة وأشكال أجزاء المبصر، وكان الشخصان مع ذلك مختلفين في معان لطيفة كالزرقة والشهلة والشقرة والنمش والكلف والآثار في أشخاص الناس وكالنقوش والتخاطيط اللطيفة في الثياب والفروش وسائر الآلات وسائر الجمادات، فإن البصر يدرك الشخصين الذين بهذه الصفة متشابهين ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف، لأنه لا يدرك المعاني اللطيفة التي فيهما في الموضع المغدر وفي الضوء الضعيف التي بها يختلفان. وإذا أدرك البصر الشخصين المختلفين متشابهين على الإطلاق ولم يحكم لهما بشيء من الاختلاف فهو غالط في تشابههما.
وكذلك إذا كان الشخصان مختلفين في المعاني الظاهرة، أعني في اللون والشكل والعظم وفي الهيئة وفي أشكال الأجزاء وهيئاتها، وكانا مع ذلك متشابهين في المعاني اللطيفة، فإن البصر إذا أدركهما في موضع مغدر وفي ضوء ضعيف فإنه يدرك الشخصين اللذين على هذه الصفة مختلفين على الإطلاق وغير متشابهين ولا يحكم لهما بشيء من التشابه إذا لم يدرك المعاني اللطيفة التي يتشابهان فيها. وإذا أدرك البصر الشخصين المتشابهين مختلفين ولم يحكم لهما بشيء من التشابه فهو غالط في اختلافهما.

والغلط في التشابه والاختلاف هو غلط في القياس، لأن التشابه والاختلاف يدركان بالقياس، ولأن هذا الغلط إنما هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة فقط وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال بالنقصان، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في ضوء معتدل فإنه يدرك المتشابه منها متشابهاً والمختلف مختلفاً، ولا يعرض له الغلط في تشابه المتشابه ولا في اختلاف المختلف، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج الضوء الذي في المبصرات عن عرض الاعتدال.

غلط البصر من أجل خروج حجم المبصر
غلط البصر في القياس من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال البعد فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصرين اللذين يكونان على وجه الأرض، ويكون بعدهما عن البصر بعداً مقتدراً، ويكونان متجاورين، ويكون بعد أحدهما عن البصر يزيد على بعد الآخر بمقدار يسير ليس له قدر محسوس عند جملة البعد، وتكون المسافة من الأرض المسامتة لبعد المبصرين من المسافات التي يدركها البصر ويتيقن مقدارها إلا أنها تكون من أعظم المسافات التي يتيقن البصر مقاديرها ولا تكون من أصغرها. فإن البصر إذا أدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة فإنه يدرك بعديهما متساويين ولا يحس بالاختلاف الذي بين بعديهما، إذا كان الاختلاف يسيراً ليس له قدر محسوس عند جملة البعد، وإن كان بعداهما من الأبعاد المعتدلة المتينة المقدار.
وذلك لأن البعد المعتدل المتيقن المقدار هو الذي يخفى عند آخره مقدار له محسوس النسبة إلى جملة البعد. وإذا كان ذلك كذلك فقد يخفى من البعد المعتدل مقدار ليس نسبته محسوسة إلى جملة البعد. فإذا كان البعد المعتدل من أعظم الأبعاد المعتدلة فإن الجزء منه الذي ليس له قدر محسوس عند جملته، إذا كان في طرفه الأبعد، فقد يخفى عن البصر، وإن كان ذلك الجزء من المقادير التي يدركها البصر من بعد أقرب من ذلك البعد. فإذا أدرك البصر مبصرين وكان بعداهما من أعظم الأبعاد المعتدلة، وكان بعد أبعدهما يزيد على بعد الآخر بمقدار ليس له نسبة محسوسة إلى جملة البعد، فإن البصر يدرك ذينك المبصرين متساويي البعد بالاختلاف الذي بين بعديهما.
وإذا أدرك البصر البعدين المختلفين متساويين فهو غالط في تساوي بعديهما، ويكون هذا الغلط غلطاً في القياس لأن البعد وتساوي الأبعاد يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج مقدار التفاوت الذي بين البعدين عن عرض الاعتدال، لأن الاختلاف بين البعدين إذا كان له مقدار مقتدر فإن البصر يدركه، ويدرك اختلاف البعدين، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذينك المبصرين وفي بعديهما في عرض الاعتدال.
الوضع

وقد يعرض الغلط في وضع المبصر أيضاً من أجل خروج حجمه عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كان في غاية الصغر وكان في مقدار الخردلة أو قريباً منها، وكان سطحه مع ذلك مسطحاً، فإن البصر إذا أدرك المبصر الذي بهذه الصفة، وكان سطحه مائلاً عن خطوط الشعاع ميلاً يسيراً، فإن البصر لا يدرك ميله، ولا يفرق بين وضعه إذا كان مائلاً ميلاً خفياً وبين وضعه إذا كان مواجهاً، بل إنما يدركه في الحالتين كأنه مواجه. وذلك أنا إذا توهمنا الخط المستقيم المعترض الذي يمر بوسط نهاية السطح المبصر الذي في غاية الصغر، الذي هو السطح المائل على خطوط الشعاع، ويكون هذا الخط عموداً على السهم المشترك، وهو الخط الذي يحد سمت المواجهة، فإن بعدي طرفي نهاية السطح المائل عن هذا الخط المعترض يكون كل واحد منهما في غاية الصغر. وإذا كان ميل هذا السطح يسيراً، وكان مقدار المبصر في غاية الصغر، كان مجموع هذين البعدين في حد من الصغر ليس للحس قدرة على إدراكه، وإن كان المبصر على وجه الأرض، وكان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة، وكان بعده عن البصر من الأبعاد المعتدلة. ومجموع هذين البعدين هو يساوي على التقريب لاختلاف بعدي طرفي المبصر الذي بهذه الصفة عن البصر. وميل المبصر إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف بعدي طرفيه. فإذا كان اختلاف بعدي طرفي المبصر غير محسوس فليس يدرك البصر ميل ذلك المبصر. فإذا أدرك البصر المبصر الصغير الحجم الذي على هذه الصفة التي وصفناها فليس يدرك ميله ولا يفرق بين وضعه المائل وبين الوضع المواجه.
وإذا توهمنا هذا المبصر ممتداً في جهة التباعد والتقارب ومتزيداً في السعة، فإن طرفيه يبعدان عن الخط المعترض ويتزيد بعدهما بتزيد المبصر.وإذا بعد طرفا المبصر الذي بهذه الصفة عن الخط المعترض فسينتهيان إلى حد يصير مجموع البعدين بل كل واحد منهما محسوس القدر من ذلك البعد بعينه الذي لوسط المبصر، الذي لا يدرك منه البصر مجموع بعدي طرفي المبصر الذي في غاية الصغر. ومجموع بعدي طرفي السطح المائل هو اختلاف بعدي طرفي المبصر على التقريب. فإذا كان المبصر مقتدر الحجم، وكان سطحه مائلاً عن سمت المواجهة، فقد يدرك البصر ميله، وإن كان ميله مساوياً لميل المبصر الذي في غاية الصغر الذي لا يدرك البصر ميله. فإذا كان المبصر في غاية الصغر، وكان سطحه مسطحاً، وكان سطحه المسطح مائلاً عن سمت المواجهة ميلاً يسيراً، فإن البصر ليس يدرك ميله في أكثر الأحوال، وإنما يدركه كأنه مواجه للبصر.
وإذا أدرك البصر المبصر المائل مواجهاً ولم يفرق بين ميله وبين مواجهته فهو غالط في وضعه. والغلط في الوضع هو غلط في وضعه. والغلط في الوضع هو غلط في القياس لأن الوضع يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج مقدار حجم المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر المقتدر الحجم الذي ميله مثل ميل المبصر الصغير الحجم، إذا أدركه البصر من بعد معتدل مساو للبعد الذي لا يدرك منه ميل المبصر الصغير الحجم، فإنه يدرك ميله على ما هو عليه ولا يعرض له الغلط في وضعه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال، كما تبين من الشرح الذي شرحناه الآن.
الشكل وقد يعرض الغلط في شكل المبصر أيضاً من أجل خروج حجمه عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر الذي في غاية الصغر كالذرة والخردلة أو ما جرى مجراهما في الصغر، وبالجملة أصغر المقادير التي يدركها البصر، إذا كان في المبصر منها تضاريس وزوايا، فإن البصر ليس يدرك التضاريس والزوايا التي تكون فيها، وإن كان يدرك جملتها، إذا كانت جملة المبصر من أصغر المقادير التي يدركها البصر. وذلك لأن المبصر إذا كان من أصغر المقادير التي يدركها البصر فأجزاؤه وخاصة الصغار منها هي من المقادير التي لا يدركها البصر. وإذا لم يدرك البصر الزوايا والتضاريس التي في المبصر فليس يدرك شكله على ما هو عليه، وإنما يدركه مستديراً أو مستطيلاً أو على شكل لا زوايا له ولا زوائد، جسماً كان المبصر أو سطحاً من سطوح الأجسام.
وكذلك إن كان في سطح المبصر الذي بهذه الصفة تحديب يسير أو تقعير فإنه يدركه مسطحاً ولا يتحقق هيئة سطحه ولا يفرق بين سطح المحدب والمقعر، إذا كان في غاية الصغر، وبين السطح المسطح.

وإذا أدرك البصر شكل المبصر على خلاف ما هو عليه فهو غالط في شكله، والغلط في الشكل على هذه الصفة هو غلط في القياس. وعلة هذا الغلط هو خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر إذا كان مقتدر الحجم فإن البصر يدرك شكله على ما هو عليه، ويدرك ما فيه من الزوايا والزوائد، ولا يعرض له غلط في شكله، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الغظم وقد يعرض الغلط في عظم المبصر أيضاً من أجل خروج عظم المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصرين من المبصرات معاً، وكان المبصران مختلفين في المقدار إما في طوليهما أو في عرضيهما أو في الطول والعرض معاً، وكان الاختلاف الذي بينهما يسيراً، فإن البصر ربما ظن بالمبصرين اللذين بهذه الصفة أنهما متساويا المقدار وأنه ليس بينهما اختلاف في مقداريهما، وذلك لصغر مقدار الاختلاف الذي بين مقداري المبصرين اللذين في غاية الصغر. والبصر ليس يدرك الاختلاف الذي بين المقادير إلا إذا كان الاختلاف مقتدر الحجم، وكان مع ذلك مقتدر النسبة إلى كل واحد من المقدارين. وكذلك ليس تتحقق مقادير الأجسام إلا بعد أن تقاس بمقياس. ولو كان تساوي المقادير واختلافها ومقادير اختلافها يدركها البصر إدراكاً محققاً لا يقع فيه غلط على تصاريف الأحوال لاستغني عن تقدير الأجسام بالمقاييس.
وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين متساويين فهو غالط في مقداريهما أو في مقدار أحدهما. والغلط في المقدار هو غلط في القياس. وعلة هذا الغلط هو خروج مقدار الاختلاف الذي بين المبصرين عن عرض الاعتدال بالتفاوت في الصغر، لأن المبصرين المختلفين إذا كان الاختلاف الذي بين مقداريهما مقتدر المساحة فإن البصر يدرك الاختلاف الذي بينهما إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
التفرق وقد يعرض الغلط في التفرق أيضاً من أجل الصغر المفرط. وذلك أن الإناء الزجاج إذا كان خالياً وكان باطنه شعرة سوداء ملتصقة بجسم الإناء، ونظر البصر إلى الإناء، فإنه ربما ظن بالشعرة أنها صدع في الزجاج إذا لم يكن قد تقدم علمه بأنها شعرة. وإنما يعرض له لهذا الغلط لفرط دقة الشعرة، لنه إذا كان مكان الشعرة جسم غليظ مقتدر الحجم ملتصق بالإناء من باطنه فليس يظنه البصر صدعاً في الزجاج. وإذا ظن البصر بالإناء الصحيح أنه مصدوع فهو غالط فيما يظنه من انصداعه.
وقد يعرض الغلط في الاتصال أيضاً من أجل صغر الحجم وذلك أن الأجسام المتضامة المنطبق بعضها على بعض ربما كانت الفصول التي بينها في غاية الصغر غلا تظهر للبصر ولا يحس بها البصر، كأوراق الدفاتر إذا كانت مخزومة مهندمة الحواشي فإن الفصول التي بين كل ورقتين منها ليس يدركها البصر في الأكثر لدقتها وضيقها، ويظهر سمك جملة الأوراق إذا كان مهندماً بعضها على بعض كأنها جسم واحد متصل. فإذا أدرك البصر سمك الأوراق التي بهذه الصفة، وكانت جملة الدفتر التي تلك أراقه مستتراً، ولم يكن قد تقدم علم الناظر في ذلك الموضع بشيء من الدفاتر، فإن البصر إذا أدرك سمك أوراق التي بهذه الصفة فإنه يظن أنها جسم واحد متصل ولا يشك في ذلك إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بحال تلك الأوراق بعينها. وذلك إنما هو للتفاوت المفرط في دقة الفصول التي بين الأوراق إذا كانت شديدة الالتصاق بعضها ببعض. وإذا أدرك البصر الأوراق الكثيرة المتضامة كأنها جسم واحد متصل ولم يحس بمواضع انفصال بعضها من بعض فهو غالط فيما يدركه من اتصالها وغالط في عددها أيضاً.
والغلط في التفرق والاتصال وفي العدد هي أغلاط القياس لأن التفرق والاتصال والعدد يدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هو خروج مواضع التفرق عن عرض الاعتدال بالإفراط في الدقة، لأن هذه المبصرات إذا كان التفرق الذي بينها والأجسام الدقاق التي تشبه التفرق مقتدرة المقدار فإن البصر يدركها على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الحركة

وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل الصغر المفرط.وذلك أن البصر إذا أدرك مبصرين متحركين على مسافتين متشابهتين، وقطع المبصران في زمان واحد جزء ين من المسافتين المتشابهتين، وكان الجزءان اللذان قطعهما المبصران المتحركان يختلفان بمقدار يسير في غاية الصغر بالقياس إلى جملة كل واحد من ذينيك الجزء ين، فإن البصر يدرك الحركتين اللتين بهذه الصفة متساويين ولا يشك في أن المتحركين الذين بهذه الصفة متساويا الحركة، وحركتاهما مع ذلك مختلفتان، لصغر التفاضل الذي بين المسافتين اللتين قطعهما ذانك المتحركان.
وإذا أدرك البصر الحركتين المختلفتين متساويتين فهو غالط في تساويهما، والغلط في الحركات وفي تساوي الحركات واختلافها هو غلط في القياس لأن الحركات وتساويها واختلافها يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج التفاضل الذي بين المسافتين اللتين قطعهما المتحركان في زمان واحد عن عرض الاعتدال. لأن المتحركين اللذين يقطعان مسافتين متشابهتين في زمان واحد، إذا كان التفاضل الذي بينهما مقتدر المساحة، فإن البصر يدرك اختلاف حركتيهما ولا يشتبه عليه ذلك إذا كانت المعاني الباقية التي في تينك المسافتين وفي ذينك المتحركين في عرض الاعتدال.
السكون والحركة وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل الصغر المفرط. وذلك أن البصر إذا أدرك بعوضة أو ذرة وكانت تلك البعوضة أو تلك الذرة في غاية الصغر، وكانت ثابتة في موضع واحد، وكانت تلك البعوضة أو تلك الذرة مع ذلك تحرك أعضاءها أو شيئاً من أعضائها، فإن البصر ليس يدرك أعضائها في أكثر الأحوال. وإذا لم يدرك البصر حركة أعضائها وكانت ثابتة في موضع واحد فإنه يظنها ساكنة.
وإذا أدرك البصر الحيوان المتحرك ساكناً فهو غالط فيما يدركه من سكونه، ويكون ذلك غلطاً في القياس لأن السكون يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو صغر أعضاء البعوض والذر وخروجها عن عرض الاعتدال بالإفراط في الصغر، لأن الحيوان المقتدر الحجم الذي أعضاؤه ولا تشتبه حركتها عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الحيوان في عرض الاعتدال.
الخشونة والملاسة وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة من اجل الصغر المفرط وذلك أن المبصر إذا كان في غاية الصغر كالبعوض أو عضو من أعضاء البعوض أو الذرة أو جزء من الذرة، فإن البصر إذا أدرك المبصر من هذه المبصرات فإنه لا يحس بهيئة سطحه ولا بخشونته إن كان خشناً ولا بملاسته إن كان أملس، لأن الخشونة والملاسة إنما يدركها البصر من إدراكه لأجزاء السطح وإدراكه لاختلاف وضع أجزائه أو تشابه أوضاعها، أو من إدراكه لاختلاف صورة الضوء الذي يظهر في السطح أو تشابه صورته. وإذا كان المبصر في غاية الصغر فليس يدرك البصر أجزاء سطحه، وإذا لم يدرك البصر أجزاء السطح فليس يحس بخشونته ولا بملاسته، فإن ظن البصر بشيء من هذه المبصرات أنه خشن فربما كان أملس وإن ظن بشيء منها أنه أملس فربما كان خشناً.
وإذا كان ذلك كذلك فالبصر قد يغلط في خشونة ما هذه صفته من المبصرات وفي ملاسته إذا حدس على خشونته وملاسته، فيكون غلطه غلطاً في القياس لأنه ليس يحدس البصر على خشونة شيء من الأشياء ولا على ملاسته إلا بأمارة يستدل بها على ما يظنه من خشونة ذلك المبصر أو ملاسته، أو من تشبيهه بغيره من المبصرات الخشنة أو الملس. وعلة هذا الغلط إذا عرض للبصر إنما هو الصغر المفرط، لأن المبصر إذا كان مقتدر الحجم فإن البصر يدرك خشونته وملاسته على ما هي عليه إذا كانت المعاني التي فيه عرض الاعتدال.
الشفيف فأما الشفيف فإن المبصر إذا كان في غاية الصغر وكان ذلك من الأحجار، وكان لونه شبيهاً بلون الأحجار المشفة، فإن البصر ربما ظنه من جملة الأحجار المشفة، وإن لم يكن مشفاً، إذا كان لونه وصورته تشبه الأحجار المشفة المتلونة كالجواهر المشفة. وإنما يتم على البصر هذا الغلط إذا لم يتمكن من استشفاف ذلك المبصر لصغر حجمه المفرط في الصغر، وإذا لم يتمكن من استشفافه وعول على المعاني الظاهرة التي هي اللون والصقال الذي يشبه ألوان الجواهر المشفة وصقالها ظنه من جملة الأحجار المشفة.

وقد يعرض الغلط في الكثافة أيضاً من أجل الصغر المفرط. وذلك ان المبصر إذا كان في غاية الصغر وفي مقدار جزء من أجزاء الخردلة، وكان فيه شفيف يسير، وكان لونه قوياً وكان مع ذلك منكسفاً، وكان على وجه الأرض، فإن البصر إذا أدرك المبصر الذي بهذه الصفة وهو على وجه الأرض أو على جسم من الأجسام الكثيفة فإنه لا يدرك الشفيف الذي فيه، لأنه إذا كان وراءه جسم كثيف فليس يظهر الضوء من ورائه. وإذا كان في غاية الصغر، وكان مع ذلك قوس اللون، فإن لون الجسم الذي وراءه والذي تحته إن كان يشف من ورائه فليس يتميز للبصر لونه من لون ذلك الجسم إذا كان الجسم في غاية الصغر. فليس يدرك البصر شفيف الجسم المفرط الصغر إذا كان مشفاً في أكثر الأحوال وكان مع ذلك متلوناً، وإذا لم يظهر شفيف الجسم وكان الجسم متلوناً وكان لونه منكسفاً وكان البصر يدركه ويدرك لونه فإن البصر يدركه كثيفاً.
وإذا أدرك البصر المبصر المشف كثيفاً فهو غالط فيما يظنه من كثافته. والغلط في الشفيف وفي الكثافة هما غلطان في القياس لأن الشفيف والكثافة يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين على الوجوه التي وصفناها هو الصغر المفرط المانع للبصر من تأمل أحوال المبصرات التي بهذه الصفة، لأن المبصر إذا كان مقتدر الحجم فإن البصر يدرك شفيفه إذا كان مشفاً، ويدرك كثافته إذا كان كثيفاً، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الظل والظلمة وقد يعرض الغلط في الظل والظلمة أيضاً من أجل الصغر المفرط على وجه من الوجوه. وذلك أن الحيطان البيض والأبواب والأخشاب إذا كان فيها نقط سود أو منكسفة اللون، ربما ظنها البصر ثقوباً صغاراً دقاقاً، وإذا كانت سوداً بذلك السواد أنه ظلمة دواخل تلك الثقوب، وإذا كانت منكسفة الألوان ولم تكن شديدة السواد وكان على سطح ذلك الجسم ضوء قوي ظن بذلك اللون أنه دواخل الثقوب لن الضوء لا يصل إلى دواخل الثقوب في أكثر الأحوال.
وإذا أدرك البصر النقط التي بهذه الصفة وظن أنها ثقوب وأن سوادها إنما هو ظلمة وأن ما كان منها منكسف اللون فهو للظل الذي في داخلها فإنه غالط فيما يظنه من الظل والظلمة على هذه الصفة. ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الظل والظلمة تدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط هو صغر مقادير تلك النقط، لأن النقط التي تكون في سطوح الأجسام إذا كانت مقتدرة الحجم فإن البصر يدركها نقطاً ولا يعرض الغلط فيها إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الحسن والقبح وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من أجل الصغر المفرط. وذلك ان المبصر إذا كان في غاية الصغر وكان شكله شكلاً مستقبحاً وكان ذا زوايا وزوائد في غاية الصغر، أو كانت فيه معان لطيفة في غاية الدقة من وشوم ونمش ومسامير وأجزاء متميزة، وكانت تلك الزوايا وتلك الزوائد وتلك المعاني اللطيفة تقبح صورته وتشينه، وكانت تلك الزوايا والزوائد والمعاني اللطيفة التي تشينه تخفى عن البصر لفرط صغرها ودقتها، فإن البصر يدرك شكل المبصر وصورته على خلاف ما هي عليه ولا يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيه التي هو بها مستقبح. وإذا لم يدرك البصر المعاني اللطيفة التي من أجلها تقبح صورة ذلك المبصر فليس يدرك البصر قبح ذلك المبصر. فإذا كان ما يظهر من شكل ذلك المبصر وما يظهر من لونه ومن جملة صورته مستحسناً فهو يدرك ذلك المبصر مستحسناً. وإذا أدرك البصر المبصر القبيح مستحسناً فهو غالط فيما يدركه من حسنه.
وكذلك إذا كان المبصر في غاية الصغر، وكان ظاهر صورته مستقبحاً، وكانت فيه معان لطيفة تحسن صورته، وكان البصر لا يدرك تلك المعاني اللطيفة لفرط صغرها، فإن البصر يدرك المبصر مستقبحاً. وإذا كان ذلك المبصر حسن الصورة بما فيه من المعاني اللطيفة، وكان ظاهر صورته مستقبحاً، وكان البصر يدرك صورته ولا يدرك المعاني اللطيفة التي فيه، ويظن من اجل ما يظهر من صورته انه قبيح الصورة فهو غالط فيما يظنه من قبحه.

والغلط في الحسن والقبح هو غلط في القياس لأن الحسن والقبح يدركان بالقياس، ولأن هذا الغلط إنما هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو الصغر المفرط لأن البصر المقتدر الحجم ليس يخفى عن البصر محاسنه ومقابحه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
التشابه والاختلاف وقد يعرض الغلط في التشابه والاختلاف أيضاً من أجل الصغر المفرط على هذا الوجه. وذلك أن المبصرين إذا كانا في غاية الصغر وكانا متساويين فيما يظهر من صورتيهما، وكان فيهما مع ذلك معان في غاية اللطافة يختلفان فيها، وكان البصر لا يدرك المعاني اللطيفة التي في ذينك المبصرين التي بها يختلفان لفرط صغرها ولطافتها ويدرك ظاهر الصورتين، فإن البصر يظن بذينك المبصرين أنهما متشابهان ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين متشابهين فهو غالط في تشابههما.
وكذلك إذا كان المبصران مختلفي الصورتين فيما يظهر من صورتيهما، وكان فيهما مع ذلك معان لطيفة يتشابهان فيها، وكان البصر لا يدرك تلك المعاني الطيفة لفرط دقتها ولطافتها، ويدرك ظاهر الصورتين، فإن البصر يظن بذينك المبصرين أنهما مختلفان ولا يحكم لهما بشيء من التشابه. وإذا أدرك البصر المبصرين المتشابهين مختلفين على الإطلاق فهو غالط فيما يظنه من اختلافهما.
والغلط في التشابه والاختلاف هو غلك في القياس، لأن التشابه والاختلاف يدركان بالقياس ولأن هذا الغلط هو لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذا الغلط هو الصغر المفرط، لن المبصرين إذا كانا مقتدري الحجم وكانا متشابهين أو مختلفين بمعان لطيفة تكون فيهما نظيرة للمعاني التي تكون في المبصر الذي في غاية الصغر ومناسبة للمبصر المقتدر الحجم، فإن البصر يدرك تشابه المتشابهين فيهما ويدرك اختلاف المختلفين إذا كانت المعاني الباقية التي فيهما في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال، أو خروج حجم المعاني التي في المبصر عن عرض الاعتدال.

غلط البصر من أجل كثافة المبصر
الوضع والبعد فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر المشف الشديد الشفيف النقي البياض، كالزجاج والبلور وما جرى مجراهما، إذا كان الجسم من الأجسام ذا سمك مقتدر، وكان سطحه مستوياً، وكان سطحه مائلاً على خطوط الشعاع، وكان وراءه ضوء قوي. فإن البصر إذا أدرك المبصر الذي بهذه الصفة فإنه يدركه مضيئاً شديد الإضاءة. فإذا كان المبصر مرتفعاً عن سطح الأرض، ولم يكن مماساً لجسم من الأجسام الكثيفة، فإن البصر لا يتحقق ميل سطحه ولا يدركه إلا كما يدرك المبصر المواجه ولا يتحرر له أيضاً هيئة سطحه. وذلك لأن المبصر إذا كان في غاية الشفيف، وكان وراءه ضوء قوي، فإن البصر إنما يدرك الضوء الذي وراءه ولا يدرك الجسم المشف نفسه إذا كان في غاية الشفيف. وإذا كانت فيه كثافة يسيرة فإنه يدركه لما فيه من الكثافة، ولكن إدراكاً غير محقق. وإذا أدركه إدراكاً غير محقق فليس يتحقق وضعه ولا يفرق البصر بين السطح المائل الذي بهذه الصفة وبين السطح المواجه. وإذا أدرك البصر السطح المائل مواجهاً فهو غالط في وضعه وفي بعد أطرافه أيضاً، لأن المائل تكون أبعاد أطرافه مختلفة، والمواجه تكون أبعاد أطرافه متساوية، فإذا أدرك البصر المائل مواجهاً فهو يدرك الأبعاد المختلفة متساوية.
الشكل وكذلك إذا كان سطح المبصر الذي بهذه الصفة محدباً تحديباً يسيراً أو مقعراً تقعيراً يسيراً، فإن البصر لا يدرك تحديبه ولا تقعيره، ولا يفرق بين السطح المحدب والمقعر والمسطح، إذا كان الجسم شديد الشفيف ولم يكن فيه من الكثافة إلا قدر يسير، وكان التحديب أو التقعير الذي فيه يسيراً، وكان الضوء الذي يظهر من ورائه قوياً، لأنه لا يتحقق صورة سطحه من أجل شدة شفيفه وقوة الضوء الذي يظهر من ورائه. وإذا لم يدرك البصر التحديب والتقعير الذي في سطح المبصر، فيظن بسطح المبصر أنه مسطح، فهو غالط في شكل السطح.
العظم

وإذا أدرك البصر المبصر المشف الذي بهذه الصفة، وكان سطحه مسطحاً ومائلاً على خطوط الشعاع، وأدركه البصر مواجهاً، فإنه يغلط في عظم ذلك السطح أيضاً، لأن العظم إنما يدركه البصر من قياس العظم بالزاوية التي يوترها ذلك العظم وببعد ذلك العظم، فإذا كان المبصر مائلاً وأحس البصر بميله أدرك مقداره أعظم من مقدار المبصر المواجه الذي يوتر زاوية مساوية لتلك الزاوية. وإذا أدرك المبصر المائل مواجهاً فهو يقيس عظمه بالزاوية التي يوترها ذلك العظم وببعد أطرافه على أنها متساوية، فيدرك عظمه من أجل ذلك أصغر من مقداره الحقيقي.
التفرق والاتصال وإن كان في الجسم المشف الذي بهذه الصفة خط مخطوط في سطحه من جسم كثيف متلون، أو كان جزء من ذلك الجسم كثيفاً وممتداً في طوله أو عرضه، أو كان وراءه جسم كثيف ملتصق به كالعود وما يجري مجراه، وكان ذلك الخط أو ذلك الجزء أو ذلك العود مقتدر العرض، فإن البصر ربما ظن بالجسم المشف الذي بهذه الصفة أنه جسمان مفترقان، وأن الخط الكثيف أو الجزء الكثيف الذي يظهر في سطحه هو جسم ثالث متوسط بين الجسمين المشفين.وذلك لأن شدة الضوء الذي يظهر من وراء الجسم المشف يمنع البصر من تأمل المعاني التي تكون في ذلك المبصر. فإذا ظهر في سطح المبصر الذي بهذه الصفة جزء مقتدر العرض وكان كثيفاً فإن البصر لا يتحقق مع ذلك اتصال الجسم المشف. وإذا ظن البصر بالجسم المتصل أنه جسمان متفرقان فهو غالط فيما يدركه من التفرق وغالط في العدد أيضاً.
وكذلك إن كان المبصر المشف الذي بهذه الصفة جسمين أو أكثر من جسمين منطبق أحدهما على الآخر، وكانت سطوحها المنطبق بعضها على بعض في غاية التشابه، فإن البصر لا يدرك الانفصال الذي بين الأجسام التي بهذه الصفة.
وكذلك إن كان بين الجسمين من هذه الأجسام تفرق يسير، وكان نهاية التفرق الذي بينهما في السطح المائل على خطوط الشعاع، فإن البصر لا يدرك التفرق الذي بينهما، لأن نهاية التفرق إذا كان في السطح المائل فليس يدرك البصر الضوء الذي من وراء التفرق وإنما يدرك الضوء من وراء الجسم المشف فلا يحس بالتفرق.
وإذا لم يدرك البصر التفرق فإنه يظن بالجسمين أنهما جسم واحد متصل، وإذا ظن بالجسمين المتفرقين أو الأجسام المتفرقة أنها جسم واحد متصل فهو غالط فيما يدركه من الاتصال وغالط في عددها أيضاً. والغلط في البعد وفي الوضع وفي الشكل وفي العظم وفي التفرق وفي الاتصال وفي العدد هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني إنما تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط إنما هو خروج الكثافة التي في المبصر الذي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان كثيفاً، أو كان مشفاً شفيفاً يسيراً وكانت في كثافة قوية، لم يكن الضوء الذي يظهر من ورائه مسرف القوة، وإذا لم يكن الضوء الذي يظهر من وراء الجسم المشف مسرف القوة فإن البصر يدرك ميل سطحه إذا كان مائلاً، ويدرك اختلاف أبعاد أطرافه، ويدرك عظمه، ويدرك التفرق الذي يكون فيه إن كان فيه تفرق، ويدرك اتصاله إذا كان متصلاً، ويدرك جميع المعاني التي فيه ولا يعرض له الغلط في شيء منها، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الجسم في عرض الاعتدال.
الحركة

وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى جسم مشف شديد الشفيف نقي البياض، وكانت أطراف ذلك الجسم مستترة عن البصر، وهو أن يكون البصر يدرك ذلك المبصر من ثقب أو من باب ضيق، وكان وراء الجسم وقريباً منه أو مماساً له جسم مختلف الألوان، وكان ذلك لجسم المختلف الألوان يتحرك حركة على الاستدارة أو حركة اضطراب أو حركة ترجح، أعني أن يتحرك في جهة عرض المشف ويعود سريعاً إلى الجهة التي منها تحرك، فإن البصر إذا أدرك المبصر المشف على هذه الصفة فإنه إن لم يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجسم أنه مشف فإنه يظن به أنه متحرك. وذلك لنه إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بشفيف ذلك الجسم فإنه يظن بالضوء الذي يظهر من ورائه أنه لون ذلك الجسم المشف وأنه كثيف، وإذا أدرك تبدل الألوان المختلفة التي في الجسم المتحرك الذي يظهر من وراء الجسم المشف أو اختلاف أوضاعها فإنه يظن أن تلك الحركة وذلك التبدل إنما هو حركة الجسم الذي يدركه الذي يظنه كثيفاً متلوناً. وإذا أدرك المبصر الساكن متحركاً فهو غالط في حركته.
وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من اجل شدة الشفيف. وذلك أن البصر إذا أدرك جسماً من الأجسام المشفة الشديدة الشفيف، وكان ذلك الجسم كرياً كالكرة البلور، وكانت تلك الكرة تتحرك حركة مسديرة، وهي ان تكون في يد إنسان وهو يحركها والناظر لا يعلم بتحريك المحرك لها، فإن البصر يدرك الكرة التي بهذه الصفة ساكنة ولا يحس بحركتها. وذلك لأن الكرة التي بهذه الصفة إذا كانت شديدة الشفيف، ولم يكن فيها شيء كثيف، فإنها تكون متشابهة الأجزاء. وإذا كانت متحركة حركة مستديرة وهي في موضع واحد، فإن البصر ليس يدرك من ورائها إلا الجسم الواحد الذي هو وراءها. والحركة المستديرة إنما يدركها البصر من تبدل أجزاء المبصر. وإذا كانت الكرة متشابهة الجزاء، وكان الجسم الذي يظهر من ورائها واحداً وفي موضع واحد، فليس يدرك البصر تبدل أجزائها، وإذا لم يدرك تبدل أجزائها فليس يدرك حركتها، وإذا لم يدرك حركتها فهو يظنها ساكنة. وإذا أدرك البصر المبصر المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه.
والغلط في الحركة وفي السكون هما غلطان في القياس لأن الحركة والسكون يدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط في الحركة التي على الصفة التي وصفناها وفي السكون الذي وصفناه هو شدة شفيف الجسم، لأن الجسم إذا كان كثيفاُ أو كان مشفاً وكان شفيفه يسيراً وكثافته قوية فإن البصر يدركه على ما هو عليه ويدرك شفيفه ويتميز له لونه من لون الجسم الذي وراءه. وإذا تميز للبصر لون الجسم المشف من لون الجسم الذي وراءه وكان الجسم الذي وراءه متحركاً والمشف ساكناً أو كان الذي وراءه ساكناً والمشف متحركاً فإنه يحس بحركة المتحرك وسكون الساكن إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الجسم المشف في عرض الاعتدال.
الخشونة والملاسة وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة أيضاً من أجل شدة الشفيف. وذلك أن المبصر إذا كان في غاية الشفيف، وكان وراءه ضوء قوي، وكان البصر يدرك ذلك المبصر ويدرك الضوء القوي الذي يظهر من ورائه، وكان في سطح ذلك المبصر خشونة، فإن البصر لا يدرك الخشونة التي تكون في سطحه. وكذلك عن كان سطحه أملس فإن البصر لا يدرك ملاسته. وإن كان سطح ذلك المبصر أملس، وكان الضوء الذي يظهر من ورائه مختلف الصورة، وذلك بان يكون جسم قائم على جسم مختلف الألوان صغاراً، ويكون ذلك الجسم خشناً خشونة ظاهرة اعني الجسم الذي عليه الضوء، فإن البصر ربما ظن بالمبصر الذي على هذه الصفة أن سطحه خشن، ولا تكون فيه خشونة . وإذا ظن به انه خشن السطح، ولم تكن فيه خشونة، فهو غالط فيما يظنه من خشونته. وإذا كان سطح المبصر خشناً، ولم يحس بخشونته لقوة الضوء الذي يظهر من ورائه، فإنه يظنه أملس. وإذا ظن البصر بالجسم الخشن أنه أملس فهو غالط في ملاسته.
والغلط في الخشونة وفي الملاسة هو غلط في القياس لن الخشونة والملاسة يدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الكثيف والذي فيه كثافة قوية، إذا كان فيه خشونة أو كان فيه ملاسة، فإن البصر يدرك خشونة الخشن وملاسة الأملس إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.

الشفيف وقد يعرض الغلط في الشفيف أيضاً من أجل فرط الشفيف. وذلك أن المبصر المشف التقي البياض، إذا كان وراءه جسم آخر مشف وكان الثاني ضعيف الشفيف وكان مع ذلك ذا لون قوي مشرق، وكان مع ذلك لون قوي مشرق، وكان الجسم الثاني ملتصقاً بالجسم الأول، فإن البصر يدرك الجسمين اللذين بهذه الصفة كأنهما جسم واحد، ويدرك الجسم الأول متلوناً بلون الجسم الثاني، ويدرك شفيف الجسم الأول كمثل شفيف الجسم الثاني إذا كان ملتصقاً به. وهذا المعنى يوجد كثيراً في الزجاج المطبق بعضه على بعض، وفي الفصوص المتخذة من الزجاج المطبق بعضه على بعض، وفي الفصوص المتخذة من الزجاج المطبق بعضها على بعض، إذا كان أحدها متلوناً والآخر نقي البياض. وذلك لأن الجسم الأول إذا كان شديد الشفيف، وكان الثاني ضعيف الشفيف، وكان مع ذلك متلوناً بلون قوي، فإن البصر يدرك الثاني ولا يحس بالأول لفرط شفيفه، وتظهر جملة الجسمين كأنهما جسم واحد. وقد يكون الجسمان جميعاً أبيضين متساويي الشفيف، ويجعل فيما بينهما صبغ، ويطبق أحدهما على الآخر، فيظهران جميعاً متلونين بذلك الصبغ، ومع ذلك يظهر شفيفهما أقل من شفيفهما الحقيقي فهو غالط في شفيفه.
وقد يعرض الغلط في الكثافة أيضاً على هذا الوجه. وذلك إذا كان الجسم الأول المشف نقي البياض شديد الشفيف، وكان الجسم الذي وراءه كثيفاً متلوناً، وكان الثاني ملتصقاً بالأول، فإن البصر يدرك الأول المشف كثيفاً إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بشفيفه. وجميع الواني المشفة إذا كان فيها جسم متلون كثيف أو شراب قوي اللون، ولم يكن الضوء يظهر من ورائها ولم يظهر شفيف الشراب الذي فيها، فإن البصر لا يحس بشفيف تلك الواني. فإذا لم يتقدم علم الناظر بشفيف تلك الآنية، ولم يدرك البصر الفسل من تلك الآنية عن الشراب الذي فيها، فإنه ربما ظنها كثيفة، وذلك إنما هو لفرط شفيف الآنية ولقوة اللون الذي يظهر من ورائها. فإذا لم يتقدم علم الناظر بشفيف تلك الأواني فإنه ربما ظن أن ذلك اللون هو لون الآنية وأنها كثيفة. وإذا ظن أن ذلك اللون هو لون الآنية وأنها كثيفة. وإذا ظن أن ذلك اللون هو لون الآنية وأنها كثيفة. وإذا ظن البصر بالجسم المشف أنه كثيف فهو غالط في كثافته.
والغلط في الشفيف وفي الكثافة هو غلط في القياس لأنهما يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين هو شدة الشفيف الذي في الجسم الأول. لأن الجسم الأول إذا كان فيه كثافة قوية وكان فيه شفيف يسير، وكان وراءه جسم آخر مشف، فليس يشتبه على البصر شفيفه ومقدار شفيفه، إذا كان الجسم الذي وراءه ذا لون مشرق قوي وكان الجسم الأول أبيض نقي البياض وكانت المعاني الباقية التي فيهما في عرض الاعتدال.
الظل وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من أجل شدة الشفيف. وذلك إذا كان في حائط من حيطان بيت من البيوت ثقب يفضي إلى بيت آخر أو فضاء، وكان وجه ذلك الثقب مسدوداً بجسم مشف كالجمات الزجاج التي تكون في الحيطان للضوء، وكان ذلك الجام المشف شديد الشفيف نقي البياض وكان سطحه مستوياً، وكان الحائط المقابل لذلك الثقب ثقب آخر نافذ منكسف للسماء، ودخل ضوء الشمس من الثقب النافذ وانتهى إلى الجسم المشف المقابل له، وكان مقدار الضوء لا يفضل على ذلك الجسم المشف، فإن البصر إذا نظر إلى الجسم المشف الذي بهذه الصفة ولم يكن البصر في الموضع الذي ينعكس إليه الضوء من سطح ذلك الجسم المشف ولا على سمت الانعكاس، فإن البصر يدرك الجسم المشف الذي بهذه الصفة مستظلاً ولا يدرك ضوء الشمس المشرق عليه. وذلك لأن الجسم المشف إذا كان في غاية الشفيف فإن الضوء إذا أشرق عليه نفذ فيه لشفيفه ولم يثبت في سطحه. وإذا كان ذلك المشف صقيلاً فإن الضوء مع نفوذه فيه ينعكس عن سطحه كما ينعكس عن سطوح الأجسام الصقيلة. وإذا لم يثبت في سطحه ولم يكن البصر في الموضع الذي ينعكس إليه الضوء ولا على سمت الانعكاس فإن البصر لا يدرك الضوء الذي أشرق على ذلك الجسم. وإذا كان ما يحيط بذلك الجسم من الأجسام الكثيفة وحيطان الموضع مستظلة، وذلك الجسم المشف فيما بينها، فإن لا يشك في أن حال ذلك الجسم في الظل كحال الأجسام التي حوله، إذا لم يتقدم علم الناظر بدخول ضوء الشمس من الثقب المقابل.

وإذا أدرك البصر الجسم الذي قد أشرق عليه ضوء الشمس مستظلاً فهو غالط في ما يدركه من استظلاله. والغلط في الظل هو غلط في القياس لأن الظل يدرك في القياس. وعلة هذا الغلط هو فرط شفيف الجسم المشف الذي يدركه البصر على الصفة التي وصفناها، لأن الجسم الذي وصفناه، إذا كان كثيفً أو كان فيه كثافة قوية، فإن الضوء إذا أشرق عليه ثبت في سطحه، وأدرك البصر الضوء الذي في سطحه ولم يدركه مستظلاً إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الظلمة وقد يعرض الغلط في الظلمة أيضاً من أجل فرط الشفيف. وذلك أن البخار والمياه الواقفة، إذا كانت صافية مشفة شديدة الشفيف وكانت مع ذلك عميقة كثيرة السمك، فإن البصر يدركها مظلمة مع إشراق الضوء عليها ونفوذ الضوء في شفيفها، وإن لم تكن تربتها سوداء، وخاصة إذا أدركها البصر في أول النهار وآخره قبل طلوع الشمس وبعد غروبها، أو إذا كانت محتجبة بالسحاب، ولم يكون صريح ضوء الشمس من فاعل الماء. فإن البصر إذا أدرك البحر والمياه الواقفة الصافية الشفيف الكثيرة العمق في هذه الأوقات فإنه يدركها مظلمة وليس هناك ظلمة.
وإذا أدرك البصر الظلمة في موضع من المواضع ولم يكن هناك ظلمة على ما يدركها البصر فهو غالط فيما يدركه من الظلمة. والغلط في الظلمة هو غلط في القياس لأن الظلمة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو شدة شفيف الماء الذي بهذه الصفة، لأن البصر إذا أدرك الماء الكدر أو الذي فيه كدورة يسيرة الذي ليس شفيفه في الغاية فليس يدركه مظلماً وإن كان عميقاً كثير السمك.
فأما لم يدرك البصر ماء البحر مظلماً إذا كان شديد الشفيف فإن ذلك لأن الماء ليس يبلغ شفيفه شفيف الهواء وإن كان شديد الشفيف. فإذا أشرق عليه الضوء كان له ظل على أرضه، وكان لبعضه ظل على بعض، وكان قبوله لصورة الضوء ليس كقبول الهواء لصورة الضوء الذي فيه، فيكون الضوء الذي في الجسم المشف الذي هو جسم الماء دون الضوء الذي في الهواء، ولا ينفذ الضوء فيه كنفوذه في الهواء. فإذا لم ينفذ الضوء فيه كنفوذه في الهواء، والبصر مع ذلك يدرك الماء للغلط الذي فيه ويدرك ما في داخل الماء إذا كان مشفاً صافي الشفيف، فالبصر يدرك الظل الذي في داخل الماء الذي هو ظل بعضه على بعض. وإذا كان الماء مشفاً صافي الشفيف، وكان مع ذلك عميقاً، فإن البصر يدرك منه مسافة لها قدر. وإذا أدرك البصر من الماء مسافة لها قدر، وهو يدرك كل جزء من الماء الذي في تلك المسافة مستظلاً، فهو يدرك في الماء ظلاً ذا سمك مقتدر، فهو يدرك ظلاً متضاعفاً . وإذا تضاعف الظل صار ظلمة قوية. لأن الظل الذي يدركه البصر هو بمنزلة اللون الرقيق إذا تضاعف صار لوناً قوياً.
ولهذا المعنى نظير في الجسم المشف المتلون، وهو الشراب المشف الرقيق اللون. فإن الشراب الريق اللون إذا سكب في الإناء ظهر في حال انسكابه أبيض أو ذا لون خفي، وظهر شفيف ما ينسكب منه ظهوراً بيناً، وإذا اجتمع ذلك الشراب في إناء كبير مشف فإن يظهر لونه قوياً صبغاً. وإن لم يكن وراءه ضوء قوي ظهر كثيفاً. واللون القوي الذي يظهر للشراب الرقيق اللون إذا اجتمع في الإناء إنما يظهر لوناً قوياً لتضاعف لونه بتضاعف أجزاءه. وكذلك الظل الذي يدركه البصر في داخل الماء هو ظل رقيق. وإذا كان الماء عميقاً كثير السمك تضاعف ذلك الظل الرقيق لتضاعف أجزاء الماء. وإذا تضاعف الظل صار ظلمة قوية. فلذلك يدرك البصر ماء البحر العميق مظلماً.
والماء الكدر الذي شفيفه يسير ليس يدركه البصر مظلماً لأن الماء الكدر ذو لون ظاهر وكثافة قوية، فليس يدرك البصر من جميعه إلا مسافة يسيرة لقوة لونه وضعف شفيفه، فليس يدرك الظل في داخله لقلة سمك ما يدركه البصر من الظل ولاستظهار لون الماء الذي في تلك المسافة على صورة الظل الذي فيها.
الحسن والقبح

وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من أجل فرط الشفيف. وذلك أن الأواني المشفة كالبلور والزجاج إذا كانت أشكالها حسنة وكانت صافية الشفيف وكان في تضاعيفها مواضع متلونة بألوان غير مستحسنة كالعيوب التي تكون في البلور والزجاج، وكانت تلك المواضع تشين تلك الأواني وتقبحها، فإن البصر إذا أدرك الأواني التي بهذه الصفة وهي خالية فإنه يدرك شفيفها ويدرك المواضع التي تشينها، وإذا أدرك المواضع التي تشينها فهو يدرك صورتها مستقبحة. فإذا كان في تلك الأواني شراب قوي اللون، ومع ذلك حسن اللون، فإن تلك الأواني تظهر حسنة الصورة لحسن أشكالها وحسن الشراب الذي فيها ولا تظهر تلك المعاني التي تشينها، لأن لون الشراب الذي في داخلها يخفي تلك المواضع التي فيها. وإذا أدرك البصر الأواني التي بهذه الصفة، ولم يكن أدركها من قبل، فإنه يدركها حسنة الصورة ويحس بقبحها. وإذا أدرك البصر المبصر القبيح حسناً فهو غالط في حسنه.
وعلى هذه الصفة بعينها يعرض الغلط في قبح المبصر من أجل الشفيف.
وذلك أن الأواني المشفة المحكمة الصنعة التي فيها نقو وتماثيل مستحسنة إذا كانت أشكال تلك الأواني مستقبحة، وكان فيها شراب قوي مظلم اللون أو شيء من الأجسام السيالة المتلونة بألوان غير مستحسنة، فإن البصر يدركها مستقبحة ولا يحس بشيء من محاسنها إذا كانت في غاية الشفيف. لأنها إذا كانت في غاية الشفيف لم تظهر النقوش التي فيها، أو لم تظهر على ما هي عليه وإذا كانت أشكالها مستقبحة والشراب الذي فيها مستقبح اللون فالبصر يدرك مقابحها ولا يدرك محاسنها.
وإذا أدرك البصر مقابح المبصر ولم يدرك محاسنه فهو يدركه مستقبحاً. وإذا أدرك البصر المبصر الذي بهذه الصفة مستقبحاً فهو غالط فيما يدركه من قبحه.
وعلى هذه الصفة بعينها يعرض الغلط في التشابه والاختلاف من أجل فرط الشفيف وذلك أن المبصرين إذا كانا مشفين، وكانا متشابهين في أشكالهما وفي شفيفهما، وكانت فيهما نقوش وخروش وتماثيل، وكانت النقوش التي في ذينك المبصرين مختلفة، وكان المبصران في غاية الشفيف، وكان فيهما شراب متشابه اللون، فإن البصر يدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة متشابهين ولا يحس بشيء من اختلافهما ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين في معنى من المعاني متشابهين على الإطلاق، ولم يحس باختلافهما، فهو غالط في تشابههما.
وكذلك إذا كان المبصران اللذان بهذه الصفة مختلفين في المعاني الظاهرة ومتشابهين في النقوش والمعاني اللطيفة فإن البصر يدركهما مختلفين ولا يحس بتشابههما ويكون غالطاً في اختلافهما.
والغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس، لأن هذه المعاني تدرك بالقياس، ولأن هذه الأغلاط إنما هي لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذه الأغلاط هو فرط الشفيف، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا كان شفيفها يسيراً، وكان فيها كثافة، فإن البصر يدرك المعاني التي فيها ويدرك حسن الحسن منها وقبح القبيح وتشابه المتشابه واختلاف المختلف على ما هو عليه، ولا يعرض له غلط فيما يدركه منها، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال.

غلط البصر من أجل شفيف الهواء
البعد فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال فإن ذلك يكون في المبصرات التي يدركها البصر في الضباب أو القتام. وذلك يعرض عند غشيان الضباب للموضع وقبل أن يصل إلى موضع البصر، أو إذا كان القتام في موضع من الأرض والبصر خارج عن ذلك الموضع. وإدراك المبصرات في الضباب يعرض كثيراً لسكان الجبال والمواضع الشديدة البرد، فإن الضباب يغشاهم كثيراً في الشتاء، وقد يكون في السهول أيضاً وفي المواضع المعتدلة الهواء في بعض الأوقات.

فإذا أدرك البصر المبصر في الضباب أو في القتام فليس يتيقن مقدار بعده وإن كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة. وذلك لأنه ربما لم يدرك البصر وجه الأرض في الضباب أو القتام، وإن أدرك وجه الأرض فليس يدركه إدراكاً صحيحاً ولا يتحقق صورة ما بعد عن قدميه في الأرض، ولا يتحقق وضع المبصر أيضاً إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع، ولا يفرق بين سطح المبصر المائل وبين سطح المبصر المواجه إذا أدركه في الضباب أو القتام، وخاصة إذا كان المبصر في الضباب أو القتام وكان البصر في هواء لطيف. وإذا أدرك البصر المبصر ولم يتحقق مقدار بعده فربما ظنه بعيداً ويكون ذلك المبصر قريباً، وذلك في المبصرات المألوفة، لأنه يدرك صورة المبصر في الضباب وفي القتام مشتبهة غير بينة. وربما ظن بالمبصر أنه قريب، ويكون المبصر بعيداً، كالجبال والروابي. فإن البصر إذا أدرك الجبال من وراء الضباب والهواء ا لغليظ فإنه يظنها قريبة وهي مع ذلك بعيدة. وذلك لعظم صورتها، لأن البصر إذا أدرك عظمها فليس يدرك سطح الأرض القريب منه الذي بينه وبينها إدراكاً صحيحاً، لأن عظمها إنما هو لقربها. وإذا ظن البصر بالمبصر القريب أنه بعيد وبالبعيد أنه قريب فهو غالط في بعده.
الوضع وكذلك إذا أدرك البصر المبصر في الضباب وفي القتام، وكان مائلاً على خطوط الشعاع، فإنه يظنه مواجهاً، لأنه إذا أدركه في الضباب وفي القتام فليس يدرك صورته إدراكاً محققاً، وليس يدرك اختلاف أبعاد أطرافه لأنه ليس يتحقق مقدار بعده. وإذا لم يدرك اختلاف أبعاد أطرافه فليس يدرك ميل سطحه، وإذا لم يدرك ميل سطحه فإنه يدركه كأنه مواجه. وإذا أدرك البصر المبصر المائل كأنه مواجه فهو غالط في وضعه.
الشكل وكذلك إذا كان في سطح المبصر تحديب يسير أو تقعير يسير أو أجزاء مختلفة الوضع فإن البصر لا يدرك التحديب اليسير الذي يكون في سطح المبصر ولا التقعير اليسير إذا أدركه في الضباب وفي القتام، ولا يتحقق صورته، ولا يفرق بين السطح المحدب إذا كان تحديبه يسيراً وبين السطح المسطح. وكذلك لا يفرق بين التقعير اليسير والتسطيح. وإذا ظن البصر بالسطح المحدب أو المقعر أنه مسطح فهو غالط. وكذلك إذا كان المبصر ذا زوايا صغار وزوائد صغار فليس يدركها البصر في الضباب الغليظ والقتام ولا يتحقق شكل المبصر الذي بهذه الصفة.
العظم وإذا أراد البصر المبصر في الضباب والقتام، وكان البصر في هواء لطيف، فإنه يدرك مقداره أعظم من مقداره الحقيقي كما يدرك المبصرات التي تكون في الماء. وإذا أدرك البصر مقدار المبصر أعظم من مقداره الحقيقي فهو غالط في عظمه.
التفرق وإذا أدرك البصر المبصر في الضباب أو في القتام، وكان ذلك المبصر من الأجسام الخشنة، وكان في ذلك المبصر خطوط سود أو مظلمة اللون، فإن البصر ربما ظن بتلك الخطوط أنها شقوق وفصول إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بتلك الأجسام. وكذلك إذا أدرك البصر الحيطان في الضباب، وكان في تلك الحيطان خطوط سود أو مظلمة اللون، فإنه ربما ظنها شقوقاً. وكذلك إذا أدرك البصر أجساماً منطبقاً بعضها على بعض، وكانت مواضع فصولها في غاية الدقة، فليس يدرك البصر فصولها التي بهذه الصفة إذا كانت المبصرات في الضباب أو القتام.
وإذا ظن البصر الخطوط أنها شقوق فهو غالط فيما يدركه من تفرقها. وإذا لم يحس بمواضع الفصول من الأجسام المتطابقة فهو يدرك تلك المبصرات كأنها جسم واحد متصل. وإذا أدرك البصر المبصرات المتطابقة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط في الاتصال، وغالط في العدد أيضاً.
جميع المعاني السابقة وقد يعرض للبصر الغلط في جميع هذه المعاني إذا حدث في الهواء دخان قوي وكان البصر خارجاً من الدخان: فإن المبصرات التي يدركها البصر من وراء الدخان ليس يتحقق مقدار بعده، ولا يتحقق وضعها، ولا المعاني التي تكون فيها، ويدرك أعظامها أعظم من مقدارها الحقيقي إذا كان البصر خارجاً من الدخان ومائلاً عنه لأن الدخان أغلظ من الهواء وأقل شفيفاً.

والغلط في جميع هذه المعاني هو غلط في القياس، لأن جميع هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر والمبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي يدركها البصر في الهواء الغليظ الذي يعرض له الغلظ فيها إذا أدركها البصر في الهواء اللطيف فإنه يدرك كل واحد من المعاني التي فيها على ما هو عليه، ولا يعرض له الغلط في شيء منها، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
الحركة وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصرين متحركين على الاستقامة وعلى سمت المقابلة، وكان المتحركان متحاذيين في جهة التباعد كفارسين يتحاربان، وكانت حركتاهما مختلفة، وكان الاختلاف الذي بينهما يسيراً، فإن البصر إذا أدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة في الضباب أو في القتام فإن البصر لا يحس باختلاف حركتي المتحركين اللذين على هذه الصفة، ويظن بحركتيهما أنهما متساويتان، ما لم يكن الاختلاف الذي بينهما متفاوتاً. وذلك لأن البصر إذا أدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة في الضباب أو في القتام فإنه ليس يدرك وجه الأرض في تلك الحال إدراكاً محققاً لغلظ القتام أو الضباب. وإذا لم يدرك البصر وجه الأرض فليس يدرك مقدار بعدي المتحركين. وإذا لم يدرك مقدار بعدي المتحركين فليس يدرك اختلاف مقداري المسافتين اللتين يقطعهما انك المتحركان إذا كان الاختلاف الذي بينهما يسيراً. وليس يدرك البصر من المتحركين اللذين بهذه الصفة إلا تباعدهما فقط بالتباس صورتيهما عند التباعد وباختلاف ما يسامتانه من الأرض من قياس البصر لهما بالأجزاء المتفاوتة العظم من أجزاء الأرض، لا بالأجزاء الصغار من الأرض ، لأن الأجزاء الصغار من الأرض ليس تتم في الهواء المسرف الغلظ. فإن كان الاختلاف الذي بين الحركتين متفاوتاً، وأطال البصر النظر إلى المتحركين، أحس باختلاف الحركتين. وإن لم يكن الاختلاف الذي بينهما متفاوتاً حكم لهما بتساوي الحركة مع اختلاف حركتيهما إذا كان الاختلاف الذي بينهما يسيراً.
وإذا ظن البصر بالمتحركين المختلفين في حركتيهما أنهما متساويا الحركة فهو غالط فيما يظنه من كيفية حركتيهما وفي سرعة أسرعهما وبطء أبطأهما ويكون غلطه غلطاً في القياس، لأن الحركات واختلاف الحركات ليس يدرك إلا بالقياس. ويكون علة غلطه هو خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك المبصرين الذين على هذه الصفة في الهواء النقي الصافي فإنه يدرك مقداري المسافتين اللتين يقطعهما المتحركان، ويدرك اختلاف حركتيهما، ويفرق بين أسرعهما وأبطأهما، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذينك المبصرين في عرض الاعتدال.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من اجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى ماءٍ جارٍ، وكان الهواء نقياً صافياً، وأدرك جرية الماء وأدرك حركته، ثم غشي ذلك الموضع ضباب قوي وشمل ذلك الضباب سطح الماء، فإن البصر إذا نظر إلى ذلك الماء في حال اشتمال الضباب عليه وأدركه فإنه لا يدرك جريته إذا لم يكن الماء شديد الجرية، وإنما يدركه كما يدرك الماء الواقف الساكن. وذلك لن جرية الماء يدركها البصر من إدراكه لتكاسير سطح الماء في حال جريته، وتكاسير سطح الماء من المعاني اللطيفة التي يدركها البصر، لأن تكاسير سطح الماء إنما يدركها البصر من إدراكه لاختلاف أوضاع أجزاء سطح الماء، وسطح الماء متشابه اللون، واختلاف أوضاع أجزائه ليس تكون في غاية البيان. والمبصرات التي يدركها البصر في الضباب ليس يدرك صورتها إدراكاً محققاً ولا يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيها. فالبصر إذا نظر إلى الماء الجاري، وكان الضباب مشتملاً على سطح ذلك الماء، فإنه يدرك ذلك الماء كأنه ساكن ولا يحس بجريته.
وإذا أدرك البصر الماء الجاري ساكناً فهو غالط في سكونه. ويكون غلطه غلطاً في القياس، لأن السكون يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو غلط الهواء، لأن البصر إذا نظر إلى ذلك الماء وكان الهواء نقياً صافياً فإنه يدرك جرية ذلك الماء على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الماء، التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه، في عرض الاعتدال.

الخشونة والملاسة والشفيف وقد يعرض الغلط في الخشونة وفي الملاسة وفي الشفيف وفي الكثافة وفي الظل والظلمة من أجل غلظ الهواء. وذلك أن المبصر الذي يدركه البصر في الضباب وفي الدخان وفي القتام الكثيف، إذا كان في سطحه خشونة يسيرة، فليس يدرك البصر الخشونة التي تكون فيه لأنه لا يتحقق صورة السطح الذي يدرك في الضباب وفي الدخان وفي الغبار الكثيف. وكذلك إذا كان صقيلاً فإنه لا يدرك صقاله. وإذا لم يتحقق البصر الخشونة التي في سطح المبصر ولا الصقال وشدة الملاسة فإنه ربما شبه المبصر الخشن السطح بمبصر أملس السطح، وربما شبه المبصر الأملس بمبصر خشن السطح إذا كان ذلك المبصر شبيهاً به في المعاني الظاهرة التي يدركها من ذلك المبصر. وإذا كان ذلك كذلك كان البصر غالطاً فيما يظهر من خشونة الخشن وملاسة الأملس.
وكذلك إذا كان المبصر مشفاً. وكان شفيفه يسيراً، وأدركه البصر في الضباب أو في الدخان أو في الغبار الكثيف، فإنه لا يدرك شفيفه، أو يدرك شفيفه أقل مما هو . فإن أدرك شفيف المبصر أقل مما هو عليه فهو غالط في شفيفه. وإن لم يدرك شفيفه فهو يظنه كثيفاً ويكون غالطاً في كثافته.
وكذلك إذا أدرك البصر جداراً بعضه نقي البياض وبعضه ترابي اللون، وكان على ذلك الجدار ضوء النار في ظلمة الليل، وكان في وجه ذلك الجدار دخان أو غبار قوي، فإن البصر ربما ظن بالمواضع الترابي اللون من الجدار أنه ظل مع إشراق الضوء عليه كإشراقه على المواضع النقي البياض. وإذا ظن البصر بالموضع الذي لا ظل فيه أنه مستظل فهو غالط فيما يدركه من استظلاله.
وكذلك إذا أدرك البصر جداراً من وراء الدخان أو الغبار، وكان في ذلك الجدار مواضع سود، فإن البصر ربما ظن بتلك المواضع السود أنها ثقوب، وأن السواد الذي يظهر فيها إنما هو ظلمة تلك الثقوب، فيكون غالطاً فيما يدركه من الظلمة.
والغلط في الخشونة وفي الملاسة وفي الشفيف والكثافة وفي الظل والظلمة هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط على الصفة التي وصفناها هي خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر والمبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي وصفناها إذا كانت في هواء نقي صافي الشفيف فإن البصر يدرك جميع المعاني التي فيها على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
الحسن والقبح وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كان شكله مستحسناً، أو لونه أو أشكال أجزائه أو أحد المعاني الظاهرة التي تكون فيه أو مجموعها، وكان فيه مع ذلك معان لطيفة كسائر أجزاء الصورة إن كانت من الحيوان وكالوشوم وسوء ترتيب الأجزاء وتباينها أيضاً إذا كانت من الجمادات، فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات التي بهذه الصفة في الضباب وفي القتام فإن البصر يدرك المعاني الظاهرة التي في ذلك المبصر التي هي مستحسنة، ولا يدرك المعاني اللطيفة التي فيها تقبح تلك الصورة، ولا يدرك الصورة إدراكاً محققاً. وإذا أدرك البصر المبصر المستقبح حسناً فهو غالط في حسنه.
وكذلك إذا كانت المعاني الظاهرة التي في الصورة مستقبحة، وكانت المعاني اللطيفة التي فيها مستحسنة، كتناسب أعضاء الحيوان والمعاني اللطيفة التي تكون فيها، وكالنقوش الدقيقة والألوان المختلفة المتناسبة التي تكون في الجمادات، فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات في الهواء الغليظ الخارج عن الاعتدال فإنه يدرك صورته مستقبحة، لأنه يدرك المعاني الظاهرة التي هي مستقبحة في تلك الصورة ولا يدرك المعاني اللطيفة التي بها تحسن تلك الصورة. وإذا أدرك البصر الصورة المستحسنة فبيحة فهو غالط في قبحها.
وكذلك إذا أدرك البصر مبصرين يتشابهان في المعاني الظاهرة ويختلفان في معان لطيفة، وكان إدراكه لهما في هواء غليظ كالضباب والقتام والدخان، فإنه يدرك المعاني الظاهرة التي فيهما ولا يدرك المعاني الخفية التي تكون فيهما. وإذا كان المبصران يتشابهان في المعاني الظاهرة، ويختلفان في المعاني الخفية، فهو يدركهما متشابهين ولا يدرك اختلافهما ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين متشابهين على الإطلاق فهو غالط في تشابههما.

وكذلك إذا كان المبصران يختلفان في المعاني الظاهرة ويتشابهان في المعاني الخفية فإن البصر يدركهما في الهواء الغليظ مختلفين ولا يحس بتشابههما. وإذا أدرك البصر المبصرين المتشابهين مختلفين على الإطلاق فهو غالط في اختلافهما.
والغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس لأن المعاني تدرك بالقياس، ولأن هذه الأغلاط إنما هي لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذه الأغلاط هي خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في هواء لطيف متشابه الشفيف فإنه يدرك كل واحد منها على ما هو عليه، ويدرك الحسن حسناً والقبيح قبيحاً والمتشابهين متشابهين والمختلفين مختلفين، ولا يعرض له الغلط في شيء من المعاني التي فيها، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال.

غلط البصر من أجل الزمان
الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال.
البعد فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يلمح شخصاً قائماً على وجه الأرض من بعد ثم يلتفت عنه في الحال، ويكون ذلك الشخص نخلة أو شجرة أو عموداً أو جداراً، ويكون من وراء ذلك الشخص جبل، ويكون بين الشخص وبين الجبل مسافة مقتدرة: فإن البصر إذا لمح الشخص الذي بهذه الصفة فإنه ربما ظن بذلك الشخص أنه في حذاء الجبل أو قريباً منه ولم يحس بالمسافة التي بينهما وإن كان بعد ذلك الشخص من الأبعاد المعتدلة إذا كان من أبعدها. وذلك لأن البصر إذا لمح الشخص لمحة سريعة ثم التفت عنه في الحال فإنه في حال لمحته للشخصين ربما لم يلمح وجه الأرض، ويكون نظره إلى الشخص في سمت المقابلة فقط. وإذا لم يلمح وجه الأرض لم يدرك المسافة التي بين الشخص وبين الجبل. وإن لمح الناظر جملة الأرض أيضاً، ولم يحرك البصر في طول المسافة، فإنه ليس يتميز له موضع قاعدة الشخص من تلك المسافة. فإذا لمح البصر الشخص القائم، وكان نظره في سمت المقابلة، وكان وراء الشخص جبل، فإن البصر يدرك ذلك الشخص في حذاء ذلك الجبل، ولا يحس بالبعد الذي بينهما. وإذا أدرك الشخص في حذاء الجبل وكان بين الشخص وبين الجبل بعد مقتدر فهو غالط في بعد ذلك الشخص عنه، ويكون غلطه غلطاً في القياس. ويكون على غلطه هو قصر الزمان الذي يدرك فيه ذلك الشخص، لأن البصر إذا قابل وجه الأرض الذي بهذه الصفة في زمان متنفس، واستقرأ المسافة التي بين البصر وبين الجبل، أدرك موضع الشخص من تلك المسافة، وأدرك البعد الذي بين الشخص وبين الجبل، ولم يعرض له الغلط في بعد الشخص من الجبل ولا في بعده عن البصر، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الشخص وفي ذلك الجبل وفي المسافة التي بين البصر والجبل في عرض الاعتدال.
الوضع

وقد يعرض الغلط في وضع المبصر أيضاً من اجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن الناظر إذا كان متحركاً حركة سريعة، ثم التفت عن يمينه أو عن شماله فلمح في التفاته حائطاً قائماً أو جبلاً معترضاً من بعد مقتدر، وكان إدراكه لذلك الحائط أو لذلك الجبل من فرجة أو من باب، ثم غاب عنه ذلك الحائط أو ذلك الجبل بعد قطع البصر لمسافة عرض تلك الفرجة أو ذلك الباب، وكان سطح ذلك الحائط أو طول ذلك الجبل مائلاً على خطوط الشعاع، فإن البصر لا يحس بوضع ذلك الحائط ولا بوضع الجبل الذي يدركه على هذه الصفة. وإذا كان سطح الحائط أو طول الجبل مائلاً على خطوط الشعاع فإنه يدركه مواجهاً، وذلك لأن الميل إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف بعدي طرفي المبصر، واختلاف أبعاد أطراف المبصرات إنما يدركها البصر من إدراكه لمقدار كل واحد من بعدي الطرفين المتقابلين وإدراكه لزيادة أحدهما على الآخر. وإدراك البصر لمقدار كل واحد من البعدين وإدراكه لتفاضلهما ليس يكون إلا في زمان له قدر يتمكن فيه البصر من تأمل كل واحد من البعدين ومن قياس أحدهما بالآخر ومن قياس كل واحد منهما بما يسامته من الأجسام الأرضية. والزمان الذي يقطع فيه البصر عرض المسافة التي هي الفرجة أو الباب، إذا كانت الفرجة أو الباب ضيقين وكانت حركة البصر سريعة، ليس يكون إلا يسيراً. وإذا كان الزمان الذي بهذه الصفة يسيراً، ولمح البصر ذلك، ولمح البصر ذلك الحائط أو ذلك الجبل في هذا القدر من الزمان أو في بعضه، فإنه لا يتمكن من تأمل مقداري بعدي طرفيه ومن قياس أحدهما بالآخر، وإن أدرك طرفي ذلك الجسم في لمحته. وإذا لم يدرك البصر مقدار كل واحد من بعدي طرفي الحائط أو الجبل، ولم يقس أحدهما بالآخر، فإنه لا يدرك ميل ذلك الحائط ولا ذلك الجبل، وخاصة إذا كان ميلهما يسيراً. وإذا لم يدرك ميلهما فليس يدرك الحائط أو الجبل إلا مواجهاً، ويظن بأبعاد طرفيه أنهما متساويان، إذا لم يحس بالاختلاف الذي بينهما.
وإذا أدرك البصر المبصر المائل مواجهاً فهو غالط في وضعه. ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الوضع يدرك بالقياس. ويكون علة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا تأمل المبصر الذي بهذه الصفة، وكان الزمان الذي يتأمله فيه فسيحاً وتأمل أبعاد أطرافه، فإنه يدرك اختلاف أبعاد أطرافه ويدرك وضعه على ما هو عليه إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الشكل وقد يعرض الغلط في الشكل أيضاً من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا لمح مبصراً من المبصرات ثم التفت عنه سريعاً، وكان في سطح ذلك المبصر تحديب يسير أو تقعير يسير، فإنه يدركه في الآن مسطحاً، لأن التحديب اليسير ليس يدركه البصر إلا بالتأمل المستقصى ليس يكون إلا في زمان متنفس. وإذا أدرك البصر السطح المحدب أو المقعر مسطحاً فهو غالط في شكل ذلك السطح.ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الشكل يدرك بالقياس. ويكون علة غلطه فيما يدركه على هذه الصفة هو قصر الزمان الذي يدرك فيه المبصر، لنه إذا كان الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر فسيحاً فهو يدرك البصر المبصر فسيحاً فهو يدرك تحديب سطحه وتقعيره ويدرك شكله على ما هو عليه، إذا كانت المعاني التي فيه في عرض الاعتدال.
العظم وقد يعرض الغلط في العظم أيضاً من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن الإنسان إذا أخذ عوداً في طرفه نار، وحركه يميناً وشمالاً حركة في غاية السرعة في ظلمة الليل، فإن البصر إذا نظر إلى النار التي بهذه الصفة فإنه يجدها ممتدة في المسافة التي تتحرك فيها تلك النار، التي هي أضعاف لمقدار جرم النار. وذلك لأن البصر ليس يدرك مقدار المبصر ولا يدرك موضع المبصر ولا يدرك حركة المبصر إلا في زمان له قدر، فإذا تحركت النار حركة في غاية السرعة فإن الزمان الذي تقطع فيه النار تلك المسافة هو زمان في غاية الصغر بالقياس إلى الحس، فليس يدرك الحس الجزء من الزمان الذي تقطع فيه النار الجزء من تلك المسافة. وإذا لم يدرك الحاس أجزاء ذلك الزمان جزءاً بعد جزء، فهو يحس بجملة الزمان بمنزلة جزء لا ينقسم من الزمان أو بمنزلة الآن. فالبصر يدرك النار في جميع تلك المسافة في زمان هو عند الحس بمنزلة الآن الواحد.

وإذا أدرك البصر النار في جميع المسافة في آن واحد فهو يدركها ممتدة في تلك المسافة. ثم إذا تواصلت حركة المحرك لتلك النار دائماً يميناً وشمالاً زماناً محسوساً فإن البصر يدرك تلك النار ممتدة في تلك المسافة زماناً محسوساً له قدر، وهو الزمان الذي يواصل فيه المحرك تحريك تلك النار. وإذا أدرك البصر النار ممتدة في مسافة في مسافة من المسافات زماناً محسوساً لم يشك في أن حجم تلك النار هو مقدار طول تلك المسافة. فإذا أدرك البصر النار التي بهذه الصفة من بعد في ظلام الليل فإنه لا يشك في ان مقدار جرم النار هو مقدار طول المسافة، ويكون جرم النار جزءاً يسيراً من تلك المسافة، فيكون غالطاً في مقدار عظم تلك النار، ويكون مع ذلك لا يحس بغلظه.
وإذا أدرك البصر النار التي بهذه الصفة من قرب أيضاً ويدرك محركها ويعلم أنه يحركها، وأن مقدار تلك النار هو مقدار يسير، فهو يدركها أيضاً ممتدة في تلك المسافة ويدرك مقدار طول المسافة، ولكنه يعلم مع ذلك أنه غالط فيما يدركه من مقدار النار على هذه الصفة.
فإذا أدرك البصر النار على هذه الصفة فإنه يكون غالطاً في عظمها وغالطاً في سكونها، لأنه إذا لم يتقدم علمه بتحريك المحرك لها يظنها ساكنة ولا يحس بتحريك المحرك لها إذا أدركها في ظلمة الليل من بعد مقتدر. فيكون غلطه في جميع ذلك غلطاً في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي يدرك البصر النار في طول هذه المسافة الذي فيه تقطع النار تلك المسافة عن عرض الاعتدال، لأن تلك النار بعينها إذا حركها المحرك حركة رقيقة فإن البصر الناظر إليها يدرك مقدارها على ما هو عليه ويدركها في جزء بعد جزء من تلك المسافة، ويدرك حركتها ويدرك شكلها، ولا يعرض له الغلط في شيء من معانيها، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
التفرق وقد يعرض الغلط في التفرق أيضاً من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن ابصر إذا لمح ثوباً من الثياب البيض أو ستراً أبيض أو حائطاً من الحيطان البيض، وكان في ذلك الثوب أو الستر أو الحائط خط أسود أو مظلم اللون أو خيط في نسج الثوب أو كان الستر أسود أو مظلم اللون، ولم يلبث البصر في مقابلة ذلك المبصر بل لمحه والتفت عنه في الحال، فإن الناظر ربما ظن بذلك الخط أو الخيط أنه شق في الثوب أو ذلك الستر أو ذلك الحائط، إذا كان الزمان الذي لمحه فيه يسيراً ولم يتمكن في ذلك القدر من الزمان من تأمله. وإذا ظن الناظر بالخط أو الخيط أنه شق فهو غالط في ذلك الظن.
وقد يعرض الغلط في الاتصال أيضاً من أجل قصر الزمان. وذلك ان البصر إذا لمح حائطاً من الحيطان السود التي تسود بالدخان، وكان في ذلك الحائط شق ضيق أو شقوق ضيقة، فإن البصر إذا لمح الحائط الذي بهذه الصفة والتفت عنه في الحال ولم يتمكن من تأمله، فإنه لا تتميز له الشقوق التي تكون فيه ولا يتميز له سواد الحائط من ظلمة الشقوق التي في تضاعيفه في مقدار لمح البصر. وإذا لم يتميز للبصر الشقوق والتفريق التي في الجسم الذي بهذه الصفة فإنه يظنه متصلاً. وإذا ظن بالمتفرق أنه متصل فهو غالط فيما يظنه من اتصاله.
وكذلك إذا لمح البصر الأسرة المتخذة من الخشب الأسود كالأبنوس وما جرى مجراه، وكانت الفصول التي بين ألواحه المتصلة في سطحه ضيقة، ولم يثبت البصر في مقابلة المبصر الذي بهذه الصفة بل لمحه والتفت عنه في الحال، فإن البصر في حال لمحه للجسم الذي بهذه الصفة لا يدرك الفصول التي بين ألواحه بل يدركه متصلاً كأنه جسم واحد. وذلك لأن البصر في اللمحة الخفيفة ليس يتميز له مواضع الفصول والتفرق الذي بين تلك الألواح لسواد تلك الألواح وظلمة التفرق الذي بينها واشتباه السواد بالظلمة.

وإذا أدرك البصر الأجسام المتضامة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط فيما يدركه من اتصالها، وهو غالط في العدد أيضاً إذا ظن بعدة أجسام أنها جسم واحد. والغلط في التفرق وفي الاتصال وفي العدد هي أغلاط في القياس لأن التفرق والاتصال والعدد إنما يدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هو خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر هذه المبصرات عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر ولبث في مقابلتها زماناً مقتدراً وتأملها تأملاً صحيحاً فإنه يدرك الاتصال في المتصل منها ويدرك التفرق في المتفرق ويدرك عددها على ما هو عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الحركة وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل قصر الزمان. وذلك أن البصر إذا لمح متحركين يتحركان في وقت واحد كفارسين يتحاربان أو شخصين يتساعيان، وكانت حركتاهما مختلفة اختلافاً يسيراً، ولم يلبث البصر في مقابلتهما بل التفت عنهما في الحال، فإن البصر يدرك المتحركين اللذين بهذه الصفة متساويي الحركة ولا يحس باختلاف حركتيهما إذا كان الاختلاف الذي بينهما يسيراً. وذلك أن الاختلاف اليسير الذي يكون بين الحركتين ليس يدركه البصر إلا بالتأمل المستقصى، وليس يكون إلا في زمان سعة، وليس يكون في أقل القليل من الزمان الذي هو لمح البصر.
وإذا أدرك البصر الحركتين المختلفتين متساويتين فهو غالط في تساويهما. والغلط في الحركات وفي تساوي الحركات هو غلط في القياس لأن الحركات وتساوي الحركات ليس يدرك إلا بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر الحركتين التين بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لأن المتحركين المختلفي الحركة إذا أدركهما البصر في زمان فسيح وتأمل حركتيهما في ذلك الزمان تأملاً مستقصى فإنه يدرك اختلاف حركتيهما ولا يعرض له الغلط في كيفية حركتيهما، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذينك المبصرين في عرض الاعتدال.
السكون وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى مبصر من المبصرات، وكان ذلك المبصر يتحرك حركة بطيئة في غاية البطء، ولم يلبث البصر في تأمل ذلك المبصر إلا زماناً يسيراً، فإن البصر يدرك ذلك المبصر ساكناً كانت حركته على الاستقامة أو على الاستدارة وإن كان على بعد معتدل. وذلك أن المبصر يتحرك حركة بطيئة مسرفة البطء فهو يقطع في زمان محسوس مسافة غير محسوسة، فإذا كان البصر ناظراً إلى ذلك المبصر وثابتاً في مقابلته ذلك القدر من الزمان فقط الذي يقطع فيه ذلك المبصر مسافة غير محسوسة أو بعض ذلك الزمان فإن البصر لا يحس بالمسافة التي يقطعها ذلك المبصر في ذلك القدر من الزمان، وإذا لم يحس بالمسافة التي يقطعها المبصر في ذلك القدر من الزمان فهو يدركه ساكناً.
فإذا نظر البصر إلى مبصر من المبصرات المتحركة ولم يلبث في مقابلته إلا زماناً يسيراً، وكان ذلك المبصر بطيء الحركة، وكانت المسافة التي يقطعها ذلك المبصر في ذلك المبصر في ذلك القدر من الزمان الذي أدرك فيه البصر إذا أدرك المبصر في موضع واحد وعلى وضع واحد زماناً محسوساً فإنه يدركه في ذلك القدر من الزمان ساكناً ولا يحس بحركته في ذلك القدر من الزمان، ولذلك يدرك الكواكب كأنها ساكنة إذا لم يطل النظر إليها. وإذا أدرك البصر المبصر المتحرك ساكناً فهو غالط في سكونه. والغلط في السكون هو غلط في القياس لأن السكون يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر الذي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك المبصر وثبت في مقابلته زماناً مقتدراً يقطع ذلك المبصر في مثله مسافة محسوسة فإن البصر يدرك حركة ذلك المبصر، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.

وقد يدرك البصر المبصر المتحرك ساكناً إذا كانت حركته في غاية السرعة أيضاً، وذلك مثل الدوامة إذا كانت سريعة الحركة، فإن البصر يدرك الدوامة إذا كانت متحركة حركة سريعة كأنها ساكنة، وذلك لأن البصر يدرك كل جزء من أجزاء الدوامة في جميع الدائرة التي يتحرك عليها ذلك الجزء في زمان في غاية الصغر ليس في قدرة الحس تمييز أجزائه، وذلك لأن الدوامة إذا كانت حركتها في غاية السرعة فإن كل جزء منها يقطع الدائرة التي يتحرك عليها في زمان في غاية الصغر، وقد تبين فيما تقدم أن البصر ليس يدرك الحركة إلا في زمان محسوس.
وإذا أدرك البصر كل جزء من أجزاء الدوامة على جميع محيط الدائرة التي يتحرك عليها ذلك الجزء في أقل القليل من الزمان الذي هو بمنزلة الآن عند الحس، ثم اتصلت حركة الدوامة، فإنه يدرك لون كل نقطة من الدوامة على جميع محيط الدائرة التي تتحرك عليها تلك النقطة في مدة الزمان الذي تتحرك فيه الدوامة الحركة السريعة. فإن كانت الدوامة ذات لون واحد لم تتميز أجزاؤها للبصر في حال حركتها. وإذا كانت ذات ألوان مختلفة على الصفة التي تقدمت في المقالة الثانية ظهر لونها لوناً واحداً ممتزجاً من تلك الألوان كما تبين ذلك في المقالة الثانية. وإذا ظهرت ذات لون واحد تتميز أجزاؤها مع الحركة السريعة. وإن كان فيها نقط متفرقة، أو نقط مخالفة اللون للون جملة الدوامة، فإن كل نقطة منها يظهر لونها على جميع محيط الدائرة التي تتحرك عليها تلك النقطة ويمكث ذلك اللون مستديراً على صفة واحدة ما دامت الدوامة تتحرك الحركة السريعة، ويدرك البصر الدوامة كأن في سطحها دوائر مخالفة الألوان لبقية لونها، لأن البصر يدرك لون النقطة في جميع الزمان الذي تتحرك فيه الدوامة الحركة السريعة على جميع محيط الدائرة. فعلى تصاريف أحوال الدوامة في ألوانها، إذا كانت الدوامة تتحرك حركة سريعة، فإن البصر يدرك صورة لونها أو ألوانها على صفة واحدة لا تتغير زماناً محسوساً، وهو مدة الزمان الذي تتحرك فيه الدوامة الحركة السريعة. والبر إنما يدرك الحركة المستديرة من تبدل أجزاء المتحرك بالقياس إلى البصر نفسه أو بالقياس إلى جسم غيره، ويدرك السكون من إدراك المبصر على صفة واحدة وعلى وضع واحد زماناً محسوساً. وإذا أدرك البصر الدوامة على صفة واحدة زماناً محسوساً، وأدرك وضع أجزائها على صفة واحدة ولم يحس بتبدل أجزائها، فهو يدركها ساكنة ولا يحس بحركتها.
وإذا أدرك البصر الدوامة المتحركة ساكنة فهو غالط في سكونها، ويكون غلطه غلطاً في القياس. ويكون علة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر كل جزء من أجزاء الدوامة على جميع محيط الدائرة التي يتحرك عليها ذلك الجزء عن عرض الاعتدال بالإفراط في القصر، لأنه إذا كان هذا الزمان في غاية القصر لم يدرك الحس أجزاءه، وإذا لم يدرك أجزاءه لم يدرك أجزاء الحركة، وإذا لم يدرك أجزاء الحركة لم يدرك تبدل أجزاء الدوامة، وإذا لم يدرك تبدل أجزاء الدوامة لم يدرك حركتها، فعلة هذا الغلط هو قصر الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر المتحرك في جميع المسافة التي يتحرك عليها.
الخشونة والملاسة وقد يعرض الغلط في الخشونة وفي الملاسة أيضاً من أجل قصر الزمان. وذلك لأن البصر إذا لمح مبصراً من المبصرات لمحة يسيرة ثم التفت عنه في الحال، وكان في ذلك المبصر خشونة يسيرة، فإن البصر لا يدرك الخشونة اليسيرة التي تكون في سطح ذلك المبصر، لأن الخشونة اليسيرة ليس يدركها البصر إلا بالتأمل المستقصى، والتأمل المستقصى ليس يكون إلا في زمان مقتدر. وإذا لمح البصر المبصر لمحة يسيرة في زمان يسير المقدار فليس يدرك الخشونة التي تكون فيه. وإذا لم يدرك الخشونة التي فيسطح المبصر فهو يدركه أملس، لأنه يدركه كما يدرك السطوح الملس فلا يفرق بينه وبين السطوح الملس. وكذلك إذا كان المبصر أملس ولمحه البصر لمحة خفيفة فإنه لا يتحقق ملاسته. فإن كان ذلك المبصر من المبصرات التي يحتمل أن يكون فيها خشونة ويكون أكثرها خشنة السطوح فإن البصر ربما ظن بذلك المبصر أنه خشن السطح إذا لم يتحقق ملاسته.

وإذا ظن البصر بالخشن أنه أملس وبالأملس أنه خشن فهو غالط في الخشونة وفي الملاسة. ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الخشونة والملاسة تدرك بالقياس. ويكون علة غلطه هو خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك ذلك المبصر وتأمله تأملاً صحيحاً في زمان مقتدر فإنه يدرك خشونته إن كان خشناً ويدرك ملاسته إن كان أملس، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر في عرض الاعتدال.
الشفيف والكثافة وقد يعرض الغلط في الشفيف وفي الكثافة أيضاً من أجل خروج الزمان الذي يكون فيه الإبصار عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا لمح جسماً من الأجسام المشفة لمحة خفيفة ثم التفت عنه، وظهر الضوء من وراء ذلك الجسم المشف في حال ملاحظة البصر له وأحس البصر بشفيف ذلك الجسم،وكان الضوء الذي أدركه البصر من وراء ذلك الجسم يخرج إلى ذلك الجسم على خطوط مائلة على سطحه ولا على خطوط قائمة، فإن البصر يدرك شفيف ذلك الجسم دون شفيفه الحقيقي. وذلك لأن حقيقة شفيف الجسم المشف ليس يدركه البصر إلا إذا كان الضوء الذي يظهر من وراء ذلك الجسم على سموت قائمة عليه. وإذا أدرك البصر الضوء من وراء الجسم المشف، وكان الضوء الذي أدركه البصر خارجاً إلى ذلك الجسم المشف على خطوط مائلة، فإن الشفيف الذي يظهر لذلك الجسم ليس هو شفيفه الحقيقي. وإذا لمح البصر الجسم المشف وهو على الوضع الذي وصفناه، وأدرك شفيفه على ما يقتضيه وضعه، ثم التفت عنه في الحال، فإنه إذا التفت عنه بسرعة فليس يحس بحقيقة وضع ذلك الجسم من الضوء الذي ظهر من ورائه ولا يفرق في الزمان اليسير الذي هو لمح البصر بين الضوء المواجه للمبصر وبين الضوء المائل. وإذا لم يحس بحقيقة وضع المبصر الذي بهذه الصفة من الضوء الذي يظهر من وراءه فإنه ربما ظن أن ذلك الشفيف الذي أدركه لذلك الجسم هو غاية في فيفه. وإذا ظن البصر بشفيف الجسم الذي هو دون شفيفه الحقيقي أنه غاية شفيف ذلك الجسم فهو غالط في شفيف ذلك الجسم.
وأما إن لمح البصر الجسم المشف، وكان ذلك الجسم على وجه الأرض ولم يظهر الضوء من وراء ذلك الجسم، وكان ذلك الجسم متلوناً بلون قوي، فإن البصر يدرك ذلك الجسم كثيفاً ولا يحس بشفيفه ولا يتميز له مقدار لمح البصر لون من لون الجسم الذي وراءه. وإذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بشفيف ذلك الجسم فإنه لا يشك في كثافته. وإذا أدرك البصر الجسم المشف كثيفاً فهو غالط في كثافته. والغلط في الشفيف وفي الكثافة هو غلط في القياس لأن الشفيف والكثافة يدركان بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج الزمان عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك المبصر المشف وتمكن من تأمله ومن استشفافه فليس يعرض له الغلط في شفيفه ولا في كثافته إن كان كثيفاً، إذا كانت المعاني الباقية التي في عرض الاعتدال.
الظل وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من اجل قصر الزمان وفي الظلمة. وذلك أن البصر إذا لمح جداراً في بيت من البيوت في سواد الليل، وكان بعض ذلك الجدار مسفر اللون وبعضه قتم اللون، وكان على ذلك الجدار ضوء نار ليس بالقوي، ولن يكن قد تقدم علم الناظر بذلك الجدار، وكان لمحه له لمحة يسيرة ثم أعرض عنه في الحال، فإنه في حال ملاحظته إذا لم يتأمله تأملاً صحيحاً ربما ظن بالموضع القتم من الجدار أنه ظل.
وكذلك إن كان بعض الجدار أسود وبعضه أبيض، وأدركه البصر في ضوء النهار، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بسواد ذلك الجدار، وكان الضوء الذي عليه ليس بشديد الإشراق، فإنه ربما ظن بالسواد أنه باب أو منفذ وأن سواده إنما هو ظلمة الموضع إذا لم يتأمل ذلك الموضع تأملاً صحيحاً ولمحه لمحة فقط.
وإذا أدرك البصر الموضع المضيء بضوء النار الذي لا ظل فيه مستظلاً أو مظلماً فهو غالط في استظلاله وفي ظلمته. ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الظل والظلمة يدركان بالقياس. ويكون علة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي يلمح فيه البصر المبصر الذي بهذه الصفة عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا تأمل المبصر الذي بهذه الصفة فضل تأمل فإنه يدرك الضوء الذي عليه ويحس باختلاف ألوانه ولا يعرض له الغلط في شيء منه، إذا كانت المعاني الباقية التي فيه في عرض الاعتدال.
الحسن والقبح

وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من اجل خروج الزمان عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا لمح مبصراً من المبصرات كشخص إنسان، وكانت لذلك الإنسان ورقة من رقة لونه وحسن هيئة جملة وجهه وأشكال أعضائه الظاهرة أو بعض ذلك، وكانت في مع ذلك معان لطيفة تشينه وتقبح صورته كتباين أعضائه أو آثار تكون في وجهه تقبح صورته، فإن البصر إذا لمح الصورة التي بهذه الصفة لمحة خفيفة والتفت عنها في الحال فإنه يدرك محاسنها في حال ملاحظتها ولا يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيها التي تشينها، لأن هذه المعاني ليس تدرك في لمح البصر. وإذا لمح البصر المبصر الذي بهذه الصفة فإنه يدركه حسناً، وهو مع ذلك قبيح. وكذلك جميع المبصرات من الجمادات والحيوانات والنبات، إذا كانت فيها معان ظاهرة مستحسنة ومعان لطيفة مستقبحة، فإن البصر إذا لمحها لمحاً ولم يتمكن من تأملها تأملاً صحيحاً فإنه يدركها مستحسنة وهي مع ذلك مستقبحة.
وكذلك إن كان في المبصر معان ظاهرة مستقبحة ومعان لطيفة مستحسنة، ولمح البصر المبصر الذي بهذه الصفة لمحة خفيفة، فإنه يدركه مستقبحاً ولا يدرك محاسنه. وإذا أدرك البصر المبصر المستقبح حسناً فهو غالط في حسنه وإذا أدرك المبصر المستحسن قبيحاً فهو غالط في قبحه.
وقد يعرض هذا الغلط بعينه للبصر إذا كان البصر ينظر من باب أو من فرجة، وكان المبصر متحركاً أو مجتازاً بذلك الباب أو الفرجة وأدركه البصر في مقدار الزمان الذي قطع فيه المبصر عرض ذلك الباب أو الفرجة ولم يتمكن من تأمله، فإنه يدرك المستقبح الذي على هذه الصفة التي وصفناها حسناً ويدرك المستحسن قبيحاً. وكذلك إذا كان البصر متحركاً والمبصر ساكناً أو متحركاً إلى ضد جهة حركة البصر ولمح البصر المبصر في حال حركته من باب أو من فرجة.
وكذلك أيضاً إذا لمح البصر مبصرين متشابهين في معان ظاهرة ويختلفان في معان لطيفة، ولم يتأملها تأملاً صحيحاً بل لمحهما لمحاً خفيفاً ثم أعرض عنهما، فإنه يدرك ذينك المبصرين متشابهين ولا يحس باختلافهما. وإن كانا يختلفان في المعاني الظاهرة ويتشابهان في المعاني الخفية فإن البصر يدركهما مختلفين ولا يحس بتشابههما. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين بوجه من الوجوه متشابهين على الإطلاق فهو غالط في تشابههما، وإذا أدرك المتشابهين بوجه من الوجوه مختلفين على الإطلاق فهو غالط في اختلافهما.
والغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط هي خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر كل واحد من هذه المبصرات عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك هذه المبصرات وتمكن من تأملها وتصفح المعاني التي فيها فإنه يدرك كل واحد منها على ما هو عليه، فيدرك الحسن حسناً والقبيح قبيحاً والمتشابه متشابهاً والمختلف مختلفاً، ولا يعرض له الغلط في يء من المعاني التي فيها، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال.

غلط البصر من أجل صحة البصر
البعد

فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من اجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال فإنه كالبصر الذي به عشى أو به مرض أو هو ضعيف في الأصل، إذا نظر إلى مبصرين على بعدين متساويين، وكان ذانك المبصران متفرقين، وكان بعدهما بعداً مقتدراً، وكان أحد المبصرين أبيض نقي البياض وكان الآخر مظلم اللون، وكان الضوء الذي عليهما متساوياً، فإن البصر ربما ظن بالمبصر الأبيض الذي بهذه الصفة أنه أقرب من المظلم اللون ويظن بالمبصر المظلم اللون أنه أبعد، وإن كان بعداهما من الأبعاد المعتدلة وكان من أبعدها، وخاصة إذا كان المبصران مرتفعين عن الأرض وكان بعداهما يسامت سطح الأرض. وذلك لأن البصر الضعيف ليس يدرك ما يدركه إدراكاً صحيحاً، والقوة المميزة تحس بهذا المعنى من البصر الضعيف والمعلول. وتساوي البعدين إنما يدركه البصر من إدراكه لمقدار كل واحد من البعدين ومن قياس أحد البعدين بالآخر، فهو يدرك تساوي البعدين من قياس فيه بعد. والمبصر النقي البياض يكون أبين من المبصر المظلم اللون، والمبصر القريب من البصر يكون أبين من المبصر البعيد من البصر، وبيان الأبيض وخفاء المظلم اللون يدركان بمجرد الحس، وما يدرك بمجرد الحس يكون أظهر عند الحس مما يدرك بالقياس.
فإذا أدرك البصر المبصرين اللذين بهذه الصفة وأدرك بعديهما وأدرك اختلاف بيانهما فإنه يغلب اختلاف البيان الذي يدركه بمجرد الحس على ما يدركه بالقياس لأنه أظهر والحس به أوثق. وإذا كانت القوة المميزة تدرك أن ما يدركه البصر الضعيف هو إدراك غير صحيح كانت مما هو أظهر عند ذلك البصر وأقرب إلى الحس فاولا في الحس أشد ثقة منها بما هو أبعد في الحس وبما ليس يدرك إلا بعد تأمل وقياس. فالبصر الضعيف يدرك المبصر النقي البياض كأنه أقرب من المبصر المظلم اللون إذا كانا متساويي البعد ولم يتحقق مقدار بعديهما، لأنه يدركه أبين ولأنه يغلب ما كان أظهر في الحس. وإذا أدرك البصر المبصرين المتساويي البعد مختلفي البعد فهو غالط في كل واحد منهما أو في بعد أحدهما.
وقد يعرض هذا الغلط بعينه للبصر الصحيح أيضاً إذا كان المبصران اللذان بهذه الصفة على بعد متفاوت ولم يتيقن البصر مقدار بعديهما. وذلك لأنه إذا لم يتيقن البصر بعدي المبصرين الذين بهذه الصفة ظن بالأبيض أنه أقرب من أجل أنه أبين.
وقد يعرض هذا الغلط للبصر الصحيح أيضاً من البعد المعتدل إذا لم يلحظ البعد ولم يتيقن مقدار البعد ولمح المبصرين الذين بهذه الصفة لمحة يسيرة والتفت عنهما في الحال، إذا أدركهما في الليل أو في موضع مغدر. فيكون الغلط في بعدي المبصرين اللذين بهذه الصفة غلطاً في القياس لأن البعد واختلاف الأبعاد ليس تدرك إلا بالقياس. ويكون العلة في هذا الغلط للبصر الصحيح هو تفوت البعد أو ضعف الضوء أو قصر الزمان. ويكون علة هذا الغلط في البصر الضعيف، إذا لم يكن بعد المبصرين بعداً متفاوتاً، وكانت المعاني الباقية التي في ذينك المبصرين التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال، هو ضعف البصر.
الوضع وقد يعرض الغلط في الوضع أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر الضعيف والمؤوف إذا أدرك مبصراً من المبصرات ، وكان سطح ذلك المبصر مائلاً على خطوط الشعاع، ولم يكن ذلك المبصر على وجه الأرض بل كان مرتفعاً عن الأرض، وكان ميله ميلاً يسيراً، فإن البصر لا يحس بميله وإن كان بعده مسامتاً لوجه الأرض بل يدركه كأنه مواجه. وذلك لأن الميل إنما يدركه البصر من إدراكه لاختلاف بعدي طرفي المبصر، وإذا كان المبصر مرتفعاً عن الأرض وكان ميله يسيراً فإن البصر ليس يدرك اختلاف بعدي طرفيه إلا من قياس بعيد وبتأمل لطيف مستقصى، وليس يكون اختلاف بعدي طرفيه ظاهراً للحس إذا كان ميله يسيراً، والبصر الضعيف ليس يدرك المعاني اللطيفة وليس يدرك إلا ما كان ظاهراً، واختلاف بعدي طرفي اليسير الميل إذا كان مرتفعاً عن الأرض قل ما يدركه البصر الضعيف وإن أدرك وجه الأرض المسامت لبعد ذلك المبصر، والبصر الصحيح ليس يدرك هذا المعنى إلا بتأمل مستقصى وربما عرض له الغلط مع ذلك في ميل المبصر، وليس يدرك البصر الضعيف ميل المبصر إذا كان سير الميل وكان مرتفعاً عن الأرض، فهو يدرك ما هذه حاله من المبصرات كأنه مواجه.

وإذا أدرك البصر المبصر المائل مواجهاً فهو غالط في وضعه. ويعرض من هذا الغلط ان يكون ما يدركه البصر من عظم المبصر الذي بهذه الصفة على خلاف ما هو عليه، لأن المبصر إذا أدرك البصر ميله أدرك مقداره أعظم من مقدار المبصر المواجه الذي يوتر زاوية مثل الزاوية التي يوترها ذلك المبصر المائل، فإذا لم يحس البصر بميل المبصر وظنه مواجهاً فهو يدرك عظمه على مثل عظم المبصر المواجه الذي يوتر زاوية مثل تلك الزاوية، فهو يدرك مقداره أصغر من مقداره الحقيقي.
الشكل وقد يعرض الغلط في شكل المبصر أياً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كانت له زوايا صغار وزوائد صغار فإن البصر الضعيف لا يدرك تلك الزوايا الصغار وتلك الزوائد. وإذا لم يدرك زوايا المبصر والزوائد التي تكون فيه فهو يدرك شكله على خلاف ما هو عليه ويكون غالطاً في شكله. وكذلك إذا كان في المبصر تحديب يسيراً أو تقعير يسير فإن البصر الضعيف لا يدرك ذلك التحديب اليسير ولا ذلك التقعير اليسير. وإذا لم يدرك التحديب والتقعير كان غالطاً في شكل ذلك السطح.
التفرق والاتصال وكذلك قد يعرض الغلط في التفرق والاتصال أيضاً من أجل ضعف البصر وتغيره، لأن البصر الضعيف والمؤوف ليس يدرك صورة المبصر إدراكاً صحيحاً. فإذا كان في سطح المبصر خطوط سوداء مظلمة اللون فإن البصر ربما ظن بتلك الخطوط أنها شقوق. وإذا كانت تلك الخطوط تقطع جميع عرض الجسم فربما ظن البصر بذلك الجسم أنه اثنان أو جماعة بحسب عدد تلك الخطوط، وأن السواد الذي بينهما الذي هو الخطوط السود هو تفرق بين تلك الأجسام. وكذلك إذا كانت أجسام متضامة وكان فيها تفرق خفي فإن البصر الضعيف والمؤوف لا يدرك التفرق الخفي الذي بين تلك الأجسام. وإذا لم يدرك التفرق الخفي الذي بين تلك الأجسام فهو يدرك تلك الأجسام كأنها جسم واحد متصل، فيكون غالطاً في الاتصال وغالطاً في العدد جميعاً.
العدد قد يعرض الغلط للبصر في العدد من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال على وجه آخر أيضاً، وذلك إذا كان في البصر حول. فإن الناظر إذا كان بإحدى عينيه حول أو بجميعهما ونظر إلى المبصرات فإنه في الأكثر يدرك المبصر الواحد اثنين، وخاصة إذا كان الحول في إحدى العينين. وذلك أن الحول هو تغير وضع البصر، فإذا تغير وضع أحد البصرين عن الوضع الطبيعي فإن الناظر إذا نظر إلى مبصر من المبصرات بالبصرين جميعاً لم تلتق الشعاعات المختلفة الوضع. وقد تبين في الفصل الأول من هذه المقالة أنه إذا التقى على المبصر شعاعات مختلفة الوضع فإنه يدرك اثنين وهو واحد، وذلك لأن صورته تحصل في موضعين مختلفي الوضع من البصرين وتنتهي إلى موضعين مفترقين من موضع الإحساس الأخير، فتحصل صورته في موضع الإحساس الأخير صورتين ويدرك المبصر الواحد من أجل ذلك اثنين.فإذا كان بإحدى العينين حول وكانت الأخرى سليمة فإن الناظر يدرك كل واحد من المبصرات في أكثر الأحوال اثنين. وإذا كان الحول في العينين جميعاً ولم يكن وضعهما مع ذلك متشابهاً فإن حالهما يكون أيضاً كمثل الحول الذي يكون في إحدى العينين. وإن كان الحول في العينين جميعاً وكان وضعهما وضعاً متشابهاً إذا تحركتا اختلف وضعهما، فأدركا في تلك الحال المبصر الواحد اثنين في الأكثر. وذلك أن الببصرين إذا لم يكن وضعهما الوضع الطبيعي فليس يكون وضعهما عند حركتهما أبداً وضعاً متشابهاً، بل كان وضعهما عند الحركة متشابهاً، وربما اختلف وضعهما من أجل أن نصبتهما إذا كانا خارجين عن الوضع الطبيعي ليس تكون نصبة معتدلة فليس يلزمان أبداً وضعاً متشابهاً عند الحركة.

فإذا أدرك الأحول مبصرات كثيرة في وقت واحد فإنه إما أن يدرك كل واحد منها اثنين وإما أن يدرك بعضها أو واحداً منها اثنين، وهذه حال الأحول في أكثر الأحوال. وإذا أدرك البصر المبصرات على هذه الصفة وأدرك كل واحد منها اثنين، وأدرك بعضها أو واحداً منها اثنين، فهو غالط في عددها. فالبصر إذا كان به حول وكان الإبصار ببصرين فإنه يعرض له الغلط في عدد المبصرات دائماً. والغلط في الوضع وفي الشكل وفي العظم وفي التفرق وفي الاتصال وفي العدد هي أغلاط في القياس، لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط إذا كانت على الصفات التي وصفناها هي ضعف البصر، لأن البصر الصحيح ليس يعرض له الغلط في شيء من هذه المعاني إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصرات التي بهذه الصفة في عرض الاعتدال.
الحركة والسكون وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من اجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن الإنسان إذا دار دوراناً سريعاً مرات كثيرة ثم وقف فإنه يرى جميع ما يدركه من المبصرات في تلك الحال كأنها تدور، وهي مع ذلك ساكنة. وإنما يعرض له ذلك لأن الروح التي في البصر في تلك الحال تتحرك في موضعها وتدور عند دوران الإنسان وتتموج، فإذا وقف الإنسان الذي بهذه الصفة من بعد الدوران السريع بقيت الحركة في الروح الباصرة بعد سكون الإنسان ساعة من الزمان ما تبقى الحركة في الجسم الذي يحركه الإنسان حركة مستديرة ثم أمسك عنه بقيت الحركة في ذلك الجسم زماناً، فيكون ذلك الجسم يتحرك من غير محرك بل بما حصل فيه من تحريك المحرك، كالدوامة وما جرى مجراها. كذلك تكون الروح الباصرة بعد سكون الإنسان من الدوران، فتبقى الحركة فيها زماناً. وما دامت الحركة فيها فالناظر يرى المبصرات كأنها تتحرك وتدور، ثم إذا سكنت الحركة التي في الروح الباصرة سكن ذلك الدوران الذي يدركه البصر في تلك المبصرات. وكذلك يكون حال الإبصار إذا عرض للإنسان المرض الذي يسمى الدوار.
فإذا دار الإنسان دوراناً شديداً أو عرض له المرض الذي يسمى الدوار عرض في الروح الباصرة حركة مستديرة. وإذا عرض في الروح الباصرة حركة مستديرة بعد أن كانت ساكنة فقد خرج البصر عن حد اعتداله. وإذا عرض للروح حركة مستديرة ولم تكن ساكنة على حالها الطبيعية فإنها تدرك المبصرات كأنها متحركة حركة سريعة مستديرة، لأن صور المبصرات التي تحصل فيها في تلك الحال تكون متنقلة في أجزاء الروح الباصرة من أجل حركة الروح، ويكون انتقالها في جسم الروح الباصرة على استدارة من أجل حركتها على استدارة. وإذا تحركت الصورة في أجزاء الروح الباصرة على استدارة كانت بمنزلة حركة صورة المبصر الذي له حركة مستديرة في أجزاء الروح الباصرة إذا كانت ساكنة، فإن المبصر المتحرك حركة مستديرة تتحرك صورته في أجزاء الروح الباصرة حركة مستديرة. فإدراك البصر المبصرات متحركة على استدارة مع سكونها عند الدوران السريع وعند المرض المسمى الدوار إنما هو لحركة الروح الباصرة وحركة صور المبصرات في أجزاءها من أجل حركتها.
وإذا أدرك البصر المبصرات الساكنة متحركة في عقيب الدوران وفي حال المرض المسمى الدوار فهو غالط فيما يدركه من تلك المبصرات ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن الحركة تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج البصر عن عرض الاعتدال. لأن البصر الصحيح ليس يدرك شيئاً من المبصرات متحركاً على هذه الصفة إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من أجل ضعف البصر وتغيره. وذلك أن المبصر إذا كان يتحرك حركة مستديرة، وكان ذلك المبصر متشابه اللون ومستدير الشكل، وكانت أجزاء سطحه متشابهة، فإن البصر لا يدرك حركته إذا كان البصر ضعيفاً وإن كانت الحركة المستديرة بطيئة. وذلك لأن الحركة المستديرة ليس يدركها البصر إلا من تبدل أجزاء المتحرك بالقياس إلى البصر أو بالقياس إلى جسم آخر أو من قياس جزء من المتحرك إلى أجسام أخر. وإذا كان المتحرك مستدير الشكل وكان سطحه متشابه اللون ومتشابه الصورة فإن أجزاءه وتبدل أجزائه ليس يدركها البصر الصحيح إلا بتأمل شديد مستقصى إذا كانت الحركة بطيئة.

فأما إذا كانت حركة المبصر الذي بهذه الصفة حركة سريعة وشديدة السرعة فليس يدركها البصر وإن كان صحيحاً. فإن كان المبصر متشابه الصورة فليس يظهر للبصر الصحيح أجزاؤه ولا تبدل أجزائه إلا من تأمل شديد مستقصى ومن إدراكه للأجزاء اللطيفة التي تكون في ذلك المبصر. وليس يدرك البصر الحركة المستديرة إن لم يتميز له شيء من أجزاء المبصر. فإذا كان البصر ضعيفاً وكانت أجزاء المبصر متشابهة فليس تتميز له أجزاء المبصر. وإذا لم تتميز له أجزاء المبصر وكان المبصر متشابه الأجزاء فليس يدرك تبدل أجزائه ولا مسامتة الجزء من أجزائه لغيره من المبصرات. وإذا لم يدرك البصر أجزاء المبصر المتحرك ولم يدرك تبدل أجزاء المبصر فليس يدرك حركته إذا كانت حركته مستديرة وكان المتحرك لازماً لموضع واحد.
وهذا الغط يعرض للبصر الضعيف دائماً إذا نظر إلى الرحى وهي تدور، فإن هذه المعاني تكون جميعها في الرحى. فالبصر الصحيح يدرك حركة الرحى من إدراكه لتبدل أجزائها، وإدراكه لتبدل أجزائها إنما هو من إدراكه لأجزائه الصغار. والبصر الضعيف لا يدرك حركة الرحى إذا كان متشابه الأجزاء، لأمنه لا يدرك أجزاءه الصغار ولا يدرك تبدلها. فالبصر الضعيف والمؤوف إذا نظر إلى الرحى وهي تتحرك وتدور فهو يدركها كأنها ساكنة، فيكون غالطاً في سكونها، ويكون غلطه غلطاً في القياس لأن السكون يدرك بالقياس. ويكون علة هذا الغلط هو ضعف البصر، لأن البصر الصحيح يدرك حركة الرحى على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك الرحى في عرض الاعتدال.
الخشونة والملاسة والشفيف والكثافة وقد يعرض الغلط في الخشونة والملاسة والشفيف والكثافة أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر الضعيف والمأوف ليس يدرك المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر، فإن كان المبصر خشونة يسيرة فليس يدركها البصر الضعيف، وإذا لم يدرك البصر الخشونة التي في سطح المبصر فهو يظنه أملس، وإذا أدرك البصر المبصر الخشن أملس فهو غالط في ملاسته.
وكذلك إذا نظر البصر الضعيف إلى مبصر أملس، وكان ذلك المبصر يشبه مبصراً من المبصرات الخشنة التي يعرفها ذلك الناظر ويعرف خشونتها، فإنه ربما ظن بذلك المبصر الأملس أنه خشن. وإذا ظن بالمبصر الأملس أنه خشن فهو غالط في خشونته.
وكذلك إذا نظر البصر الضعيف والمأوف إلى مبصر مشف، وكان ذلك المبصر قوي الشفيف وفيه مع ذلك بعض الكثافة، فإن البصر الضعيف ليس يدرك شفيفه على ما هو عليه. وذلك لأنه يدرك الكثافة اليسيرة في ذلك المبصر أغلظ مما هي لضعفه. وإذا أدرك كثافة ذلك المبصر أغلظ مما هي فهو يدرك شفيفه أقل مما هو عليه. وإذا أدرك شفيف المبصر أقل مما هو عليه فهو غالط في شفيفه.
وإذا كان الشفيف الذي في المبصر يسيراً، وكان المبصر متلوناً بلون قوي، فإن البصر الضعيف والمأوف لا يدرك الشفيف الذي في ذلك المبصر، وليس يدرك الشفيف اليسير إلا البصر القوي الصحيح. وإذا لم يدرك البصر الضعيف الشفيف الذي في المبصر اليسير الشفيف فهو يدركه كثيفاً، لأن يشبهه بأمثاله من المبصرات الكثيفة المتلونة بذلك اللون. وإذا أدرك المشف كثيفاً فهو غالط في كثافته.
والغلط في الخشونة وفي الملاسة وفي الشفيف وفي الكثافة على الصفات التي وصفناها هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلى هذه الأغلاط على هذه الوجوه هي ضعف البصر وخروجه عن اعتدال صحته، لأن البصر الصحيح يدرك جميع هذه المعاني في المبصرات على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الظل والظلمة وقد يعرض الغلط في الظل أيضاً من اجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كان بعضه ذا لون مسفر وبعضه ذا لون قتم منكسر، وأشرق الضوء على ذلك المبصر، فإن الضوء يكون في سطح ذلك المبصر مختلف الصورة من أجل اختلاف اللون الذي في ذلك المبصر. فإذا أدرك ابصر الضعيف المبصر الذي بهذه الصفة فإنه ربما ظن بالمواضع المنكسفة القتمة أنها أظلال لانكسار الضوء الذي فيها. وإذا ظن البصر بالمبصر المضيء الذي لا ظل فيه أنه مستظل فهو غالط فيما يظنه من الظل.

وكذلك إذا أدرك البصر الضعيف الجدران، وكان بعضها أسود وبعضها أبيض، وكان جميعها مضيئاً بضوء معتدل، فإنه ربما ظن بالمواضع السود أنها مواضع مظلمة. وإذا ظن بالجدار الأسود أنه موضع مظلم فهو غالط فيما يظنه من الظلمة.
والغلط في الظل وفي الظلمة وهما غلطان في القياس لأن الظل والظلمة يدركان بالقياس. وعلة هذين الغلطين على الصفة التي وصفناها هو ضعف البصر، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر الصحيح فإنه يدركها على ما هي عليه ولا يعرض له الغلط فيها إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
الحسن والقبح والتشابه والاختلاف وقد يعرض الغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه والاختلاف أيضاً من أجل خروج البصر عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كانت المعاني الظاهرة التي فيه مستحسنة وكنت فيه معان لطيفة مستقبحة فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك ذلك المبصر حسناً، لأن البصر الضعيف يدرك المعاني الظاهرة ولا يدرك المعاني اللطيفة. وكذلك إذا كانت المعاني الظاهرة التي في المبصر قبيحة وكانت فيه معان لطيفة مستحسنة ومحسنة لصورته فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصر الذي بهذه الصفة قبيحاً ولا يحس بحسنه، لأنه يدرك المعاني الظاهرة التي هو بها مستقبح ولا يدرك معانيه اللطيفة التي هو بها مستحسن.
وكذلك إذا أدرك البصر الضعيف والمأوف مبصرين، وكان المبصران يتشابهان في المعاني الظاهرة ويختلفان في معاني لطيفة، فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة متشابهين ولا يحس باختلافهما. وكذلك إذا كان المبصران مختلفين في المعاني الظاهرة ومتشابهين في معان لطيفة فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصرين اللذين على هذه الصفة متشابهين ولا يحس باختلافهما. وكذلك إذا كان المبصرات مختلفين في المعاني الظاهرة متشابهين في معان لطيفة فإن البصر الضعيف والمأوف يدرك المبصرين اللذين على هذه الصفة مختلفين ولا يحس بتشابههما.
وإذا أدرك البصر المبصر القبيح في معنى من المعاني حسناً على الإطلاق فهو غالط في حسنه. وإذا أدرك الحسن بوجه من الوجوه قبيحاً على الإطلاق فهو غالط في قبحه. وكذلك إذا أدرك البصر المبصرين المختلفين بوجه من الوجوه متشابهين على الإطلاق فهو غالط في تشابههما. وإذا أدرك المبصرين المتشابهين بوجه من الوجوه مختلفين على الإطلاق فهو غالط في اختلافهما. والغلط في الحسن والقبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس، ولأن الأغلاط التي بهذه الصفة إنما هي من تعويل البصر على المعان الظاهرة فقط وسكونه مع ذلك إلى نتائجها. وعلة هذه الغلاط على الوجوه التي وصفناها هي خروج البصر عن عرض الاعتدال، لأن البصر الصحيح يدرك جميع هذه المعاني على ما هي عليه إذا كانت المعاني الباقية التي في المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عروض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال. ومن جميع ما فصلناه في جميع هذه الفصول يتبين كيف يكون غلط البصر في القياس بحسب كل واحدة من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط في جميع المعاني التي تدرك بالقياس.

خاتمة في أغلاط البصر في القياس
فقد أتينا على تقسيم جميع أنواع أغلاط البصر، فحصرنا جميع العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط، ومثلنا في كل قسم من أقسام الأغلاط بمثال من الأمور الموجودة يظهر منها كيفية الغلط. وجميع ما ذكرناه من الغلاط إنما هي أمثلة في كيفيات أغلاط البصر، وليست جميع أغلاط البصر، وإنما كل واحد من الأمثلة التي ذكرناها هو بمنزلة النوع من الأغلاط. وأغلاط البصر كثيرة، إلا أن جميع أغلاط البصر تجتمع تحت الأنواع التي فصلناها، وتنقسم إلى الأمثلة التي مثلناها. وعلل جميع أغلاط البصر على الإطلاق وأنواعها وأقسامها هي العلل التي حصرناها، ولا يوجد شيء من الأغلاط يتعدى العلل الثماني التي تقدم تفصيلها.

وجميع ما ذكرنه من الأغلاط إنما هي أمثلة الأغلاط التي عللها مفردة ولكل واحد منها علة واحدة من العلل المحصورة التي من أجلها يعرض للبصر الغلط. وقد يعرض الغلط من اجتماع علتين وثلث وأكثر من العلل التي ذكرناها. وإذا عرض ذلك فإن البصر يكون مركباً. ومثال ذلك إذا لمح البصر مبصراً من المبصرات من بعد متفاوت، وكان ذلك المبصر متحركاً حركة على الاستقامة وعلى مسافة معترضة لكن حركة ليست في غاية السرعة، فإن البصر إذا لمح المبصر الذي بهذه الصفة من بعد متفاوت ولم يلبث في مقابلته إلا زماناً يسيراً ثم التفت عنه فإنه لا يدرك حركته في الزمان اليسير وإن كان قد تمكن أن يدرك حركة ذلك المبصر في مثل ذلك القدر من الزمان من القرب. وذلك أن المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير إذا كانت على بعد قريب من البصر، ولم تكن حركة المبصر المتحرك في غاية البطء، فإنه قد يمكن أن يدركها البصر من ذلك البعد في مقدار ذلك الزمان، إذا لم تكن تلك المسافة في غاية الصغر. وإذا أدرك البصر المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير فهو يدرك حركة ذلك المتحرك في الزمان اليسير. وإذا كانت المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير على بعد متفاوت فإن البصر ربما لم يدرك تلك المسافة حق قدرها عند البعد المتفاوت.
وإذا لم يدرك البصر المسافة التي يقطعها المبصر المتحرك في الزمان اليسير من البعد المتفاوت فإنه لا يدرك حركة ذلك المتحرك في ذلك القدر من الزمان من البعد المتفاوت. وإذا لم يدرك حركة المتحرك في ذلك القدر من الزمان فإنه يظن بذلك المتحرك أنه ساكن. وإذا ظن بالمتحرك أنه ساكن فهو غالط في سكونه. ويكون علة غلطه هو تفاوت البعد وقصر الزمان معاً، لأن البصر إذا ثبت في مقابلة ذلك المبصر وهو على البعد المتفاوت زماناً فسيحاً يقطع المبصر المتحرك فيه مسافة مقتدرة على ان يدركها البصر من ذلك البعد المتفاوت فإن البصر يدرك حركة ذلك المبصر من ذلك البعد المتفاوت، وإذا كان ذلك المبصر على مسافة قريبة من البصر فإن البصر يدرك حركته في الزمان اليسير إذا كان المتحرك يقطع في الزمان اليسير مسافة على أن يدركها البصر من ذلك البعد اليسير. وإذا كان ذلك فعلة إدراك البصر للمبصر المتحرك من البعد المتفاوت في الزمان اليسير ساكناً ليس هو البعد المتفاوت منفرداً وليس هو قصر الزمان منفرداً بل إنما هو تفاوت البعد مع قصر الزمان مجموعين.
وكذلك إذا كان مبصر من المبصرات يتحرك حركة مستديرة، وكان ذلك المبصر مختلف الألوان، وكانت حركته حركة سريعة وليست في غاية السرعة، وكان المبصر الذي بهذه الصفة في مكان مغدر وليس بشديد الغدرة، ولمح البصر ذلك المبصر من بعد يسير فإنه يدرك حركته في حال لمحته من أجل اختلاف ألوانه مع قربه، لأن المتحرك إذا كان مختلف الألوان وكانت حركته مستديرة ولم يكن في غاية السرعة فإن البصر يدرك تبدل أجزائه بسرعة وإن لم يكن الضوء الذي عليه قوياً إذا كان قريب المسافة من البصر. ثم إن بعد البصر عن هذا المبصر حتى يصير على بعد مقتدر، ولمح البصر ذلك المبصر بعينه من البعد البعيد لمحة خفيفة، فليس يدرك حركته في تلك اللمحة للبعد المتفاوت الذي بينهما مع غدرة الموضع مع قصر زمان اللمحة، لأن القوس التي يقطعها كل جزء من المبصر المتحرك المستدير في زمان يسير تكون صغيرة المقدار، وإذا كان مقدار القوس التي يقطعها الجزء من المبصر صغيراً وكان الضوء الذي في ذلك المبصر يسيراً وكان البعد بعيداً لم يدرك البصر في اللمحة اليسيرة القوس الصغيرة التي يقطعها المتحرك المستدير في زمان تلك اللمحة.

فإذا تأمل البصر المبصر الذي بهذه الصفة، وثبت في مقابلته زماناً فيه فسحة واستقصى تأمله، فإنه قد يدرك حركة المبصر من البعد البعيد لأن القوس التي يقطعها ذلك المبصر المتحرك في الزمان الفسيح تكون مقتدرة المقدار، فيمكن البصر أن يدركها من البعد البعيد مع غدرة الموضع إذا لم يكن الموضع شديد الغدرة. وإن قوي الضوء الذي في الموضع، ثم لمح البصر ذلك المبصر من البعد البعيد الذي لمحه منه أولاً ولم يدرك حركته، فإنه قد يمكن أن يدرك حركته إذا لمحه والضوء الذي فيه قوي، لأن القوس التي يقطعها ذلك المتحرك في زمان اللمحة التي لم يدركها البصر من أجل ضعف الضوء مع تفاوت البعد مع قصر الزمان قد يمكن أن يدركها البصر في الضوء القوي وإن كان البعد الذي يدركها منه بعيداً وكان الزمان قصيراً، لأن المبصرات الصغار التي لا يدركها البصر في المواضع المغدرة قد يدركها البصر في الضوء القوي من الأبعاد بعينها التي لم يدركها منها في المواضع المغدرة وفي مقادير الزمان بأعيانها التي لم يدركها منها في المواضع المغدرة.
فإذا لمح البصر المبصر المتحرك دوراً من البعد البعيد في الضوء اليسير ولم يدرك حركته في حال لمحته فإنه يظنه في تلك الحال ساكناً. وإذا ظن البصر بذلك المبصر أنه ساكن، والمبصر مع ذلك متحرك، فهو غالط في سكونه. ويكون علة هذا الغلط هو تفاوت البعد مع قصر الزمان مع ضعف الضوء الذي في المبصر باجتماعها، لأن البصر قد يدرك حركة ذلك المبصر مع اجتماع علتين من هذه العلل. وذلك أنه يدرك حركته في حال لمحته مع ضعف الضوء الذي فيه إذا لمحه من مسافة قريبة، وقد يدرك حركته من البعد البعيد مع ضعف الضوء إذا ثبت في مقابلته زماناً يسيراً، وقد يدرك حركته من البعد البعيد في حال لمحته إذا كان الضوء الذي فيه قوياً.
وإذا كان ذلك كذلك فالعلة التي من أجلها يدرك البصر المبصر المتحرك الذي بهذه الصفة ساكناً على الوجه الذي وصفناه إنما هو اجتماع العلل الثلاث التي وصفناها لا واحدة منها ولا لاجتماع علتين منها بل اجتماع العلل الثلث بمجموعها. فقد تبين مما ذكرناه أن غلط البصر قد يكون لاجتماع علتين وأكثر من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط، فغلط البصر قد يكون لعلة واحدة وقد يكون لأكثر من علة واحدة، إلا أن جميع العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط واحدة كانت أو أكثر من واحدة ليس تخرج عن العلل الثماني التي فصلناها.
فأغلاط البصر في المعاني الجزئية تكون على ما مثلناه وفصلناه في جميع أنواع الأغلاط. وصر جميع المبصرات مركبة من المعاني الجزئية. فإذا عرض للبصر غلط في معنى من المعاني الجزئية التي في مبصر من المبصرات أو في أكثر من واحد من المعاني الجزئية التي في المبصرات فإنه يكون غالطاً في صورة ذلك المبصر. وإذا عرض للبصر غلط في صورة المبصر فإنما هو غالط في معنى من المعاني الجزئية التي في صورة ذلك المبصر أو أكثر من واحد من المعاني التي فيه. وليس يغلط البصر فيما يدركه من صورة مبصر من المبصرات إلا من غلطه في معنى من المعاني الجزئية التي في ذلك المبصر أو في عدة من المعاني الجزئية التي فيه لأن البصر ليس يدرك من المبصرات إلا المعاني الجزئية التي تحصل فيها.وكذلك إذا غلط البصر في معرفة المبصر فإنما يكون غلطه من تشبيه المعاني التي في ذلك المبصر أو بعض المعاني التي فيه بما يعرفه البصر من المعاني التي أدركها من قبل في ذلك المبصر بعينه أو في غيره من المبصرات التي من نوعه.
وجميع الأغلاط في المعاني الجزئية إنما يكون غلطاً في مجرد الحس، أو غلط في المعرفة، أو غلط في القياس، أو غلطاً في مجموع هذه الثلثة، أو غلط في نوعين منهما في اجتماعهما. وليس يعرض للبصر غلط في المعاني الجزئية يخرج عن هذه الأقسام. فأغلاط البصر في جميع ما يغلط فيه البصر من صور المبصرات قد يكون غلطاً في مجرد الحس، وقد يكون غلطاً في المعرفة، وقد يكون غلطاً في القياس، وقد يكون غلطاُ في الأنواع الثلثة باجتماعها، وقد يكون غلطاً في نوعين منهما باجتماعهما. وليس يعرض للبصر غلط في صورة المبصر من المبصرات يخرج عن هذه الأقسام. وجميع الأغلاط في الأنواع الثلثة التي ذكرناها ليس يكون إلا من أجل غلط البصر في المعاني الجزئية التي في صور المبصرات.

فقد تبين أن جميع أغلاط البصر في جميع المعاني الجزئية إنما يكون للعلل التي حصرناها إما لعلة واحدة منها أو لأكثر من واحدة. فجميع أغلاط البصر في جميع ما يدركه من صور المبصرات وفي جميع ما يدركه من المعاني الجزئية التي في صور المبصرات على انفرادها تنقسم إلى الأقسام التي فصلناها، وتعرض للبصر على الأمثلة التي مثلناها، وتجتمع عللها تحت العلل التي حصرناها.وهذا حين نختم هذه المقالة.
تمت المقالة الثالثة من كتاب أبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم في المناظر ووقع الفراغ من نسخها ليلة الأحد حادي عشر شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة. والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وسلامه.