كتاب : المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
المؤلف :أمير بن محمد المدري

 بسم الله الرحمن الرحيم

المواعظ الإيمانية من الآيات القرآنية
أمير بن محمد المدري

المقدمة
الحمد لله العزيز الوهاب الذي أنزل على عبده ورسوله محمد الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، وأودع فيه من العلوم النافعة والبراهين القاطعة والدلائل الجلية والأحكام الشرعية، وحفظه من التغيير والتبديل مهما طال الدهر وتوالت الأحقاب، وجعله معجزة خالدة يشاهدها من عاش في زمن الوحي ومن غاب، فهو حجة للمؤمن الأواب، وحجة على الكافر المرتاب، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم من سلكه وعمل به فله البشرى والثواب، ومن أعرض عنه فله معيشة ضنكا وفي الآخرة سوء العذاب.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد المصطفى من أطهر الأنساب وأشرف الأحساب الذي أيده ربه بالمعجزات الباهرات وعلى آله وصحبه الأكرمين خير أهل وأصحاب الذين وعدهم ربهم - سبحانه - بالنصر والتمكين و أورثهم الجنة وحسن المآب.
((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) آل عمران:102
((يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) النساء:ا
((يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) الأحزاب:70-71.
وبعد

إن من الواجبات التي ينبغي على المسلم أن لا يدعها ،أن يُرتب لنفسه ورداً من القرآن يتلوه ويقرأه في كل يوم، ومع القراءة؛ الفهم والتدبر لأن الله عز وجل يقول: ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ)) النساء:82 ومع التلاوة والفهم والتدبر العمل، حتى يكون القرآن الكريم حجة لنا لا علينا.
ولا بد أن يتبع ذلك العمل بالقرآن، فالغاية الأساس من نزوله العمل بما جاء فيه من الأوامر والنواهي، وتحكيمه في ساحة الحياة ،فهو ليس كتاباً للقراءة فحسب، بل جعله الله نوراً وهدى للناس ليعملوا بما فيه وليلتزموا حدوده، قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (الأعراف:3)
وهو الروح قال تعالى (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )الشورى52 ومن ابتغى من القرآن غير ما أنزل لأجله فقد تنكَّب سواء السبيل، وضل عن هدي رب العالمين: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124).
وهو النور قال تعالى ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ).
ولأهمية العمل بالقرآن نجد كثيراً من الآيات تربط بين الإيمان والعمل، كما في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} (يونس:9) وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت:7).

والحق أن القرآن الكريم مليء بالآيات الدالة على أن الغرض الأساس من نزوله إنما هو العمل بما جاء فيه، من ذلك قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) قال أهل التفسير: أي فاجعلوه إماماً لكم تتبعونه، وتعملون بما فيه من الأحكام. وقوله تعالى في الآية نفسها: {واتقوا} أي: احذروا الله في أنفسكم أن تضيِّعوا العمل بما فيه، وتتعدوا حدوده وتستحلوا محارمه.
وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة:121) قال عطاء و مجاهد في معنى الآية: يعملون به حق عمله. وفي قوله تعالى: {حق تلاوته} مبالغة في صفة اتباعهم، ولزومهم العمل به.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (البقرة:78) قيل في تفسيرها: إلا تلاوة، فلم يعلموا ما فيه، ولم يعملوا بما فيه. قال الفضيل : إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً.
وترك العمل بالقرآن والإعراض عنه نوع من أنواع هجره الذي حذرنا الله منه وذم فاعله، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30) ففي هذه الآية أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على أن يتعلم أصحابه القرآن ويتعلموا العمل معه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.

وفي الحديث الذي رواه البخاري و مسلم ذمٌّ لبعض الأقوام الذين (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فليس لهم منه إلا حظ القراءة والتلاوة فحسب، أما العمل بما فيه فهم عنه معرضون. وفي "صحيح مسلم" أيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن: (القرآن حجة لك أو عليك) أي: إن الانتفاع بالقرآن الكريم إنما يحصل إذا تمت تلاوته والعمل بما فيه، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فهو حجة على قارئه يوم القيامة. وعند مسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما) وفي رواية للترمذي (تجادلان) .
ومن ناحية أخرى نحن بحاجة الى أن يعود القران الى منصة الحكم ليعم خيره كل شيء لا أن يصبح للتبرك فقط ،ولبدءالاحتفالات والقنوات ،والتلاوة بلا تدبر فقط،ولهذا كان هذا الكتاب .


( 1) الفاتحة-1

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ((الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)) الفاتحة:2، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: ((الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) الفاتحة:3 قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ((مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ)) الفاتحة:4 قال الله: مجّدني عبدي، أو قال: فوض إليّ عبدي، فإذا قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) الفاتحة:5 قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ)) الفاتحة:6، 7, قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
وقفة اليوم , مع أعظم سورة في القرآن, إنها سورة الفاتحة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده, ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني)).
نعم, يا عباد الله, إنها فاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب والقرآن العظيم، لأن معاني القرآن ترجع إلى ما تضمنته هذه السورة العظيمة، إنها شفاء من كل سم, كما أخبر الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عندما أصيب سيد حي من أحياء العرب بلدغة عقرب فقرأ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه الفاتحة عليه برأ بإذن الله قال: كأنما نشط من عقال.
يقول أحد علماء الإسلام وهو ابن القيم رحمه الله: "ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيباً ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً وكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثير منهم يبرأ سريعاً".
هذه السورة المباركة

اشتملت على إصلاحِ النّفس وإصلاحِ المجتمع، وأرست أسُسَ الأمن والاستقرار والسعادةِ في الأرض، هي خيرُ ما أنزِل، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال له الرّسول صلى الله عليه وسلم : ((لأعلِّمنَّك سورةً ما أنزِلَ في التوراة ولا في الإنجيلِ ولا في الفرقان سورة كانت خيرًا منها))، قال: ((فاتحةُ الكتاب هي السبعُ المثاني والقرآن الذي أوتيتُه)) صحيح سنن الترمذي (2499).
هي أحَدُ النّورَين، فعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: بينَما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم سمِع نقيضًا من فوقِه، فرفع رأسه فقال: هذا بابٌ من السماءِ فتِح اليومَ، لم يفتَح قطّ إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا مَلكٌ نزل إلى الأرضِ لم ينزِل قطّ إلاّ اليوم، فسلَّم وقال: أبشِر بنورَين أوتيتَهما لم يؤتاهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيمُ سورة البقرة، لن تَقرَأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه. رواه مسلم.

معاشر المسلمين المؤمنين الموحدين, سورة الفاتحة يحفظها الجميع صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ونكررها في اليوم والليلة مرات ومرات، ولكن أين من تأمل معانيها؟ وأين من يتدبر مراميها؟ أين من يعيش قضاياها العظيمة؟!
أين من يستحضر هذه المناجاة بين العبد وبين ربه وخالقه ومولاه، حين يقول العبد: ((الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)) يقول الله: حمدني عبدي, وحين يقول العبد: ((الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) يقول الله: أثنى علي عبدي, وحين يقول العبد: ((مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ)) يقول الله: مجدني عبدي, وحين يقول العبد: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) يقول الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ)) قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.

فلنعش إخوة الإسلام مع قضايا هذه السورة العظيمة ومع آياتها السبع، أسأل الله أن ينفعنا ويرفعنا بهذا القرآن، وأن يجعله شافعاً لنا وحجة لنا لا علينا، وأن يجعله قائدنا ودليلنا إلى جناته جنات النعيم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 2) الفاتحة -2

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

((بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) الفاتحة:1,
أبدأ باسم الله وأتبرك باسم الله، ولفظ الجلالة (الله) قيل إنه هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
((الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ))اسمان من أسماء الله الحسنى، فأما الرحمن فهو عام لجميع المخلوقات يشمل كل الخلق, الإنس والجن والبهائم والدواب, المؤمن والكافر, والبر والفاجر، كما قال سبحانه وتعالى: ((سِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً))غافر:7
والله سبحانه وتعالى له مائة رحمة، كما جاء في الحديث, أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فقط بها يتراحم الخلق كلهم صغيرهم وكبيرهم مؤمنهم وكافرهم ناطقهم والأعجم, حتى إن الدابة لترفع رجلها عن وليدها ليرضع منها بهذه الرحمة
وأما الرحيم فهي خاصة بعباد الله المؤمنين لقوله تعالى: ((كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً))الأحزاب:43
((لحمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ))الألف واللام في الحمد يستغرقان جميع أجناس الحمد لله تعالى، الشكر والثناء لله سبحانه وتعالى وحده فهو المستحق للحمد والشكر دون سواه.
والحمد والشكر والثناء لله سبحانه وتعالى يكون بأمور:
أولها بالقلب, فيقرر ويعترف أن الله سبحانه هو صاحب النعم وهو المستحق للشكر والثناء وحده دون سواه ((مَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ))النحل:53, ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)) إبراهيم:24

ثانيها باللسان, فيلهج بالذكر والشكر والحمد لله سبحانه وتعالى وحده.
ثالثها بالجوارح التي أنعم سبحانه وتعالى بها علينا, تُسخر في طاعة الله وتصرف عن معصية الله, وهذا هو الشكر الحقيقي لهذه النعم وكما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... ... يدي ولساني والضمير المحجبا
((الحمدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ))الرب: هو المالك المتصرف, والعالمين: جمع عالم, وهو كل موجود سوى الله عز وجل، فالإنس عالم, والجن عالم, والملائكة عالم, والحيوان عالم وغيرها من العوالم التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
ومع هذا يبلُغ من فضلِ الله سبحانه على عبدِه المؤمن أنه إذا حمِد الله حمدًا يليق بجلالِه كتبَها له حسنةً ترجحُ كلَّ الموازين، ففي سننِ ابن ماجه عن عبد الله بن عمَرَ أنَّ رسول الله حدّثهم: ((إنَّ عبدًا من عبادِ الله قال: يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغِي لجلال وجهِك ولعظيم سلطانك، (فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء وقالا: يا ربَّنا إنَّ عبدَك قد قال مقالةً لا ندرِي كيفَ نكتبُها، قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبدُه: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربِّ، إنّه قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهِك وعظيم سلطانك، فقال الله عزّ وجلّ لهما: اكتبَاهَا كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزِيَه بها)) سنن ابن ماجه: كتاب الأدب (3801)

((الرَحْمَانِ الرَّحِيمِ)) ((ملِكِ يَوْمِ الدّينِ))يوم الدين هو يوم القيامة, يوم الجزاء والحساب, وإنما خص الله سبحانه وتعالى المُلك بيوم الدين مع أنه مالك يوم الدين ومالك يوم الدنيا لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع أحد أن يدعي الملك بخلاف الدنيا، فقد يدعي بعض الناس الملك والسلطان كما قال فرعون (ألَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى) الزخرف:51.

أما في ذلك اليوم فلا ملك إلا لله، ولا سلطان ولا جبروت إلا للواحد جل في علاه(لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ))غافر:16].
(إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))هذه الآية من أعظم الآيات في القرآن الكريم، يقول بعض السلف: إن سورة الفاتحة هي سر القرآن, وسر الفاتحة هذه الآية ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، وإياك مفعول به، وقد تقدم هنا ليفيد الحصر, أي لا نصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لك يا الله، فلا نعبد إلا الله ولا نسجد ونركع إلا لله, ولا ندعو إلا الله، ولا نذبح إلا لله، ولا ننذر إلا لله، ولا نطوف إلا ببيت الله، ولا نقدم أي نوع من أنواع العبادة إلا لله. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) تبرُّؤٌ من الشرك، وقوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) تبرُّؤٌ من الحول والقوة والطول إلا إلى الله سبحانه وتعالى.
وقدم الله سبحانه وتعالى العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة داخلة فيها, لأن العبد لا يستطيع أن يعبد الله كما أراد إلا بتوفيق من الله وعون منه سبحانه وتعالى.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده

ثم يقول سبحانه وتعالى: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) وهذا سؤال ودعاء من العبد لربه أن يهديه الصراط المستقيم, وقد ناسب هذا السؤال وهذا الدعاء بعد أن قدم العبد لربه الحمد والثناء والتمجيد والتفويض وتبرأ من الشرك وأخلص العبادة لله وتبرأ من حوله وقوته وطوله إلى حول الله وقوته وطوله فناسب بعد ذلك أن يسأل الله ويدعوه، وهذا أدب جليل من آداب الدعاء، ومن لاحظ دعاء الأنبياء والمرسلين وجد هذا الأدب واضحاً جلياً، فهذا ذا النون عليه السلام لما ابتلعه الحوت وأصبح في الظلمات ماذا قال؟! هل قال يا رب أخرجني, يا رب أنقذني, يا رب نجني؟ لا إنما أخذ يذكر الله ويثني عليه ويوحده ويسبحه وهو مع ذلك معترف بالذنب ومقرٌّ بالتقصير قال: ((لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) الأنبياء:87, وفي الآية الأخرى: ((فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) الصافات:143، 144.
وهذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض فماذا قال: هل قال: يا رب اشفني, أو قال: يا رب ارحمني؟ لا، بل قال((أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) الأنبياء:83مسني, ما قال: هدّني, وما قال: قتلني, وإنما قال: مسني لامسني ملامسة مع أنه ظل طريح الفراش ما يقارب سبعة عشر عاماً لا يقوى على الحركة وابتلاه الله عز وجل أيضاً في أمواله وأولاده, ففقد كل شيء، ومع ذلك حمد الله وشكره وأثنى عليه وظل ذاكراً لله حتى شفاه الله عز وجل وأكرمه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.


( 3) الفاتحة - 3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لا زلنا وأياكم في ضلال سورة الفاتحة الكافية والشافية((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) أي دلنا وأرشدنا ووفقنا يا رب إلى صراطك المستقيم إلى الإسلام إلى الطريق الصحيح الموصل إلى الله وإلى جنته ورضوانه.
وهذا الدعاء, عباد الله, من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، لذلك وجب على العبد أن يدعو به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك, لأن العبد بحاجة إلى هداية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة من لحظاته، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستفتح صلاة الليل بطلب الهداية من الله تعالى فيقول في دعائه: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ((مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ)) فصلت:46.

فقد وضح الله سبحانه وتعالى صراطه المستقيم وبينه, فقال سبحانه: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) والذين أنعم عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال سبحانه وتعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) النساء:69.

وقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا فلان مالي أراك محزوناً؟)) فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال: ((وما هو؟)) قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)).
ثم حذرنا الله سبحانه وتعالى من مخالفة هذا الطريق واتباع غير هذا السبيل, فقال سبحانه: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ)) فأما المغضوب عليهم فهم اليهود. وغضب الله عليهم, لأنهم علموا وما عملوا، تعلموا العلم لكنهم ما عملوا بهذا العلم، فكان جزاؤهم أن غضب الله عليهم. وأما الضالين فهم النصارى, ما تعلموا فضلوا وتاهوا وحاروا.
وأما طريق أهل الإيمان فهو قائم على العلم بالحق والعمل به.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، ونسأله جل وعلا أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .


(4 ) البقرة -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أيها الإخوة: (الم) من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ... وهي من كلام الله المعجز والذي تحدى به فصحاء العرب.
(ذلك الكتاب): أي هذا الكتاب القرآن العظيم، (لا ريب فيه): لاشك من أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق.(هدى للمتقين): رشد وبيان للمتقين وكما قال تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى).
والمتقون هم الذين يجتنبون ما حرم الله ويعملون بطاعته ... الذين يؤمنون قولاً واعتقاداً وعملاً بالغيب، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبالجنة والنار والقيامة وكل ما أخبر الله عنه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب.
(ويقيمون الصلاة): أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها، من تلاوة وركوع وسجود وتشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
(ومما رزقناهم ينفقون): على الأولاد والأزواج والفقراء والمساكين وفي سبيل الله ويؤدون الزكاة وينفقون في ما أحل الله لهم دون إسراف ولا تبذير ولا مخيلة (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) ويؤمنون بالقرآن وبالكتب السماوية وبالأنبياء والرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وباليوم الآخر والصراط والميزان (هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) على رشد وبصيرة وهم الفائزون والناجون. هذه أربع آيات مرت في صفات المؤمنين: أهل التقوى، الناجون بإذن الله يوم القيامة، وهم أهل الجنة.
ثم جاءت الآيتان اللتان تبينان حال الكفار ... أهل النار والعياذ بالله. قال تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) فهؤلاء متساو لديهم تخويفهم أو عدمه، لأن الله قد حكم بعلمه السابق بكفرهم وبقائهم في الشقاوة والعياذ بالله، فطبع على قلوبهم فلا تفهم خيراً ولا تعيه، ولا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وعلى أبصارهم غطاء فلا يرون نور الهدى ولهم عذاب عظيم: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم).

والكفر أيها الإخوة: على أربعة أحوال كفر إنكار، وهؤلاء هم الملاحدة، وكفر جحود، ككفر إبليس وفرعون، وكفر عناد، ككفر أبى طالب حيث قال:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وكفر نفاق كمنافقي المدينة الذين ظهروا في عهد النبي صل الله عليه وسلم ويظهرون في كل عصر ووقت. والنفاق هو الإقرار باللسان وعدم الاعتقاد بالقلب، فالمنافقون يظهرون الإسلام ويؤدون الشعائر ولكنهم يبطنون الكفر وهذه الحالة ذكرها الله عز وجل في ثلاثة عشرة اية .
قال تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).
يعتقدون بجهلهم أنهم بذلك يخدعون الله عز وجل وأن ذلك ينفعهم كما يخدعون المؤمنين. فيعتبرونهم من المؤمنين ويجرون عليهم أحكامهم، ولكنهم يوم القيامة يكونون مع الكفار في النار فما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

(في قلوبهم مرض)، شك، (فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) لأنهم يظنون بفعلهم هذا من الخداع والنفاق، وما يستفيدون منه في الحياة الدنيا أنه صلاح فلا يشعرون بما هم فيه من الفساد ولا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب جزاء كفرهم ونفاقهم والعياذ بالله. يستهزئون بالمتمسكين بالكتاب والسنة ويعتبرونهم أنهم هم السفهاء ويتندرون بهم في مجالسهم وخلواتهم، فإذا قيل لهم: (آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)، فلكل واحد منهم وجهان: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) فهذا جواب لهم ومقابلة على صنيعهم حيث يأتون يوم القيامة خلف المؤمنين فيقولون: (انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب). (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفئ ذلك النور وبقيت ناراً تأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون (أو كصيبٍ من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين).

صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وضعفت بصائرهم عما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي ما فيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه والعمى والعياذ بالله. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 5 ) البقرة -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أيها الإخوة: لخطر المنافقين على هذه الامة ذكرهم الله في سورة البقرة في ثلاث عشرة اية .
المنافقون المذبذبون المراءون، الذين اذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، لهم من الفصاحة والبلاغة وجمال في الأجسام كأنهم خشب مسندة، أحدهم (يشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).
هذه صفات المنافقين الذين ينتشرون بين المسلمين ويتكلمون بلغتهم ومن بني جلدتهم، وهم أشد على الإسلام من الكفار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) لأنه يستخدم هذه اللغة والفصاحة في تضليل الأمة وكل واحد منهم يتلون بألوان عدة، وله وجهان يأتي لكلٍ بوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين)) ومن كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار والعياذ بالله كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أقول هؤلاء خطر على الأمة لأنهم يتكلمون لغتنا، وأسماؤهم مثل أسمائنا، وزيهم مثل زينا، ويصلون ويصومون ويحجون. ولكن من رأى مجالسهم ومقالاتهم وآراءهم لعرفهم في لحن القول يتحاكمون إلى الطاغوت ويوالون اليهود والنصارى ويشاركونهم في أعيادهم ويصرفون اهتمام الأمة إلى التوافه من الأمور كالاهتمام بالآثار والتفاخر بها والاهتمام بالتاريخ الجاهلي وسيرتهم، كل ذلك حتى يفصلوا الأمة عن سيرة نبيهم والخلفاء الراشدين وإماتة روح الجهاد في نفوس الشباب والاستسلام لليهود والنصارى. نسأل الله العافية والسلامة.
إن سورة البقرة من السور العظيمة، يقول أهل العلم: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر، وفيها أعظم آية في القرآن ألا وهي آية الكرسي التي من قرأها في يوم لا يقربه شيطان، ومن قرأها دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، هذه السورة العظيمة من قرأها في بيته فإن الشيطان لا يدخله كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه سورة البقرة. اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركه وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)). كما أن الآيتين اللتين في آخرها من قرأهما في ليلة كفتاه، كما ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم بذلك، وأنه حض على قراءتها حيث قال: ((اقرءوا هاتين الآيتين اللتين في آخر سورة البقرة فإن ربي أعطانيهما من تحت العرش)).

أيها الإخوة: إن في هذه السورة حصن من الشيطان وحصن من السحر فلماذا لا نحصن بيوتنا وأنفسنا بقراءة هذه السورة داخل البيوت؟ لماذا هذا التهافت من الناس على الدجاجلة والمشعوذين، لماذا نسهل دخول الشيطان في بيوتنا بالاستماع إلى المعازف وتعليق الصور وفعل المعاصي والمنكرات، فإذا ما أصاب أحدنا شيء من المس أو السحر ... هرعنا إلى السحرة .. فنقع في مصيبة عظيمة، مصيبة في الدين، حيث من ذهب إلى كاهن وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ونترك الشفاء والعلاج الذي بين أيدينا وكأننا لا نصدق نبينا صل الله عليه وسلم في ذلك والعياذ بالله. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.


( 6) البقرة -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله - تعالى -: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".

قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي وغير واحد من السلف: كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخا كبيرا وله بنو أخ وكانوا يتمنون موته؛ ليرثوه فعمد أحدهم فقتله في الليل، وطرحه في مجمع الطرق ويقال: على باب رجل منهم. فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى - عليه السلام -، فقال موسى - عليه السلام -: أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به. فلم يكن عند أحد منهم علم، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه - عز وجل -، فسأل ربه - عز وجل - في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يعنون؛ نحن نسألك عن أمر هذا القتيل وأنت تقول هذا. " قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " أي؛ أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي. وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه. قال ابن عباس وعبيدة ومجاهد وعكرمة والسدي وأبو العالية وغير واحد: فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. وقد ورد فيه حديث مرفوع، وفي إسناده ضعف، فسألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم، وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في "التفسير".

والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان؛ وهي الوسط بين النصف الفارض وهي الكبيرة والبكر وهي الصغيرة. قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة. ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها فأمروا بصفراء فاقع لونها أي مشرب بحمرة تسر الناظرين، وهذا اللون عزيز. ثم شددوا أيضا فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه: لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا وفي صحته نظر والله أعلم. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وهذه الصفات أضيق مما تقدم حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول وهي المذللة بالحراثة وسقى الأرض بالسانية مسلمة وهي الصحيحة التي لا عيب فيها. قاله أبو العالية وقتادة وقوله: لَا شِيَةَ فِيهَا أي؛ ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها، فلما حددها بهذه الصفات وحصرها بهذه النعوت والأوصاف قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ويقال: إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه فطلبوها منه فأبى عليهم فأرغبوه في ثمنها حتى -أعطوه فيما ذكر السدي- بوزنها ذهبا فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات فباعها منهم فأمرهم نبي الله موسى بذبحها فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أي؛ وهم يترددون في أمرها. ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها، قيل: بلحم فخذها. وقيل: بالعظم الذي يلي الغضروف. وقيل: بالبضعة التي بين الكتفين، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله - تعالى - فقام وهو تشخب أوداجه، فسأله نبي الله: من قتلك؟ قال

قتلني ابن أخي.ثم عاد ميتا كما كان، قال الله - تعالى -: " كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "أي؛ كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له، كذلك أمره في سائر الموتى، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة، كما قال:مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ الآية. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 7 ) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله تعالى:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد". نزلت هذه الآية الكريمة في صهيب الرومي رضي الله عنه، حينما تخلى للمشركين في مكة عن كل مايملك مقابل أن يخلون سبيله ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، احتجزوه ومنعوه من الهجرة وقال قائلهم ياصهيب جئتنا صعلوكاً لاتملك شيئاً، وأنت اليوم ذو مال كثير! - يساومونه- فقال لهم رضي الله عنه: أرأيتم إن دللتكم على مالي هل تخلون سبيلي؟ قالوا : نعم . فدلهم على ماله بمكة ثم انطلق مهاجراً في سبيل الله لايلوي علىشيء تاركاً كل مايملك خلف ظهره وهاجرا إلى الله ورسوله ، فلما وصل المدينة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليه الصلاة والسلام مهنيئاً له على حسن صنيعه: "ربح البيع أبا يحيى ربح البيع " فلله در صهيب شرى نفسه طلباً لرضوان الله تعالى. هكذا تكون التضحية وإلا فلا ! هذا صهيب وهذا فعله الذي غدا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة فماذا قدمت أنا؟ وماذا قدمت أنت أخي الحبيب طلباً لمرضات الله؟ ماذا قدمنا من أموالنا في سبيل الله ؟ ماذا قدمنا من أوقاتنا في سبيل الله؟ هل تنازلنا عن شيء ولو يسيرمن شهواتنا وملذاتنا من أجل الله؟ بل كم قد تنازلنا عن إيماننا من أجل دنيانا ؟ أنرقع دنيانا بتمزيق ديننا؟! كيف لوخيرنا بين أموالنا وبين ديننا؟ أو بين أهلينا وبين إيماننا؟
اللهم سترك ياستير ، اللهم لاتفضحنا؟ ولا تمتحنا في إيماننا وتولنا برحمتك ياأرحم الراحمين. هذا حالنا أيها الأخوة ونحن نرجو الجنة ونطمع في نعيم الآخرة ونطمح إلى الدرجات العلى والمنازل الرفيعة بجوار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ولانريد أن نقدم ولو جزءً يسيراً من الثمن. يقول الله تعالى: الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 8) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
احذروا أيها المسلمون من هجر كتاب الله عز وجل: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً)) الفرقان:30.
فالحذر الحذر من هجران كتاب الله، فهناك من يهجرون كتاب الله تلاوةً حيث تمضي الأيام والأشهر والأسابيع والسنوات ولا يتلو من كتاب الله شيئاً والعياذ بالله، وهناك من يهجرون كتاب الله فهماً وتدبراً، وهناك من يهجرون كتاب الله تطبيقاً وحكماً وسياسة واقتصاداً وقضاءً، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.
إيها المسلمون
سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع قول الله عز وجل في: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ))

الاية فيها أمر للمسلمين ونداء لهم: ((ايأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ)) البقرة:153 الله عز وجل يأمرنا نحن المسلمين خاصة نحن الذين نعيش في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ونعاني ما نعاني؛ ما أحوجنا أن نتدبر كلام الله عز وجل ونستعين بتوجيهاته بالصبر والصلاة، الصبر الذي له أثر كبير في نفوس ومسيرة حياة المؤمنين، فضلاً عن الأجر العظيم الذي يناله المسلم من الله عز وجل حيث يقول الباري سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) الزمر:10، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)). ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر: ((عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء – أي مصيبة في نفسه في ولده، ماله، في بيته، في دمه – صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء – أي نعمة – شكر)) أي على كلتا الحالتين المسلم مُثاب ومأجور من عند الله تبارك وتعالى.
اللهم اجعلنا من الصابرين ولا تجعلنا من القانطين ولا من اليائسين يا رب العالمين.
ولا بد من الصبر على الطاعات , والصبر عن المعاصي , والصبر على جهاد المشاقين لله , والصبر على الكيد بشتى صنوفه , والصبر على بطء النصر , والصبر على بعد الشقة , والصبر على انتفاش الباطل , والصبر على قلة الناصر , والصبر على طول الطريق الشائك , والصبر على التواء النفوس , وضلال القلوب , وثقلة العناد , ومضاضة الاعراض .

وحين يطول الأمد , ويشق الجهد , قد يضعف الصبر , أو ينفد , إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر ; فهي المعين الذي لا ينضب , والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة , والزاد الذي يزود القلب ; فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر , الرضى والبشاشة , والطمأنينة , والثقة , واليقين . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 9 ) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها
فعن خباب بن الأرث - رضي الله عنه - قال:شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا:ألا تستنصر لنا ? ألا تدعو لنا ? فقال:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض , فيجعل فيها , ثم يؤتى بالمنشار , فيوضع على رأسه فيجعل نصفين , ويمشط بأمشاط الحديد
((ما دون لحمه وعظمه , ما يصده ذلك عن دينه . . والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله , والذئب على غنمه , ولكنكم تستعجلون ))
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام , ضربه قومه فأدموه , وهو يمسح الدم عن وجهه , وهو يقول( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
وعن يحيى بن وثاب , عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم)) الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)).
أيها المسلمون

إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى , يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع , وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود , ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب , ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا , ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .
هنا تبدو قيمة الصلاة . . إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض . إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة , إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . . ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال:" أرحنا بها يا بلال " . . ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .
(إن الله مع الصابرين). .
معهم , يؤيدهم , ويثبتهم , ويقويهم , ويؤنسهم , ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم , ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة , وقوتهم الضعيفة , إنما يمدهم حين ينفد زادهم , ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: (إن الله مع الصابرين). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 10 ) ولا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بل أحياء
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل: ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ)) البقرة:154
إن الله عز وجل يُبين لنا في هذه الآية الكريمة أن الذي يستشهدون ليسوا أمواتا بل أحياء،
إن هنالك قتلى شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله , والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق , هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم:أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور , ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر , وحسبما ترى العين . . والفكرة التي من أجلها قتلوا هؤلاء ترتوي بدمائهم وتمتد , وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها , وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار , وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به: (أحياء ولكن لا تشعرون). . لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى , ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .

أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم , ولا يتعاظمها الأمر , ولا يهولنها عظم الفداء .ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله , مأجورون أكرم الأجر وأوفاه:
في صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش , فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال:ماذا تبغون ? فقالوا:يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ? ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا:نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون )) .
وعن أنس رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا , وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد , ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات , لما يرى من الكرامة )) أخرجه مالك والشيخان
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء ? إنهم أولئك الذين يقتلون (في سبيل الله). . في سبيل الله وحده , دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده , لا في أي سبيل آخر , ولا تحت أي شعار آخر , ولا شركة مع هدف أو شعار . وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث , حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة , ويقاتل حمية , ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) . . أخرجه مالك والشيخان .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال:يا رسول الله:رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا ? فقال:" لا أجر له " . فأعاد عليه ثلاثا . كل ذلك يقول:" لا أجر له " . أخرجه أبو داود.
وعنه - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده , ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم , لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا . ولكن لا أجد سعة فأحملهم , ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن اغزو في سبيل الله فأقتل , ثم اغزو فأقتل , ثم اغزو فأقتل ))أخرجه مالك والشيخان .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله , لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله , وإيمان به , وتصديق برسله .
اللهم اكتب لنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارحم شهداءنا، اللهم تقبل شهداءنا، واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.


( 11 ) وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ)) البقرة:155، وذلك الابتلاء والامتحان من الله حتى يميز الخبيث من الطيب، ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ)) البقرة:155، 156.
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءه قبلهم، ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(تفسير الطبري)
ولقد ورد في فضل الصبر أن الله عز وجل إذا أمر ملائكته أن يقبضوا روح العبد المؤمن فتقبض الملائكة روحه ثم يعودون، فيسألهم الله عز وجل - وهو بهم أعلم - أقبضتم روح عبدي فلان؟ فتقول الملائكة: نعم .. ويسألهم الله: ماذا قال عبدي فلان؟ – ماذا كان رد الفعل عند والده عند أقرب الناس إليه؟ فتقول الملائكة: حمدك واسترجع – أي إن دأب المسلم أن يقول عندما تصيبه مصيبة: إنا لله و إنا إليه راجعون - فيقول الله عز وجل للملائكة: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.
(وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون). .

إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . . لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . . التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة , وبالتصور الصحيح .
(وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون
وبشر يا محمد الصابرين، الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني، فيقرّون بعبوديتي، ويوحدونني بالربوبية، ويصدّقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي ويخافون عقابي، ويقولون عند امتحاني إياهم ببعض محني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها. إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون تسليما لقضائي ورضا بأحكامي.
هؤلاء هم الصابرون . .:
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة , وأولئك هم المهتدون). .
صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .
أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وأحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفا صَالِحا يَرْضَاهُ)).
اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً. اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك. أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

( 12 ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لقاءنا اليوم مع أعظم اية في كتاب الله:
مع أية قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم (0من قرأها بعد كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت )
((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم)).البقرة
لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه عن أعظم آية في القرآن؟ فقال: الله ورسوله أعلم فسأله مرة ثانية، فقال: الله ورسوله أعلم، فحينما سأله الثالثة؟ قال: ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم)) فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدر أبي وقال له: ((ليهنك العلم أبا المنذر)) هنأه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العلم الذي حواه صدره .. فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم .. بل لقد علم أعظم آية لما فيها من صفات لله عز وجل ولما تحويه من أسماء الله .. فهذه الآية أيها الإخوة مشتملة على عشر جمل مستقلة.
الله لا إله إلا هو
البداية تغرس في قلوبنا أن الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ; ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . ومن هذا التصور يستمد المؤمن كل القيم من الله ; فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله , ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء(في ضلال القرآن )

وقوله تعالى: ((الله لا إله إلا هو)) إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو سبحانه، وهو المستحق للعبادة ((الحي القيوم)) أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره.
الحي القيوم.
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية , فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 13 ) ((لا تأخذه سنة ولا نوم))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
((لا تأخذه سنة ولا نوم)) لا تغلبه سنة وهي النعاس ولهذا قال تعالى: ((ولا نوم)) لأنه أقوى من النعاس.
جاء في الصحيح: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
((له ما في السموات وما في الأرض)) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.
(له ما في السماوات وما في الأرض). .

فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد , القيوم الواحد , المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله , لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ; فليس لهم أن يخرجوا عنها
((من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) كقوله تعالى: ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)) وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة ... كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ((ثم آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع)) فلا شفاعة إلا بإذن الله إذن لمن يشفع ولمن يشفع له قال تعالى: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون))الانبياء
(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ?)
إنها صفة أخرى من صفات الله ; توضح مقام لألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ; لا يتعدونه ولا يتجاوزونه , يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ; الذي لا يقدم بين يدي ربه ; ولا يجرؤ على الشفاعة عنده , إلا بعد أن يؤذن له , فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم , ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد .

((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)) هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، ((وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً))مريم
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم )
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه , وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ; ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ; كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة

( 14 ) ((ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى ((ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)) أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: ((عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً))الجن
((وسع كرسيه السموات والأرض)) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) فقال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة، وقيل أنها كدراهم ألقيت في ترس، فسبحان الله رب العرش العظيم.
((ولا يؤوده حفظهما)) أي لا يثقله ولا يكترثه ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شي، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.
((وهو العلي العظيم)) فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل
((وهو العلي العظيم)) وهذه خاتمة الصفات في الآية , تقرر حقيقة , وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو , وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم , ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال: (العلي العظيم)ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !

إنه المتفرد بالعلو , المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو , ويعظم الإنسان ما يعظم , فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان , فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة الله ومهابته ; وإلى الشعور بجلاله وعظمته ; وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك .
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونق سرائرنا من الشرور والبليات، اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

) 15 ) )) زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين))الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال الله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة و الأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب. قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله والله بصير بالعباد".

في هذه الآية العظيمة مقارنة لطيفة بين متاع زائل وبين نعيم دائم ، بين دنيا فانية وأخرى باقية، إنه امتحان ولكنه مكشوف الأوراق ومحدد النتائج ، أمامك اختياران الأول: متاع الحياة الدنيا والثاني: التقوى (للذين اتقوا). والأمر لايحتاج إلى كثير تفكير فأي عاقل لابد أن يختار الخيار الثاني لأن النتيجة هي: جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله .
أفهذا خير أم متاع زائل وشهوة عابرة ونشوة زائلة؟! ولكن بما أن المسألة بهذا الوضوح فلماذا يفشل كثير من الناس في هذا الإمتحان؟ لابد أن في الأمر سر. والسر هو في أول كلمة في الآية : زين . فمن المزين ولماذا هذا التزين؟ يرى بعض المفسرين أن المزين هو الشيطان وذلك بوسوسته للإنسان وتحسنه الميل لهذه الشهوات، قالوا ويؤيد ذلك قوله تعالى: "وزين لهم الشيطان أعمالهم.." ويرى البعض أن المزين هو الله تعالى وذلك للإمتحان والإبتلاء، ليظهرعبد الشهوة والهوى من عبد الله ويؤيد ذلك قوله تعالى: "إنا جعلنا ماعلى الأرض زينة لهم لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" وكلا القولين له وجه. ومن رحمة الله بنا أنه لم ينهنا عن التمتع بتلك الشهوات بالكلية ولكنه نهانا عن أن نتعلق بها فتشغلنا عن العمل للآخرة ونهانا عن أن نؤثر حبها على حب الله والدار الآخرة فتعمي أبصارنا وتطغينا فنتجاوز حدود الله ونرتكب الآثام من أجلها ونبيع ديننا لتحصيلها.قال تعالى : " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى". ولفتة أخيرة وهي أن في تعداد هذه الشهوات دون غيرها وبالترتيب الوارد في الآية الكريمة لفت نظر لنا وتأكيد على خطر هذه الشهوات المعددة في الآية لنتنبه لها ونحذر منها أشد من غيرها وهي : النساء، والأبناء، والذهب، والفضة، والخيل الأصيلة، والإبل، والبقر، والغنم، والحرث، والزرع. فاللهم لاتجعل الدنيا أكبر

همنا ولامبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ومآلنا. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 16 ) إن في خلق السماوات والأرض
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال الله - تعالى-: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.. الآيات))(190) سورة آل عمران.
ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنها ذات مرة في أن تتركه يقوم الليل؛ وقد كانت - رضي الله عنها- تحب قربه والجلوس معه، فتركته - صلى الله عليه وسلم - لقيام الليل، فقام من الليل يصلي ويبكي حتى آذنه بلال بأذان الفجر، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حاله، فقال له: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها).
فإعمالاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - نقفُ وإياكم مع هذه الآيات الكريمات وقفات تأمل وتفكر لنأخذ الدروس والعبر والفوائد، فمن فوائد هذه الآيات ومناسبة نزولها في الحديث ما يلي:
أن لله - عز وجل - سجلان مفتوحان للنظر والتأمل والتفكير، وكلا السجلين يحملان آيات بينات، وحجج واضحات على وحدانية الصانع، وانفراد الخالق، أول السجلين هوالكون الفسيح، والسماء الواسعة، والأرض المنبسطة، وما بينهما من المخلوقات، وجميعها شاهد على وحدانية الله - تعالى-:
وفي كلِّ شيءٍ له آية تدل على أنه الواحد

وأما السجل الثاني فهو القرآن الكريم، المتضمن لشرعة المكلفين من البشر، ومنهاج العالمين من العباد حتى يستقيم سيرهم مع سير الكون الخاضع لله، والمسبح له.
((وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم))، وفي كلا السجلين وضوح القدرة الإلهية، وإبداع الله في خلقه، وأمره وعظمته القاهرة، وعلمه المحيط.
أن التأمل في خلق السماوات والأرض، وحركة الزمان، وسير عجلة التاريخ؛ زيادة إيمان ويقين، مما جعل الله - عز وجل - يمدح أهله ((بأنهم أولوا الألباب)).
وإن مما نلاحظه أننا وللأسف الشديد أحاطتنا حضارة اليوم من صنعها ما جعلنا نغفل عن آيات الله الكونية، فأصبحنا معلبين في بيوت صماء، وآلات عجماء، وحركة لا حياة فيها، حتى إن معالم الأرض بدأت تختفي من تحتنا، ومناظر الطبيعة تنسحب من حولنا، فلا نشاهد أشجاراً ولا طيوراً، مما له أكبر الأثر على غفلة القلوب، وتجمد الفكر.
قوله تعالى: ((واختلاف الليل والنهار)) أي تعاقبهما جيئة وذهاباً، وسيرهما السير الحثيث، بحيث يغيران في الإنسان حاله وأحواله، ففي كل واحد منها شأن، حتى يقضي آجل الإنسان في ساعة بل في لحظة من لحظاتها، فكان المتأمل في حركة الزمان من حوله، وغياب الناس عنه، وذهاب الرفقة حيناً فحيناً، وفراق الأحبة تارة بعد تارة، متأمل لحقيقة حياته في ظل ((السماوات والأرض))
3.قوله: ((لأولي الألباب)) هذا ثناء من الله - عز وجل - على الإنسان بأفضل ما فيه من الخلقه ألا وهو العقل؛ لأن العقل وعاء العلم، والعلم دليل إلى الإيمان، فكان العقل وعاء للإيمان أيضاً، ومن كان إيمانه نابع من دون عقل كان في تدينه خلل، وفي منهاجه زلل، فلم يذكر الله معصية ألا وعقب عليها بقوله: ((أفلا يعقلون))، وما أمر سبحانه بخير ومصلحة للعباد إلا وعقب عليها بقوله: ((لعلكم تعقلون)) وذلك في أغلب ما وردت فيه هذه الكلمة من الآيات.

بل لقد عاب أهل النار على أنفسهم عدم العقل (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ))(10- 11) سورة الملك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 17 ) لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وماعند الله خير للأبرار".
حينما يتسلل الإحباط واليأس إلى نفس المؤمن وهو يرى ماعليه الكفار اليوم من التمكين في الأرض ومايملكونه من القوة والهيمنة ، وعندما يرى جيوشهم وعددهم وعتادهم، ويرى صناعاتهم وتقنيتهم فينتابه شعور بالنقص إزاء ماحققه القوم من رقي وتقدم في عالم الحضارة والمدنية ويصبح متأرجح التفكير في حاضر ماثل للعيان يجسد ضعف أمة الإسلام وهوانها بين الأمم ، تأتي هذه الآية الحكيمة كالبلسم الشافي تعيد إلى نفس المؤمن توازنها وتشعره بالعزة وتضع الأمور في نصابها في بيان حقيقة ومصير أولئك القوم ومآلهم الذين سيصيرون إليه فتتحقق له الطمأنينة ويستشعرعزة الإسلام ونعمة الإيمان التي أمتن الله بها عليه يوم أن جعله مؤمناً بالله موحداً له ومنزهاً له عن الشرك.

إنهم مهما بلغوا من الرقي ومن التطور ومهما ملكوا من الدنيا فإنه ... متاع قليل .. هكذا سماه رب العالمين العليم الخبير .. متاع وقليل أيضا .. نعم إنه متاع إذا ماقورن بنعيم الآخرة الذي سيحرمون منه . هبهم حازوا الدنيا بأكملها جوها وبرها وبحرها وبسطوا نفوذهم على أقطارها وتنعموا بملذاتها وتمتعوا بشهواتها دونما منغصات أو كوارث ، هبهم عمروا فيها مئات السنين ! ثم ماذا بعد ذلك ؟ جهنم وبئس المهاد ! أليس إذن ماكانوا فيه إنما هو مجرد متاع قليل سرعان ماتذهب لذته وتزول شهوته .. لقد خسروا بكفرهم كل شيء ولن يغني عنهم ماهم فيه في الدنيا شيئاً يوم القيامة ، يقول تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين) ويقول تعالى :( ولو أن للذين ظلموا مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون). أفبعد هذا يغبطهم عاقل على ماهم فيه من التنعم ورغد العيش وماهم فيه من القوة والسيطرة والتمكين رغم مايشوب ذلك كله من المنغصات والمكدرات ؟! وهذا ليس من قبيل الدعوة إلى الركون إلى الكسل والدعة والتخاذل عن السعي للكسب ولعمارة الأرض ولكن القصد منه رفع معنويات المؤمن وتبصيره بحقيقة الأمور وأنه أعز وأكرم عند الله وإن ناله شيء من الذل والهوان والضعف في الحياة الدنيا.

إن الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وأن النعيم الحقيقي هو نعيم الجنة والفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة والنجاة من النار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. ثم تُختم الآية الكريمة بما تننشرح له نفوس المؤمنين وتسر أفئدتهم له وتزهدهم بمافي أيدي أعدائهم وتزيدهم شوقاُ إلى ماعند الله والدار الآخرة وتحفزهم على العمل من أجل النعيم الحقيقي في الحياة الحقيقية فيقول تعالى : لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وماعند الله خير للأبرار. رضينا ربنا رضينا .. اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة ولاحياة إلا حياة الآخرة . اللهم إجعلنا من أبناء الآخرة ممن لاخوف عليهم ولاهم يحزنون وارزقنا اللهم من العمل ماتبلغنا به جنتك ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ماأحييتنا وأجعله الوارث منا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( 18 ) (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أيّها المسلم، اسمَعِ الله جل جلاله وهو يأمر عبادَه بهذه الأوامرِ وينهاهم عن بعضِ ما نهاهم عنه، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء:36].أيّها المسلم، فأوّل هذه الأوامرِ أساسُ الملةِ والدين عبادةُ الله وإخلاصُ الدين له لكونِ العبادة حقًّا لله، هو المستحقّ لها لانفرادِه بخَلق العبادِ وقيامِه بأرزاقهم، وهو المتصرِّف فيهم، خلقهم ليعبدوه، وأمرهم بذلك، فهو المستحقّ أن يعبَدَ دون سواه؛ لأن غيرَه ليس مؤهَّلاً لذلك ولا أهلاً لذلك، وإنما العبادةُ بكلّ أنواعها حقّ لربنا جل وعلا.
فأمر بعبادته ونهى عن الشركِ به، إذ العبادةُ أصلُ الإسلام وأساسُها، والشرك أصل كلِّ ضلال وأساسُه. [فأمر] بتوحيده وإخلاصِ الدين له، ونهى العبدَ أن يقصدَ بعبادته غيره، و[أمره] أن يتوجَّه بقلبِه لربِّه محبّة وخوفًا ورجاء، وأن يتعلّقَ قلبُه بربِّه، وأن تكونَ كلّ الأعمال لله خالصةً، يبتغِي بها وجهَ الله والدارَ الآخرة، لا رياءَ ولا سمعة ولا محبّةً لمدح الناس، ولكنه يرجو بها ما عندَ الله من الثوابِ يومَ قدومه عليه.
سُئل صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: أرأيتَ عبدَ الله بن جدعان وما كان ينفِق ويبذل في جاهليّته هل ينفعه ذلك؟ قال: ((لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) ، فلمّا كانت الأعمالُ لم يقصَد بها وجهُ الله وإنما أمور دنيوية يريد بها إنسانٌ مكانةً أو جاهًا كانت تلك الأعمال لا اعتبارَ لها ولا ميزان لها، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65].

فالمؤمنون أعمالهم لله، يقصدون بها وجهَ الله، فتنطلقُ الأعمال على هذا المنهاجِ الصحيح، أمّا أعمالُ غير المؤمن فإنها وقتيّة، متى فقِد السببُ منها عطِّلت، أمّا المؤمن فلا، عملُه إن استطاع بذَله، وإن عجز فما في قلبه من نيةِ الخير وإرادةِ الخير يجعل له الثوابَ بتوفيق من الله، ((إذا مرِض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا))]، وفي الحديث الآخر: ((إنّ بالمدينة أقوامًا ما سِرتم مَسيرًا ولا قطَعتم واديًا إلا كانوا معَكم حبسهم العذر)).
أيّها المسلم، فلمّا أمر الله بتوحيدِه ونهى عن الإشراك به أمَر العبادَ بأوامرَ فمنها: قال جل وعلا: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة:83]، فأمر العبادَ بالإحسان إلى الوالدين، والإحسانُ إليهما بِرّهما، النفقةُ عليهما، خِدمتهما، القيامُ بحقِّهما، طيب الكلامِ معهما، التأدّب معهما، أن لا يُرفَعَ الصوت عليهما، أن لا يزجرا ولا يتكلَّم عليهما بكلام سيّئ، وإنما الخطابُ خطاب طيّب يشفُّ عن محبّة ورحمةٍ وأداء واعترافٍ بالواجب، (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23، 24]. طاعةٌ للوالدين امتثالاً لأمرِ الله قبل كلِّ شيء، ثمّ أداءً للجميل وردًّا للمعروف وإحسانًا لمن أحسَن، وما أعظمَ إحسانَ الأبوَين عليك أيّها العبد، فما أحَدٌ بعدَ ربِّك أعظَم إحسانًا لك من والدَيك، فقابِل الإحسانَ بالإحسان، واحذَر أن تقَابلَ الإحسان بالإساءَة والتجاهلِ والإعرَاض والتكبُّر في نفسِك، وتنسَى تلك اللياليَ والأيامَ التي طالما بذلت الأمّ [فيها] جهدَها، وطالما سهرت لراحتك، وطالما أنفق الأب وسعى وكدَح لأجلِك، فاعرِف تلك الأمور لتكون من أهلِ الكرامة والمروءة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 19 ) وبذي القربى واليتامى والمساكين الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لما أمَر بالإحسان إلى الوالدين قال: (وَبِذِي الْقُرْبَى) [النساء:26]، فأمر العبادَ أيضًا بأن يحسِنوا لأقربائهم، بأن يصِلوا أرحامَهم صِلةً تقتضِي محبّةً وبَذلاً للندى وكفًّا للأذى واتِّصالاً ينفي القطيعةَ وحرصًا على جمع الكلمة، والله يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) [النساء:1]، ويحذِّر من القطيعةِ فيقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22، 23]، والرحِمُ معلّقة بالعرش تقول: يا ربِّ، أنت الرحمن وأنا الرحم، فيقول الله: ألا ترضَين أن أصِلَ من وصَلك وأقطعَ من قطعك؟ فتقول: نعم، فيقول: ذلك لك.

والرحِمُ يوصَل فقيرُه بالإحسانِ إليهم، ويخَصّ فقراؤهم بالزكاةِ والصدقات، وصدقتُك على المسكين صدقة، وعلى رحمك اثنتان: صدقةٌ وصلة. تنصَح جاهلهم، وتهدي ضالهم، وتحسِن إليهم، فقيرٌ تحسن إليه، وجاهل تعلِّمه، وضالّ وغاوٍ تسعَى في هدايته، فأنت باذِلٌ الخيرَ معهم. إن بلغَك عن أحدٍ منم حاجةٌ وصلتَه، وإن بلغك عن مرضٍ عدتَه، وإن بلغَك عن تصرّفاتٍ خاطِئة اتَّصلت به نصيحةً له وإنقاذًا له من الغوايةِ وأخذًا بيده لما فيهِ صلاحُ دينه ودنياه. فتلكَ الصِّلة المحمودةُ، لا تقتصِر على مالٍ تبذله ولا مجرّد زيارة ولقاء، ولكن مع هذا كلِّه صِلة تفرِض عليك تعليمَ جاهلٍ وهدايةَ ضالّ وتقويمَ معوَّج وسلوكَ الطريق والتحذيرَ من مسالك الشر والفساد وأهله، لأنّ لرحمِك عليك حقًّا أن لا تدعَ جاهلهم ولا من غوى منهم أن يلجَّ في طغيانه ويستمرَّ في غوايته ويكون على بُعدٍ، بل يجب أن تأخذَ بيده؛ لأنَّ حقَّه عليك عظيم، فإنّ ما يصيبه إنما هو ضررٌ عليه، وهذا الضرر قد يتعدّى إلى الغير، فحاوِل هذا الرحم أن لا تدعَه لشياطين الجنّ والإنس يحرفون فكرَه ويغيِّرون اتَّجاهه ويسلكون به الطرقَ الملتوية التي لا تعود عليه بالخير في حاضره ومستقبله.

ثم أرشدهم أيضًا لأمر آخر فقال: (وَالْيَتَامَى) [الحشر:7]، واليتامى أمرَ بالإحسان إليهم، واليتيمُ فاقدُ الأبِ مسؤوليتُه على المسلم، إن يكن قريبٌ فذاك هو المطلوب، وإلاَّ فمسؤوليّة على الأمّة جمعاء. هذا اليتيم فاقدُ الأب ضعيفُ القدرة قليل الحيلة، إنك تحسن إليه، فأوّلاً تمسَح دمعتَه، وتضمِّد جراحَه، وتصله وإن يكن فقيرًا، وتحسِن في ماله إن يكن غنيًّا، وترشده إلى الطريق، وتأخذ بيدِه لما فيه الخيرُ، وتحبّ له مثلَ ما تحبّ لأولادك، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) [النساء:9]، ولتوفِّر ماله، ولتحذَر التعديَ عليه، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]. وإهانةُ اليتيم لا تصدُر إلاَّ مِن قلبٍ قاسٍ مكذِّب ليوم الدين، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الآية [الماعون:1-3]. واليتيم والسعيُ في مصلحته وخيره خير عظيم، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم : ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين)) وحلّق بين إصبعيه: السبّابة والوسطى.

أيها الإخوة، ثم إنَّ الله جلّ وعلا أمرَ بأمر آخر، أمر بالإحسانِ إلى المساكينِ، وهم المستحقّون وأهلُ الفاقة والحاجة، أمر بالإحسانِ إليهم، فإنهم إخوانُك، قصُرت الأمور في أيديهم، فهم إخوانُك في الإيمان، فأنت مسؤول إن كنت قادرًا أن تحسنَ إلى أولئك المساكين إحسانًا تبتغي به وجهَ الله، لا تريد منّةً عليهم، ولا تريد تفضُّلاً عليهم، ولا تريد ترفُّعًا عليهم، ولا تريد إذلالَهم لك، ولا تريد أن يمدحُوك أو يُثنُوا عليك، ولا تريد أن تكثِّر السوادَ بهم، ولكن تحسِن إليهم ابتغاءَ مرضاتِ الله، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) [الإنسان:8، 9].
الساعي على الأراملِ والأيتامِ كالقائمِ الذي لا يفتُر وكالصائم الذي لا يفطِر، فالإحسانُ لعباد الله عملٌ ينجِّي الله به صاحبِه من المكاره، ويروَى: ((وعالجوا مرضاكم بالصَّدقة)) ، فهي تدفع البلاء، وتحقِّق الخير، وتسعد الأمة إذا انتبَه أغنياؤها لفقرائها وفتَّشوا عن المحتاجين والمستحقِّين وأرباب الحاجَة الذين لا يَسألون الناس إلحافًا يحسَبهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّف التعفف. والإحسانُ إليهم نجاةٌ من أهوال يوم القيامة، (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:11-16].
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 20 ) (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) [النساء:36]، أمر بالإحسانِ إلى الجار، سواء الجار القريب منك، أو الجار البعيد منك، أو الجارُ الذي لك به قرابة، والجارُ القريب من ليس له قرابة، كلُّ الجيران لهم حقٌّ عليك حتى ولو كان على غير دينك. فالجوار في الإسلام محترم، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) وفيه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)) ، وما زالَ جبريلُ يوصِي النبيَّ بالجار حتى ظنَّ أنه سيورِّثه ولا إيمانَ لمن لم يأمَن جارُه بوائقَه: غدراتِه وخيانته. والجارُ تحسن إليه لفقره، وتحسن إليه بتعليمه ونصيحته وتوجيهه، إن كان عندَه جهلٌ أو انحراف فكريّ أو غيره أو سلوكيّ فإنك تحسِن إليه نصيحةً تهديها إليه، تكفُّ الأذى عنه، تحسِن إليه، إن استنصرك بالحقّ نصرتَه، وإن استعان بك في معروفٍ أعنته، وإن استقرضَك أقرضته، وإن غاب حفِظته في أهله، فأنت ترعاه كما ترعى أهلَ بيتك، سواء كان قريبًا فله حقُّ الجوار والقرابة، أو جار غير قريبٍ فله حقُّ الإسلام والجوار، أو جار ولو غير مسلم له حقُّ الجوار، هكذا دلَّ الكتاب والسنة.
(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)، صاحبُك في السفر أو الزوجةُ، كلُّ من صحبك بخير فله عليكَ حقُّ الإحسان.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) الذي انقطَع به الأمرُ عن بلده، فيحسَن إليه، ولذا جعَل الله ابنَ السبيل أحدَ أصناف المستحقِّين للزكاة.
(وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، أمر الله بالإحسانِ لملك اليمين، أن تطعمَهم إذا طعمتَ، وتكسوَهم إذا اكتسيت، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، وفي ضِمن ذلك الأجراءُ وأرباب العمل لهم عليك حقٌّ أن تحسنَ إليهم، وتوفي العقود التي معهم، وتؤدّي لهم الحقَّ الواجب، ولا تبخَسهم حقَّهم، ولا تماطِل في حقوقهم، فالواجب أداءُ الحقوق، ((أدّوا الأجيَر أجرَه قبل أن يجفَّ عرقه))

(وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، لا يحبّ كلَّ مختال فخورٍ بعمَله مراءٍ به، المؤمنُ يفعل الأعمالَ لله، لا يفخر بها، ولا يعدِّدها، ولكن يعلم أنَّ اللهَ مضطّلع عليها، فهو يخفيها لله، (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [البقرة:271].
هكذا المؤمنُ الموحِّد لله، وهذه أعمالُه العظيمة وأخلاقه الكريمة، نسأل الله أن يرزقَنا وإياكم العملَ الصالح الخالص لله، إنّه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 21 ) ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إخواني، يقول الله في كتابه العزيز مخبِرًا عبادَه المؤمنين بحال أعدائهم معهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة:82].

أخبرنا تعالى عن عداوةِ اليهود، وأنها عداوةٌ كامنة في نفوسهم إلى كلِّ المؤمنين قديمًا وحديثًا، فهم بَعد انحرافهم وقتلهم أنبياءَ الله وسعيهم في الأرض فسادًا واستمرارِهم على هذا الطغيانِ وتمادِيهم في هذا الظلم والعدوان يدلّ ذلك على أنَّ آيات القرآن آياتُ حقّ تكلَّم بها ربّ العالمين العالمُ بما كان ويكون. فهذه الفرقة الضالةُ هم أشدُّ الناس عداوةً لأهل الإيمان، وأعظمُهم حقدًا وكراهية للمؤمنين مِن كلّ طوائف الضلال، (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة:82].إنَّ جرائمَهم وأفعالهم الشنيعةَ التي تحمِلها طياتُ الأخبار، وتنشُر أقوالهم وأفعالهم، وتنشُر صوَرًا حيَّة عن جرائمهم الشنيعة وأفعالهم الدنيئة، في زمنٍ غاب [فيه] ما يسمَّى بحقوقِ الإنسان، واندرس ما يسمَّى بالمواثيق الدولية في الحرب والمسلم، وأصبحت تلك المواثيقُ درجَ الرياح، لا اعتبارَ لها ولا ميزان، هذه الفرقةُ تتصرَّف من حيث قوّتُها ومن حيثُ تعامُلُ الأعداءِ من شرق الأرض وغربها معها ومن حيثُ تمكينها وتأييدُها وإمدادها بكل ممكن، حتى جرت تلك الجرائمُ النكراء وذلك الظلم والعدوان في أمّة عُزّل لا سلاحَ ولا مال معهم، إنما الظلم الذي أحاط بهم من كلِّ جانب ولله الأمر من قبل ومن بعد، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19]. إنه ظلم بلغ أشدَّه، وعدوانٌ ما عرِف مثله، وتكاتُف الأعداء ضدّ أمة الإسلام، ولكن على الجميع الصبرُ والاحتساب والالتجاء إلى الله، فعسى فرجٌ من الله يأتي به، والله على كلّ شيء قدير، إنما المهمّ الاستقامة والالتجاء إلى الله والثقة بالله أعظم من ثقةِ العبد بنفسه واجتماعُ الكلمة ووَحدة الصفّ وتآلف القلوب والصبر والاحتساب، والله جل وعلا يقول: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5، 6].

هذا الظلم والعدوانُ الذي يجري وما أحدٌ ينكِر وما أحدٌ يقول، لكنها في الحقيقةِ مصيبة، وبذنوب المسلمين حصَل ما حصل، نسأل الله لهم التأييدَ والنصر، وأن يمدَّهم بعونه وتوفيقه، وأن يكبِت عدوَّهم، وأن يرزقَهم الثبات والرجوع إلى الحق والاعتصام بحبل الله، فذاك ـ والله ـ أعظم سببٍ للنصر والتأييد من ربِّ العالمين، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]، فإن التجأ العباد إلى الله وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الله ووثقوا بالله وبذلوا الأسبابَ مع كمال الثقة بالله والالتجاء إليه فإنَّ الله جلّ وعلا بيده موازين القوى، (إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 22 ) الفرح في القرآن
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

ذُكر الفرح في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً، هذا الفرح المذكور في القرآن تسمان: مطلق ومقيد.

مطلق لم يقيد بسبب للفرح، ومقيد ينقسم إلى قسمين: مقيد بالدنيا وهو مذموم كالقسم الذي قبله، فالفرح المطلق الذي لم يذكر له سبب مذموم، والمقيد بأمور الدنيا مذموم، والقسم الثاني من أقسام المقيد: هو الفرح بفضل الله ورحمته وينقسم أيضاً قسمين: فرح بالمسبب وفرح بالسبب، فتكون أقسام الفرح بعد هذه التفريعات والتقسيمات أربعة: مطلق ثم مقيد بالدنيا ثم مقيد بفضل الله ورحمته ينقسم إلى فرح بالمسبب وفرح بالسبب.

أما القسم الأول: وهو الفرح المطلق: فقد ذكر في خمسة مواضع من مواضع ذكر الفرح بالقرآن.

والمقيد بفضل الله ورحمته: ذكر في أربعة مواضع موضع واحد للفرح بالمسبب وثلاثة للفرح بالسبب.
وسأتكلم عن موضع واحد من مواضع كل قسم بإيجاز: فأختار من مواضع القسم الأول وهو القسم المطلق. أختار من الآيات التي وردت فيه الآيتين التاسعة والعاشرة من سورة هود حيث قال ربنا تبارك وتعالى: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور) فهذا فرح مطلق ولهذا فهو مذموم. يخبر الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين عن طبيعة الإنسان أنه جاهل ظالم لأنه إذا أذاقه سبحانه منه رحمه كالصحة والرزق والأولاد ونحو ذلك ثم نزعها منه فإنه يستسلم لليأس وينقاد للقنوط فلا يرجوا ثواب الله تعالى ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها أو خيراً منها عليه. وإذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته أنه يفرح ويبطر ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، فيفرح بما أوتي مما يوافق هواه، ويفخر بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق واحتقارهم وازدرائهم وأي شيء! وأي عيب أشد من هذا. وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضدّه، ولهذا أعقب الله تعالى هاتين الآيتين بقوله تعالى: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) صبروا إذا آتاهم الله نعمة ثم نزعها منهم، صبروا وعملوا الصالحات (أولئك لهم مغفرة أجر كبير).
وأما القسم الثاني: فأختار من مواضعه تلك الآيات الأربع من سورة الأنعام من الآية الثانية والأربعين إلى نهاية الآية الخامسة والأربعين في قسم الفرح المقيد بالدنيا قال الله تعالى في هذه القسم المذموم:

(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).
يقول الله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلكم): من الأمم السالفين المتقدمين. فكذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا (فأخذناهم بالبأساء والضراء): أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب. رحمة منا بهم (لعلهم يتضرعون): إلينا ويلجئون عند الشدة إلينا. (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم): لم يتضرعوا عند البأس والشدة. (ولكن قست قلوبهم): أي استحجرت فلن تلين للحق (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون): ظنوا أن ما هم عليه دين الحق فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان ولعب بعقولهم الشيطان.
(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء): أي من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) من الدنيا. (أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) أي آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب أن يؤخذوا على غرة وغفلة وطمأنينة ليكون أشد لعقوبتهم وأعظم لمصيبتهم. (فقطع دابر القوم الذين ظلموا): أي اصطدموا بالعذاب وتقطعت بهم الأسباب، فاستأصلت شوكتهم ولم تغن عنهم شيئاً قوتهم. (والحمد لله رب العالمين) على ما قضاه وقدره من هلاك المفسدين، ولأنه بذلك تتبين آياته وتكريمه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون.

وأما القسم الثالث: وهو المقيد بفضل الله ورحمته، فأختار من فرعه الأول (المقيد بالمسبب) الفرح المقيد بالمسبب الموضع الوحيد الذي جاء في سورة آل عمران في الآيتين التاسعة والستين والسبعين بعد المائة حيث يقول ربنا عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
أي لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل إعلاء الدين قاصدين إعلاء كلمة الله تعالى. لا يخطرن ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها الذي يحذر من فواته من جَبُن عن القتال وزهد في الشهادة لا يخرطن ببالك ذلك فإنه قد حصل لهم أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون، فهم أحياء عند ربهم في دار كرامته، وقوله: (عند ربهم) يقتضي علو درجتهم وقربهم من ربهم سبحانه: (يرزقون) من أنواع النعيم الذي لا يعرفه إلا من أنعم به عليهم. وهم مع ذلك صاروا فرحين. أي مغتبطين بما أتاهم الله من فضله، قرت به عيونهم وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته وعظمته وكمال اللذة في الوصول إليه وعدم المنغص.
فجمع الله تبارك وتعالى لهم بين نعيم البدن بالرزق ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله، فتم لهم النعيم والسرور وجعلوا (يستبشرون) أي يبشر بعضهم بعضاً بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم وأنهم سينالون ما نالوا، (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور.

وأما الموضع الأخير: وهو المقيد بفضل الله ورحمته في قسمه المقيد بالفرح بالسبب، فأختار من ثلاثة مواضعه الموضع الذي جاء في سورة يونس في الآية الثامنة والخمسين في قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). أمر الله تبارك وتعالى بالفرح بفضله أي بالإسلام على قول من أقوال المفسرين، (وبرحمته): أي بالقرآن على قول من أقوال المفسرين.
افرحوا أيها الناس بفضل الله، أي الإسلام ورحمته أي القرآن، فإنهما أعظم نعمة ومنة تفضل الله بها عليكم، ليست نعمةً دنيوية تنسي فضل الله ومنته بل هي نعمة عظيمة إسلامية قرآنية دينية تقرب إلى الله تبارك وتعالى وتشعر بالفرح والسرور بهذه المنة الربانية الكريمة. ذلك خير من كل ما يجمعه الناس من زينة الدنيا وزهرتها ومتاعها المضمحل عن قريب. (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
أيها الأخوة الكرام نسأل الله تعالى ألا يجعل قلوبنا تهش أو تبش أو تفرح إلا بما يرضي الله تعالى، آمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً


( 23 ) إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. الاية -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) الأحزاب:72، 73.إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة , التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة , وتهتدي اليه بخلقتها وتكوينها ونظامها ; وتطيع الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق إرادته جل وعلا دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ; وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ; وتجذب توابعها بلا إرادة منها ; فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .
وهذه الأرض تدور دورتها , وتخرج زرعها , وتقوت أبناءها , وتواري موتاها , وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها .
وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب , وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . . تمضي لشأنها , بإذن ربها , وتعرف بارئها , وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .
وحملها من أنه الإنسان.....
الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا النظام بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه , ومقاومة انحرافاته ونزغاته , ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق ! في ضلال القران
نعم عباد الله

إن حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبيرا وأمرا خطيرا عُرض على الكون سمائه وأرضه وجباله، فوجلت من حمله، وأبت من القيام به، خوفاً من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه السلام، فحملها واستقلّ بها، ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) أي: الإنسان المفرّط المضيّع للأمانة هو الظلوم الجهول، ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانة الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوها أثابهم، وإن ضيّعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله تعالى) تفسير القرطبي (14/255)، ، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زُينت بالنجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الجبال فأبت" أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم , القليل القوة , الضعيف الحول , المحدود العمر ; الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .

الأمانة ـ يا عباد الله ـ هي التكاليف الشرعية، هي حقوق الله وحقوق العباد، فمن أداها فله الثواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، كما قال تعالى في آخر الآية: ((لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً))، فقد روى أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدّ من ذلك الودائع) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)،، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254)..
فمن اتَّصف بكمال الأمانة فقد استكمل الدين، ومن فقد صفة الأمانة فقد نبذ الدين كلَّه، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).، وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) ، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسلين والمقربين، قال تعالى عن نوح وهود وصالح عليهم السلام: ((إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) الشعراء:107، 108

( 24) إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..الاية-2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :إنه كلما انتُقصت الأمانة نقصت شعب الإيمان لما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ـ أي: في وسطها ـ، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء))، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، ((فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، وحتى يقال للرجل: ما أظرفه، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) أخرجه مسلم في الإيمان (143)
والظاهر أن الرجل إذا تعمّد تضييع الأمانة بالتساهل في الفرائض وواجبات الدين وبالخيانة في حقوق العباد يعاقب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزّه الله تعالى أن يقبض الأمانة من قلب أحد من غير سبب من العبد، ومن غير استخفاف منه بواجبات الدين وحقوق العباد، كما قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) الصف:5. وآخر الحديث يدل على أن الأمانة هي الإيمان، وهي الدين وواجباته، فالتوحيد أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمر بالمعروف أمانة، والنهي عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليد أمانة، والفرج أمانة، والبطن أمانة فلا تأكل ما لا يحل لك، والأولاد عندك أمانة فلا تضيّع تربيتهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة فلا تضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانة، وحقوق العباد المادية والمعنوية أمانة فلا تُنتقَص.

وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيام بحقوقها أعظمَ الثواب فقال تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) المؤمنون:8-11، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنة))، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان)) رواه الطبراني وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).قال المنذري: "بإسناد لا بأس به
والتفريط في الأمانات والتضييع لواجبات الدين يورث الخلل والفساد في أحوال الناس، ويجعل الحياة مرّة المذاق، ويقطّع أواصر المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذن بخراب الكون، قال صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) السلسلة الصحيحة (1739)أسأل الله جل وعلا أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 25 ) إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..الاية-3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

إتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الأمانات والواجبات، واحذروا المحرمات، قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَاداتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ)) المعارج:32-35.قال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) النساء:58، وهذه الآية المباركة عمّت جميع الأمانات.
ومن أعظم الأمانات الوظائف والأعمال والمناصب وحقوقها، فمن أدى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدت لأجلها فقد نصح نفسه، وعمل خيراً لآخرته، ومن قصّر في واجبات وحقوق الوظائف والمناصب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافع العباد أو أخذ بها رشوة أو اختلس بها مالاً للمسلمين فقد غشّ نفسه وقدّم لها زادا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) أخرجه مسلم في الجهاد (1735.
ومن أعظم الأمانات الودائع والحقوق التي أمنك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 26 ) ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ))..الاية -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) الزمر:53
ما أعظمَها من آية، وما أرجاها من رحمة، أين أين الصادقون الراغبون في رحمة الله؟! ألا هلمّوا وتعالَوا وأقبلوا، ها هنا بغيتكم وحاجتكم، يا لغبن من يئس من غفران ذنوبه، وقنطَ من إصلاح علاقته مع الله بعد هذه الآية، يا له من محروم، أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟! اسمع ما ذكره الشيخان وغيرهما في سبب نزولها: عن ابن عباس رضي الله عنه أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)) الفرقان:68 ونزل: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) الزمر:53.
ولفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية رحمةً بأمّته كما وصفه الله: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) التوبة:128 روِي أنه قال: ((ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية))، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((ألا ومن أشرك)) ثلاث مرات. أخرجه أحمد.

وفي المسند عن عَمرو بن عَبسة رضي الله عنهقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يَدَّعم ـ يستند ـ على عصًا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غَدَرات وفجَراتٍ فهل يُغفر لي؟ قال: ((8ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟!)) قال: بلى، وأشهد أنّك رسول الله، قال: ((قد غُفر لك غَدَرَاتُك وفجراتُك)). والفجور: إتيان المعاصي مع عدم المبالاة بفعلها.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية وقد أورد هذه الأحاديث: "فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع الذنوب مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب الرحمة والتوبة واسع، كما قال تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) التوبة:104، وقال عز وجل: ((وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)) [النساء:110]، وفتح الباب للمنافقين فقال: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا)) النساء:145، 146 وقال عن أهل التثليث: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) المائدة:73 ثم فتح لهم باب التوبة فقال: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:74]، وفتح الباب لقتلة أوليائه فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)) البروج:10، فقيد العذاب بعدم التوبة، يقول الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرمِ والجودِ، قتلوا أولياءَه وهو

يدعوهم إلى التوبة والمغفرة".
ولنتأمل في ألفاظ هذه الآية، لقد بدأها بنداء: (يَا عِبَادِي)، ما ألطفه من نداء، (يَا عِبَادِي) أي: يا أيّها المنتسبون إليّ، فنسبهم إلى نفسه نسبَة تشريف وتكريم وأعطاهم الأمان.
ومما زادني تيهًا وشرفًا ... وكدت بأخمصي أطأ الثُريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي ... وأن أرسلت أحمدَ لي رسولاً
لا إله إلا الله، أتدري من ينادي الكبيرُ المتعالُ الغنيُ الحميدُ؟ إنه يناديني أنا وأنت، بل ينادي من بالغ منا في المعصية (الَّذِينَ أَسْرَفُوا)، ينادينا بهذا النداء اللطيف الرحيم وهو غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا، كما قال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا))، أيعقل؟! الغني ينادي الفقير، والقوي ينادي الضعيف، وغير المحتاج ينادي المحتاج، ألسنا نحن المعنيين بقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) فاطر:15؟! ما أكرمك وما أحلمك يا الله.
يا عباد الله، إن هذا النداء ـ بجانبِ الرحمة ـ يُبرزُ لنا جانبًا عظيمًا من جوانب هذا الدّين، وهي العلاقة المباشرة بين العبد وربّه، فلا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء بين العبد وربّه، فلا تحتاجُ لتصلحَ علاقتك مع الله إلى وساطات، أو تقديمِ اعترافات أمام عالم أو إمام، وبابه ليس عليه بوّابين ولا حراس لتستأذنهم للدخول، كلا.

تعال إذًا ـ يا عبد الله ـ ولج، فبابُه مفتوح على مصرعيه، هيا ادخل على رب كريم غير غضان، إياك إياك أن تقع في شراكِ عدوك إبليسَ اللعين، احذر أن يقنطَك من رحمة الله، فمولاك يقول لك: ((لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ))، لا تيأس فاليأس كفر، ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)) يوسف:87، وكيف تعالج الذنب الصغير بذنب أكبر؟! إن ربك لا يبالي بعظمِ ذنبك ما دام أنك رجعت إليه تائبًا ومنيبًا، أما سمعت ما قال على لسان رسوله في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بِقُراب الأرض ـ بما يقارب مِلأها ـ خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).

( 27 ) ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ))الاية-2

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أيه المسلمون :ودّ عدونا لو يظفر بتيئيسنا من رحمة الله، كما يقول الحسن البصري رحمه الله لمّا قيل له: ألا يستحي أحدنا من ربه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: "ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تَمَلّوا من الاستغفار"، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (من آيس ـ عبادَ الله ـ من التوبةِ بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل).
ثم لاحظ ـ يا عبد الله ـ المؤكداتِ التي جاءت بعد النهي عن القنوط من رحمة الله فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا))، وهذا يَعُمُّ جميعَ الذنوب، ومع ذلك لم يكتف بذلك الإطلاق بل أكده بقوله: (جَمِيعًا)، ثم ختم الآية بإظهار صفتين من صفات الله ذي اللّطف والرحمة، فقال: ((إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).

سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.
أخي في الله، صحيح أن البابَ مفتوحٌ، لكنه لن يظلَ مفتوحًا إلى الأبد، فقد يُغلق في أيّ ساعة، وقد يَحولُ الموتُ بينك وبين دخوله إن لم تنتهز هذه الفرصة، لو حصل ذلك ـ لا قدّر الله ـ ستندم حين لا ينفعُ الندم، وتغتم حسرةً، وعندها ستكون أحدَ ثلاثةٍ لا قدّر الله، اسمع ما يقول مولاك: ((أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ))الزمر:54، 55.
عندها ستعتذر بأعذار واهية وهي ثلاثة، اسمع العذر الأول: ((نْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ))الزمر:56، والعذرُ الثاني: ((وْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ))الزمر:57، أما الثالثُ: ((وْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ))الزمر:58.
يقول ابن عباس ضي الله عنه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه)، ((لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ))فاطر:14 وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُ أهلِ النار يرى مقعده من الجنة، فيقولَ: لو أن الله هداني، فتكونَ عليه حسرة))، قال: ((وكلُ أهلِ الجنة يرى مقعدَه من النار، فيقولَ: لولا أن الله هداني، قال: فيكونُ له شكر)).

أيها الإخوة، أتدرون ماذا يكونُ الجوابُ عن تلك المبررات والأعذار؟ إنه التكذيب والإدانة التي لا يملك معها الإنسان الإنكارَ؛ لأن شهودَ الإدانة هم أقرب الأشياء إلينا، نعم إنها أعضاؤنا وجوارحنا، وأنى لأحدٍ الإنكار والفاعلُ يُقرُّ بفعلته؟! إنه الخزيُ والعارُ والفضيحةُ.
اسمع الرد على الأعذار الواهية والأمنيات الفارغة: ((لَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ))الزمر:59أي: من الجاحدين بلسان حالك أو مقالك.
يا عبد الله، إذا كنتَ لا تريدُ أن تقفَ موقفَ الخزيِ والعارِ ـ وما إخالك إلا كذلك ـ فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والأوبة واتباعِ أحسن ما أُنزل إلينا قبل فوات الأوان بالموت أو الران، وفي الحديث: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجدَّ بالكفار مُلحِق، اللهم قاتل الكفرة والمجرمين الذين يحاربون دينك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

( 28 ) ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاالاية

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :من أعظمُ الوصايا في القرآنِ العظيم ثلاثُ آياتٍ من سورة الأنعام، قال الله تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) الأنعام:151-153
قال ابن مسعود رضي الله عنه من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتم النبوة فليقرأ هذه الآيات: " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.." إلى قوله تعالى: " لعلكم تتقون " .
وعن عبادة بن الصامت قال: " قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيكم يبايعني على ثلاث؟ ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...) حتى فرغ من الآيات، ثم قال: فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .

فالآيةُ الأولى تقرِّر توحيدَ الله تعالى الأصلَ العظيم الذي يرجِع إليه كلُّ أمرٍ ونهي، وينبني عليه كلّ تشريع وتوجيه، وبدون توحيدِ الله تعالى لا ينفَع عمل. وتقرِّر وتؤكِّد تحريمَ أنواعِ الشرك بالله عزّ وجل الذنبِ الذي لا يغفره الله عزّ وجلّ لمن مات عليه. وتوصي الآيةُ بالإحسان بالوالدين قاعدَتي الأسرةِ ومحضَنِ الأجيال ونواة المجتمع. وتحرِّم الآية العدوانَ على الطفولة، وترعى حقَّها، والأطفالُ قوَّة الأمة. وتنهى الآيةُ عن الفواحِش الظاهرةِ والباطنة ليعمَّ الطهرُ والعفاف وتصانَ الفضيلة وتدفَن الرذيلة وتُحفَظ الحرمَات والحقوق. وتقرِّر الآيةُ حرمةَ قتل النفسِ المعصومة الدمّ ليبتعدَ المسلم من دمار الحروبِ والثارات وسفك الدماء.

((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) أي: هلُمّوا وأقبلوا أقصّ عليكم وأخبركم بما حرَّم ربّكم عليكم حقَّا، لا تخرُّصًا وظنًّا ولا وَهمًا، بل أخبركم وحيًا من الله وأمرًا من عنده، ((أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)): لا تدعُوا مع ربِّكم أحدًا في السماء ولا في الأرض، قال الله تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) الجن:18. ((أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) في دعاءِ العبادة ولا في دعاءِ المسألة، ولا تشركُوا به شيئًا في الذبح والنذر، ولا تشركوا بربِّكم شيئًا في الاستعاذة والاستعانةِ والاستغاثة، ولا تشركوا به شيئًا في التوكُّل والرغبة والرهبةِ والطواف بغير بيته، ولا تشرِكوا به شيئًا في الخشية والخوفِ والرجاء والسجود والركوع والمحبَّة والتعظيم، بل اعبُدوا ربَّكم وحدَه بأنواع العبادةِ كلِّها. والنهيُ عن كلِّ أنواع الشّرك في هذه الآية يتضمَّن الأمرَ بجميع أنواع العبادة كما هو منصوصٌ عليه في آياتٍ كثيرة أخرى، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات لا يشركُ بالله شيئًا دخل الجنةَ))رواه مسلم
وقوله تعالى: ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) أي: وحرَّم عليكم العقوقَ، وأوصاكم بأن تحسِنوا إلى الوالدين إحسانًا. والإحسانُ للوالدين طاعتُهما في غير معصيةِ الله وإكرامُهما وإدخالُ السرورِ عليهما ورحمتهما ولينُ الجانب لهما وعدمُ التضجُّر من صُحبتهما ومداومة التحمُّل لهما والقيامُ بما يُصلحهما وحُسن مخاطبتهما والدعاءُ لهما في حياتهما وبعد مماتهما وإهداءُ الأعمال الصالحةِ المشروعة لهما بعد موتِهما وصلةُ قرابتهما وصلة صديقهما بعد موتهما.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 29 ) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى
((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)) وقد كان بعضُ المشركين من العَرَب يقتلون البناتِ خوفَ العار، وبعضهم يقتُل الولدَ خوفَ الإملاقِ وهو الفقر، فنهى اللهُ عن هذه العادةِ الشنيعة، وأخبر أنه تعالى متكفِّل برزقِ الأولاد والآباء.
ومما يدخُل في عمومِ الآية إسقاطُ الجنين خوفًا من النفَقة، وممّا يُنهَى عنه استعمالُ حبوب منع الحمل لأجل ضِيق المعيشة، لكن لو كان هناك ضرورةٌ شرعيّة جاز استعمالُ منعِ حبوب الحمل بمقدارِ هذه الضرورة، كما لو كانت المرأةُ لا تُطيق الحملَ والرضاع لسببٍ ما، أو كان تتابُع الحملِ بلا مدَّةٍ زمنيّة كافية يضرُّها أو يضرّ الولد.
((وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))، والفواحشُ ما عظُم قبحُه وخُبثت حقيقتُه في العقلِ والفِطرة واتّفقتِ الشرائعُ على تحريمه، وقد نصّ الله تعالى على فُحشِ معاصٍ بعينها، قال الله تعالى: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)) الإسراء:32، وقال تعالى: ((وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ)) العنكبوت:28،
وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((ملعونٌ من عَمِل عملَ قومِ لوط، ملعون من عمِل عَمل قوم لوط، مَعلونٌ مَن عمل عمل قومِ لوط)) في صحيح الترغيب (2420).

والفواحشُ أعمُّ من ذلك، فهي المعاصي كلُّها، والنهيُ عن قربانها أبلغُ من النهيِ عن فِعلها، فالنهي عن قُرب المعصية نهيٌ عن أسبابها ومقدِّماتها والوسائل التي تُفضي إليها، ونهيٌ عن تلذُّد الخيال بتصوُّرها والاسترسال في الوَسواس بها؛ لأنَّ النفسَ البشرية قد تضعُف عن مقاومة الإغراء بعد التمكُّن من مقدِّماتِ وأسباب المعصية، ولذلك حرَّم الشرعُ الخلوةَ بالأجنبية والمردان ومحادثةِ النساء.
وقوله تعالى: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) أي: حرَّم الله ما أُعلِن وما أسِرَّ من المعاصي، ما هو من أعمال الجوارح المشاهدَة وما هو من أعمال القلوبِ المخبَّأة المستُورةِ كالكِبر والحسَد والغلّ والخيانة والمَكر والخديعة والنِّفاق وبُغض ما أحبَّ الله وحُبِّ ما يكره الله تعالى.
((وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ))، والنفسُ التي حرَّم الله قتلَها هي نفسُ المسلِم، ونفسُ المعاهَد الكافر الذي له أمانٌ من الإمام، والكافر غيرُ المحارب وإن لم يكن له أمان فيحرُم قتلُه، وفي الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفسُ بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وفي الحديث: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة)) أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفي الحديث أيضًا: ((لا يزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا فإذا أصابه بَلَح)) أي: أعيَى وانقطع وضاقَ عليه الأمر جدًّا.
((ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)): عهِد إليكم بما تُلِي عليكم وأمَركم به لتحفظُوه وتعملُوا به.

((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) أي: تعقِلون النافعَ من الضارّ، فتعمَلون بما ينفع، وتتركون ما يضرّ. والحِكمة في قوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) أنَّ مضارّ هذه المحرَّمات ومفاسدَها يُعلَم بالعَقل لمن تدبَّر ذلك، والشرع بيَّن تفصيلَ مفاسِد ومضارّ هذه المحرّمات، فمن منعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو العاقلُ حقًّا، ومن لم يمنعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو السفيهُ الذي لا عقلَ له، فأيُّ قبحٍ وجُرم أعظمُ من الشّرك بالله تعالى ثمّ عقوق الوالدين وعمل الفواحش وقتلِ النفس التي حرَّم الله؟!
والآية الثانية تقرِّر التراحمَ والتعاونَ والتكافُل الاجتماعيّ بين المسلمين والحُنوَّ والرِّعاية للضعفاء والقاصرين، وتحرِّم بخسَ الحقوقِ وانتقاصها، وتقرِّر الوفاءَ في المعاملات والعدلَ في المبادلات والمعاوَضات بلا طُغيانٍ بالزيادة ولا بخسٍ بالنَّقص، وتحرِّم الجَورَ والظلم في الحكم والشهادة والقول ولو كان على الحبيب والبغيض، وتأمُر بالعدل والقسط. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 30 ) ((وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ))..الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
ايها المسلمون!لا زلنا واياكم في ضلال وصايا القران((وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)) أي: لا تقربوا مالَ اليتيم إلاَّ بالصِّفة التي هي خيرٌ له، فلا تقرَبوا ماله إلاَّ بالحِفظ لمالِه وتثميرِه والعمل على نمائه، فلا تأكلوه، ولا تتركوه يتعرَّض للضياع والنقصان. ووجوبُ تربيةِ اليتيم وإرشاده ورعايته من باب أولى، ليصبحَ لبِنةً صالحة في بناءِ المجتمع، ومعنى ((حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)) أي: حتى يبلغَ الحلم مع الرّشد وحسنِ التصرُّف، فيُدفَع إليه ماله حينئذٍ.
((وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)) أي: وحرَّم بخسَ الحقوق وعدمَ الوفاء بالمعاملات. ((وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)) أي: بالعدل والحقِّ بلا نَقص، ومثل هذا المقاييس.
((لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) أي: طاقتَها، فمِن رحمة الله تعالى أنَّه لا يأمرُ ولا ينهي إلا بما هو مقدورٌ عليه.
((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)) أي: إذا حكمتُم أو إذا شهِدتم أو دخلتُم بين متنازعِين بالإصلاح أو إذا مَدَحتم أو قدَحتم لغرضٍ شرعيّ فاعدِلوا، الزَموا الحقَّ والقسطَ في ذلك، ولو كان المحكومُ له أو المشهودُ له أو المشهودُ عليه أو المصلَح له أو الممدوح أو المقدوح فيه ذا قربَى، ومثلُه في هذا البعيد أو البغيض.
((وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا))، عهدُ الله أمرُه ونهيُه وتشريعه، قال الله تعالى لبني إسرائيل: ((وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)) البقرة:40 ويتناولُ عهدُ الله ما يكون بين طرفين من العقودِ والعهود المشروعة المباحة، وأضِيفت العهود إلى الله لأنَّ اللهَ أمر بالوفاء بها.

((ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)). والحكمةُ في قوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) أنّ هذه الوصايا إذا غفل أحدٌ عن رعايتها وحياطتها ارتكب محرَّمَها عاقلاً أو غيرَ عاقل، فإذا تذكَّر وجوبَ حفظها ورعايتها قام بهذه الوصايا.
((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))،. والصراطُ المستقيم هو الإسلام كلُّه، والحكمةُ في كلمة ((تَتَّقُونَ)) أنَّ الثباتَ على الصراط المستقيم لا يكون إلاَّ للمتقين.
وكلُّ آيةٍ من هؤلاء الآيات الثلاث في الوصايا عليها شواهدُ من القرآن والحديث لو ذُكِرت لطال الكلام، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (مَن أراد أن ينظرَ إلى وصيَّة محمّد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمه فليقرأ هؤلاء الآيات) . أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (593).
الله أكبر، الله أكبر، ما أعظمَه من موصٍ، وأما عظمَها من وصيّة، وما أسعدَ من قام بهذه الوصية.
أوّلُ هذا الصراطِ المستقيم في الدنيا ونهايته الجنّة، والعدولُ عن الصراط المستقيم بالشّهوات والدُّنيا أو بالبدعة أو الكفر والنفاق بدايتُه في الدنيا ونهايته جهنَّم، فيتردَّى في الدنيا في شهواتِه وشقائه، وفي القبر في ظلمَته وعذابه، وفي الحشر في جهنَّم. ولو أنَّ كلَّ مسلم عمِل بهذه الوصايا لكان الله معه، ولوُفِّق لأَرشدِ أموره، لأحسنَ إلى نفسه غايةَ الإحسان، ولأحسنَ إلى الخلقِ وسلِم الناس من شرِّه، قال الله تعالى: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)) المائدة:92.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 31 ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن وااه ، وبعد :
يقول سبحانه: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون:115-116. ويقول سبحانه: ((تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) الملك:1-2
وأخرج الإمام الترمذي ومسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم:
ما الهدف والغاية من وجودنا؟ لم خلقنا - - ولم أوجدنا في هذه الحياة؟! هل خلقنا لنأكل ونشرب ونلبس! أم وجدنا لنجمع الأموال الوفيرة والكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث! أم الهدف والغاية من وجودنا وخلقنا أن نتمتع بزخرف هذه الحياة وزينتها!!
لا والله - - ما خلقنا في هذه الدنيا عبثاً ولم نترك فيها سدى. ((أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى)) القيامة:36-40.

لقد خلقنا والله لمهمة عظيمة وغاية جليلة، تبرأت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان، لقد خلقنا لتوحيد الله الواحد الأحد وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) الذاريات:56-58
أحد السلف يمر على صبية صغار يلعبون، وبينهم طفل صغير يبكي، فيظن الرجل أن هذا الطفل يبكي لأنه ليس له لعبة كما لهم لعب، فقال له: يا بني أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال: ما لهذا أبكي يا قليل العقل، إنما أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له، أولم يسمعوا قول الله وهو يوبخ أهل النار: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون:115-116 فدهش الرجل من إجابة هذا الطفل الصغير وقال له: يا بني إنك لذو لب لذو عقل، وإن كنت صغيراً فعظني، فقال له الطفل بيتاً واحداً:
فما الدنيا بباقية لحي ... ... وما حيٌ على الدنيا بباق
فرضي الله عنكم أيها السلف يوم علمتم أن هذه الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في طاعة الله، ويوم علمتم أن هذه الحياة ليست حياة أكل وشرب وجماع وإنما حياة عبودية وتذلل وطاعة لله الواحد الأحد، والله - يا إخواني - إننا لفي غفلة عما خلقنا لأجله، وإن قلوبنا في قسوة لا يعلم بها إلا الله، وإننا بحاجة للتفكير بهذه القضية الكبرى في كل أسبوع بل في كل يوم وفي كل لحظة، فحاجتنا إليها أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشراب والهواء، وأعظم من حاجتنا إلى النوم والجماع واللباس.

فزاد الروح أرواح المعاني ... وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأباً ... لتذكر في السماء إذا ذكرت
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته ... أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً ... بالله هل لخراب الدار عمران
مسكين هذا الإنسان، حقير هذا الإنسان، أتى من ماء، أتى من نطفة، أتى من عالم العدم، فلما مشى على الأرض تكبر وتجبر، ونسي الله الواحد. بصق الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله عز وجل: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق!! وأنى أوان الصدقة)).
يوم تنصب الموازين فيقول الله: يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: ما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين، عندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
أما والله لو علم الأنام ... لما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا ليوم لو رأته ... عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
ممات ثم حشر ثم نشر ... وتوبيخ وأهوالٌ عظام
ليوم الحشر قد عملت أناس ... فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا ... كأهل الكهف أيقاظ نيام
هذا وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى اله.

( 32 ) يا اأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
معاشر المسلمين:الله سبحانه وتعالى غني عنا وعن عبادتنا وطاعتنا، لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، بل نحن بحاجة إلى الله ونحن الفقراء إلى الله: ((ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)) فاطر:15-17 ((وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم)) محمد:38
((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
وفي الأثر الإلهي يقول رب العزة: ((إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية. وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينقلب إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، وعزتي وجلالي لا يكون عبدٌ من عبيدي على ما أكره فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب)).
فنحن يا عباد الله بحاجة إلى الله، ونحن مفتقرون إلى الله فلماذا نعصي الله؟! ولماذا لا نستشعر عبودية الله؟! ولماذا لا نستشعر حاجتنا لله وافتقارنا إلى الله؟!.
فليتك تعفو والحياة مريرة ... ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... ... وبيني وبين العالمين خرابٌ

إن صح منك الود يا غاية المنى ... ... فكل الذي فوق التراب تراب
والله إن الإنسان إذا لم يرتبط بالله الواحد الديان فهو كالبهيمة بل هو أضل لأن الله كرمه بالفعل وشرفه بالفكر وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً.
فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟ وما الذي غرك حتى تجاوزت حدود الله؟ وما الذي أذهلك حتى انتهكت حرمات الله؟! من أنت يا أيها المسكين الحقير الذليل الفقير؟!! أما أنت الذي تؤذيك وتدميك البقة؟! أما أنت الذي تنتنك العرقة؟! أما أنت الذي تميتك الشرقة؟! أما أنت الذي تحمل في جوفك العذرة؟! أما أنت الذي تتحول في قبرك إلى جيفة قذرة؟! من أنت يا أيها المسكين؟!! أما كنت نطفة؟! أما كنت ماءً؟! أما كنت في عالم العدم؟! قبل سنوات لم تكن شيئاً مذكوراً، وبعد سنوات أيضاً لن تكون شيئاً مذكوراً، ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)) الإنسان:2.
فيا أيها الإنسان تفكر في نفسك، تفكر في ضعفك وعجزك وافتقارك، وتفكر في عظمة الله وفي ملكوت الله، انظر إلى السماء بلا عمد، انظر إلى الأرض في أحسن مدد، انظر من أجرى الهواء ومن سير الماء ومن جعل الطيور تناظم بالنغمات، ومن جعل الرياح غاديات رائحات، من فجر النسمات، من خلقك في أحسن تقويم؟!!.
أهذا يعصى، أهذا يكفر، أهذا يجحد؟!! والله إن السماء بما فيها من ملكوت لا تعصي الله، وإن الأرض لا تقوى على أي معصية، وإن الجبال الرواسي الشامخات لا تعصي الله، وإن الشمس بحرارتها وقوتها لا تعصي، وإن القمر بجماله لا يعصي الله، فلا إله إلا الله كيف استطاع هذا الإنسان الضعيف الحقير أن يعصي ربه وخالقه ومولاه؟! كيف تجرأ هذا الإنسان أن يعصي جبار السموات والأرض الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد؟!
يا عبد الله، والله لن يبقى معك إلا ما قدمت من أعمال صالحة في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فـ((يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء)) إبراهيم:27.
وأما في القبر فسوف يرجع أهلك ومالك ولن يبقى معك إلا عملك، فإن كان عملك صالحاً أتاك رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح، فتسأله: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، ولا أفارقك، وإن كان عملك خبيثاً فسوف يأتيك رجل قبيح الوجه قبيح الثياب قبيح الريح، فتقول له: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالشر، فيقول لك: أنا عملك السيئ ولا أفارقك.
تذكر يا عبد الله واتعظ وأنت في المهلة قبل النقلة، وأنت في دار العمل قبل أن تصير إلى دار الجزاء.
فيا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي ... ... أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن ... ... غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح ... ... عليك دائمة الهبوب
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 33 ) سورة الاخلاص-1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
مع سورة مباركة مع سورة أحبها رجل فأحبه الله مع سورة قراءتها تعدل ثلث القرآن إنها سورة الاخلاص
حُدّث أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قل هو الله أحد) سورة الإخلاص يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها ـ أي: يراها قليلة ـ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن))،وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟)) فشقّ ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: ((الله الواحد الصمد ثلث القرآن)). وأمر صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحتشدوا، فقال: ((احْشُدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، فحَشَد من حَشَد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) السورة ثم دخل، قال أبو هريرة: فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن)).
(قل هو الله أحد). . وهو لفظ أدق من لفظ "واحد" . . لأنه يضيف إلى معنى "واحد" أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي , ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء , أو فاعلا في شيء , في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .
فإذا استقر هذا التفسير , ووضح هذا التصور , خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة , ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !

وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة , ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود , وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة , ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?
(الله الصمد). . ومعنى الصمد اللغوي:السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه . والله - سبحانه - هو السيد الذي لا سيد غيره , فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد . وهو المقصود وحده بالحاجات , المجيب وحده لأصحاب الحاجات . وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه , ولا يقضي أحد معه . . وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد .
وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: ((قل))، قال: ما أقول؟ قال: ((قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمُسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل شيء))، وعن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، بم نجاة المؤمن؟ قال: ((يا عقبة، أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك))، قال: ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأني فأخذ بيدي فقال: ((يا عقبة بن عامر، ألا أعلّمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم))، قال: قلت: بلى جعلني الله فداك، قال: فأقرأني ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ))، قال: فما نسيتهنّ منذ قال: ((لا تنسهنّ))، وما بتّ ليلة قطّ حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك)). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 34 ) سورة الاخلاص- 2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
سورة الاخلاص منهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا , وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ?!
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين , والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم , والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة , وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات , وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ))، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.

هذه بعض الأحاديث المرغّبة في الإدمان على قراءة سورة الإخلاص، والسبب في ذلك أن هذه السورة قد جمعت معاني من اعتقدها حرّم الله عليه النار، ولأن هذه السورة وأختيها الفلق والناس حصن حصين من جميع ما يخشاه المؤمن ويحذره، فالإنسان في طبيعته البشرية يطرأ عليه الخوف، ويُصاب أحيانًا بشتّى أنواع المصائب والابتلاءات، ونحن العرب ـ وللأسف ـ لا زلنا نلجأ إلى السحرة والمشعوذين، ويتعلق كثير منّا بالأسباب الواهيات، ويترك الرجوع إلى كتاب الله الكريم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على قراءة المعوذتين والإخلاص عندما يأوي إلى فراشه، وما ذاك إلا درس لنا في أن نتحصّن بكتاب الله، ونتمسّك بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزاد فضل الله علينا أن جعل هذه السور قصيرة، وكلماتها سهلة يسيرة، لا تتطلب منك جهدًا ولا عناءً، إنما المطلوب منك ـ أيها المؤمن ـ أن تدمن قراءتها؛ لتكون لك حصنًا من الأمراض النفسية والوساوس الشيطانية، وتكون بقراءتها قد استحضرت في قلبك أروع معان جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لنشرها، ومن أجلها طُرد وعُذّب وأهين وشُرّد، بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم بأن الله أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
عند قيادتك لسيارتك أو في أي وقت فراغ رطّب لسانك بذكر الله، وأكثِر في هذه الأوقات من قراءة المعوذتين والإخلاص، ودُم على ذلك، وستزداد في النور والبهاء.

إذا استحضرت مع هذه التلاوة معاني الآيات فاستحضِر عند قراءتك: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو سبحانه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، إذا اعتقدت ذلك: أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو سبحانه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، فأنت تخالف اليهود في قولهم: عُزير ابن الله، وتخالف النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وتخالف المجوس في عبادتهم الشمس والقمر، وتخالف المشركين في عبادتهم الأوثان،
فاستحضر هذا المعنى عند قراءتك: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ))، واستحضر عند قولك: ((اللهُ الصَّمَدُ)) أن الله هو السيد الذي كَمُل في سُؤْدَدِه، والشريف الذي كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حِلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسُؤْدد. سبحان من يصمد إليه العباد في قضاء حوائجهم. سبحان الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي في خلقه الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.

سبحان من ليس له ولد ولا والد ولا زوجة، ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) الأنعام:101، فهو سبحانه مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه؟! ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)) مريم:88-95،
وقال ربّ العزة: ((كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 35 ) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين (( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً{63} الفرقان
هذه لوحة قرآنية رسمت فيها صفات عباد الرحمن وضح الله فيها معالمهم وصفاتهم وجعلهم أنموذجاً يقتدى بهم ويتأسى بهموعباد الرحمن هم المنسوبون إلى الله وحده فكما أن هناك عباد للشيطان وللطاغوت وللشهوات فإن هناك عباداً لله ، وكما أن هناك عباداً للدنيا والنساء فإن هناك عبيدُ لله وحده .
هؤلاء العباد الذين يئس الشيطان من أن يغويهم أو يجد منفذاً للسيطرة عليهم فقد أقسم كما قال جل وعلا : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{83})) ص
وقال تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))الحجر42
عباد الرحمن نسبهم الله إلى ذاته
عباد الرحمن إنه الرحمن الذي علم أنهم أهل لرحمته وأن رحمته تحيطهم عن يمينٍِ وشمال ومن فوقهم ومن تحتهم .
(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) مريم 61، (قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) 59 النمل.
أخي الحبيب يا عبد الله
أتريد أن تكون من عباد الرحمن ؟ أتريد أن تنتسب إلى الله عز وجل أتريد أن تكون واحداً من هؤلاء ما عليك إلا أن تتصف بصفات عباد الرحمن قولاً وعملاً فما أكثر من يقول : أنا من عباد الرحمن ولكن أفعاله تقول غير ذلك أول صفة من صفاتهم كما قال تعالى : (وعبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً))
إنّ صفة المشي لها عند الله قيمة لأنها تعبر عما في الإنسان من مشاعر وأخلاق فالمتكبرون والمتجبرون لهم مشية والمتواضعون لهم مشية كل يمشي معبراً عما في ذاته
عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً متواضعين هيّنين ليّنين يمشون بسكينةٍ ووقار بلا تجبر واستكبار ولا يستعلون على أحد من عباد الله .
عباد الرحمن يمشون مشية من يعلم أنه من الأرض خرج وإلى الأرض يعود ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى))طه55

اعلموا أيها المسلمون
أنه ليس معنى يمشون على الأرض هوناً أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس كما يفهم بعض الناس فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسرع الناس مشيةىً وأحسنها وأسكنها
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
(ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله كأنما الأرض تطوى له ).
ورأى عمر بن الخطاب رجلاً يمشي رويداً مطاطأ الرأس فقال : مالك أأنت مريضاً ؟ قال : لا فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي مشية الأقوياء .
ورأت أحد أزواج النبي شباباً يمشون متماوتين فقالت من هؤلاء ؟ قالوا النسّاك الزهاد.
فقالت : لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا هؤلاء والقرآن نهى عن مشي المرح والبطر والفخر والاختيال قال تعالى : ((وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً))الإسراء37
وهذا لقمان يوصي ابنه ((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ))لقمان18
لا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم, ولا تمش في الأرض بين الناس مختالا متبخترًا, إن الله لا يحب كل متكبر متباه في نفسه وهيئته وقوله.
ولا تكلم الناس وأنت معرض عنهم بل أقبل عليهم بوجهك وتواضع وابتسم فالابتسامة صدقة والله لا يحب كل مختالٍ فخور,المختال الذي يُظهر أثر الكبر في أفعاله.
والفخور الذي يظهر أثر الكبر في أقوالهوالله يحب المتواضع الذي يعرف قدر نفسه ولا يحتقر أحداً من الناس كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوويقول:
( اللهم أحييني مسكيناً ومتني مسكيناً وأحشرني في زمة المساكين )
روى الامام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم : (( من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو غضبان ))

وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بينما رجل ممن قبلكم يتبختر يمشي في بردته قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة )
إذاً علام يتكبر الناس علام يتميزون علام يستعلون على عباد الله بأموالهم ومناصبهم ولو نظروا إلى أنفسهم لوجدوا أن أباهم الماء المهين وجدّهم التراب كما قال تعالى : ( وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين ).
رأى مطرف بن عبد الله أحد الأمراء يمشي متبختراً فنهاه وقال هذه مشيةٌ يبغضها الله تعالى فقال له : أما تعرفني ؟ قال : نعم أعرفك.. وأعرف من أنت . انت الذي أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفةُ قذره ، وأنت مع ذلك تحمل العذره
فيا عجباً ممن خرج من مجرى البول مرتين كيف يتكبر .
ولا يمشي فوق الأرض إلا تواضعاً
فكم تحتها قوم همُ منك أرفعُ
... وإن كنت عزٍ وجاهٍ ومنعةٍ
... ... ... ... فكم مات من قومٍ همو منكم أقنعُ
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين كان يمشي خلف أصحاب كواحدٍ منهم وكان يجلس لا يتميز عليهم ، حتى أن الرجل الغريب ليأتي فيقول أيكم بن عبد المطلب وكان في بيتكم في مهنة أهله ، يرقع ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 36 ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
عباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً .
فهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء ويترفعون عن الرد عن كل سب وشتم واستهزاء إنما هم أكرم وأرفع " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

وقال تعالى :((وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ))الإسراء53
وقل لعبادي المؤمنين يقولوا في تخاطبهم وتحاورهم الكلام الحسن الطيب؛ فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ألقى الشيطان بينهم العداوة والفساد والخصام. إن الشيطان كان للإنسان عدوًا ظاهر العداوة.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ) البخاري ومسلم والترمذي.
عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء) الترمذي وابن حبان في صحيحه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم والقائم " أبو داود وابن حبان في صحيحه.
عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حسن الخلق خلق الله الأعظم).
إن دعامة حسن الخلق التي بها يقوم، الرفق واللين والمعاملة الطيبة ومداراة السفهاء، وقد امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعله لينا مع القوم غير فظ ولا عنيف ولا جبار فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)آل عمران 159؛ ونصح موسى وأخاه هارون عليهما السلام إذ أرسلهما إلى فرعون (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه 44.
قال صلى الله عليه وسلم :
( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )البخاري ومسلم.
( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه ) مسلم.
" من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير".

" ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل هين لين سهل".
وحسن الكلام مع الأعداء يطفئ خصومتهم ويكسر شوكتهم (( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ )) فصلت34 وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 37 ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
هؤلاء عباد الرحمن رأينا حالهم مع أنفسهم وهو بالتواضع لا الفخر ولا الكبرياء وحالهم مع الناس بالصبر على جهل السفهاء .
ثم انظروا حالهم مع ربهم إذا خيّم الليل وأرخى سدوله إذا أوى الناس إلى فرشهم كان عباد الرحمن مع ربهم ((يبيتون لربهم سجداً وقياماً ))
بينما كثير من الناس في غفلاتهم نائمون وفي سهرهم ماجنون هناك عباد يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، إنهم يضعون الجباه التي لم تنحني لمخلوق يضعونها بين يدي الله جل وعلا راكعة ساجدة خاشعة خائفة طائعة
((إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ))السجدة15
وهم قياما يتلون أيات الله يسألونه الجنه ويستعيذون به من النار.
إنهم يفعلون ذلك ليس طلباً لمرضاة احد ولا لإيتغاء محمدة او شهرة وإنما يبيتون لربهم سجّداً وقياماً يبتغون وجهه يرجون رحمته ويخافون عذابه .
وصدق الله القائل عنهم ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ))الزمر9

لما أرشد الله تعالى أولياءه إلى صفة ما ينبغي أن يكون عليه حالهم بالنهار، من ترك الإيذاء والعدوان مبادأة وجزاء، عقب بذكر صفاتهم بالليل سجودا وقياما (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا )؛ فتكامل بذلك يوم المؤمن ليله ونهاره، سره وعلانيته، برا بالخلق وقياما بحق الخالق.
إن قيام الليل أفضل العبادات بعد المفروضات، لأن العبد يخلو فيه إلى ربه دون رياء أو تسميع، ويدعوه ويتضرع له بطمأنينة نفس وهدوء بال وخشوع قلب، خاليا من هموم الدنيا وشوائب الحياة وشواغل الكسب والأهل والولد، فتكون عبادته أشد إخلاصا ودعاؤه أكثر صدقا، وموقفه من ربه أبلغ قربا، كما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد، فأكثروا الدعاء )، أما إن كان السجود والدعاء والتضرع في جوف الليل كما ترشد إليه الآية الكريمة، فذلك الفوز الكبير والنجح الوفير؛ أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغغفرني فأغفر له؟ ".
وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن عمرو بن عنبسة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن " .
وروى الترمذي أيضا عن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله، أي الدعاء أسمع – أي أرجى عند الله تعالى- ؟ قال( جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات) .
عباد الرحمن هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً
روى الامام احمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال ((عجب ربنا تعالى من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين اهله الى صلاته فيقول الله جل وعلا انظروا الى عبدي ثار عن فراشه ووطائه رغبةًفيما عندي وشفقةًمما عندي
ورجل غزا في سبيل الله ثم إنهزم اصحابه فرجع حتى يهريق دمه فيقول الله انظروا الى عبدي رجع رجاء فيما غندي وشفقةً مما عندي ))
((إنهم عباد الرحمن كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) الذاريات17
مات أحد علماء الصوفية في عصره هو الجنيد فقيل له يا امام ما فعل الله بك فقال ذهبنت تلك الاشارات وطاحت العبارات وضاعت العلوم ولم ينفعنا إلا ركعات كنّا نركعها في السحر.
عباد الرحمن
تتجافى جنوبهم عن المضاجع
كلهم مابين خائف متهجد وطامع
تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع
وأستهلّت عيونهم فائضات المدامع
ودعوا ياربنا ياجميل الصنائع
عباد الله
شتان بين من يقضي الليل في طاعة الله وبين من يقضيه في معصيةالله
شتان بين من يسهر في لهو وعبث حتى قرب الفجر فإذا قرب الفجر ناموا
وبين من يقضي الليل صلاةً واستغفاراً وتسبيحاً ونوماً على ذكر الله .
شتان بين من يقضي الليل في إجرام يدبر المكائد والشرور لعباد الله الصالحين
وبين من يقضي الليل علماً وتعلماً ودعوة الى شرع الله.
عباد الرحمن
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
,اهل الامن في الدنيا هجوع
قال صلى الله عليه وسلم:
((إن في الجنةغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قيل هي لمن يارسول الله قال((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)) رواه الترمذي

اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين من عبادك المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

(

38 ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يذ كرالله صفة لعباده في كل الأوقات وفي جوف الليل أرجى: وهي سعيهم الدائب للنجاة من النار والدعاء إلى الله تعالى أن يعيذهم منها (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)؛ والعذاب الغرام هو الألم الموجع الملح الملازم، والهلاك والخسران الدائم، يوضح ذلك وصفه لجهنم بأنها ( ساءت مستقرا ومقاما) ، وكونُها مستقرا خاصٌّ بالعصاة من أهل الإيمان، وكونها مقاما خاصٌّ بأهل الكفر لأنهم يخلدون فيها.إن الإِشارة إلى توجه عباد الرحمن بالدعاء إلى الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم، مع اجتهادهم في العبادة وصدقهم في النية والقصد، دليل على أنهم في قمة الإخلاص خوفا من الله تعالى ورجاء فيه، وهذا كقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) المؤمنون60، وقد روى الحاكم عن ابن عباس قال:

لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم 6، تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه، فخر فتى مغشيا عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا فتى قل لا إله إلا الله " فقالها، فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ قال: " ما سمعتم قوله تعالى(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) ؟ إبراهيم14. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".إن منزلة الخوف والرجاء هي مقام عباد الرحمن في الدنيا، ومن كان هذا حاله توج عمله بالحياء من الله تعالى والمحبة له ولأوليائه، وطهر لسانه من الكذب والغيبة وفضول القول، وبطنه من حرام المشرب والمطعم، وجوارحه من الآثام والفواحش، وقلبه من العداوة والخيانة والغش والحسد والرياء؛
فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف ) - الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا-، أما الدعاء وحده مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغفلة والغرور والتعلق بالأماني، يقول تعالى:
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) النساء123

إن لكل حق حقيقة يتجلى بها في أوضح صورة, وإن حقيقة عباد الرحمن أن تتوافر فيهم العقيدة السليمة والطاعات المفروضات عملا وتركا، والمعاملة اللينة الهينة الرحيمة مع الخلق، وذلك هو النور الرباني الذي يغشى قلوبهم ، ويأخذ بنواصيهم إلى جادة الخير والرحمة، ولله در حارثة رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال عليه الصلاة والسلام: " انظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " ، فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاورون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: " عرفت فالزم "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا "، ثم قال: يا رسول الله ادع لي بالشهادة، فدعا له فنودي بعد ذلك: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب فاستشهد في سبيل الله-أخرجه الترمذي والطبراني والبزار والسيوطي في الدر المنثور-. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 39 ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
من صفات عباد الرحمن الاعتدال في النفقة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) 67 الفرقان، وهو نظير قوله تعالى(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرا) الإسراء 26، وقوله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) الإسراء29.والإسراف عباد الله هو مجاوزة الحد في النفقة وبذل المال.
أما الإقتار والقتر والتقتير فهو التضييق الذي يعد نقيض الإسراف.
وبين الإسراف والتقتير درجة الاعتدال، وهي الفضيلة التي حث القرآن عليها بقوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) الفرقان 67، أي وسطا واعتدالا بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط. إلا أن هذه الدرجة الوسط بين رذيلتي التقتير والإسراف، يبقى أمر تحديدها رهنا بمستوى ورع المرء وتقواه وإيثاره الدنيا على الآخرة، ومقامه بين حديها الأعلى والأدنى، وأدنى ذلك أن يبذل زكاة ماله ونفسه، وطعام عياله وأرحامه وضيوفه، وأعلاه أن يحتفظ لنفسه بقوت يومه، ويبذل ما سوى ذلك في أوجه البر والخير، لأن الأصل أن لا إسراف في البذل والخير، وأن الإمساك عن الطاعة هو الإقتار بعينه، ولذلك يقول عز وجل:
( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) البقرة195، وتعني التهلكة الإمساك عن طاعة الإنفاق.
( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون( البقرة272
( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ 39
وأخرج البخاري): قَالَ عَبْدُاللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِه؟"ِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْه،ِ قَال:"َ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّر"َ (

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَاتَ فَوُجِدَ فِي بُرْدَتِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَيَّتَان ") أحمد
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَفَتَ إِلَى أُحُدٍ فَقَال:"( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا يُحَوَّلُ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ إِلَّا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِدَيْنٍ إِنْ كَانَ" فَمَاتَ وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا وَلِيدَةً وَتَرَكَ دِرْعَهُ مَرْهُونَةً عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ) أحمد
لذلك كان السلف الصالح يرون من الورع ألا يجمع المرء ما لا يأكل ولا يبني ما لا يسكن، وذلك ما أشار إليه مجاهد بقوله: ( لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى لم يكن سرفا، ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى كان سرفا)، وقال ابن عباس: ( الإسراف الإنفاق في معصية الله، والإقتار منع حق الله)، وسأل وهيب بن الورد عالما: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقال: ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد جوعتك،فقال له في اللباس، قال: ما ستر عورتك ووقاك من البرد.
إن الإنفاق المقبول عند الله تعالى في أوجه البر رهن بمدى حلّية المال وطيبته: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد ) البقرة 267،

كما يتحدد مقداره بمستوى علو همة المنفق وسمو مرتبته في سلم العابدين ومدارج السالكين ومرقاة الواصلين، ومدى تعلقه بالآخرة وثقته بالله تعالى؛ لذلك فالعدل والقوام بين الإسراف والتقتير نسبي بهذه الصفة، ولكل منفق أجره وثوابه إن قصد وجه الله عز وجل، وأنفق من طيبات ما كسب، أما الإسراف فحقيقته الإنفاق في معصية الخالق أو الإضرار بالمخلوق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 40 ) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
من صفات عباد الرحمن التوحيد الخالص بقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر) الفرقان68، وذلك لأن دعوة غير الله تعالى معه أو من دونه، أعظم ما ارتكب من خطايا وآثام ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم) لقمان 13 ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)، وأخطر ما اعتدي به على حق الله عز وجل( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)المائدة 72.

سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ قَالَ( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَي؟،ٌّ قَال:"َ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشيَة َأَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قَال:َ ثُمَّ أَي؟،ٌّ قَال:"َ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك"َ ،َ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) مسلم واحمد.
إخواني أن الشرك نوعان : أحدهما الشرك الأكبر وهو المخرج من الملة، وثانيهما الشرك الخفي أو الأصغر الذي يعد ذنبا عظيما تجب المبادرة بالتوبة منه، لأنه مدعاة للعقوبة الشديدة في الآخرة؛ ومن أمثلته أن تعمل العمل لله ولوجوه الناس، أو للمنزلة أو للتسميع والرياء، )عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً " ) ابن حنبل

وعن أبي سعيد الخدري قَال:َ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ:" أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ: قُلْنَا بَلَى فَقَالَ:( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ " ) ابن ماجه
أما الشرك الأكبر المخرج من الملة فثلاثة أصناف:
شرك الربوبية، باعتقاد أن مع الله تعالى إلها آخر يخلق ويسير ويدبر…( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُون) يونس 3 (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الأعراف185.
شرك الألوهية، وهو التوجه بالعبادة صلاة وصياما وحجا ونسكا ورجاء وتوكلا وخوفا ورهبة ورغبة ومحبة لغير الله معه أو من دونه، أو اتخاذ الوسطاء بين العبد وربه كما لدى القبوريين والباطنيين واليهود والنصارى ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام 162.

شرك الأسماء والصفات، كأن تسمي الله تعالى أو تصفه بما لم يرد في الكتاب والسنة، أو تعتقد أن مخلوقا يتصف بصفة كمال كاتصاف الله بها، كما لدى الخرافيين والمشعوذين الذين يدعون معرفة الغيب والقدرة المطلقة ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) الأعراف180، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى 11
إن الشرك الأكبر هو الوجه الثاني للكفر، أما الأصغر فهو الممهد له المعبد طريقه المؤدي إليه. لذلك على المؤمن أن يبذل قصارى جهده لتجنب الشرك الأصغر وسد جميع الذرائع إليه، وأن يبادر بالاستغفار والتوبة من كل خاطرة أو لمحة أو نجوى بها شبهة ذلك.

( 41 ) وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لا زلنا وإياكم في ضلال صفات عباد الرحمن وصفة اليوم هي صفة صيانة النفس البشرية من التلف، بقوله تعالى:
( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق) الفرقان 68، لأن الأصل في النفس البشرية أنها واحدة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) النساء 1، وقتل الجزء بمثابة قتل الكل. والأحاديث النبوية في الأمر كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا) مورد الظمآن،
وقوله((قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) النسائي وقوله صلى الله عليه وسلم ( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ) البخاري.

ويشمل ذلك قتل الإنسان نفسه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ بِيَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ بِيَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يُرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) أحمدكما يشمل الإجهاض وعملية تحديد النسل، بطرق غير شرعية ولغير ضرورة معتبرة، وفي ذلك يقول الله تعالى ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)الأنعام 140. ويشمل قتل الغير( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الأنعام 151 ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة32.عباد الله أيها المسلمون ومن صفات عباد الرحمن اجتناب فاحشة الزنى: بقوله تعالى (وَلا يَزْنُون) الفرقان 68، وكما قال تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) الإسراء 32

ولذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم العواقب المدمرة لشيوع الفاحشة في المجتمع( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:"َ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِم،ْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُم) ابن ماجه

وقد امتدح الله تعالى العفة وحرض عليها وبشر أصحابها بالفلاح ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) المؤمنون 5، وأرشد إلى ما يعين على ذلك ويسد الذرائع إلى فاحشة الزنى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون) النور 30، وقال صلى الله عليه وسلم:( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) البخاري، كما حذر عز وجل حفظا للمجتمع وصيانة للأعراض من إشاعة الفاحشة بالقول أو الفعل أو سوء الظن(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) النور 19
ثم يُعقِب الله صفات عباد الرحمن بوعيد صارم للعصاة ، ووعد حق للطائعين التوابين.
أما وعيده فقوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما ) ، فقوله (ومن يتجرأ على فعل تلك الأثام من القتل والزنا يلق أثاما أي نكالا ووبالاً (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا) الفرقان 69، فالخلود في النار بسبب الشرك ودعوة غير الله تعالى، أما المؤمن فتضاعف عقوبته ولكنه لا يخلد في النار.
هذا الوعيد الصارم الشديد أسلوب يؤثر في النفس البشرية التواقة إلى النجاة والسعادة، إذ الخوف والرجاء فطرة بشرية أصيلة، والمؤمن الحق دائما بين خوف يرده عن المعاصي ورجاء يحث به الخطى نحو الجنة،( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين) الأنبياء90
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 42 ) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
تأتي رحمة الله الواسعة لذلك عقب تعالى على ذكر العقوبة ، بفتح باب الرجاء والأمل والبشارة لمن أقلع وتاب ورجع إلى الحق والصواب، كيلا تتقطع قلوب العباد يأسا وقنوطا ، فقال (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما) الفرقان 70، فأرشد إلى طريق النجاة من العذاب المضاعف المخلد في النار، وبَيَّنَ أن التوبة مسلك ذلك ووسيلته الأولى والوحيدة.
إن حقيقة التوبة الرجوع عن الذنب إلى الطاعة، والله تواب: أي يتوب على عبده ويقبل توبته ويعود عليه بالمغفرة والفضل، أو يوفقه للتوبة ويسدد خطاه في طريقها.
و التوبة فرض على جميع المسلمين ، لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار)، فوصفها تعالى بلفظ ( نصوح) تمييزا لها عن التوبة المائعة الوقتية التي سرعان ما تتلاشى؛ فالنصوح (أي الخلوص ) والصدق أهم صفاتها وجوهر حقيقتها، يقال " والتوبة النصوح كذلك لأنها تخلص صاحبها من كل الآفات وتصفيه من كل الذنوب.لذلك كانت للتوبة النصوح شروط لا تتحقق إلا بها، وهي:
1-الندم على ما ارتكب من السيئات. 2-الإقلاع عن رديء الأعمال والعادات.
3-القيام في الحال على أحسن الحالات.4- رد الحقوق والمظلمات.
5- العزم على ترك العودة إلى المخالفات.6- تدارك ما أمكن تداركه مما فات من الأعمال الصالحة والعبادات.

فالتوبة بذلك ندم يورث عزما وقصدا، وعلامة الندم رقة قلب خوفا ورجاء، وغزارة دمع حزنا واستغفارا، لذلك قال عمر رضي الله عنه: (اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة). وعلامة العزم والقصد الإقلاع البات والجهد في الطاعة.و لقد رغب الشرع الحكيم في التوبة وحرض عليها وحببها بنصوص الكتاب والسنة فقال تعالى:
َ ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ) النور31
- (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين ) البقرة 222
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) التوبة 104
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر 53
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما ) النساء 110 وأخرج أحمد:حَدَّثَنَا عَن أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا
وأخرج مسلم: وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ

إن الله عز وجل يستثني من العذاب، التوابين توبة نصوحا، توبة في طياتها الإيمان والعمل الصالح، ويجزيهم على ذلك جزاء أوفى يناسب عظمة كرمه وعفوه، ومن أكرم منه تعالى؟ ومن أكثر عفوا منه سبحانه؟ يقول عز وجل: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان 70
أخرج الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ يُؤْتَى بِرَجُلٍ فَيَقُولُ نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا قَالَ فَيُقَالُ لَهُ عَمِلْتَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لَقَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَمْ أَرَهَا هُنَا قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 43 ) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
صفات عباد الرحمن تتوالى ومن صفاتهم قال تعالى بعد ذلك (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) الفرقان72وحرف الزاي والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول، ومنه " ازوَرَّ عن الشيء" إذا مال عنه وانحرف، وكل ما هو تغيير للحق والحقيقة زور، فالكذب زور لأنه ميل عن طريق الحق، والشرك والكفر والباطل أيا كان زور، ومجالس اللهو والعبث والفاحشة زور كذلك، أما شهادة الزور فمنها حضور كل مجلس يجري فيه ما لا يجوز شرعا أو مروءة، لأن مجرد مشاهدة هذه المجالس أو حضورها اشتراك فيها وإقرار لها ورضا بها، يقول تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام 68، ويقول أيضا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج30، ومنها أيضا تزوير الحقائق وقلبها عند تأدية الشهادة إن احتيج إليها، وهو ما رواه البخاري في صحيحه، قال عَنْ عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِر"ِ ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال:َ " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن "،ِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَال:"َ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ"، قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ ) . والآية بهذا تحرم الزور قولا وفعلا وسماعا ومشاهدة وشهادة، وتنزه المؤمن عن مخالطة الشر وأهله، وتصون دينه عما يثلمه ويشينه.
ثم يقول تعالى (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) الفرقان72:

واللغو هو كل ما سقط من قول أو فعل أو سفاهة، وما لا يعتد به ولا تحصل منه فائدة،. واللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك من الأقوال والأفعال مما ليس بطاعة أو مباح؛ فإذا صادف أن مر المؤمن بمجالس الزور واللغو أكرم نفسه ونزهها بالإعراض والإنكار وترك الخوض فيها أو المساعدة عليها أو النظر والمشاهدة لها (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 44) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
عباد الله يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) الفرقان73:
وللمرء إذا ما ذُكر بآيات الله وآلائه ونعمه، أو وجه إليه نصح أو ترغيب في رضا الله أو ترهيب من غضبه، أو حث على فعل الواجب واجتناب المحرم، أحد موقفين:
إما أن يتلقى ذلك مفتحا ذهنه حريصا على الاستفادة، مقبلا على المذكر الناصح بأذن واعية وعين راعية وقلب خاشع، ممتثلا لشرع الله وحكمه، وهو بذلك من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر18.
وإما أن يخر على النصح بأذن صماء وعين عمياء وقلب مختوم عليه، لا يتأثر ولا يتغير، ويبقى مستمرا على الغواية والضلال والجهل والكفر، وعن مثله قال تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف 179.

أيها المسلمون إن الذين يذكرون بآيات الله صنفان: سعيد وشقي، وقلبان: حي وميت، وفيهما قال تعالى:( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون،َ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة 124-125
والصفة الاخرى لعباد الرحمن فهم دائماً يدعون الله (و يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان74:
لأن الرجل إذا كانت له زوجة صالحة وذرية طيبة مطيعة معاونة، وبورك له في أهله وولده قرت عينه بهم وسكنت عن ملاحظة أزواج الآخرين وذرياتهم، وذلك هو قرة العين وسكون النفس. ولذلك يحرص عباد الرحمن على أن يكون لهم أعقاب عمال لله تقر بهم الأعين، وأزواج صالحات يساهمن في تربية الذرية على التقوى والصلاح، فلا تنقطع أعمالهم بالموت وإنما تستمر في الأبناء والحفدة، ويوقنون أن ذلك هبة من الله تعالى فيلجؤون إليه بالدعاء والتوسل (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء )آل عمران 38 (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) مريم 5-6. قال صلى الله عليه وسلم:( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) الترمذي والنسائي.
(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) الفرقان74:

والمعنى أن من صفات عباد الرحمن أن يسألوا ربهم أن يبلغهم في العلم والدين مبلغا يجعلهم هداة إلى الخير دعاة إلى الطاعة، أئمة يقتدى بهم وتكون سيرتهم أسوة حسنة ودعوة صادقة يسترشد بها (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء 73،
ثم ختم عز وجل وصفه لعباده المتقين بذكر الجزاء الذي أعده لهم فقال (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75, أي أن المتصف بالصفات الواردة في هذه الآيات ،وهي التواضع والحلم و التهجد و الخوف من الله، و الاعتدال في الأمر كله والرفق في القول والتصرف، والتنزه عن الشرك والكبائر، والتوبة والإعراض عن السوء وأهله، وتحمل الأذى والعفو عن أهله، واجتناب الزور واللغو، وقبول الموعظة و النصح، و الابتهال إلى الله طلبا للعون بالزوجة الصالحة والذرية الطيبة وببلوغ مرتبة الإمامة في الدين000 كان جزاءه بما صبر على الطاعة و عن الشهوات ثلاثة أصناف من التكريم0
1- الدرجة العليا من الجنة و قد عبر عنها القرآن " بالغرفة " (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواً) الفرقان 75, و الغرفة لغة هي كل بناء عال، يقول تعالى (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) سبأ 37, ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) الزمر20

2- التعظيم، لقوله تعالى (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75, والتحية تكون لهم من الله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس 58, و تكون أيضا من الملائكة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد 23-24.
3- دوام هذا التعظيم خالصا غير منقطع، لا يشوبه سوء أو اضطراب، وخلود المقام في الجنة لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً)الفرقان 76, (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود 108.
أسال الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الذين إصطفاهم ورضي عنهم
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 45 ) سورة العلق-1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إنّ أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع يكاد يكون تامًا هي صدر سورة العلق.
وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال:اقرأ . فقلت:ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال:اقرأ . فقلت:ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله:علم الإنسان ما لم يعلم قال:فقرأته . ثم انتهى , ثم انصرف عني . وهببت من نومي , وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال:ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما , قال:قلت:إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال:فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول:يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء , فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول:يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال:فوقفت أنظر إليه , وشغلني ذلك عما أردت , فما أتقدم وما أتأخر , وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء , فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك , فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي , ولا أرجع ورائي , حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي , حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . "
إن جبريل جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصدر هذه السورة ((اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)), صدر السورة إلى هنا يكاد الإجماع ينعقد على أنه أول كلام إلهي صافح آذان البشرية حين تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم,
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته , فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !

إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله , العظيم الجبار القهار المتكبر , مالك الملك كله , قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان , القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذهالخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي , ومستودع حكمته , ومهبط كلماته , وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وما دلالة هذا الحادث ?
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع , والرحمة السابغة , الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة , سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها , ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله , ويلتفت إليه , ويصله به , ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال
ثم ذهبت السورة تحكي أمورًا أخرى ((كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب)).
آيات قليلة بناؤها واضح, ولكنه معجز, القضايا التي أثارتها, المهمات التي طرحتها ما هي؟ هل فكرتم بها؟ تعالو نشترك بالتفكير, افتتاح السورة بقول الله جل اسمه خطابًا للنبي الكريم عليه السلام

" اقرأ " مع أن النبي صلى الله عليه وآله أمي, لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب, شيء يلفت النظر, ما معنى أن تقول للأمي اقرأ؟ ألست تكلفه محالاً, وتكليف المحال عبث لا يليق بالعقلاء, ما معنى تكليفك لأمي بالقراءة, ولو اجتهد مجهوده كله ما أطاق ذلك؟ لكن في الأمر لطيفة.
قول الله للنبي اقرأ لا يعني فقط أن الإنسان يجب أن يقرأ من الكتاب؛ لأن القراءة لا تتوقف على الكتاب فقط, يعني هذا أن الإنسان إذا كان لا يحسن أن يقرأ ويكتب فهذا لا يعفيه من عملية المتابعة وجمع المعلومات مشافهة, والنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ولم يخط بيمينه كتابًا كما أخبر الله في القرآن فقد استطاع بعون الله وعنايته أن يجمع في صدره الشريف الوحي المكرم بسماعه وبحروفه, والصحابة رضي الله عنهم الذين تلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن كانت غالبيتهم العظمى الساحقة لا تقرأ كتابًا, ولا تخط بيمينها شيئًا, ومع ذلك كان النبي عليه السلام يخبر بالآي من كتاب الله فيجمعه الصحابة رضي الله عنهم في صدورهم, وبذلك كانوا قارئين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 46 ) سورة العلق -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إقرأ بإسم ربك الذي خلق كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة , ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم , ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . .(علم الإنسان ما لم يعلم). .

((اقرأ باسم ربك الذي خلق)) ماذا يعني هذا القول؟ نحن نستمع في المحافل وفي المراسيم والقرارات: باسم الشعب الفلاني, باسم الأمة, نحن رئيس الجمهورية, أو نحن القاضي فلان, أو نحن الوزير الفلاني, نقر ما هو آت, فالتقرير ليس باسم شخص معين, وإنما هو باسم الأمة, وفقًا أو اعتبارًا بأن الأمة هي مصدر السلطان على النحو المفهوم والمرفوض في العصر الحاضر.
فقول الله جل وعلا ((اقرأ باسم ربك الذي خلق)) يشكل مفترقًا للطريق بين الإسلام وبين ركام الجاهلية وغثائها الذي كان معروفًا زمن النبي عليه السلام, والذي سيظل معروفًا مادامت الدنيا دنيا, وما دام الناس في شرورهم, هذا الذي نرى, القراءة والعلم, الحركة والانتباه, القيام والقعود, أي تصرف من التصرفات لا ينبغي أن يكون باسم فرد, ولا ينبغي أن يكون باسم أمة, وإنما ينبغي أن يكون باسم الله, الله جل وعلا هو المالك, وهو المتصف, وهو الخالق, وهو الرازق, فالاشتراك معه في الأمر والتقرير, والتقدير والنهي محاولة للاعتداء على سلطان الله جل وعلا في كونه, كل ما يفعله الإنسان ينبغي أن يكون باسم الله على وفق منهاج شرعه وعلى وصف خطى نبيه صلى الله عليه وسلم, والأفراد والأمم والشعوب لا حق لها في أن تأمر وفي أن تنهى, وتأتي بقية لهذا بعد قليل.

((اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق)) العلق: العلقة في كلام العرب نقطة الدم اللزجة المتجمعة, حينما يشير القرآن ـ من أوليات الوحي ـ إلى هذه الحقيقة, يترك للذهن أن يشرح, يلاحظ هذه القطرة من الدم التي وقعت في الرحم, كيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف تخلقت جنينًا في البطن؟ ثم كيف خرجت إلى عالم الدنيا طفلاً لا يكاد يستقل بنفسه, ولا يحصل لنفسه على نفع ولا يدفع عنها أذى, ثم مازالت عناية الله تحف بهذا المخلوق العاجز حتى كان طفلاً يدرج ثم شابًا, ثم كهلاً, ثم شيخًا, وإذا هو بشر سوي, هذا الإنسان الذي يتحرك ويأتي بالمعجزات, ويقدم المنجزات ويفتح في العلم فتوحًا تذهل العقول, وتستأسر الألباب, هذا بدايته نقطة دم علقة, فحين يناديك ربك بالعلم والقراءة وأنت لا تعلم ولا تقرأ لا تغفل أيها الإنسان عن أن وقوف الشيء ووقوف المخلوق عند مرحلة واحدة أمر محال, فكل شيء إلى تطور, وكل شيء إلى ترقي, وكل شيء إلى اندفاع نحو الأحسن, ونحو الأفضل وكما تخلقت هذه العلقة فكان منها الإنسان المدرك المحس الفعال المريد, المفكر المقدر, كذلك أنت لا تستقِل نفسك ولا تسهن بها, أنت اليوم لا تعلم لكنك لو حاولت أن تقرأ وأن تجمع علمًا إلى علم وكلامًا إلى كلام وقضية إلى قضية, فلن يمضي كبير زمن حتى تكون عالمًا مع العاملين فإذا قعدت عاجزًا لا تقرأ ولا تتكلم ولا تغشى مجالس العلم ولا تسأل, فحتى متى؟ متى تكون عالمًا ودينك دين العلم؟ متى تكون عالمًا وفي الإسلام لا مكان للجهلاء؟ متى تكون عالمًا وأنت اليوم تعيش في عصر ينبذ الجهلاء والجاهلين, كذلك يجب عليك أن تكون من العالمين ((اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)).

هذه الأداة التي هي القلم لا يكلف شراؤها إلا مبلغًا زهيدًا, لكن قيمتها الذاتية لا تقدر بثمن, بهذا القلم عرفنا أخبار الأولين واطلعنا على تجارب الماضي, ونقلت إلينا حقائق العلوم, وكل ما تتنعم به الإنسانية من تراث حضاري, فالفضل فيه يعود إلى القلم, الماضون كتبوا وقرأنا وتعلمنا, ونحن نكتب ونضيف إلى هذا التراث ما أعاننا الله عليه, وأولادنا يفعلون ذلك؟ بم كل هذا الشيء؟ بهذه الأداة التي لا يكاد أحدًا يلقي إليها بالاً, هي القلم, من الذي علمك أيها الإنسان أن تكتب بالقلم؟ الله, الله الذي لا إله إلا هو علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم.
اسمعوا ماذا تقول مطالع سورة البقرة: ((وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)) ثم ((وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)).
الله جل وعلا اختص أبانا آدم بهذه الكرامة وسحب الكرامة على أبنائه جميعًا لغاية أرادها الله وهو أعلم بها وهي غاية الخلافة في الأرض والقوامة على كلمات الله والحراسة لشريعة الله تبارك وتعالى

((علم الإنسان ما لم يعلم كلا)) هذه السورة ترددت فيها "كلا" ثلاث مرات كلا, وأنت تقرأ السورة تشعر أنك حين تقول كلا كأنما أنت تقود سيارتك في الطريق وإذا بك فجأة أمام النور الأحمر, فتجد نفسك مضطرًا إلى الوقوف لأنك لو تجاوزت لعرضت نفسك لخطر محقق, لا تتجاوز كلا, بعد كلا, كلام عظيم ينبغي عليك أن تدركه وأن تفكر فيه طويلاً ((كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)) مفتاح القضية كلها في هاتين الكلمتين ((إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)) ما الذي يحول بين الإنسان وبين الاهتداء لكلمات الله, ما الذي يحول بين الإنسان وبين قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 47 ) إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
حقيقة واحدة, نبهت عليها هذه السورة ((إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)) ما معنى الطغيان تقول: ملأت الكأس ماء فطغى الماء يعني أن الماء تجاوز حافة الكأس والإنسان حين يتجاوز حده نقول عنه طغى فلان, فالطغيان مجاوزة الحد المقدور للإنسان, ما أنت أيها الإنسان؟ عبد لم تكن إلهًا ولن تكون, وما ينبغي لك أن تنازع الله خصيصة الألوهية, أنت عبد حين تحاول أن تتعدى طورك وتجاوز مقدارك فأنت طاغ, والطغيان مجاوزة الحد ((كلا إن الإنسان ليطغى)) ليصرف عن الحد ويعرض عن الهدى, ويضرب بكلمات الله عرض الحائط بسبب طغيانه, بسبب نسيانه لنفسه, نسيانه لحقيقة ذاته, ما سبب ذلك أيضًا؟ ((أن رآه استغنى)), أن هذا تفسير المراد سبب ذلك أن الإنسان يشعر بأنه قد استغنى عن أية قوة خارج ذاته, فمن أجل ذلك هو يطغى ويتجاوز حده, ومن أجل ذلك ينسى حقيقة العبودية التي ينبغي ألاّ ينساها ومن أجل ذلك ينصرف ويعرض عن الحق.

ما معنى استغناء الإنسان؟ شعوره بأنه غير محتاج إلى غيره, تعززه بالولد, تعززه بالمال, تعززه بالجاه والسلطان, تلك هي الأدواء, استغناء الإنسان يسبب نسيانه لحقيقة بقائه في هذه الدنيا, سبب واضح من أسباب الإنصراف عن الحق, ولكن الإنسان حينما يضع نصب عينيه أنه أبدًا ودائمًا عبد الله جل وعلا, ليس ربًا ولا قريبًا من الرب فإنه حينئذ يسمع كلمات الله حين تتلى عليه بأذن صاغية وقلب متفتح, بماذا ينسى هذا الإنسان؟ بسيطرة هذه العوامل عليه, صاحب الأولاد يرى أنه عزيز بأولاده, وراءه جيش لجب من الأولاد وأولاد الأولاد, فهو بغير حاجة إلى سند يأتيه من خارج ذاته, والله جل وعلا قد شرح ذلك, ألم تقرأوا ما قال ربكم تبارك وتعالى في سورة مريم: ((أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدًا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا)).مريم
ويلك يا مخلوق, ويلك يا تائه, من أنت حتى تستكثر بأولادك وأولاد أولادك, وترى أنك في غنىً عن العزيز الجبار يوم تقف بين يدي المنتقم القاهر لمن يكون بين يديك؟ لا ولد, ولا عبيد, ويأتينا فردًا, كذلك الإنسان يشعر أنه حين يملك المال في غنىً عن الناس, وفي غنى عن رب الناس, لم تحف به العناية حتى وصفت بين المال والنسب محنة واختبارًا, وإنما يرى أنه بجهده حصل على هذا المال, ليس هذا فقط, ولكن شعورًا خبيثًا آثمًا مجرمًا فيحكم في الإنسان حين يملك المال والثراء, أنا أستطيع أن أشتري اللذات فأمرح ما شاء لي المرح, أنا أستطيع أن أشتري الأعوان والأتباع من الإمعات والتافهين فيسيرون من خلفي وتصطفق النعال, أستطيع كذا وأستطيع كذا, ويحك, ما الذي يعلمك أن هذا المال سيبقى بين يديك؟ لا شيء, ألم تقرأ ما قال الله جل وعلا في سورة القصص: ((إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة))القصص

المفاتيح لا تحملها إلاعصبة أولوُ قوة, ومع ذلك فبعض التافهين من الأغنياء الذين يملكون نسبًا قليلاً يظنون أن الدنيا دانت لهم, وأنهم يستطيعون أن يتخذوا الآخرين خولاً وعبيدًا لا ((إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال)) ـ اسمعوا ما قال هذا المفتري ـ ((إنما أوتيته على علم عندي)) أي بفهمي وبإرادتي وببصري وخبرتي ((أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته)) ـ لاحظوا الفتنة ـ ((قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم)) ـ فماذا قال الذين يريدون ثواب الله؟ ـ ((وقال الذين آتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فلم يكن له من فئة ينصرونه من دون الله)) ـ أين المال, أين الأعوان, أين النسب, أين الغرور؟ حق الحق وذهب الباطل ـ ((وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا وكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين)).القصص
يا صاحب السلطان: مالك أيها الإنسان, أنت اليوم في دفة الحكم, وغدًا إنسان طريد لا تعرف أين تأوي, تسير خائفًا تترقب, فعلاّم الغرور بالسلطان, أبين يديك من الله صك أنك لا تنزل عن هذا الكرسي؟! لئن لم تنزلك قوى الناس لتنزلنك قوة الله التي لا تغلب ولا تغالب,

هذا القرآن لا ينتفع به جبار عنيد, هذا القرآن لا ينتفع به العشائر, وأشباه العشائريين, هذا القرآن دواء نافع للإنسان الذي لا يطغى, للإنسان الذي يعرف أنه لله عبد, فإذا عرف ذلك وعرف مقام الألوهية, وأن له وحده حق الأمر والنهي أصغى بأذنيه وأصاغ بقلبه, وفتح جوارحه جميعًا للفهم عن الله والعمل بمقتضى ما أراد الله تعالى.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 48 ) الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
شبه الله سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة و الباطنة فكل عمل مرضي لله عز وجل هوثمرة هذا الكلمة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان والإيمان قولان الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل كلما رفع العمل الصالح
عبد الله

إذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء ولا تزال تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقها ومراعاتها حق رعايتها فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فيعرف حقيقة الهيئة التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله عز وجل وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتى ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كثيرا طيبا كلما يقارنه فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال تعالى
(( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ))فاطر
فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها كل وقت عملا صالحا.
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد المؤمن بها عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا واثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة من هذا الشاهد أصلها ثبات راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء.

مثل النخلة وهي مخرجة لثمرتها كل وقت مثل المومن ومن السلف من قال ذلك ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ قوله وعمله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في (( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة)) قال ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب يصعد إلى الله
وقال الربيع بن أنس (( أصلها ثابت وفرعها في السماء )) قال ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له قال أصلها ثابت قال أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء قال ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين فالمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 49 ) الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إخواني :
الشجرة الطيبة أول صفة لهاانها طيبة وذلك يحتمل عدة امور منها :
أنها طيبة المظر والصورة والشكل (( والنخل باسقات لها طلع نضيد ))ق
وثانيها كونها طيبة الرائحة وثالثها كونها طيبة الثمرة ورابعها كونها طيبة المنفعة
أصلها ثابت راسخ رسوخ الجبال باقٍ فرعها في السماء بعيدة عن عفونات الارض
عباد الله الكلمة الطيبة قد تهدي انساناً.
الكلمة الطيبة قد تغير مجتمعاً.

الكلمة الطيبة قد ينقذ الله بها قلوباً أو يعمر بها نفوساً بل قد يحيي بها الله أقواماً من السبات .
عباد الله
الكلمة الطيبة كحبة القمح المفردة قد تهمل وتذهب أدراج الرياح وقد تكون مباركة فتنبت وتثمر وقد تكون الثمرة خصبة تتضاعف وتتضاعف.
الكلمة الطيبة كلمة الحق كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة لا تزعزها الاعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل ولا تقوى عليها معاول الطغيان وإن خيّل للبعض أنها معرضة للخطر فهي سامقة متعالية تطل على الشر والظلم والطغيان من علو .
والكلمة الخبيثة كلمة الباطل كالشجرة الخبيثة قد تتعالى وتتشابك ويخيّل الى البعض أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى ولكنها تظل ضعيفةً وما هي إلا فترة ثم تجتث من قوق الارض فلا قرار لها ولا بقاء .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((إن مثل المؤمن كمثل القطعة من الذهب، ينفخ فيها صاحبها فلم تتغير. والذي نفس محمد بيده، إن المؤمن كمثل النخلة أكلت طيّبا ووضعت طيبا))
وقال صلى الله عليه وسلم ((مثل المؤمن كمثل النخلة ما أخذتَ منها من شيء نفع)). النخلة تثمر طوال السنة بلحا رطبا، والمؤمن أينما حلّ نفع، كالغيث والنخلة أغصانها وجذوعها وجريدها يفيد البلادَ والعباد، والمؤمن كله خير؛ كلامه وماله وحركته. والنخلة ترمَى بالحجر وترد بأطيب الثمر، وهكذا المؤمن يدفع الإساءةَ بالإحسان. النخلة أصلها ثابت لا يتزعزع، والمؤمن ثابت لا تغيّره شهوة ولا شبهة ولا غيرها، فهو ثابت على دينه وتقواه. النخلة فرعها في السماء، والمؤمن لا يأخذ زاده وغذاءه إلا من خالق السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن خير عباد الله الموفون الطيّبون، أولئك خيار عباد الله))

ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية ولا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنيلها ولا تعلو بلى تعلى .
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم وجده كذلك فالخسران كل الخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه.
قال الضحاك ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة و لا فيها منفعة كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان الله عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له في السماء ولا في الآخرة .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 50 ) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى ((قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)) المائدة:100
اسمع ـ يا عبد الله ـ إلى كلام العزيز الحميد الذي بيَّن لنا أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيّب، فالطيّب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل الدّركات. والله جعَل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، لماذا؟ ليميز الخبيثَ من الطيب. والله تعالى طيّب يحبّ الطيب من القول، ويحب الطيب من العمل، ويضاعفه لأصحابه. الله جل وعلا يحب الطيّبين من الناس، ويبغِض الخبيث. الله جل وعلا يرفع الطيّبَ ويبارك لأصحابه فيه.

عباد الله، هل يستوي المؤمن طيّبُ الأعمال الذي إذا رأيتَه رأيتَ عمله طيّبًا، عملَه حسنًا، عملا يحبه الناس ويحبه الله، يؤدّي فرائض الله، طيّبا في أعماله، راعيا لأمانته في وظيفته، هل يستوي هذا مع ذلك الخبيث في عمله وفعله؟! تراه لا يرعى أمانة الله، متقهقرا في الصلوات، إذا استُرعي على مال أكله، إذا استُعمل على وظيفة ارتشى وغشّ وخان، هؤلاء ولو كانوا كثيرين فهم عند الله من أخبث البشر.
إخواني
المؤمن في حياته كلها طيب، في أخلاقه طيب، في سلامه طيب، قال تعالى: ((فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) النور:61.
والمؤمن رحلته طيبة إلى الله تعالى، فإذا مات جاءته ملائكة بيض الوجوه يقولون: "اخرجي ـ أيتها النفس الطيبة ـ إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان"، قال تعالى: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ)) النحل:32.
تتوفاهم الملائكة طيبة نفوسهم بلقاء الله فهم بعيدين عن الكرب وعذاب الموت يقولون سلام عليكم طمأنةً لقلوبهم وترحيباً بقدومهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون تعجيلا لهم بالبشرى وهم على أعتاب الاخرة جزاءً وفاقاً على ما كانوا يعملون
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 51 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأحمد: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، ذلك لأن محكمة الحقوق في الآخرة يقام فيها العدل على أكمل وجه، فيقتص للمظلومين جنا وإنسا وعجماوات من ظالميهم سادة كانوا أوعامة.

وإذا كان عدوان الشاة على الشاة يستدعي القصاص يومئذكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ )- مسلم وأحمد والترمذي-،
ومنع امرأة هرتها الماء والطعام يدخلها النار (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ )- البخاري ومسلم-، وقطع شجرة نافعة لغير مصلحة يستوجب تصويب رأس القاطع في النار(قاطِعُ السِّدْرِ يُصَوِّبُ اللهُ رَأْسَهُ في النار) - رواه البيهقي في الكبرى وحسنه الألباني _
عبد الله
فما بالك بمن يظلم أخاه الإنسان، مؤمنا كان أو غير مؤمن، من أي ملة أو دين أو مذهب؟ بل ما بالك بمن يظلم أولياء الله تعالى من الدعاة والصالحين والآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر؟
إن ميزان الآخرة منضبط على معيار واحد يميز العدل من الظلم(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) غافر 17، عدل ينجى وظلم يركس في الجحيم. لذلك ورد الأمر بالعدل والتحذير من الظلم قرآنا وسنة في سياقات كثيرة، وبأشد الصيغ دقة ووضوحا ، يقول تعالى:
( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) -الأنعام 82-.
- ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) - الصافات 22،23-.
- ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) - النحل -90.

- ويقول فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا )- مسلم وأحمد والترمذي-.
إن التحريم الصارم للظلم مبعثه العدل الإلهي المطلق والرحمة الربانية الشاملة، لأن الظلم مصدر كل رذيلة ومنبع كل شر، وما الفساد إلا بعض نتائجه( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) -البقرة 205-،
وقد استعمل لفظ " الظلم" في الشريعة لثلاثة أصناف تدور كلها بين الكفر والكبائر هي:
ظلم بين المرء وبين الله تعالى وأعظمه الكفر والشرك والنفاق(يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) - لقمان13-،( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) - البقرة258-.
ظلم بين المرء وبين الناس(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)- الشورى42
ظلم بين المرء وبين نفسه(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)- فاطر32
والأصل في هذه الأصناف كلها ظلم النفس، إذ كل ظالم في حقيقة الأمر ظالم لنفسه وكل محسن محسن إلى نفسه قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) -فصلت46-، وقال جل وعلا (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) - النحل118-.
إن الظلم سلوك خاطئ منحرف، ومرآة تكشف عمق الفساد في نفسية صاحبه وسوء مخبره، لذلك اشتد غضب الله تعالى عليه وتوعده بالعقاب الأليم فقال:

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) الكهف29.
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الزمر24.
ولعل معترضا يقول: هذا عقاب الظالم فما بال الجندي وهو مأمور والساكت المستضعف وهو مغمور؟ والجواب أن ميزان العدل لا يفرق بين السيد والمسود والتابع والمتبوع والفاعل والمعين على الفعل، فكلهم شركاء يجمعهم المصير الواحد(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ) الأعراف38. لأن الظالم لابد له من قوة تعينه على الظلم وجند يحمونه عند ممارسته، وهتافين يشجعونه عليه، وراضين رغبا ورهبا أو استخذاء واستضعافا؛
إن دولة الظلم لابد لها من أركان ، وأركانها الظالم وحاشيته وأعوانه والراضون بحكمه والمستخذون بين يديه؛ فإن فقدت هذه الأركان لم تقم للظلم دولة ولا للظالمين صولة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 52 ) ولا تحسبن غافلاً عما يعمل الظالمون
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إنّ الظلم يتمثل في صور شتى ويتشخص في أصناف من الناس كثيرة، منهم من أخذهم الله بعذاب الدنيا والآخرة ممن ذكرهم الوحي قرآنا وسنة ، ومنهم من يعاصرنا ومنهم من يأتي بعدنا:
منهم الحكام المتألهون، والأغنياء المستكبرون والتجار المطففون والفساق السابقون والمعاصرون من قوم عاد ولوط وصالح.

ومنهم ظالم أبويه بإهمالهم أو الإساءة إليهم، وظالم أرحامه بالتقصير في حقوقهم أو التخلي عنهم أو الإضرار بهم.
ومنهم ظالم زوجته في عرضها بالنظر إلى غيرها بما لا يجوز، وظالمة زوجها في عرضه بالنظر إلى غيره بما لا يحل.
ومنهم الظالم لقومه أو قبيلته أو عرقه بالتعصب لهم وإعانتهم علي الباطل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إذ سئل ما العصبية؟: (أن تعين قومك على الظلم)- المعجم الكبير-.
ومنهم من يظلم المسلمين عامة بعدم النصح لهم، أو عدم نصرتهم أو بخيانتهم والتنكر لهم.
ومنهم من يظلم الإنسانية عامة بالتقصير في واجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومنهم الدول المسلمة الظالمة التي لا تقيم العدل فيسلط الله تعالى عليها عدوها ولو كان مشركا، كما هو حال أمة موسى عليه السلام التي سلط عليها بختنصر الوثني، والمسيحيين إذ ظلموا فسلط عليهم جبابرة عبدة أصنام أذلوهم وغيروا دينهم، وحال دول المسلمين الظالمة حاليا وقد هزمت أمام مجوس الهند في باكستان، وصهاينة بني إسرائيل في فلسطين، وعباد الوثن في السودان وعباد الصليب في العراق..، قال تعالى:( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) الأنبياء11,
كما أن منهم الذين يخذلون الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدين في سبيله والمعتقلين والمهاجرين والشهداء، بالتخلي عنهم وإهمال أسرهم وذرياتهم وعدم الدفاع عنهم ؛ فإن بلغ الأمر إلى أكل لحومهم والشماتة بما أصابهم أو أصاب ذرياتهم، أو القيام بالتجسس عليهم وقذفهم، أو السعي لإطالة محنتهم، كان ذلك أقرب إلى أعظم الظلم الذي هو محاربة الله ورسوله بمحاربة أوليائه ودعاة دينه، وهذا ما عبر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي الذي رواه عن رب العزة قال((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ))- البخاري -.

و الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحذر المؤمنين من الظلم ويحضهم على اتقائه، ويقول: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ) - البخاري-وقال صلى الله عليه وسلم ،( ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ )- الترمذي-.وقال (دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ) - أحمد-.
وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من دعوة المظلوم جهرا أمام المسلمين تعليما لهم بقوله عند الخروج للسفر والعودة منه:( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) - النسائي-.
كما أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من نفسه القدوة، فأبرأ ذمته من حقوق الخلق، في مرض موته فيما رواه البخاري، إذ خرج متكئا على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ ، حتى جلس على المنبر ، وكان مما خطب : ( أما بعد أيها الناس ، إنه قد دنا مني خلوف من بين أظهركم ، ولن تروني في هذا المقام فيكم … فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ، ومن أخذت له مالا ، فهذا مالي فليأخذ منه ، ولا يخش الشحناء من قبلي ، فإنها ليست من شأني … ).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 53 ) ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
ستكون لنا وقفات مع سورة الإنسان. ففيها تذكير وعظات ،وتخويف وذكر للجنات.
يقول الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنَّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)). هذه السورة شأنها الإنسان تذكر حاله ومآله ،وكيف كان وأين كان يقول سبحانه: ((هل أتى على الإنسان. . ))أجاء هذا الوقت ،أكان الإنسان في وقتٍ من الإوقات معدوماً ،غير مذكور ،كان عدماً محضاًً ليس بشيء ،أجاء هذا الوقت عليه ،نعم جاء، فلقد كان الله ولا شيء معه ،كان الله ولم يكن قبله شيء ،هو الأول والآخر ،وأنت أيها الإنسان كنت عدماً في ذلك الوقت ،لم تكن شيئاً مذكوراً ،ولهذا الاستفهام ههنا: ((هل أتى على الإنسان. . ))قال العلماء: هل ههنا بمعنى: قد ،يعني أنه قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، قل لي بربك أنت ،أنت أيها الإنسان الذي أمامي الآن إذا كنت عدماً ولم تكن شيئاً في ذلك الزمن ،فقل لي: من شفع لك عند الله في ذلك الزمن - قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - عندما كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم ويوجدهم ،قل لي بربك:من شفع لك في ذلك الزمن حتى يكتبك الله في أهل الإيمان والإسلام ،ولم يقدر عليك الكفر والضلال ،وفقك للسنة وأبعدك عن البدعة ،جعلك من أهل التوحيد ولم تكن من أهل الشرك.
أيها الإنسان - يا من كنت عدماً - من شفع لك وأنت غير مذكور ولم تكن بعد شيئاً ،إنها رحمة الله بعبده ،قال صلى الله عليه وسلم: ((وإن الله خلق خلقه في ظلمة ،فألقى عليهم من نوره ،فمن أصابه من ذلك النور يومئذٍاهتدى ،ومن أخطأه ضل)) [رواه الحاكم وسنده صحيح].

وهذا لعلمه بهم سبحانه وتعالى وقدرته بخلقه. ثم بعد ذلك خلقك؟ وبم خلقك؟ ولماذا خلقك؟ وماذا جعل لك من الأدوات حتى تحقق غاية الخلق؟ قال: ((إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً)) خلقك من نطفة ،وكثيراً ما يذكر الله الإنسان بأنه خلقه من نطفة بعد أن لم يكن شيئاً ،حتى يتذكر ويعلم لماذا خلق ولماذا أوجده الله ((أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)) وهل من نطفة فحسب؟ لا ، بل من نطفةٍ أمشاج: يعن أخلاط ،من نطفة الذكر والأنثى ،ولماذا هذا الخلق من نطفةٍ أمشاج. قال: ((نبتليه)) إذن الله خلقك وأوجدك ليبتليك بالعبادة والطاعة والمعصية. ليس للابتلاء بهموم المعاش وهموم وغموم الدنيا ،لا ،فإن هذا تشترك فيه كل المخلوقات ،أمَّا الإنس والجن فخلقهم الله للابتلاء بعبادته ،ليعلم من يعبده ممن لا يعبده ((نبتليه)) نختبره ولهذا قال: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)) وبين الغاية من الخلق ووضحها وأنها للعبادة فقال: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) قال سبحانه: ((يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا)) (يعني: حقاً) ((بل تكذبون بالدين)).

فيا أيها الإنسان: لمَّا خلق الله الخلق لغاية كان لابد أن يرسل إليهم رسلاً وأنبياء ،لابد من نزول الوحي ،ولابد من تفصيل الشرائع والأحكام!! وكيف يعلم الإنسان هذه الأمور؟ إنه عدم محض ،ليس شيء ولا شيء ولا فيه ولا منه شيء ،لهذا قال الله: ((نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً)) جعل له السمع والبصر حتى يهتدي بهما حتى يعبد الله بهما لا يعبد الشيطان والهوى بهما ،فمن الناس من سخر هذه الأدوات: السمع والبصر ، الأيدي والأرجل ،التفكير والعقل ،الأحساسيس والمشاعر ،منهم من سخرها لعبادة هواه لا لعبادة الله ،فلا يقرأ القرآن ،وتجده يتلو قرآن الشيطان الغناء ،ولا ينظر في المصحف ببصره ،وينظر في الحرام ببصره ،ولا يسمع الهدى وكلام الرحمن ويسمع مزمار الشيطان ،فيا أيها الإنسان: أنت أنت يا من تسمع وتبصر ،في ماذا تستخدم سمعك وبصرك في يومك وليلتك. هل انتبهت لماذا أعطاك الله السمع والبصر ،هل عبدت هواك بهما أم عبدت الله بهما. فيا أيها الإنسان: الذي حرم الآخرين من السمع والبصر أليس هو قادراً أن يحرمك أنت أيضاً وتحاربه فاتق الله يا عبد الله.

ثم يقول سبحانه عن هذا الإنسان: ((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كافوراً)) هديناه هداية الدلالة والارتقاء والتبيين ،وضح له من حيث هو إنسان ،فلم يمنع الله الإنسان من الهداية:هداية الدلالة والتبيين والتوضيح ،وضح له السبيل ،وطريق الجنة والنار. ((إنا هديناه السبيل)) إما شقي وإما سعيد ،إما شكور وإما كفور ،فقال صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو ،فبايع نفسه فموبقها أو معتقها)) كل الناس - وأنت منهم - أيها الإنسان يغدو في دنياه يحيى ويعيش ويتمتع ويلهو ،يغدون ويروحون ولكن هم قسمين:فبايع نفسه فموبقها، يعني مهلكها بأن يختار الضلال على الهدى ،وقسم يغدو ولكن: يعتق نفسه ،يعتق نفسه من عبادة هواه ويعبدها لله ،ويختار الهدى على الضلال ،فهو يرى الرسل قد أرسلت ،والجنة والنار قد خلقت ،والجحيم سعرت، والجنة أزلفت والناس درجات في الجنة أو دركات في النار ،فيتأمل في غدوه ورواحه فلا يختار إلاّ الهدى والإيمان.
أيها الإنسان: وبعد هذه اللفتات في أول السورة ،يبدأ في بيان أحوال الشاكرين المؤمنين من الناس ،ويبين أحوال الكافرين الضالين. ويبين الله ما لكل فريق من الناس من الجزاء ،ومن النعيم أو العذاب ،فهم ما بين درجات الفردوس الأعلى ،ودركات في النار السفلى. يقول بعد ذلك سبحانه: ((إنا أعتدنا (أي أعددنا) للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً)) وبعد هذا يذكر حال ذلك الإنسان الذي آمن واهتدى وأعتق نفسه من رق العبودية لغير الله فيقول سبحانه:

((إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً متكئين فيها على الآرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً ويطاف عليه بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضة قدروها تقديراً ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً عيناً فيها تسمى سلسبيلاً ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثَمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إنَّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً)).
شتان بين مصير ذلك الإنسان الذي اختار الضلال وبين ذلك الإنسان الذي اختار الهدى ،شتان بين من اتبع الهوى وختم الله على قلبه وسمعه وبصره وبين من كان على نور من ربه ،بربه يسمع وبه يبصر ،وإليه يسعى ويحفد يرجو رحمته ويخشى عذابه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 54 ) إنَّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :أيها الإنسان:انظر إلى عذاب الكافر: ((إنَّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً)) أعد الله لهم سلاسلا ،يسحبون بها في النار. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم ثم في النار يسجرون)). قال تعالى: ((وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه (إن هذا الإنسان) إنه كان لا يؤمن بالله العظيم)). قال تعالى: ((هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق))
ذق أيها الإنسان يا من كفرت وتجبرت ،يا من لا تصدقت ولا صليت ،ولا حججت ولا تزكيت ،ذق أيها الإنسان يا من سمعت بالهدى، فاستحببت العمى. الأمر كأنه لا يعنيك وترى حالك التي أنت فيها أنها تكفيك. . . ويلك آمن أيها الإنسان فإن الأمر إما جنة نعيم أو نارٌ وجحيم ،اللهم اجعلنا ممن تبع هداك وآمن بك وقدم لنفسه وآخر ،وممن تعلم وتعبد وسعى وأحفد.

فهذا هو حال الإنسان الكافر ،جحيم ونار من حميم ،وسلاسل وأغلال وعذاب ووبال. وأمَّا حالُ الإنسان المؤمن ،فهو فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ((إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً)) يشربون من كأس خمر لذةٍ للشاربين. هل تعلمون ما معنى: ((يفجرونها تفجيراً)) عجب وأي عجب: يعني يفجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاؤون ،ويتبعهم ماؤها إلى كل مكانٍ يريدون وصوله إليه. قال مجاهد: ((يفجرونها تفجيراً)) يعني يقودونها حيث شاؤوا حيث مالوا مالت معهم. هذا شيء من نعيم الأبرار ،شيء من نعيم ذلك الإنسان الذي سمع الهدى فاهتدى، والتزم به وترك الضلال ،هذا شيء من نعيم ذلك الإنسان الذي علم لم خلق؟ وما هي الغاية من ذلك؟ فالتزم واهتدى بهدى الله ونوره ،ويهدي الله لنوره من يشاء ،ما هي صفات هؤلاء الأبرار ما هي صفات هؤلاء الناس في الدنيا التي بها فازوا حيث خسر بقية الناس يوم القيامة؟ تعال وردد الآيات واستمع لها حتى تعلم أيها الإنسان أأنت منهم ،أم أنك مخدوع في نفسك؟ يقول سبحانه: ((يوفون بالنذر)) (هذه واحدة) ((ويخافون يوماً كان شره مستطيرا)) (هذه الثانية) ((ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)) (هذه الثالثة).

يوفون بالنذر مع أن النذر هم أوجبوه على أنفسهم ،النذر ليس واجباً عليهم، ولكنهم إذا نذروا وفوا ،وإذا كان هذا في الواجبات التي ألزموا أنفسهم بها فكيف بالواجبات التي افترضها عليهم ،كيف بالصلوات ،كيف بالأوامر الشرعية ،كيف امتثالهم للآمر والناهي سبحانه وتعالى، هذا من باب أولى أنه عظيم ،بل إنهم ليجيئون بهذه الأوامر ويتركون النواهي وهم يخشون ألا يقبل الله منهم شيئاً ،لم يحسنوا الظن أبداً في أنفسهم. قال سبحانه: ((والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)) قالت عائشة: يا رسول الله الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة: هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل الله منه)).
ومن صفاتهم المذكورة في الآيات: ((ويخافون يوماً كان شره مستطيراً)) شره منتشر مستيطر ،لا يسلم منه أحد. ((إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم)) فمن رحمة الله في ذلك اليوم وقاه الله شر ذلك اليوم.

ولهذا قال الله عن المؤمنين لما خافوا ذلك وأصابتهم الخشية والوجل منه ((فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً)) بينما ذلك الإنسان الذي لم يتبع الهدى يوم يرى الملائكة ((لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً ويوم تشقق السماء بالغمام (بالسحاب) ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذٍ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً)). ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً وأمَّا من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ويصلى سعيراً إنه كان في أهله مسروراً)). ألهته الدنيا فعبد نفسه وهواه ،وترك عبادة الله. .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 55 ) والفجر وليال عشر
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول عز وجل: ((والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر)) خمسة أقسم الله سبحانه وتعالى بها, بدأ بالفجر, والله سبحانه وتعالى حين يقسم بشيء فإنما ليبين لنا عظم هذا الشيء, قال عز وجل: ((والفجر)), والفجر هو الصبح كما هو معروف, قال ابن عباس وعكرمة وغير واحد من المفسرين: "هو انفجار النهار من ظلمة الليل" وعلى الراجح من أقوال العلماء المفسرين أن هذا الفجر هو فجر يوم النحر, هو فجر يوم الحج الأكبر, يقسم الله عز وجل به لعظمه, ولأن المسلمين يفعلون فيه كثيرًا من مناسكهم في المشاعر المقدسة, هذا هو الراجح, وذلك لأن الله عز وجل قرن هذا الفجر بالليالي العشر, وهي التي على الراجح عشر ذي الحجة.
وأقوال المفسرين في قوله تعالى: ((وليال عشر)) منحصرة في ثلاثة أقوال: عشر ذي الحجة, والعشر الأول من محرم, والعشر الأواخر من رمضان, والأقرب هو القول أن العشر هي عشر ذي الحجة, وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذه العشر, ونحن مقبلون عليها, وما كانت هذه العشر مختصة بهذه الفضيلة إلا لحكمة بالغة, ومن تلك الحكمة البالغة أنه لما كان الله عز وجل قد غرس في نفوس المسلمين حنينًا وشوقًا على بيت الله الحرام, وإنه لما كان كثير من الناس لا يفدون إلى البيت الحرام للحج في كل سنة وقد جعل الله عز وجل الحج مرة واحدة في العمر, جعل الله عز وجل عشرًا من ذي الحجة يستوي فيه السائرون والقاعدون ينال فيه السائرون والقاعدون أجرًا عظيمًا, فإذا كان قد فاته الحج إلى بيت الله الحرام فإنه في العشر يعمل في بيته بعمل يفوق الجهاد في سبيل الله الذي هو أعظم من الحج المبرور كما ثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم حين سأل عن أفضل الأعمال فقال: ((إيمانٌ بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).

وقد ثبت فضيلة هذه الأيام العشر في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني: عشر ذي الحجة. فقالوا: يا رسول الله, ولا الجهاد في سبيل الله؟ ـ وذلك لما ارتسم في أذهانهم من عظم الجهاد في سبيل الله تعالى ـ قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
وقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يعظمون ثلاثة أعشار من السنة: عشر ذي الحجة, والعشر الأواخر من رمضان, والعشر الأوائل من المحرم, وفي هذا الحديث دليل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل قد يكون خيرًا من الفاضل عند الله عز وجل, فهذه الأعمال التي تعمل في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله لخصوصية هذه الأوقات والأيام, وذلك فضل من الله ونعمة, فكثير من المسلمين في آفاق الأرض لا يستطيعون حج بيت الله الحرام, فجعل الله عز وجل لهم هذه العشر كي يعملوا فيها الأعمال المعتادة, فعلى المرء أن يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن في هذه العشر التي ستقبل علينا, وأن يكثر من نوافل الصلاة, وأن يكثر من نوافل الصدقة والصيام, وخاصة صيام يوم عرفة لغير الحاج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية, فذلك فضل من الله تعالى ونعمة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 56 ) ((والشفع والوتر....الايات ))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال سبحانه: ((والشفع والوتر)), أقسم الله تعالى بالشفع وأقسم بالوتر, وهذه الوتر أو تلك الشفع اختلف المفسرون في تأويلها وتفسيرها.
فمن قائل: أنها يوم النحر؛ لأنها اليوم العاشر, والوتر هو يوم عرفة؛ لأنه اليوم التاسع.

ومن قائل: الشفع هو الخلق, والوتر هو الله سبحانه وتعالى, وهذا القول وجيه وجيه, وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ـ والحديث في الصحيحين ـ: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة, والله وتر ويحب الوتر)) وفي رواية: ((إن الله وترًا يحب الوتر, فأوتروا يا أهل القرآن)) وهذا وجيه وذلك أن كل المخلوقات شفع, والله سبحانه وتعالى وتر حتى الحصاة التي ظنها البعض أنها وتر فهي في الحقيقة شفع, فعرفنا في زماننا أن كل شيء يتكون من جزئيات, وأن الجزئيات تتكون من ذرات, حتى الماء الذي ظنناه شيئًا واحدًا متكتلاً يتكون من جزيئين فما وصل إلى درجة الغليان تجزأ إلى اثنين, وإذا كان في درجة مؤتلفة من الحرارة بقى على ما هو عليه.
وصدق عز وجل حين قال: ((ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)), والله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين اثنين ليبقى سبحانه وتعالى واحدًا وترًا.
((والشفع والوتر والليل إذا يسر)) يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا سرى وقيل: الليل لا يسري ولكنه يُسرى فيه, فنسب الفعل إلى الليل, وهذا من البلاغة القرآنية, ((والليل إذا يسر)) وقال بعضهم هو ليل جُمَعٍ, أي هو ليل المزدلفة, وثبت عن بعض الصحابة أنه كان يقول أسر يا ساري فلا تبيتن إلا بجُمَع, أي فلا تبيتن إلا في المزدلفة, وعلى كلٍ فالليل من نعم الله سبحانه وتعالى, والله خلق الليل ليكون لنا لباسًا, وهذا منه سبحانه نعمة.
((والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر)), أي هل فيما مضى من القسم عدة لذي لب وعقل وسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع الإنسان مما لا يليق به من الأقوال والأفعال, ومن ذلك قالوا: حجر الحاكم عليه إذا منعه من التصرف بماله, قال سبحانه وتعالى: ((هل في ذلك قسم لذي حجر)).

هل نتعظ بذلك القسم الذي من الله سبحانه وتعالى فنراعي الفجر, ونراعي الأيام العشر, ونراعي خلق الله تعالى, ونراعي الليالي التي نعصي الله فيها ((0هل في ذلك قسم لذي حجر)) لذي لب وعقل هل ينتبه المنتبهون؟ هل ينتبه العقلاء الفطنون أن الله سبحانه وتعالى ما جعل الليل والنهار إلا لكي نعبده, ما جعل الله الليل والنهار خلفة إلا لكي نتذكر ما جعل الليل والنهار, إلا لكي نصلي ونصوم ((ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) ((هل في ذلك قسم لذي حجر)).
وهذا القسم من الله سبحانه وتعالى محتاج إلى مقسم عليه, فأنت إذا قلت والله, وتالله فإنك تقسم لاشك على شيء فتقول والله لأفعلن, أو والله إن فلان لقادم, ونحو ذلك من الأقوال, فأين المقسوم عليه؟
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 57 ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد....الايات
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال سبحانه وتعالى: ((ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلف مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب )), يحكي الله تعالى عن أكبر الجبابرة, وأعتى المفسدين في الماضي, وهم عاد وثمود وقوم فرعون, يحكي الله سبحانه وتعالى لنا قصتهم, ((ألم تر كيف)), ألم تعلم يا محمد, ألم تعلموا أيها التالون لكتاب الله ((كيف فعل ربك بعاد)), وعاد, وعاد الأول هي التي أهلكها الله سبحانه وتعالى, والتي ذكرها في غير ما موضع, وعاد هي عاد إرم والتي تنتسب إلى عاد ابن ارم, ونسبها ينتهي إلى نوح عليه السلام, تسكن في جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وحضرموت في مكان يسمى بالأحقاف لكثرة الكثبان الرملية فيها, وكانوا من أعتى القبائل, ومن أشدهم بطشًا, وكانت لهم تركيبة جسمية هائلة كما قال المؤرخون فأسكنهم الله عز وجل الجبال وزادهم في الخلق بسطة, وذلك من بعد نوح عليه السلام, فما شكروا نعمة الله عز وجل, وإنما علوا واستكبروا, (وأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ألم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) فأرسل الله عز وجل لهم هودًا يذكرهم فقال لهم: (واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين), (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون).

فكذبوه وعاندوه, ويذكر الله سبحانه وتعالى لنا قوتهم حتى نعلم نحن الضعفاء بأننا لا نقوى على محاربة الله عز وجل ولا نقوى على عصيانه وغضبه وسخطه قال سبحانه: (إرم ذات العماد) قيل: خيامهم الذين كانوا يرتحلون فيها, وقيل: هي أجسامهم التي كانت كالعمد, وقيل: هي مملكتهم التي كانت ذات أعمدة عظام, فيذكر الله سبحانه وتعالى لنا هذه القوة, والراجح أن المراد بذات العماد هي مملكتهم التي كانوا يسكنونها ويقتنونها (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) هي القبيلة على الراجح التي لم يخلق مثلها في أشكال أفرادها, وفي قوتهم, وفي تركيباتهم الجسمية, لم يخلق مثلها في البلاد في زمانهم, فكانوا أقوياء أشداء, وكانوا يغيرون على القبائل الأخرى فينهبونهم ويسلبونهم ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) أي جابوا الصخر ونحتوه كما قال عز وجل عنهم: (وينحتون من الجبال بيوتًا فارهين) يخرقون الجبال فيجعلونها مغارات ومساكن, انظروا إلى مساكنهم في وادي القرى في مدائن صالح, فالجبل قد تحول إلى قصر, والجبل قد تحول إلى مغارة, وذلك من قوتهم وعظمتهم.
((وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذو الأوتاد)) صاحب العمد العظيمة, كان يتخذ أوتادًا وعمدًا يربط فيه الناس فيجعل على ظهر الواحد بعد أن يربطه ويمده مدًا فيضربه بصخرة, أو رحى فيموت على ذلك, أو يجعل على أطراف الرجال أعمدة ثم يأمر بالخيل فتجر هذه الأعمدة فيتقطع الرجل أوصالاً.

((وفرعون ذي الأوتاد)) وقيل الأوتاد هي تلك البنايات العظيمة التي خلفها الفراعنة التي هي الأهرامات, ((الذين طغوا في البلاد)) اشتركوا في هذا أنهم جميعًا طغوا, والطغيان يؤدي إلى الفساد؛ لأن المرء إذا طغى حسب نفسه أعظم مما هو عليه, وانتقل من مكانة العبودية إلى مكانة الألوهية كما قال فرعون: ((ما علمت لكم من إله غيري)), ((أنا ربكم الأعلى)) ((طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد)) من الشرك بالله, ومن قتل العباد وسفك الدماء فأكثروا فيها الفساد, فهل كان الله عز وجل عنهم غائبًا؟ بل كان عز وجل عليهم شاهدًا حاضرًا فقال سبحانه وتعالى: ((فصب عليهم ربك سوط عذاب)) انظر إلى هذا التعبير القرآني, صب, أرسل الله عز وجل عليهم العذاب طغيانًا كما أنهم طغوا وتكبروا, سوط عذاب, عذاب لازع فجمع الله عزوجل كثرة العذاب مع أمله وشدته ((فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد)) إذا قال القائل قد أهلك الله عز وجل عاد بالريح الصرصر العاتبة, قال سبحانه وتعالى: ((الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية)) هؤلاء هم ثمود وعاد, أما فرعون ((وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)) ((فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا)).

إذا كان هذا عذاب الأمم الماضية, فماذا عن أحوال الأمم الآتية؟ وماذا عن الأمم الذين في زماننا الذين يسومون المسلمين سوء العذاب في البوسنة والهرسك, في بلاد الهند, وفي بورما وأرتيريا, وفي فلسطين, ماذا لليهود؟ وماذا للبوذيين, وماذا للسيخ وماذا للنصارى الصليبين, قال سبحانه وتعالى: ((إن ربك لبالمرصاد)), فالله سبحانه وتعالى يرصد أعمالهم كما قال ابن عباس, يرصد خلقه فيرى أعمالهم خيرها وشرها ثم يحاسبهم بعد ذلك سبحانه وتعالى ((ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 58 ) ((إن ربك لبالمرصاد))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن الله سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه: ((إن ربك لبالمرصاد)) يرصد الأعمال فلا يعذب أحدًا بغير ذنب, إنما يستعمل الله تعالى عدله فقد حرم على نفسه الظلم, أما الإنسان فإنه يظلم نفسه, ويجور فيما هو فيه, ولذلك قال سبحانه وتعالى عن الإنسان الجائر الظالم: ((فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن)) إذا جاءه النعماء من كل جانب وأرسل الله عز وجل عليه خيرات الأرض, وكان في سعة من الولد والمال والأهل والعشيرة والبلد فإنه يغتر ويظن أنه مكرم عند الله عز وجل ونسى أن الله عز وجل يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين والآخرة إلا لمن يحب.

((فيقول ربي أكرمن)) وعزني فلولا ما أنا فيه من الخير لما فجر الله لي خيرات الأرض ولما كنت أغنى من غيري, فإني مكرم وأنا على طاعة, ونسمع هذا من كثيرين يقولون: نحن على طاعة ولذلك فإن الله أعطانا هذه الأموال وجعلنا في أمن وأمان, ونسى هؤلاء أن الله يمكن أن يستدرج بالنعماء ((فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن)), والبلاء يمكن أن يكون بالنعماء, ويمكن أن يكون بالضراء ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة)) ((وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه)) فقدّر أي ضيق عليه رزقه.
وأما إذا ما اختبره وامتحنه فضيق عليه رزقه فجاءه المصيبة من كل مكان وجاءت البلايا وهو في طاعة وخير ((فيقول رب أهانن)) وليس الأمر كذلك فليس في سعة الرزق دليل على المكرمة, وليس ضيق الرزق دليل على المهانة, وإنما الله سبحانه وتعالى يقسم الأرزاق بين العباد ((فيقول رب أهانن كلا)) أي ليس حقًا أو ردع وزجر لهذا الإنسان الذي يظن هذا الظن ((كلا)) أيها الإنسان الذي تظن أن الله يمنعك عنك المال لأنه أهانك أو يعطيك المال لأنه أعزك وأكرمك ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)).

في الحقيقة أنتم إذا جاءكم المال لا تستعملون هذه الأموال فيما أباح الله ولا تضعون هذه الأموال في حقها ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)) يمر أحدكم بماله على اليتامى فلا يتصدق عليهم ولا يبحث عن اليتامى فينفق عليهم ((كلا بل لا تكرمون اليتيم)) ذلك الذي فقد أباه وأصبح بحاجة إلى من يعوله ((ولا تحاضون على طعام المسكين)) أي لا يوصي بعضكم بعضًا بالإطعام, وإنما ترى بعض الناس يوصي بعدم الإطعام فإذا أراد أن ينفق أحد من الناس أو إذا دعى بعض الناس الناس للإنفاق أحجموا ومنعوا وصدوا عن الإنفاق في سبيل الله تعالى, لا يحض بعضكم بعضًا على طعام المسكين, لا يأتي أحدكم إلى أخيه فيقول: يا فلان هناك مسكين في مكان كذا وكذا, وهناك محتاج, وهنا مسلمون يتضجرون جوعًا فأنفق من مالك, وإنما يتحاضون على الإمساك والشح وعلى البخل ((ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لمّا وتحبون المال حبًا جمًا)) يجمع من هنا وهناك فيأتي إلى الميراث إلى ميراث الضعفاء واليتامى الذين لا قدرة لهم فيحوي هذا الميراث بغير حق, يجمعه, يلمّه لمّاً من كل جهة, فلا يلتفت إلى حرام أو إلى حلال, ويضع أمواله في البنوك الربوية يقول ربي أكرمني.((وتأكلون التراث)) أي الميراث ((أكلاً لمًا وتحبون المال حبًا)) جمًا حبًا طاغيًا كثيرًا
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 59 ) كلا إذا دكت الأرض دكًا دكًا.....الايات
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول سبحانه وتعالى: ((كلا إذا دكت الأرض دكًا دكًا وجاء ربك والمَلك صفًا صفًا)) جاء ربك لفصل القضاء والملائكة من حوله تحف بعرشه سبحانه وتعالى في موكب عظيم رهيب يقدم الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء ((وجئ يومئذ بجهنم)) لها سبعون ألف زمام, لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ((وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان)) الإنسان الذي كان يظن أن كثرة ماله دلالة على إكرام الله له, الإنسان الذي مات وهو يحسب بأنه قد أحسن صنعًا عند الله وبأن له الفردوس الأعلى, وبأن له الجنة, وبأنه لن يعذب أبدًا, هذا الإنسان إذا رأى الجحيم, إذا رأى الله عز وجل قد قدم لفصل القضاء ورأى جهنم تزفر فإنه يتذكر تفريطه ومعاصيه واحدة واحدة لأن الأعمال تعرض عليه منسوخة ((إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)) يتذكر وهل تنفع الذكرى, لا والله, قد مضى عهد الذكرى, كان عهد الذكرى في الدنيا ((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)).

هذا في الدنيا أما في الآخرة, فكل إنسان سواء كان بارًا أو فاجرًا يتذكر, ((وأنى له الذكرى)) وكيف تنفعه الذكرى وماذا ستنفعه هذه الذكرى ((يقول يا ليتني قدمت لحياتي)) ليتني عملت عملاً أدخره لهذا اليوم فهذا اليوم هو الحياة, وقد ظننت أن الحياة هي الدنيا ونسيت أن الدار الآخرة هي الحيوان, هي الحياة الحقة, ((وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعملون)) يا ليتني قدمت لهذه الحياة الأبدية ((فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد)) يوم القيامة لا يعذب عذاب الله سبحانه وتعالى أحد, لا يستطيع أحد أن يعذب كعذاب الله, فعذاب الله سبحانه وتعالى قمة في الألم, وقمة في العذاب كما أن نعيمه سبحانه وتعالى قمة في السعادة ((لا يعذب عذابه أحد)) هل يستطيع أحد ممن يعذبون العباد في الدنيا أن يجعلوا لمعذبيهم جلودًا غير جلودهم, هل يستطيع أحد ممن يعذبون في الدنيا أن يعذب أحدًا عذابًا شديدًا على مدار الحياة كذلك العذاب الذي في الآخرة ولا يموت, هل لأحد من أهل الدنيا الذين يعذبون العباد بغير حق يمتلك نار كنار الله سبحانه وتعالى؟ لا والله الذي لا إله إلا هو, ((فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد)) ولا يستطيع أحد في الدنيا أن يوثق وثاق الزبانية زبانية العذاب الذين على جهنم ((خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه)) هل يستطيع أحد أن يفعل هذه الأفعال,

((فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك)) نداء إلى النفس الطيبة الطاهرة, نداء إلى هذه النفس التي صبرت في الدنيا ((ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)) أي أيتها النفس المطمئنة, دعوة من الله سبحانه وتعالى لنفسك الطيبة أن تدخل في عبادة الله أن تكون عبدًا لله تعالى, فكثير من العباد ينسون أنهم عبيد لله يتصرف في الدنيا وكأنه سيد على ماله, وكأنه سيد في هذا الوجود, ونسى أنه عبد لله ((فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)) فإنه من دخل في عبادة الله دخل جنة الله تعالى, روى الهروي بسنده عن رجل يقال له ابن أبي هاشم قال: أُسرت في بلاد الروم فجاءنا الملك, ملك الروم فأمرنا أن نرتد عن ديننا فارتد ثلاثة وكنت منهم وجيء بالرابع فطلب منه أن يرتد فأبى فقطع رأسه ورمي في النهر فغاص رأسه بالدم في النهر حتى رسب ثم صعد وتكلمت الرأس فقالت: يا فلان, ويا فلان, ويا فلان يناديهم بأسمائهم ((يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)) فاضطربت النصارى وسقط كرسي الملك وكادت النصارى أن تسلم وعاد الثلاثة إلى الإسلام, وجاء الفداء من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 60 ) يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال الله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)) الحجرات 1.نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب . واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به , وتشعرهم بأنهم له , وأنهم يحملون شارته , وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده , وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده , وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم , فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا , وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره , يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم , ويسلم ويستسلم:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله , واتقوا الله إن الله سميع عليم)
يا أيها الذين آمنوا , لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحا , لا في خاصة أنفسكم , ولا في أمور الحياة من حولكم . ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله , ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله .
وقد قرن الله عزّ وجل في هذه الآية نفسه برسوله عليه الصلاة والسلام ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ الوحيد عن ربه ، ونبّه المؤمن إلى أنه دائماً في حضرة ربه (( وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير)) الحديد 4 ، وعليه احترام الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد لأوامره ؛ لأن ذلك من صميم تقوى الله وهذه التقوى تقتضي الالتزام بأمور منها :
عدم تقديم رأيه على أوامر الله ورسوله في الكتاب والسنة ، فلا يقول ولا يقضي في الدين بخلاف ما تنص عليه الشريعة ، ولا يجعل لنفسه تقدما على الله ورسوله في المحبة والولاء ، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه والسلام ، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه، ولا يفتات على الله شيئاً أو يقطع أمراً حتى يحكم الله فيه ، ويأذن به على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام .

روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - باسناده - عن معاذ - رضي الله عنه - حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن:" بم تحكم ? " قال:بكتاب الله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد ? " قال:بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم:" فإن لم تجد ? " قال - رضي الله عنه -:أجتهد رأيي . فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " .
وحتى لكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه , والمكان الذي هم فيه , وهم يعلمونه حق العلم , فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم:الله ورسوله أعلم . خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله !
جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في حجة الوداع:
"أي شهر هذا ? " . . قلنا:الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال:" أليس ذا الحجة ? " قلنا بلى ! قال:" أي بلد هذا ? " قلنا:الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال:" أليس البلدة الحرام ? " قلنا:بلى ! قال:" فأي يوم هذا ? " قلنا:الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال:أليس يوم النحر ? قلنا بلى ! . . الخ .
فهذه صورة من الأدب , ومن التحرج , ومن التقوى , التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء , وذلك التوجيه , وتلك الإشارة إلى التقوى , تقوى الله السميع العليم
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 61 ) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)) الحجرات 2
وقد نهى الله تعالى في هذه الآية عن ثلاثة أمور :
عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن به من الكلام والآراء والأحكام
عن رفع الصوت بحضرته .
عن الجفاء في مخاطبته ومحاورته .
كما أمر بتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، والتزام توجيهاته وأوامره . وبما أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم حيا كحرمته ميتا ، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام ، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه ؛ لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته صلى الله عليه وسلم أو عند تلاوة سنته دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام ، ثم عقب سبحانه على هذا التوجيه بقوله (( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم )) الحجرات 3
أي أنهم صُبُرٌ على التقوى مجربون لها ومدربون عليها ، وأقوياء على تحمل مشاقها ؛ فحكم بذلك بالإخلاص والإيمان والتقوى للمؤمنين الذين يتصفون بالمحبة لله ورسوله والولاء لهما، وتقديم أحكام الشرع على آرائهم وأهوائهم ومصالحهم ، والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيا وميتا وغض الصوت بحضرته أو عند سماع سنته
وقد قال أبو بكر – رضي الله عنه – عندما نزلت هذه الآية : " لا أكلمك يا رسول الله إلا السرار حتى ألقى الله " ، كما كان إذا قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويستنبط الفقهاء بالقياس من هذا التوجيه القرآني وجوب احترام الوالدين والعلماء وذوي السابقة في الدعوة والجهاد وكبار السن ، والرفق بهم وعدم رفع الصوت بين أيديهم ، والاستحياء بحضرتهم ، مما تؤكده نصوص كثيرة لا يتسع المجال لها حاليا .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 62 ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال تعالى (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) الحجرات 6.
وبما أن الفسقة أولياء للشيطان ، والشيطان عدو للمؤمن الصادق ؛ فإن همّ الشيطان وأوليائه الفسقة دائما هو إيقاع الفتنة بين المؤمنين ، وتمزيق صفهم بنقل الأخبار الكاذبة والملفقة ، والأضاليل المخترعة. فإذا كان الناقل فاسقا وجب التثبت والتبين والبحث عن الحقيقة في الأمر . وينطبق هذا التوجيه الرباني أيضا على الأنباء والتحاليل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنشرها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي يشرف عليها فساق الأمة أو أعداؤها ؛ لأن غاية هؤلاء في الأصل فتنة الأمة وإضعافها وإفساد أحوالها .
... وبما أن نتيجة الثقة في الفساق ونقولهم وأخبارهم غالبا ما تكون الفتنة والتقاتل بين المؤمنين ، فقد عقب سبحانه على ذلك بالإرشاد إلى كيفية التغلب على هذه الفتنة بقوله

(( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون )) الحجرات 7 وفيها تذكير بأن النجاة من الفتن في اتباع سنته وهديه وعدم عصيان أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم حيا وميتا . ومرد ذلك إلى تمسك القلب بالإيمان الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، ونفوره وكراهيته للكفر والفسوق والعصيان ، وكل ذلك نعمة من الله وفضل . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يثبته على الدين ، وأن يجدد الإيمان في قلبه .
واختيار الله لفريق من عباده , ليشرح صدورهم للإيمان , ويحرك قلوبهم إليه , ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم , وتدرك ما فيه من جمال وخير . . هذا الاختيار فضل من الله ونعمة , دونها كل فضل وكل نعمة . حتى نعمة الوجود والحياة أصلا , تبدو في حقيقتها أقل من نعمة الإيمان وأدنى

... ثم ضرب سبحانه وتعالى لهذه الفتن مثلا فيما يقع بين المؤمنين من تخاصم وتقاتل ، فقال : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )) الحجرات 9 ثم أكد القاعدة الأصل والوشيجة المتينة في الصف المؤمن ، التي هي الأخوة في الله فقال ((إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم )) الحجرات 10 ، وهو ما بينته السنة النبوية في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) - (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ))-(( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص - وشبك بين أصابعه )) - (( منزلة المؤمن من المؤمن منزلة الرأس من الجسد ، متى اشتكى الجسد اشتكى له الرأس ومتى ما اشتكى الرأس اشتكى سائر الجسد)). وقد أورد أبو داود في كتاب الأدب ما روي عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : ((مامن امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته ، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته ))- الحديث رقم 4884 - ؛
ثم قرن الصلح بين المؤمنين المتخاصمين بالتقوى وجعله مدعاة لنزول الرحمة عليهم بقوله تعالى : ((واتقوا الله لعلكم ترحمون )) الحجرات 10 ، لأن الميل للصلح وإيثاره ، انبثاق فطري من التقوى ، والتقوى هي القناة الغيبية التي تنزل منها الرحمة .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 63 ) يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )) الحجرات 11 .
وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير . والرجل القوي من الرجل الضعيف , والرجل السوي من الرجل المؤوف . وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام . وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم . وذو العصبية من اليتيم . . . وقد تسخر الجميلة من القبيحة , والشابة من العجوز , والمعتدلة من المشوهة , والغنية من الفقيرة . . ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس , فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين !
ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء , بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية , ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها: (ولا تلمزوا أنفسكم). . واللمز:العيب
فبين المعاملة التي ينبغي أن تكون بين الأقوام رجالا ونساء ، شعوبا وقبائل بكافة ألوانهم وعقائدهم ومراتبهم الاجتماعية ، وحث المؤمنين على أن يكونوا القدوة في الالتزام بهذا التوجيه القرآني الذي ينهى عن ثلاث مساوئ خلقية تمنع المودة وتصد عن طريق الحق ، وتثير الأحقاد والفتن والعناد ، وهي : السخرية واللمز والنبز .
... فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الاحتقار والاستصغار ، ولعل من سخرت منه أو احتقرته أعلى وأجل منك في ساعته تلك ، ولعله يتوب بعد ذلك فتقبل توبته ، ولعله يسلم فيحسن إسلامه وتكون مرتبته عند الله أعلى منك . ولعل سخريتك منه تثير في نفسه العزة بالإثم ، فيزداد صدودا عن الحق وحقدا على أهله ، فيكون لك من الوزر بذلك نصيب .
... واللمز : هو ذكر الإنسان أخاه في حضرته بعيوبه .
... أما النبز : فهو مناداة الإنسان أخاه بألقاب يكرهها أو يعدها محقرة ، أو مثيرة للسخرية .

... وسواء كانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات ؛ فإن ذلك محرم يجب الإقلاع عنه ، والمؤمن أحق من يلتزم بذلك ؛ لأنه داعية إلى الإسلام وقدوة فيه ، لاسيما إذا ارتكب هذا الإثم في حق المؤمنين ؛ لأنه بذلك يكون قد نبز نفسه وحقرها وسخر منها ، فالمؤمنون جسد واحد ، ولذلك قال سبحانه :{ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب } أي لا ينادي بعضكم بعضا بها .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 64 ) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، واتقوا الله إن الله تواب رحيم )) الحجرات 12 .
... وإذ حض سبحانه وتعالى في الآية السابقة على إساءة الظن بالفاسق والتبين في أقواله وتصرفاته، نهى هنا عن إساءة الظن بالمؤمنين وعن التجسس عليهم ، ومحاولة الاطلاع على أسرارهم أو نقلها إلى أعدائهم ، وعن اغتيابهم ، وانتهاك أعراضهم في غيبتهم ، وقد أخرج البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم (( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك )) .
... والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله تعالى : الغيبة ، والإفك ، والبهتان . الغيبة أن تقول ما في أخيك ، والإفك أن تقول فيه ما بلغك عنه ، والبهتان أن تقول ما ليس فيه .

... وقد عد سبحانه وتعالى هذه الموبقات بمثابة أكل لحم المؤمن ميتا ، فقال : (( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه )) ، وهذا غاية البشاعة واللؤم والانحطاط . وكما أن الميت لا يحس بأكل الآكلين ، كذلك الغائب لا يسمع ما يقوله فيه المغتاب . والفعلان معا ( الغيبة وأكل لحم الميت ) في التحريم سواء . وفي الحديث المستفيض : (( فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم)) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أكل بمسلم أكلة ، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم ، فإن الله عز وجل يكسوه مثله من جهنم ، ومن قام برجل مسلم مقام رياء وسمعة ، فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة )) (الأدب المفرد 1/93 - حديث 240 ).
وفي حديث رواه أبو داود: عن أبي هريرة قال:قيل:يا رسول الله , ما الغيبة ? قال صلى الله عليه وسلم ذكرك أخاك بما يكره ( . قيل:أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ? قال صلى الله عليه وسلم(إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . ورواه الترمذي وصححه .
وقال أبو داود: , عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا "قال عن مسدد تعني قصيرة ( فقال صلى الله عليه وسلم لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) قالت:وحكيت له إنسانا . فقال صلى الله عليه وسلم ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " . .
وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت:من هؤلاء يا جبرائيل ? قال:هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم )) .

ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية , ورجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما , سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه:ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ! ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار , فقال( أين فلان وفلان ? انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ) . قالا:غفر الله لك يا رسول الله ! وهل يؤكل هذا ? قال صلى الله عليه وسلم فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها "

... كما أن التعفف عن دماء المؤمنين وأعراضهم وأموالهم طريق للتقوى ومدعاة للتوبة والرحمة وهو ما يشير إليه قوله تعالى ( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 65 ) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال تعالى : ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) الحجرات 13.... كان النداء في هذه الآية بقوله تعالى ( يا أيها الناس ) خطابا لما يعم المؤمن والكافر مما ترتب على كونهم من أصل واحد هو آدم وحواء ، وتذكيرا لهم بحقيقة كونية ، هي أنهم خلقوا من نفس واحدة ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء )) النساء 1 وهذا ما يؤكد الأخوة البشرية الشاملة التي لا تفرق بين مسلم وكافر ، أبيض أو أسود أو أحمر إلا بالتقوى ، وأن هذه الأخوة مدعاة بين الأفراد والشعوب والقبائل إلى التعارف بما يؤدي إليه من أعمال البر والإحسان والتناصح والمعاملة الكريمة ، والتعاون على معرفة الحق والعمل بمقتضاه . وأن ما يميزهم عن بعضهم شئ واحد هو التقوى التي هي ثمرة الإيمان الحق الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، واتقاء الشرك ظاهرا وباطنا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ))
يا أيها الناس . يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا , المتفرقون شعوبا وقبائل . إنكم من أصل واحد . فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا .

يا أيها الناس . والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم . . من ذكر وأنثى . . وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل . إنها ليست التناحر والخصام . إنما هي التعارف والوئام . فأما اختلاف الألسنة والألوان , واختلاف الطباع والأخلاق , واختلاف المواهب والاستعدادات , فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق , بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات . وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله . إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم , ويعرف به فضل الناس: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). . والكريم حقا هو الكريم عند الله . وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: (إن الله عليم خبير). . وهكذا تسقط جميع الفوارق , وتسقط جميع القيم , ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة , وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر , وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان .
وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها , ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة:راية الله . . لا راية الوطنية . ولا راية القومية . ولا راية البيت . ولا راية الجنس . فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم بنو آدم , وآدم خلق من تراب . ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم , أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان) . وقال صلى الله عليه وسلم عن العصبية الجاهلية( دعوها فإنها منتنة ) . اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً. اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك. أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

( 66 ) وقفات مع سورة سبأ-1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
وبعد سنقف واياكم في هذه الدقائق الغالية مع أيات من القران مع قصة قوم سبأ مع سورة سبأ
يقول تعالى :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)) سبأ:15-19
إن سبأ عباد الله قبيلة معروفة في اليمن، ومسكنهم بلدة مأرب، ومن نعم الله ولطفه بالناس عموماً والعرب خصوصاً أن قص عليهم في القرآن أخبار المهلَكين من الأقوام التي كانت تجاورهم. وأبقى آثارهم شاهدة على جحودهم وهلاكهم، علّهم بذلك يعتبروا ويؤمنوا.
كانت سبأ في أرض مخصبة ما تزال بقية منها إلى يومنا. وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تنحدر إليهم من الجبال عبر وديان عظيمة. فأقاموا خزاناً طبيعياً يتألف جانباه من جبلين عظيمين وجعلوا بينهما على فم الوادي سداً كبيراً به عيون. تفتح وتغلق وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم أطلق عليه سد مأرب.

وكان من أثر ذلك الرخاء والوفرة والمتاع الجميل. جنتان عن يمين وشمال فكانت آية تذكرهم بالمنعم الوهاب سبحانه وتعالى، وقد أمروا أن يستمتعوا برزق ربهم شاكرين له، وذكرهم بنعمة البلد الطيب، ومن زيادة نعمه المغفرة على التقصير والتجاوز عن السيئات.
فلا إله إلا الله، سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء وسماحة بالعفو والغفران من رب الأرض والسماء فماذا يقعدهم عن الحمد والشكر لذي الجلال والإكرام .. ولكنهم أعرضوا عن شكر الله ولم يعملوا بما أمرهم الله وأساءوا فيما أنعم الله عليهم وما أحسنوا فكانت العقوبة من الله بأن سلبهم تلك النعم والوفرة والخضرة، فأرسل عليهم سيل العرم الجارف الذي حطم ذلك السد العظيم.
فتفجرت المياه المحتجزة. فأغرقت. ودمرت ذلك النعيم. وبعدها جفت الأرض. واحترق الزرع. فبدلت الجنان الفيحاء بأرض قاحلة مقفرة. بها نبات ذا شوك وأثل وشيء من سدر قليل. وضيق عليهم الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء بالشدة والخشونة واللأواء. ولكنه لم يمزقهم ويفرقهم بل كان عمرانهم متصلاً بينهم وبين القرى المباركة مكة والشام فيخرج المسافر من قرية ويدخل القرية الأخرى ولما يظلم الليل عليهم وهم آمنون مطمئنون .. ولكن غلبت على قوم سبأ الشقاوة فلم يتعظوا بالنذير الأول ولم يرجعوا إلى ربهم ويستغفروه بل دعوا دعوة الحمق والجهل قائلين : ((رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)) سبأ:19
واستجاب الله دعوتهم ففرقهم في الأرض وبدد شملهم بعد أن كانوا مجتمعين وصاروا أحاديث يرويها الرواة، وقصة يعاد ذكرها على الألسن والأفواه، فأزالهم الله بعد أن كانوا أمة لها شأنها بين الأمم ..، ولكن ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه.

وبعد ذلك كله تختم القصة بتوجيه من الله العليم الحكيم لمن يقرأ هذا القرآن ويعتبر بما فيه من الأحكام والشرائع والأخبار، أن ما ذكر في هذه القصة آية وموعظة لكل صبار شكور. فيحذر المعتبر من الجزع وهو ضد الصبر، ومن الكفر وهو ضد الشكر.
ولقد ذكر الله الصبر إلى جوار الشكر .. صبر في البأساء .. وشكر في النعماء .. وفي قصة سبأ آيات لهؤلاء وهؤلاء.
ختاماً عباد الله، تأملوا أثر المعاصي والذنوب كيف حولت أمة ممكنة في أرضها ترفل في خيراتها بطيب أرضها وتقارب أسفارها ومغفرة ربها لتقصيرها، فصارت أحوالها منكوسة فبُدلوا بالفرقة بعد الاجتماع وبمحق البركة بعد طيب البقاع وبتباعد الأسفار بعد تقاربها، واستُبدلوا بعد الأمن خوفاً وبعد العز ذلاً .. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الداء والدواء: "ومن عقوبات المعاصي أنها تزيل النعم وتحل النقم. فما زالت عن العبد إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب" .
وقال أحد السلف رحمه الله تعالى: "ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة".
وقال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ)) [الشورى:30].
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها ... ... فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد ... ... فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت ... ... فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى ... ... لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم ... ... شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر ... ... من الظلم وهو الذي قد قصم
صلوا بالجحيم وفات النعيم ... ... وكان الذي نالهم كالحلم
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، وجعلنا جميعاً من أهل محبته ورضوانه

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) الأنفال:53
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 67 ) دروس من قصة سبأ-2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
اعلموا ـ عباد الله ـ أن الجحود والنكران لنعم الله وعدم شكرها يعرضها للزوال وانقلاب الأحوال كما سمعنا من حال قوم سبأ، وهذه السنة ثابتة لا تبدل أبداً وتنزل على كل من كفر بنعمة الله تعالى ولم يؤد حقها من الشكر، قال تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)) النحل:112
ونستلهم وإياكم عباد الله أهم الدروس والعبر من هذه القصة العظيمة:
أولاً : عظم فضل الله على عباده ورحمته بهم وتيسير أمورهم وتذليل الصعاب لهم كما قال تعالى: ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)) إبراهيم:34.
ثانياً: تفرد الله بتصريف أمور العباد والبلاد، وأن لله جنود السماوات والأرض فيسخر الله جنداً من جنده على عباده ما يكون فيه رحمته ونعمائه، وتارة يسخرها على قوم فيكون فيها عذابه ونقمته، وهو أحكم الحاكمين.
ثالثاً: عدم الأمن من مكر الله جل وعلا، والحذر من طول الأمل، ولا يغتر المرء بنعم الله وهو على معاصيه فإن ذلك استدراج لهلاكه.
رابعاً: الحذر من الغفلة عن آيات الله ووجوب الأوبة والإنابة إلى الله تعالى عند نزول البلاء وربط ذلك بالذنوب والمعاصي.
خامساً: الحذر من التبذير والإسراف، وأنهما من أسباب سخط الله تعالى على عباده، وأنهما من كفر النعمة وجحودها.

سادساً: الحذر من الإعراض عن دين الله تعالى وعدم مبارزته بالمعاصي أو المجاهرة بها، فإن الله لا غالب له.
سابعاً: الصبر على البلاء وعدم السخط على أقدار الله تعالى والرضا بقضائه وقدره، وليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه.
ثامناً: الاتعاظ والاعتبار بما يجري لمن حولنا من الأمم واجتناب أسباب هلاكهم ودمارهم.
تاسعاً: الأمن والأمان أساس الرخاء واتساع العمران وانتشار الألفة والمحبة بين الناس، وذلك لا يتم إلا بشكر المنعم سبحانه.
عاشراً: وجوب التزام التقوى وأنها مفتاح لأبواب الرزق ووفرة النعم، وكذلك التوبة والاستغفار كما أمر نوح وهود ـ عليهما السلام ـ قومهما بذلك.
وأخيراً الدعاء فما من عسير إلا يسره، ولا من بلاء إلا كشفه، ولا من كرب إلا نفسه، فعليكم به فإنه السلاح الذي لا يثلم، ومما دعى به النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)) الأنعام:40-45.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً


( 68 ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله تعالى: ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)) الفرقان:27-31.
أيها المسلمون،
تذكر بعض الروايات أن سبب نزول هذه الآيات هو أن عقبة بن أبي معيط كان يكثر من مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى ضيافته فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل. وعلم بذلك أبي بن خلف وكان صديقَه، فعاقبه وقال له: صبأت؟ فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ألقاك خارجَ مكة إلا علوت رأسك بالسيف))، فأسر يوم بدر فأمر عليًّا قتله.
إن هذه الآيات الكريمة تعرض مشهدًا من مشاهد يوم القيامة الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، اليوم الذي يندم فيه الظالمون الضالون على أفعالهم المشينة التي اقترفوها وأقوالهم البذيئة التي تفوّهوا بها في حقّ الإسلام وأهله وفي حق الرسول الأعظم الرحمة المهداة صلوات الله عليه وسلامه.

إنه مشهد رهيب عجيب، مشهد الظالم وهو يعضّ على يديه من الندم والأسف والأسى، حيث لا تكفيه يد واحدة يعضّ عليها، إنما هو يداول بين هذه اليد وتلك، أو يجمع بينهما لشدّة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثّل في عضّه على اليدين، وهذا فعل يرمز ويشار به إلى الحالة النفسية التي يعيشها الظالم.
((ويوم يعض الظالم على يديه). . فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها . إنما هو يداول بين هذه وتلك , أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين . وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيما .
(يقول:يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا). . فسلكت طريقه , لم أفارقه , ولم أضل عنه . . الرسول الذي كان ينكر رسالته ويستبعد أن يبعثه الله رسولا !
يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا . . فلانا بهذا التجهيل ليشمل كل صاحب سوء يصد عن سبيل الرسول ويضل عن ذكر الله . . (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني). . لقد كان شيطانا يضل , أو كان عونا للشيطان (وكان الشيطان للإنسان خذولا)يقوده إلى مواقف الخذلان , ويخذله عند الجد , وفي مواقف الهول والكرب
وهكذا راح القرآن يهز قلوبهم هزا بهذه المشاهد المزلزلة , التي تجسم لهم مصيرهم المخيف , وتريهم إياه
يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، فسلكت طريقه واتبعت سنته ولم أفارقه، يا ليتني كنت على دينه وعقيدته، يا ليتني كنت معه فأفوز فوزا عظيما، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا.
وفي هذا المقام لم يذكر اسم الضالّ ليشمل كلّ صاحب سوء يصدّ عن سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم وعن دعوةِ الإسلام ومنهج القرآن. لقد كان الظالم شيطانا يضلّ، أو كان عونا للشيطان يقوده إلى الهاوية وإلى مواقف الخذلان والخسران.
((وقال الرسول:يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا))

لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم . ويبصرهم . هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا . وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله , ويجدوا الهدي على نوره . وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم , وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق:
وإن ربه ليعلم ; ولكنه دعاء البث والإنابة , يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا , ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه . فيسليه ربه ويعزيه . فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات . فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به , ويصدون عن سبيل الله . ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين:
((وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . وكفى بربك هاديا ونصيرا)). .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 69 ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم-1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)). هذه الآية أيها الإخوة اشتملت على جميع ما في القرآن..لأن جميع ما فيه هدى يهدينا إلى خيري الدنيا والآخرة، وأول ذلك وأهمه التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره دعوة لتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ((قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون)).الإنبياءوقد جاء في القرآن توبيخ وإنكار على الذين اعترفوا بربوبية الله، ولكنهم لم يوحدوه في العبادة حيث أشركوا معه آلهة أخرى، وهو سبحانه المستحق للعبادة. ومن هذه الآيات التي يستدل بها على اعتراف الكفار بربوبيته قوله تعالى: ((قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار فسيقولون الله)) إلى قوله تعالى: ((قل أفلا تتقون)). وقوله تعالى: ((ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون)).
وهكذا جاء الإنكار عليهم بعد إقرارهم بالربوبية بأساليب مختلفة مثل قوله تعالى: ((فأنى تسحرون)) وقوله تعالى: ((قل أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً)) وقوله تعالى: ((أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون)) وقوله تعالى: ((أإله مع الله قليلاً ما تذكرون)). وقوله تعالى: ((أإله مع الله تعالى الله عما يشركون)) وغيرها كثير التي تعقب كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية والتي يراد منها الإقرار بتوحيد الله في ربوبيته، فإذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار لأن المقر بالربوبية، يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة.
وإنني لأتعجب من الشخص الذي يتوجه بقلبه ولسانه، فيطلب من مخلوق الشفاء أو الفوز والفلاح في الدارين، أو الرزق والذرية أو غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ومما هو لا يطلب إلا من الخالق سبحانه وتعالى، بل ويزداد العجب ممن يطلب هذه الأمور من أصحاب القبور سواء كانوا أنبياء أو صالحين، ويترك من بيده ملكوت السموات والأرض، وصدق الله حيث قال: ((ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير)).
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم - الدعوة للالتزام بما شرعه الله عز وجل والتحذير من الهوى مقتدين في ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه.

ومن هذه الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ((فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)). وقال تعالى: ((بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين))
وقال تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) وقال تعالى: ((قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)) وقال سبحانه: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم)) وقال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)).
وآيات كثيرة فيها الهدي إلى اتباع السنة التي هي الوحي الثاني كما ثبت بالأحاديث الصحيحة وإلى الاقتداء بالهدي النبوي في عبادته وتشريعه وأمره ونهيه وفعله وتركه، لأن السنة فعلية وتركية، فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة مع وجود الداعي والمقتضي لذلك، نتركه.

وإنني لأتعجب ممن ينافح ويدعو إلى البدع والمحدثات في الدين وهو يستمع إلى قول الله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)) ويسمع قول الله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون))، وإن من يرفع صوته مدافعاً عن بدعة في الدين إنما يرفع صوته فوق صوت النبي، ويرفع طريقته فوق سنة النبي، ويرفع فهمه وعقله فوق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون خالف سبيل المؤمنين الصادقين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فهموا سنته وساروا عليها دون زيادة أو نقص، هؤلاء الصحابة سلفنا الصالح الذين شهد لهم ربهم بالإيمان الحق وبالصدق وأمرنا نبينا باتباعهم والسير على خطاهم، بل لقد حضنا القرآن على التمسك والسير على طريقتهم وسبيلهم كما قال تعالى:
((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيراً)).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 70 ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم -2

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :من هدي القرآن للتي هي أقوم هدية إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام، وقد وردت آيات كثيرة في ذلك منها قول الله تعالى: ((ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)) والمقصود ولا تخرجون إخوانكم. وقال تعالى: ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل..)) أي لا يأكل أحدكم مال أخيه ... وحينما أخطأ الرماة بل بعضهم في عدم التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يغادروا الجبل في غزوة أحد، فنزلوا، أصابهم ما أصابهم لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أصيب في وجهه الشريف فتعجب الصحابة من هذا الأمر وهم على الحق ويدافعون عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم كما اخبرنا الله عز وجل في قوله تعالى: ((أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)) بالرغم من أن البعض فقط هم الذين أخطئوا ولكن الخطاب توجه للجميع لأن الأمة كلها كالجسد الواحد، فسبحان الله العظيم. كيف يحاسب الجسد كله على هذا الخطأ ويعامل الجسد كله كوحدة واحدة. إنها رابطة الدين.
لقد حصل خلاف بين أحد المهاجرين وأحد الأنصار ... فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال يا للأنصاري للأنصار .. فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة)).
لا حظوا أيها الإخوة المهاجرين فيهم القرشي وغيره، والأنصار فيهم الخزرجي والأوسي وغيرهم .. ما تنادى هؤلاء بالآباء ولا بالأجداد ولا بالقومية بل بصفتين حميدتين .. الهجرة والنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ورغم ذلك لم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم واعتبرها دعوى جاهلية منتنة فكيف بمن ينادي بالقومية أو الوطنية. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.


(71 ) ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم))-3.
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ,
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه , وبين مشاعره وسلوكه , وبين عقيدته وعمله , فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم , متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض , وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله , ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا , وحكومات وشعوبا , ودولا وأجناسا , ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى , ولا تميل مع المودة والشنآن ; ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه , وهو أعلم بمن خلق , وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل , فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها , وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام
((ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما))

فهذه هي قاعدة القرآن في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل , ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه , والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له: وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 72 ) سبح اسم ربك الأعلى -1

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
عباد الله: كان من هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يستحب قراءة سور المسبحات، وخاصة سورة ( سبح اسم ربك الأعلى )، في المجامع العظام كالجمعة والعيد؛ وهما من شعائر الإسلام وذلك لما اشتملت عليه من جلي الحكم والأحكام؛ والمواعظ، والتذكرة لأهل الإسلام بجليل الإنعام، وحقوق الملك القدوس السلام.وسورة الأعلى افتتحت بقول الله جل وعلا: (سبح اسم ربك الأعلى ) سورة الأعلى:1. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)). وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: ((من سبح الله في يوم مائة تسبيحة كتبت عنه ألف حسنة وحط عنه ألف خطيئة)). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن التسبيح يقوم مقام الصدقة بالمال، وخاصة الفقراء الذين لا مال لهم فقال: ((إن بكل تسبيحة صدقة)). وأخبر أن التسبيح والتكبير والتحميد دبر الصلوات مما يلحق به الفقراء من قصَّر فيه أو جهله من أهل الصدقات، وأن التسبيح عند النوم يخفف الآلام ويلطف المشاق العظام، كما أرشد صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يقولا ذلك عند النوم، وقال: ((هو خير لكما من خادم)). فهن كلمات يسيرة وأجورهن كثيرة، ولكن لا يقولهن إلا القليل من القوم؛ لأن الشيطان يأتي أحدهم فيلقي عليه النوم.
أيها المسلمون: ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى )، قال النبي : ((اجعلوها في سجودكم))، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي))، يتأول القرآن؛ أي يفعل ما أمر به من الرحمن.
أيها المسلمون: وأما قوله سبحانه: (الذي خلق فسوى )[سورة الأعلى:2]. أي الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم واختصه بما فضل به على غيره من التكريم، وأعظم ذلك أن هداه إلى الدين القويم، وأرشده إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى رضوانه وجنات النعيم، وهو سبحانه أيضا خلق المخلوقات كلها في غاية من الإتقان والإحسان، صنع الله الذي أتقن كل شيء.

وقوله: (والذي قدر فهدى )[سورة الأعلى:3]. أي خلق كل شيء بمقادير مضبوطة ولحكم محكمة، فقدر سبحانه تقديراً تتبعه جميع المقدرات، وهدى إلى ذلك جميع المخلوقات، وتلك هداية عامة مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر العباد بجلائل نعمه، وعموم فضله، وواسع رحمته.
ومن ذلك أنه: (والذي أخرج المرعى )[سورة الأعلى:4]. أي بما أنزل من السماء ماءً رزقاً لسائر الأحياء، فأنبت به أصناف النباتات، وأخرج به من كل الثمرات، فرتع فيه الناس والبهائم وجميع الحيوانات، فكان ذلك من سابغ أن استكمل ما قدر له من الشباب النمو والاستواء يسر له من الأسباب ما ألوى نباته ووضح عشبه: (فجعله غثاءً أحوى )[سورة الأعلى :5].أي قد اسود فأصبح هشيماً تذروه الرياح؛ وكان الله على كل شيء مقتدراً، وهكذا دنيا الناس عمرها معهم وعمرهم فيها عمر هذا النبات ،فما تكاد تجتمع وتحلو فيها المتعة إلا وقد صارت إلى شتات، وكم في ذلك من بليغ العبر والعظات.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 73 ) سورة الاعلى -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :ومن نعم الله الدينية على رسوله ونبيه والمؤمنين به من هذه الأمة المحمدية ما أشار إليه بقوله: (سنقرئك فلا تنسى )[سورة الأعلى:6]. أي سنحفظ ما أوحينا إليك من هذا الكتاب ونوعيه قلبك على أميتك فلا تنسى منه شيئاً؛ فبشره الله بأنه سيعلمه علماً لا ينساه، وكان صلى الله عليه وسلم في أول الوحي إذا قرأ عليه جبريل عليه السلام الوحي يحرك شفتيه فيقرأ مع جبريل خشية النسيان، فقال تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه )[سورة القيامة :16-19]. فأوحى له تعالى أن يستمع وينصت لجبريل حين يتلو عليه الوحي، ووعده أن يجمعه له في صدره ثم يقرأه فلا ينسى منه شيئاً، وقد صدق سبحانه عبده وأنجز وعده.
وأما قوله سبحانه: (إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى )[سورة الأعلى:7]. فالمعنى أنك لا تنسى إلا ما اقتضت حكمة الله أن ينسيك إياه لمصلحة وحكمة بالغة؛ لكون هذا الشيء منسوخاً أو مبدلاً بخير منه، كما قال سبحانه: (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )[سورة البقرة:106].
وفي ضمن ذلك تعليم لكل مسلم أن لا يعد بشيء مستقبلاً إلا معلقا بالمشيئة كما قال تعالى: ( ولا تقولن لشىء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله )[سورة الكهف:23-24]. وهو سبحانه يعلم ما يصلح عباده، وقد هداهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم في معاشهم ومعادهم، ويعلم لذلك سرائرهم وعلانيتهم، وما انطوت عليه ضمائرهم، وفي ذلك حث على سلامة الصدور، وإخلاص النية والنصح للعباد في جميع الأمور.

وأما قوله سبحانه: (ونيسرك لليسرى )[سورة الأعلى:8]. فهذه بشارة أخرى أن الله تعالى ييسر رسوله صلى الله عليه وسلم لليسرى في جميع أموره، ويجعل دينه وشرعه سمحاً ميسراً، وقد وفَّى تبارك وتعالى بذلك فشرع للمسلم الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن لم يستطع فيومئ برأسه إيماءً، وشرع الصيام للصحيح المقيم القادر، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر، ومن لم يستطع الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وشرع الله التيمم لمن لم يجد ما يتطهر به أو عجز عن استعماله، فإن لم يستطع صلى على حسب حاله، وهكذا كل دين الله ميسر ليس فيه عسر ( وما جعل عليكم في الدين من حرج )[سورة الحج:78]. (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )[البقرة:185]. ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً )[سورة النساء:26-28].
فاشكروا الله على أن خلقكم في أحسن تقويم، وأرسل لكم خير خلقه محمداً النبي الكريم، وهداكم إلى الصراط المستقيم والدين القويم، ووعدكم على ذلك جنات النعيم ورضوانه، وهو الرب الكريم.. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 74 ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :عباد الله: سبق لنا أن عرفنا أن المؤمنين ينحصرون فيمن كان بهذه الصفات التي وردت في الآيات الأولى من سورة الأنفال التي ما زلنا معها منذ فترة، وقد انتهينا من الصفتين الأوليين منها، وسنكون اليوم إن شاء الله وقدّر مع الصفة الثالثة من هذه الصفات، يقول الله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون).
عباد الله:
إن الأمر كله لله عز وجل، وليس للعبد فيه شيء البتة، ولهذا فإن التوكل على الله عز وجل هو تسليم الأمر منه وله، وعزل العبد نفسه عن منازعة مالكه، واعتماده عليه فيه وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به سبحانه دون نفسه، وهذا هو مقصود التوكل فإذا عزل العبد نفسه عن مقام المتوكل عزلها عن حقيقة العبودية.
وقد خاطب الله سبحانه في كتابه خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين.
والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه، فهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل، فمن لا توكل له لا إيمان له.
ومن الآيات الدالة على أن الله تعالى شرط في إيمان خواص خلقه أن يكونوا متوكلين قوله تعالى في سورة المائدة: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) وقال في سورة آل عمران: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) وقال في سورة الأنفال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) فدلت هذه الآية كما سبق على أن المؤمنين ينحصرون في من كان بهذه الصفات.
ومن الآيات الدالة على عاقبة التوكل وفضله قوله تعالى في سورة آل عمران: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) وقوله تعالى في سورة الطلاق: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).

ومن الأحاديث – حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهو في الصحيحين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم: ((لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)).
ومن الأحاديث أيضاً ما أخرجه أهل السنة بإسناد حسن عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال – أي إذا خرج من بيته – بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووقيت وكُفيت، فيقول شيطانه لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي ووقي وكُفي)).
وأسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المتوكلين حق التوكل. آمين.

( 75 ) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون-1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
عباد الله: يقول الله تعالى في آخر صفتين من صفات المؤمنين في أول سورة الأنفال: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) وهاتان الصفتان لا يحصل الإيمان الواجب في القلب إلا بهما. كما هو الشأن في كل صفة يدل سياق القرآن أو السنة على أن الإيمان الواجب في القلب لا يحصل إلا بالإتيان بها، وأما عن الصلاة فإن الله تعالى وصف المؤمنين بأنهم يقيمونها ولم يقل أنهم يفعلون الصلاة أو يأتون بالصلاة لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقامة الصلاة إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وشروطها وواجباتها وإقامتها باطنة بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقول وينفع فيها بإقامة الصلاة هي التي قال الله تعالى فيها في سورة العنكبوت: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وهي التي يترتب عليها الثواب ويدخل في الصلاة نوافلها ورواتبها.

وأما قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) فيدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك والنفقات المستحبة في جميع طرق الخير، ولم يذكر سبحانه المنفق عليه لكثرة أسبابه وتنوع أهله ولأن النفقة من حيث هي قربه إلى الله تعالى، وأتى "بمن" الدالة على التبعيض لينبههم إلى أنه لم يرد منهم إلا جزءاً من أموالهم غير ضار لهم، ولا مُثقل بل ينتفعون هم بإنفاقه وينتفع به إخوانهم، وفي قوله تعالى: (رزقناهم) إشارةً إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلةً بقوتكم ولا ملككم، وإنما هي رزق الله الذي خولكم وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم وواسوا إخوانكم المعدمين. ولكن ينبغي أن يُعلم أن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه . عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلو أنفق عبد من حرام كالربا والمال المسروق والمغصوب ونحو ذلك، لو أنفق من المال الحرام أمثال الجبال لم يقبل منه وكان مؤاخذاً به ومعذباً به يوم القيامة. فسبحان من يجعل أمثال الجبال من الحرام هباءاً منثوراً ويجعل مثقال ذرة من حلال يوم القيامة أمثال الجبال.

وكثيراً ما يجمع الله بين الصلاة والزكاة في القرآن الكريم لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، ولأن الزكاة والنفقة متضمنة للإحسان إلى عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق. كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان، وما دمنا نتكلم اليوم عن الصلاة والزكاة فمن الجدير بالذكر أن يعرف أن من شقاوة العبد تركه للصلاة ومنعه للزكاة، فلا إخلاص ولا إحسان كما سبق، وعليه فلابد من بيان حكم تارك الصلاة ومانع الزكاة وجزائهما عسى أن يكون في ذكر ذلك باعث للمحافظين على الصلاة وإخراج الزكاة على الثبات والاستقامة على هذا الخير واردع لأصحاب النفوس المريضة والشحيحة عن البغي وتجاوز الحدود.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 76 ) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون-2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن الصلاة يا عباد الله هي عماد الدين وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين، وهي آكد الأعمال وأفضل الخصال ونحن مأمورون بالمحافظة عليها وإقامتها، فمن تهاون بها وأضاعها فهو لما سواها من دينه أضيع ولها أرفض.
وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامداً جاحداً بوجوبها كافر يقتل كفراً ما لم يتب، وهذا لا إشكال فيه بين جميع طوائف المسلمين: أن العمد بالترك الجاحد للوجوب كافر.
ثم المسلمون الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الدين يعملون عملاً قليلاً بالقياس إلى الأمم السابقة وينالون أعظم الأجر لو ثبتوا على ما عُهد به إليهم وما أمروا به وكلفوا به ونظروا إليه على أنه كما أنه تكليف فهو أيضاً تشريف لما ينتظرهم من الثواب الجليل والفضل العميم من الله تبارك وتعالى العظيم الكريم.فالصلاة خمس في العد وخمسون في الاجر
والصلاة لها شأن عظيم والمفرط فيها يعاقب عقابا شديدا قال تعالى

(فخلف من بعد خلْف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً) فسوف يلقون جزاء غيّهم عذاباً مضاعفاً وقال تعالى في سورة المدثر في سؤال أصحاب اليمين في الجنة للمجرمين عن سبب سلكهم سقر قال سبحانه عنهم أنهم أجابوا بما في الآية الثالثة والأربعين وما بعدها: (ما سلككم في سقر)، ما الذي أدخلكم جهنم، ما الذي أدخلكم النار، (قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) لا صلاة ولا زكاة، لا إخلاص ولا إحسان (وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين) أي يوم الجزاء (حتى أتانا اليقين) أي حتى أتانا الموت (فما تنفعهم شفاعة الشافعين).
نعم، ومن الأحاديث ً ما رواه أحمد بإسناد رجاله ثقات والطبراني في الكبير والأوسط عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((ومن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف))
وأما مانع الزكاة فإن جحد وجوبها كفر وارتد، وإن لم يجحد وجوبها وإنما منعها فقط قوتل حتى تؤخذ منه ولو بالقوة، وإذا مات ولم يخرج زكاته ولم يتب حتى أتاه الموت وهو على ذلك، فجزاءه في ذلك يبينه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار فُأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
ويرى في الحديث مثل ذلك فيما يتعلق بصاحب الإبل وصاحب الغنم إن لم يخرج زكاتها، يُبطح لها فتنطحه وتدوس عليه كلما مرت رجعت، هكذا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار عياذاً بالله تعالى.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 77 ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى ،في محكم تنزيله في سورة التوبة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )
نقف معكم في ظلال هاتين الآيتين الكريمتين من سورة براءة.
عباد الله: إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين بمجرد أن يدخل الإنسان في هذا الدين ،وبمجرد أن يعلن إيمانه وإسلامه ،فإن البيعة تقع ،وأبشر بها من بيعة ،ويا سعادة من وفق في هذه التجارة ،ويا خسارة من يعرض عن هذا البيع أو يخل بشيء من شروطه بعد أن تقع.
أيها المسلمون: هل تعلمون من البائع ومن المشتري ،وكم وما هو الثمن المدفوع. وعلى ماذا انعقدت هذه البيعة.
الجواب كله في قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
إن البائع في هذه الصفقة هو المؤمن ،والمشتري هو الله عز وجل. والثمن المدفوع بأن لهم الجنة ،وانعقدت البيعة عن الأنفس والأموال (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
ماذا تقولون في بيعة ،المشتري هو رب السماوات والأرض ،مالك الملك ،الله جل جلاله الذي يملك البائع ويملك نفسه وماله ،ويملك الكون كله بما فيه ،جل وعلا.
ولكنها منة وفضل وكرم وإحسان من الله عز وجل.

لكن أين المؤمن الذي يتنبه لهذا ،ويستيقظ من غفلته، وإلا فما قيمة النفس والمال الذي يبيعه المؤمن في هذه البيعة ،مقابل الثمن الذي يقبضه. جنة عرضها السموات والأرض. جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. جنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ،من أنواع اللذات والأفراح والمسرات.
فلا مقارنة يا عباد الله بين ما يُدفع وما يُؤخذ لا تقارن يا عبد الله بين ما تبذله لله وما تأخذه ،فإن نفسك ومالك لا يقابل شيء بما أعده الله لك في جنته ومع ذلك ،تجد من يعرض عن هذه البيعة ومن يغفل عنها ،بل من يستكبر عنها ،نعوذ بالله من المهانة.
أيها المؤمن: يا من عُقدت هذه البيعة من أجلك ،وأنت لا تعرف مقدارها وقيمتها.
إذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ،فانظر إلى المشتري من هو ؟ هو الله جل جلاله. وتأمل في العوض ،وهو أكبر الأعواض وأجلها ،جنات النعيم.
وإلى الثمن المبذول فيها وهو النفس والمال الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ،وهو أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وبأي الكتب رُقم ،في كتب الله الكبار ،المنزلة على أفضل الخلق ،في التوراة والإنجيل والقرآن.
أيها المسلمون: إن قضية الاختيار في هذه البيعة منتفية إنه لا خيار لك أخي المسلم في الموافقة وعدم الموافقة في هذه الصفقة. إنك لم تُسأل ،ولم تستشر. لكي يكون لك رأي في القضية.
وإذا تأملنا الآية الكريمة ،وجدنا هذا ظاهراً ،يقول الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين) -الآية لم تقل بأن الله يشتري أو يريد أن يشتري. لكي يكون لنا الخيار هل نبيع أو لا نبيع. وإنما اشترى وانتهت البيعة ،ثم بعد ذلك ،يا سعادة من استمر على هذه البيعة ،ويا خسارة من أبطل البيع.
أيها المسلمون: إن الذين باعوا هذه البيعة ،وعقدوا هذه الصفقة ،لاشك أنهم صفوة مختارة. الذي ضحى بنفسه وماله في سبيل الله ،لابد أن يكون ذات صفات مميزة.
فمن هم هؤلاء المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 78 ) التائبون العابدون الحامدون السائحون ....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
ما هي الصفات الجميلة والخلال الجليلة ،لأولئك الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟
،فإذا أردت ذلك يا عبد الله. فما عليك إلا أن تتمثل قوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين).
ذكر جل وعلا أول صفة لهؤلاء فقال: التائبون: أي الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات ،التائبون من الذنوب كلها التاركون للفواحش.
يقول الله عز وجل: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى). فهل كل ما أذنبت ذنباً يا عبد الله أعقبته بتوبة وما أكثر ما نذنب وما أكثر من نخطئ. وكما قال ابن مسعود: ما نزل البلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
استجمعوا شروط التوبة كلها لكي تحققوا التوبة النصوح. اقلعوا عن الذنوب ،اعزموا على ألا تعودوا إليه ،اندموا على ما فات من عمر ومن وقت ومن مال وأنتم في معصية الله عز وجل وهل يهلك المجتمعات ويفسدها إلا الذنوب والمعاصي.
فيا أيها الناس: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ،قال عليه الصلاة والسلام: ((باب من قبل المغرب ،مسيرة عرضه ،أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة ،خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة ،لا يغلق حتى تطلع الشمس منه)).

الصفة الثانية ،لمن أراد أن يكون من تلك الزمرة الفائزة قال: (العابدون).
إن المتصفون بالعبودية لله ،والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ،فبذلك يكون العبد من العابدين، فقس نفسك يا عبد الله ،هل أديت ما عليك من واجبات ،وتركت ما نهيت عنه من منهيات. لكي يطلق عليك أنك من العابدين. أم قصرت في ذلك كثيراً. فيجب عليك إذن الرجوع والتوبة ومحاسبة النفس ،وتبدأ في القيام بحق الله عز وجل والمحافظة على عبادة الله في الأقوال والأفعال ،ألا إن سلعة الله غالية ،ألا إن سلعة الله الجنة.
الصفة الثالثة: الحامدون: الحامدون لله في السراء والضراء ،واليسر والعسر المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ،المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار. اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
الصفة الرابعة: لأولئك المؤمنين الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات أنهم (السائحون( ،فسرت السياحة في كتب المفسرين بالصيام لحديث – ((السائحون هم الصائمون)). وفسرت بالجهاد لحديث: ((سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)). وقيل في السياحة بأنه السفر في القربات كالحج والعمرة والجهاد وطلب العلم وصلة الأقارب ونحو ذلك.
وأياً كان معناها ،من هذه المعاني التي ذكرناها ،فإنها كلها داخلة في إطار العبادة لله. أين هذا من فهم كثير من المسلمين هذه الأيام للسياحة ،وما هو سياحة الناس هذه الأيام.
إن العامة ،لا تفهم من السياحة إلا شواطئ أوربا ،ومنتزهات باريس وغيرها. لا يدركون من السياحة ،إلا انتظار عطلة الصيف ثم السفر إلى بلاد الكفار والدعارة ،وقضاء شهر أو شهرين في تلك الأجواء العفنة بالإلحاد والكفر بالله ،والتبرج والسفور. بينما كان سياحة سلف هذه الأمة هو الجهاد في سبيل الله ،وتقديم النفس رخيصة في سبيل الدين. والإقبال على الموت بلذة وفرحة لنيل الشهادة.

والموت يرقص لي في كل منعطف
فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي
وما أبالي به حتى أحاذره

ثم بعد ذلك نريد توفيق الله عز وجل. وآيات القرآن نفهمها على غير مرادها.
فنسأل الله عز وجل ،أن يبصرنا في ديننا ويلهمنا رشدنا ،وأن يدلنا إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 79 ) الراكعون الساجدون
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الصفة الخامسة: (الراكعون الساجدون) أي المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود فهؤلاء لا يصلون فقط ،ولا يؤدون المفروضات الخمس في اليوم والليلة ،ولكن غلب الصلاة على أفعالهم ،بحيث أنهم وصفوا بـ (الراكعون الساجدون) فمع أداء الواجب عليهم من الصلوات ،فهم لا شك أنهم يتطوعون عليها ،وكلما وجدوا وقت فراغ ،قاموا إلى الصلاة ،متمثلين قول الله عز وجل: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب).
إنهم إذا قاموا إلى الصلاة وجدوا لذة وفرحة ،لا يقومون إليها كحال بعض المسلمين هداهم الله ،بثقل وكسل ،وكأنه همٌ يريد أن يزيله عن كاهله ويتخلص منه.
إن الركوع والسجود ،له أثر في حياتهم ،ينهاهم هذا الركوع وهذا السجود عن الفحشاء والمنكر ،وهذا يدل على أنها ليست مجرد حركات فارغة ،كما هو حال بعض المصلين ،الذين يصلون من جهة ،وهم غارقون في معاصيهم ومنكراتهم جهة أخرى.
فانظر أخي المسلم من أي القسمين أنت تجاه ركوعك وسجودك؟ هل أنت من المكثرين أم المقلين؟ هل أنت من الخاشعين أم الغافلين؟ إذا أردت أن تكون مع أولئك النفر.

أيها المسلمون: أنبه على قضية ولا أطيل فيها لأنه قد سبق الكلام عليه مراراً ،لكن وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، لا يزال يا عباد الله عدد من يجلسون في بيوتهم من المسلمين أضعاف أضعاف أضعاف من يحضرون إلى المساجد.
فاتقوا الله أيها المسلمون. إلى متى لا نرجع إلى الله ،إلى متى ونحن مقصرون في أهم وأعظم ركن وشعيرة في ديننا بعد الشهادتين. أما يكفينا ما حصل لنا. كل هذه الصفات في وجوهنا ،ولم ينفع إلى الآن ،كل هذه الضربات فوق رؤوسنا ولم يفد حتى الآن.
فاتقوا الله أيها المسلمون في أنفسكم ،واتقوا الله فيمن أنتم مسئولون عنهم.
تفتح أبواب المساجد في كل فرض ولا يأتي إلا القليل ينتظر المصلين في الفجر إلى آخر الوقت ،ثم يُصلى بكسرة صف ،تسأل أين المصلين أين المسلمين. كل متلحف في فراشه. والغالب يقضيها بعد طلوع الشمس. أسألكم ،هل هذه حال ترضي الله عز وجل. أنت لو أمرت ولدك بأمر ،ثم لم يسمع كلامك ،ماذا تفعل معه ،لا شك أنت تعاقبه ،ولا تعطيه مصروفه ،أقل الأحوال أنك تغضب عليه. هذا حالنا مع الله عز وجل، ولله المثل الأعلى. يأمرنا ولا نطيع ،ينهانا ولا ننتهي.
لا نريد أن ندخل في تفاصيل الأمور التي نفعلها. والمخالفات التي نرتكبها ،إنما كلمتنا ونصيحتنا عن الصلاة فقط.

أيها الأخوة: إلى متى لا نحافظ على الصلاة ،إلى متى وتبقى مساجد المسلمين تشكو إلى الله عز وجل خصوصاً صلاة الفجر. كل هذه الآيات والنذر التي تمر فوق رؤوسنا لا تستحق أن نؤدي شكرها ،أقل ما نقدمه لله أن نحافظ على الصلاة؟ والله إنها لآية عظيمة من آيات الله ،هذا الذي حصل قبل أيام ،لكن لن يتعظ ويعتبر. يأتي قدر الله عز وجل ،ثم يسقط في أرض المسلمين ،ولا يختار إلا فئة أرادهم الله عز وجل ،اختارهم لذلك. وهناك حولهم من لم يصبه شيء. تخيل يا أخي لو تقدم هذا الذي سقط عدة أمتار، أو تأخر عدة أمتار ،ثم سقط عليك وأهلكك أنت وأولادك وزوجتك وجيرانك. والله إنها لآية عظيمة تستحق لوحدها خطبة كاملة لما فيها من المؤشرات. و|ن هناك جنود لله عز وجل لو صدق المسلمون مع الله لسخرها لهم. (ولا يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر).
فنقول ألا تستحق هذه النعمة وغيرها كثير كثير أن تؤدي شكرها يا عبد الله ،وتقبل على ربك وتحافظ على صلاتك. وإلا فنخشى والله أن يصيبنا ما أصاب غيرنا ،أو ينطبق علينا قوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 80 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الله، يقول الله جل جلاله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10].

يخبرنا تعالى عن صفاتِ المؤمنين، وأنّ المؤمنين إخوةٌ بعضُهم لبعض، فالمؤمن أخٌ لأخيه المؤمن، جمعتهم أخوةُ الإيمان، وحَّدتهم رابطةُ الإسلام، فهم إخوانٌ في الله متحابّون في الله. تلك الأخوّة تدعو ذلك المؤمنَ إلى أن يحبَّ لأخيه ما يحبّه لنفسه، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه.أجل أيها المؤمن، تحبُّ له ما تحبّ لنفسك، فكلّ أمر تحبُّه لنفسك فأنت تحبُّه وترضاه لأخيك المؤمن، وكلُّ أمر تكرهه لنفسك ولا ترضاه لنفسك فأنتَ تكرهه ولا ترضاه لأخيك المؤمن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)).
أيها الإخوة، هذه الأخوّة الصادقةُ تحمِل المؤمنَ إلى أن يعرفَ حقوقَ أخيه المؤمن، ويؤدِّيَ تلك الحقوق طاعةً لله وتقرُّبًا إلى الله، ليس لرجاءِ مصلحةٍ من أحد، ولا خوفًا من أحد، ولكن الذي يميله عليه أخوتُه الإيمانية في ذات الله، فهو يؤدِّي تلك الحقوق طاعةً لله وقربةً يتقرَّب بها إلى الله.
أيّها المؤمن، حقوقُ المسلم عليك عديدةٌ، فالسعيدُ من عرَف تلك الحقوقَ، وأدّاها على الوجه المرضيّ.
فمن أعظم حقوق أخيك المسلم عليك بذلُ النصيحة لهُ، دعوتُه إلى الله، حثُّه على الخير، السعيُ في إصلاح دينه واستقامة أخلاقه ودعوتُه إلى الاستقامة على هذا الطريق المستقيم. فتلك أعظمُ الحقوق؛ أن تنصحَ أخاك في الله نصيحةً تبتغي بها وجهَ الله، تمحضُ النصحَ.
إن رأيتَه مخالفًا للشرع ورأيتَ في أعماله وتصرفاتِه ما يخالف شرعَ الله فتدعوه إلى الخير، وتنصحه وتوجِّهه وتحذِّره من مزالق السوء.
إن رأيته يصحبُ فئةً منحرفة يُخشى عليه من صُحبتها شرٌّ وبلاء فحذِّره من تلك الرفقة السيئة، وبيِّن له عواقبَ رفقة أصحاب السوء وما تؤدِّي صحبتُهم من البلاء والفساد.
إن رأيتَ أخاك المسلمَ يحمل فكرًا منحرِفًا وآراءً خاطئة مجانبة للصواب فليكُن موقفك منه تحذيره من تلك الأفكار السيئة والآراء المنحرفة، وتبيِّن له وجهَ ذلك، وتسوق له الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله، وتخاطبه بكلِّ خطابٍ ليِّن؛ لأن قصدَك استنقاذه وتخليصُه من هذه الأفكار المنحرفة والآراء الشاطّة التي تنافي تعاليم الإسلام.

عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ عنده تصوّرات خاطئةٌ وآراء غيرُ صحيحة ونظرات لمجتمعه المسلم لا توافق الصوابَ فلا تدَعه يلجّ في طغيانه ويتمادى في انحرافه، خُذ على يديه بنصيحةٍ ودعوة صالحة وحِكمة ورِفق ولين، عسى أن يقتنعَ منك ويتجنّبَ تلك الآراء والأفكارَ الخاطئة التي لا تعود عليه ولا على مجتمعه بالخير.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ خدعته دعاياتٌ مضلِّلة وأغواه منحرفون وزيّنوا له الباطلَ بما يضرُّ الأمةَ في دينها وأدنياها وبما يجلب عليها البلاءَ والمصائب فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الكاشف لتلك الأباطيل الموضِّح له نتائجها السيئة وما يترتَّب عليها من أضرار على الفرد والجماعة.
عندما تشعر أن أخاك المؤمنَ غير مقتنِع ببعض الأشياء أو أن عنده شكًّا في بعض تعاليم الشريعة، قد خدعته الدعاياتُ المضلّلة، فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الموجِّه الذي يوضح الحقَّ ويبيّنه، هكذا فليكن المؤمنون فيما بينهم، تناصحٌ وتعاون ودعوةٌ إلى الخير وتحذيرٌ من أسباب البلاء والانحراف.
أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك أن تمحض له المشورةَ الصادقة عندما يستشيرك ويستنصحك، فأدِّه مشورةً طيبة ونصيحة مباركةً تعتقدُ أنها الحقّ الذي ترضاه لنفسك.
أخي المسلم، من حقِّ أخيك عليك أن تنصُره إذا وقعت عليه مظلمة، فتكون في صفِّه بالدعوة إلى الخير، وتكون في صفِّه بتوجيهه وتعليمه؛ كيف يتخلّص من تلك المظالم، وكيف يعالج القضايا، فتكون معه إلى أن يحقِّق الله له مطلوبَه بالطرق السليمة.
وإن رأيته ظالمًا غاشمًا فكن ناصرًا له بأن تردعَه عن الظلم، وتبيِّن له نتائجَ الظلم الوخيمة في الدنيا والآخرة، حذِّره من مظالم العباد، حذِّره من دعواتِ المظلومين، وأن دعوةَ المظلوم مستجابة، ((واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))

أخي المؤمن، عندما تشعر أن أخاك المسلمَ بينه وبين زوجتِه شقاق ونزاع، وأنت قادر على الإصلاح والتوفيق، فتذكر قول الله: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء:128]، فأصلح بين الزوجين، ووفِّق بينهما؛ لتكونَ من المؤمنين حقًّا.
عندما يبلغك فجوةٌ بين الرجل وأبنائه وأمورٌ بينه وبين أبنائه واختلاف بينهم فبادر بنصيحةِ الأبناء، وحُثِّهم على البر والصلة وتحذيرهم من العقوق، ثم قابلِ الأبَ وحُثّه على الخُلُق الطيب والصبر مع الأولاد وعدم إحداث ما يسبِّب الشقاقَ والنزاع، حتى يعينَ أبناءَه على برِّه والإحسان إليه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 81 ) إ ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد : أيها المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك أن لا تكونَ غاشًّا له عندما تبيعه وعندما يشتري منك، فإياك أن تكونَ غاشًّا له ومدلِّسًا عليه وخادعًا له ومُخفيًا عيوبَ السِّلَع، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من غشَّنا فليس منّا، والكذب والخداع في النار))
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن يَسلَم أخوك من شرِّ لسانك ويدك، فلا يكن لسانُك مغتابًا له ولا ساعيًا بنميمةٍ بينه وبين إخوانه لقصدِ الإفساد، ولا يكن لسانك يرميه بالعظائم ويتَّهمه بما هو براء منه ويقول عليه إثمًا، فحذّره من ذلك وبيّن له قول الله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58].

من حقِّ أخيك المسلم عليك أن لا ينال بسبب هفواتِ لسانك أن تقول فيه باطلاً، أو تشهدَ عليه زورًا وبهتانًا، أو تنسبَ إليه ما هو براء منه، فهذا من أعظم حقوقه عليك.
ومن حقِّ أخيك عليك أن يسلَم من يدك، فلا تضربه ولا تُتلف مالَه ولا تخُطَّ بقلمك ما فيه ضررٌ وإيذاء له في الحاضر والمستقبل.
من حقِّ أخيك المسلم عليك إن يكن عندك شهادةٌ له هو غافلٌ عنها لا يعلَم بها ويترتَّب على هذه الشهادةِ حفظُ حقوقه المالية فإنَّ الواجب عليك أن تظهرَها ولا تخفيها، (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة:283].
من حقِّ أخيك عليك عندما ترى وصيَّته التي يريدُ أن يوصيَ بها أو أوقافَه التي يريد أن يوقِفَها، حينما ترى فيها حَيفًا ومخالفةً للصواب وتفضيلاً للبعض على البعض فخُذ على يده ومُره بالعدل في وصيته وعدم مخالفة الشرع، (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:182].
من حقِّ أخيك المسلم عليك أن تحفظَ ماله عندما يفقدُه وعندما يغيبُ ماله عنه وينساه، والنبي صلى الله عليه وسلم سأله الصحابيّ عن لُقطة الذهب والفضة قال: ((اعرِف عِفاصها ووكاءها، ثم عرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فهي له، وإلاَّ فهي مال الله يؤتيه من يشاء)) فأمره أن يعرِف وعاءها ويعرِف ما رُبطت به ويحصِي عددها، ثم يعرِّف عليها حولاً كاملاً في مجامِع الناس وفي وسائل الإعلام تعريفًا عن مفقود وعن نقودٍ مفقودة أو حُليّ مفقود، فإن جاء ذلك الإنسان ووصف ذلك المال أو ذلك الحليّ بأوصافٍ تدلّ على صِدقه ومطابقة الواقع فادفعها له، وإن مضى عامٌ ولم يأتِ لها طالب فهو مال الله ملَّكك الله إياه إلى أن يأتيه من يدَّعيه ويبيِّن صفاتِه على الحقيقة. كلُّ هذا من حقِّ المسلم على المسلم.

من حقِّه عليك ـ أخي المسلم ـ أن تبدَأه بالسلام إذا لقيته، فتقول: السلام عليكم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحلُّ لمسلم أن يهجرُ أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام))
ومن حقِّه إذا سلَّم عليك أن تردَّ عليه تحيّته، (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء:86]. فإذا قال: السلام عليكم، فقل له: وعليكم السلام، وإن زدته: "ورحمة الله وبركاته" فقد أخذت بالحظ الأوفر.
من حقِّه عليك عيادتُه في مرضه وزيارته أثناءَ مرضه تضميدًا لجراحه ومواساةً له وإكرامًا له ولأهله، فعسى أن ينتفعَ من زيارتك بنصيحةٍ تُسديها إليه، وتذكيرًا له بحقوقٍ للناس غائبة عنه، وتذكيره بالتَّوبة إلى الله والإقلاع والاستغفار، وتذكيره بالوصيَّة العادلةِ التي لا جَور ولا ظلم فيها.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

( 82 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يؤمنُ أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبه لنفسه))
فأحبَّ الخيرَ لأخيك المسلم، واسعَ له في الخير جهدَك، واكره له ما تكرهُ لنفسك، قِف معه في المواقف العصيبة، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا فرّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة.
المسلم، من حقِّ أخيك المسلم عليك، إذا رأيتَه على أمر خالفٍ للشرع واطلعتَ على أمر يخالف الشرع يمارسه فليكن منك السترُ عليه قبل كلِّ شيء، ولا تحاول فضيحتَه وإشاعة الفاحشة عليه.

اعلم أن الإنسان خطَّاء، وأن الشيطانَ يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأن الإنسان ضعيفٌ أمام شهواته إلاَّ من لطف الله ورحِم وعصم، إذًا فليكن موقفك أمور، أولاً: السّتر عليه وعدمُ نشر تلك الفاحشة، وليحذر من قول الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [النور:19]. فلا تفرح باطِّلاعك على أخطائه، ولا تفرَح بهلاكِه، بل اعلَم أن هذه من مكائد الشيطان، فليكُن موقفُك مع أخيك الستر عليه أولاً، ثم توجيهُه وتحذيره من تِلكم الجريمةِ التي يمارسها، وبيِّن له كتابَ الله وسنةَ رسوله، فعسى الله أن يجعلَ في سترك ورفقك سببًا يستحيي [منه] ويخجل، ثم يتوب إلى الله من خطئه.
من حقِّ المسلم عليك، عندما تعلم أنَّ شخصًا من المسلمين حجَر على بناته ومنعهنّ الزواج، وأراد بمنعهنّ من الزواج استغلالَ حقوقهنّ وأموالهن ومرتَّباتهن أو أراد أن يجعلهنّ سِلعةً يساوِم بها لأغراضه الخاصة، يردُّ الأكفاءَ طلبًا في صاحب مال ونحوه، فليكن موقفك منه موقفَ الناصح الموجِّه، المحذِّر له من تلك الخطيئة، المبيِّن له أن البناتِ أمانة في أعناق الأب، إذا تقدَّم إليه من يرضى خلقَه وأمانته فليتَّق الله وليزوِّج البنات، ولا يجعلهنّ للمصالح المادية أو نحو ذلك، فإن هذه أمانة لا ينجو منها إلا إذا سلَّمها للكفء الذي يغلب على ظنه أهليته لذلك.
أيها المسلم، عندما ترى المعاملاتِ السيئة عند أخيك، معاملاتٍ ربوية، ومعاملاتٍ فيها كذب وخداع وعدم مبالاة، فليكن موقفك منه النصيحة وتحذيره من الأموال المحرّمة، وأنه لا خيرَ فيها، وعواقبُها سيئة، وعواقبها فشل البركة والعذاب يوم القيامة.
وأخيرًا يا أخي، المؤمنُ مرآةٌ لأخيه، فالمرآة تعكس حالَ أخيك، فليكن حرصُك على هدايته واستقامته وبُعده عن المخالفات لتؤدِّي حقَّ الأخوة الإسلامية الصادقة.

أسأل الله لي ولكم العونَ والتسديد، إنه على كل شيء قدير.
يقول صلى الله عليه وسلم : ((المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله)).
أخي المسلم، قد يضمُّك مجلسٌ ما ترى بعضَ مَن لا حياءَ عنده ينتهك أعراضَ المسلمين، ينتقِص من حُرمتهم، ويهتك أعراضهم، ويقولُ فيهم من الأكاذيب والأباطيل ما هم برآء منه، فإياك وإيّاك أن تسكتَ بلا إنكار، وإياك أن يمرَّ المجلسُ عليك وأنت ساكت، انهض وانصح الجالسين، وحذِّرهم من انتقاص حرمة المسلمين، فإنّ من نصر أخاه المسلمَ في موقفٍ يُنتقص من عِرضه، ويُنتهك من حرمته نصره الله في موضعٍ يحبّ نصرتَه فيه، ومن خذل أخاه المؤمنَ في موضعٍ يُنتقص من عِرضه ويُنتهك حرمته خذله الله في موضع يحبّ نصرتَه فيه، فانصر أخاك، ودافِع عن عِرضه، ولا تدع للسفهاء والأراذل أن يمتدّوا في أعراض الأمة، ويقولوا الأكاذيبَ، ويفتروا الأباطيل، ويقولوا ما ليس لهم به علم، فإنّ المسلمَ إذا أخذَ على يد السفهاء ولم يترك لهم المجال، يقولوا بلا علم، أخذ على أيديهم، وحذَّرهم من عذاب الله، وبيَّن لهم أن نجوى المسلمين خيرها ما كان معِينًا على البر والتقوى، (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء:114].
فكن ـ يا أخي المسلم ـ يقظًا عندما تُنتهَك أعراض المسلمين، دافِع عنها بقدرِ الاستطاعة، وقِف الموقفَ المحمود الذي تبتغي به وجهَ الله وترجو به ما عند الله.
وفَّق الله الجميع لكل خير، وجنّبنا وإياكم أسباب الشر والبلاء، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 83 ) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :في البخاري عن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخط الله عز وجل، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)).
يُلقي الرجل الكلمةَ لا يُلقي لها بالاً وهو يحتسي القهوة والشاي، يريد أن يملأ فراغه ويضحِك خلاّنه أو يسرّ الذين يسامرونه، فيسخر من أخيه المسلم أو يقع في عرضه همزًا أو لمزًا، هذه الكلمة قد يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة، قال علقمة: "كم من كلام منَعَنيه حديث بلال بن الحارث أن أقوله".
قالت عائشة رضي الله عنها يومًا: يا رسول الله، حسبك من صفيّة كذا وكذا، تعني أنها قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))، لو اختلطت بماء البحر لأنتَن البحر كلّه، هذه الكلمة ـ إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة ـ أنتنت ماء البحر لو مزجت به، فكيف بكثير مما نقوله صباح مساء؟!

وقال سبحانه: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) [آل عمران:181]، وقال عز شأنه: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15]، وحث على حفظ اللسان وصيانة المنطق ومجانبة الفحش والبَذاء فقال جل وعلا: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((أمسك عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! ف‍‍قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) وحصائد الألسن جزاء الكلام المحرّم وعقوباته. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا))، قال النووي رحمه الله: ((تكفر اللسان)) أي: تذل له وتخضع".

ولقد كان خوف السلف الصالح من آفات اللسان عظيمًا، فهذا أبو بكر كان يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد)، وكان ابن عباس يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك، قل خيرا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فإنك ستندم)، فقيل له: يا ابن عباس، لم تقول هذا؟ قال: (إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حَنَقًا أو غيظًا منه على لسانه إلا من قال به خيرًا أو أملى به خيرًا)، وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وقال الحسن: "اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عفّ عفت"، وقال عمر : (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)، وكان طاووس رحمه الله يعتذر من طول السكوت ويقول: "إني جربت لساني فوجدته لئيما وضيعا"، وقال أحد السلف: "إن ترك فضول الكلام والطعن في الناس أشق على النفس من قيام الليل"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة".
أيها المؤمنون، حفظ المرء للسانه وقلّة كلامه عنوان أدبه وزكاء نفسه ورجحان عقله، كما قيل في مأثور الحكم: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء: "كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى ... وحظك موفورٌ وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ ... فكلّك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا ... يومًا فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى ... وفارق ولكن بالتي هي أحسن
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 84 ) وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :أيها المؤمنون قال الله جل وعلا: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا) [الإسراء:82].
وقال جل وعلا في القرآن: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)[فصلت: 44] فإن الله جل جلاله جعل هذا القرآن هدى للمؤمنين، وجعل فيه الشفاء.
قال العلماء: الشفاء في القرآن ثلاثة أنواع:
فمنه الشفاء من أدواء الشبهات والشهوات. التي من تسلطت عليه أضلته وصار ساعيًا في الظلمات، والله جل جلاله جعل هذا القرآن هاديًا للتي هي أقوم (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء:9] فمن أراد السلامة من أمراض الشهوات ومن أمراض الشبهات، فعليه بالقرآن، فهو للذين آمنوا هدى وهو للذين آمنوا شفاء.
النوع الثاني: أن القرآن شفاء لأمراض البدن بأنواعها. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ما من داء إلا وفي القرآن شفاؤه، علمه من علمه وجهله من جهله, وآيات القرآن عند أهل العلم فيها من عجائب الاستطباب ومن عجائب التداوي بها ما لا يعلمه كثير من الناس.
فانظر مثلاً إلى ابن عباس رضي الله عنه كيف تلا على الذي كان به داء الرعاف الذي استطال به. كان طريقة دواء ذلك الداء عند ابن عباس رضي الله عنه أنه كتب على جبينه آيات من القرآن وهي قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر) [هود:44]. فشفى الله جل وعلا ذلك المريض.
انظر إلى ذلك الرجل الذي أصيب بسمّ من بعض ذوات السموم. فأتاه بعض الصحابة فقرأ عليه القرآن، فأبطل الله جل وعلا ذلك السم وأثره وقام الرجل سليمًا يمشي بين الناس
وهكذا القرآن فيه شفاء للأمراض البدنية.
وقد عدّ العلماء من أنواع هجر القرآن التي تدخل في قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا) [الفرقان:30]. عدوا من أنواع هذا الهجر، أن يهجر القرآن فلا يستشفي به.

والنوع الثالث من أنواع الشفاء بالقرآن الشفاء من الأمراض النفسية، ومن عين الإنس وعين الجن ومن السحر، ومن جميع تلك الأمراض، التي قد لا تكون من جنس الأمراض البدنية.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرقى بعض أولاد جعفر لما رأى فيهم من أثر العين. وقد أمر عليه الصلاة والسلام بذلك، وقد رقى عليه الصلاة والسلام ورُقي أيضًا.
فالقرآن إذًا أيها المؤمنون شفاء، والرقية بالقرآن سنة ماضية فقد رقى جبريل عليه الصلاة والسلام نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الصحابة، ورقى الصحابة أيضًا، رقى بعضهم بعضًا، وهذا امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)) فالرقية بالقرآن وبالأدعية النبوية الواردة، فيها الشفاء بإذن الله، فهي سبب ينفع الله جل وعلا به. والقرآن فيه الشفاء للمؤمنين ولكن الظالمين لا يزيدهم إلا خسارًا.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

85 ) ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعي رؤوسهم، لايرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء.".آية تهديد ووعيد ولكن ما أعظم مافيها من شفاء لقلوب المظلومين وتسلية لخواطر المكلومين، فكم ترتاح نفس المظلوم ويهدأ خاطره حينما يسمع هذه الآية ويعلم علم اليقين أن حقه لن يضيع وأنه سوف يقتص له ممن ظلمه ولو بعد حين. وأنه مهما أفلت الظالم من العقوبة في الدنيا فإن جرائمه مسجله عند من لاتخفى عليه خافيه ولايغفل عن شئ . والموعد يوم الجزاء والحساب، يوم العدالة، يوم يؤخذ للمظلوم من الظالم، ويقتص للمقتول من القاتل " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لاظلم اليوم" ولكن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" أي تبقى أبصارهم مفتوحة مبهوتة، لاتتحرك الأجفان من الفزع والهلع، ولاتطرف العين من هول ماترى، "مهطعين مقنعي رؤوسهم رؤوسهم، لايرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء" أي مسرعين لايلتفتون إلى شئ ممن حولهم، وقد رفعوا رؤوسهم في ذل وخشوع لايطرفون بأعينهم من الخوف والجزع وقلوبهم خاوية خالية من كل خاطر من هول الموقف. ماأعظم بلاغة القرآن وماأروع تصويره للمواقف حتى كأنك ترى المشهد ماثلاً أمامك.
أخي الحبيب تخيل وأنت تقرأ هذه الآية مصير الطغاة الظلمة ممن انتهكوا أعراض المسلمات وسفكوا دماء الأبرياء وقتلوا الأطفاء وشردوا النساء ، وهدموا المساجد والمنازل تذكر من عاثوا بأرض البوسنة والهرسك والشيشان الفساد ومن أذاقوا أخواننا في فلسطين صنوف العذاب والقهر والظلم ، وتذكر الطغاة الذين يعذبون الدعاة في السجون ويسيمونهم سوء العذاب من أجل أنهم قالوا ربنا الله، تذكر أن الله فوقهم وأنه سوف يقتص منهم وسيرينا فيهم مايثلج صدورنا إن شاء الله ويتحقق لنا موعود ربنا تبارك وتعالى إذ يقول:" فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الآرائك ينظرون ،هل ثوب الكفار ماكانوا يفعلون".

اللهم اغفر ذنوبنا ويسر أمورنا واستر عيوبنا وآمن روعاتنا واغفر زلاتنا ، وانصرنا على أعدائنا، وثبتنا على دينك ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 86 ) ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لايحتسب
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
هذا كلام الله تعالى الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وليس قول أحد من البشر، وهو سبحانه وتعالى إذا قال فإن قوله الحق. هذه الآية العظيمة جاءت على سياق شرطي فعل شرط وجواب شرط: من يتق الله يكون جزاؤه أن يجعل الله له مخرجاً وأيضاً يرزقه من حيث لايعلم ولايحتسب. فمتى ماتحقق فعل الشرط وهو التقوى تحقق جوابه وجزاؤه. وياله من جزاء عظيم ومكسب كبير ولكن كيف الطريق إلى التقوى أيها الأخوة؟ بل ماهي التقوى أولاً؟ إنها بعبارة مختصرة : كلمة جامعة لكل خير، هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه والوقوف عند حدوده. لذا كانت التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين ووصية كل رسول لقومه إن اتقوا الله لأن فيها السعادة في الدنيا والآخرة وفيها النجاة والمخرج من الشدائد والأزمات.
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها الصحابي الجليل أبا ذر رضي الله عنه فقال له:" اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". والتقوى لاتتقيد بمكان ولازمان ولكن المحك الحقيقي لها في الخلوات فالتقي هو من يصرف بصره عن الحرام ولو لم يره أحد والتقي من يتعفف عن أكل الحرام ولو لم يطلع عليه أحد لأنه يعلم علم اليقين أن الله يراه ولأن مراقبة الله وتقوى الله حاضرة في ذهنه في كل حين . والتقوى موضعها القلب يقول صلى الله عليه وسلم: التقوى هاهنا ويشير إلى صدره" وتظهر آثارها على الجوارح بعمل الطاعات وإجتناب المحرمات.

فليفتش كل منا عن تقواه وليزن نفسه بميزان التقوى فعلى قدر تقواه وخوفه من الله وخشيته له يكون إيمانه. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم أت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 87 ) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايُفتنون

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايُفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"
نعم أننا نحسب أننا لانفتن ! إن لم يكن هذا بلسان المقال فلسان الحال يقول ذلك ، والدليل على ذلك أن أعمالنا ( إلا من رحم الله ) لاتدل على أننا نخشى أن نفتن في ديننا ولم يظهر علينا أننا قد أعددنا العدة لذلك ، لذا فإن هذه الآية تقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم ، كيف لا ؟ فمن منا يأمن أن لايخذله إيمانه ساعة أن يفتن فيزل ويخسر دينه وآخرته ويكون والعياذ بالله من الخاسرين وذلك هو الخسران المبين . أخي الكريم أنه لامنجي من الفتنة إلا الإيمان بالله والصدق في التوجه والقصد والإخلاص لله تعالى والإستعداد لتحمل المشاق في سبيل ذلك والتضحية بالغالي والنفيس من أجل هذه العقيدة التي تحملها بين جنبيك ولو كان الثمن روحك التي هي أغلى لديك من كل شيء.

ولأن الجائزة هي الجنة ، والجنة غالية فلا بد أن يكون الثمن غالٍ ولايمكن أن ينالها إلا من يستحقها وقد قضى الله سبحانه تعالى على عباده أن يمتحنهم فيكافيء صادقي الإيمان بالجنة ويبعد أصحاب الهوى والشهوة وعباد الدنيا عنها وهذا الإبتلاء والتمحيص والإختبار هو المدار الذي تدور عليه الحياة قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا . والشاهد قوله : ليبلوكم أي ليمتحنكم وليمحصكم . قد يكون هذا الإبتلاء في الحياة الدنيا بالفتن : فتنة المال أو فتنة النساء أو فتنة الأبناء أو فتنة المنصب أو الجاه وقد يكون الإبتلاء بالتباس الحق بالباطل فلا يستطيع ضعيف الإيمان أن يفرق بينهما فيقع في الباطل ويزل أو قد يكون الإفتتان ساعة الإحتضار حينما يتهيأ الشيطان للإنسان على هيئة أمه أو أبيه -كما ورد في الحديث - ويحاول أن يصرفه عن دينه يقول له أنا أبوك مت على النصرانية أو اليهودية فهي الدين الحق ولايزال به حتى يصرفه عن الدين الحق فإن كان صعيف الأيمان فقد يموت على غير دين الإسلام والعياذ بالله.

ونعود الآن إلى تفسير الآيات : ألم : وتقرأ : ألف لآم ميم : والحروف المتقطعة في أوائل السور تأتي للتنبه على إعجاز القرآن. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون : إستفهام إنكاري أي أظن الناس أن يتركوا من غير افتتنان لمجرد قولهم باللسان آمنا ؟ كلا لابد من الإيتلاء والتمحيص. وفي بيان هذا الأمر تطمين للمؤمنين كي يوطنوا أنفسهم على الصبر على البلاء والأذى وأن يثبتوا على الإيمان. ولقد فتنا الذين من قبلهم : أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن ، قال البيضاوي : والمعنى أن ذلك سنة قديمة ، جارية في الأمم كلها ، فلاينبغى أن يتوقع خلافه . فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين : أي فليميزن الله بين الصادقين في دعوى الإيمان وبين الكاذبين .
فماذا أعددت ياعبدالله لهذا الإمتحان الذي هو آتٍ لامحالة ؟ هل أعددت له إيماناً راسخاً كرسوخ الجبال ؟ أم اعددت له يقيناً صادقاً صلباً كالحديد لايلين ؟ أم هل أعددت لذلك الإمتحان قلباً عامراً بذكر الله مشرقاً بنور القرآن ولساناً تالياً لآيات الله آناء الليل وأطراف النهار؟ أم قد استعديت له بصيام الهواجر وقيام الليل ؟ أم بالصدقة والسعي على الفقراء والأرامل والأيتام والمحتاجين ؟ إذا كان هذا شأنك فهنيئاً لك بالنجاح والفوز بالجنة إن شاء الله ، وإن لم يكن عندك شيء من ذلك فتدارك نفسك فإنك على خطر عظيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 88 ) ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاء تكم جنودٌ...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله تعالى : " ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاء تكم جنودٌ فارسلنا عليهم ريحاً وجنواً لم تروها وكان الله بماتعملون بصيرا . إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الطنونا. هتالك أبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا "
كان هذا هو يوم الأحزاب ، يوم أن تحزبت أمم الكفر من المشركين واليهود والوثنيين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فتنادوا من كل حدب وصوب ، فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبني قريضة وأوباش العرب على حرب المسلمين وجاؤا بجيوشهم الجرارة وبعددهم وعتادهم وكانوا زهاء إثني عشر ألفاً جاؤا ليقضوا على الإسلام ويمحوه من الوجود ، وربما كانوا يخططون لفرض نظامٍ عالمي جديد ! وأحاطوا بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم وضيقوا عليهم الخناق في المدينة ودب الرعب والذعر في الناس وظن كثيرون أن الهلاك واقع لامحالة وأنه لاقبل لأحد من المسلمين بهذه الأعداد ، ولكن المؤمنين كانوا واثقين من نصر الله فكان النصر العظيم من عند الله ، نصر جنده بمعجزة من عنده لم تصمد لها تلك الألوف المؤلفة ولم تستطع الوقوف في وجهها، فولت الأدبار وكان النصر للمؤمنين دون إراقة دماء ولا فقد أرواح ، فقد أرسل الله تعالى ريحا من عنده اقتلعت بيوتهم وكفأت قدورهم وأرسل عليهم الملائكة فزلزلتهم وألقت الرعب في قلوبهم ( ومايعلم جنود ربك إلا هو ) .

سبحان الله ! هكذا نصر الله يأتي في لحظة العسر ولحظة الشدة والضيق وبأهون الأسباب بل بما لايخطر على بال أحد ... ولكن أين الإيمان ؟؟ ياهل ترى هل تستطيع أكبر القوى وأعظم الجيوش والدول بما أوتيت من تكنولوجيا وأسلحة نووية وجرثومية وعابرات للقارات وأقمار تجسس ، هل تستطيع أن تثبت على سبيل المثال أما طوفان يرسله الله عليهم فيغرقهم هم وأسلحتهم ومعداتهم ؟! أو ريحا عاتية ذات أعاصير فتقتلعهم وتهلكهم ؟ أو حشرة صغيرة تفتك بهم فتلقيهم صرعى ؟!! إن الله قوي عزيز لايعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .

ثم عد إلى الآيات لترى التصوير القرآني البليغ في وصف حالة الخوف والهلع التي بلغت بالمسلمين في ذلك اليوم العصيب حينما تكالبت قوى الشر وتحالفت على حرب المسلمين وهم قلة لايتجاوز عددهم ثلاثة آلاف مجاهد أمام إثني عشر مقاتل جاؤا من كل حدب وصوب ( وإذ زاغت الأبصار ) أي مالت حيرةً وشخوصاً لشدة الهول والرعب (وبلغت القلوب الحناجر) أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى كادت تخرج من الحناجر ( وتظنون بالله الظنونا) أي وكنتم في تلك الحالة الشديدة تظنون الظنون المختلفة وهي مجرد خواطر وإلا فهم مؤمنون بوعد الله ، ولكن المنافقين كانوا يظنون ظن السوء ويقولون ماوعدنا الله ورسوله إلا غرورا. (هنالك ابتلي المؤمنون) أي امتحنوا واختبروا ليتميز الصادق من المنافق ( وزلزلوا زلزالاً شديدا) أي وحركوا تحريكا شديداً حتى كأن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم ، ولكنهم ثبتوا وسلموا أمرهم لله وقدموا أرواحهم فداءً لدين الله ، فلما علم الله صدق إيمانهم نصرهم بنصر من عنده ( وماالنصر إلا من عند الله ) .وإن ينصركم الله فلاغالب له. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن على المسلمين بنصر من عنده وأن يثبت أقدام المجاهدين في سبيله وأن ينصر الفئة القليلة على الطغمة الكافرة وأن يرد كيد الظالمين في نحورهم وأن يجعل الدائرة عليهم وأن يجعل بأسهم بينهم شديد وأن يرينا فيهم عجائب قدرته ، اللهم يامنزل السحاب وياهازم الأحزاب اهزم أحزاب الكفر، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم ، اللهم إنهم لايعجزونك فاهزمهم شر هزيمة ياعزيز ياقوي ، اللهم لاترفع لهم راية واجعلهم لمن خلفهم آية ، اللهم أعلي راية الجهاد وأدحض أهل الزيغ والفساد ، اللهم امنن علينا بنصر تقر له عيوننا وتشف به صدور قوم مؤمنين إنك سميع مجيب وبالإجابة جدير. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( 89 ) إن الله وملائكته يصلون على النبي...الايةالحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي ، ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد
روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة. حديث حسن
وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : : إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا يارسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال يقول : بليت قال "إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء" رواه أبوداؤد بإسناد صحيح
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجلٍ ذكرت عنده فلم يصل عليَ" رواه الترمذي وقال: حدبث حسن
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاتجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" رواه أبوداؤد بإسناد صحيح
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مامن أحدٍ يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" رواه أبوداؤد
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البخيل من ُذكرت عنده فلم يصل علي" رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح

وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة رضي الله عنه ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علمتم" رواه مسلم
فالله الله أخي الحبيب في هذا الفضل العظيم في هذا الذكر البسيط الذي يوجب قرب المنزلة من النبي الحبيب محمد صلى الله عليه . وسلم في الجنة. والحذر الحذر من البخل الذي يتمثل في عدم الصلاة على الحبيب عند ذكره عليه الصلاة والسلام . ولعل من المفيد أن نذّكر بأن معتى الصلاة من الله تعالى الرحمه ومن العباد الدعاء
اللهم أكسبنا حبك وحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وأرزقنا مرافقته في الجنة . اللهم وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لاتخلف الميعاد,وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(90 ) ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد "أخي الكريم عد معي بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، إلى إسبوع مضى إلى تلك الأحداث والمشاهد التي لاشك أنها لم تبرح مخيلتك بعد ، وكيف كان شعورك وأنت تنظر إلى تلك المناظر وكيف كان الرعب والخوف يتملك قلبك وأنت على بعد آلاف الأميال منها، وهكذا كان حال معظم من شاهدها من جميع أقطار المعمورة ، وكيف كان حال القريبين من موقع الحدث ورأيت بعينيك ماصاحب تلك الأحداث من مشاهد الخوف والفزع والهلع الذي أصابهم وقد تملكهم الخوف وانطلقوا في كل حدب وصوب لايلوون على شيء في منظر مرعب مخيف ، سحب الدخان الداكن الكثيف تنتشر بسرعة وألسنة للهب مثل الجبال والناس يتساقطون من أعالي المباني والهدم والدمار والصراخ والعويل.

أخي الكريم : هل ذكرك ذلك المشهد بمشهد يوم القيامة الذي جاء وصفه في كتاب الله وفي أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وبالتحديد هل وقفت مرة عند هذه الآية وتأملتها وتخيلت المشاهد التي جاءت فيها ؟ إن ماشاهدناه من صور مرعبة وأحداث مهولة لاتعدل معشار أهوال يوم القيامة وأحداثها. كيف لا ؟ هذا دمار محدود ويوم القيامة سوف يكون الدمار في كل أرجاء الكون ، الأرض سوف تتزلزل من تحت الأقدام، المباني الشاهقة سوف تسقط وتتهدم ، والمصانع القائمة سوف تشتعل فيها النيران، والبحار وماأدراك مالبحار سوف تتحول إلى نيران مشتعلة ، والجبال الراسية سوف تكون كالعهن المنفوش وهو القطن المتطاير في الهواء. يالها من مشاهد تتقطع القلوب من ذكرها فمابالك بمشاهدتها ومعايشتها ؟ اللهم رحماك رحماك يارب .. ويكفي وصف الله تبارك وتعالى لتلك الزلزلة بأنها شيء عظيم : إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، يحذرنا سبحانه وتعالى وهو العالم بأحوالنا الرحيم بنا يحذرنا من شر ذلك اليوم ويوجه الخطاب إلى الناس وليس للمؤمنين فحسب بل لكل البشر : ياأيها الناس اتقوا ربكم أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بإمتثال أوامره واجتناب نواهيه إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم : تعليل للأمر بالتقوى أي أن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر عظيم وخطب جسيم يوم ترونها : أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدون فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت : أي تغفل وتذهل مع الدهشة وشدة الفزع كل أنثى مرضعة عن رضيعها ‘ فإذا رأت ذلك المنظر نزعت ثديها من فم طفلها وفرت عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع !! وتضع كل ذات حملٍ حملها : وتسقط الحامل مافي بطنها من هول الفاجعة وشدة الواقعة ، وترى الناس سكارى وماهم بسكارى: أي تراهم يترنحون ترنح السكران من هول مايدركهم من الخوف والفزع وماهم على الحقيقة بسكارى من الخمر ولكن عذاب الله شديد : أي أن أهوال الساعة وشدائدها أطارت

عقولهم وسلبت أفكارهم.
أخي الكريم : دعنا نتساءل (أنا وأنت ) ماذا أعددنا لأهوال يوم القيامة ؟ أم أن عندنا شك في هذا الكلام ؟ كلا ، إنه كلام ربنا الحق الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ووالله أن ماذكره لنا في كتابه وماصوره لنا من تصوير ووصفه لنا من وصف سوف يقع بتفاصيله وصوره لامحالة ، فالله الله في العمل والإستعداد لتلك الأهوال ، فلا منجي والله إلا الله ولا ينفع الإنسان إلا ماقدم ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. الأيام تمضي والساعات تمر والعمر يتقدم والساعة تقترب وعلاماتها الصغرى قد اكتملت والكبرى بوادرها على الأبواب وإذا جاءت أولاها تلتها أخواتها كما تنخرط حبات المسبحة إذا ماانفرط عقدها، فماذا أعددنا لها ؟ كم هو موجع هذا السؤال ولكنه مفيد مادمنا في ساعة الفسحة وزمن المهلة ! نعم ماذا أعددنا لها من أعمال صالحة ؟ جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال يارسول الله متى الساعة ؟ قال: ماذا أعددت لها ؟... نعم إي والله ماذا أعددنا لها ؟! أعمارنا محسوبة وأيامنا معدودة وكل ساعة محاسبون عليها فماذا أعددنا ؟ هل ننتظر حتى يداهمنا الموت (وماأقرب الموت) حتى نبدأ العمل ؟ إذن اسمع قول الحق تبارك وتعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب إرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 91) لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : "لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم"كم قرأنا هذه الآية في كتاب الله وكم سمعناها؟ ولكن هل وعيناها؟ وهل تنبهنا إلى مافيها من تحذير ؟ نعم .. إنه تحذير شديد اللهجة ، مصدره ليس أحد من البشر ولا حتى نبي من الأنبياء بل هو صادر عن رب العالمين تبارك وتعالى ، ومن ماذا يحذرنا ؟ إنه يحذرنا من مخالفة أمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فللنظر كيف تعاملنا مع هذا التحذير الإلهي العظيم ! وكيف كان موقفنا منه ؟ هل توقفنا عن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهل اتبعنا هديه في كل ماجاء به ؟ فوقفنا عند حدود مانهى عنه وامتثلنا بما أمر به ؟ وقبل الجواب على هذا السؤال دعونا نجري مقارنة بسيطة : تسير بسيارتك في الطريق فإذا بلوحة مكتوب عليها تحذير : منعطف خطير ! فهل تستمر أم تهدئ من سرعتك حتى لاتقع في المنحدر ؟ مثال آخر : تجد لوحة مكتوب عليها تحذير : خطر تيار عال ! فهل تقترب منه وتلمسه بيدك ؟! كلا ..
إذن مابالنا أخي في الله نقرأ تحذير علام الغيوب الذي لاتخفى عليه خافية في الأرض ولافي السماء ومع ذلك نصم آذاننا ونغمض عيوننا ونستمر في طريقنا غير آهبين بما حذرنا منه ؟ !! إن هذا لهو الجنون والتهور والسفه ! أما من كان في رأسه ذرة من عقل فإنه بلاشك سيتوقف عند هذا التحذير بدل المرة الواحدة ألفا من المرات.

كم من المخالفات لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في حياتنا اليوم ؟ .. أخي الكريم اسأل نفسك هذا السؤال وحاسبها قبل أن تحاسب واعلم أن المولى تبارك وتعالى ماكان ليحذر من شئ إلا وفيه خطر علينا في دنيانا وأخرانا .. يقول تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم، أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة. ولعل هذا المخالف يفتتن عند موته ساعة الإحتضار ساعة التنمحيص ساعة أن يتسلط عليه الشيطان فلا يصمد أمام هذه الفتنة فيموت على غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فيختم له بشر فيخسر الخسران المبين ، وقد لايصمد إذا ما أفتتن في قبره وجاءه الملكان يسألانه من ربك ؟ مادينك ؟ ومن نبيك ؟ فينهار أمام هذه الفتنة فلايجيب ... أعاذنا الله وإياكم من فتنة المحيا والممات.
فلابد لكل عقل أن يتفقد نفسه وأن ينظر حوله ويتفحص نهجه وطريقه هل هو موافق لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أم أنه في وادٍ وهدى خير العباد في وادٍ آخر ؟ الأمر جد خطير والنتيجة لاتظهر إلا في ساعة العسر والشدة فلا يغتر عاقل باستقرار الأمور وهدوء الأحوال فالعبرة بالمآل ومتابعة الصراط المستقيم ، المحجة البيضاء التي أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه تركنا عليها وأنها بيضاء واضحة ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك.

فتش أخي في الله عن أوامر المصطفي صلى الله عليه وسلم في حياتك وانظر كم من المخالفات قد وقعت فيها : انظر في صلاتك ! وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلى ، انظر في هيئتك ، لباسك ؟ كم فيها من المخالفات ماأسفل من الكعبين من الإزار ففي النار . تفكر في بصرك : وانظر ماذا نهيت أن تنظر إليه من الحرام. تفكر في سمعك : وانظر ماذا نهيت أن تستمع إليه من الحرام. تفكر في لسانك: الغيبة النميمة قول الزور، وهكذا سائر أعمالك وتعاملاتك من بيع وشراء وأخذ وعطاء وتعامل مع الأهل والأرحام والجيران والخدم والسائقين وفي كل أحوالك .. تفكر في هذه الأمور وحاسب نفسك في ظل هذه الآية واعمل فيها فكرك فما خلق الله لنا العقول إلا لنتفكر بها ونتهتدي بها إلى الحق والصواب . نسأل الله السلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار ونسأله أن يجعل أقوالنا وأعمالنا موافقة لهدى المصطفى عليه الصلاة والسلام وأن يجعلنا على هديه سائرين وبسنته متمسكين وعلى أثره مقتفين إنه سميع مجيب .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( 92 ) لاخير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ.....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى : " لاخير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس ، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً "
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى ، قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لاأقول تحلق لشعر ولكن تحلق الدين).

فالله أكبر ماأعظم أجر وثواب الإصلاح بين عباد الله المتخاصمين الذين نزق الشيطان بينهم فأوغر صدروهم وأحل العداوة محل الأخوة والقطيعة مكان الوصل.
إخوتي : إن هذا العمل العظيم قد جهل فضله كثير من المسلمين اليوم، فنجد الخصومات تستمر بالشهور بل السنين العديدة بين الأهل والأخوان والجيران ولاتجد من يسعى للصلح بينهم، كلٌ مكتفٍ بشأنه وكلٌ مشغول بنفسه. فيتركون المتخاصمين للشيطان يوقد نار الفتنة بينهما ويزيدها إشتعالاً حتى يستفحل الأمر وتقع الطامة ، بينما الصالحون غافلون عن هذا السبيل ، هذا العمل الجليل الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات وامتدحه من بين سائر الأعمال ، والذي هو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من أفضل الأعمال وأجلها بلاشك ولكن الصلح خير وأعظم. وكم من صائم قائم مصل ولكنه لايسعى للإصلاح بين المتخاصمين من أهله وجيرانه وماعلم أن ذلك أفضل من عبادته لإن عبادته خيرها مقتصر على نفسه أما إصلاحه بين الناس فخيره عام ومتعد إلى غيره.
وقد ذم الله تعالى الخصومة والقطيعة بين المسلمين لأنها تتنافى مع مبدأ الأخوة الإسلامية : إنما المؤمنون أخوة. وتوعد المتقاطعين بأن لايغفر لهم ولايقبل منهم عملاً حتى يصطلحا ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تُعرض الأعمال في كل أثنين وخميس فيغفر الله لكل أمريء لايشرك بالله شيئاً، إلا إمرءاً بينه وبين أخيه شحناء فيقول : اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم . وأمرنا معاشر المؤمنين بالسعي في الأصلاح: فأصلحوا بين أخويكم.

فهلا نظرنا أخوتي فيمن حولنا من زملائنا أو أخواننا أو جيراننا ممن نزق الشيطان بينهم وأوقع بينهم القطيعة والبغضاء فسعينا بينهم بالصلح ؟ فإن تم الصلح على يدينا فلله الحمد والمنة على توفيقه وهنيئاً لنا بموعود الله ورسوله وإن لم يكتب لنا التوفيق في مهمتنا فقد أدينا ماعلينا وسلمنا من الإثم. ولله در القائل :
إن المكارم كلها لو حصلت ...... رجعت جملتها إلى شيئين
تعظيم أمر الله جل جلاله ...... والسعي في إصلاح ذات البين
اللهم ارزقنا علماً نافعاً وعملاً متقبلاً ورزقاً واسعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وإيماناً خالصاً وهب لنا إنابة المخلصين وخشوع المخبتين وأعمال الصالحين وأصلح ذات بيننا وإجمع قلوبنا على الخير ياأفضل من رجي وقصد وأكرم من سئل، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك ياأرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(

93 ) وقال الشيطان لماقضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى " وقال الشيطان لماقضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وماكان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلاتلوموني ولوموا أنفسكم، ماأنا بمصرخكم وماأنتم بمصرخي، إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذابٌ أليم".

هذه الآية تسمى خطبة إبليس ذكر الحسن كما في القرطبي: أن إبليس يقف يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً. وقيل أنه يخطب خطبته هذه بعدما يسمع أهل النار يلومونه ويقرعونه على أن أغواهم حتى دخلوا النار. فيقول لهم: إن الله وعدكم وعد الحق أي وعدكم وعداً حقاً بإن يثيب المطيع ويعاقب العاصي فوفى لكم وعده، ووعدتكم فأخلفتكم أي وعدتكم ألا بعث ولاثواب ولاعقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد، وماكان لي عليكم من سلطان أي لم يكن لي قدرة وتسلط عليكم إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي أي بالوسوسة والتزيين فاستجبتم لي باختياركم، فلاتلوموني ولوموا أنفسكم أي لاترجعوا باللوم علي اليوم ولكن لوموا أنفسكم فالذنب ذنبكم ، ماأنا بمصرخكم وماأنتم بمصرخي أي ماأنا بمغيثكم ولاأنتم بمغيثي من عذاب الله، إني كفرت بماأشركتمون من قبل أي كفرت بإشراككم لي مع الله في الطاعة، إن الظالمين لهم عذاب أليم أي أن المشركين لهم عذاب مؤلم. هكذا يكشف إبليس عن عداوته لإبن آدم ويعترف بخذلانه له ليزيده حسرة وندماً.

عبادالله إن ربنا تبارك وتعالى حذرنا من هذا العدو الغرور الخداع وآيات الكتاب المبين مليئة بالآيات التي تحذرنا من الشيطان ومن وسوسته وتزيينه للفواحش والمعاصي ومع ذلك ماأكثر مايخدعنا وماأكثر ماننجرف في طريقه هذه جملة من الآيات التي تحذرنا من إبليس يقول الله تعالى :" إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".... "ولايصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين "...." ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" ... "يعدهم ويمنيهم ومايعدهم الشيطان إلا غرورا" ... "يابني آدم لايفتتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ..." كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير" ... "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان إلا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" . وغيرها كثير. فهلا اتعظنا عباد الله بواعظ القرآن ونذير الرحمن، إنه كلام علام الغيوب، الله رب العالمين، وليس على كلام الله مزيد بيان. اللهم إنا نعوذ بك أن نظل أو نُظل أو نزل أو نُزل، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن همزات الشيطان. اللهم اعصمنا من الشيطان ومن وسوسته وهمزه ولمزه.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

( 94 ) ولايزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال تعالى : " ..ولايزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لايخلف الميعاد"

صدق الله العظيم : مافرطنا في الكتاب من شيء .. سبحان الله كأن هذه الآية ما أنزلت إلا في القوم ومايعيشونه من أحداث في هذه الساعات!. ولاغرو فكتاب الله صالح لكل زمان ومكان. هاهي النكبات والرزايا تتوالى عليهم ، تنال مصالحهم في الخارج وتقع قريبا من ديارهم هنا وهناك وأخيرا هاهي تقع في عقر دارهم قارعة داهية منذرة فهل يستيقظون وهل يتنبهون إلى عاقبة ظلمهم وعدوانهم ومساندتهم للظالم المعتدي على المظلوم البريء ؟ أم يستمرون في غيهم وجبروتهم وطغيانهم حتى يأتي وعد الله ؟ إن الله لايخلف الميعاد.
لا إله إلا الله من يصدق ماجرى ؟ ومن كان يتوقع أن يقع ماوقع ؟ ولكن لعلها دعوة مظلوم من أرض الإسراء والمعراج ، من يدري ؟ لعلها دعوة حرى صدرت من قلب أب مكلوم على فقد فلذة كبده، جفاه الكرى وأقض مضجعه الفراق، فقام في آخر الليل يصلي ويدعو ، أو لعلها زفرة أم ثكلى بفقد وليدها، تفطر فؤادها من البكاء وسالت دموعها كالأنهار فلم تجد لها ناصراً إلا الله ولم تكن لها حيلة إلا الدعاء فانطلقت منها في جنح الظلام دعوة من القلب ممزوجة بالدموع والآهات فصادفت ساعة استجابة فكان ماكان .. ألم يخبر الصادق المصدوق الذي لاينطق عن الهوىعليه الصلاة والسلام : أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. من يدري ربما يكون هذا هو السبب في ماجرى؟!
ولكن هل يعي القوم هناك أن هذا بسبب ماجنته أيديهم وأقترفته أسلحتهم التي يمدون بهذا الباغي المعتدي ليقتل الأبرياء ؟
هل يتعظون بعد أن ذاقوا ألم الظلم ساعة من نهار ؟ - لاشك أن ماوقع لأولئك القوم الذين ذهبت أرواحهم إنما هو من الظلم .. لأنهم أبرياء لاذنب لهم - ولكن ماأكثر المظلومين في العالم وماأكثر الظالمين وأعوانهم !
هل يتعظون بعد أن تجرعوا هذا الدرس القاسي وشربوا من نفس الكأس وعانوا من ألم المأساة ؟ فيكفوا عن نصرة الظلمة من أبناء القردة والخنازير ؟

نعم إنه درسٍ قاسٍ ولكن من الآن فصاعداً سوف يكون من السهل على كل أم فقدت وحيدها في هذه المأساة أن تتذكر أم محمد الدرة وأن تتخيل كيف نامت تلك الليلة، ليلة فراق فلذة كبدها ..وأن تحس بمعاناة أم الطفلة إيمان البريئة التي لم تتجاوز شهورها الستة وأن تعرف كيف كانت تصارع الأحزان .. آه ماأصعب الظلم!
ومن الآن لن يكون من الصعب على اولئك الذين ناموا في العراء أن يحسوا بمأساة المشردين في أنحاء العالم .. وغيرها من المآسي التي كانت بلادهم ضليعةً فيها ..إن تهديم المنازل .. والبكاء .. والفراق .. والترمل .. واليتم ..والجنائز ..والدماء .. والموت .. والعزاء .. كلها من مفردات الظلم والقهر .. مرت بالقوم ليلة وذاقوا مرارتها .. فهل يتذكرون أنها أصبحت جزءً من حياة أقوام هنا وهناك تنام حيث ينامون وتقيل حيث يقيلون .. يتسلى العالم بمشاهدة أخبارهم على القنوات كما يتسلى برؤية الأفلام دون أن يحرك ساكنا أو ينطق بكلمة حق على أقل تقدير . فهل يتحرك الآن بعد أن عايش المشهد على وجه الحقيقة؟!
ألا لعنة الله على اليهود ماأكثر ماعاثوا في الأرض الفساد .. إنهم أسباب المآسي في العالم .. أججوا العنف وأذكوا روح العداء بين الشعوب وأحلوا الدمار مكان البناء واشاعوا الخوف بدل الأمن .. وصدق الله القائل : لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داؤد وعيسى بن مريم بماعصوا وكانوا يعتدون.
اللهم إنا نسألك العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره وأجعل تدبيره في تدميره ، اللهم عليك بالظالمين فإنهم لايعجزونك اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر وأجعل بأسه
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

( 95 ) ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لايفقهون بها ...الايةالحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال تعالى: ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لايفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان
لايسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل أولئك هم الغافلون
تهديد ووعيد للغافلين عن الله ، اللاهثين خلف أهوائهم وشهواتهم ، الذين آثروا الحياة الدنيا وباعوا آخرتهم الباقية بدنيا فانية الذين جعلوا الآخرة خلف ظهورهم والدنيا نصب أعينهم ، هي قبلتهم وغاية آمانيهم، يوالون ويعادون من أجلها ، حبها تمكن من قلوبهم وذكرها يجري على ألسنتهم آناء الليل وأطراف النهار ولايذكرون الله إلا قليلاَ. تطرب أسماعهم لسماع أخبارها وإذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم، جند بالنهار ركبان بالليل ولكن ليس في سبيل الله ، همم عالية وطموحات دونها الثريا ولكن ليس في ذات الله. وإذا أتت وقت الطاعة وساعة العبادة رأيتهم أكسل الخلق . أولئك هم حطب جهنم .. نعوذ بالله من الغفلة
فياعبد الله يامن تنام عن الصلوات المكتوبات يامن تؤخر الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء والفجر إلى مابعد طلوع الشمس إلى متى الغفلة؟ إلى متى الغفلة؟ أما قرع قلبك وعيد الله : ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون؟
وياعبد الله يامن تظلم الخلق وتأكل حقوق الناس بالباطل إلى متى الغفلة؟ يامن تأكل الربا وتستحل الحرام إلى متى الغفلة؟
ويا من تطلق بصرك في الحرام وتقلب نظرك في وجوه الحسان إلى متى الغفلة؟
يامن أرخيت سمعك للمعازف وتعلق قلبك بالطرب وسماع الغناء إلى متى الغفلة؟
ويامن خلا قلبه من ذكر الله وسماع كلام الله إلى متى الغفلة؟ يامن هجرت كتاب الله متى تعود إليه؟
ويامن تقرأ هذا الكلام وتعترف كما أعترف أنا بالتقصير دعني اسأل نفسي واسألك إلى متى الغفلة؟

اللهم إنا نسألك التوبة والعودة إليك ، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً . اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها، اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا ولامبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا. اللهم حرم جلودنا وأجسادنا على النار .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

( 96 ) ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها ووجدوا ماعملوا حاضراً ولايظلم ربك أحداً"
مشهد من أعظم مشاهد الحساب يوم القيامة
اليوم الموعود ، اليوم المنتظر ، اليوم العصيب، اليوم الذي لابد كلنا سنلقاه ، يوم الجزاء والحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يتمنى الإنسان لو لم يكن شيئاً مذكوراً ويوم يقول الكافر ياليتني كنت تراباً. لاإله إلا الله ... كيف سيكون ذلك اليوم؟ وكيف ستكون ساعات الترقب ياترى؟ أحدنا لوكان ينتظر إعلان نتيجة إمتحان أو مسابقة يشعر ساعتها أن قلبه يكاد يخرج من صدره من شدة القلق والخوف ! فكيف بنتيجة يترتب عليها جنة أو نار ! نعيم مقيم أو عذاب سرمدي أجارنا الله وإياكم.. لاإله إلا الله .. اللهم رحماك.. رحماك يارب ...

تخيل نفسك أخي الحبيب أنك الآن تقف ذلك الموقف المهيب وتترقب صحيفة أعمالك والناس من حولك في ذهول وهلع يتلقفون صحفهم ، ففرح سعيد حاملاً صحيفته بيمينه يكاد يطير من شدة الفرح يطوف بين الناس ويصيح بأعلى صوته : هآؤم إقرأوا كتابيه ، إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانيه كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ... يالسعادته.. يالسعادته .. يالسعادته ...فاز ورب الكعبة وسعد سعادة لاشقاء بعدها ... وآخر ممسك صحيفته بشماله وجهه مسود يبكي من حسرة وندامة على سواد صحيفته وحق له والله أن يبكي بدل الدموع دماً .. كيف لا؟ والمصير النار والمستقر سقر .. اللهم أجرنا منها: وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ماحسابيه، ياليتها كانت القاضية، ماأغنى عني ماليه، هلك عني سلطانية. خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ...

أخي الحبيب هل يرضيك ساعتها أنك عصيت الله طرفة عين ؟ وهل يرضيك ساعتها أنك قصرت في فرض من فروض الله ؟ هل يرضيك أنك تكاسلت أو نمت عن صلاة مكتوبة ؟ عصيت وتماديت في المعاصي كثيرا فهل بقى من لذة المعصية شيء ؟ لوعرضت أمامك في تلك اللحظة امرأة جميلة أو صورة فاتنة هل كنت ستنظر إليها ؟ هل يطيب لك ساعتها أن تتلذ بسماع مغن أو مغنية ؟ هل يرضيك ساعتها أنك تكلمت في عرض فلان أو علان ؟ بل هل يرضيك ساعتها أنك اضعت دقيقة من عمرك في غير طاعة الله؟ إذن فاعلم: أن كل صغيرة وكبيرة مسجلة عليك وسوف تحاسب عليها قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره . فأعد العدة ياأخي مادمت في زمن المهلة واعلم أن اليوم عمل ولاحساب وغداَ حساب ولاعمل. ولايغرنك طول الأمل فالموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل ، واعلم يارعاك الله أن لذة المعصية تذهب ولكن أثرها يبقى مكتوباً في صحيفتك . وتعب الطاعة يذهب أيضا وثوابها يبقى.. وسيجزى كلٌ بعمله .. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلايلومن إلا نفسه) فكن أخي الكريم كيساً فطناً لاتورد نفسك موارد الهلاك واقسرها على الخير قسراً فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 97 ) ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ماقدمت لغدٍ....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى : " ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ماقدمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"هذه وصية الله لنا معاشر المؤمنين، وصية من هو أرحم بنا من أمهاتنا، وأحن علينا من أنفسنا : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله : أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . ولتنظر نفس ماقدمت لغدٍ. أي ليوم القيامة، قال بن كثير: انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة وسمي يوم القيامة غداً لقرب مجيئه ( وماأمر الساعة إلا كلمح البصر) واتقوا الله : كررها للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين (ولقد وصينا الذين أتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله).
ولنقف اليوم مع : ولتنظر نفس ماقدمت لغدٍ ، الغد هو المستقبل الذي نخطط من أجله. ونسعى ونجد ونجتهد ونكدح ليل نهار، وحين نسأل لماذا ؟ يكون الجواب : من أجل تأمين المستقبل، ولكن أي مستقبل هذا الذي نخطط؟!! كلنا يعرف الجواب ! ولااعتراض على أن يخطط الإنسان ويسعى من أجل مستقبله في حياتة الدنيا، ولكن أليس مستقبله الحقيقي هو الآخر جدير بالتخطيط والعمل ؟! كم نمضي من أعمارنا من سنوات على مقاعد الدراسة لتحصيل الشهادات من أجل تأمين المستقبل ؟ وكم نمضي في العمل والوظيفة من أجل جمع المال للمستقبل ؟ ومقابل ذلك كم خصصنا من أوقاتنا من أجل تأمين حياة الآخرة التي هي أطول وأبقى؟ وهي الحياة الحقيقية ؟ أما تستحق منا أن نخطط لها وأن نبدأ في التحضير لها من الآن ؟ أما تستحق أن نبذل من أجلها الوقت والجهد والمال ؟ فواعجباً لإبن آدم يخطط للمستقبل الذي قد لايأتي وينسى مستقبله الآتي لامحالة !

تجد من الناس من نذر نفسه للوظيفة مخلصاً في عمله مجتهداً بكل ماأوتي من قوة يسابق الطير في بكورها ولايخرج إلا متأخراً يعمل بلا كلل ولاملل يشار إليه بالبنان في الجد والإجتهاد ويضرب به المثل في الدوام والإنضباط ولكن إذا بحثت عنه في المسجد لم تجده ! وإذا فتشت عنه بين الصائمين لم تعثر له على أثر ! وإن تحسسته في الصدقة وأعمال الخير من كفالة يتيم أو نصرة مجاهد أو رعاية محتاج أو إيواء مسكين أو إطعام جائع أو كسوة عار لم تجد له فيها سهماً ولادرهما ولاديناراً.
نعوذ بالله من الخسران ومن الذل والهوان.
ولنعد إلى الآية الكريمة ونتأمل لفظ ولتنظر : إن النظر يقتضي الفكر والفكر يقتضي التخطيط والتخطيط يقود إلى العمل والمقصود بالعمل هنا العمل من أجل الآخرة والآخرة خير وأبقى كما أخبر ربنا تبارك وتعالى... فياأخي في الله هل امتثلنا لأمر ربنا وهو العالم بما يصلح حالنا ومآلنا ؟ وهل وقفنا مع أنفسنا وقفة تأمل في لحظة محاسبة وتفكرنا في أعمالنا كم منها نعمله من أجل الآخرة ؟ وهل بإمكاننا أن نقدم أكثر وأكثر؟ هل تفكرنا في أعمال الخير ووضعنا لنا برنامجاً بحيث نضرب في كل مجال منها بسهم. كم قدمنا لآخرتنا من قيام الليل ؟ وكم قدمنا من قراءة القرآن - كنز الحسنات - كل حرف منه بحسنة والحسنة بعشر أمثالها ؟ كم قدمنا من الصدقات ؟ كم قدمنا من الصيام ؟ من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا. كم حجينا وكم اعتمرنا ؟ كم ذكرنا الله ؟ كم هللنا وسبحنا الله وحمدناه وكبرناه في اليوم والليلة ؟ وكم وكم من أبواب الخير وأعمال الآخرة التي كلها سهلة وميسورة وفي متناول الفقير قبل الغني والوضيع قبل الوزير ؟ولكن أين المشمرون؟ أين طلاب الآخرة؟

فاليقظة اليقظة ياعبدالله !! لايأتيك الموت وأنت غافل ساهٍ تركض في حياتك الدنيا تجري وراء متاعها الزائل غافلٌ عن الآخرة والآعمال الصالحة .. حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب إرجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
اللهم بصرنا بعيوبنا ونور أبصارنا واصلح أحوالنا واهدنا إلى صراطك المستقيم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 98 ) ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى: ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلاهذه الآية وغيرها من عشرات الآيات في كتاب الله تحض على الذكر، وفي السنة النبوية عشرات بل مئات الآحاديث في فضل الذكر والحث عليه فماهو السبب ياترى؟ ولماذا أولى الله تعالى ورسوله الذكر كل هذا الإهتمام وهذه العناية ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال المهم دعونا نستعرض بعضا من الآيات والآحاديث التي وردت في الذكر. يقول الله تعالى: واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. ويقول تعالى: ولذكر الله أكبر. ويقول تعالى: واذكر ربك إذا نسيت . ويقول تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. ويقول تعالى: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم. ويقول تعالى: ياأيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله. ومن الآحاديث قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم" قالوا : بلى يارسول الله. قال: " ذكر الله عز وجل" رواه أحمد في المسند وقال عليه الصلاة والسلام " ماعمل آدمي عملاً قطُ أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل". رواه أحمد في المسند أيضاً. وفي الترمذي أن رجلاً قال يارسول الله أن شرائع الإسلام قد كثرت عليَ، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى". هذا غيض من فيض من الآيات والآحاديث في فضل الذكر والحث عليه ولنقرأ الآن ماقاله الإمام ابن القيَم حول موضوع الذكر لنتبين سبب أهميته يقول رحمه الله "" في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وقال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر. وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة

القلوب بمثل ذكر الله عز وجل و " الذكر شفاء القلب ودواؤه ، والغفلة مرضه وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى قال مكحول ذكر الله تعالى شفاء ، وذكر الناس داء " إذن أيها الأخوة سر الإهتمام بالذكر هو لأنه حياة القلوب فيه به تكون حية ومن غيره فهي موات لاخير فيها. والقلب هو أهم مافي الإنسان لأنه محل الإيمان. جاء في الحديث: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب. فبالذكر يحيا القلب ويصلح ويصبح مهيأ لتلقى أوامر الله واتباع هديه فيكون في ذلك سعادة ابن آدم . والسؤال الآهم : كيف حالنا مع الذكر؟ هل نحن من الذاكرين الله تعالى كثيراً ؟ وينبغى أن نركز على كلمة كثيراً كثيراً. ! هل لنا أوراد في الصباح وفي المساء نداوم عليها كل يوم؟ هل نحفظ شيئاً من أذكار النبي صلى الله عليه وسلم نرددها في أوقاتها؟ هل لنا حزب يومي من كتاب الله نحرص على تلاوته ولايلهينا عنه شغل أو لهو؟ هل نسبح ونهلل ونكبر ونحمد الله إذا كنا في خلواتنا؟ إذا كانت نعم فالله الحمد والمنة وإن كانت الأخرى فمتى اليقظة من الغفلة ياعبد الله؟إلى متى؟إلى متى؟ أترضى أن تكون كالميت؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: مثل الذي يذكر ربه والذي لايذكر ربه مثل الحي والميت-رواه البخاري
اللهم إنا نسألك قلباً خاشعاً ولساناً ذاكرا وعلماً نافعاً وعملاً صالحاً ،اللهم اجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات إنك سميع مجيب الدعوات,وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 99 ) يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردلٍ فتكن في صخرة.....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى على لسان لقمان الحكيم : "يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردلٍ فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إنّ الله لطيف خبير".تشبيه بليغ وصورة بلاغية رائعة في أسلوب بديع يؤدب لقمان الحكيم إبنه مبيناً له سعة علم الله عز وجل وإحاطته بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها. وأن الله تبارك وتعالى مطلع على دقائق الأمور كلها لاتخفى عليه خافية ولايعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فلو أن حبة خردل متناهية في الصغر وكانت في بطن صخرة صماء أو كانت في أرجاء السموات أو في أطراف الأرض لعلم مكانها وأتى بها سبحانه وتعالى . فلا إله إلا الله أحاط علمه بكل شيء. يرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء ويرى مخ ساقها وجريان الدم في عروقها. يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور فأين يختبيء منه العاصي إذا أراد أن يعصيه ؟ كيف يزني الزاني وهو يعلم أن الله ينظر إليه ومطلع على حركاته وسكناته!؟ لو كان أبوه أو أمه أو أحد من الناس ولو طفل صغير ينظر إليه أكان يجرؤ على مواقعة المعصية أمامهم ؟ لا والله ، فسبحان الله .. أهان الله في نظره حتى أصبح أهون الناظرين إليه ! جاء في الحديث لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي أنه لايكون في قلبه شيء من الإيمان في تلك اللحظة وإلا لأستشعر نظر الله إليه وإطلاعه عليه وهو في تلك الحالة .
لقد هانت خشية الله في قلوب كثير من الناس . تجد بعض المخدنين لايدخن في حضرة أبيه أو حضرة مسؤول كبير توقيرا وإحتراما لهم !
ترى من يسمع الأغاني أو يشاهد الأفلام إذا رأى شيخاً أو داعية أقفل الجهاز !
والله تعالى يقول: أتخشون الناس والله أحق أن تخشوه.
ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب.
مايكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولاخمسة إلا هو سادسهم ولاأدنى من ذلك ولاأكثر إلا هو معهم أين ماكانوا ثم ينبئهم بماعملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.
عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواءٌ منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار.

وربك يعلم ماتكن صدورهم ومايعلنون.
فياعبدالله ... اجعل مراقبة الله وخشيته في قلبك في كل حين وتمثل نظره إليك في أي ساعة من ليل أو نهار.
إذا ماخلوت بريبة في ظلمة ...... والنفس داعية إلى االعصيان
فاخش من نظرالإله وقل لها ...... إن الذي خلق الظلام يراني
اللهم أرزقنا خشيتك في السر والعلن وحل بيننا وبين معاصيك ، اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وقوي إيماننا بمخافتك والحياء منك. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لايخشع وعين لاتدمع ولسانٍ لايذكر ونفسٍ لاتشبع. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 100 ) يومئذ تحدث أخبارها
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : "يومئذ تحدث أخبارها "
يخبر تبارك وتعالى أنه في ذلك اليوم العصيب -يوم القيامة- تتحدث الأرض وتخبر بما عُمل عليها من خير أو شر ، وتشهد على كل إنسان بما صنع على ظهرها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يومئذ تحدث أخبارها" فقال : أتدرون ماأخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا ، كذا وكذا ، فهذه أخبارها . أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. وفي الحديث الآخر : تحفظوا من الأرض فإنها أمكم ، وأنه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إلا وهي مخبرة به. أخرجه الطبراني في معجمه.
ياله من موقف عظيم ولحظات عصيبة في ذلك اليوم الفضيع الذي تتقطع من شدة أهواله القلوب الأبصار شاخصة والقلوب وجلة والأجساد عارية والشمس دانية من الرؤوس _ تقول عائشة رضي الله عنها يارسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : ياعائشة الأمر أفضع من أن ينظر بعضهم إلى بعض .

لا إله إلا الله والله أكبر تخيل ذلك المشهد يوم تتحدث فيه الأرض وكيف سيكون المشهد ؟ لاشك أنه مشهد مخيف .. سبحان الله .. يوم تأتي ساحات الجهاد تشهد للمجاهدين بذل أرواحهم في سبيل الله ويوم تأتي المساجد تشهد لروادها من المؤمنين ركوعهم وسجودهم ويوم تأتي منى وعرفات تشهد للحجاج وقوفهم على عرصاتها ودعاءهم وبكاءهم وتضرعهم .... ولا إله إلا الله .. يوم تأتي المراقص ونوادي الليل تشهد على روادها ماصنعوا على ظهرها من خنا وفجور وسكر وعربدة ويوم تأتي الشواطيء تشهد بماجرى على ظهرها من عري وسفور وزنا وخمور.
يومها ينكشف الستار وتزول الحجب يوم الفضائح ... يومها كيف يكون حال ذلك المسكين الذي كان يجوب الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، يرتكب في كل بقعة معصية ويقارف في كل زاوية فاحشة وكأن الله هناك غير مطلع عليه وأن الأرض هناك ليست أرض الله ؟
عبدالله يامن فرطت في صلاة الجماعة وتكاسلت عن الذهاب إلى بيوت الله تذكر ذلك اليوم .. تذكر : يوم تحدث أخبارها ماذا ستخبر عنك؟ ماذا ستشهد به لك أو عليك؟

ماذا تتمنى وقتها أخي الكريم حينما ترى المساجد تشهد لأصحابها وتشفع لهم أمام رب العالمين يارب شفعني فيه لقد كان قلبه معلق بي، لقد كان من روادي ليل نهار ، يارب طالما سجد فيّ وركع وقام وقعد وقرأ القرآن ، ماتزال تحاج عنه حتى تشفع فيه ويدخل الجنة . هل تتمنى وقتها أنك كنت من روادها في حياتك الدنيا؟ إذن اغتنم مابقي من عمرك من أيام وقدم لآخرتك مايسرك ويبيض وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قبل أن تندم وتدرك كم كنت مفرطاً، وتتمنى لو تعود إلى الحياة الدنيا من جديد ولكن هيهات هيهات ، يومئذ لايفيد الندم ولاينفع الإنسان إلا ماقدم. فالبدار البدار مادمت في زمن المهلة قبل أن تصبح مرتهن بعملك تحت أطباق الثرى تنتظر الساعة والساعة أدهى وأمر .. أخيًه .. أن الأمر جد لاهزل فيه، وصدق لامراء فيه، فقم مقام الجد ودع عنك الأماني الخادعة وبادر بالأعمال الصالحة واحذر من التسويف فإن سوف من جند إبليس. اسأل الله لي ولك ولكل المسلمين حسن الختام وطيب المقام وصحبة الأخيار من الأنبياء والأبرار والصالحين الأطهار واسأله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يفقهنا في ديننا ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( 101 ) إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " .. إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مرد له ومالهم من دونه من والٍ"إن لله تعالى سنناً لاتتغير وقوانين لاتتبدل : سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً . وهذه سنة وقاعدة اجتماعية سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان: إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم : أي أن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لايزيل نعمه عنهم ولايسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ماحرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لاتتغير ولاتتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان.

أيها الأخ الكريم إن المتأمل اليوم في حال أمة الإسلام وماأصابها من الضعف والهوان وماسلط عليها من الذل والصغار على أيدي أعدائها بعد أن كانت بالأمس أمة مهيبة الجناح مصونة الذمار ليرى بعين الحقيقة السبب في ذلك كله رؤيا العين للشمس في رابعة النهار . يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضى الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولايهمل ، وما الأمة إلا مجموعة أفراد من ضمنهم أنا وأنت . تجول أخي الحبيب في ديار الإسلام (إلا من رحم الله) واخبرني ماذا بقي من المحرمات لم يرتكب وماذا بقي من الفواحش لم يذاع ويعلن ، الربا صروحه في كل مكان قد شيدت وحصنت حرباً على الله ورسوله، والزنا بيوته قد أعلنت وتزينت في كل شارع وناصية، والسفور قد حل محل الستر والخنا قد حل محل الطهر والعفاف. والخمر ( أم الخبائث) صارت لها مصانع ومتاجر. المعروف أصبح منكراً والمنكر غدا معروفاً. أرتفع الغناء (صوت الشيطان) ووضع القرآن (كلام الرحمن). حكمٌ بغير ماأنزل الله وقوانين ماأنزل الله بها من سلطان. وقبل ذلك كله تخلينا عن الجهاد وركنا إلى الدنيا وتبايعنا بالعينة وتتبعنا أذناب البقر ، أفبعد هذا نرجوا نصر الله وعزته وتمكينه ؟ أبعد هذا نتساءل لماذا حل بنا هذا الهوان ؟ أفبعد هذا نستغرب ماأصابنا من الذل على أيدي أعدائنا من شرار الخلق من اليهود والنصارى والهندوس والبوذيين وغيرهم ؟ نعم والله إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم .. إننا لن نخرج ممانحن فيه من الذل والصغار ولن ننال العزة والكرامة إلا إذا عدنا إلى ديننا وتمسكنا بإسلامنا فكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.

أخي الكريم : إن الأمة لن تتغير إلا إذا تغير أفرادها ‘ إلا إذا غيرت أنا وأنت وهو وهي ، إذا غيرنا أسلوب حياتنا بما يوافق شرع الله وقلنا لربنا سمعاً وطاعة واتبعنا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام : وماآتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا. عندها نصبح أفراداً وأمة أهلاً لموعود الله بإن يغير الله ذلنا إلى عزة وضعفنا إلى قوة وهواننا إلى تمكين. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يردنا جميعاً إلى دينه مرداً حسناً وأن يلهمنا رشدنا ويفقهنا في ديننا ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وأن يمكن لأمة الإسلام ويعيد لها عزتها ومكانتها وأن ينصرها على أعدائها إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( 102) وماكان لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " وماكان لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً "
هذه الآية من آيات البلاء والإمتحان والتمحيص ، تضع المؤمن على المحك الحقيقي لإيمانه ليتميز الصادق من الدعي ، والكيّس من العاجز... يالها من آية عظيمة تكشف حقيقة الإيمان عندما يصطدم أمرالشرع مع هوى النفس وعندما يكون أمر الله ورسوله في كفة وحظوظ النفس وشهواتها في كفة.
كلنا نحب الإسلام ... وكلنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وكلنا نطمع في رضوان الله وجنتة ... وكلنا يتمنى أن يكون مؤمناً صادق الإيمان. ولكن هل المسألة بالتمنى والإدعاء أم بالعمل والإخلاص ، هل نريد الإيمان بلاعمل ونرجوه بلاثمن؟! ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله هي الجنة.

أخي الكريم : إنها أية تستحق منا التوقف عندها وتأمل كلماتها واستيعاب مدلولاتها ثم مقارنتها بالواقع الذي نحياه والنهج الذي نعيشه. إن هذه الآية تحمل معنى الإسلام ألا وهو الإستسلام لله والإنقياد له والخضوع له بالطاعة . فهو استسلام وانقياد وخضوع ولامجال فيه للإختيار بين قبول ورفض ولا بين أخذ ورد. إذا جاء أمر الله ورسوله في مسألة من المسائل فليس غير السمع والطاعة. لااعتبار وقتها لهوى النفس ولالعادات المجتمع ولا لأي اعتبار آخر ، هذا هو معنى الإستسلام لله والإنقياد له أما إذا تخيرنا من شرع الله مايوافق أهواءنا ورغباتنا وعاداتنا وجئنا به على أنه دين خالص لله وفي نفس الوقت تركنا مايخالف أهواءنا وعاداتنا وتقاليدنا بحجج واهية وأعذار ملفقة فذلك هي الخيرة التي لم يرتضيها لنا ربنا سبحانه وتعالى بنص الآية الكريمة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه تبارك وتعالى كما أمرنا بالصلاة والصيام والزكاة أمرنا بغض البصر وحفظ الفرج وصلاة الجماعة وطاعة الوالدين وصلة الأرحام وإرخاء اللحى وحجاب النساء ونهانا عن الغيبة والنميمة وأكل الربا والإسبال وأذى الجار وسماع الغناء وغيرها من الأوامر والنواهي مما لايخفى على مسلم ولامسلمة. فليقف أخي الكريم كل منا مع نفسة وقفة محاسبة في ساعة صدق مع النفس وليسأل نفسه : هل أنا ممن يأخذ من دين الله مايوافق هواه ويترك ماعدا ذلك ؟ فمن وجد خيراً فليحمد الله وليسأله الثبات ومن وجد غير ذلك فليثب إلى رشده وليقصر نفسه على الحق قسراً. فالأمر جد لاهزل فيه وحق لامراء فيه. والموعد: يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والموعود: جنة نعيم أو عذاب مقيم. اللهم إنا نسألك عملاً صالحاً ونية صادقة وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعلماً نافعاً ، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل وحسن القصد والتوكل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

( 103) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين "
كلما اقرأ هذه الآية أشعر بالخوف والرهبة من هذا الوعيد الشديد. واسأل نفسي هل حبي لله ورسوله وللجهاد في سبيل الله أكبر من حبي لهؤلاء الذين جاء ذكرهم في الآية : الآباء والأبناء والإخوان والزوجة والعشيرة ؟ أرد وأقول نعم إننى أحب الله ورسوله وأحب الجهاد أكبر ولكن هل هذا هو فعلاً واقع الأمر أم أنه مجرد إدعاء؟
هنا تكمن المشكلة ويكمن الخطر الداهم الذي ربما يكون سبباً في تحقق وعد الله فينا : فتربصوا حتى يأتي الله بأمره !

أيها الأخوة ... كيف نحب الله تعالى ورسوله ؟ يقول العلماء اعرف الله حتى تحبه . فكلما زادت معرفة العبد بربه زاد حبه له. وكلما فكر في نعم الله عليه قوي حبه لربه لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. وإذا أردنا أن نعرف كيف يأتي حب الله في قلوبنا فلننظر كيف جاء حب الدنيا في قلوبنا. لقد تمكن حب الدنيا من قلوبنا بسبب انشغالنا بذكرها آناء الله وأطراف النهار حتى تعلقت قلوبنا بزخرفها وزينتها ومباهجها فتمكن حبها من قلوبنا.... مجالسنا تدور الأحاديث فيها حول الدنيا وطرق تحصيلها وأنواع متاعها والجديد من أخبارها وفي المقابل لانذكر الله إلا قليلاً ، كم من أوقاتنا أمضيناه مع كتاب الله وتدبر آياته وتدارس تفسيره ؟ وكم من الوقت أمضيناه في استعراض سير الأنبياء والصالحين وحياة الزهاد والعباد من الصحابة والتابعين ؟ وكم من الوقت أمضيناه في التفكر في نعيم الجنة وحياة القبر والآخرة ... قارن هذا بهذا تجد الجواب ساطعاً سطوع الشمس في رابعة النهار. فهل بعد هذا نلوم أنفسنا لماذا تتعلق بالدنيا وتزهد في الآخرة وتؤثر متاعها الزائل على حب الله ورسوله والدار الآخرة ؟ هل نلوم أنفسنا بعد ذلك لماذا لاتحب قيام الليل ولاتشتاق إلى الجهاد ولاتحب الإنفاق في سبيل الله ولا قراءة القرآن ولاولاولا ...من أعمال الخير.

إنها الدنيا .. لايتمع حبها مع حب الآخرة في قلب واحد لذا حذرنا منها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرا ، من ذلك ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلاتنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تتنظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك . رواه البخاري وقال عيسى بن مريم عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولاتعمروها. وفي الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي قال: كنت مع الركب الذين وقفوا على السخلة الميته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا: ومن هوانها ألقوها يارسول الله. قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها.
نأسى على الدنيا وما من معشر .............. جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى .............. كنزوا الكنوز فما بقين ولابقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه .............. حتى ثوى فحواه لحد ضيق
فالموت آت والنفوس نفائس ............... والمستغر بما لديه الأحمق
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعمالهم وأصلحت نياتهم وأحسنت آجالهم يارب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( 104 ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول - تعالى -(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أل تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نخن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون) سورة فصلت (30).

يقول - تعالى- (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله - تعالى -على ما شرع لهم من الشرائع.
فقال أبوبكر الصديق رضي الله عنه : هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.(ثم استقاموا) فلم يلتفتوا إلى إله غيره ولا إلى رب سواه.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على شهادة أن لا إله إلا الله.
وتلا عمر - رضي الله عنه- هذه الآية على المنبر، ثم قال: استقاموا والله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.
(قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على أداء فرائضه وتعظيم شعائره من غير تهاون ولا تكاسل لأن هذه من صفات المنافقين الذين يخادعون الله وهو خادعهم.
ولننظر إلى بيوت الله لقد أضاع كثير من الناس الصلاة فيها إما جحودا أو استكبارا وهذا كفر بالله - تعالى -. وهنالك من توانى في أدائها يدخل الوقت في الوقت، ومنهم من يصلى في بيته، ويوم أن جاء الرجل الأعمى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "بيتي بعيد من المسجد وبيني وبين المسجد وادي فيه هوام فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع النداء؟ فقال له نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أجب فإني لا أجد لك رخصة".
ولقد هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق منازل الذين لا يأتون إلى صلاة الجماعة.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "ولو صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المنافق لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم".
وكان الحسن يقول: (اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة).
(قالوا ربنا الله) قال أبو العالية: اخلصوا له الدين والعمل. وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: "مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (قل آمنت بالله ثم استقم) قلت فما أتقى؟ أومأ إلى لسانه) أخرجه النسائي.

أحبتي في الله ما هو المطلوب في حق الفرد المسلم أو ما هو الواجب على الفرد المسلم؟ إن الفرد مطالب أو ملزم بالاستقامة في نفسه والعمل بكتاب ربه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنك ما خلقت إلا لله، وأنت الفقير إلى الله فلا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك فالكل لك وعليك أيها الإنسان، فأن عملت خيرا فزت ونجوت من قبضة الله وان عملت شرا خسرت الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. فالفرد مطالب أن يقيم الدين في نفسه بعيدا عن العصبية الهوجاء والتشدق والتنطع بدين الله، والمجاملة بشرع الله. وهذا مفهوم شامل للاستقامة التي أمر بها الله - تعالى -.
ولكن وجود الفرد المسلم مع أهل الخير والصلاح، وأهل الطاعة والفلاح، وأهل المسجد والقرآن فهذا أمر عظيم وعون كريم للإنسان فإذا نسى ذكروه، وإذا جهل شيئا علموه، قال - تعالى -: (تتنزل عليهم الملائكة) عند الموت قائلين لهم (ألا تخافوا) أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (ولا تحزنوا) مما خلفتموه من أمر الدنيا من أهل ومال أو دين فان نخلفكم فيه (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير وهذه لحظات عظيمة لحظات حاسمة، لحظات قاضية، لحظات فاصلة عاشها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو عمرو ابن العاص - رضي الله عنه - يصفها يوم أن حلت به سكرة الموت فقال"فكأن على كتفي جبل ربوة وكأن في جوفي شوكة عوتج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنل بينها".
فلا خلاص للإنسان ولا منجى له إلا بالاستقامة على دين الله، فنسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من المستقيمين على شرعه وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 105 ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت) (الغاشية: 17) وتأمل في بديع خلق الإبل وكيف سواها الله عز وجل وهيأها لأداء الوظيفة التي خلقها لها، لقد أعطى الله الإبل الصورة الخلقية التي تلائم عيشته وأسفاره الطويلة في الصحراء، فلهذا خُلق الجمل برقبة طويلة تُعلي رأسه وتنأى بعينيه عن غبار الرمال، كما مُنح شفة مشقوقة يستطيع أن يتناول بها أشواك البوادي دون أن تؤذيه، وأعطى سناماً يختزن فيه الدهن إن أعوزه الطعام يوماً في الصحاري القاحلة، ولم تنته رجله بحافر يغوص في الرمال كحوافر الخيل والبغال والحمير بل انتهت بخف يقدر به على اجتياز الرمال دون أن يسوخ فيها، ولهذا سموه سفينة الصحراء·
لم يحظ أي نوع من الأنعام بهذه الإشارة القرآنية المتدبرة التي توجه نظر الإنسان إلى خلق الإبل وتفردها بمزايا خاصة يجب أن يتفكر فيها الإنسان ويتعلم منها ويستفيد بها، فهي تؤدي دوراً اقتصادياً واجتماعياً مهماً ضمن النظم الرعوية والزراعية في المناطق الجافة وشبة الجافة في الكثير من الدول الأفريقية والآسيوية·
ما لا نعرفه عن الإبل
الجمل حيوان وديع سهل الإنقياد، صبور عند المرض، يستحسن المعاملة الطيبة ويستجيب للمداعبة، لكنه يستوحش إذا أهمل وفي هذه الحال يجب الحذر منه· والإبل سريعة الغضب متقلبة المزاج وعند استثارتها تخرج أصواتاً تشبه الزمجرة وقد تعض أحياناً·
ومن السلوكيات التي تتمتع بها الإبل أنها نادراً ما تلجأ لعملية الانتقام في حالة سوء معاملتها أو ظلمها، وإذا ما نوى الجمل على الانتقام فإنه يخطط ويرتب لذلك جيداً· فهو يهاجم الشخص إذا كان غافلاً وأعزلاً من السلاح، ويتخذ الجمل كل أسلحته من عض وضرب الأرجل وقد يقذف بالشخص إذا كان راكباً على ظهره ويرميه على الأرض ويبرك عليه ولذلك قيل <أحقد من جمل>·

ومن عجائب هذا الحيوان أنه ذكي فهو يستطيع أن يعرف الأماكن التي شرب منها ولو مرة واحدة وكذلك يعرف الطرق التي يسلكها ولو للمرة الأولى حتى إن الرعاة إذا لم يعرفوا الطريق وضلوا في الصحاري المهلكة، فإنهم يتركون إبلهم تسير لوحدها دون أن يرغموها على الذهاب إلى جهة معينة فتدلهم إلى مضاربهم· كما أن الإبل تستطيع معرفة الأماكن التي ستهطل الأمطار عليها من رائحة الرطوبة فتتجه إليها· ومن ذكاء الجمل أنه يعرف مكان ولادته بكل دقة حتى لو مرت سنين طويلة وهو يحب موطن ولادته ويحن إليه دائماً· فسبحان من ألهمه ذلك· وسبحان من قال: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)·
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 106 ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت-2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

علاج السرطان بألبان وأبوال الإبل
عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ <أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ يَعْنِي الإبل فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الإبلَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ>· رواه البخاري
قال القزاز اجتووا أي لم يوافقهم طعامها وقال ابن العربي داء يأخذ من الوباء وفي رواية أخرى استوخموا قال وهو بمعناه وقال غيره داء يصيب الجوف وفي رواية أبي عوانة عن أنس في هذه القصة فعظمت بطونهم·

وفي الأثر عن الشافعي رضي الله عنه أورده السيوطي في المنهج السوي والمنهل الروي يقول: ثلاثة أشياء دواء للداء الذي لا دواء له، والذي أعيا الأطباء أن يداووه: العنب، ولبن اللقاح، وقصب السكر، ولولا قصب السكر ما أقمتُ بمصر·
يذكر صاحب كتاب طريق الهداية في درء مخاطر الجن والشياطين أنه أخبر عن نفر من البادية عالجوا أربعة أشخاص مصابين بسرطان الدم وقد أتوا ببعضهم بعضاً من لندن مباشرة بعد ما يأسوا من علاجهم وفقدوا الأمل بالشفاء وحكم على بعضهم بنهاية الموت لأنه سرطان الدم، ولكن عناية الله وقدرته فوق تصور البشر وفوق كل شيء، فجاءوا بهؤلاء النفر إلى بعض رعاة الإبل وخصصوا لهم مكاناً في خيام وأحموهم من الطعام مدة أربعين يوما ثُم كان طعامهم وعلاجهم حليب الإبل مع شيء من بولها وبخاصة الناقة البكر لأنها أنفع وأسرع للعلاج وحليبها أقوى وخصوصاً من رعت من الحمض وغيره من النباتات البرية وقد شفوا تماما وأصبح أحدهم كأنه في قمة الشباب وذلك فضل الله أ·هـ·
وتوجد ظاهرة مدهشة في حليب النوق، حيث لوحظ أن نسبة الماء في تركيب حليبها في حال توافر ماء الشرب هي 86%، وفي حال ندرة الماء تصبح 91%، أي أن النوق تفرز ماءً أكثر لوليدها في أثناء شح المياه وبالتالي توفر له السوائل اللازمة تحت ظروف الجفاف·
وبول الإبل يسميه أهل البادية <الوَزَر>، وطريقة استخدامه بأن يؤخذ مقدار فنجان قهوة أي ما يعادل نحو ثلاثة ملاعق طعام من بول الناقة ويفضل أن تكون بكراً وترعى في البر ثم يخلط مع كأس من حليب الناقة ويشرب على الريق·
واستخدمته بعض القبائل لمعالجة الضعف الجنسي حيث كان يتناوله الشخص عدة مرات قبل الزواج إضافة إلى أن حليب الإبل يساعد على تنمية العظام عند الأطفال ويقوي عضلة القلب بالذات، ولذلك تصبح قامة الرجل طويلة ومنكبه عريض وجسمه قوي إذا شرب كميات كبيرة من حليب النوق في صغره·

واستخدمت أبوال الإبل وبخاصة بول الناقة البكر كمادة مطهرة لغسل الجروح والقروح ولنمو الشعر وتقويته وتكاثره ومنع تساقطه، وكذلك لمعالجة مرض القرع والقشرة، ويقال: إن في دماء الإبل القدرة على شفاء الإنسان من بعض الأمراض الخبيثة و قيل ان حليب الإبل يحمي اللثة ويقوي الأسنان نظرا لاحتوائه على كمية كبيرة من فيتامين <ج> ويساعد على ترميم خلايا الجسم لأن نوعية البروتين فيه تساعد على تنشيط خلايا الجسم المختلفة، وبصورة عامة يحافظ حليب الإبل على الصحة العامة للإنسان·
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 107) سورة الفلق -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :سورة الفلق سورة لم يُر مثلها كما عبر عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، هي والسورة التي تليها"سورة الناس" فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ أَوْ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ" 1 وحيث مدحها - عليه السلام - بهذه الكلمات؛ فمعنى ذلك أننا أمام كنوز ضخمة، وذخائر حية، وأسلحة قوية، في مواجهة شرور الحياة ومصاعبها وشدائدها والكائدين فيها، والماكرين، والحاسدين، والسحرة المشعوذين الدجالين، يعني ذلك: أننا أمام أخطار كبيرة تؤثر في مسيرة الحياة، وتنعكس على الإنسان حيث تؤدي هذه الشرور التي ذُكرت في السورة الكريمة إلى الوفاة في بعض الأحيان، والجنون وفقدان الذاكرة وحالات صرع في أحيانٍ أخرى، فهي وأختها(سورة الناس) آيات بينات تذكر الداء والدواء.. وكان - عليه الصلاة والسلام - يوليهما عناية خاصة؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" 2 "هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى- لنبيه - عليه السلام - ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام.. "3

والملاحظ المتأمل والمتمعن في السورة الكريمة يجد أنها تعالج شروراً خفية غير ظاهرة، وتأثيراتها تظهر على المصاب دون أن تعرف من قام بها في كثير من الأحيان، وقد تتشاجر مع أحد الناس-لا سمح الله-فتراه ويراك، وتشتكيه إلى المحاكم، ويؤتى بالشهود، أما في هذه الشرور المذكورة فلا يرى الفاعل إلاّ الله - تعالى -، أو إذا أخبر صاحبها بارتكاب جريمته، وقليلاً جداً ما يحدث ذلك، ولذلك جاء الأمر الرباني يخص هذه الشرور بالذكر من بين كثرة هائلة من الأخطار والآفات المحدقة بالإنسان، وجاء الأمر الرباني كذلك بطلب الغوث والمعونة والاستجارة والاستعاذة بالله - سبحانه -، من كل الشرور بشكل عام، ومن هذه الشرور المذكورة بشكل خاص..وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله.

( 108 ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :لا بد من الصراحة في إعلان الحقيقة الكبرى، وهي أن الإنسان مخلوق ضعيف، مفتقر إلى الله - سبحانه - في كل أحواله يقول خالقنا - سبحانه -: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "{فاطر: 15}، ولذلك دفعه خوفه من الأشياء، وخشيته من الأخطار، إلى التعوذ والاستعانة بالجن، والسحر، والأصنام، والأنداد والشركاء، ويظن أنّ هذه الأشياء قادرة على حمايته، وتوفير الأمن والطمأنينة له، وهو واهم في ذلك؛ "يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"{الحج: 73}، والحقيقة الكبرى التي طلبها رب الفلق من نبيه - عليه السلام - أن يعلنها على الملأ ويقولها بملء فيه أنه: إذا كنتم أيها الناس، أيها الكفار، أيها المشركون، يا ضعاف الإيمان، تستعيذون بالشركاء و بالأنداد، وبالسحرة و الكهنة و الجن وما أشبه، فإنني" أعوذ برب الفلق" والاستعاذة معناها: كما جاء في لسان العرب: "عاذ به يَعُوذُ عَوْذاً وعِياذاً ومَعاذاً: لاذ به ولجأَ إِليه واعتصم. يقال: عَوَّذْت فلاناً بالله وأَسمائه وبالمُعَوِّذتين إِذا قلت أُعِيذك بالله وأَسمائه من كل ذي شر وكل داء وحاسد وحَيْنٍ". "فالاستعاذة حالة نفسية، قوامها الخشية من الخطر، و الثقة بمن يستعاذ به، و هي إلى ذلك ممارسة عملية بابتغاء مرضاة من نستعيذ به، و هي - فوق ذلك - الثقة بأنه وحده القادر على درء الخطر، و إنقاذ الإنسان.

أما الفلق فقد اختلفوا فيه اختلافا كبيرا، فمن قائل: أنه بئر في جهنم تحترق جهنم بناره. إلى قائل: بأنه الصبح، أو الخلق، أو ما اطمأن من الأرض، أو الجبال و الصخور. قال ابن جرير: "والصواب القول الأول إنه فلق الصبح وهذا هو الصحيح وهو اختيار البخاري في صحيحه - رحمه الله - تعالى -" قال المفسرون: سبب تخصيص الصبح بالتعوذ أن انبثاق نور الصبح بعد شدة الظلمة، كالمثل لمجيء الفرج بعد الشدة، فكما أن الإِنسان يكون منتظراً لطلوع الصباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 109 ) من شر ما خلق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"من شر ما خلق": " أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها! " 8 و " قال بعض الأفاضل: هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة وشر الإنس والجن والشياطين وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل نفس المستعيذ"9 ولقد" زود الله كل حي بما يجعله يختار جانب الخير، و يحاذر جانب الشر من نفسه و من الخلق المحيط به، و الإنسان بدوره مزود بالوحي و العقل و الغريزة لكي يتجنب الشر و الاستعاذة بالله صورة من صور الحذر من الشرور"10

ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - يستعيذ من أشياء كثيرة، نذكر منها مثلاً: ما روته السيدة عائشة - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ! فَقَال: "َ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ " 11وكذلك ما رواه عَمْرَو الْأَوْدِيَّ قَال: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَة، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْن، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُر، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ " 12

وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يلتجئون و يعتصمون ويستجيرون بالله من أنواع الشرور المختلفة؛ فهذا إبراهيم - عليه السلام - يطلب من ربه أن يبعده وأبنائه من شر عبادة الأصنام، التي أضلت الكثير من البشر"وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاَصْنَامَ" {إبراهيم: 35}وهذا يوسف - عليه السلام - يلتجئ إلى الله من شر مكر النساء اللواتي أردن به الكيد والوقوع فيما يسخط الخالق" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ" {يوسف: 33} وهذا يعقوب - عليه السلام - لما حصل ليوسف وأخيه ما حصل، وثق بأن الله - سبحانه - سيحفظهما من الشرور والمكائد فقال: " فالله خير حافظاً" {يوسف: 64}وهذا نبي الله موسى - عليه السلام -: يستعيذ بالله خالقه وخالق قومه من أن يمسه قومه بسوء سواء بالقول أو الفعل"وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِي" {الدخان: 20}
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 110 ) "غاسق إذا وقب"
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قالوا: "الغسق: شدة الظلام، و الغاسق: هو الليل أو من يتحرك في جوفه، والوقب: الدخول، قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، والحسن، وقتادة، أنه الليل إذا أقبل بظلامه"13 والمقصود هنا - غالبا هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب! "14
نعم، "يهبط الليل بظلامه و وسواسه و طوارقه، و يتحرك في جنحه الهوام و بعض الوحوش، و ينشط المجرمون و الكائدون، و يستولي المرض و الهم على البعض، و تشتد الغرائز و الشهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعية، و يحتاج الإنسان إلى مضاء عزيمة و ثقة، حتى يتغلب عليه وعلى أخطاره، و هكذا يستعيذ بالله منه"15 قال الرازي: "وإِنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل، لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث"16 ولهذا نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - المسلم أن يمشي في الليل وحده: فعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنْ الْوِحْدَةِ؛ مَا سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ يَعْنِي وَحْدَه ُ" 17 ولهذا أيضاً كان من توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألا يسافر المرء وحده، بل مع ركب أقله ثلاثة. "الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب" 18

ولعل القارئ الكريم يلاحظ ما الذي يحصل حينما ينطفئ التيار الكهربائي ليلاً في مدينة من مدن العالم الكبيرة؛ من سلب ونهب وسرقات واغتصاب وشرور مختلفة ومتنوعة، ولا ملجأ ولا منجا من ذلك إلا الله - سبحانه -، والاستجارة به وطلب الغوث منه.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 111 ) " النفاثات في العقد"
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
والنفاثات: "السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء! والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ; ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. " سيد قطب، مرجع سابق، ص4007
وقد شنّ الإسلام على السحر حرباً ضروساً لا هوادة فيها، يقول - تعالى - فيمن يتعلمون السحر: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم"{البقرة: 102}. وقد عد النبي - صلى الله عليه وسلم - السحر من كبائر الذنوب الموبقات، التي تهلك الأمم قبل الأفراد، وتردي أصحابها في الدنيا قبل الآخرة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ. "

"وقد اعتبر بعض فقهاء الإسلام السحر كفرا، أو مؤديا إلى الكفر، وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر تطهيرا للمجتمع من شره. وكما حرم الإسلام على المسلم الذهاب إلى العرافين لسؤالهم عن الغيوب والأسرار حرم عليه أن يلجأ إلى السحر أو السحرة لعلاج مرض ابتلي به، أو حل مشكلة استعصت عليه، فهذا ما برئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، قال: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له". وقد ابتليت مجتمعات المسلمين بهذا الشر العظيم، وانتشر السحرة والمشعوذون بصورة لم يسبق لها مثيل، وصار الناس يذهبون إلى العرافين والسحرة المفسدين يبتغون عندهم العلاج والشفاء، فعمّ البلاء وطم، ولذا كان للإسلام هديه الخاص في علاج السحر قوامه وعماده الاستعاذة بالله والركون إليه والاستعانة به، فإن السحر داء خفي ومستتر يحتاج إلى علاج خاص وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 112 ) " حاسد إذا حسد"
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول القرطبي: "الحسد أول ذنب عُصى الله به في السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض؛ فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، والحاسد ممقوت، مبغوض، مطرود، ملعون" 37ويقول أيضاً: "وقيل الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا"
وجاء في مختار الصحاح: الحسد: " أن تتمنى زوال نعمة المحسود إليك، وبابه دخل، وقال الأخفش: وبعضهم يقول يحسِده بالكسر حسداً بفتحتين وحسده على الشيء، وحسده الشيء بمعنى و تحاسد القوم وقوم حسدة كحامل وحملة. "

قال الثعالبي: " وقوله - تعالى -: "وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِهِ ونَفْسِهِ، يريد بـ«النَّفْس»: السعْيَ الخَبِيثَ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ذكَر اللَّه - تعالى - الشُّرُور في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحَسَدِ؛ ليعلم أنَّه أخسُّ الطَبائع. " ولعل من أنواع الحسد الشديدة الخطورة "العين"؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ٍ أبو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "الْعَيْنُ حَقٌّ" وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ.. "، و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ"
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 113 ) (و من أعرض عن ذكرِي فإن له معيشة ضنكا .)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشّةً ضَنْكًا..}
سُئِل الشيخ العلامة صالح الفوزان - حفظه الله - تعالى -:
ما معنى قوله - تعالى -{وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى} [طه: 124]. ما معنى تفسير هذه الآية؟
فأجاب: يقول الله - سبحانه وتعالى-: {فإما يأتينَّكم منِّي هُدًى فمن اتَّبع هُداي فلا يضل و لا يشقى [123] وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى[124]}.

في الآيتين الكريمتين أن من اتبع القرآن و عمل به فإن الله - سبحانه وتعالى - تكفل له بأن لا يضل في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. و في الآية الثانية أن من أعرض عن القرآن و لم يعمل به فإن الله جل و علا يعاقبه بعقوبتين:
الأولى: أنه يكون في معيشة ضنكاً و قد فسر ذلك بعذاب القبر، و أنه يعذب في قبره، و قد يراد به المعيشة في الحياة الدنيا و في القبر أيضا فالآية عامة.
والحاصل: أن الله توعده بأن يعيش عيشةً سيئةً مليئةً بالمخاطر و المكاره و المشاق جزاءً له على إعراضه عن كتاب الله جل و علا، لأنه ترك الهدى فوقع في الضلال و وقع في الحرج.
والعقوبة الثانية: أن الله جل و علا يحشره يوم القيامة أعمى، لأنه عمي عن كتاب الله في الدنيا فعاقبه الله بالعمى في الآخرة، قال {قال رب لِمَ حشرتني أعمى و قد كنتُ بصيراً [125] قال كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنا فنَسيتَهاَ و كَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى [126]}[طه]، فإذا عمي عن كتاب الله في الدنيا بأن لم يلتفت إليه و لم ينظر فيه و لم يعمل به، فإنه يحشر يوم القيامة على هذه الصورة البشعة و العياذ بالله. و هذا كقوله - تعالى -{و من يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين[36] و إنَّهم ليصدُّنَهم عن السبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون[37] حتى إذا جاءنا قال يا ليتَ بيني و بَينَكَ بُعدَ المشرقين فبئسَ القرين[38] و لن ينفعَكم اليومَ إذ ظلَمتُم أنكم في العذاب مُشتَركين[39] أفأنتَ تُسمعُ الصُّمَّ أو تهدي العُميَ و مَن كَانَ في ضَلالٍ مُبين[40]}[الزخرف].
فالحاصل: أن الله جل و علا توعد من أعرض عن كتابه و لم يعمل به في الحياة الدنيا بأن يعاقبه عقوبة عاجلةً في حياته في الدنيا و عقوبة آجلة في القبر و العياذ بالله و في المحشر، و الله - تعالى -أعلم. [المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان: ج2/59] وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 114 ) وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين "
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قرأت في تفسير عماد الدين أبي الفداء الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير عليه رحمات الله عند تفسير قوله - تعالى -(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) في سورة الأنبياء الآية 107 قوله: (...فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. الطبري 18/552)
فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب والآيات في ذلك كثيرة منها:
قال - تعالى -في شأن نوح: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ " [الأعراف: 64].
وقال - تعالى -في شأن هو: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 72]. والآيات كثيرة.
وأما من السنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً. رواه مسلم.
هذه الرحمة هي للمؤمن، والمنافق، والكافر.
قال القاضي عياض في " الشفا " (1/91): " للمؤمن رحمة بالهداية، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب ". ا. هـ.

وقال أبو نعيم في " دلائل النبوة ": فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته - عليه السلام - فيهم، وذلك قوله - تعالى -: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " [الأنفال: 33]، قلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به. ا. هـ.
والله أعلم. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 115 ) ( لا يمسه إِلا المطهرون )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على قولين:
1 - أن المقصود الكتاب الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة.
2 - أن المقصود القرآن لا يمسه إلا الطاهر أما المحدث حدثا أكبر أو أصغر على خلاف بين أهل العلم فإنه لا يمسه.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " شرح العمدة (1/384) القول الأول، فقال:
والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية وكذلك الملائكة مرادون من قوله المطهرون لوجوه:
أحدهما: إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا: لا يمس القرآن إلا طاهر من أئمة المذاهب صرحوا بذلك وشبهوا هذه الآية بقوله: " كَلَّا إِنَّهَا. تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 11 - 16].
وثانيها: أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وثالثها: أنه قال: " فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " [الواقعة: 78]، والمكنون: المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ.

ورابعها: أن قوله: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، صفة للكتاب، ولو كان معناها الأمر، لم يصح الوصف بها، وإنما يوصف بالجملة الخبرية.
وخامسها: أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل: فلا يمسه لتوسط الأمر بما قبله.
وسادسها: أنه لو قال: " الْمُطَهَّرُونَ " وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: المتطهرون، كما قال - تعالى -: " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " [التوبة: 108]، وقال - تعالى -: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222].
وسابعها: أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه.
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/417):
قلت: مثاله قوله - تعالى -: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79] قال - يقصد الإمام ابن القيم شيخَ الإسلام -: والصحيح في الآية أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة:
- منها: أنه وصفه بأنه مكنون والمكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة. - ومنها: أنه قال: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، كما قال - تعالى -: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222]. فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون.
- ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم، والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى.

- ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن؛ فأخبر - تعالى -: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه كما قال - تعالى -في آية الشعراء: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [عراء: 210 - 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.
- ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 12 - 16]، قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير: " لَا يَمَسُّهُ إالْمُطَهَّرُونَ " أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس:
- ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف.
- ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية؛ فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك. ا. هـ.
والله أعلم وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 116) (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها...)الآية -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف/175-176-177].
قال ابن القيم رحمه الله: فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه فترك العمل به واتَّبع هواه وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً. ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو مِن أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا. والجيفُ القذرة المروحة أحبُّ إليه مِن اللحم الطري. والعذرة أحبُّ إليه مِن الحلوى وإذا ظفر بميتةٍ تكفي مائةَ كلبٍ لم يَدَع كلباً واحداً يتناول منها شيئاً إلاّ هرَّ عليه وقهره لحرصه وبخله وشَرَهِه.

ومِن عجيبِ أمره وحرصه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثةٍ وثيابٍ دنيَّةٍ وحالٍ زرِيَّةٍ نبحه وحمل عليه، كأنَّه يتصور مشاركتَه له ومنازعتَه في قُوتِه. وإذا رأى ذا هيئةٍ حسنةٍ وثيابٍ جميلةٍ ورياسةٍ وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجلها على اللهِ والدارِ الآخرةِ مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سِرٌّ بديعٌ، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له، إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهُدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها،وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء، فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذ عطش أكل الثرى من العطش، وإنْ كان فيه صبرٌ على الجوع.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لهثاً، يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده توجبُ له دوام اللهث.
فهكذا مشبَّهه شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإنْ حملتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركتَه ولم تعظْه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثَل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس: إنْ تحمل عليه الحكمة لم يحملْها، وإن تتركْه لم يهتدِ إلى خيرٍ، كالكلب إنْ كان رابضاً لهث، وإنْ طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحقِّ، دُعي أو لم يُدْع، وُعظ أو لم يُوعظ، كالكلب يلهث طرداً وتركاً.

وقال عطاء: ينبح إنْ حملتَ عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة: كلُّ شيءٍ يلهثُ فإنما يلهثُ مِن إعياءٍ أو عطشٍ إلا الكلب، فإنَّه يلهث في حالِ الكلال وحالِ الراحة وحالِ الصحة وحالِ المرض والعطش فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، وقال: إنْ وعَظْتَه فهو ضالٌّ، وإن ترَكْتَه فهو ضالٌّ، كالكلب إنْ طردتَّهُ لهث وإنْ تركْتَه على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه: { وَإِنْ تَدْعُوهُم إِلى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُم أَمْ أَنْتُم صَامِتُونَ }الأعراف/193]. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 117 ) (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها...)الآية -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
تأمَّلْ ما في هذا المثل مِن الحِكم والمعاني:
فمنها: قوله: { آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } فأخبر سبحانه أنَّه هو الذي آتاه آياته، فإنَّها نعمةٌ، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: { فَانْسَلَخَ مِنْهَا } أي: خرج منها كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها، وفارقها فراق الجلد يُسلخ عن اللحم. ولم يقل (فسلخناه منها) لأنَّه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.

- ومنها: قوله سبحانه: { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان } أي: لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: { فَأَتْبَعُوهُم مُشْرِقِينَ } [الشعراء/60] وكان محفوظاً محروساً بآيات الله محميَّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئاً إلا على غِرَّةٍ وخطفة. فلمَّا انسلخ مِن آيات الله ظفِر به الشيطانُ ظفَر الأسد بفريسته {فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.

ومنها: أنَّه سبحانه قال: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } فأخبر سبحانه أنَّ الرفعة عنده ليست بمجرد العلم - فإنَّ هذا كان مِن العلماء- وإنَّما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله، فإنَّ هذا كان مِن أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به، نعوذ بالله مِن علمٍ لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنَّه هو الذي يرفع عبدَه إذا شاء بما آتاه من العلم، وإنْ لم يرفعه الله فهو موضوعٌ، لا يرفعُ أحدٌ به رأساً، فإنَّ الربَّ الخافضَ الرافعَ سبحانه خفضه ولم يرفعه. والمعنى: لو شئنا فضَّلناه وشرَّفْناه ورفعنا قدرَه ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ } : عائدٌ على الكفر والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حقٌّ ، والأول هو مراد الآية، وهذا مِن لوازم المراد ، وقد تقدم أنَّ السلف كثيراً ما ينبهون على لازمِ معنى الآية، فيظنُّ الظانُّ أنَّ ذلك هو المراد منها.
وقوله: } وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ }. قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض، وقال مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمُخلِدُ من الرجال: هو الذي يبطىء في مِشْيته، ومِن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أنْ تخرج رَباعيَّتُه. وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود، وهو الدوام والبقاء. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به. قال مالك بن نويرة:

بأبناء حيٍّ مِن قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِم وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة/17] أي: قد خُلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سنٍّ واحدٍ أبداً.
وقيل: هم المقرَّطون في آذانهم، والمسوَّرون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسَّروا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد على ذلك السنِّ فلا تنافي بين القولين.
وقوله: } فَاتَّبَعَ هَوَاهُ }، قال الكلبي: اتَّبع مسافل الأمور وترك معاليها. وقال أبو رَوْق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. وقال ابن يمان: اتَّبع امرأته لأنهَّا هي التي حملته على ما فعل.
فإنْ قيل: الاستدراك بـ (لكن) يقتضي أنْ يثبت بعدها ما نفى قبله، أو ينفي ما أثبت كما تقول: (لو شئتُ لأعطيتُه، لكني لم أعطِه) و (لو شئتُ لما فعلتُ كذا لكني فعلتُه).
والاستدراك يقتضي: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّا لم نشأ، أو لم نرفعه)، فكيف استدرك بقوله: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ } بعد قوله : { لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا }؟

قيل: هذا مِن الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أنَّ مضمون قوله: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أنَّه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: مِن إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنَّه آثر الدنيا وأخلدَ إلى الأرض واتَّبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: ولو لزم آياتنا لرفعناه بها، فذكر المشيئة، والمراد: ما هي تابعةٌ له ومسببةٌ عنه، كأنَّه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. قال: ألا ترى إلى قوله: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أنْ يكون { وَلَوْ شِئْنَا } في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره: لوجب أنْ يقال: ولو شئنا لرفعناه، ولكنَّا لم نشأ. ا.هـ.
فهذا من الزمخشري شنشنةٌ نعرفها مِن قدريٍّ نافٍ للمشيئة العامة، مبعد للنُّجعة في جعْلِ كلام الله معتزليّاً قدريّاً. فأين قوله: { وَلَوْ شِئْنَا } مِن قوله: ولو لزمها؟. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفاً على مشيئة الله -وهو الحق- بَطَل أصله.
وقوله: (إنَّ مشيئة الله تابعةٌ للزوم الآيات) مِن أفسدِ الكلام وأبطلِه، بل لزومه لآياته تابعٌ لمشيئة الله، فمشيئةُ الله سبحانه متبوعةٌ لا تابعةٌ، وسببٌ لا مسبَّب، وموجب مقتضٍ لا مقتضى، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده) ا.هـ .
انظر : " أعلام الموقعين " [1/165-169]. وانظر: " الفوائد " [ص150].

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:ضرب اللهُ المثلَ لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها: بالكلب، ولم تكن حقارةُ الكلبِ مانعةً مِن ضربه تعالى المثلَ به. وكذلك ضربُ المثلِ بالذباب في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ } [الحج/73] ، وكذلك ضربُ المثلِ ببيتِ العنكبوت في قوله: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت/41]. وكذلك ضربُ الله المثلَ بالحمارِ في قوله: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةِ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة/5] وهذه الآيات تدل على أنَّه تعالى لا يستحيي مِن بيانِ العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة. وقد صرَّح بهذا المدلول في قوله: { إنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة/26]. ا.هـ (أضواء البيان [2/303]).
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 118) خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (النساء: 71)الحذر والحذر بمعنى كالأثر والأثر، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه، والمعنى: احذروا وتيقظوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم- (الكشاف 1/280 ) وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم[تيسير الكريم الرحمن /150 ) ويكون ذلك أيضاً ببذل المال في سبيل الله، وإعداد المقاتلين، فمن جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، قال - سبحانه - ((من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)) وقال - جل شأنه -: ((يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) يقول الشيخ المراغي - رحمه الله -: ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات، إلى نحو ذلك؛ حتى لا يهاجمكم على غرة، أو يهددكم في دياركم، وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد، استعد لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له. وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح.
ثبات: جمع ثبة، وقد تجمع على ثبين، أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية

أو انفروا جميعا: يعني كلكم
من فوائد الآية
ـ فضيلة أهل الإيمان حتى صاروا أهلاً للخطاب
ـ وجوب أخذ الحذر من أعدائنا
ـ أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون
ـ وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله
ـ هذه النفرة تكون حسب المصلحة إما جماعات أو جميعا
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 119 ) سورة التغابن - 1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير (3)
إن سورة التغابن سورة مدنية أشبه ما تكون بالسور المكية لاهتمامها بالعقيدة وأصول الدين، حتى قال بعض العلماء إنها مكية.
استفتحت السورة بيان تسبيح من في السموات والأرض بحمد الله لأنه الخالق المالك للسموات والأرض وما فيهما. ثم حذّرت الكافرين من عاقبة الكفر الوخيمة، ولفتتْ أنظارَهم إلى مصارع الكافرين من قبلهم ليعتبروا بهم. ثم تحدثت عن البعث بعد الموت وردّت على منكريه، وبيّنت جزاء كلٍّ من المؤمنين والكافرين.
كما بينت أن كل شيء بقضاء، وأن من يؤمن بقضاء الله يهد الله قلبه. وحذرت المؤمنين من الانشغال بأموالهم وأولادهم عن ذكر الله.
ثم ختمت بأمرهم بتقوى الله، والسمع والطاعة، والإنفاق في سبيل الله مما رزقهم الله، ووعدتْهم إن أنفقوا أن يضاعف الله لهم الأجر يوم القيامة: يوم لا ينفع مال ولا بنون {الشعراء: 88}.
هذه السورة هي آخر المسبّحات، وقد مضى الكلام عن تسبيح الكائنات لبارئها ومالكها.

وقوله - تعالى -: هو الذي خلقكم أي هو وحده، لا غيره، وهذه حقيقة، كان المشركون قديمًا مقرين بها، كما قال - تعالى -: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {الزخرف: 87}، حتى نشأت ناشئةٌ من الملحدين الذين أنكروا وجود الله بالكليّة، وردوا نشأتهم إلى الطبيعة فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون {غافر: 70 72}.
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن أي هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بدّ من وجود مؤمن وكافر، والمقصود بهذه الإرادة؛ الإرادةُ الكونية القدرية، لا الإرادة الشرعية الدينية، والإرادة الكونية تتعلّق بالخلق والإيجاد، وأما الشرعية فإنها تتعلق بالأمر والنهي، وهذه التي تدل على الحب والكره، دون الأولى؛ فكل ما أمر الله به فهو يحبه، وإن لم تتعلق به الإرادة الكونية، وكلّ ما نهى عنه فهو يكرهه وإن تعلقت به الإرادة الكونية، فإنها أي الشرعية لا تتعلق إلا بما يحب، فإيمان المؤمن تعلقت به الإرادتان الشرعية والقدرية، وكفر الكافر تعلقت به الإرادة القدرية دون الشرعية، لأن الله لم يأمر بالكفر بل نهى عنه وتوعد عليه، قال - تعالى -: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " {الزمر: 7}.
وقال - تعالى -: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28) قل أمر ربي بالقسط " {الأعراف: 28، 29}.
وقال - تعالى -: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي "{النحل: 90}.
وقدم - تعالى - ذكر الكافرين لكثرتهم وقلّة المؤمنين، ولذا قال - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون {الأنعام: 116}.

وقال - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: " والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " {الرعد: 5}.
ولذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يقول لآدم يوم القيامة: "ابعث بعث النار من ذريّتك. فيقول يا ربّ كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين"
{متفق عليه، رواه خ (4741-441-8)، المجتمع (222-201-1)}
فلا تغتر يا عبد الله بكثرة السالكين طريق الباطل، ولا تستوحش من طريق الحق وإن قل سالكوه.
وقوله - تعالى -: " والله بما تعملون بصير " أي: وهو - سبحانه - بصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 120 ) سورة التغابن -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8)
تفسير الآيات:
يقول - تعالى - مخبرا عن الكفار والمشركين والملحدين: "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا" فكذَّبهم فيما أخبر عنهم به بنفس صيغة الخبر، فإن الزعم مطيةُ الكذب- كما يقولون-.

ثم أمر اللهُ نبيه أن يقسم بربّه على أنّ البعث حق، لا كما زعموا، فقال - تعالى -: "قل بلى وربي لتبعثن"، وهذه ثالثةُ ثلاثِ آياتٍ أمر الله فيها نبيه أن يقسم بربه على أن البعث حق، قال - تعالى -: "ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين" {يونس: 53}. وقال - تعالى -: "وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم" {سبأ: 3}، وقد أقسم الرب - سبحانه - بنفسه على أن البعث حقّ، فقال - تعالى -: "ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" {مريم: 66- 68}، فأقسم الربُّ - سبحانه - بذاته على بعث عباده، وأمر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم أيضًا بربّه على ذلك، فمن كذّب بعد ذلك فالنار أولى به، "بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا" {الفرقان: 11- 14}.
وقوله - تعالى -: "ثم لتنبؤن بما عملتم". كقوله - تعالى -: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" {القيامة: 13}، وكقوله: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" {الزلزلة: 7، 8}.

عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنّ اللهُ يدني المؤمن فيضعُ عليه كنَفَه ويسترُه من الناس، ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنبَ كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنْ قد هلك، قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعْطَى كتابَ حسناتِه. وأما الكفارُ والمنافقون فيقولُ الأشهاد: "هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم، ألا لعنة الله على الظالمين". {متفق عليه}.
وقوله - تعالى -: "وذلك على الله يسير" أي: بعثكم ومجازاتكم، كما قال - تعالى -: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" {لقمان: 28}، وقوله - تعالى -: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم" {الروم: 27}.
ولما أخبرهم - سبحانه - أنهم مبعوثون، وبأعمالهم مجزّيون، أرشدهم إلى طريق النجاة، فقال: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا يعني القرآن.
وقد سمّى الله كتابه نورًا في أكثر مِن آية، قال - تعالى -: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" {النساء: 174}، فبالقرآن يستضيء الحيارى في ظلمات الكفر والجهل والضلالة، قال - تعالى -: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" {المائدة: 15، 16}.
وقوله - تعالى -: "والله بما تعملون خبير" لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، فراقبوه، واسْتحيُوا أن يراكم حيث نهاكم.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 121 ) سورة التغابن -3الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول - تعالى -: "يوم يجمعكم ليوم الجمع" وهو يوم القيامة؛ سمّي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال - تعالى -: "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" {هود: 103}، وقال - تعالى -: "قل إن الأولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" {الواقعة: 49، 50}. ا.هـ من ابن كثير.
وقوله - تعالى -: "ذلك يوم التغابن" والتغابن في الأصل: من الغبن وهو الخداع في البيع والشراء، فمن باع سلعةً بأقلّ مما تستحق، أو اشتراها بأكثرَ مما تستحق، فهو مغبون، فأراد الله أن يُعْلِمَ عباده أن الغبْن الحقيقي هو ما يكون في الآخرة، حين يَغْبِنُ أهلُ الجنة أهلَ النار، وذلك حين يأخذ المؤمن منزل الكافر في الجنة، ويعطيه منزله في النار، وتوضيح ذلك أن الله خلق لكلِّ عبد منزلين، منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، فمن آمن فقد فاز بالجنة، ونجا من النار، ومن كفر فقد فاتته الجنة وفاز بالنار، فإذا كان يوم القيامة أَعطى المؤمنُ الكافرَ منزلَه في النار، وأخذ منزلَه في الجنة، وذلك هو التغابن الكبير.
وقوله - تعالى -: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" فيه أن النجاة إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، والإيمان معروف، أما العمل الصالح فلا بد أن يكون خالصًا لله، وموافقًا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكون مقبولاً، فمن آمن وعمل صالحًا فإنّ الله يكفّر عنه سيئاته، فلا يُجْزَى بها، بل يُجْزَى بحسناته، كما قال - تعالى -: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون" {العنكبوت: 7}.

وقوله - تعالى -: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير" واضح المعنى.
ولما كانت الدنيا دار البلاء والمحن والشدائد والمصائب، أرشد اللهُ عباده إلى ما يستعينون به على هذه المصائب وهو الإيمان بأنها بقضاء الله، فقال - تعالى -: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم كما قال - تعالى - في سورة الحديد: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" {الحديد: 22، 23}، فكلُّ شيءٍ بقضاء الله، ومن يؤمن بالله فيعلم أن ما أصابه فبقضاء الله، فيصبر ويحتسب ويستسلم لقضاء الله، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضرّوه بشيءٍ لم يضروه إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليه، من يؤمن بهذا يهد قلبه اللهُ - تعالى -، ويرزقْه السكينة والطمأنينة، فلا يجد حرَّ المصيبة، بل تكون على قلبه بردًا وسلامًا، فيكون أمره كله له خيرًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له". فوطِّن نفسك يا عبد الله على الرضا بقضاء الله، وإذا أصابتك مصيبة فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون {البقرة: 156}، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها. ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين {الأعراف: 126}، فإنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن يتصبّر يصبرّه الله، وما أُعطي أحدُ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".

وفي قوله - تعالى -: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه من الفوائد غير ما ذكرنا أن الإيمان من أسباب زيادة الهداية، كما قال - تعالى -: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" {محمد: 17} بينما أهل الزيغ والضلال يُزيغ اللهُ قلوبهم، كما قال - تعالى -: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين" {الصف: 5}.
وقوله - تعالى -: "والله بكل شيء عليم": أي: لا تخفى عليه خافيةٌ، وأنه - سبحانه - قد أحاطَ بكل شيء علمًا، كما قال - تعالى -: "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين" {يونس: 61}، والآيات في ذلك كثيرة.
وقوله - تعالى -: "وأطيعوا الله والرسول" فإن الفوز والنجاة في طاعة الله ورسوله، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين يعني: وقد أداه، فليس عليه من أوزاركم شيء.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 122 ) سورة التغابن -4
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون (13) يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (15)
تفسير الآيات:

قوله - تعالى -: الله لا إله إلا هو خبرٌ متضمن الأمر بالتوحيد، ومعنى الله لا إله إلا هو أي: لا معبود بحق إلا الله: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه {الطلاق: 3}، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال- يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلتُ على الله، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحيّ عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي": ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم {الممتحنة: 4} آمين.
يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، فليس كل الأولاد والأزواج أعداء، ولكن منهم أعداء، فخذوا حذركم، لا يشغلوكم عن ذكر الله، ولا يحضوكم على معصيته، كما قال - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون {المنافقون: 9}. ولما أمر الله بالحذر من الأزواج والأولاد أرشد إلى العفْو والصفح لما يكون منهم من زلات، فقال: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعَوهُم، فلما أَتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
ثم كرر الله - تعالى - التحذير فقال: إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي: اختبار من الله - تعالى - وابتلاء لخلقه: ليبلوكم أيكم أحسن عملا وليعلم من يطيعه ومن يعصيه.

عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجاء الحسنُ والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمرانِ يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبرْ حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما".
وختام الآية: والله عنده أجر عظيم يُشعر بأن ما عند الله من الأجر والثواب خيرٌ من الأموال والأولاد، كما قال - تعالى -: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا {الكهف: 46}، وكما قال - تعالى -: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب، ثم قال - تعالى -: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 123 ) سورة التغابن -5
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (17) عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم {التغابن: 13- 18}.

وقوله - تعالى -: فاتقوا الله ما استطعتم أي: جهدكم وطاقتكم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآية ناسخةٌ للتي في "آل عمران"، وهي قوله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، والراجح أنها ليست ناسخةً، ولكنها مفسرة، فمن اتقى الله قدر جُهده وطاقته فقد اتقى الله حق تقاته، وهكذا تختلف التقوى مِن واحدٍ لآخر، حسب جهدِ كلٍّ وطاقته. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه في حقّ التقوى: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وقوله - تعالى -: واسمعوا وأطيعوا أي: كونوا منقادين لما يأمركم به الله ورسوله، اسمعوا وعوا واعملوا، وكونوا كما وصف الله عباده المؤمنين: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، كونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إن الخطب كثيرة، والمواعظ كثيرة، والدروس كثيرة، ولكن العمل قليل، والسببُ أن كثيرًا من الناس يسمعون للثقافة، يسمعون للتسلية، وليست عندهم نية العمل، والواجب على من يسمع أن يعمل، وإلا كان ما يسمعه من العلم حجةً عليه.

فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا إن أنتم أنفقتم، ف أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. إن الشح داءٌ خطير، وشرٌّ مستطير، لا يجتمع والإيمان في قلب عبد أبدًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا". ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته من الشح فيقول: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
لهذا كله قال - تعالى -: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ولذا كان السلف حريصين على السلامة من الشح، حتى قال أبو الهياج الأسدي: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلتُ له، فقال: إني إذا وُقِيتُ شح نفسي لم أسرق ولم أزْن ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. نسأل الله أن يقينا شح أنفسنا.

ثم تعود الآيات فتحثّ على الإنفاق في سبيل الله بطريقة أخرى، فتسمي الإنفاق قرضًا، وتعد بتضعيفه، فتقول: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم أضعافًا كثيرة، بينتها آية البقرة، وهي قوله - تعالى -: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، ففي تسمية الله الإنفاق قرضًا حث للعباد على الإنفاق، وترغيب لهم فيه، فإن هذا المال الذي ينفقونه قرضٌ مردود بخلاف الصدقة، والذي يعد بالوفاء الله - سبحانه -، ومن أوفى بعهده من الله. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، أو يسألني فأعطيه، ثم يقول: من يُقْرض غير عديم أو ظلوم". ومع الوعد بالتضعيف وعد آخر، وهو يغفر لكم ذنوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، والله شكور، يجزي على القليل بالكثير، وهو - سبحانه - "حليم" يعفو ويغفر، ويتجاوز ويستر، ويمهل ولا يعجل، كما قال وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 124 ) سورة الحاقة -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول - تعالى -: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية (16) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (17) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (18) فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه (19) إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (24) وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية (27) ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (32)" {الحاقة: 13- 33}.
يقول - تعالى - مخبرًا عن أهوال يوم القيامة: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، الصور خَلْقٌ عظيمٌ مثلُ البوق، وقد ذُكِرَ في القرآن الكريم، وثبت في السنة أن الله قد وكل به ملكًا من الملائكة المقربين وهو إسرافيل - عليه السلام -، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أخذ أهبة الاستعداد للنفخ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنعم وقد التقم صاحبُ القرْن القرنَ، وحنا جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يُؤمَرَ فينفخ؟ " فكأنّ ذلك ثَقُلَ على أصحابه، فقالوا: فكيف نفعلُ يا رسول الله أو نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا". {صحيح. رواه الترمذي: 2548-42-4}.

والنفخ مرتان: نفخة الإماتة، ونفخة الإحياء، قال - تعالى -: "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" {الزمر}، وبين النفختين أربعون، كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين النفختين أربعون" قيل أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة: أَبَيْت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت". {متفق عليه}.
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وهي نفخة الفزع والإماتة حصل بها تغير عظيمٌ في الكون كله، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة أي: قامت القيامة، والواقعة ثالث اسمٍ من الأسماء التي أطلقت على يوم القيامة في هذه السورة، فقد سبق تسميته بالحاقة والقارعة، ثم أطلق عليه هنا الواقعة لتحقّق كونه ووجوده، وانشقت السماء بسبب النفخ فهي يومئذ واهية أي ضعيفة بعد شدّتها، كما قال - تعالى -: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا {المزمل: 17، 18}، فإذا السماء انفطرت وانشقت، بسبب هذه النفخة، فكيف بكم أنتم معشر الناس؟!

وقوله - تعالى -: "والملك على أرجائها" يعني: إذا انشقت السماء قامت الملائكة على حافاتها، يردّون الشارد، ويدفعون الهارب، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية من الملائكة، وقد حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظمة خلقهم فقال: "أُذِن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام". {صحيح. رواه أبو داود: 4701، 36-13}. وقوله - تعالى -: "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية" أي: تعرضون على الملك الكبير المتعال، كما قال - تعالى -: "وعرضوا على ربك صفا" {الكهف: 48}، "لا تخفى منكم خافية"، فالكل مكشوفٌ، مكشوفُ الجسد، وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجبُ الأسرار، وتتعرّى النفوس وتُعَرَّى الأجساد، وتبرز الغيوب بروز الشهود، ويتجرد الإنسان من حَيْطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصًا أن يستره حتى عن نفسه، وما أقسى الفضيحة على الملأ وما أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكلّ خافية مكشوفةٌ لها في كلّ آن، ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حقّ الشعور، وهو مخدوع بستور الأرض، فها هو ذا يشعر به كاملاً وهو مجرد في يوم القيامة، وكل شيء بارز في الكون كله، الأرض مدكوكةٌ مسوّاة لا تحجب شيئًا وراء نتوءٍ ولا بروز، والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئًا، والأجسام معرّاة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.
فاللهم استرنا بسترك "يوم تبلى السرائر" {الطارق: 9}، فإذا عُرِض العبادُ على الله - سبحانه - كانوا فريقين: "فريق في الجنة وفريق في السعير" {الشورى: 7}،
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 125 ) الحاقة -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى "فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه" (19) "إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية"، والمراد بالكتاب كتاب الأعمال، ولكلِّ عبدٍ كتاب، كما قال - تعالى -: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" {الإسراء: 13، 14}، فلكلّ عبدٍ كتاب، فإذا حُشر العبادُ تطايرت هذه الكتب حتى يقع كلّ كتابٍ في يد صاحبه، فمنهم الآخذ بيمينه، وذلك الناجي، ومنهم من تُطْوَى شمالُه وراءَ ظهره فيأخذ بها، وذلك الشقي الهالك، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول لكلّ مَنْ لقيه: هاؤم اقرءوا كتابيه، وذلك لاعتقاده أنه ليس فيه ما يسوؤه، إني ظننت أني ملاق حسابيه أي كنتُ على يقين أنني محاسبٌ بعملي ومَجزيٌّ به، فاتقيت المحارم، واجتهدت في طاعة الله، فالظنّ هنا بمعنى اليقين، لأن الظنّ الذي هو بمعنى الشك لا يسمن ولا يغني من جوع، قال - تعالى -: "فهو في عيشة راضية" أي مرضية في جنة عالية أي رفيعةٌ قصورُها، حسانُ صورها، نعيمةٌ دورُها، دائمٌ حبورُها، قطوفها دانية كما قال - تعالى -: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان" {الرحمن: 54}، وقال - تعالى -: "ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا" {الإنسان: 14}، ومع هذا النعيم الحسّي فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم: "كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية" بمعنى "إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا" {الإنسان: 22}، والمراد بالأيام الخالية يعني الماضية، وهي أيام الدنيا، وهكذا يحدّثنا الله عن الدنيا ونحن مازلنا فيها، يحدثنا عنها بلفظ الماضي لأن زوالها قريب، وهو متحقق، فهو يحدثنا عنها وكأنها قد زالت فعلاً، وكأن أهل الجنة قد تبوأوا منازلهم فيها، وكأن أهل النار

قد تبوأوا منازلهم فيها، حتى لا يطول بالإنسان أملٌ، فيقعده عن خير العمل. وقد أخرج البيهقي عن نافع قال: خرج ابنُ عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابٌ له، ووضعوا سُفرةً لهم، فمرّ بهم راعي غنم، فسلم فقال ابن عمر: هلم يا راعي، هلم فأَصِبْ من هذه السُفرة، فقال له: إني صائم، فقال ابن عمر: أتصومُ في مثل هذا اليوم الحارّ الشديد سَمُومه، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إنّي والله أبادرُ أيامي الخالية. فقال له ابن عمر- وهو يريدُ أن يختبر ورعه-: فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها فتفطر عليها؟ فقال: إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي. فقال له ابن عمر: فما عسى سيّدك فاعلاً إذا فقدها فقلت أكلها الذئب؟ فولّى الراعي عنه، وهو رافعٌ إصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يردد قول الراعي، وهو يقول: قال الراعي: فأين الله؟ فلما قدم المدينة بعث إلى مولاه فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب منه العلم.
فيا عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.

عن صفوان بن محرز قال: كنتُ آخذًا بيد ابن عمرَ إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يُدْني المؤمنَ فيضعُ عليه كنفَه ويسترُه من الناس ويقرِّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفَ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين". وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 126 ) الحاقة -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه، فما كان يظن يومًا أنه محاسب بأعماله، كما قال - تعالى -: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13)" إنه ظن أن لن يحور أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته، فلما رأى ما لم يحسب حسابه لم يجد إلا أن يتمنى الموت بعد أن كان الموت أكره إليه من كل شيء، فقال: يا ليتها كانت القاضية التي تنهي وجوده أصلاً فلا يعود بعدها شيئًا، ثم تحسّر على عدم انتفاعه بماله ولا جاهه، فقال: ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه، وهذه حقيقة طالما ذكّر بها القرآن الأثرياء والوجهاء، ولكنهم نسوها أو تناسوها، قال - تعالى -: "إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار" {آل عمران: 10}، وقال - تعالى -: "وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله إذا تردى {الليل: 18- 19}.

وقال - تعالى -: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون" {سبأ: 37}.
ومِن دعاء الخليل إبراهيم - عليه السلام -: "ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم" {الشعراء: 87- 89}.
وأما قوله: "هلك عني سلطانيه" فقد يُراد بالسلطان الجاه، فيكون تحسُّرًا على عدم انتفاعه بجاهه في هذا اليوم العصيب، وهذه أيضًا حقيقة طالما نبه عليها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلقد كان يهلل بعد الصلاة بهذه الكلمات: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". {متفق عليه}.
والجدّ هو الحظّ والغنى والعظمة والسلطان، أي: لا ينفع ذا الحظّ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظّه، أي: لا ينجيه حظّه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح.
وقد يرادُ بالسلطان الحجةُ والبرهان فيكون المعنى: هلك عني سلطانيه أي: بطلت حجتي، وضاع برهاني، وثبت خطئي، كما قال - تعالى -: "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد"، وبينما تنطلق منه هذه الحسرات في أسى وحزن إذ قرع سمعَه صوتُ الجبار - سبحانه - وهو يقول لملائكته: "خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه"، وما إن يقول الجبّار خذوه حتى يبتدره سبعون ألف ملك، الملك منهم يقول هكذا فيلقى سبعين ألفًا في النار، فيجعلون الأغلال في عنقه، ثم يسلكونه في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعًا- وكان ذراعٌ واحدٌ يكفيه- فتسلك في دبره حتى تخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه، أجارنا الله وإخواننا المسلمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

(

127 ) سورة القلم -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى "ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) فستبصر ويبصرون (5) بأيكم المفتون (6) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (7)
سورةٌ مكيّة، شأنُها شأنُ السّور المكيّة، في الاهتمام ببيان أصول الدين وأركان الإيمان، التي أهمّها التوحيد والرسالة والبعث. لكنّ محورَ السورة وموضوعَها الرئيسيَّ هو الرسالةُ والرسول وموقف المشركين منهما.
استفتحت السورة بالقسَم من الربّ - عز وجل - على براءة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - مما اتّهمه المشركون بقولهم شاعرٌ مجنون. ثم أثنى اللهُ على نبيّه لأخلاقه الحميدة وشهد له أنه بلغ أعلى درجات الأخلاق. ثم نهاه عن الاستجابة للمشركين فيما يدعونه إليه من أنصاف الحلول: ودوا لو تدهن فيدهنون.
ولقد كانت بعثةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نعمةً على قومه فكفروا بها، فضرب الله لهم مثلا بأصحاب الجنّة، وخوّفهم عاقبةَ الكفر والطغيان. ثم نفى التسويةَ بين المؤمنين والكافرين، وذكر شيئًا من أهوال اليوم الآخر، التي يظهر فيها الفرْقُ بين المؤمنين والكافرين جليّا.
وخُتمت السورة بأمرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، وحذّرته من أن ينفد صبره فيكون كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم *لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم *فاجتباه ربه فجعله من الصالحين.

(ن) هذا حرف من الحروف الأبجدية المعروفة، وقد اختلف المفسرون في سرّ استفتاح الله - تعالى - بعض سور القرآن الكريم بمثل هذا الحرف، والراجح والله أعلم بأسرار كلامه أن الله - عز وجل - أراد أن يبطل زعمهم أن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - افتراه من عند نفسه، فقال لهم: إن القرآن مؤلف من هذه الحروف (ن)، (ق)، (ص)، (حم)، (طس) ونحوها وهي نفسها التي يتألف منها كلامكم، ومحمد واحد منكم، ولغته لغتكم، فإن كان افتراه فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين {الطور: 34}، فإن عجزوا فمحمد أعجز منهم، فليعلموا أنه كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين، على قلب محمد ليكون من المنذرين.
قال - تعالى -: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين {البقرة: 24}.
قوله - تعالى -: والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون. هذا قَسَمٌ من الله - تعالى - بالقلم وبالكتابة. والله - سبحانه - يُقْسِمُ ببعض مخلوقاته إشارةً إلى عظمتها ومكانتها، فهذا القَسَمُ فيه إشارةٌ إلى الاهتمام بالكتابة التي هي أساسُ التعليم، لأنَّ هذا الدينَ الإسلام يقومُ على أساسٍ من العلم، ولذا كانت أول آياتِ القرآن نزولا: اقرأ باسم ربك الذي خلق *خلق الإنسان من علق *اقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم *علم الإنسان ما لم يعلم {العلق: 51}.
وقد كثرت الآياتُ والأحاديث في الحث على طلب العلم، وبيان فضلِه وشرفِه، وشرفِ حملته. وسبق في سورة المجادلة طرفٌ من ذلك.

وجواب القسم ما أنت بنعمة ربك بمجنون والمراد بالنعمة النّبوّة، وهي فضلُ الله يؤتيه من يشاء، و الله أعلم حيث يجعل رسالته {الأنعام: 124}، وما كان الله يبعث في الناس مجنونًا. والعجيبَ أنّ القومَ حين قالوا ما قالوا كانوا يعلمون كَذِبَ أنفسهم، إذ كيف يكونُ مجنونًا من كانوا يحكّمونه بينهم؟! وكيف يكون مجنونًا من لقبّوه دون عظمائهم بالصادق الأمين؟! ولكنّه البغي، والحسد، ولذا قال - تعالى - لنبيّه: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون {الأنعام: 33} وفي قولهم هذا، وشهادة اللهِ لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - بالبراءة منه، عزاءُ لكلّ مَنْ يُقالُ فيه من الدعاة ما ليس فيه، فليوّطنْ الدّعاةُ أنفسُهم على الصبر، وأن يحتسبوا الأجرَ عند الله على أيِّ أذًى يلحقهم بسبب الدعوة، فإنها سُنّةٌ مطّردَةٌ في الدعاة، ولذا قال لقمانُ لابنِه وهو يعظُه: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور {لقمان: 17}. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 128) سورة القلم -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول - تعالى -: وإن لك لأجرا غير ممنون أي إنّ لك أجرًا دائمًا مستمرا لا ينقطع، على صبرك عليهم، وتبليغك رسالة ربك إليهم، مع تكذيبهم لك، وإعراضهم عنك. وإنك لعلى خلق عظيم وإنها لشهادةٌ عظيمةٌ من العليّ العظيم، لنبيّه العظيم، بعظمةِ أخلاقه، فلئن جاز لحملةِ الشهادات أن يعلّقوها على الجدران، فإن هذه الشهادة تستحقّ أن تكتب بسبائك الذهب وتعلق على جدران الفضة، لأنها من الله وكفى بالله شهيدا {النساء: 166}. عن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أمّ المؤمنين عن خُلُقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: أتقرأ القرآنَ؟ فقلت: نعم. فقالت: كان خُلُقُه القرآن. {صحيح،
ومعنى هذا أنه - عليه الصلاة والسلام - صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيا سجيةً له، وخُلُقًا تطبّعه وترك طَبْعَه الجبلّي، فمهما أمره القرآنُ فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكلِّ خُلُقٍ جميل، كما ثبت عن أنس قال خدمت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سنين، فما قال لي أُفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ فعلتُه: لم فعلته، ولا لشيءٍ لم أفعلْه ألا فعلتَه؟ وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس خُلُقًا، ولا مسستُ خزا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألينَ مِنْ كفّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممتُ مِسْكًا ولا عِطْرًا كان أطيبَ مِنْ عَرَقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. {حسن صحيح،
والأحاديث في هذا كثيرة. ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ على مكارم الأخلاق ويرغب فيها، فكان يقول: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم. {حسن صحيح )

وكان يقول: "إن المؤمن ليدركُ بحسن خُلُقِه درجة الصائم القائم". {صحيح، رواه: د(4777-154-13)}وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنْ شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْنِ الخُلُق، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء{صحيح،
وهو الذي يتكلم بالفحش ورديء الأخلاق. فعليك يا عبد الله بحسن الخلق، وإياك وسوء الخلق، واعلم أنه لا يهدي لأحسن الأخلاق إلا الله، ولا يصرف شيئًا إلا هو، ففر إلى الله بالدعاء الدائم وقُلْ: اللّهمّ كما حسّنَتَ خَلْقي حسّن خُلُقي.
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنُه إلى غده مع المشركين الذين رموه بذلك البهتُ اللئيم، ويهدّدهم بافتضاح أمرهم وانكشافِ بطلانهم وضلالهم المبين، فيقول: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون أي: فستعلم يا نبينا ويعلم مخالفوك ومكذّبوك مَنِ الضَّالُّ أنت أم هم؟ لقد قال قومُ ثمود من قبل لنبيهم صالح: بل هو كذاب أشر {القمر: 25}، فقال - تعالى -: سيعلمون غدا من الكذاب الأشر {القمر: 26} هم أم صالح؟. وها هم المشركون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاعرٌ مجنون؟ أتواصوا به بل هم قوم طاغون {الذاريات: 53}، والله - تعالى - يتوعدهم بالفضيحة على رءوسِ الأشهاد يوم القيامة، فيقول لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون "وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشفُ عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه، ويثبت أيّهم الممتحن بما هو فيه، أو أيّهم الضال فيما يدعيه. ويطمئنه إلى أن ربه هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وربه هو الذي أوحى إليه، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه، وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه، وما يبعث في قلوبهم التوجّس والقلق لما سيجئ".
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 129 ) سورة القلم -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
وقوله - تعالى -: ولا تطع كل حلاف مهين وكثرةُ الحلف عنوانُ الكذب، فلا يلجأ إلى كثرة الحلف إلا الكذّاب، أما الصادق فلا يلجأ إلى الحلق أبدا، ولاسيما إذا رُفع ذكرُه، وعُرفَ بين الناس بصدقه. والكذّاب يكذّب نفسّه قبل أن يكذّبه غيرُه، فيلجأ إلى الأَيمان الكاذبة ليصدّقه الناس، وهو يعلم أنّه كاذب. وقد وصف الله كل حلاف بأنه مهين، أي حقير ذليل، قال الحسن: كلّ حلاف مكابر مهين ضعيف. "والمهانة صفةٌ نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا". وقوله - تعالى -: هماز أي يهمز الناس ويعيبهم، وقد توعده الله - سبحانه - بالحُطمة، فقال: ويل لكل همزة لمزة *الذي جمع مالا وعدده *يحسب أن ماله أخلده *كلا لينبذن في الحطمة *وما أدراك ما الحطمة *نار الله الموقدة *التي تطلع على الأفئدة *إنها عليهم مؤصدة *في عمد ممددة {الهمزة: 1-9}. والهمز واللمز خُلُقٌ ذميم، نهى الله - تعالى - عنه فقال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون {الحجرات: 11}.

وأما قوله - تعالى -: مشاء بنميم فهو الذي يمشي بين الناس، ويحرّش بينهم وينقل كلام الناس ليوقع بينهم، وهذا من شر الناس عند الله يوم القيامة، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بشراركم؟ المشّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، الباغون للبرءاء العنت". وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن النميمةَ من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: "إنّهما يعذبان، وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة". {متفق عليه،
كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يمشي بالنميمة لا يدخل الجنة، فقال: "لا يدخل الجنة قتّات".
{متفق عليه، )
وقوله - تعالى -: مناع للخير أي يمنع الخير عن نفسه وعن غيره، لقد منع عن نفسه الإيمان وهو جماع الخير، كما منعه عن غيره، بالصدّ عنه والنهي عنه. والمنَّاع للخير من أهل جهنم، كما يقول الله - تعالى - لملائكته يوم القيامة: ألقيا في جهنم كل كفار عنيد *مناع للخير معتد مريب *الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد {ق: 24-26}. وهو مع منعه الخير عن الناس معتد أثيم فلم يسلم الناس من شرّه وأذاه، حين منعهم خيره، بل جمع بين الشرين: فمنع عنهم الخير وأوصل إليهم الضرر والأذى. وقوله - تعالى -: عتل وهو الفظّ الغليظ، الصحيح، الجموع، المنوع، وهذه صفة أهل النار والعياذ بالله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبّئكم بأهل الجنة: كلُّ ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أنبئكم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جَوّاظٍ مستكبر". {متفق عليه،
وقوله - تعالى -: بعد ذلك زنيم أي بعد هذه الصفات الذميمة فهو زنيم، وقد ذكر المفسرون في معنى هذه الصفة أقوالا كثيرة أرجحها قولان:
الأول: الزنيم هو الرجل المعروف بلُؤْمِه وخُبْثِه، حتى كأنّ به علامةً يعرف بها.

والثاني: أن الزنيم هو الدعيُّ الذي لا يُعْرَفُ نسبُه.
وقوله - تعالى -: أن كان ذا مال وبنين *إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين؟! معناه هل هذا جزاء إنعامي عليه بالمال والبنين؟ و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبدلا من أن يبادر إلى شكري بالإيمان لي وتصديق رسولي، جعل شكره التكذيب بآياتي، وقال أساطير الأولين! ومِنْ ثَمّ يجيء التهديد: سنسمه على الخرطوم على الأنف والعرب تعبّر عن العّزة والذِلّة بوصف الأنف، فتقول: أَنْفٌ أَشَمّ. للعزيز. وأَنْفٌ في الرّغام. للذليل.ومنه قولهم: رَغِمَ أَنْفُ فُلانِ، أي: ذُل، لأن أكرمَ ما في الإنسان وَجْهُه، وأَعْلَى ما في الوجه الأَنْفُ، فإذا رَغِمَ الأنفُ أي لَصِقَ بالتراب فذلك عُنوان الذّلة.أعاذنا الله وسائر المسلمين من ذلّ الدنيا وعذاب الآخرة.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

سورة المنافقون -1 ( 130 )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)
سورة المنافقون سورة مدنية، واسمها يدل على موضعها، فهي تتحدّث عن النّفاق والمنافقين، لتهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، حتى يعرفهم المؤمنون فيحذروهم، إذ أن المنافقين أشدُّ خطرًا وأعظم ضررًا من الكافرين الذين صرحوا بكفرهم وعداوتهم للإسلام وأهله.
ثم خُتمت السورةُ بتحذير المؤمنين من فتنة المال والولد، وأَمْرِهم بالإنفاق مما رزقهم الله في سبيل الله، قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل، فيتحسر الإنسان ويندم على تقصيره ولات حين مناص {ص: 3}.
النفاق: هو أن يظهر الرجل خلاف ما يبطن. وهو قسمان: اعتقادي وعملي.
فالنفاق الاعتقادي: هو أن يظهر الرجل الإسلام ويبطن الكفر.

والنفاق العملي: هو أن يعمل المؤمن عملا من أعمال المنافقين، فيكون فيه خصلة من النفاق، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ مَنْ كنّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
والنفاق الاعتقادي أعظمُ من الكفر الصريح، ولذا يجمع اللهُ الكافرين والمنافقين في جهنم جميعا، ثم يجعلُ المنافقين في الدرك الأسفل منها، كما قال - تعالى -: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا {النساء: 140}، ثم قال: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا {النساء: 145}.
أما النفاق العملي فلا يُخرجُ المؤمن من دائرة الإيمان، وإن كانت فيه خصلة من النفاق، لكن يجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عن شيم المنافقين.
ولا يجوز اتهام مؤمنٍ بالنفاق وإن كانت فيه خصلةٌ منه، فلا يجوز أن يُقال عن فلانٍ أنه منافق، لكن يجوز أن يُقال: فيه خصلة من النفاق؛ لأن النفاق محله القلب، ولا يطّلع على القلوب إلا علامُ الغيوب.
والسورة تتحدث عن نفاقِ الاعتقادِ وأهلهِ، وتبدأ بالإخبار عنهم. أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، فكذبهم الله في هذه الشهادة، وشهد على كذبهم فقال: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون لأنهم لا يعتقدون بما شهدوا به، وإنما هي كلمة يقولونها بألسنتهم، وحتى لا يتوهَّم متوهِّم أنّ الله كذّبهم في دعوى رسالته - صلى الله عليه وسلم - جيء بهذه الجملة المعترضة والله يعلم إنك لرسوله، فأثبت - سبحانه - الرسالة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذّبهم في دعواهم أنهم يشهدون له بها.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 131 ) المنافقون -2
لحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى (اتخذوا أيمانهم جنة أي وقاية، يتّقون الناسَ بالأيمان الكاذبة، فإذا ما قالوا قولا، أو فعلوا فِعلا يُؤْخَذُ عليهم تنصّلوا منه، وتبرَّءوا، بالأيمان الكاذبة، والله ما قلنا، والله ما فعلنا. وربما يعملون العمل السيء ويحلفون أنهم مسلمون، فيغترّ بهم من لا يعرفهم، فيصدّقهم وربما اقتدى بهم، وفي ذلك من الضرر ما فيه، ولذا قال - تعالى -: "اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله صدّوا أنفسهم، وصدّوا غيرهم، إنهم ساء ما كانوا يعملون" وهل هناك أسوأ من الصدّ عن سبيل الله؟ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام؟ {الصف: 7}، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا أي ذلك الحلف الكاذب والصدّ عن سبيل الله، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم ثم كفروا بقلوبهم فطبع على قلوبهم والطّبْعُ هو الختم، وهو أشبه ما يكون بالشمع الأحمر إذا ضُرب على محلٍّ ما، فلا يخرج منه شيء، ولا يدخله شيء، وكذلك الطبع على القلوب والعياذ بالله إذا طُبِعَ على قلبٍ لا يخرج منه منكر، ولا يدخله معروف، فهم لا يفقهون فلا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرا.
قال العلماء: لما تحدّث الله - تعالى - عن المنافقين في سورة البقرة ضرب لهم مثليْن: ناريًا، ومائيًّا، فالنّاري هو: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون" {البقرة: 17، 18}.
والمائي: "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير" {البقرة: 19، 20}.

فالنّاري مثل الذين آمنوا ثم كفروا، والمائي للذين هم في ريبهم يترددون ويميلون إلى الإسلام تارة، ويميلون عنه تارة، فهم كالذي يمشي في الظلمات يستضيء بنور البَرقِ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فأما الذين آمنوا ثم كفروا ف مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهم لما آمنوا خرجوا من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فلما كفروا رُدّوا في الظلمات، فما هم بخارجين منها، صم بكم عمي فهم لا يرجعون، وذلك من الله عقوبة لهم على تركهم الإيمان بعد أن ذاقوا حلاوته، ورأوا نوره، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، كما قال - تعالى -: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" {الصف: 5}.
ثم وصف الله المنافقين بجمال الصورة، وحلاوة اللسان، فقال: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم فهذا حال ما ظهر منهم وأفئدتهم هواء {إبراهيم: 43}، يعني لا حياة فيها كأنهم خشب مسندة أي يشبهون الخشب المسنّدة إلي الحائط، في كونهم صورًا خاليةً عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواحٌ، وأجسامٌ بلا أحلامٌ، فلا يعجبك جمالُ صورتهم، ولا عذوبةُ منطقهم.

ثم وصفهم الله بالضعف والخور، والجبن والهلع، فقال: "يحسبون كل صيحة عليهم" وهذا حال كل من يخالف فِعلُه قولَه، خائفون دائمًا، قلقون أبدا، يحذرون أن يُفضحوا، وتكشف أسرارهم، كما قال - تعالى -: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون" {التوبة: 64}، وقال - تعالى -: "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم" {محمد: 29، 30}، ثم حذّر اللهُ نبيه منهم فقال: "هم العدو فاحذرهم" هم العدوّ الكامل العداوة، فاحذرهم ولا تأمنْهم وإن قالوا نشهدُ إنّك لرسول الله، وإنما حذر الله - تعالى - منهم لأن الخطر كامنٌ فيهم، وقد أظهروا الإسلام، وهذا يجعل المسلمين قد يأتمنونهم، فحذّر الله منهم، وبيّن أنهم هم العدو، وإن قالوا نحن مسلمون.
ثم دعا عليهم، ودعاءُ الله قضاءٌ مبرم، وحكمٌ نافذ، قاتلهم الله أي أخزاهم ولعنهم وأبعدهم عن رحمته. أنى يؤفكون كيف يُصرفون عن الهدى إلى الضلال؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين؟ والحمد لله رب العالمين.

( 132 ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ومن يطالع سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - وكيف بدأ دعوة الإسلام يتبين له أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا ذكر الناس ودعاهم إلى عبادة الله - عز وجل - أو أراد أن ينصحهم ويقيم عليهم الحجة كان يتلو عليهم آيات من القرآن الحكيم قال - تعالى -: ((فذكر بالقرآن من يخاف وعيد))، وقال: ((واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك))، وقال: ((وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير)) [الشورى:7].
حتى أنه في عبادته - عليه الصلاة والسلام - كان يتأول القرآن كما ذكرت عائشة - رضي الله عنها
غير أن الذي لاحظته وشكا منه غير واحد من الأصحاب والطلاب جفوة كثير من الناس للقرآن، فإذا ما أراد أن يناقش أحداً قلما استدل بالآيات بينما هو يكثر من ذكر أقوال الرجال وربما من حديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولا ضير في الاستدلال بالسنة لكن الأولى تأخير السنة عن الكتاب.
وصنف آخر يقضون الساعات الطوال بعرض المسرحيات والأناشيد الإسلامية في الأندية والمناسبات بحجة الدعوة إلى الله!!، ولكنهم لا يعطون القرآن الكريم عشر معشار ما أنفقوه من الوقت فليس للقرآن إلا دقائق معدودات في الافتتاحيات.
وهذا خلاف هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأزكى التبريكات.
مجرد تلاوة القرآن وترتيله تؤثر في نفس الإنسان يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون، لكن نوعية التأثير تختلف بين هؤلاء و أولئك.

فالكافر إذا استمع إلى القرآن ينفر منه ويشمئز وقد ذكر ذلك - سبحانه - وهو عليم بذات الصدور - فقال: ((ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً)) [الإسراء:41]. وقال: ((وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا(45)وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً)) [الإسراء: 45 - 46]، وقال: ((وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)) [الزمر:45].
إن الكافر ليحس من أعماقه بتأثير القرآن فيما يسمعه من هذا النظم العجيب، لقد بلغ من شدة تأثيره على المشركين أنهم كانوا يخرجون في جنح الليل يستمعون إلى تلاوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام وهم يقرأون، حتى إنهم تواصوا فيما بينهم ألا يستمعوا له و أن يرفعوا أصواتهم بالضجيج حين تلاوته فقال - تعالى - واصفاً هذه الحال منهم: ((وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)).
والكفرة من الجن أيضاً ينفرون من القرآن ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر و إن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان".
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 133 ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن تأثير القرآن على نفوس المؤمنين وقلوبهم فذلك بزيادة الإيمان والخشوع والخشية والإنابة إلى الله - عز وجل -.قال - تعالى -: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون)) [الأنفال: 2]، وقال: ((وبشر المخبتين، الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)) [الحج: 35].
وقال: ((وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)) [المائدة:83]، وقال: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر: 23]، وقال: ((وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)) [التوبة: 124 - 125].
هذا الوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم أي صنيعه بالقلوب وتأثيره على النفوس ذهب عنه كثير من الناس ولا يعرفه إلا القليل، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول - صلى الله عليه وسلم - من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول و أن يركنوا إلى مسالمته والدخول في دينه وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا .
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 134 ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قصة إسلام عمر بن الخطاب:
خرج عمر - رضي الله عنه - يريد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام، فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ فأقتله. فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك يا عمر. أفلا ترجع إلى أختك فاطمة بنت الخطاب وزوجها، فقد والله أسلما واتبعا محمداً.
فرجع إلى أخته وهي تقرأ سورة (طه) فلما أخذ الصحيفة منها وقرأ صدراً من السورة قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يارسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
وهناك رواية أخرى في سبب إسلام عمر بن الخطاب خلاصتها: أن عمر أراد أن يطوف بالكعبة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فقال عمر حين رآه، لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثياب الكعبة ما بيني وبينه إلا الثياب، فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة (الحآقة).
موقف النجاشي و أساقفته حين سمعوا القرآن:
طلب النجاشي من جعفر ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يسمعه شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون. وكانت قريش قد أرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما ليقنعا النجاشي بطرد مهاجرة الحبشة.
قراءة الأصمعي على أعرابي سورة الذاريات:

وعن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل علىّ فتلوت: ((والذاريات)) فلما بلغت قوله - تعالى -: ((وفي السماء رزقكم)) قال حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلّم عليّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: ((فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)) فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين قائلها ثلاثاً، وخرجت معها نفسه.
قصة توبة الفضيل بن عياض:
عن الفضل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو: ((ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)) فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن فرجع، فآواه الليل إلى خربةٍ فإذا بها سابلة. فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا.
قال: ففكرت، وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام
تأثير القرآن على الجن:
لقد تجاوز القرآن البشر في تأثيره إلى صنفٍ آخر من المخلوقات فلم تتمالك الجن عندما سمعته أن قالت: ((إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا)) [الجن: 1 - 2].

وقال - تعالى -: ((وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق)) [الأحقاف: 29 - 30].
وقد ذكرنا آنفاً أن الجن ينفر من قراءة القرآن، والبيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 135 ) فلينظر الإنسان مما خلق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من الأرض أي مما تحويه وذلك قوله : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } طه/55 ، فخلقه من ترابها و هذا قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } آل عمران/59 .
وفي ذلك آيات في القرآن كثيرة .
ثم جبلت تربتها بالماء فكانت طيناً وفي ذلك يقول رب العالمين : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون } الأنعام/2 .
وفي ذلك أيضاً آيات كثيرة أيضاً .
وكان الطين لازباً - أي : لاصقاً ، وقيل : لزجاً - وفي هذا يقول تعالى : { إنا خلقناهم من طين لازب } الصافات/11 .
قال ابن منظور : ولَزِبَ الطينُ يَلْزُبُ لُزُوباً ، و لزُبَ : لَصِقَ وصَلُب َ، وفي حديث عليّ عليه السلام : دخَل بالبَلَّةِ حتى لَزَبَتْ أَي لَصقتْ ولزمت ْ. وطينٌ لازبٌ أَي لازقٌ . قال الله تعالى : من طِينٍ لازبٍ . " لسان العرب " 1/738 .
ثم صار هذا الطين اللازب منتناً فقال تعالى في ذلك : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون } الحجر/26 .
قال الرازي :
الحَمَأُ : بفتحتين والحَمَأةُ بسكون الميم الطين الأسود . " مختار الصحاح " ص/64 .
وقال في " لسان العرب " 1/61 :

حمأ : الحَمْأَةُ ، والحَمَأُ : الطين الأَسود المُنتن ؛ وفي التنزيل : { من حَمَإٍ مسنون } .
وقال في " لسان العرب " ( 13 / 227 ) :
المَسْنون : المُنْتِن ، وقوله تعالى { مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ } : قال أَبو عمرو : أَي متغير منتن؛ وقال أَبو الهيثم : سُنَّ الماءُ فهو مَسْنُون أَي : تغيَّر .
وحيث أن هذا الطين كان مخلوطاً بالرمل : فهذا هو الصلصال .
قال الرازي :
الصَّلْصالُ : الطين الحر خُلط بالرمل فصار يَتَصَلْصَلُ إذا جف ، فإذا طُبخ بالنار فهو الفخار. " مختار الصحاح " 1/154
وقال في " لسان العرب " ( 11 / 382 ) :
والصَّلْصالُ مِن الطِّين : ما لم يُجْعَل خَزَفاً ، سُمِّي به لَتَصَلْصُله ؛ وكلُّ ما جَفَّ من طين أَو فَخَّار فقد صَلَّ صَلِيلاً ، وطِينٌ صِلاَّل ومِصْلالٌ أَي يُصَوِّت كما يصوِّت الخَزَفُ الجديد .
ثم شبه الصلصال بالفخار وذلك قوله تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } الرحمن/14 .
وهذا كله يصدقه حديث أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب " . رواه الترمذي ( 2955 ) وأبو داود ( 4693 ) . والحديث : قال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وصححه ابن حبان (14/29) والحاكم (2/288) والألباني في صحيح أبي داود 3926.
هذا خلق آدم عليه السلام : من الأرض - من ترابها - ، ثم جُبل بالماء فكان طيناً ثم صار طيناً أسود منتناً وكون ترابه من الأرض التي بعضها رمل لما جبل كان صلصالاً كالفخار .
ولذلك لما وصف الله خلق آدم في القرآن في كل مرة وصفه بأحد أطواره التي مرَّت بها طريقة خلقه وتكوينة طينته فلا تعارض في آيات القرآن .

ثم أصبح أبناء آدم بعد ذلك يتكاثرون وصار خلقهم من الماء وهو المني الذي يخرج من الرجال والنساء وهو معروف .
وهذا يبينه القرآن في قوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهراً } النور/54 ، وقوله تعالى : { ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } السجدة/8 .
قال ابن القيم رحمه الله :
لما اقتضى كمال الرب تعالى جل جلاله وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة وإنشاءهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن أخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدَّره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصَّلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها …
- ثم ذكر تناسل الخلق بالجماع وإنزال المني - . " التبيان في أقسام القرآن " ( ص 204 ) .
والله أعلم. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 136) ولا تلبسوا الحق بالباطل
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة: 42)الآية وردت في سياق خطاب بني إسرائيل، وهي عطف على قوله - تعالى -: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }(البقرة :40) وجاءت الآية انتقالاً من غرض التحذير من الضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة: 41) إلى غرض التحذير من الإضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق).
واللَّبس في اللغة، بفتح اللام: الخلط؛ وهو من الفعل (لَبَسَ) بفتح الباء؛ يقال: لَبَست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، ومنه قوله - تعالى -: {وللبسنا عليهم ما يلبسون}(الأنعام: 9) ويقال: في الأمر لُبسة، بضم اللام، أي: اشتباه.
واللِّبس، بكسر اللام، من الفعل (لَبِسَ) بكسر الباء: هو لبس الثوب ونحوه.
والحق: الأمر الثابت؛ من حَقَّ، إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل: ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع؛ يقال: بطل بُطلا وبطلانًا، إذا ذهب ضياعًا وخسرًا، وذهب ماله بُطلاً، أي: هدرًا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب؛ وعن أبي العالية قال: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى الناس كافة، بما فيهم أنتم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، والحق بالباطل، وتكتموا ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به؛ فالمراد إذًا: النهي عن كتم حجج الله، التي أوجب عليهم تبليغها، وأَخَذَ عليهم بيانها.

وعلى هذا، فلَبْسُ الحق بالباطل ترويج الباطل وإظهاره في صورة الحق، وهذا اللَّبْس هو المبتدأ في التضليل، وإليه الانتهاء في الإضلال؛ فإن أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، وفي بعض تاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك.
وقوله - تعالى -: {وتكتموا الحق} عطف على قوله - سبحانه -: {ولا تلبسوا} والمعنى: النهي عن الخلط بين الحق والباطل مقرونًا بكتمان الحق؛ ولك أيضًا أن تجعله منصوبًا بأن المضمرة بعد الواو، والتقدير (وأن تكتموا الحق) والمعنى عليه: لا تخلطوا الحق بالباطل، حال كونكم كاتمين للحق؛ وعلى كلا التوجيهين فالمقصود من الخطاب القرآني النهي عن الخلط بين الحق والباطل، إذ لكل واحد منهما مجاله ووجهته، فلا مجال للقصد إليهما، ولا مجال للخلط بينهما، ولم يبق إلا الفصام بينهما؛ والنهي أيضًا عن كتمان الحق، لما فيه من التضليل والتحريف وطمس الحقيقة التي جاء الإسلام بها للناس كافة.
وتفاديًا لما وقع فيه اليهود من الخلط والكتمان،
وقوله - تعالى -: {وأنتم تعلمون} جملة حالية، فيه دليل على أن كفرهم كان كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة؛ ثم إن التقييد بالعلم في الآية، لا يفيد جواز اللَّبْس والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل مطالب بالتعلم، ومنهي عن البقاء على جهله، إذ الواجب على الإنسان أن لا يُقْدِم على شيء حتى يعلم بحكمه، خاصة إذا كان ذاك الشيء من أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي لها إنما أذن الله به لمن كان أهلاً ومؤهلاً لذلك، أما الجاهل فليس له من الأمر شيء، وليس له من سبيل إلى ذلك.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، والصواب في أمرنا، والإخلاص في قصدنا، وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين..

( 137 ) ( أتأمرون الناس بالبر )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال - سبحانه -: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44)
وردت هذه الآية في سياق تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وبيان ما كان من أمرهم؛ والغرض من الآية - والله أعلم - بيان حال اليهود، ومن كان على شاكلتهم، وسار على سَنَنِهم، على كمال خسارهم، ومبلغ سوء حالهم، الذي وصلوا إليه؛ إذ صاروا يقومون بالوعظ والتعليم، كما يقوم الصانع بصناعته، والتاجر بتجارته، والعامل بعمله، لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها، ليستحقوا بذلك ما يُعَوَّضون عليه من مراتب ورواتب؛ فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
والمراد بـ {الناس} في الآية، العامة من أمة اليهود؛ والمعنى: كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم، أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق، فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ، ولا يطلبون نجاة أنفسهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية: أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
و{البر} بكسر الباء: الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب.

ثم إن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر؛ ولهذا ذم الله - تعالى -في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذا؛ إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام - لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى
بالقول منك وينفع التعليم

و (النسيان) في قوله - جل وعلا -: {وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركم؛ والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله - تعالى -: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) وقوله أيضًا: {فلما نسوا ما ذكروا به} (الأنعام: 44) وما أشبه ذلك من الآيات؛ ويكون خلاف الذكر والحفظ.
وقوله - سبحانه -: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقُّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر في صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.

والمقصود الأهم من هذا الخطاب القرآني تنبيه المؤمنين عامة، والدعاة منهم خاصة، على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم في واد وفعلهم في واد آخر؛ فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال؛ وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة؛ وفي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان خلقه القرآن) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفْقِ ما جاء به القرآن وأمر به؛ إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل.
وأخيرًا: نختم قولنا حول هذه الآية، بقول إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله - تعالى -: {أتأمرون الناس بالبر} وقوله: {لِمَ تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2) وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) نسأل الله أن يجعلنا من الذين يفعلون ما يؤمرون {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

( 138 ) فإني قريب أجيب الداع إذا دعان
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
دعوة القرآن إلى الدعاء والحث عليه وردت في مواضع عديدة من كتاب الله، نختار منها قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) وقوله - سبحانه -: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} (الأعراف: 55) وقوله - جلا وعلا -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الدعاء.

والدعاء من جهة اللغة يطلق على سؤال العبد من الله حاجته، ويطلق من جهة الشرع على معان عدة، منها العبادة، وعلى هذا فُسر قوله - تعالى -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} أي: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني؛ وعن ثابت، قال: قلت لأنس - رضي الله عنه -: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا، بل هو العبادة كلها.
وإذا كان الدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث، فإن العبادة أيضًا هي الدعاء، إذ لا تخلو عبادة من الدعاء، ولكن ما نريد إدارة الحديث حوله هنا، هو أهمية الدعاء بمعناه الأصلي واللغوي، ونقصد بذلك توجه العباد إلى الله - تعالى -طلبًا لقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهو أمر يكاد يغفل عنه كثير من المسلمين، مع ندب الشرع إليه، وشدة احتياجهم إليه.
فمن فضل الله- تبارك وتعالى - وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة؛ ففي الحديث: (يقول الله - تعالى -: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني} [رواه مسلم]. وفي حديث آخر: {إن الله - تعالى -ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين} [رواه أحمد].
ويلاحظ أن طلب الدعاء في الخطاب القرآني جاء مقرونًا ومرتبًا عليه الإجابة؛ فالعلاقة بينهما علاقة السبب بالمسبَّب، والشرط بالمشروط، والعلة بالمعلول، فليس على العبد إلا الالتجاء إلى الله - بعد الأخذ بالأسباب - وطلب العون منه في كل عسر ويسر، وفي المنشط والمكره، ووقت الفرج ووقت الكرب؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يعجل له دعوته، وإما إن يدخر له، وإما إن يكف عنه من السوء بمثلها. قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر) [رواه أحمد].

وعن أبى هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) [رواه البخاري ومسلم].
قال السدي في تفسير قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع} ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروها.
والذي نخرج به مما تقدم، أن أمر الدعاء في حياة المسلم لا ينبغي أن يُقَلِّل من شأنه، ولا أن يحرم المسلم نفسه من هذا الخير الذي أكرمه الله به، والمسلم حريص على الخير، أولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واحرص على ما ينفعك) وتأمل في قوله - عليه الصلاة والسلام -: (احرص) ليتبين لك قيمة هذا الهدي النبوي. ولا شك فإن النفع كل النفع في الدعاء، وخاصة إذا استوفى أسبابه؛ ولعل فيما خُتمت فيه آية البقرة: {لعلهم يرشدون} ما يؤكد هذا المعنى؛ كما أنَّ فيما خُتمت به آية غافر: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ما يشد من أزر هذا المعنى، والله أعلم.
اللهم وفقنا لكل خير، وافتح لنا أبواب الدعاء إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( 139 ) والله فضل بعضكم على بعض في الرزق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أخبر - سبحانه - في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات، عن سُنَّة أقام الله عليها الحياة، وفطرةٍ فطر الناس عليها؛ سُنَّة ماضية بمضاء الحياة، لا تتبدل ولا تتغير؛ إنها سُنَّة التفاضل والتفاوت في الرزق، وأسباب الحياة الأخرى المادية والمعنوية.

وإذا كانت آيات أُخر قد أخبرت وأثبتت أن الرزق بيد الله - سبحانه - ومن الله، فإن هذه الآية قد جاءت لتقرر أمرًا آخر، إنه أمر التفاوت والتفاضل بين العباد، لأمر يريده الله، قد يكو ن ابتلاء واختبارًا وقد يكون غير ذلك؛ فقد تجد أعقل الناس وأجودهم رأيًا وحكمة مقتَّرًا عليه في الرزق، وبالمقابل تجد أجهل الناس وأقلهم تدبيرًا موسعًا عليه في الرزق؛ وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتَّر عليه لا يدري أسباب التقتير في رزقه، والموسَّع عليه لا يدري أسباب التيسير، ذلك لأن الأسباب كثيرة ومترابطة ومتوغِّلة في الخفاء، حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي كذلك، ولكنها غير محاط بها.
كتب عمر - رضي الله عنه - رسالة إلى أبي موسى الأشعري، يقول له فيها: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم.
قال الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " فجعلكم متفاوتين فيه - أي الرزق - فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال".

وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله - سبحانه - لا غيره - بيده رزق عباده، وإليه يرجع الأمر في تفضيل بعض العباد على بعض، ولا يسع العبد إلا الإقرار بذلك، والتسليم لما قدره الله لعباده، من غير أن يعني ذلك عدم السعي وطلب الرزق والأخذ بالأسباب، فهذا غير مراد من الآية ولا يُفهم منها، ناهيك عن أن هذا الفهم يصادم نصوصًا أُخر تدعوا العباد إلى طلب أسباب الرزق، وتحثهم على السعي في تحصيله، قال - تعالى -: {فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10) وفي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) متفق عليه، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
على أنه من المفيد هنا التنبيه إلى أن التفاضل الذي أقامه - سبحانه - بين عباده ليس محصورًا ومقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع فحسب، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل فيه التفاضل في العلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الرشيد والسديد من هذه السُّنَّة الكونية القناعة بما قسم الله ورزق، مع الأخذ بالأسباب لتحصيل كل ما هو مطلوب ومباح شرعًا، فالأمر منظور إليه من طرفين، طرف الرضى والقبول والاستسلام لأمر الله وقضائه، وطرف العمل والسعي المطلوب شرعًا؛ أما الاستسلام السلبي الذي يشل حركة الإنسان، ويدفع به إلى القعود والتراكن والخنوع، فليس هو الموقف الصحيح والرشيد، بل هو موقف قاصر وناظر إلى طرف واحد من أطراف المعادلة، غافل عن نظر آخر لا بد من اعتباره والسعي على وَفْقِه، فشتان بين الموقفين.

ثم إن هذه الآية على صلة وارتباط بآية أخرى في سورة النساء، وهي قوله - تعالى -: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) وسبب نزول هذه الآية - فيما رويَ - أن أمَّ سلمة - رضي الله عنها -، قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} رواه الترمذي.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: نهى الله - سبحانه - أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأَمَر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله.
وقال الطبري في معنى الآية: ولا تتمنوا - أيها الرجال والنساء - الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله.
واعلم - أيها القارئ الكريم - أنه بسبب جهل بعض الناس بهذه السُّنَّة الكونية، دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَع الناس بهذه السُّنَّة واستحضروها في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر الحياة أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرض البعض عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة. نسأل الله الكريم أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
َ

( 140) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يعني تعالى ذكره بقوله: إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلاَّ الله ورسوله والمؤمنون، الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا. وقيل: إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من ولاية يهود بني قَينُقاع وحلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ذكر من قال ذلك:
قال صاحب الضلال رحمه الله "هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك ! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا , والثقة به مطلقة , وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا , ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان , أو مجرد راية وشعار , أو مجرد كلمة تقال باللسان , أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة , أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان ! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا:
(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة , وهم راكعون). .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا , تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر , لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله !

ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية , إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة , أو باسم الشعب , أو باسم جهة أرضية ما . . فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . . فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . . إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء فهذه الصفات هي صفات الواجب توافرها في من يتخذهم أولياء احباب أنصار .
أسأل الله أن يرزقنا خير الاصحاب وأن يجمعنا في دار الخلد مع سيد الاولين والاخرين وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم.
وهذه نهاية المطاف مع ما استطعت الوقوف معه من الآيات القرآنية والمواعظ الإيمانية , وأسأل الله وأتوجه اليه أن يجعلنا من أهل القرآن وأن ينفع بهذا العمل ويجعله ذخرا لي يوم ألقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.