كتاب : التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

الباب الأول ـ في ذكر الإنذار بالنار و التحذير منها
قال الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون }
و قال تعالى : { فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين }
و قال تعالى : { و اتقوا النار التي أعدت للكافرين }
و قال تعالى : { فأنذرتكم نارا تلظى }
و قال تعالى : { لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون }
و قال تعالى : { وما هي إلا ذكرى للبشر * كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر }
قال الحسن في قوله تعالى { نذيرا للبشر } قال : و الله ما أنذر العباد بشيء قط أدهى منها خرجه ابن أبي حاتم
و قال قتادة في قوله تعالى : { إنها لإحدى الكبر } يعني النار
[ و روى سماك بن حرب قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و آله و سلم يقول : أنذرتكم النار أنذرتكم النار حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا حتى وقعت خميصة كانت على عاتقة عند رجليه ] خرجه الإمام أحمد و في رواية له أيضا [ عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : أنذرتكم النار أنذرتكم النار حتى لو كان رجل في أقصى السوق لسمعه و سمع أهل السوق صوته و هو على المنبر ] و في رواية له [ عن سماك قال : سمعت النعمان يخطب و عليه خميصة فقال : لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول : أنذرتكم النار أنذرتكم النار فلو أن رجلا بموضع كذا و كذا سمع صوته ]
[ و عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : اتقوا النار قال : و أشاح ثم قال : اتقوا النار ثم أعرض و أشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها ثم قال : اتقوا النار و لو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ] خرجاه في الصحيحين
و خرج البيهقي بإسناده فيه جهالة [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم : يا معشر المسلمين ارغبوا فيما رغبكم الله فيه و احذروا و خافوا ما خوفكم الله به من عذابه و عقابه و من جهنم فإنها لو كانت قطرة من الجنة معكم في دنياكم التي أنتم فيها حلتها لكم و لو كانت قطرة من النار معكم في دنياكم التي أنتم فيها خبثتها عليكم ]
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : إنما مثلي و مثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب و الفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار و أنتم تقتحمون فيها ] و في رواية لمسلم [ مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش و هذه الدواب التي في النار يقعن فيها و جعل يحجزهن و يغلبنه فيقتحمن فيها قال : فذلكم مثلي و مثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوني و تقتحمون فيها ]
و في رواية للإمام أحمد [ مثلي و مثلكم ـ أيتها الأمة ـ كمثل رجل أوقد نارا بليل فأقبلت إليها هذه الفراش و الذباب التي تغشى النار فجعل يذبها و يغلبنه إلا تقحما في النار و أنا آخذ بحجزكم أدعوكم إلى الجنة و تغلبوني إلا تقحما في النار ]
و خرج الإمام أحمد أيضا [ من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عبيه و آله و سلم قال : إن الله لم يحرم حرمة إلا و قد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا و إني آخذ بحجزكم أن تهاتفوا في النار كتهافت الفراش و الذباب ]
و خرج البزار و الطبراني [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : أنا آخذ بحجزكم فاتقوا النار اتقوا النار اتقوا الحدود فإذا مت تركتم و أنا فرطكم على الحوض فمن ورد فقد أفلح ؟ فيؤتي بأقوام و يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : رب أمتي ! فيقول : إنهم لم يزالوا بعدك يريدون على أعقابهم ] و في رواية للبزار قال : [ و أنا آخذ بحجزكم أقول : إياكم و جهنم إياكم و الحدود إياكم و جهنم إياكم و الحدود إياكم و جهنم إياكم و الحدود ] و ذكر بقية الحديث
و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية :
{ و أنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قريشا فاجتمعوا فعم و خص فقال :
يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا ]
و خرج الطبراني و غيره [ من طريق يعلى بن الأشدق عن كليب بن حزن قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول : اطلبوا الجنة جهدكم و اهربوا من النار جهدكم فإن الجنة لا ينام طالبها و إن النار لا ينام هاربها و إن الآخرة اليوم محفوفة بالمكاره و إن الدنيا محفوفة باللذات و الشهوات فلا تلهينكم عن الآخرة ] و يروي هذا الحديث أيضا عن يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أحاديث يعلى بن الأشدق باطلة منكرة
و خرج الترمذي [ من حديث يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : ما رأيت مثل النار نام هاربها و لا مثل الجنة نام طالبها ] و يحيى هذا ضعفوه و خرجه ابن مردويه من وجه آخر أجوه من هذا إلى أبي هريرة و خرج الطبراني نحوه بإسناده فيه نظر عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خرجه ابن عدي بإسناده عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم
و قال يوسف بن عطية عن المعلمي بن زياد : كان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي و ينادي بأعلى صوته : عجبت من الجنة كيف نام طالبها و عجبت من النار كيف نام هاربها ثم يقول :
{ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا و هم نائمون }
و قال أبو الجوزاء : لو وليت من أمر الناس شيئا اتخذت منارا على الطريق و أقمت عليها رجالا ينادون في الناس : النار النار خرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد و خرج ابنه عبد الله في هذا الكتاب أيضا بإسناده عن مالك بن دينار قال : لو وجدت أعوانا لناديت في منار البصرة بالليل : النار النار ثم قال : لو وجدت أعوانا لفرقتهم في منار الدنيا : يا أيها الناس النار النار
الباب الثاني ـ في ذكر الخوف من النار و أحوال الخائفين
قال الله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار }
قال تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار }
و قال تعالى : { و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } { إنها ساءت مستقرا و مقاما }
و قال تعالى : { و يرجون رحمته و يخافون عذابه }
و قال تعالى : { و الذين هم من عذاب ربهم مشفقون }
و قال : { ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد }
و قال تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم }
قال إبراهيم التيمي : ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا :
{ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن }
و ينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا :
{ إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين }
و قد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم كثيرا ما يستعيذ من النار و يأمر بذلك في الصلاة و غيرها و الأحاديث في ذلك كثيرة
و قال أنس : [ كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم :
{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار } ]
خرجه البخاري
و في كتاب النسائي [ عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول : اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم ]
و في سنن أبي داود و ابن ماجه [ عن جابر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لرجل : و كيف تقول في الصلاة ؟ قال أتشهد ثم أقول : اللهم إني أسألك الجنة و أعوذ بك من النار أما إني لا أحسن دندنتك و لا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم حولها ند ندن ] و خرجه البراز و لفظه [ و هل أدندن أنا و معاذ إلا لندخل الجنة و نعاذ من النار ]
و في مسند الإمام أحمد بإسناد منقطع [ عن سليم الأنصاري : أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال له : يا سليم ماذا معك من القرآن ؟ قال : إني أسأل الله الجنة و أعوذ به من النار و الله ما أحسن دندنتك و لا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : و هل تصير دندنتي و دندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة و نعوذ به من النار ؟ ! ]
و روينا [ من حديث سويد بن سعيد حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : إنما يدخل الجنة من يرجوها و يجنب النار من يخافها و إنما يرحم الله من يرحم ] و خرجه أبو نعيم و عنده : [ و إنما يرحم الله من عباده الرحماء ] و قال : غريب من حديث زيد مرفوعا متصلا تفرد به حفص و رواه ابن عجلان عن زيد مرسلا انتهى و المرسل أشبه
و قال عمر : لو نادى منادي من السماء : أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلا واحدا لخفت أن أكون أنا هو خرجه أبو نعيم
و خرج الأمام أحمد من طريق عبد الله بن الرومي قال : بلغني أن عثمان رضي الله عنه قال : لو أني بين الجنة و النار ـ و لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ـ لا خترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتها أصير
فصل ـ الخوف من عذاب جهنم لا ينجو منه أحد
و الخوف من عذاب جهنم لا ينجو منه أحد من الخلق و قد توعد الله سبحانه خاصة خلقه على المعصية قال الله تعالى :
{ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة و لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا }
و قال في خلق الملائكة المكرمين : { و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين }
و ثبت من حديث عمارة بن القعقاع [ عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الشفاعة قال : فيأتون آدم ] و ذكر الحديث [ و قال : فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن بغضب بعده مثله و إنه أمرني بأمر فعصيته فأخاف أن يطرحني في النار انطلقوا إلى غيري نفسي نفسي ]
و ذكر في نوح و إبراهيم و موسى و عيسى مثل ذلك كلهم يقول : إني أخاف أن يطرحني في النار خرجه ابن أبي الدنيا عن أبي خيثمة عن جرير عن عمارة به و خرجه مسلم في صحيحه عن أبي خيثمة إلا أنه لم يذكر لفظه بتمامة و خرجه البخاري من وجه آخر بغير هذا اللفظ [ و لم يزل الأنبياء و الصديقون و الشهداء و الصالحون يخافون النار و يخوفون منها ]
فأما ما يذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النار فالصحيح منه له وجه سنذكره إن شاءالله تعالى
قال ابن المبارك : أنبأني عمر بن عبد الرحمن بن مهدي سمعت وهب بن منبه يقول : قال حكيم من الحكماء إني لأستحي من الله عز و جل أن أعبده رجاء ثواب الجنة ـ أي فقط ـ فأكون كالأجير السوء إن أعطي عمل و إن لم يعط لم يعمل و إني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار أي فقط فأكون كعبد السوء إن رهب عمل و إن لم يرهب لم يعمل و إنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره خرجه أبو نعيم بهذا اللفظ و في تفسير لهذا الكلام من بعض رواته و هو أنه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده أو على وجه الخوف وحده و هذا حسن
و كان بعض السلف يقول : من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ و من عبده بالخوف وحده فهو حروري و من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق و من عبده بالخوف و الرجاء و المحبة فهو موحد مؤمن و سبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة : المحبة و الخوف و الرجاء و لا بد له من جميعها و من أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان و كلام هذا الحكيم يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف و الرجاء
و قد قال الفضيل ابن عياض : المحبة أفضل من الخوف ثم استشهد بكلام هذا الحكيم الذي حكاه عنه وهب و كذا قال يحيى بن معاذ قال : حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب و لا حسب من الحب أبدا
فأما الخوف و الرجاء فأكثر السلف على أنهما يستويان لا يرجح أحدهما على الآخر قاله مطرف و الحسن و أحمد و غيرهم و منهم من رجح الخوف على الرجاء و هو محكي عن الفضيل و أبي سليمان الداراني
و من هذا أيضا قول حذيفة المرعشي : إن عبدا يعمل على خوف لعبد سوء و إن عبدا يعمل على رجاء لعبد سوء كلاهما عندي سواء و مراده إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر
و قال وهيب بن الورد : لا تكونوا كالعامل يقال له : تعمل كذا و كذا فيقول : نعم إن أحسنتم لي من الأجر و مراده : ذم من لا يلحظ في العمل إلا الأجر
و هؤلاء العارفون لهم ملحظان :
أحدهما : أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع و يحب و يبتغى قربه و الوسيلة إليه مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده و يعاقبهم كما قال القائل
( هب البعث لم تأتنا رسله ... و جاحمة النار لم تضرم )
( أليس من الواجب المست ... حق حياء العباد من المنعم )
و قد أشار هذا إلى أن نعمه على عباده تستوجب منهم شكره عليها و حياءهم منه [ و هذا هو الذي أشار النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما قام حتى تورمت قدماه فقيل له : أتفعل هذا و قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا ]
و الملحظ الثاني : أن أكمل الخوف و الرجاء ما تعلق بذات الحق سبحانه دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة و النار فأعلى الخوف خوف العبد و السخط و الحجاب عنه سبحانه كما قدم سبحانه ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم النار في قوله :
{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم }
وقال ذو النون : خزف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي كما أن أعلى الرجاء ما تعلق بذاته سبحانه من رضاه و رؤيته و مشاهدته و قربه و لكن قد يغلط بعض الناس في هذا فيظن أن هذا كله ليس بداخل في نعيم الجنة و لا في مسمى الجنة إذا أطلقت و لا في مسمى عذاب النار أو في مسمى النار إذا أطلقت و ليس كذلك
و بقي ههنا أمر آخر و هو أن يقال : ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون و لا يطلبونه و هذا أيضا غلط و النصوص الدالة على خلافه كثيرة جدا ظاهرة و هو أيضا مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم و كراهة ما ينافرهم و إنما صدر مثل هذا الكلام ممن صدر منه في حال سكره و اصطلامه و استغراقه و غيبة عقله فظن أن العبد لا يبقى له إرادة له أصلا فإذا رجع عقله و فهمه علم أن الأمر على خلاف ذلك
و نحن نضرب لذلك مثلا يتضح به هذا الأمر إن شاء الله تعالى و هو أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة و استدعاهم الرب سبحانه إلى زيارته و مشاهدته و محاضرته يوم المزيد فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك و لا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه و يحقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إلى وجهه جل جلاله كما جاء في أحاديث يوم المزيد فلو أنهم ذكروا حينئذ بشيء من نعيم الجنة لأعرضوا عنه و لأخبروا أنهم لا يرونه في تلك الحال و كذلك لو خوفوا عذابا و نحوه لم يلتفوا إليه و ربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال و إنما يحذرون حينئذ من الحجاب عما هم فيه و البعد عنه فإذا رجعوا إلى منازلهم رجعوا إلى ما كانوا عليه من التنعم بأإنواع المخلوق لهم بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانيا
فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان و استولى عليها المثل الأعلى فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنة يوم المزيد فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه من الأنس بالله و التنعم بقربه و ذكره و محبته حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة و يصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه و لا يخافون حينئذ أيضا غير حجبهم عن الله و بعدهم عنه و انقطاع مواد الأنس به فإذا رجعوا إلى عقولهم و سكنت عنهم سلطنة هذا الحال و قهره و جدوا أنفسهم و إرادتهم باقية فيشتاقون حينئذ إلى الجنة و يخافون من النار مع ملاحظتهم لأعلى ما يشتاق إليه من الجنة و يخشى منه من النار
و أيضا فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله و بطشه و غضبه و الأثر يدل على المؤثر فجهنم دليل على عظمة الله و شدة بأسه و بطشه و قوة سطوته و انتقامه في أعدائه فالخوف منها في الحقيقية خوف من الله و إجلال و إعظام و خشية لصفاته المخوفة مع أن الله سبحانه يخوف بها عبده و يحب منهم أن يخافوه بخوفها و أن يخشوه بخشية الوقوع فيها و أن يحذروه بالحذر منها فالخائف من النار خائف من الله متبع لما فيه محبته و رضاه و الله أعلم
فصل ـ في القدر الواجب من الخوف
و القدر الواجب من الخوف ما خمل على أداء الفرائض و اجتناب المحارم فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات و الانكفاف عن دقائق المكروهات و التبسط في فضول المباحات كان ذلك فضلا محمودا فإن تزايد على ذلك بأن أوراث مرضا أو موتا أو هما لازما بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوية المحبوبة لله عز و جل لم يكن محمودا و لهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الذي أنساه القرآن و صار صاحب فراش و هذا لأن خوف العقاب ليس مقصودا لذاته إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها و من هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه و اتقوه و لهذا المعنى عدها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن
و قال سفيان بن عيينة : خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا أخرجه أبو نعيم و المقصود الأصلي هو طاعة الله عز و جل و فعل مراضيه و محبوباته و ترك مناهيه و مكروهاته
و لا ننكر أن خشية الله و هيبته و عظمته في الصدور و إجلاله مقصود أيضا و لكن القدر النافع من ذلك ما كان عونا على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه و ترك ما يكرهه و متى صار الخوف مانعا من ذلك و قاطعا عنه فقد انعكس المقصود منه و لكن إذا حصل ذلك عن غلبة كان صاحبه معذورا و قد كان في السلف من حصل له من خوف النار أحوال شتى لغلبة حال شهادة قلوبهم للنار فمنهم من كان يلازمه القلق و البكاء و ربما اضطرب أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم شيء من ذلك إلا أن إسناده ضعيف فروى حمزة الزيات [ عن حمران بن أعين قال : سمع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قارئا :
{ إن لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما }
فصعق رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و في رواية فبكى حتى غشي عليه صلى الله عليه و آله و سلم ] هذا مرسل و حمران ضعيف و رواه بعضهم عن حمران عن أبي حرب بن الأسود مرسلا أيضا و قيل : إنه روي عن حمران عن ابن عمر و لا يصح
[ و عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : لما أنزل الله عز و جل على نبيه صلى الله عليه و آله و سلم :
{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة }
تلاها رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ذات يوم على أصحابه فخر فتى مغشيا عليه فوضع النبي صلى الله عليه و آله و سلم يده على فؤاده فإذا هو يتحرك فقال : رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : يا فتى قل : لا إله إلا الله فقالها فبشره بالجنة فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا ؟ فقال : أو ما سمعتم قوله تعالى :
{ ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد } ]
و قد روي هذا عن ابن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس و خرجه من هذا الوجه الحاكم و صححه و لعل المرسل أشبه
و قال الجوزجاني في كتاب النواحين حدثنا صاحب لنا [ عن جعفر بن سليمان عن لقمان الحنفي قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم على شاب ينادي في جوف الليل : و اغوثاه من النار فلما أصبح قال : يا شاب لقد أبكيت البارحة أعين ملأ من الملائكة كثير ]
و قال سليمان بن سحيم : أخبرني من رأى ابن عمر يصلي و هو يترجح و يتمايل و يتأوه حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال : لقد أصيب الرجل و ذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى :
{ و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } أو نحو ذلك
خرجه أبو عبيدة
و في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال : قلت ليزيد بن مرثد : مالي أرى عينك لا تجف ؟ قال : و ما مسألتك عنه ؟ قلت : عسى الله أن ينفعني به قال : يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار و الله لو لم يوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريا أن لا تجف لي عين قلت له : فهكذا أنت في صلاتك ؟ قال : و ما مسألتك عنه ؟ قلت : عسى الله أن ينفعني به قال : و الله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني و بين ما أريد و إنه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني و بين أكله حتى تبكي امرأتي و تبكي صبياننا ما يدرون ما أبكانا و ربما أضجر ذلك امرأتي فتقول : يا ويحها و ما خصه من طول الحزن معك في الحياة الدنيا ما يقر لي معك عين
و قال يزيد بن حوشب : ما رأيت أخوف من الحسن و عمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما
و روى ضمرة عن حفص بن عمر قال : بكى الحسن فقيل ما يبكيك ؟ قال : أخاف أن يطرحني غدا في النار و لا يبالي
و عن الفرات بن سليمان قال : كان الحسن يقول : إن المؤمنين قوم ذلت و الله منهم الأسماع و الأبصار و الأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى و هم و الله أصحاب القلوب ألا تراه يقول :
{ و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن }
و الله لقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا و جرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم الله ما أحزنهم ما أحزن الناس و لكن أبكاهم و أحزنهم الخوف من النار و روى ابن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن نحوه
و روى ابن أبي الدنيا من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال سمعت عبد الله بن حنظلة يوما و هو على فراشه و عدته من علته فتلا رجل عنده هذه الآية :
{ لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش } فبكى حتى ظننت أنه نفسه ستخرج و قال : صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه فقال قائل : يا أبا عبد الرحمن اقعد قال : منعني القعود ذكر جهنم و لا أدري لعلي أجدهم
و من حديت عبد الرحمن بن مصعب أن رجلا كان يوما على شط الفرات فسمع تاليا يتلو :
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون }
فتمايل فلما قال التالي : { لا يفتر عنهم و هم فيه مبلسون }
سقط في الماء فمات
و من حديث أبي بكر بن عياش قال صليت خلف فضيل بن عياض صلاة المغرب و إلى جانبي علي ابنه فقرأ الفضيل { ألهاكم التكاثر } فلنا بلغ { لترون الجحيم } سقط مغشيا عليه و بقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية ثم صلى بنا صلاة خائف قال : ثم رابطت عليا فما أفاق إلا في نصف الليل
و روى أبو النعيم بإسناد عن الفضيل قال : أشرفت ليلة على علي و هو في صحن الدار و هو يقول : النار و متى الخلاص من النار ؟ و كان علي يوما عند ابن عيينه فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار و في يد علي قرطاس في شيء مربوط فشهق شهقة و وقع و رمى بالقرطاس أو وقع من يده فالتفت إليه سفيان فقال : لو علمت أنك ههنا ما حدثت به فما أفاق إلا بعد ما شاء الله
و قال علي بن خشرم : سمعت منصور بن عمار يقول : تكلمت يوما في المسجد الحرام فذكرت شيئا من صفة النار فرأيت الفضيل بن غياض صاح حتى غشي عليه و طرح نفسه
و في الحلية لأبي نعيم أن علي بن فضيل صلى خلف إمام قرأ في صلاته سورة الرحمن فلما سلم قيل لعلي : أما سمعت ما قرأ الإمام :
{ حور مقصورات في الخيام }
فقال : شغلني عيها ما قبلها :
{ يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران }
و قال ابن أبي ذئب : حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز ـ و هو أمير المدينة ـ و قرأ عنده رجل :
{ و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا }
بكى عمر حتى غلبه البكاء و علا نيجشه فقام من مجلسه و دخل بيته و تفرق الناس
و قال أبو نوح الأنصاري : وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين و هو ساجد فجعلوا ينادونه : يا ابن رسول الله النار فما رفع رأسه حتى أطفئت فقيل : ما الذي ألهاك عنها ؟ قال : النار الأخرى
قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان يقول : ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نار و ربما رأيتني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها فكيف تهنأ الدنيا من كانت هذه صفته ؟ قال أحمد : و حدثني أبو عبد الرحمن الأسدي قال : قلت لسعيد بن عبد العزيز : ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة ؟ فقال : يا ابن أخي و ما سؤالك عن ذلك ؟ قلت : يا عم لعل الله أن ينفعني به قال : ما قمت في صلاتي إلا مثلت لي جهنم
و قال سرار أبو عبد الله : عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال لي : يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو لي ؟ إني إذا ذكرت أهل النار و ما ينزل بهم من عذاب الله عز و جل و عقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يداها إلى عنقها و تسحب إلى النار أن لا تبكي و تصيح ؟ و كيف لنفس تعذب أن لا تبكي ؟
قال العلاء بن زياد كان إخوان مطرف عنده فخاضوا في ذكر الجنة و النار فقال مطرف : لا أدري ما تقولون ! حال ذكر النار بيني و بين الجنة
و قال عبد الله بن أبي الهذيل : لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة و عوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه و قيل له : لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا فقال : و هل خلقت النار إلا لي و لأصحابي و لإخواننا من الجن و الإنس ؟ أما تقرأ :
{ سنفرغ لكم أيها الثقلان }
أما تقرأ :
{ يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران }
فقرأ حتى بلغ :
{ يطوفون بينها و بين حميم آن }
و جعل يجول في الدار و يصرخ و يبكي حتى غشي عليه
و قرئ على رابعة العدوية آية فيها ذكر النار فصرخت ثم سقطت فمكثت ما شاء الله لم تفق
و دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئا يقول : { و إذ يتحاجون في النار } فسقط مغشيا عليه فغسل عنه بالنورة و هو لا يعقل
و لما أهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتا مطيبا فقام يصلي حتى أصبح و فعلت معاذة كذلك فلما أصبح عاتبه ابن أخيه على فعله فقال له : إنك أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار ثم أدخلتني بيتا أذكرتني به الجنة فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت
قال العباس بن الوليد عن أبيه : كان الأوزاعي إذا ذكر النار لم يقطع ذكرها و لم يقدر أحد أن يسأله عن شيء حتى يسكت فأقول بيني و بين نفسي : ترى بقي أحد في المجلس لم يتقطع قلبه حسرات ؟ !
كانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات و كانت إذا ذكرت النار قالت : أدخلوا النار و أكلوا و شربوا من النار و عاشوا ثم تبكي و كانت كأنها حبة على مقلي و كانت إذا ذكرت النار بكت و أبكت
قال عبد الواحد بن زيد : لم أر مثل قوم رأيتهم هجمنا مرة على نفر من العباد في سواحل البحر فتفرقوا حين رأونا فما كنت تسمع عامة الليل إلا الصراخ و التعوذ من النار فلما أصبحنا تعقبنا آثارهم فلم نر منهم أحدا
فصل ـ [ من السلف من إذا رأى النار اضطرب و تغيرت حاله ]
{ نحن جعلناها تذكرة } قال مجاهد و غيره : يعني أن نار الدنيا تذكر بنار الآخرة
و قال أبو حيان التيمي : سمعت منذ ثلاثين سنة أن عبد الله بن مسعود مر على الذين ينفخون على الكير فسقط خرجه الإمام أحمد
و خرج ابن أبي الدنيا من رواية سعد بن الأخرم قال : كنت أمشي مع ابن مسعود فمر بالحدادين و قد أخرجوا حديدا من النار فقام ينظر إليه و يبكي
و عن عطاء الخراساني كان أويس القرني يقف على موضع الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير و يسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط
و عن ابن أبي الذباب أن طلحة و زيدا مرا بكير حداد فوقفا ينظران إليه يبكيان
قال الأعمش : أخبرني من رأى الربيع بن خيثم مر بالحدادين فنظر إلى الكير و ما فيه فخر
و قال مطر الوراق كان جمعة و هرم بن حيان إذا أصبحا غديا فمرا بأكورة الحدادين فنظرا إلى الحديد كيف ينفخ فيقفان و يبكيان و يستجيران من النار
و قال حماد بن سلمة عن ثابت : كان بشير بن كعب و قراء البصرة يأتون الحدادين فينظرون إلى شهيق النار فيتعوذون بالله من النار
و عن العلاء بن محمد قال دخلت على عطاء السلمي فرأيته مغشيا عليه فقلت لامرأته ما شأنه ؟ قالت : سجرت جارة لنا التنور فلما نظر إليه غشي عليه
و عن معاوية الكندي قال : مر عطاء السلمي على صبي معه شعلة نار فأصابت النار الريح فسمع ذلك منها فغشي عليه
قال الحسن : كان عمر رضي الله عنه ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها ثم يقول : يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر ؟ !
و كان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح بالليل فيضع أصبعه فيه ثم يقول : حس حس ثم يقول : يا حنيف ما حملك على صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟
و قال البختري بن حارثة : دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها و هو يعاتب نفسه و لم يزل يعاتبها حتى مات
و كان كثير من الصالحين يذكر النار و أنواع عذابها برؤية ما يشبهه بها في الدنيا أو يذكره بها كرؤية البحر و أمواجه و الرؤوس المشوية و بكاء الأطفال و في الحر و البرد و عند الطعام و الشراب و غير ذلك و سنذكر ما تيسر من ذلك مفرقا في مواضعه إن شاء الله تعالى
و قد سبق أن منهم من كان يذكر النار بدخول الحمام و روى ليث [ عن طلحة قال : انطلق رجل من ذات يوم فنزع ثيابه و تمزغ في الرمضاء و هو يقول لنفسه : ذوقي نار جهنم ذوقي
{ نار جهنم أشد حرا } جيفة بالليل بطالة بالنهار ؟ !
فبينا هو كذلك إذا أبصر النبي صلى الله عليه و سلم في ظل شجرة فأتاه فقال : غلبتني نفسي فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ألم يكن لك بد من الذي صنعت ؟ لقد فتحت لك أبواب السماء و لقد باهى الله بك الملائكة ] خرجها [ ابن أبي الدنيا ] و هو مرسل و خرج الطبراني نحوه من حديث بريدة موصولا و في إسناده من لا يعرف حاله و الله أعلم
فصل ـ من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم
و من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم
قال أسد بن وداعة : كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى فيقول : اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام فيقوم إلى مصلاه
و قال أبو سليمان الداراني : كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه و يستقبل القبلة حتى الصباح و يقول : طير ذكر جهنم نوم العابدين
و قال مالك بن دينار : قالت ابنة الربيع بن خيثم : يا أبت مالك لا تنام و الناس ينامون ؟ فقال : إن النار لا تدع أباك ينام
و كان صفوان بن محرز إذا جنه الليل يخور كما يخور الثور و يقول : منع خوف النار مني الرقاد
و كان عامر بن عبد الله يقول : ما رأيت مثل الجنة نام طالبها و ما رأيت مثل النار نام هاربها فكان إذا جاء الليل قال : أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يصبح و إذا جاء النهار قال : أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسي و روي عنه أنه كان يتلوى الحب في المقلى ثم يقوم فينادي : اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي و روي عنه أنه قيل له : مالك لا تنام ؟ قال : إن ذكر جهنم لا يدعني أنام
و قال الحر بن حصين الفزاري : رأيت شيخا من بني فزارة أمر له خالد بن عبد الله بمائة ألف فأبى أن يقبلها و قال : أذهب ذكر جهنم حلاوة الدنيا من قلبي قال : و كان يقوم إذا نام الناس فيصيح : النار النار النار
و كان رجل من الموالي يقال له صهيب و كان يسهر الليل و يبكي فعوتب على ذلك و قالت له مولاته : أفسدت على نفسك فقال إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه و إذا ذكر النار طال نومه
و عن أبي مهدي قال : ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي : النار النار شغلني ذكر النار عن النوم و الشهوات ثم يتوضأ و يقول على أثر وضوئه : اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم و ما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار
و في هذا المعنى يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى :
( إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم و هم ركوع )
( أطار الخوف نومهم فقاموا ... و أهل الأمن في الدنيا هجوع )
و قال ابن المبارك أيضا :
( و ما فرشهم إلا أيامن أزرهم ... و ما وسدهم إلا ملاء و أذرع )
( و ما ليلهم فيهن إلا تخوف ... و ما نومهم إلا عشاش مروع )
( و ألوانهم صفر كأن وجوههم ... عليا جساد هي بالورس مشبع )
( نواحل قد أزرى بها الجهد و السرى ...
إلى الله في الظلماء و الناس هجع )
( و يبكون أحيانا كأن عجيجهم ... إذا نوم الناس الحنين المرجع )
( و مجلس ذكر فيهم قد شهدته ... و أعينهم من رهبة الله تدمع )
كان عباد بن زياد التيمي له إخوة متعبدون فجاء الطاعون فاخترمهم فقال يرثاهم :
( فتية يعرف التخشع فيهم ... كلهم أحكم القرآن غلاما )
( قد برى جلده التهجد حتى ... عاد جلدا مصفرا و عظاما )
( تتحافى عن الفراش من الخو ... ف إذا الجاهلون باتوا نياما )
( بأنين و عبرة و نحيب ... و يظلون بالنهار صياما )
( يقرؤؤن القرآن لا ريب فيه ... و يبيتون سجدا و قياما )
فصل ـ من منعه خوف النار من الضحك
و منهم من منعه خوف النار من الضحك
و قال إسماعيل السدي : قال الحجاج لسعيد بن جبير : بلغني أنك لم تضحك قط قال : كيف أضحك وجهنم قد سعرت و الأغلال قد نصبت و الزبانية قد أعدت ؟ !
و قال عثمان بن عبد الحميد : وقع في جيران غزوان حريق فذهب يطفئه فوقع شرارة على أصبع من أصابعه فقال : ألا أراني قد أوجعتني نار الدنيا و الله لا يراني ضاحكا حتى أعرف أينجيني من نار جهنم أم لا ؟
و قد كان جماعة من السلف عاهدوا الله أن لا يضحكوا أبدا حتى يعلموا أين مصيرهم إلى الجنة أم إلى النار منهم جمعة الدوسي و الربيع بن خراش و أخوه ربعي و أسلم العجلي و وهيب بن الورد و غيرهم
و روى يزيد الرقاشي [ عن أنس قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه و سلم و جبريل معه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم هدة فقال : يا جبريل ما هذه الهدة ؟ قال : حجر أرسله الله من شفير جهنم فهو يهوي فيها منذ سبعين عاما فبلغ قعرها الآن قال : فما ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إلا أن يبتسم تبسما ] خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و يزيد الرقاشي شيخ صالح لا يحفظ الحديث
و خرج الطبراني بإسناد ضعيف إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم معناه و في حديثه قال : فما رؤي رسول الله صلى الله عليه و سلم ضاحكا حتى قبض و سيأتي امتناع الملائكة من الضحك منذ خلقت جهنم فيما بعد إن اء الله تعالى
و في حديث أبي ذر الطويل [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قلت : يا رسول الله ما كانت صحف موسى ؟ قال : كانت عبرا كلها عجبت لمن أيقن بالموت و هو يفرح و عجبت لمن أيقن بالنار و هو يضحك ] و ذكر الحديث بطوله خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره
فصل ـ من حدث له من خوف النار مرض
و منهم من حدث له من خوف النار مرض و منهم من مات من ذلك
و كان الحسن يقول في وصف الخائفين : قد براهم الخوف فهم أمثال القداح ينظر إليهم الناظر فيقول : مرضى و ما بهم مرض و يقول : قد خولطوا و قد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم ! !
و سمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رجلا يتهجد في الليل و يقرأ سورة الطور فلما بلغ إلى قوله تعالى :
{ إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع }
قال عمر : قسم و رب الكعبة حق ثم رجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه
و كان جماعة من عباد البصرى مرضوا من الخوف و لزموا منازلهم كالعلاء بن زياد و عطاء السلمي و كان عطاء قد صار صاحب فراش عدة سنين و كانوا يرون أن بدأ مرض عمر بن عبد العزيز الذي مات فبه كان من الخوف
و روى الأمام أحمد [ عن حسين بن محمد عن فضيل عن محمد بن مطرف قال : حدثني الثقة أن شابا من الأنصار دخل خوف النار قلبه فجلس في البيت فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم فقام إليه فاعتنقه فشهق شهقة خرجت نفسه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : جهزوا صاحبكم فلذ خوف النار كبده ] و رواه ابن المبارك عن محمد بن مطرف به بنحوه و روي من وجه آخر متصلا خرجه ابن أبي الدنيا [ حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا حازم بن جبل بن أبي نضرة العبدي عن أبي سنان عن الحسن عن حذيفة قال : كان شاب على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم فلما نظر إليه الشاب قام إليه و اعتنقه و خر ميتا قال النبي صلى الله عليه و سلم : جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار فلذ كبده و الذي نفسي بيده لقد أعاذ الله منها فمن رجا شيئا طلبه و من خاف شيئا هرب منه ] و المرسل أصح و خازم بن جبلة قال ابن مخلد الدوري الحافظ لا يكتب حديثه
و قال حفصى بن عمرو الجعفي : اشتكى داود الطائي أياما و كان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مرارا في ليلته فأصبح مريضا فوجدوه قد مات و رأسه على لبنة خرجه أبو نعيم
و خرج أيضا هو و ابن أبي الدنيا و غيرهما من غير وجه قصة منصور بن عمار مع الذي مر به بالكوفة ليلا و هو يناجي ربه فتلا منصور هذه الآية
{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة }
قال منصور فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسا و مضيت فلما كان من الغد رجعت فاذا جنازة قد أخرجت و إذا عجوز فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني فقالت هذا رجل لا جازاه الله خيرا مر بابني البارحة و هو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فتفطرت مرارته فوقع ميتا
و روى ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين حدثني بعض أصحابنا حدثني عبد الوهاب قال : بينما أنا جالس في الحدادين ببلخ إذ مر رجل فنظر إلى النار في الكور فسقط فقمنا و نظرنا فإذا هو قد مات و بإسناده عن البختري بن يزيد عن حارثة الأنصاري أن رجلا من العباد وقف على كور حداد و قد كشف عنه فجعل ينظر إليه و يبكي قال : ثم شهق شهقة فمات
قال : و حدثت عن عبد الرحيم بن مطرف بن قدامة الرواس أنبأنا أبي عن مولى لنا قال : لما مات المنصور بن المعتمر صاحت أمه : و اقتيل جهنماه ! ما قتل ابني إلا خوف جهنم
و روي من غير وجه أن علي بن فضيل مات من سماع قراءة هذه الآية :
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين }
و قال يونس بن عبد الأعلى : قرأ عبد الله بن وهب كتاب الأهوال فمر في صفة النار فشهق فغشي عليه فحمل إلى منزله و عاش أياما ثم مات رحمه الله
فصل ـ أحوال بعض الخائفين
خرج مسلم في صحيحه [ من حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : و الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا قالوا : و ما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار ]
و في الصحيحين [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم : قال : ما كسفت الشمس رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع منها ]
و روى ألاعمش [ عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا : لو أبرزت النار للناس ما رآها أحد إلا مات ] و روي موقوفا
و خرج أبو يعلى الموصلي في مسنده و غيره من [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه خطب فقال : لا تنسوا العظيمتين : الجنة و النار ثم بكى حتى جرى و بلت دموعه جانبي لحيته ثم قال : و الذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم عن الآخرة لمشيتم إلى الصعدات و لحثيتم على رؤوسكم التراب ]
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن معسر عن عبد الأعلى : ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا الجنة و النار إلا قالت الملائكة : أغفلوا العظيمتين ؟ !
و عن عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال : قطع قلوب الخائفين طول الخلودين في الجنة أو النار و عن ابن السماك قال : قطع قلوب العارفين بالله ذكر الخلودين الجنة و النار
و عن بكر المزني أن أبا موسى الأشعري خطب الناس بالبصيرة فذكر في خطبته النار فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر قال : و بكى الناس يومئذ بكاء شديدا
و عن إبراهيم بن محمد البصري قال : نظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون فقال له : ما الذي أرى بك ؟ قال : أسقام و أمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله فأعاد عليه عمر فأعاد عليه الرجل مثل ذلك ثلاث مرات فقال إذا أبيت إلا أن أخبرك فإني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها و ملاعبها و استوى عندي حجارتها و ذهبها و رأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة و أنا أساق إلى النار فأسهرت لذلك ليلى و اظمأت له نهاري و كل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله و ثواب الله عز و جل و جنب عقابه
و هذا الكلام يشبه حديث حارثة المشهور و هو حديث روي من وجوه مرسلا و روي مسندا متصلا من [ رواية يوسف بن عطية الصفار و فيه ضعف عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لشاب من الأنصار : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمنا بالله حقا قال : انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة قال : يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي و أظمأت نهاري و كأني بعرش ربي بارزا و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها و إلى أهل النار يتعاؤون فيها قال : أبصرت فالزم عبد نور الله الإيمان في قلبه ] و المرسل أصح
و قال أحمد بن أبي الحواري : حدثنا علي بن أبي الحر قال : أوحى الله إلى يحيى بن زكريا عليه السلام : يا يحيى و عزتي لو اطلعت إلى الفردوس اطلاعة لذاب جسمك و لزهقت نفسك اشتياقا و لو اطلعت إلى جهنم اطلاعة لبكيت بالصديد بعد الدموع و للبست الحديد بعد المسوح
و ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن سفيان قال : كان عمر بن عبد العزيز ساكتا و أصحابه يتحدثون فقالوا : مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين قال : كنت مفكرا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها و في أهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى
و عن مغيث الأسود أنه كان يقول : زوروا القبور كل يوم بفكركم و توهموا جوامع الخير كل يوم بعقولكم و شاهدوا الموقف كل يوم بقلوبكم و انظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة و النار بهممكم و أشعروا قلوبكم و أبدانكم ذكر النار و مقامعها و أطباقها
و عن صالح المري أنه قال : للبكاء دواعي الفكرة في الذنوب فإن أجابت على ذلك القلوب و إلا نقلتها إلى الموقف و تلك الشدائد و الأهوال فإن أجابت إلى ذلك و إلا فاعرض عليها التقلب بين أطباق النيران قال : ثم صاح فغشي عليه و تصايح الناس من جوانب المسجد
و عن أبي سليمان الداراني قال : خرج مالك بن دينار بالليل إلى قاعة الدار و ترك أصحابه في البيت فأقام إلى الفجر قائما في وسط الدار فقال لهم : إني كنت في وسط الدار خطر ببالي أهل النار فلم يزالوا يعرضون علي بسلاسلهم و أغلالهم حتى الصباح
و كان سعيد الجرمي يقول في وصف الخائفين : إذا مروا بآية من ذكر النار صرخوا منها فرقا كأن زفير النار في آذانهم و كآن الآخرة نصب أعينهم
و قال الحسن : إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين و كمن رأى أهل النار في النار معذبين و قال أيضا : و الله ما صدق عبد بالنار قط إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت و إن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم عليها
و قال وهب بن منبه : كان عابد في بني إسرائيل قام في الشمس يصلي حتى اسود و تغير لونه فمر به إنسان فقال : كأن هذا حرق بالنار قال : إن هذا من ذكرها فكيف بمعاينتها ؟ !
و قال ابن عيينة قال إبراهيم التيمي : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها و أعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها و أشرب من صديدها و أعالج سلاسلها و أغلالها فقلت لنفسي : أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا قال : فأنت في الأمنية فاعملي
الباب الثالث ـ [ في ذكر تخويف أصناف الخلق بالنار و خوفهم منها ]
النار خلقها الله تعالى لعصاة الجن و الإنس و بهما تمتليء قال الله تعالى :
{ و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها }
و قال تعالى : { و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين }
و قال تعالى : { و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين }
و قال تعالى : { و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } إلى قوله تعالى : { قال النار مثواكم خالدين فيها }
و قال تعالى حاكيا عن الجن الذين استمعوا القرآن :
{ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا }
و قال تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان }
{ يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران } إلى قوله
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام }
و لهذا روي [ أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قرأ هذه السورة على الجن و أبلغهم إياها لما تضمنت ذكر خلقهم و موتهم و بعثهم و جزائهم ]
و أما سائر الخلق فأشرفهم الملائكة و هم متوعدون على المعصية بالنار و هم خائفون منها قال الله تعالى :
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين }
و قد استفاض عن جماعة من الصحابة و التابعين و من بعدهم أن هاروت و ماروت كانا ملكين و أنهما خيرا بعد الوقوع في المعصية بين عذاب الدنيا و عذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا لعلمهما بانقضائه و قد روي في ذلك حديث مرفوع من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خرجه الإمام أحمد و ابن حبان في صحيحه و لكن قد قيل : إن الصحيح أنه موقف على كعب
و خرج الإمام أحمد [ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام فقال له : مالي لا أرى ميكائيل عليه السلام يضحك ؟ ! فقال جبريل : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ]
روي أيضا في كتاب الزهد [ من حديث أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و جبريل عليه السلام يبكي فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : ما يبكيك يا جبريل ؟ قال : أو ما يبكي أنت يا محمد ؟ ما جفت عيناي منذ خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه فيلقيني فيها ] و قد روي نحوه من وجوه أخر مرسلة أيضا
و خرج الطبراني [ من حديث محمد بن أحمد بن أبي خيثمة حدثنا محمد بن علي حدثنا أبي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمران أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم حزينا لا يرفع رأسه فقال له : مالي أراك يا جبريل حزينا ؟ ! قال : إني رأيت نفحة من جهنم فلم ترجع إلي روحي بعد ]
و قال : لم يرفعه عن زيد إلا علي تفرد به ابنه محمد بن علي بن خلف و هذا يدل على أن غيره وقفه
و خرج الطبراني أيضا [ من طريق سلام الطويل عن الأجلح الكندي عن عدي بن عدي الكندي عن عمر بن الخطاب قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم في غير حينه الذي كان يأتيه فيه فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : يا جبريل مالي أراك متغير اللون ؟ قال : ما جئتك حتى أمر الله بمنافيخ النار قال : يا جبريل صف لي النار و انعت لي جهنم ] فذكر الحديث و سنذكره إن شاء الله تعالى مفرقا في الكتاب في مواضع [ ثم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : حسبي يا جبريل لا ينصدع قلبي فأموت قال : فنظر رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إلى جبريل و هو يبكي فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : تبكي يا جبريل و أنت من الله بالمكان الذي أنت فيه ؟ فقال : و ما لي لا أبكي أنا أحق منك بالبكاء لعلي أن أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها و ما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به إبليس فقد كان مع الملائكة و ما أدري لعلي أبتلي بما ابتلى به هاروت و ماروت قال : فبكى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و بكى جبريل عليه السلام فما زالا يبكيان حتى نوديا : يا محمد و يا جبريل إن الله عز و جل قد أمنكما أن تعصياه فارتفع جبريل و خرج رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فمر بقوم من الأنصار يضحكون فقال : تضحكون و وراءكم جهنم ؟ ! فلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا و لما أسغتم الطعام و الشراب و لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز و جل فنودي : يا محمد لا تقنط عبادي إنما بعثتك ميسرا و لم ابعثك معسرا فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : سددوا و قاربوا ] سلام الطويل : ضعيف جدا
و روى ابن أبي الدنيا من حديث أبي فضالة عن أشياخه قال : إن لله عز و جل ملائكة لم يضحك أحدهم منذ خلقت جهنم مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم
و بإسناده عن بكر العابد قال : قلت لجليس لابن أبي ليلى ـ يكني أبا الحسن ـ : أتضحك الملائكة ؟ قال : ما ضحك من دون العرش منذ خلقت جهنم
و عن محمد بن المنكدر قال : لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها فلما خلق بنو آدم عادت
و روى أبو نعيم بإسناده عن طاووس قال : لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة فلما خلقت بنو آدم سكنت
فأما البهائم و الوحوش و الطير فقد روي ما يدل على خوفها أيضا قال عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال : بلغنا أنه إذا كان يوم نوح داود عليه السلام يأتي الوحش من البراري و تأتي السباع من الغياض و تأتي الهوام من الجبال و تأتي الطيور من الأوكار و تجتمع الناس لذلك اليوم و يأتي داود عليه السلام حتى يرقى على المنبر فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء و الصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة و النار فيموت طائفة من الناس و طائفة من السباع و طائفة من الهوام و طائفة من الوحوش و طائفة من الرهبان و العذارى المتعبدان ثم يأخذ في ذكر الموت و أهوال القيامة و يأخذ في النياحة على نفسه فيموت طائفة من هؤلاء و طائفة من هؤلاء و من كل صنف طائفة
خرجه ابن أبي الدنيا
و أما غير الحيوان من الجمادات و غيرها فقد أخبر الله سبحاته أنها تخشاه قال تعالى :
{ و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار و إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء و إن منها لما يهبط من خشية الله }
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كل حجر يتفجر منه الماء و يتشقق عن ماء أو يتردى عن رأس جبل فهو من خشية الله عز و جل نزل بذلك القرآن
و خرج الجوزجاتي و غيره في طريق مجاهد عن ابن عباس قال : إن الحجر ليقع إلى الأرض و لو اجتمع عليه الفئام من الناس ما استطاعوا و إنه ليهبط من خشية الله
قال ابن أبي الدنيا : حدثني أحمد بن عاصم بن عنبسة العباداني حدثنا الفضيل بن العباس ـ و كان من الأبدال و كانت الدموع قد أثرت في وجهه و كان يصوم الدهر و يفطر كل ليلة على رغيف ـ قال : مر عيسى عليه السلام بجبل بين نهرين نهر عن يمينه و نهر عن يساره و لا يدري من أين يجيء هذا الماء و لا إلى أين يذهب قال : أما الذي يجري عن يساري فمن دموع عيني اليسرى قال : مم ذاك ؟ قال : خوف من ربي أنه يجعلني من وقود النار قال عيسى : فأنا أدعو الله عز و جل أن يهبك لي فدعا الله فوهبه له فقال عيسى : قد وهبت لي قال : فجاء منه الماء حتى احتمل عيسى فذهب به قال له عيسى اسكن بعزة الله فقد استوهبتك من ربي فوهبك لي فما هذا ؟ قال أما البكاء الأول فبكاء الخوف و أما البكاء الثاني فبكاء الشكر
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : إن القمر ليبكي من خشية الله
قال طاووس : إن القمر ليبكي من خشية الله و لا ذنب له و لا يسأل عن عمل و لا يجازي به
فصل ـ [ النار في الدنيا تخاف من نار جهنم ]
و هذه النار التي في الدنيا تخاف من نار جهنم روى نفيع أبو داود عن [ أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن ناركم هذه لجزء من سبعين جزءا من نار جهنم و لولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها و إنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها ] خرجه ابن ماجه و نفيع فيه ضعيف و قد روي موقوفا على أنس
و خرج الحاكم [ من حديث جسر بن فرقد عن الحسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و لولا أنها غمست في البحر مرتين ما انتفعتم بها أبدا و ايم الله إن كانت لكافية و إنها لتدعو الله و تستجير الله أن لا يعيدها في النار أبدا ] و قال : صحيح الاسناد و في ذلك نظر فإن جسر بن فرقد ضعيف
و روي ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي رجاء قال : لما ألقى إبراهيم عليه السلام في النار أوحى الله إليها : لئن ضريتيه أو آذيتيه لآردنك إلى النار الكبرى فخرت مغشيا عليها ثلاثة أيام لا ينتفع الناس منها بشيء
و عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن عبد الله بن عمرو سمع صوت النار فقال : و أنا فقيل له : ما هذا ؟ فقال : و الذي نفسي بيده إنها تستجير من النار الكبرى أن تعاد إليها
و عن الأعمش عن مجاهد قال : ناركم هذه تستعيذ من نار جهنم
الباب الرابع ـ [ في أن البكاء من خشية النار ينجي منها و أن التعوذ
بالله من النار يوجب الإعاذة منها ]
قد تكاثرت النصوص في أن البكاء من خشية الله يقتضي النجاة منها و البكاء خوف نار جهنم هو البكاء من خشية الله لأنه بكاء من خشية عقاب الله و سخطه و البعد عنه و عن رحمته و جواره و دار كرمته
و روى أبو هريرة عن [ النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ] خرجه النسائي و الترمزي و قال : صحيح
[ و عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول : عينان لا تمسها النار : عين بكت في جوف الليل من خشية الله و عين باتت تحرس في سبيل الله عز و جل ] خرجه الترمزي و قال : حسن
[ و عن أبي ريحانة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : حرمت النار على عين دمعت أو بكت في جوف الليل من خشية الله و حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله و ذكر عينا ثالثة ] خرجه الإمام أحمد و هذا لفظه و النسائي و الحاكم و قال : صحيح الإسناد و خرجه الجوزجاني و لفظه [ حرمت النار على عين سهرت بكتاب الله و حرمت النار على عين دمعت من خشية الله و حرمت النار على عين غضت عن محارم الله أو فقئت في سبيل الله ]
[ و عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع و لو كانت مثل رأس الذباب من خشية الله ثم تصيب شيئا من حر وجهه إلا حرمه الله على النار ] خرجه ابن ماجه و قد روي موفوقا على من دون ابن مسعود
و في الباب أحاديث أخر في المعنى مسندة و مرسلة و فيه أيضا عن معاذ بن جبل و ابن عباس من قولهما غير مرفوع
و خرج ابن أبي الدنيا من طريق نفيع أبي داود [ عن زيد بن أرقم أن رجلا قال : يا رسول الله بما أتقي به النار ؟ قال : بدموع عينيك فإن عينا بكت من خشية الله لا تمسها النار أبدا ] و نفيع سبق أنه ضعيف
و من طريق النضر بن سعيد رفعه قال : [ ما اغرورقت عينا عبد بمائها من خشية الله إلا حرم جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر و لا ذلة و لو أن عبدا بكى في أمة من الأمم لأنجى الله عز و جل ببكاء ذلك العبد تلك الأمة من النار و ما من عمل إلا و له وزن أو ثواب إلا الدمعة فإنها تطفيء بحورا من النار ] و قد روي هذا المعنى أو بعضه موقوفا من كلام الحسن و أبي عمران الجوني و خالد بن معدان و غيرهم
و عن زادان أبي عمر قال : بلغنا أنه من بكى خوفا من النار أعاذه الله منها و من بكى شوقا إلى الجنة أسكنه الله إياها
و كان عبد الواحد بن زيد يقول يا إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله عز و جل ؟ ألا إنه من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه يا إخوتاه ألا تبكون خوفا من النار ؟ ألا إنه من بكى خوفا من النار أعاذه الله منها
و عن فرقد السبخي قال : قرأت في بعض الكتب أن الباكي على الجنة لتشفع له الجنة إلى ربها فتقول : يا رب أدخله فتقول : يا رب أدخله كما بكى علي و إن النار لتستجير له من ربها فتقول : يا رب أجره من النار كما استجار مني و بكى خوفا من دخولي
و في حديث عبد الرحمن بن سمرة [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : رأيت الليلة رؤيا ] فذكر الحديث بطوله [ و فيه قال : رأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم فجاءه و جله من الله فاستنقذه من ذلك و رأيت رجلا من أمتي يهوي في النار فجاءته دموعه التي تبكي من خشية الله عز و جل فاستخرجه من النار ]
و روى أيمن [ حدثنا سهل بن حماد حدثنا المبارك بن فضالة حدثنا ثابت عن أنس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم هذه الآية
{ نارا وقودها الناس و الحجارة }
و بين يديه رجل أسود فهتف بالبكاء فنزل جبريل عليه السلام فقال : من هذا الباكي بين يديك ؟ قال : رجل من الحبشة و أثنى عليه معروفا قال : فإن الله عز و جل يقول : و عزتي و جلالي و ارتفاعي فوق عرشي لا تبكي عين عبد في الدنيا من خشيتين إلا كثرت ضحكة في الجنة ]
فصل ـ [ التعوذ من النار ]
قال الله تعالى : { الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } { فاستجاب لهم ربهم }
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في ذكر الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر و فيه : إن الله عز و جل يسألهم و هو أعلم بهم فيقول : مم يتعوذون ؟ فيقولون : من النار فيقول : و هل رأوها ؟ قالوا : لا و الله ما رأوها فيقول : كيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد منها مخافة قال : فيقول : إني أشهدكم أني قد غفرت لهم ]
و خرج الترمزي و النسائي و ابن ماجه [ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما من مسلم يسأل الله الجنة ثلاثا إلا قالت الجنة : اللهم أدخله الجنة و من استجار من النار ثلاثا قالت النار : اللهم أجره من النار ]
و خرج البزار و أبو يعلى الموصلي [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار : يا رب إن عبدك فلانا استجار مني فأجره و لا سأل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة : يا رب إن عبدك فلانا سألني فأدخله الجنة ]
و روى صالح المري [ عن أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : يقول الله عز و جل : انظروا في ديوان عبدي فمن رأيتموه سألني الجنة أعطيته و من استعاذ بي من النار أعذته ] و إسناده ضعيف
و روى أبو صالح عبد الله بن صالح [ حدثنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ـ أو عن ابن أبي حجيرة الأكبر عن أبي هريرة أو أحدهما حدثه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا كان يوم حار فإذا قال الرجل : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم ! اللهم أجرني من حر جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي استجارني من حرك و أنا أشهدك أني قد أجرته و إذا كان يو شديد البرد فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم ! اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي استجارني من زمهريرك و أنا أشهدك أني قد أجرته ] قالوا : و ما زمهرير جهنم ؟ قال : بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده و قال أبو يحيحى القتات عن مجاهد : يؤمر بالعبد إلى النار يوم القيامة فتنزوي فيقول : ما شأنك ؟ فتقول : إنه قد كان يستجير مني فيقول : خلوا سبيله
و قال سفيان عن مسعر بن عبد الأعلى : الجنة و النار ألقيتا السمع من ابن آدم فإذا قال الرجل : أعوذ بالله من النار قالت النار : اللهم أعذه و إذا قال : أسأل الله الجنة قالت الجنة : اللهم بلغه
و قال عثمان بن أبي العاتكة : قال أبو مسلم الخولاني : ما عرضت لي دعوة إلا ذكرت جهنم فصرفتها إلى الاستعاذة منها
و قال أبو سنان عيسى بن سنان عن عطاء الخراساني قال : من استجار بالله من جهنم سبع مرات قالت جهنم : لا حاجة لي فيك
الباب الخامس ـ [ في ذكر مكان جهنم ]
روى عطية عن ابن عباس قال : الجنة في السماء السابعة و يجعلها الله حيث يشاء يوم القيامة و جهنم في الأرض السابعة أخرجه أبو نعيم
و خرج ابن مندة من حديث أبي يحيى القتات عن مجاهد قال : قلت لابن عباس : أين الجنة ؟ قال : فوق سبع سموات قلت : فأين النار ؟ قال : تحت سبع أبحر مطبقة
و روى البيهقي بإسناده فيه ضعف عن أبي الزعراء عن ابن مسعود قال : الجنة في السماء السابعة العليا و النار في الأرض السابعة السفلى ثم قرأ
{ إن كتاب الأبرار لفي عليين }
{ إن كتاب الفجار لفي سجين }
و خرجه ابن مندة و عنده فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء
و قال محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف عن عبد الله ابن سلام قال : إن الجنة في السماء و إن النار في الأرض خرجه ابن خزيمة و ابن أبي الدنيا
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن قتادة قال : كانوا يقولون : إن الجنة في السموات السبع و إن جهنم لفي الأرضين السبع
و روى ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد
{ و في السماء رزقكم و ما توعدون }
قال : الجنة في السماء و قال استدل بعضهم لهذا بأن الله تعالى أخبر أن الكفار يعرضون على النار غدوا و عشيا ـ يعني في مدة البرزخ ـ و أخبر أنه لا تفتح لهم أبواب السماء فدل أن النار في الأرض و قال تعالى :
{ كلا إن كتاب الفجار لفي سجين }
و في حديث البراء بن عازب [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في صفة قبض الروح قال في روح الكافر : حتى ينتهوا بها السماء فيستفتحون فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم :
{ لا تفتح لهم أبواب السماء و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } ]
قال : يقول قال تعالى : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى قال : فتطرح روحه طرحا خرجه الإمام أحمد و غيره
[ و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في صفة قبض الروح و قال في روح الكافر : فتخرج كأنتن ريح جيفة فينطلقون به إلى باب الأرض فيقولون : ما أنتن هذه الريح ! كلما أتوا على أرض قالوا ذلك حتى يأتوا به إلى أرواح الكفار ] خرجه ابن حبان و الحاكم و غيرهما
و قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أرواح الكفار في الأرض السابعة
فصل ـ البحار تسجر يوم القيامة
روى الأمام أحمد بإسناد فيه نظر [ عن يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : البحر هو جهنم فقالوا ليعلى قال : ألا ترون أن الله عز و جل يقول :
{ نارا أحاط بهم سرادقها }
لا و الذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله عز و جل و لا يصيبني منها قطرة حتى ألقى الله عز و جل ] و هذا إن ثبت فالمراد به أن البحار تفجر يوم القيامة فتصير بحرا واحدا ثم تسجر و يوقد عليها فتصير نارا و تزاد في نار جهنم
و قد فسر غير واحد من السلف قوله تعالى :
{ و إذا البحار سجرت }
بنحو هذا
و روى المبارك بن فضالة عن كثير أبي محمد عن ابن عباس قال : تسجر حتى تصير نارا
و روى مجاهد عن شيخ من بجيلية عن ابن عباس { و إذا البحار سجرت } قال : تكور الشمس و القمر و النجوم في البحر فيبعث الله عليها ريحا دبورا فتنفخه حتى يرجع نارا خرجه ابن أبي الدنيا و ابن أبي الحاتم
و خرج ابن أبي الدنيا و ابن أبي الحاتم أيضا من طريقي مجالد عن الشعبي عن ابن عباس في قوله تعالى :
{ و إن جهنم لمحيطة بالكافرين } [ التوابة : 49 ]
قال : هو هذا البحر تنتثر الكواكب فيه و تكور الشمس و القمر فيمون هو جهنم
و روى ابن جرير بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي أنه قال رجل من اليهود : أين جهنم ؟ قال : البحر قال علي : ما أراه إلا صادقا قال تعالى : { و البحر المسجور } و قال { و إذا البحار سجرت }
و رواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن حمادة بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال : قال علي ليهودي : أين جهنم ؟ قال : تحت البحر قال علي : صدق ثم قرأ { و إذا البحار سجرت } و خرجه في موضوع أخر منه و فيه ثم قال { و البحر المسجور }
و خرج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية عن أبي بن كعب
{ و إذا البحار سجرت }
قال : قالت الجن للإنس : تأتيكم بالخير فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج
و عن ابن لهيعة عن أبي قبيل قال : إن البحر الأخضر هو جهنم
و روى أبو نعيم بإسناده عن كعب في قوله تعالى :
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات }
قال : تبدل السموات فتصير جنانا و تبدل الأرض فيصير مكان البحر النار
و قد سبق عن ابن عباس أنه قال : النار سبعة أبحر مطبقة
و روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم و كذا قال سعيد بن أبي الحسن أخو البصري : البحر طبق جهنم
و في سنن أبي داود [ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله فإن تحت البحر نارا و تحت النار بحرا ]
و خرج ابن أبي حاتم بإسناده عن معاوية بن سعيد قال : إن هذا البحر ـ يعني بحر الروم ـ وسط الأرض و الأنهار كلها تصب فيه و البحر الكبير يصب فيه و أسفله آبار كله مطبقة بالنحاس فإذا كان يوم القيامة أسجر
و ذكر ابن أبي الدنيا عن العباس بن يزيد البحراني قال : سمعت الوليد بن هشام و قلت له : عمن أخذت هذا ؟ قال : عن رجل من أهل الكتاب أسلم فحسن إسلامه قال : لما التقم الحوت يونس عليه السلام جال به الأبحر السبعة فلما كان آخر ذلك انتهى به الحوت إلى قعر البحر موضع يلي قعر جهنم فسبح يونس في بطن الحوت فسمع قارون تسبيحه و هو في النار و ذكر بقية الخبر
و روى قيس بن الربيع [ عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إن جهنم محيطة بالدنيا و إن الجنة من ورائه فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة ] غريب منكر
و قد روي عن بعضهم ما يدل على أن النار في السماء و روى مجاهد قال في قوله تعالى :
{ و في السماء رزقكم و ما توعدون }
قال : الجنة و النار و كذا قال جوبير عن الضحاك
و روى عاصم [ عن زر عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أوتيت بالبراق فلم نزايل طرفه أنا و جبريل حتى أتينا بيت المقدس و فتحت لنا أبواب السماء و رأيت الجنة و النار ] خرجه الإمام أحمد و غيره قال في رواية المروذي و في حديث حذيفة [ أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : رأيت ليلة أسري بي الجنة و النار في السماء فقرأت هذه الآية : و في السماء رزقكم و ما توعدون ]
فكأني لم أقرأها قط و هو تصديق لما قاله حذيفة نقله عنه الخلال في كتاب السنة و هذا اللفظ الذي احتج به الإمام أحمد لم نقف عليه بعد في حديثه و إنما روي عنه ما تقدم
و روي عن حذيفة أنه قال : و الله ما زايل البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء ورأيا الجنة و النار و و عد الله الآخرة أجمع و لم يرفعه و هذا كله ليس بصريح في أنه رأى النار في السماء كما لا يخفي
و أيضا فعلى تقدير صحة ذلك اللفظ لا يدل على أن النار في السماء و إنما يدل على أنه رآها و هو في السماء و الميت يرى في قبره الجنة و النار و ليست الجنة في الأرض
و قد رأى النبي صلى الله عليه و آله وسلم في صلاة الكسوف الجنة و النار و هو في الأرض و كذلك في بعض طرق الإسراء حديث أبي هريرة أنه مر على أرض الجنة و النار في مسيره إلى بيت المقدس و لم يدل شيء من ذلك على أن الجنة و الأرض فحديث حذيفة إن ثبت أنه رأى الجنة و النار في السماء فالسماء ظرف للرؤية لا للمرئي و الله أعلم
و في حديث أبي هارون العبدي و هو ضعيف جدا عن أبي سعيد الخدري في صفة الإسراء أنه صلى الله عليه و آله وسلم رأى الجنة و النار فوق السموات و لو صح و لو صح لحمل على ما ذكرناه أيضا
و قد روى القاضي أبو يعلى بإسناد جيد عن أبي بكر المروذي أن الإمام أحمد فسر له من القرآن آيات متعددة فكان مما فسره له قوله تعالى : { و إذا البحار سجرت } قال : أطباق النيران { و البحر المسجور } قال : جهنم و هذا يدل على أن النار في الأرض بخلاف عن المروذي و الله أعلم
و أما المروي عن مجاهد فقد تأوله بعضهم على أن المراد أن أعمال الجنة و النار مقدرة في السماء من الخير و الشر و قد صرح بذلك مجاهد في رواية أخرى عنه
و قد ورد في بعض طرق حديث الإسراء انه صلى الله عليه و آله وسلم رأى جهنم في طريقه إلى بيت المقدس و روي عن عبادة بن الصامت أنه وقف على سور بيت المقدس الشرقي يبكي و قال : ههنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه رأى جهنم
الباب السادس ـ [ في ذكر طبقاتها و دركاتها و صفتها ]
قال الله عز و جل : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }
و قد قرىء الدرك بسكون الراء و تحريكها و هي لغتنان قال الضحاك : الدرك إذا كان بعضها فوق بعض و الدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض و قال غيره : الجنة درجات و النار دركات و قد تسمى النار درجات أيضا كما قال تعالى بعد أن ذكر أهل الجنة و أهل النار :
{ و لكل درجات مما عملوا }
و قال : { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * هم درجات عند الله }
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : درجات الجنة تذهب علوا و درجات النار تذهب سفولا
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عكرمة في قوله تعالى :
{ لها سبعة أبواب } قال : لها سبعة أطباق
و عن قتادة :
{ لكل باب منهم جزء مقسوم }
قال : هي و الله منازل بأعمالهم
و عن يزيد بن أبي مالك الهمذاني قال : لجهنم سبعة نيران : تأتلق : ليس منها نار إلا و هي تنتظر إلى التي تحتها مخافة أن تأكلها
و عن ابن جريج في قوله : { لها سبعة أبواب } قال : أو لها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية و فيها أبو جهل
و روى سلام المدائني ـ و هو ضعيف ـ عن الحسن عن أبي سنان عن الضحاك قال : للنار سبعة أبواب و هي سبعة أدرك بعضها على بعض فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم و أعمارهم في الدنيا ثم يخرجون منها و في الثانية اليهود و في الثالث النصارى و في الرابع الصابئون و في الخامس المجوس و السادس فيه مشركو العرب و في السابعة المنافقون و هو قوله :
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }
و روى العلاء بن المسيب عن أبيه و خيثمة بن عبد الرحمن قالا : قال ابن مسعود : أي أهل النار أشد عذابا قالوا : اليهود و النصارى و المجوس قال : لا و لكن المنافقين في الدرك الأسفل من النار في توابيت من نار مطبقة عليهم ليس لها أبواب
و روى عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى :
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }
قال الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليها فيوقد من فوقهم و من تحتهم قال تعالى :
{ لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل }
و قال ابن المبارك عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن أبي يسار قال : الظلة من جهنم فيها سبعون زاوية في كل زاوية صنف من العذاب ليس في الأخرى
و روى ابن أبي الحاتم بإسناده عن كعب قال : اقتحام العقبة في كتاب الله يعني قوله :
{ فلا اقتحم العقبة }
سبعين درجة في النار
و عن ضمرة قال : سمعت أبا رجاء قال : بلغنيى أن العقبة التي ذكر الله في كتابه مطلعها سبعة آلاف سنة و مهبطها سبعة آلاف سنة
و عن عطية عن ابن عمر قال في العقبة : جبل في جهنم أفلا أجاوزه بعتق رقبة ؟ !
وعن مقاتل بن حيان قال : هي عقبة في جهنم قيل : بأي شيء تقطع ؟ قال : رقبة
و في الصحيحين و لفظه للبخاري عن ابن عمر قال : رأيت في المنام أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقعمة من حديد ثم لقيني ملك في يده مقمعة من حديد قالوا : لن ترع نعم الرجل أنت لو كنت تكثر الصلاة من الليل فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم فإذا هي مطوية كطي البئر لها قرون كقرون البئر بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد و إذا فيها رجال معلقون بالسلاسل رؤوسهم أسفلهم و عرفت رجلا من قريش فانصرفوا بي عن ذات اليمين فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فقال : [ إن عبد الله رجل صالح ]
الباب السابع ـ في ذكر قعر جهنم و عمقها
عن لد بن عمير قال : خطبنا عتبة بن غزوان فقال : إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا و الله لنملأنه أفعجبتم ؟ خرجه هكذا مسلم موقوفا فأخرجه الإمام أحمد موقوقا و مرفوعا و الموقوف أصح
و خرج الترمذي من حديث الحسن قال : قال عتبة بن غزوان على منبرنا هذا ـ يعني منبر البصرة ـ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الصخرة العظيمة لتلتقي من شفير جهنم فتهوي سبعين عاما و ما تفضي إلى قعرها قال : و كان عمر يقول : أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقامعها حديد ثم قال : لا يعرف للحسن سماع من عتبة بن غزوان
و خرج مسلم أيضا [ من حديث أبي هريرة قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و آله وسلم يوما فسمعنا وجبة فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : أتدرون ما هذا ؟ فقلنا : الله و رسوله أعلم قال : هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفا فالآن انتهى إلى قعرها ]
و خرج أيضا عن أبي هريرة قال : و الذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفا
خرج الحاكم [ من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لو أخذ سبع خلفات بشحومهن فألقين من شفير جهنم ما انتهين إلى آخرها سبعين عاما ]
و خرج البراز و الطبراني [ من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الحجر ليزن سبع خلفات يرمى به في جهنم فيهوى سبعين خريفا و ما يبلغ قعرها ]
و خرج ابن حبان في صحيحه [ من حديث أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لو أن حجر قذف به في جهنم لهوى سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعرها ]
و قد سبق من حديث أنس و أبي سعيد معنى حديث أبي هريرة في سماع الهدة
و قال ابن المبارك : أنبأنا يونس [ عن الزهري قال : بلغنا أن معاذ بن جبل كان يحدث عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : و الذي نفسي بيده إن ما بين شفة النار و قعرها كصخرة زنة سبع خلفات بشحومهن و لحومهن و أولادهن تهوي من شفة النار قبل أن تبلغ قعرها سبعين خريفا ]
قال ابن المبارك و إن هشيما قال : أخبرني زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال : سمعت أبا أمامة يقول : إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي أو صخرة تهوي أو صخرة تهوي عظمها كعظم عشر عشروات عظام سمان فقال له رجل : هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم غي و آثام
و قد روي ذلك بإسناد ضعيف من طريق لقمان بن عامر [ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم و زراد فيه : قلت : و ما غي ؟ و ما آثام ؟ قال : بئر يسيل فيهما صديد أهل النار و هما اللتان ذكرهما الله تعالى في كتابه { فسوف يلقون غيا } ] و في الفرقان { يلق أثاما } و الموقوف أصح و قد روي من وجه آخر : قال حريز بن عثمان : حدثني عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي عن أبي أمامة أنه كان يقول : إن جهنم ما بين شفتيها إلى قعرها سبعون أو قال : خمسون خريفا للحجر المتردي و الحجر مثل سبع خلفات مملوءة شحما و لحما خرجه الجوزجاني
و روى مجالد عن الشعبي [ عن مسروق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما من حاكم يحكم بين الناس إلا يحبس يوم القيامة و ملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز و جل فإن قال له : ألقه ألقاه في مهوى أربعين خريفا ] خرجه الأمام أحمد
و روى عبد الله بن الوليد الوصافي [ حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج على ذلك الجسر به ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه فإن كان مطيعا لله في عمله مضوا به و إن كان عاصيا لله في عمله انخرق فيه الجسر فيهوي في جهنم مقدار خمسين عاما ] فقال له عمر : من يطلب العمل بعد هذا ؟ قال أبو ذر : من سلت الله أنفه و ألصق خذه بالتراب فجاء أبو الدرداء فقال له عمر : يا أبا الدرداء هل سمعت من النبي صلى الله عليه و آله وسلم حديثا حدثني به أبو ذر ؟ قال : فأخبره أبو ذر فقال : نعم و مع الخمسين خمسون عاما يهوي به إلى النار الوصافي لا يحفظ الحديث كان شيخا صالحا رحمه الله
و روى سويد بن عبد العزيز ـ و فيه ضعف شديد ـ [ عن سيار عن أبي وائل أن أبا ذر قال لعمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول فذكر معناه و في حديثه و إن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى في قعرها سبعين خريفا ]
و في موعظة الأوزاعي للمنصور قال : [ أخبرني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاري أن أبا ذر و سليمان قالا لعمر : سمعنا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول فذكراه بمعناه و قال هوى به في النار سبعين خريفا ]
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق و المغرب ]
و خرج الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها باسا يهوي بها في النار سبعين خريفا ] و خرج البزار نحوه من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم
و في تفسير ابن جرير من رواية العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى :
{ و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة }
قال : ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم
و كان ابن عباس يقول : إن الجحيم سقر و فيها شجرة الزقوم فزعم أعداء الله أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة و إنما يعني بذلك السير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم فقالوا : إذا خلا العدد انقضى الأجل فلا عذاب و تذهب جهنم و تهلك فذلك قوله : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } يعنون بذلك الأجل فقال ابن عباس : لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة و هي أربعون سنة فلما أكلوا من شجرة الزقوم و ملؤوا البطون آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة سقر : زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة و قد خلا العدد و أنتم في الأبد فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون ففي هذه الرواية عن ابن عباس أن قعر جهنم و مسافة عمقها أربعون عاما و أن ذلك هو معنى ما في التوراة و لكن اليهود حرفوه فجعلوا مسافة مابين طرفيها و زعموا أنه إذا انقضت هذه المدة أن جهنم تخرب و تهلك فإن ذلك من كذبهم على الله و تحريفهم التوراة
فصل ـ سعة جهنم طولا و عرضا
و أما سعة جهنم طولا و عرضا فروى مجاهد [ عن ابن عباس قال : أتدرون ما سعة جهنم ؟ قلنا : لا قال : أجل و الله ما تدرون أن ما بين شحمة أذن أحدهم و أنفه مسيرة سبعين خريفا تجري فيه أودية القيح و الدم قلنا : أنهار ؟ قال : لا بل أودية ثم قال : أتدرون ما سعة جهنم ؟ قلنا : لا قال : حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن قوله تعالى :
{ و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه }
فأين الناس يومئذ ؟ قال : على جسر جهنم ] خرجه الإمام أحمد و خرجه النسائي و الترمذي منه المرفوع و صححه الترمذي و خرجه الحاكم و قال : صحيح الإسناد
مرسل و مطروح فيها { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم }
و روى أبو إسحاق عن هبيرة ابن مريم عن علي قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض و قال بإصبعه و عقد خمسين و أضجع يده ثم يمتلئ الأول و الثاني و الثالث حتى عقدها كلها خرجه ابن أبي حاتم و غيره و رواه بعضهم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي بمعناه
و خرج ابن أبي الحاتم من طريق حطان الرقاشي قال : سمعت عليا يقول : هل تدرون كيف أبواب جهنم ؟ قلنا : هي أبوابنا هذه قال : لا هي هكذا بعضها فوق بعض و في رواية له أيضا : بعضها أسفل من بعض و خرجه البيهقي و لفظه : أبواب جهنم هكذا و وضع يده اليمنى على ظهر يده اليسرى
و عن ابن جريح في قوله { لها سبعة أبواب } قال : أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم و فيها أبو جهل ثم الهاوية خرجه ابن أبي الدنيا و غيره
و قال جوبير عن الضحاك : سمى الله أبواب جهنم لكل باب منها جزء مقسوم : باب لليهود و باب للنصارى و باب للمجوس و باب للصابئين و باب للمنافقين و باب للذين أشركوا و هم كفار العرب و باب لأهل التوحيد و أهل التوحيد يرجى لهم و لا يرجى للآخرين خرجه الخلال
و قال آدم بن أبي إياس : حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي ميسرة في قوله :
{ ادخلوا أبواب جهنم }
قال لجهنم سبعة أبواب بعضها أسفل من بعض
و قال عطاء الخراساني : إن لجهنم سبعة أبواب أشدها غما و كربا و حرا و أنتنها ريحا للزناة الذين ركبوه بعد العلم خرجه أبو نعيم
و عن كعب قال : لجهنم سبعة أبواب باب منها للحروية
و هذا كله من حديث ابن عمر المتقدم يدل على أن كل باب من الأبواب السبعة لعمل من الأعمال السيئة كما أن أبواب الجنة الثمانية كل باب منها لعمل من أعمال الصالحة
و عن وهب بن منبه : بين كل بابين مسيرة سبعين سنة كل باب أشد حرا من الذي فوقه
و خرج الثعلبي في تفسيره بإسناد مجهول إلى منصور بن عبد الحميد بن أبي رباح [ عن أنس عن بلال أن أعرابية صلت خلف النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقرأ النبي صلى الله عليه و آله وسلم هذه الآية :
{ لكل باب منهم جزء مقسوم }
فخرت مغشيا عليها فلما أفاقت قالت : يا رسول الله كل عضوا من أعضائي يعذب على كل باب منهم فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : { لكل باب منهم جزء مقسوم } يعذب على كل باب على قدر أعمالهم فقالت : مالي إلى سبعة أعبد أشهدك أن كل عبد منهم لكل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله عز و جل فجاء جبريل فقال : بشرها أن الله قد حرمها على أبواب جهنم ] و هذا حديث لا يصح مرفوعا و منصور بن عبد الحميد قال فيه ابن حبان : لا تحل الرواية عنها
و الصحيح ما روى مخلد بن الحسن عن هشام بن حسان قال : خرجنا حجاجا فنزلنا منزلا في بعض الطريق فقرأ رجل كان معنا هذه الآية : { لها سبعة أبواب } فسمعته امرأة فقالت : أعد رحمك الله فأعادها : فقالت : خلفت في
الباب الثامن ـ في ذكر أبوابها و سرادقها
قال الله عز و جل : { وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم }
و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حدث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث عتبة بن عبد السلمي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن للجنة ثمانية أبواب و لجهنم سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض ]
[ و في حديث أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لعمر إلهك إن للنار سبعة أبواب ما منهن با بان إلا و يسير الراكب بينهما سبعين عاما ] خرجه عبد الله بن الإمام أحمد و ابن أبي عاصم و الطبراني و الحاكم و غيرهم
و خرج البيهقي [ من حديث أبي سعيد و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حديث المرور على الصراط قال فيه : فناج مسلم و مخدوش البيت سبعة أعبد أشهدكم أنهم أحرار لكل باب واحد منهم ] خرجه ابن أبي الدنيا
و خرج البيهقي [ من حديث الخليل بن مرة أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ { تبارك } و { حم } السجدة و قال : الحواميم سبع و أبواب جهنم سبع : جهنم و الحطمة و لظى و السعير و سقر و الهاوية و الجحيم و قال : تجئ كل حم منها يوم القيامة أحسبه قال : تقف على باب من هذه الأبواب فتقول : اللهم لا تدخل هذا الباب كل من يؤمن بي و يقرؤني ] و قال : هذا منقطع و الخليل بن مرة فيه نظر
و روى ابن أبي الدنيا من طريق عبد العزيز بن أبي رواد قال : كان بالبادية رجل قد اتخذا مسجدا فجعل في قبلته سبعة أحجار فكان إذا قضى صلاته قال : يا أحجار أشهدكم أن لا إله إلا الله قال : فمرض الرجل فعرج بروحه قال : فرأيت في منامي أنه أمر بي إلى النار فرأيت حجرا من تلك الأحجار ـ أعرفه بعينه ـ قد عظم فسد عني بابا من أبواب جهنم قال : حتى سد عني بقية الأحجار أبواب جهنم السبعة
فصل ـ أبواب جهنم تغلق على أهلها يوم القيامة
و قد وصف الله أبوابها بأنها مغلقة على أهلها فقال :
{ إنها عليهم مؤصدة }
و قال تعالى : { عليهم نار مؤصدة }
قال مجاهد : هي بلغة قريش : أصد الباب أغلقه يعني قوله { مؤصدة } و قال مقاتل : يعني أبوابها مطبقة عليهم فلا يفتح لها باب و لا يخرج منها غم و لا يدخل فيها روح آخر الأبد
و قد ورد في ذلك حديث مرفوع خرجه ابن مردويه من طريق شجاع بن أشرس : [ حدثنا شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : { إنها عليهم مؤصدة } قال : مطبقة ] و لكن رفعه لا يصح و قد خرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن شريك بهذا الإسناد موقوفا على أبي هريرة و روه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح من قوله و لم يذكر فيه أبا هريرة و كذلك قال عطاء الخراساني و غيره في المؤصدة : إنها المطبقة
و عن الضحاك قال : حائط لا باب له و مراده ـ و الله أعلم ـ أن الأبواب أطبقت فصار الجدار كأنه لا باب له و قوله تعالى :
{ إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة }
معناه : أطبقت عليهم بعمد قال قتادة : و كذلك هو في قراءة عبد الله بعمد بالباء قال عطية : هي عمد من حديد في النار و قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد حتى يرجع عليهم غمها و حرها
و على هذا قوله : { ممددة } صفة للعمد يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممدة مطولة و المدود الطويل أرسخ و أثبت من القصير
و في تفسير العوفي عن ابن عباس في قوله : { في عمد ممددة } قال : هي عليهم مغلقة أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد و في أعناقهم السلاسل فسدت به الأبواب و قيل : إن الممددة صفة للأبواب رواه شبيب بن بشير عن عكرمة عن ابن عباس
و قيل المراد بالعمد المددة : القيود الطوال رواه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح رواه أبو خباب الكلبي عن زبيد عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : { في عمد ممددة } قال : هي الأدهم و قد تقدم أن عبد الله كان يقرؤها بعمد و الأدهم : القيد
و كذا قال ابن زيد في قوله : { في عمد ممددة } قال : في عمد من حديد مغلولين فيه و تلك العمد من نار قد احترقت من النار فهي ممددة لهم
و قيل إن المراد بالعمد الممددة : الزمان الذي لا انقطاع له قاله أبو فاطمة
و قال السدي : من قرأها في عمد يعنى بالفتح فهي عمد من نار و من قرأها في عمد يعني بالضم فهو أجل ممدود
و قال سعيد بن بشير عن قتادة : { مؤصدة } أي مطبقة أطبقها الله عليهم فلا ضوء فيها و لا فرج و لا خروج منها آخر الأبد
و هذا الإطباق نوعان :
أحدهما : خاص لمن يدخل في النار أو من يريد الله التضييق عليه أجارنا الله من ذلك قال أبو توبة اليزني : إن في النار أقواما مؤصدة عليهم كما يطبق الحق على طبقه خرجه ابن أبي الحاتم
و الثاني : الإطباق العام و هو إطباق النار على أهلها المخلدين فيها
و قد قال سفيان و غيره في قوله تعالى :
{ لا يحزنهم الفزع الأكبر }
قالوا : هو طبق النار على أهلها
و في حديث مسكين أبي فاطمة [ عن اليمان بن يزيد عن محمد بن حمير عن محمد بن علي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في خروج الموحدين من النار قال : ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من النار و أطباق من نار فيطبقونها على من بقي فيها و يسمرونها بتلك المسامير يتناساهم الجبار على عرشه من رحمته و يشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم و لذاتهم ] خرجه الإسماعيلي و غيره و هو حديث منكر قاله الدارقطني
و روى ابن أبي حاتم بإسناده عن سعيد بن جبير قال : ينادي رجل في شعب من شعاب النار مقدار ألف عام : يا حنان يا منان فيقول الله تعالى : يا جبريل أخرج عبدي فيجدها مطبقة فيقول : يا رب إنها عليهم مطبقة مؤصدة
و قال قتادة عن أبي أيوب العتكي عن عبد الله بن عمرو : إذا أجاب الله أهل النار بقوله :
{ اخسؤوا فيها و لا تكلمون }
أطبقت عليهم فبئس القوم بعد تلك الكلمة و إن كان إلا الزفير و الشهيق
و قال أبو الزعراء عن ابن مسعود : و إذا قيل لهم { اخسؤوا فيها و لا تكلمون } أطبقت عليهم فلم يخرج منها أحد
و قال أبو عمران الجوني : إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد و كل شيطان مريد و بكل من يخاف في الدنيا شره العبيد فأوثقوا بالحديد ثم أمر بهم إلى جهنم التي لا تبيد ثم أوصدها عليهم ملائكة رب العبيد قال : فلا و الله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا و لا و الله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا و لا الله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا و لا و الله لا يذقون فيها بارد شراب أبدا
و في معنى إطباق النار على أهلها يقول بعض السلف رضي الله عنهم
ألبسوا النضيح من النحاس و منعوا خروج الأنفاس فالأنفاس في أجوافهم تتردد و النيران على أبدانهم توقد قد أطبقت عليهم الأبواب و غضب عليهم رب الأرباب
و أنشد بعضهم في هذا المعنى :
( لو أبصرت عيناك أهل الشقا ... سيقوا إلى النار و قد أحرقوا )
( يصلونها حين عصوا ربهم ... و خالفوا الرسل و ما صدقوا )
( تقول أخراهم لأولاهم ... في لجج المهل و قد أغرقوا : )
( قد كنتم حذرتم حرها ... لكن من النيران لم تفرقوا )
( و جيء بالنيران مزمومة ... شرارها من حولها محرق )
( و قيل للنيران أن أحرقي ... و قيل للخزان أن أطبقوا )
و قد ورد في بعض أحاديث الشفاعة فتح باب النار فخرج الطبراني من رواية العباس بن عوسجة [ حدثني مطر أبو موسى مولى آل طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم إني آتي جهنم فأضرب بابها فيفتح لي فأدخلها فأحمد الله بمحامد ما حمده بها أحد قبلي مثلها و لا يحمده أحد بعدي ثم أخرج منها من قال : لا إله إلا الله مخلصا فيقوم إلي ناس من قريش فينتسبون إلي فأعرف نسبهم و لا أعرف وجوههم فأتركهم في النار ] إسناده ضعيف
فصل ـ إحاطة سرادق جهنم بالكافرين
قال الله تعالى :
{ إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها }
قال الزجاج : السرادق : كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب و الحائط المشتمل على الشيء و قال ابن قتيبة : السرادقات : الحرة التي تكون حول الفسطاط و قيل : هو الدهليز معرب و أصله بالفارسية سرادار و قال ابن عباس : هو سرادق من نار
و روى ابن لهيعة [ عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة ] خرجه الترمذي
و إحاطة السرادق بهم قريب من المعنى المذكور في غلق الأبواب و هو شبه قول من قال : إنه حائط لا باب له
و لما كان إحاطة السرادق بهم موجبا لهمهم و غمهم و كربهم و عطشهم لشدة وهج النار عليهم قال الله تعالى :
{ و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا }
و قال تعالى : { ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق }
قال أبو معشر : كنا في جنازة مع أبي جعفر القاري فبكى أبو جعفر ثم قال : حدثني زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون فذلك الذي أبكاني
خرجه الجوزجاني
و خرج ابن أبي حاتم من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة قال : على كل باب من أبوباب النار سبعون ألف سرادق من نار في كل سرادق منها سبعون ألف قبة من نار في كل قبة منها سبعون ألف تنور من نار في كل تنور منها سبعون ألف كوة من نار في كل كوة منها سبعون ألف صخرة من نار على كل صخرة منها سبعون ألف حجر من نار على كل حجر منها سبعون ألف عقرب من نار لكل عقرب منها سبعون ألف ذنب من نار لكل ذنب منها سبعون ألف فقارة من نار في كل فقارة منها سبعون ألف قلة من سم و سبعون ألف موقد من نار يوقدون تلك النار ذلك النار و ذكر تمام الحديث و سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى و فيه : إنهم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة
و هو غريب و منكر و إبراهيم بن الحكم بن أبان ضعيف تركه الأئمة
فصل ـ أبواب جهنم مغلقة قبل دخول أهلها
و أبواب جهنم قبل دخول أهلها إليها يوم القيامة مغلقة كما دل عليه ظاهر قوله تعالى :
{ و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها }
و في حديث أبي هارون العبدي و هو ضعيف جدا [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في قصة الإسراء قال : ثم عرضت علي النار فإذا فيها غضب الله و زجره و نقمته لو طرح فيها الحجارة و الحديد لأكلتها ثم أغلقت دوني ]
و قد روي أن أبوابها تفتح كل يوم نصف النهار و سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى
و روى الإمام أحمد عن إسحاق الأزرقي عن شريك عن الركبين عن أبيه قال : رأى خباب بن الأرت رجلا يصلي نصف النهار فنهاه و قال : إنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم فلا تصل فيها
و قد ورد ما يستدل به على أنها مفتحة ففي الصحيحين عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة و غلقت أبواب النار و صفدت الشياطين و مردة الجن ]
و خرج الترمذي [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و أغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ]
و لكن قد قيل : إن إغلاق أبواب النار إنما هو عن الصائمين خاصة و كذلك فتح أبواب الجنة هو لهم خاصة
و في حديث القاسم العرني [ عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في فضل رمضان قال فيه : فيفتح فيها أي في أول ليلة منه أبواب الجنة للصائمين من أمة محمد صلى الله عليه و آله وسلم فيقول الله يا رضوان افتح أبواب الجنان و يا مالك أغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة محمد صلى الله عليه و آله وسلم ] و هذا منقطع فإن الضحاك لم يسمع من ابن عباس
الباب التاسع ـ في ذكر ظلمة النار و شدة سوادها
روى شريك [ عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى أبيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء كالليل المظلم ] خرجه ابن ماجه و الترمذي و قال : حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح و لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي كثير عن شريك
و روى معن [ عن مالك عن أبي سهيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أترونها حمراء كناركم هذه ؟ ! لهي أشد سوادا من القار ] خرجه البيهقي و خرجه البزار و لفظه : [ لهي أشد من دخان ناركم هذه سبعين ضعفا ] و روي موقوفا على أبي هريرة و هو أصح قاله الدارقطني
و قال الجوزجاني : [ حدثنا عبيد الله الحنفي حدثنا فرقد بن الحجاج سمعت عقبة اليماني يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إن نار جهنم أشد حرا من ناركم هذه بتسعة و تسعين جزءا و هي سوداء مظلمة لا ضوء لها لهي أشد سوادا من القطران ] غريب جدا
و روى الكديمي [ عن سهل بن حماد عن مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم :
{ نارا وقودها الناس و الحجارة }
قال : أوقد عليها ألف عام حتى أبيضت ثم أقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء لا يضيء لهبها ] خرجه البيهقي و الكديمي ليس بحجة
و خرج البزار من حديث زائدة بن أبي الرقاد [ عن زياد النميري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه ذكر ناركم هذه فقال : إنها لجزء من سبعين جزءا من نار جهنم و ما وصلت إليكم حتى ـ أحسبه قال ـ نضحت بالماء مرتين لتضيء لكم و نار جهنم سوداء مظلمة ]
و في حديث عدي بن عدي [ عن عمر مرفوعا ذكر الإيقاد عليها ثلاثة آلاف عام أيضا و قال : فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها و لا لهبها ] خرجه ابن أبي الدنيا و الطبراني و قد سبق إسناده و الكلام عليه
و روى ابن أبي الدنيا من طريق الحكم بن ظهير ـ و هو ضعيف ـ عن عاصم عن زر عن عبد الله
{ و إذا الجحيم سعرت }
قال : سعرت ألف سنة حتى ابيضت ثم ألف سنة حتى احمرت ثم ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة الحكم بن ظهير ضعيف و الصحيح رواية عاصم عن أبي هريرة كما سبق
و روى الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة لا يطفأ جمرها و لا يضيء لهبها ثم قرأ :
{ و ذوقوا عذاب الحريق }
خرجه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار عن أبي معاوية عن الأعمش مرفوعا و قال : رفعه ضعيف
و قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب : ضرب الله مثلا للكافرين قال :
{ أو كظلمات في بحر لجي }
فهو يتقلب في خمس من الظلم : كلامه ظلمة و عمله ظلمة و مدخله ظلمة و مخرجه ظلمة و مصيره إلى الظلمات إلى النار
و قال ـ أيضا ـ أبو جعفر عن الربيع بن أنس : إن الله جعل هذه النار ـ يعني نار الدنيا ـ نورا و ضياء و متعا لأهل الأرض و إن النار الكبرى سوداء مظلمة مثل القبر ـ نعوذ بالله منها
و عن الضحاك قال : جهنم سوداء و ماؤها أسود و شجرها أسود و أهلها سود
و قد دل على سواد أهلها قوله تعالى :
{ كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
و قوله تعالى : { يوم تبيض وجوه و تسود وجوه }
و قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن من عصاة الموحدين من يحترق في النار حتى يصير فحما
الباب العاشر ـ في شدة حرها و زمهريرها
قال الله تعالى : { و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون }
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فنفسي فأذن لها في نفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها و أشد ما تجدون البرد من زمهريرها ]
و في الصحيحين أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا : و الله إن كانت لكافية قال : إنها فضلت بتسعة و ستين جزءا كلهن مثل حرها ] و خرجه الإمام أحمد و زاد فيه : [ ضربت بالبحر مرتين و لولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد ] و قد سبق من حديث أنس نحوه
[ و عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم لكل جزء منها مثل حرها ] خرجه الترمذي
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز ـ هو الدراوردي ـ عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم ] و قال ابن مسعود : [ إن ناركم هذه ضرب بها البحر ففترت و لولا ذلك ما انتفغتم بها و هي جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ] و خرجه البزار و الموقوف أصح
و خرج الطبراني [ من طريق تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لو أن غربا من جهنم جعل في وسط الأرض لآذى نتن ريحه و شدة حره ما بين المشرق والمغرب و لو أن شرارة من شرار جهنم بالمشرق لوجد حرها من بالمغرب ] و تمام بن نجيح تكلم فيه
و خرج أيضا من طريق عدي بن عدي الكندي [ عن عمر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : و الذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره ] و قد سبق الكلام على إسناده و روي من وجه ضعيف عن الحسن مرسلا نحوه أيضا
و خرج أبو يعلى الموصلي [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون و فيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم لأحرق من في المسجد أو يزيدون ] لكن قال الإمام أحمد : هو حديث منكر
و قال كعب لعمر بن الخطاب : لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق و رجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حره
و قال عبد الملك بن عمير : لو أن أهل النار كانوا في نار الدينا لقالوا فيها
و قال عبد الله بن أحمد : أخبرت عن سيار عن ابن المعزى ـ و كان من خيار الناس ـ قال : بلغني أن رجلا لو خرج منها إلى نار الدنيا لنام فيها ألفي سنة
و قال معاوية بن صالح [ عن عبد الملك بن أبي بشير يرفع الحديث ما من يوم إلا و النار تقول : اشتد حري و بعد قعري و عظم جمري عجل إلهي إلي بأهلي ]
و قال ابن عيينة عن بشير بن منصور قلت لعطاء السلمي : لو أن إنسانا أوقدت له نار فقيل له : من دخل هذه النار نجا من النار ؟ فقال عطاء : لو قيل لي ذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحا قبل أن أقع فيها
فصل ـ في زمهرير جهنم بيت يتميز فيه الكافر من برده
قد سبق في حديث مرفوع [ إن زمهرير جهنم بيت يتميز فيه الكافر من برده ] يعني يتقطع و يتمزع
و روى ابن أبي الدنيا من طريق الأعمش عن مجاهد قال : إن في النار لزمهريرا يغلون فيه فيهربون منها إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض
و عن ليث عن مجاهد قال : الزمهرير الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده
و عن قابوس بن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر
و عن عبد الملك بن عمير قال بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى جانبها فيخرجهم فيقتلهم البرد و الزمهرير حتى يرجعوا إليها فيدخلوها مما وجدوا من البرد
و روى أبو نعيم بإسناده عن ابن عباس أن كعبا قال في جهنم بردا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم
و روي عن ابن مسعود قال : الزمهرير لون من العذاب
وعن عكرمة قال : هو البرد الشديد
و روي عن زبيد اليامي أنه قام ليلة للتهجد فعمد إلى مطهرة له قد كان يتوضأ فيها فغسل يده ثم أدخلها في المطهرة فوجد الماء الذي فيها باردا بردا شديدا قد كاد أن يجمد فذكر الزمهرير و يده في المطهرة فلم يخرج يده من المطهرة حتى أصبح فجاءته الجارية و هو على تلك الحال فقالت : ما شأنك ـ يا سيدي ـ لم تصل الليلة كما كنت تصلي ؟ قال : ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير فو الله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت علي انظري لا تخبري بهذا أحدا ما دمت حيا فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه الله
الباب الحادي عشر ـ في ذكر سجر جهنم و تسعيرها
قد سبق في غير حديث أنه قد أوقد عليها ثلاثة آلاف عام
[ و روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لما خلق الله النار أرسل جبريل قال له : اذهب فانظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها قال : فنظر إليها فإذا هي ير كب بعضها بعضا فرجع فقال : و عزتك لا يدخلها أحد سمع بها ! فأمر بها فحفت بالشهوات ثم قال له : اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها و رجع فقال : و عزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها ] خرجه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي
[ و في حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة و فيها : قال : فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء فإذا هو عند نار يحشها و يسعى حولها قال : قلت : ما هذا ؟ قالا لي : انطلق انطلق و في آخر الحديث قالا : فأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها و يسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم ] و قد خرجه البخاري بتمامة و خرج مسلم أوله و لم يتمه
و قوله : كريه المرآة أي النظر و قوله : يحشها أي يوقدها
و روى هذا الحديث أبو خلدة [ عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر الحديث بطوله و في حديثه قال : فرأيت شجرة لو اجتمع تحتها خلق كثير لأظلتهم و تحتها رجلان أحدهما يوقد نارا و الآخر يحتطب الحطب و في آخر الحديث : قلت : فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة ؟ قال : ذلك ملكا جهنم يحمون جهنم لأعداء الله يوم القيامة ]
فصل ـ تسجر جهنم كل يوم نصف النهار
و جهنم تسجر كل يوم نصف النهار و في صحيح مسلم [ عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس و ترتفع فإنها تطلع بين قرني شيطان و حينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل ]
و ذكر بقية الحديث و قد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم من غير وجه من حديث أبي أمامة و غيره
[ و في حديث صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إذا طلعت الشمس فصل حتى تعتدل على رأسك مثل الرمح فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم و تفتح فيها أبوابها حتى تزول عن حاجبك الأيمن ] خرجه عبد الله بن الإمام أحمد
[ و في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس فإنها حينئذ تسعر جهنم و شدة الحر من فيح جهنم ] و روى أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال : إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان ـ أو في قرني شيطان ـ فما ترتفع فصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس و نعد غروبها و نصف النهار خرجه يعقوب بن شيبة و رواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضا
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ] و في رواية خرجها أبو نعيم : [ من فيح جهنم أو من فيح أبواب جهنم ]
و خرج أبو داود [ من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة و قال : إن جهنم تسجر مدى الأيام إلا يوم الجمعة ] و في إسناده انقطاع و ضعف
فصل ـ تسجر جهنم في غير نصف النهار
و تسجر أحيانا في غير نصف النهار كما خرجه الطبراني [ من حديث ابن أم مكتوم قال : خرج النبي صلى الله عليه و آله وسلم ذات غداة فقال : سعرت النار و جاءت الفتن ] فذكر الحديث
و من طريق عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش [ عن الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يا أهل الحجرات سعرت النار لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا ]
عبيد الله بن سعيد فيه ضعف و الصحيح أن الأعمش رواه عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير مرسلا و قيل : عن الأعمش عن أبي سفيان عن ابن عمر و لا يصح
و في حديث عدي بن عدي [ عن عمر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : جئتك حين أمر الله عز و جل بمنافيخ النار فوضعت على النار ] الحديث و روي أيضا من حديث الحسن مرسلا و في الإسنادين ضعف
فصل ـ تسجر جهنم بخطايا بني آدم
و تسجر أيضا يوم القيامة قال الله تعالى : { و إذا الجحيم سعرت } { علمت نفس ما أحضرت } و قرىء { سعرت } و سعرت بالتشديد و التخفيف قال الزجاج : المعنى واحد إلا أن معنى المشدد أوقدت مرة بعد مرة
قال قتادة : { و إذا الجحيم سعرت } : أوقدت و قال السدي : أحميت و قال سعيد بن بشير عن قتادة : يسعرها غضب الله و خطايا بني آدم خرجه ابن أبي حاتم
و هذا يقتضي أن تسعير جهنم حيث سعرت إنما سعرت بخطايا بني آدم التي تقتضي غضب الله عليهم فتزداد جهنم حينئذ تلهبا و تسعرا هذا و كما أن بناء دور الجنة و غرس الأشجار يحصل بأعمال بني آدم الصالحة من الذكر و غيره و كذلك حسن ما فيها من الزوجات و غيرهن يتزايد بتحسين الأعمال الصالحة فكذلك جهنم تسعر و تزدار آلات العذاب فيها بكثرة ذنوب بني آدم و خطاياهم و غضب الرب تعالى عليهم نعوذ بالله من غضب الله و من النار و ما قرب إليها من قول و عمل بمنه و كرمه و قد سبق في الباب الخامس صفة تسعر النار يوم القيامة و مزيدها بإيقاد البحر و إضافته إليها
فصل ـ تسجر جهنم بعد دخول أهلها
و تسجر على أهلها بعد دخولهم إليها قال الله عز و جل :
{ و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا }
قال ابن عباس : كلما طفئت أوقدت و قال ابن عباس : خبت : سكنت
و قال ابن قتيبة : خبت النار إذا سكن لهبها فاللهب يسكن و الجمر يعمل و قال غيره من المفسرين : تأكلهم فإذا صاروا فحما و لم تجد النار شيئا تأكله أعيد خلقهم خلقا جديدا فتعود لأكلهم
و قوله : { زدناهم سعيرا } أي نارا تتسعر و تتلهب
و قد روي عن عمرو بن عبسة أن في جهنم بئرا يقال له : الفلق منه تسعر جهنم إذا سعرت و سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى و المعنى أن يكشف ذلك البئر فيخرج منه نار تلهب جهنم و توقدها و قال الله تعالى :
{ فأنذرتكم نارا تلظى }
قال مجاهد و غيره توهج
قرأ عمر بن عبد العزيز ليلة في صلاته سورة { و الليل إذا يغشى } فلما بلغ قوله { فأنذرتكم نارا تلظى } بكى فلم يستطيع أن يجاوزها ثم عاد فتلا السورة حتى بلغ الآية فلم يستطع أن يجاوزها مرتين أو ثلاثا ثم قرأ سورة أخرى غيرها
الباب الثاني عشر ـ في ذكر تغيظها و زفيرها
قال الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون }
و قال تعالى : { وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا }
و قال تعالى : { وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير }
و الشهيق : الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة كصوت الحمار قال الربيع بن أنس : الشهيق في الصدر و قال مجاهد في قوله { و هي تفور } قال : تغلي بهم كما يغلي القدر و قال ابن عباس : تميز : تفرق و عنه قال : يكاد يفارق بعضها بعضا و تتفطر و عن الضحاك تميز : تفطر و قال ابن زيد : التميز : التفرق من شدة الغيظ على أهل معاصي الله عز و جل غضبا له عز و جل و انتقاما له
و خرج ابن أبي حاتم [ من حديث خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل : يا رسول الله و هل لها عينان قال نعم أو لم تسمع قول الله عز و جل : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا } ]
و روى أبو يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشفير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف خرجه ابن أبي حاتم
و قال كعب : ما خلق الله من شيء إلا و هو يسمع زفير جهنم ن غدوة و عشية إلا الثقلين اللذين عليهما الحساب و العذاب خرجه الجوزجاني
و في كتاب الزهد لهناد بن السري عن مغيث بن سمي قال : إن لجهنم كل يوم زفرتين يسمعهما كل شيء إلا الثقلين اللذين عليهما الحساب و العذاب
و عن الضحاك قال : إن لجهنم زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا خر ساجدا يقول : رب نفسي نفسي
و عن عبيد بن عمير قال : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك و لا نبي إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه يقول : رب نفسي نفسي
و روى ابن أبي الدنيا و غيره عن الضحاك قال : ينزل الملك الأعلى في بهائه و ملكه مجنبته اليسرى جهنم فيسمعون شهيقها و زفيرها فيندون
و عن وهب بن منبه قال إذا سيرت الجبال فسمعت حسيس النار و تغيظها و زفيرها و شهيقها صرخت الجبال كما تصرخ النساء ثم يرجع أوائلها على أواخرها يدق بعضها بعضا خرجه الإمام أحمد
و في تفسير آدم بن أبي إياس عن محمد بن الفضل عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حول جهنم فتطيش عقولهم فيقول الله عز و جل : ماذا أجبتم المرسلين ؟ قالوا : لا علم لنا ثم ترد عليهم عقولهم فينطقون بحجتهم و ينطقون بعذرهم محمد بن الفضل هو ابن عطية متروك
قال آدم : و حدثنا أبو صفوان عن عاصم بن سليمان الكوزي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا } المكان البعيد : مسيرة مائة عام و ذلك أنه إذا أتي بجهنم تقاد بسعبن ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك و لو تركت لأتت على كل بر و فاجر ثم تزفر زفرة لا يبقى قطرة من دمع إلا بدرت ثم تزفر الثانية فتنقطع القلوب من أماكنها تبلغ اللهوات و الحناجر و هو قوله :
{ و بلغت القلوب الحناجر }
و عاصم الكوزي ضعيف جدا
و قال الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر : إن جهنم لتزفر زفرة تنشق منها قلوب الظلمة ثم تزفر أخرى فيطيرون في الأرض حتى يقعوا على رؤوسهم خرجه عبد الله بن الإمام أحمد
و روى أسد بن مرسى عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثله
و خرج أبو النعيم و غيره من رواية عبد الرحمن بن حاطب قال عمر رضي الله عنه الله عنه لكعب : خوفنا قال : و الذي نفسي بيديه إن النار لتقرب يوم القيامة لها زفير و شهيق حتى إذا دنت و قربت زفرت زفرة ما خلق الله من نبي و لا شهيد إلا وجب لركبتيه ساقطا حتى يقول كل نبي و كل صديق و كل شهيد : اللهم لا أكلفك اليوم إلا نفسي و لو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبيا لظننت أن لا تنجو قال عمر : و الله إن الأمر لشديد
و من رواية شريح بن عبيد قال : قال عمر لكعب : خوفنا قال : و الله لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا غيره إلا خر جاثيا على ركبتيه يقول : رب نفسي نفسي و حتى نبينا محمد و إبراهيم و إسحاق عليهم الصلاة و السلام قال : فأبكى القوم حتى نشجوا
و في رواية مطرف بن الشخير عن كعب قال : كنت عند عمر فقال : يا كعب خوفنا فقلت يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا ساجدا على ركبتيه حتى إن إبراهيم خليله عليه السلام ليخر جاثيا و يقول : نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي قال : فأطرق عمر مليا قال : قلت : يا أمير المؤمنين أولستم تجدون هذا في كتاب الله عز و جل ؟ قال عمر : كيف ؟ يقول الله عز و جل في هذه الآية :
{ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون }
و كان سعيد الجرمي يقول في موعظته إذا وصف الخائفين كأن زفير النار في آذانهم
و عن الحسن أنه قال في وصفهم : إذا مروا بآية فيها ذكر الجنة بكوا شوقا و إذا مر بآية فيها ذكر النار ضجوا صراخا كأن زفير جهنم عند أصول آذانهم
و روى ابن أبي الدنبا و غيره عن أبي وائل قال خرجنا مع ابن مسعود و معنا الربيع بن خيثم فأتينا على تنور على شاطئ الفرات فلما رآه عبد الله و النار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية
{ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا } إلى قوله : { ثبورا }
فصعق الربيع بن خيثم فاحتملناه إلى أهله فرابطه عبد الله حتى صلى الناس الظهر فلم يفق ثم رابطه العصر فلم يفق ثم رابطه إلى المغرب فأفاق فرجع عبد الله إلى أهله
و من رواية ممسع بن عاصم قال : بت أنا و عبد العزيز بن سليمان و كلاب ابن الجري و سلمان الأعرج على ساحل من بعض السواحل فبكى كلاب حتى خشيت أن يموت ثم بكى عبد العزيز لبكائه ثم بكى سلمان لبكائهما و بكيت و لله لبكائهم لا أدري ما أبكاهم فلما كان بعد سألت عبد العزيز فقلت : يا أبا محمد ما الذي أبكاك ليلتئذ ؟ قال : إني و الله نظرت إلى أمواج البحر تموج و تجيل فذكرت أطباق النيران و زفراتها فذلك الذي أبكاني ثم سألت كلابا أيضا نحوا مما سألت عبد العزيز فو الله لكأنما سمع قصته فقال لي مثل ذلك ثم سألت الأعرج نحوا مما سألتهما فقال لي : ما كان في القوم شر مني ما كان بكائي إلا لبكائهم رحمة لهم مما كانوا يصنعون بأنفسهم رحمهم الله تعالى
الباب الثالث عشر ـ في ذكر دخانها و شررها و لهبها
قال الله تعالى : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم }
قال ابن عباس : ظل من دخان و كذا قال مجاهد و عكرمة و غير واحد
و عن مجاهد قال : ظل من دخان جهنم و هو السموم و قال أبو مالك : اليحموم : ظل من دخان جهنم قال الحسن و قتادة في قوله : { لا بارد و لا كريم } : لا بارد المدخل و لا كريم المنظر و السموم : هو الريح الحارة قاله قتادة و غيره
و هذه الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب و الحر و هو ثلاثة : الماء و الهواء و الظل فهواء جهنم : السموم و هو الريح الحارة الشديدة الحر و ماؤها : الحميم الذي قد اشتد حره و ظلها : اليحموم و هو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه و منه
و قال تعالى : { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب }
قال مجاهد : هو دخان جهنم : اللهب الأخضر و الأسود و الأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت
قال السدي في قوله : { إنها ترمي بشرر كالقصر }
قال : زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد و قال القرظي : على جهنم سور فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور و لون القار
و قال الحسن و الضحاك في قوله : { كالقصر } : هو كأصول الشجر العظام و قال مجاهد : قطع الشجر و الجبل و صح عن ابن مسعود قال : شرر كالقصور و المدائن و روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : { شرر كالقصر } يقول : كالقصور العظيم
و في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : كنا نرفع من الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل نرفعه للشتاء نسميه القصر
و قوله : { كأنه جمالة صفر } قال ابن عباس : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال و قال مجاهد : هي حبال الجسور و قالت طائفة : هي الإبل منهم الحسن و قتادة و الضحاك و قالوا : الصفر هي السود و روي عن مجاهد أيضا
و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : في قوله : { جمالة صفر } قال : يقول : قطع النحاس
قال الله عز و جل : { يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { شواظ من نار } و يقول : لهب النار { و نحاس } يقول : دخان النار و كذا قال سعيد بن جبير و أبو صالح و غيرهما : إن النحاس دخان النار و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس { شواظ من نار } قال : دخان و قال أبو صالح الشواظ : اللهب الذي فوق النار و دون الدخان قال منصور عن مجاهد : الشواظ : هو اللهب الأخضر المتقطع و عنه قال : الشواظ : قطعة من النار فيها خضرة
عليه السلام الحسن بن منصور : أخرج الفضيل بن عياض رأسه من خوخة فقال منصور عن مجاهد : { يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران } ثم أدخل رأسه فانتحب ثم أخرج رأسه فقال : هو اللهب المنقطع و لم يستطع أن يجيز الحديث
و خرج النسائي و الترمذي [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف امرئ أبدا ] و خرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم و نحوه
الباب الرابع عشر ـ في ذكر أوديتها و جبالها و آبارها و جبابها و عيونها
و أنهارها
و روى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ويل : واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ] خرجه الإمام أحمد و الترمذي و لفظه : [ واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ] و ذكر أنه لا يعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج و لكن خرجه ابن حبان و الحاكم في صحيحيهما من حديث عمرو بن الحارث عن دراج به و خرج ابن جرير الطبري بإسناده فيه نظر [ عن عثمان عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : الويل جبل من نار في جهنم ]
و خرج البزار بإسناد مجهول [ عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه و آله وسلم يقول : إن في النار حجرا يقال له : ويل يصعد عليه العرفاء و ينزلون منه ]
روى ابن أبي حاتم من طريق الحماني حدثنا خلف بن خليفة عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : ويل واد في جهنم من قيح
و من طريق المحاربي عن العلاء بن المسيب عن أبيه و عاصم بن أبي النجود قالا : واد في جهنم يقال له : ويل ينصب فيه صديد أهل النار
و من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : الويل واد في جهنم لوا سيرت فيه الجبال لماعت من حره
و عن مالك بن دينار قال : الويل : واد في جهنم فيه ألوان العذاب
و عن أبي عياض قال : ويل : واد يسيل من صديد
و خرج ابن جرير بإسناده عن أبي عياض قال : ويل : صهريج في أصل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار و عن سفيان نحوه
و روى الأعمش عن زر عن وائل بن مهانة قال : الويل واد في جهنم من قيح

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : سأرهقه صعودا
و روى دراج [ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال في قوله تعالى : { سأرهقه صعودا } قال : جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده عليه ذابت و إذا رفعها عادت و إذا وضع رجله عليه ذابت فإذا رفعها عادت يصعد سبعين خريفا ثم يهوي مثلها كذلك ] و هذا الحديث خرجه الإمام أحمد و غيره بمعناه و خرجه الترمذي مختصرا و لفظه : [ الصعود : جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا و يهوي فيه كذلك أبدا ] و قال حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج و لكن رواه أيضا عمرو بن الحارث عن دراج به خرجه من طريقه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و روى هذا الحديث أيضا شريك عن عمار الدهني عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم خرجه من طريقه البزار و قال : تفرد برفعه شريك و وقفه سفيان على عمار ـ يعني أنه وقفه على أبي سعيد ـ و لم يرفعه و رواه أيضا عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم
و روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { سأرهقه صعودا } قال : جبل في النار و رويناه من طريق فيه ضعف عن الضحاك عن ابن عباس قال : هو جبل من النار زلق كلما صعده الفاجر زلق فهوى في النار
و عن ابن السائب قال : هو جبل من صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها رد إلى أسفاها ثم يكلف أيضا أن يصعدها فذلك دأبه أبدا و يجذب من أمامه بسلاسل الحديد و يضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين سنة
و قال أيوب بن بشير عن شفي بن ماتع قال : في جهنم جبل يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه خرجه ابن أبي الدنيا

فصل ـ في أودية جهنم
و روى عطية عن ابن عمر في قوله تعالى :
{ فلا اقتحم العقبة }
قال : جبل في جهنم و قد سبق ذكره في الباب السادس و ذكرنا فيه عن أبي رجاء قال : بلغني أن مطلعها سبعة آلاف سنة و أإن مهبطها سبعة آلاف سنة
و روى لقمان بن عامر عن أبي أمامة مرفوعا : [ غي و أثام : نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ] و قد سبق ذكره مرفوعا و موقوفا بلفظ آخر و هما بئران
و روى أيضا عن ابن عباس مرفوعا : [ الغي واد في جهنم ] و لا يصح رفعه
وعن إسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله { فسوف يلقون غيا }
قال واد في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و خرجه البيهقي و لفظه : [ الغي : نهر حميم في النار يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات ] و خرجه أيضا من وجه آخر عن ابن إسحاق عن البراء بن عازب بنحوه و رواه عمرو بن قيس عن عطية عنة أبي عبيدة قال : هو نهر في جهنم و قال همام عن قتادة قال : [ أثام : واد في جهنم ] و كذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد
و قال شفي بن ماتع : إن في جهنم قصرا يقال له : هوى يرمى الكافر من أعلاه أربعين عاما قبل أن يبلغ أصله قال الله :
{ و من يحلل عليه غضبي فقد هوى }
و إن في جهنم واديا يدعى أثاما فيه حيات و عقارب فقار إحداهن مقدار سبعين قلة سم و العقرب منهن مثل البغلة الموكفة تلدغ الرجل فلا يلهبه ما يجد من حر جهنم حمو لدغتها فهو لمن خلق له و إن في جهنم واديا يدعى غيا يسيل قيحا و دما و إن في جهنم سبعين داء كل داء مثل جزء من أجزاء جهنم خرجه ابن أبي الدنيا
و ورى يزيد بن درهم عن أنس في قوله تعالى : { و جعلنا بينهم موبقا }
قال : هو واد من قيح في جهنم و في رواية : نهر في جهنم من قيح ودم
خرجه عبد الله بن الإمام أحمد
و عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد في النار عميق
و روى النعمان بن عبد السلام حدثنا أبو مغلس بن علي عن أيوب بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن رجل عن عمرو بن عبسة قال : الفلق بئر في جهنم فإذا سعرت فيه تسعر و إن جهنمك لتتأذى منه كما يتأذى بنو آدم من جهنم خرجه ابن أبي الدنيا و خرجه ابن أبي حاتم و عنده عن ابن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن عبسة
و خرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن زيد بن علي عن آبائه قالوا : الفلق جب في قعر جهنم عليه غطاء فإذا كشف عنه خرجت منه نار تضج منه جهنم من شدة حر ما يخرج منه
و من طريق ابن لهيعة عن ابن عجلان عن أبي عبيد أن كعب الأحبار دخل كنيسة فأعجبه حسنها فقال : أحسن عملا و أضل قوما رضيت لهم الفلق قالوا : و ما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره
و في تفسير ابن جرير من طريق عبد الجبار الخولاني قال : قدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الشام فنظر إلى دور أهل الذمة و ما هم فيه من العيش و النضارة و ما وسع عليهم في دنياهم فقال : لا أبالي أليس من ورائهم الفلق ؟ ! قيل : و ما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح هوى أهل النار
و فيه أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا : [ الفلق جب في جهنم مغطى ]
و روي عن ابن عباس أن الفلق سجن في جهنم
و روى يحيى بن يمان عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن سعيد جبير قال السعير : واد من قيح في جهنم : خرجه ابن أبي حاتم
و قال خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه : إن جهنم لآبارا من ألقي فيها تردى سبعين عاما ثم ينزع بهذه الآية :
{ اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } خرجه ابن أبي الدنيا
فصل ـ في جهنم واد هو : جب الحزن
و روى عمار بن سيف [ عن أبي معان عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا : و ما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة ! قيل : يا رسول الله من يدخله ؟ قال : القراء المراؤون بأعمالهم ] خرجه الترمذي و قال : غريب و خرجه ابن ماجه بمعناه و في رواية : أربعمائة مرة و زاد في آخره [ و إن من أبغض القراء إلى الله عز و جل الذين يزورون الأمراء الجورة ]
و في هذا الإسناد ضعيف و خرج الطبراني نحوه من حديث الحسن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم و خرج العقيلي نحوه من حديث علي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم من طريق أبي بكر الداهري و هو ضعيف جدا
و روى الإمام أحمد في الزهد بإسناده عن عمران القصير قال : بلغني أن في جهنم واديا تستعيذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة مخافة أن يرسل عليها فيأكلها أعد الله ذلك الوادي للمرائين من القراء
و قال بكر بن محمد العابد عن سفيان الثوري : إن في جهنم لواديا تتعوذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة يسكنه القراء الزائرون للملوك
و روينا من حديث معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال بكر بن خنيس : إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات و إن في الوادي لجبا يتعوذ الوادي و جهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات و إن في الجب لحية يتعوذ الوادي و الجب و جهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات يبدأ بفسقة القراء فيقولون : أي ربنا بدئ بنا قبل عبدة الأوثان ؟ ! قيل لهم : ليس من يعلم كمن لا يعلم
و روى هناد بن السري بإسناده عن حميد بن هلال قال : نبئت أن كعبا قال : إن في أسفل درك جهنم تنانير ضيقها كضيق زج أحدكم من الأرض يقال له : جب الحزن يدخلها قوم بأعمالهم فيطبق عليهم و خرجه ابن أبي حاتم إلا أن عنده عن حميد بن هلال قال : لا أعلمه إلا عن بشير بن كعب قال : إن في النار لجبا يقال له : جب الحزن لهو أضيق على من دخل فيه من زج أحدكم على رمحه يطبقها الله على من يشاء من عباده أو قال : يضيقها على من يشاء من عباده سخطا عليهم ثم لا يخرجهم منها آخر الأبد
و روى ابن المبارك [ عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إن في جهنم لواديا يقال له : لملم إن أودية جهنم تستعيذ بالله من حره ] خرجه ابن أبي الدنيا و غيره و يحيى ضعفوه
و روى ابن أبي الدنيا و غيره من رواية الأزهر بن سنان القرشي [ عن محمد ابن واسع عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن في جهنم واديا و لذلك الوادي بئر يقال له : هبهب حق على الله أن يسكنها كل جبار ] أزهر بن سنان ضعفوه
و الصحيح ما خرجه الإمام أحمد و غيره من طريق هشام بن حسان عن محمد بن واسع قال : قلت لبلال بن أبي بردة و أرسل إلي : إنه بلغني أن في النار بئرا يقال له : جب الحزن يؤخذ المتكبرون فيجعلون في توابيت من حديد من نار ثم يجعلون في تلك البئر ثم تطبق عليهم جهنم من فوقهم فبكى هلال
و روى عمرو بن شعيب [ عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له : بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و قال : حسن و روي موقوفا على عبد الله بن عمرو و روي من وجه آخر قال : [ في النار قصر يقال له : بولس فتعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و الترمذي و قال : حسن
و روي موقوفا على عبد الله بن عمرو و روي من وجه آخر قال : [ في النار قصر يقال له : بولس يدخله الجبارون و المتكبرون فيه نار الأنيار و شر الأشرار و حزن الأحزان و موت الأموات و الشر و أبيار الشر ]
و قال ابن لهيعة : حدثنا أبو قبيل قال : سمعت رجلا يقول : سمعت عبد الله ابن عمرو يقول : إن في النار سجنا لا يدخله إلا من كان من شر الأشرار قراره نار و سقفه نار و جدرانه نار و تلفح منه نار خرجه عبد الله بن الإمام أحمد
و خرجه ابن أبي الدنيا و عنده : فإذا دخلوا قيل بالنار على أفواههم
و روى إبراهيم بن الفضل المدني [ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن بشر بن عاصم الجشمي حدثه عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول : لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا أوفقه الله على جسر جهنم فزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج لا يبقى منه عضو إلا فارق صاحبه فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم لا يبلغ قعره سبعين خريفا ] و إن عمر سأل سلمان و أبا ذر : هل سمعتما ذلك من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ؟ قالا : نعم خرجه ابن أبي الدنيا و إبراهيم بن الفضل ضعيف
و روى إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن الحجاج بن عبد الله الشمالي ـ و كان قد رأى النبي صلى الله عليه و آله وسلم و حج معه حجة الوداع ـ قال : إن سفيان بن مجيب حدثه ـ و كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و قدمائهم ـ قال : إن في جهنم سبعين ألف واد في كل واد سبعون ألف شعب سبعون ألف ثعبان و سبعون ألف عقرب لا ينتهي الكافر و المنافق حتى يواقع ذلك كله قال أبو عمر بن عبد البر : هذا منكر حديث لا يصح
و خرج ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو ابن طلحة عن عطاء بن يسار قال : إن في النار سبعين ألف واد في كل واد سبعون ألف شعب في كل شعب سبعون ألف جحر في كل جحر حية تأكل وجوه أهل النار
و قال المبارك : أنبأنا عوف عن أبي المنهال الرياحي أنه بلغه أن في النار أودية في ضحضاح من النار في تلك الأودية حيات أمثال أجواز الأبل و عقارب كالبغال الحبش فإذا سقط إليهن شيء من أهل النار أنشأن فيه لسعا و نشطا حتى يستغيثوا بالنار فرارا منهن و هربا منهن خرجه ابن أبي الدنيا
و خرج الجوزجاني من رواية الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال : إن لجهنم جبا فيه هوام فيه حيات أمثال البخت و عقارب أمثال البغال الدلم يستغيث أهل النار إلى تلك الحيات أو الساحل فتثب إليهم فتأخذهم بأشعارهم و شفاههم فتكشطهم حتى تبلغ أقدامهم فيستغيثون بالرجوع إلى النار فيقولون النار النار و تتبعهم حتى تجد حرها فترجع و هي في أسراب
و قال مطهر بن الهيثم بن الحجاج عن أبيه : إن طاووسا قال لسليمان بن عبد الملك : يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جب في جهنم هوت فيها سبعين خريفا حتى أستقرت قرارها أتدري لمن أعدها الله ؟ قال : لا قال : و يلك ! لمن أعدها الله ؟ قال : لمن أشركه الله في حكمه فجار قال : فبكى لها خرجه أبو نعيم في الحلية
و قال أحمد بن أبي الحواري : حدثني الطيب أبو الحسن علي عن الحسن ابن اليحيى في الحلية عن الحسن بن يحيى الخشني قال : ما في جهنم دار و لا مغار و لا غل و لا قيد و لا سلسلة إلا اسم صاحبها عليها مكتوب قال أحمد : فحدثت به أبا سليمان فبكى ثم قال : ويحك ! فكيف به أن لو جميع هذا كله عليه فجعل الغل في عنقه و القيد في رجله و السلسة في عنقه ثم أدخل النار و أدخل المغار ؟ نعوذ بالله من ذلك
الباب الخامس عشر ـ في ذكر سلاسلها و اغلالها و أنكالها
قال الله تعالى : { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل و أغلالا و سعيرا }
قال الله تعالى : { و جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا }
و قال الله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون }
و قال : { خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه }
و قال تعالى : { إن لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما }
و قرأ ابن عباس
{ و السلاسل يسحبون } بنصب السلاسل و فتح ياء يسحبون قال : هو أشد عليهم هم يسحبون السلاسل خرجه ابن أبي حاتم
فهذه ثلاثة أنواع :
أحدها : الأغلال : و هي في الأعناق كما ذكر سبحانه
قال الحسن بن صالح : الغل : تغل اليد الواحدة إلى العنق و الصفد اليدان إلى العنق خرجه ابن أبي الدنيا
و قال أسباط عن السدي الأصفاد تجمع اليدين إلى العنق
و قال معمر عن قتادة في قوله : { مقرنين في الأصفاد } قال : مقرنين في القيود و الأغلال
قال عينة بن الغصن عن الحسن : إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب عز و جل و لكنها إذا طفا بهم اللهب أرستهم قال : ثم خر الحسن مغشيا عليه ! !
و قال سيار بن حاتم : حدثنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنه ذكر النار فقال : لو أن غلا منها وضع على الجبال لقصمها إلى الماء الأسود و لو أن ذراعا من السلسلة وضع على جبل لرضه
و روى ابن أبي الحاتم بإسناده عن موسى بن أبي عائشة أنه قرأ قوله تعالى :
{ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة }
قال : تشد أيديهم بالأغلال في النار فيستقبلون العذاب بوجوههم قد شدت أيديهم فلا يقدرون على أن يتقوا بها كلما جاء نوع من العذاب يستقبلون بوجوههم
و بإسناده عن فيض بن إسحاق عن فضيل بن عياض : إذا قال الرب تبارك و تعالى : { خذوه فغلوه } تبدره سبعون ألف ملك كلهم يتبدر أيهم يجعل الغل في عنقه
النوع الثاني : الأنكال : و هي القيود قال مجاهد و الحسن و عكرمة و غيرهم قال الحسن : قيود من نار قال أبو عمران الجوني : قيود لا تحل و الله أبدا و و احد الأنكال : نكل و سميت القيود أنكالا لأنه ينكل بها أي يمنع
و روى أبو سنان عن الحسن : أما و عزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه و لكن قيدهم لترسي في النار
و قال الأعمش : الصفد : القيود : و قوله تعالى : { مقرنين في الأصفاد } القيود و قد سبق عن أبي صالح في قوله : { في عمد ممددة } قال : القيود الطوال
النوع الثالث : السلاسل : خرج الإمام أحمد و غيره من طريق أبي السمح [ عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : لو أن رصاصة مثل هذه ـ و أشار إلى مثل الجمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض و هي مسيرة خمسمائة عام لبلغت الأرض قبل الليل و لو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل و النهار قبل أن تبلغ أصولها ] غريب و في رفعه نظر و الله أعلم
و في حديث عدي الكندي [ عن عمر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : لو أن حلقة من سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لانقضت و لم يردها شيء حتى تنتهي إلى الأرض السابعة السفلى ] خرجه الطبراني و سبق على إسناده
و روى سفيان عن بشير عن نوف الشامي في قوله تعالى :
{ ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه }
قال : إن الذراع سبعون باعا و الباع من ههنا إلى مكة ـ و هو يومئذ بالكوفة
و قال ابن المبارك : أنبأنا بكار عن عبد الله سمع ابن أبي مليكة يحدث أن كعبا قال : إن حلقة من السلسلة التي قال الله : { ذرعها سبعون ذراعا } إن حلقة منها أكثر من حديد الدنيا
و قال ابن جريح في قوله : { ذرعها سبعون ذراعا } قال : بذراع الملك
و قال ابن المنكدر : لو جمع حديد الدنيا كله ما خلا منها و ما بقي ما عدل حلقة من الحلق التي ذكر الله في كتابه تعالى فقال : { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } أخرجه أبو نعيم
قال ابن المبارك عن سفيان في قوله : { فاسلكوه } قال : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج منه
و قال ابن جريح : قال ابن عباس : السلسلة تدخل في أسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حتى يشوي خرجه ابن أبي الحاتم و خرج أيضا من رواية العوفي عن ابن عباس قال : تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه
و خرج ابن أبي الدنيا من طريق خلف بن خليفة عن أبي هاشم قال : يجعل لهم أوتاد في جهنم فيها سلاسل فتلقى في أعناقهم فتزفر جهنم زفرة فتذهب بهم مسيرة خمسمائة سنة ثم تجيء بهم في يوم فذلك قوله :
{ و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون }
و من طريق أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير قال : لو انفلت رجل من أهل النار بسلسلة لزالت الجبال
و قال جويبر عن الضحاك في قوله : { فيؤخذ بالنواصي و الأقدام }
يجمع بين ناصيته و قدميه في سلسلة من وراء ظهره
و قال السدي : في هذه الآية : يجمع بين ناصية الكافر و قدميه فتربط ناصيته بقدمه و ظهره و يفتل
و ذكر الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : يؤخذ بناصيته و قدميه و يكسر ظهره كما يكسر حطب في التنور
و قال سيار بن حاتم : حدثنا مسكين عن حوشب عن الحسن قال : إن جهنم ليغلى عليها من الدهر إلى يوم القيامة يحمى طعامها و شرابها و أغلالها و لو أن غلا منها وضع على الجبال لقمصها إلى الماء الأسود و لو أن ذراعا من السلسلة وضع على جبل لرضه و لو أن جبلا كان بينه و بين عذاب الله عز و جل مسيرة خمسمائة عام لذاب ذلك الجبل و إنهم ليجمعون في السلسلة من آخرهم فتأكلهم النار و تبقى الأرواح و رواه ابن أبي الدنيا [ عن عبد الله بن عمر الجشمي عن المنهال بن عيسى العبدي عن حوشب عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكره بمعناه و زاد في آخره : تبقى الأرواح في الحناجر تصرخ ] و الموقوف أشبه
و قال عبد الله بن الإمام أحمد : أخبرت عن يسار عن ابن المعزى ـ و كان من خيار الناس ـ قال : بلغني أن الأبدان تذهب و تبقى الأرواح في السلاسل
و خرج الطبراني و ابن أبي حاتم [ من طريق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ينشئ الله سبحانه لأهل النار سحابة سوداء مظلمة فيقال : يا أهل النار أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحابة الدنيا فيقولون : يا ربنا الشراب فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم و سلاسل تزيد في سلاسلهم و جمرا يلتهب عليهم ] و خرجه ابن أبي الدنيا موقوفا لم يرفعه
و روى أبو جعفر الرازي [ عن الربيع بن أنس عن أبي العالية و غيره عن أبي هريرة فذكر قصة الإسراء بطولها و فيها قال : ثم أتى على واد ـ يعني النبي صلى الله عليه و آله وسلم ـ فسمعه صوتا منكرا و وجد ريحا منتنة فقال : ما هذا يا جبريل ؟ فقال : هذا صوت جهنم تقولى : رب آتني ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي و أغلالي و سعيري و حميمي و غساقي و عذابي و قد بعد قعري و اشتد حري فآتني ما وعدتني قال : لك كل مشرك و مشركة و كافر و كافرة و كل خبيث و خبيثة و كل جبار لا يؤمن بيوم الحساب ]

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : و لهم مقامع من حديد
قال الله تعالى : { ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها }
قال جويبر عن الضحاك : { مقامع من حديد } أي مطارق
و روى ابن لهيعة [ عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان لما أقلوه من الأرض ] خرجه الإمام أحمد و خرج أيضا بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : [ لو ضرب الجبل بمقاطع من حديد لتفتت ثم عاد ]
قال الإمام أحمد في كتاب الزهد : حدثنا سيار حدثنا جعفر سمعت مالك بن دينار قال : إذا أحس أهل النار في النار بضرب المقامع انغمسوا في حياض الحميم فيذهبون سفالا كما يغرق الرجل في الماء في الدنيا و يذهب سفالا سفالا
قال سعيد عن قتادة : قال عمر بن الخطاب : ذكروهم النار لعلهم يفرقون فإن حرها شديد و قعرها بعيد و شرابها الصديد و مقامعها الحديد
و ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن صالح المري أنه قرأ على بعض العباد :
{ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون }
قال : فشهق الرجل شهقة فإذا هو قد يبس مغشيا قال : فخرجنا من عنده و تركناه
و قرأ رجل على يزيد الضبي :
{ و ترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد }
فجعل يزيد يبكي حتى غشي عليه خرجه عبد الله بن الإمام أحمد
و قد سبق عن مالك بن دينار أنه قام ليلة في وسط الدار إلى الصباح فقال : ما زال أهل النار يعرضون علي في سلاسلهم و أغلالهم حتى الصباح

الباب السادس عشر ـ في ذكر حجارتها
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة }
و قال : { فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين }
و اختلف المفسرون في هذه الحجارة فقالت طائفة منهم الربيع بن أنس : الحجارة هي الأصنام التي عبدت من دون الله و استشهد بعضهم لهذا بقوله تعالى :
{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها }
قال ابن أبي الحاتم : [ حدثنا أبو صالح حدثنا معاوية بن أبي صالح عن أبي بكر بن أبي مريم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال في قوله : { إذا الشمس كورت } قال : كورت في جهنم { و إذا النجوم انكدرت } قال : انكدرت في جهنم و كل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيس و أمه و لو رضيا لدخلاها ] غريب جدا و أبو بكر بن أبي مريم فيه ضعف
و قد روي أن الشمس و القمر يكوران في النار و رواه عبد العزيز بن المختار عن عبد الله ـ هو ابن فيروز الداناج ـ قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يحدث [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : الشمس و القمر ثوران يكوران في النار يوم القيامة ] خرجه البراز و غيره
و خرجه البخاري مختصرا [ و لفظه الشمس و القمر يكوران يوم القيامة ]
و خرج أبو يعلى من رواية درست بن زياد [ عن يزيد الرشاقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : الشمس و القمر ثوران عقيران في النار ] و هذا إسناد ضعيف جدا
و قد قيل : إن المعنى في ذلك أن الكفار لما عبدوا الآلهة من دون الله و اعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله و تقربهم إليه عوقبوا بأن جعلت معهم في النار إهانة لها و إذلالا و نكاية لهم و إبلاغا في حسرتهم و ندامتهم فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه و حسرته
و لهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم التي أضلتهم قال الله تعالى :
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون }
قال معمر عن سعيد الجريري فيلا هذه الآيات : بلغنا أن الكفار إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بشيطانه فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حين يقول :
{ يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين }
و قال أبو الأشهب عن سعيد الجريري عن عباس الجشمي : إن الكافر إذا خرج من قبره وجد عند رأسه مثل السرحة المحترقة شيطانة فتأخذه بيده فتقول : أنا قرينتك أدخل أنا و أنت جهنم فذلك قوله : { يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين } خرجها ابن أبي الحاتم و غيره و السرحة : شجرة كبيرة
و قد أخبر الله تعالى عن حنق الكفار على من أضلهم بقوله :
{ و قال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن و الإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين }
فإذا قرن أحدهم بمن أضله في العذاب كان أشد لعذابه فإن المكان المتسع يضيق على المتباغضين فكيف باقترانهما في المكان الضيق
و أخبر الله تعالى عن اختصام الكفار مع من كان معهم من الشياطين و من عبدوه من دون الله تعالى قال الله تعالى :
{ وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون } الآيات
و من جملة أنواع عذاب أهل النار فيها تلاعنهم و تباغضهم و تبرؤ بعضهم من بعض و دعاء بعضهم على بعض بمضاعفة العذاب كما قال الله تعالى :
{ كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار }
و قال الله تعالى : { و إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا }
و قال الله تعالى : { هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم } إلى قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار }
و حينئذ فلا يبعد أن يقرن كل كافر بشيطانه الذي أضله و بصورة من عبده من دون الله من الحجارة
و قال ابن أبي الدنيا : [ حدثنا عبد الله بن وضاح حدثنا عبادة بن كليب عن محمد بن هاشم قال : لما نزلت هذه الآية { نارا وقودها الناس و الحجارة } و قرأها النبي صلى الله عليه و آله وسلم فسمعها شاب إلى جنبه فصعق فجعل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم رأسه في حجره رحمة له فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم فتح عينيه فقال : بأبي أنت و أمي مثل أي شيء الحجر ؟ قال : أما يكفيك ما أصابك على أن الحجر الواحد منها
لو وضع على جبال الدنيا كلها لذابت منه و إن مع كل إنسان منها حجرا و شيطانا ]
و قال الحسن في موعظته : أذكرك الله ما رحمت نفسك فإنك قد حذرت نارا لا تطفأ يهوي فيها من صار إليها و يتردد بين أطباقها قرين شيطان و لزيق حجر يتلهب في وجهه شعلها :
{ لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها }
و أكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار و يقال : إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها من الحجارة : سرعة الإيقاد و نتن الرائحة و كثرة الدخان و شدة الالتصاق بالأبدان و قوة حرها إذا أحميت
قال عبد الله بن عمير عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود في قوله تعالى :
{ وقودها الناس و الحجارة }
قال : هي حجارة من الكبريت خلقها الله يوم خلق السموات و الأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين خرجه ابن أبي حاتم و الحاكم في المستدرك و قال : صحيح على شرط الشيخين
و قال السدي في تفسيره عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة عن ابن مسعود و عن أناس من الصحابة
{ فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة }
أما الحجارة حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار و قال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة و هكذا قال أبو جعفر و ابن جريح و عمرو بن دينار و غيرهم
و قال ابن وهب : [ أخبرني عبد الله بن عياش أخبرني عبد الله بن سليمان عن دراج عن أبي الهيثم عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة فالعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء و الحوت على صخرة و الصخرة بيد ملك و الثانية سجن الريح فلما أراد الله هلاك عاد أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا قال : يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر ثور قال له الجبار تبارك و تعالى : إذن يكفي الأرض و من عليها و لكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه :
{ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم }
و الثالثة فيها حجارة جهنم و الرابعة فيها كبريت جهنم قالوا : يا رسول الله أللنار كبريت ؟ ! قال : نعم و الذي نفسي بيده إن فيها لأودية من كبريت لو أرسلت فيها الجبال الرواسي لماعت و الخامسة فيها حيات جهنم و إن أفواهها كالأودية تلسع الكافر اللسعة فلا يبقى منه لحم على وضم و السادسة فيها عقارب جهنم و إن أدنى عقربة منها كالبغال الموكفة تضرب الكافر ضربة تنسيه ضربتها حر جهنم و السابعة سقر و فيها إبليس مصفد بالحديد أمامه و يده من خلفه فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء من عباده أطلقه ] خرجه الحاكم في آخر المستدرك و قال : تفرد به أبو السمح و قد ذكرت عدالته بنص الإمام يحيى بن معين و الحديث صحيح و لم يخرجاه و قال بعض الحفاظ المتأخرين : و هو حديث منكر و عبد الله بن عياش القتباني ضعفه أبو داود و عند مسلم أنه ثقة و دراج كثير المناكير و الله أعلم
قلت : رفعه منكر جدا و لعله موقوف و غلط بعضهم فرفعه و روى عطاء ابن يسار عن كعب من قوله نحو هذا الكلام أيضا
[ و عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم تلا هذه الآية :
{ قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة }
و عنده بعض أصحابه و فيهم شيخ فقال الشيخ : يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : و الذي نفسي بيده إن صخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها فوقع الشيخ مغشيا عليه فوضع النبي صلى الله عليه و آله وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي فناداه : قل : لا إله إلا الله فقالها فبشره بالجنة فقال أصحابه : يا رسول الله أمن بيننا ؟ قال : نعم يقول الله تبارك و تعالى :
{ ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد } ] خرجه ابن أبي الدنيا
الباب السابع عشر ـ في ذكر حياتها و عقاربها
قد تقدم في الباب الثامن و الرابع عشر و السادس عشر بعض ذكر حيات جهنم و عقاربها و خرج الإمام أحمد [ من حديث ابن لهيعة عن دراج سمعت عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إن في النار حيات كأعناق البخاتي تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموها إلى أربعين خريفا و إن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة تسلع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين سنة ] و خرجه الحاكم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به
و روى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود في قوله تعالى : { زدناهم عذابا فوق العذاب }
قال : عقارب لها أنياب كالنخل الطوال و خرجه الحاكم و قال : صحيح على شرط الشيخين و في رواية عنه قال : زيدوا عقارب من نار كالبغال الدهم أنيابها كالنخل خرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن المسعودي عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود و قول من قال : عن عبد الله بن مرة عن مسرق أصح
و خرج ابن أبي حاتم من رواية سفيان عن رجل عن مرة عن عبد الله في قوله :
{ عذابا ضعفا من النار }
قال : حيات و أفاعي و روى السدي عن مرة عن عبد الله في هذه الآية قال : أفاعي في النار
و روى ابن وهب عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : إن لجهنم لسواحل فيها حيات و عقارب أعناقها كأعناق البخت
و خرج ابن أبي الدنيا و غيره من طريق مجاهد عن يزيد بن شجرة قال : إن لجهنم جبابا في سواحل كسواحل البحر فيه هوام و حيات كالبخاتي و عقارب كالبغال الذل فإذا سأل أهل النار التخفيف قيل لهم : اخرجوا إلى السواحل فتأخذهم تلك الهوام بشفاههم و جنوبهم و ما شاء الله من ذلك فتكشطها فيرجعون فيبادرون إلى معظم النيران و يسلط عليهم الجرب حتى إن أحدهم ليحك جلده حتى يبدو العظم فيقال : يا فلان هل يؤذيك هذا فيقول نعم فيقال له : ذلك بما كنت تؤذي المؤمنين
و روى عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال : في جهنم عقارب كأمثال الدلم لها أنياب كالرماح إذا ضربت إحداهن الكافر على رأسه ضربة تساقط لحمه على قدميه
و روى حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي عثمان قال : على الصراط حيات يلسعن أهل النار فيقولون : حس حس فذلك قوله :
{ لا يسمعون حسيسها }
و كان إبراهيم العجلي رحمه الله يقع على كتفيه و ظهره فيتأذى به فيقول لنفسه :
و أنت تأذي من حسيس بعوضة فللنار أشقى ساكنين و أوجع
الباب الثامن عشر ـ في ذكر طعام أهل النار و شرابهم فيها
قال الله تعالى : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم }
و قال : { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم }
و قال : { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هذا نزلهم يوم الدين * نحن خلقناكم فلولا تصدقون }
و قال { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا }
و خرج الترمذي و ابن ماجه في صحيحه [ من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قرأ هذه الآية :
{ اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون }
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت معايشهم فكيف بمن تكون طعامه ؟ ] و قال الترمذي : صحيح و روي موقوفا على ابن عباس
و قال ابن إسحاق : حدثني حكيم بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لما ذكر رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم شجرة الزقوم : يخوفنا بها محمد ؟ ! يا معشر قريش أتدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد ؟ قالوا : لا قال : عجوة يثرب بالزبد و الله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما فأنزل الله فيه :
{ إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم }
الآية أي ليس كما تقول و أنزل الله : { و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا }
و قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : { فتنة للظالمين } قال : زادتهم تكذيبا حين أخبرهم أن في النار شجرة قال : يخبرهم أن في النار شجرة و النار تحرق الشجر فأخبرهم أن غذاءها من النار
و قد تقدم عن ابن عباس أن شجرة الزقوم نابتة في أصل سقر و روي عن الحسن أن أصلها في قعر جهنم و أغصانها ترتفع إلى دركاتها
و قال سلام بن مسكين : سمعت الحسن تلا هذه الآية { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم } قال : إنها هناك قد حميت عليها جهنم
و قال مغيرة عن إبراهيم و أبي رزين : { كالمهل يغلي في البطون }
قال : الشجر يغلي
قال جعفر بن سليمان : سمعت أبا عمران الجوني يقول : بلغنا أنه لا ينهش منها نهشة إلا نهشت منه مثلها
و قد دل القرآن على أنهم يأكلون منها حتى تمتلئ منها بطونهم فتغلي في بطونهم كما يغلي الحميم و هو الماء الذي انتهى حره ثم بعد أكلهم منها يشربون عليه من الحميم شرب الهيم
قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة : الهيم : الإبل العطاش و قال السدي : هو داء يأخذون الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدا و عن مجاهد نحوه
و عن الضحاك في قوله : { شرب الهيم } قال : من العرب من يقول : هو الرمل و منهم من يقول : الإبل العطاش و قد روي عن ابن عباس كلا القولين و دل قوله سبحانه :
{ ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم }
على أن الحميم يشاب به ما في بطونهم من الزقوم فيصير شوبا له و قال عطاء الخراساني في هذه الآية : يقال : يخلط طعامهم و يشاب بالحميم و قال قتادة : { لشوبا من حميم } : مزاجا من حميم
و عن سعيد بن جبير قال : إذا جاع أهل النار استغاثوا من الجوع فأغيثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فانسلخت وجوههم حتى لو أن مارا مر عليهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش فاستغاثوا من العطش فأغيثوا بماء كالمهل و المهل : الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه فيصهر به ما في بطونهم و يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور
و قولهت : { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم }
أي بعد أكل الزقوم و شرب الحميم عليه و يدل هذا على أن الحميم خارج من الجحيم فهم يريدونه كما ترد الإبل الماء ثم يردون إلى الجحيم
و يدل على هذا أيضا قوله تعالى :
{ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن }
و المعنى أنهم يترددون بين جهنم و الحميم فمرة إلى هذا و مرة إلى هذا قاله قتادة و ابن جريج و غيرهما
و قال القرظي في قوله : { يطوفون بينها و بين حميم آن } قال : إن الحميم دون النار فيؤخذ العبد بناصيته فيجر في ذلك الحميم حتى يذوب اللحم و يبقى العظم و العينان في الرأس و هذا الذي يقول الله عز و جل :
{ في الحميم ثم في النار يسجرون }

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : و طعاما ذا غصة
و قال الله سبحانه و تعالى : { إن لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما }
و قال : { ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع }
روى الإمام أحمد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { طعاما ذا غصة } قال : شوك يأخذ بالحلق لا يدخل و لا يخرج
و روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { من ضريع } قال : شجر في جهنم و قال مجاهد : الضريع : الشبرق اليابس و روى أيضا عن عكرمة و قتادة و رواه العوفي عن ابن عباس : الشبرق : نبت ذو شوك لاطئ بالأرض فإذا هاج سمي ضريعا و قال قتادة : من أضرع الطعام و أبشعه
و عن سعيد بن جبير في قوله : { من ضريع } قال : من حجارة و عنه قال : الزقوم و عن أبي الحواري قال : الضريع : السلى شوك النخل و كيف يسمن شوك النخل ؟
و خرج الترمذي [ من حديث أبي الدراء عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذابى فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من و جوههم شوت وجوههم فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ] و ذكر بقية الحديث و قد روي الحديث موقوفا على أبي الدراء و قيل : وقفة أشبه
و قال سبحانه و تعالى : { فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون }
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : من غسلين قال : هو صديد أهل النار و قال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس : الغسلين : الدم و الماء يسيل من لحومهم و هو طعامهم
و عن مقاتل قال : إذا سال القيح و الدم بادروا إلى أكله قبل أن تأكله النار
و قال أبو جعفر عن الربيع بن أنس : الغسلين : شجرة في جهنم و عن الضحاك مثله
و روى خصيف عن مجاهد عن ابن عباس قال : ما أدري ما الغسلين و لكني أظنه الزقوم
و قال أبو هلال عن قتادة : هو طعام من طعام جهنم من شر طعامهم
و قال يحيى بن سلام : هو غسالة أجوافهم
قال ابن قتيبة : هو فعلين من غسلت كأنه الغسالة
قال شريح بن عبيد : قال كعب : يقول : لو دلي من غسلين دلو واحد في مطلع الشمس لغلت منه جماجم قوم في مغربها خرجه أبو نعيم
و قد روي أن بعض أهل النار يأكل لحمه و سنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله
و قال الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا }
و قد روي في حديث : [ إن أكلة الربا يبعثون تتأجج أفواههم نارا ] ثم تلا هذه الآية خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي برزة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم

فصل ـ في شراب أهل النار
و أما شرابهم فقال الله تعالى : { فشاربون عليه من الحميم }
و قال تعالى : { و سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم }
و قال تعالى : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا }
و قال تعالى : { هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج }
و قال تعالى : { ويسقى من ماء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه }
و قال تعالى : { و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا }
فهذه أربعة أنواع ذكرناها من شرابهم و قد ذكرها الله في كتابه :
النوع الأول : الحميم ـ قال عبد الله بن عيسى الخراز عن داود عن عكرمة عن ابن عباس : الحميم : الحار الذي يحرق
و قال الحسن و السدي : الحميم : الذي قد انتهى حره
و قال جويبر عن الضحاك : يسقى من حميم يغلي من يوم خلق الله السموات و الأرض إلى يوم يسقونه و يصب على رؤوسهم
و قال ابن وهب عن ابن زيد : الحميم : دموع أعينهم في النار يجتمع في حياض النار فيسقونه و قال تعالى :
{ يطوفون بينها و بين حميم آن }
قال محمد بن كعب : حميم آن : حاضر و خالفه الجمهور فقالوا : بل المراد بالآن : ما انتهى حره
و قال شبيب عن عكرمة عن ابن عباس : حميم آن : الذي قد انتهى غليه
و قال سعيد بن بشير عن قتادة : قد آن طبخه منذ خلق الله السموات و الأرض و قال الله تعالى : { تسقى من عين آنية } قال مجاهد : قد بلغ حرها و حان شربها
و عن الحسن قال : كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حره حتى لا يكون شيء أحر منه : قد آن حره فقال الله عز و جل : { من عين آنية } يقول قد أوقد الله عليها جهنم منذ خلقت و آن حرها و عنه قال : آن طبخها منذ خلق الله السموات و الأرض
و قال السدي : انتهى حرها فليس بعده حر و قد سبق حديث أبي الدرداء في دفع الحميم إليهم بكلاليب الحديد
النوع الثاني : الغساق ـ قال ابن عباس : الغساق : ما يسيل من بين جلد الكافر و لحمه و عنه قال : الغساق : الزمهرير البارد الذي يحرق من برده
و عن عبد الله بن عمرو قال : الغساق : القيح الغليظ لو أن قطرة منه تهرق في المغرب لأنتنت أهل المشرق و لو أهرقت في المشرق لأنتنت أهل المغرب
و قال مجاهد : غساق : الذي لا يستطيعون أن يذقوه من برده
و قال عطية : هو ما يغسق من جلودهم ـ يعني يسيل من جلودهم
و قال كعب : غساق : عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية و عقرب و غير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج و قد سقط جلده و لحمه عن العظام و يتعلق جلده و لحمه في عقبية و كعبيه و يجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه
و قال السدي : الغساق : الذي يسيل من أعينهم من دموعهم يسقونه مع الحميم
و روى دراج [ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لو أن دلوا من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ] خرجه الإمام أحمد و الترمذي و الحاكم و صححه
و قال بلال بن سعد : لو أن دلوا من الغساق وضع على الأرض لمات من عليها و عنه قال : لو أن قطرة منه و قعت على الأرض لأنتن من فيها خرجه أبو نعيم
و قد صرح ابن عباس في رواية عنه و مجاهد بأن الغساق ههنا هو البارد الشديد البرد و يدل عليه قوله تعالى :
{ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا }
فاستثنى من البرد الغساق و من الشراب الحميم
و قد قيل : إن الغساق هو البارد المنتن و ليس بعربي و قيل : إنه عربي و إنه فعال من غسق يغسق و الغاسق : الليل و سمي غاسقا لبرده
النوع الثالث : الصديد : ـ قال مجاهد في قوله تعالى :
{ و يسقى من ماء صديد }
قال : يعني القيح و الدم و قال قتادة : { و يسقى من ماء صديد } قال : ما يسيل من بين لحمه و جلده قال : { يتجرعه و لا يكاد يسيغه } قال قتادة : هل لكم بهذا يدان أم لكم على أن هذا صبر ؟ طاعة الله أهون عليكم ـ يا قوم ـ فأطيعوا الله و رسوله
و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في قوله :
{ ويسقى من ماء صديد * يتجرعه }
و قال : يقرب إلى فيه فيكرعه فإذا أدني منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى :
{ و سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم }
و قال : { و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب } ]
و روى أبو يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال : في جهنم أودية من قيح تكتاز ثم تصب في فيه
و في صحيح مسلم [ عن جابر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن على الله عهدا لمن شرب المسكرات ليسقيه من طينة الخبال قالوا : يا رسول الله ! و ما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ]
و خرج الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه و ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم نحوه إلا أنه ذكر ذلك في المرة الرابعة و في بعض الروايات من عين الخبال
و خرج الترمذي [ من حديث عبد الله بن عمر نحوه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : من نهر الخبال ] قيل : يا أبا عبد الرحمن ما نهر الخبال ؟ قال : نهر من صديد أهل النار و قال : حديث حسن
و خرج أبو داود [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم نحوه و قال : من طينة الخبال قيل : يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال : صديد أهل النار ] و في رواية أخرى [ قال : ما يخرج من زهومة أهل النار و صديدهم ] و خرج الإمام أحمد بمعناه أيضا من حديث أبي ذر و أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم
و خرج الإمام أحمد و ابن حبان في صحيحه [ من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من مات و هو مدمن خمر سقاه الله من نهر الغوطة قيل و ما نهر الغوطة ؟ قال : نهر يخرج من فروج المومسات يؤذي أهل النار نتن فروجهم ]
و قد سبق حديث عمرو بن شعيب [ عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في المتكبرين و فيه : يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ]
النوع الرابع : الماء الذي كالمهل : خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في قوله : كالمهل قال : كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه ]
قال عطية : سئل ابن عباس عن قوله : { كالمهل } قال : غليظ كدردي الزيت قال علي بن أبي طالب عن ابن عباس : أسود كمهل الزيت و كذا قال سعيد بن جبير و غيره
قال الضحاك : أذاب ابن مسعود من بيت المال ثم أرسل إلى أهل المسجد فقال : من أحب أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا
و قال مجاهد : بماء كالمهل : مثل القيح و الدم أسود كعكر الزيت
و خرج الطبراني [ من طريق تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : لو أن غربا جعل من حميم جهنم و جعل وسط الأرض لآذى نتن ريحه و شدة حره ما بين المشرق و المغرب ]
و في موعظة الأوزاعي للمنصور [ قال : بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : لو أن ذنوبا من شراب جهنم صب في ماء الأرض جميعا لقتل من ذاقه ]
خرج بعض المتقدمين فمر بكروم بقرية يقال لها : طيز ناباد و كأنه كان يعصر فيها الخمر فأنشد يقول :
( بطيز ناباد كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء )
فهتف به هاتف يقول :
( و في جهنم ماء ما تجرعه ... حلق فأبقى له في البطن أمعاء )
فصل ـ في تنغص السلف على طعامهم عند ذكر طعام أهل النار
و كان كثير من الخائفين من السلف ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار و شرابهم طعام الدنيا و شرابها حتى يمتنعوا من تناوله أحيانا لذلك فكان الإمام أحمد يقول : الخوف يمنعني من أكل الطعام و الشراب فلا أشتهيه
روى شعبة عن سعد بن إبراهيم قال : أتي عبد الرحمن بن عوف بعشائه و هو صائم فقرأ :
{ إن لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما }
فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه و ما تعشى و إنه لصائم خرجه الجوزجاني
و روى ابن أبي الدنيا من طريق يونس عن الحسن قال : لقي رجل رجلا فقال له : يا هذا أراك قد تغير لونك و نحل جسمك فمم هو ؟ فقال آخر : و إني لأرى ذلك فمم هو ؟ قال : أصبحت منذ ثلاثة أيام صائما فلما أتيت بعشائي عرضت لي هذه الآية :
{ يسقى من ماء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه } إلى قوله : { عذاب غليظ }
فلم أستطع أن أتعشاه فأصبحت صائما فلما أتيت بعشائي أيضا عرضت لي فلم أستطع أن أتعشاه فلي ثلاث منذ أنا صائم قال : يقول الرجل الأخر : و هي التي عملت بي هذا العمل
و من طريق خليد بن حسان الهجري قال : أمسى الحسن صائما فأتي بعشائه فعرضت له هذه الآية : { إن لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما } فقلصت يده و قال : ارفعوه فأصبح صائما فلما أمسى أتى بإفطاره فعرضت له الآية فقال : يا أبا سعيد تهلك و تضعف ! ! فأصبح اليوم الثالث صائما فذهب ابنه إلى يحيى البكاء و ثابت البناني و يزيد الضبي فقال : أدركوا أبي فإنه هالك فلم يزالوا به حتى سقوه شربة ماء من سويق
و من طريق صالح المري قال : كان عطاء السلمي قد أضر بنفسه حتى ضعف فقلت له : إنك قد أضررت بنفسك و أنا متكلف لك بشيء فلا ترد كرامتي قال : أفعل قال : فاشتريت سويقا من أجود ما وجدت و سمنا قال : فجعلت له شريبة فلتيتها و حليتها و أرسلت بها مع ابني و كوزا من ماء فقلت له : لا تبرح حتى يشربها فرجع فقال : قد شربها فلما كان من الغد جعلت له نحوها ثم سرحت بها مع ابني فرجع بها لم يشربها قال : فأتيته فلمته و قلت : سبحان الله ! أرددت علي كرامتي ؟ ! إن هذا مما يعنيك و يقويك على الصلاة و على ذكر الله تعالى فلما رآني قد وجدت من ذلك قال : يا أبا بشر لا يسؤك و الله لقد شربتها أول ما بعثت بها فلما كان الغد راودت نفسي على أن أسيغها فما قدرت على ذلك إذا أردت شربه ذكرت هذه الآية :
{ يتجرعه و لا يكاد يسيغه و يأتيه الموت من كل مكان و ما هو بميت و من ورائه عذاب غليظ }
فبكى صالح عند هذا و قال قلت لنفسي : ألا أراني في واد و أنت في آخر
و روى الإمام أحمد بإسناده عن صالح المري عن عطاء السلمي قال : إنني إذا ذكرت جهنم ما يسيغني طعام و لا شراب
و روى عبد الله بن الإمام أحمد من طريق مرجى بن وداع قال : انطلقت مع صالح المري فدخلنا على عطاء السلمي فقلنا له : يا عطاء تركت الطعام و الشراب ؟ ! قال : إني إذا ذكرت صديد أهل النار لم أسغه
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد المؤمن الصايغ قال : دعوت رباحا القيسي ذات ليلة إلى منزلي فجاءني في السحر فقربت إليه طعاما فأصاب منه شيئا فقلت : ازدد فما أراك شبعت قال : فصاح صيحة أفزعتني فقال : كيف أشبع أيام الدنيا و شجرة الزقوم بين يدي طعام الأثيم قال : فرفعت الطعام من بين يديه و قلت : أنت في شيء و نحن في شيء
و بإسناده عن أبي سعيد قال : دخل عبيد الله بن الوليد التيمي على حبابة التميمية فقدمت إليه سمنا و خبزا و عسلا فقال : يا حبابة أما تخافين أن يكون بعد هذا الضريع قال : فما زال يبكي و تبكي حتى قام و لم يأكل شيئا
و بإسناده عن سوار بن عبد الله القريعي قال : كنا مع عمر بن درهم في بعض السواحل قال : و كان لا يأكل إلا من السحر إلى السحر فجئنا بطعام فلما رفع الطعام إلى فيه سمع بعض المتجهدين يقرأ هذه الآية :
{ إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم }
فغشي عليه و سقطت اللقمة من يده فلم يفق إلا بعد طلوع الفجر فمكث بذلك سبعا لا يطعم شيئا كلما قرب إليه طعام عرضت له الآية فيقوم و لا يطعم شيئا فاجتمع إليه أصحابه فقالوا سبحان الله ! تقتل نفسك ؟ ! فلم يزالوا به حتى أصاب شيئا
و بإسناده عن محمد بن سويد قال : كان لطاووس طريقان إذا رجع من المسجد أحدهما فيه رواس و كان يرجع إذا صلى المغرب فإذا أخذ الطريق الذي فيه الرواس لم يتعش فقيل له فقال : إذا رأيت الرؤوس كالحة لم أستطع الأكل و ذكر مالك بن أنس هذه الحكاية عن طاووس قال مالك : يعني لقول الله تعالى :
{ و هم فيها كالحون }
و روى ابن أبي الدنيا أيضا بإسناده عن عبد الله بن عمر أنه شرب ماء باردا فبكى و اشتد بكاؤه فقيل : ما يبكيك ؟ فقال : ذكر آية من كتاب الله قوله :
{ و حيل بينهم و بين ما يشتهون }
فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا شهوتهم الماء البارد و قد قال الله تعالى :
{ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله }
عن سلام بن أبي مطيع قال : أتي الحسن بكوز من الماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى و قال : ذكرت أمنية و أهل النار و قولهم :
{ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } و ذكرت ما أجيبوا به
{ إن الله حرمهما على الكافرين }
و عن عبد الملك بن مروان أنه شرب ماءا باردا فقطعه و بكى فقيل : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ ! قال : ذكرت العطش يوم القيامة و ذكرت أهل النار و ما منعوا من ماء بارد الشراب ثم قرأ :
{ يتجرعه و لا يكاد يسيغه }
و روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن إبراهيم النخعي قال : ما قرأت هذه الآية إلا ذكرت برد الشراب و قرأ :
{ و حيل بينهم و بين ما يشتهون }
و استقى محمد بن مصعب العابد ماء فسمع صوت البرادة فصاح و قال لنفسه : من أين لك في النار برادة ثم قرأ :
{ و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل }
الباب التاسع عشر ـ في ذكر كسوة أهل النار و لباسهم فيها
قال الله تعالى : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار }
و كان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول : سبحان من خلق من النار ثيابا !
و روينا من طريق يحيى بن معين حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا عبد الله بن بحير عن عباس الجريري ـ أحسبه عن ابن عباس ـ قال : يقطع للكفار ثياب من نار حتى ذكر القباء و القميص و الكمة
و خرج أبو داود و غيره من حديث مستورد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : [ من أكل برجل مسلم أكلة في الدنيا أطعمه الله مثلهما في جهنم و من كسي أو اكتسى برجل مسلم ثوبا كساه الله مثله في جهنم ]
و في مسند الإمام أحمد [ عن حبيب بن المغفل عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من وطئ إزاره خيلاء وطئه في النار ] و هو يبين معنى ما في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : ما تحت الكعبين من الأزرار ففي النار ] أن المراد ما تحت الكعب من البدن و الثوب معا و أنه يسحب ثوبه في النار كما يسحبه في الدنيا خيلاء و سيأتي حديث أهون أهل النار عذابا من في قدميه نعلان من نار يغلي فيهما دماغه فيما بعد إن شاء الله تعالى
و في كتاب أبي داود و النسائي و الترمذي [ عن بريدة أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم رأى على رجل خاتم من حديد فقال مالي أرى عليك حلية أهل النار ؟ ! ]
و روى حماد بن سلمة [ عن علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم : أن أول من يكسى حلة من النار إبليس يضعها على حاجبه و يسحبها من خلفه ذريته وهو يقول : يا ثبوره ! و هم ينادون : يا ثبورهم ! حتى يقفوا على النار فيقول : يا ثبوره ! و يقولون : يا ثبورهم فيقال :
{ لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا و ادعوا ثبورا كثيرا } خرجه الإمام أحمد ]
و في حديث عدي الكندي [ عن عمر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : و الذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب النار علق بين السماء و الأرض لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره ] و خرجه الطبراني و سبق ذكر إسناده و في موعظة الأوزاعي للمنصور قال : بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر بنحوه
فصل ـ في أن سرابيل أهل النار من قطران
قال الله عز و جل : { وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { قطران } قال : هو النحاس المذاب
و روى حصين عن عكرمة في قوله : { سرابيلهم من قطران } قال : من صفر يحمى عليها قال معمر عن قتادة في قوله : { سرابيلهم من قطران } قال : من النحاس قال معمر : و قال الحسن : قطران الإبل
و في صحيح مسلم [ عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درعه من جرب ] و خرجه ابن ماجه و لفظه : النائحة إذا ماتت و لم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران و درعا من لهب النار
و خرج ابن ماجه أيضا [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنهاى تبعث يوم القيامة و عليها سربيل من قطران يغلي عليها بدروع من لهب النار ]

فصل ـ تفسير قوله تعالى : لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش
قال الله تعالى : { لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش }
قال محمد بن كعب و الضحاك و السدي و غيرهم : المهاد : الفراش و الغواش اللحف و قال الحسن في قوله :
{ و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا }
قال : فراشا و مهادا و قال قتادة : محبسا حصروا فيها و روى مسكين عن حوشب عن الحسن أنه كان إذا ذكر أهل النار قال في وصفهم : قد حذيت لهم نعال من نار و سرابيل من قطران و طعامهم من نار و شرابهم من نار و فرش من نار و لحف من نار و مساكن من نار في شر دار و أسود عذاب في الأجساد أكلا أكلا و صهرا صهرا و حطما حطما
و روى داود بن المحبر عن الحسن بن واصل و عبد الواحد بن زيد عن الحسن قال : إن رجلا من صدر هذه الأمة كان إذا دخل المقابر نادى : يا أهل القبور ! بعد الرفاهية و النعيم معالجة الأغلال في النار ؟ ! و بعد القطن و الكتان لباس القطران و مقطعات النيران ؟ ! و بعد تلطف الخدم و الحشم و معانقة الأزواج مقارنة الشيطان في نار جهنم مقرنين في الأصفاد ؟ !
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهب بن منبه قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فهم في النار لا يهدؤون و لا ينامون و لا يموتون و يمشون على النار و يجلسون على النار و يشربون من صديد أهل النار و يأكلون من زقوم النار فرشهم و لحفهم نار و قمصهم نار و قطران و تغشى وجوههم النار و جميع أهل النار في سلاسل بأيدي الخزنة أطرافها يجذبون مقبلين و مدبرين فيسيل صديدهم إلىحفر في النار فذلك شرابهم قال : ثم بكى وهب حتى سقط مغشيا عليه و غلب بكر بن خنيس عند روايته هذا الحديث البكاء حتى قام فلم يقدر أن يتكلم و بكى محمد بن جعفر بكاء شديدا
و بإسناده عن هداب قال : أقبلت أم يحيى بن زكريا على يحيى في ثوب تعالجه ليلبسه فقال لها : أفعل فقالت : من أي شيء ؟ قال : من شعر قالت : يا بني إذا يأكل لحمك قال : يا أمه إذا ذكرت مقطعات أهل النار لان علي جلدي
و كان عطاء الخرساني ينادي أصحابه في السفر : يا فلان و يا فلان ! قيام هذا الليل و صيام هذا النهار أيسر من شراب الصديد و مقطعات الحديد ألواحا ثم ألواحا ثم ألواحا ثم يقبل على صلاته
و لما ماتت النوار امرأته الفرزدق و دفنت وقف الفرزدق على قبرها و أنشد بحضور الحسن رحمه الله هذه الأبيات قال :
( أخاف وراء القبر ـ إن لم يعافني ـ ... أشد من القبر التهابا و أضيقا )
( إذا جاءني يوم القيامة قائد ... عنيف و سواق يسوق الفرزدقا )
( لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا )
( يساق إلى نار الجحيم مسربلا ... سرابيل قطران لباسا محرقا )
( إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم ... يذوبون من حر الصديد تمزقا )
فبكى الحسن رحمة الله عليه

الباب العشرون ـ في ذكر عظم خلق أهل النار فيها و قبح صورهم و هيئاتهم
خرج البخاري [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع ] و خرجه مسلم و لفظه [ عن أبي هريرة يرفعه قال : ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ]
و خرج مسلم أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال ضرس الكافر ـ أو ناب الكافر ـ مثل أحد و غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام ]
و خرج الحاكم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد و عرض جلده سبعون ذراعا و عضده مثل البيضاء و فخذه مثل ورقان و مقعده من النار مثل ما بيني و بين الربذة ]
خرجه الإمام أحمد و لم يذكر فيه عضده و خرجه الحاكم موقوفا على أبي هريرة و زاد فيه : قال أبو هريرة : و كان يقول بطنه مثل بطن إضم
و خرج الإمام أحمد [ عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ضرس الكافر مثل أحد و فخذه مثل البيضاء و مقعده من النار كما بين قديد و مكة و كثافة جلده اثنان و أربعون ذراعا بذراع الجبار ]
و خرج الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد و فخذه مثل البيضاء و مقعده من النار مسيرة ثلاثة أيام مثل الربذة ] و قال قوله : مثل الربذة يعني كما بين المدينة و الربذة و البيضاء جبل
و خرج أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : غلظ جلد الكافر اثنان و أربعون ذراعا و إن ضرسه مثل أحد و إن مجلسه من جهنم كما بين مكة و المدينة ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يعظم أهل النار في النار حتى إن ما بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام و إن غلظ جلده سبعون ذراعا و إن ضرسه مثل أحد ]
و خرج الإمام أحمد و الحاكم [ من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن مقعد الكافر من النار مسيرة ثلاثة أيام و كل ضرس مثل أحد و فخذه مثل ورقان و جلده لحمه و عظامه أربعون ذراعا ]
و خرج ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الكافر ليعظم حتى إن ضرسه لأعظم من أحد و فضيلة جسده على ضرسه كفضيلة جسد أحدكم على ضرسه ]
و خرج البزار [ من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال :
ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده أربعون ذراعا بذراع الجبار ]
وخرج الطبراني وغيره [ من حديث المقداد بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يعظم الكافر النار حتى يصير غلظ جلده أربعين باعا و حتى يصير الناب منه مثل أحد ]
وخرج الطبراني أيضا [ عن المقدام عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من كان من أهل النار عظموا وفخموا كالجبال ]
و قال زيد بن أرقم : إن الرجل من أهل النار ليعظم النار حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد خرجه الإمام أحمد موقوفا
و عن ابن عباس قال : إن بين شحمة أذن أحدهم ـ يعني أهل النار ـ و بين عاتقه مسيرة سبعين خريفا و أودية قيح و دم قيل له : أنهار ؟ قال : بل أودية
خرجه الإمام أحمد و قد سبق بتمامه
و عن عمرو بن ميمون قال : إنه ليسمع بين جلد الكافر و لحمه جلبة الدود كجلبة الوحش
و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الكافر يجر لسانه يوم القيامة من ورائه قدر فرسخين يتوطؤه الناس ]
و قد ورد نحو ذلك في حق عصاة الموحدين أيضا فخرج الإمام أحمد و ابن ماجه و الحاكم [ من حديث الحارث بن قيس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن من أمتي من يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها ]
و خرج الطبراني [ من حديث أبي غنم الكلاعي عن أبي غسان الضبي قال : قال لي أبو هريرة ـ بظهر الحيرة تعرف عبد الله بن خداش ـ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول : فخذه في جهنم مثل أحد و ضرسه مثل البيضاء قلت : لم ذلك يا رسول الله ؟ ! قال : كان عاقا بوالديه ]
و روى أغلب بن تميم و فيه ضعف عن ثابت عن أنس مرفوعا : يجاد بالأمير الجائز يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلجوا عليه فيقولون له : سد عنا ركنا من أركان جهنم
و خرج الخلال في كتاب السنة من حديث الحكم بن الأعرج عن أبي هريرة قال : يعظم الرجل في النار حتى يكون مسيرة سبع ليال و ضرسه مثل أحد شفاههم على صدورهم مقبوحين يتهافتون في النار
و روى مسكين عن حوشب عن الحسن أنه ذكر أهل النار فقال : قد عظموا لجهنم مسيرة ثلاثة أيام و لياليهن للراكب المسرع و إن ناب أحدهم مثل النخل الطوال و إن دبره لمثل الشعب مغلولة أيديهم إلى أعناقهم قد جمع بين نواصيهم و أقدامهم و الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم يسوقونهم إلى جهنم فيقول الرجل منهم للملك : ارحمني فيقول : كيف أرحمك و لم يرحمك أرحم الراحمين ؟ !

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون
قال الله تعالى : { تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون }
روى دراج [ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : { و هم فيها كالحون } قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى ! حتى تضرب سرته ] خرج الإمام أحمد و الترمذي و الحاكم و قالا : صحيح
و عن ابن مسعود أنه قال في قوله : { و هم فيها كالحون }
قال : ككلوح الرأس النضيح و عنه ككلوح الرأس المشيط بالنار قد بدت أسنانهم و تقلصت شفاههم و عنه قال : ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار و قد تقلصت شفتاه و بدت أسنانه ؟ !
و خرج الخلال في كتاب السنة من حديث الحكم بن الأعرج عن أبي هريرة قال : يعظم الرجل في النار حتى يكون مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد شفاههم على صدورهم مقبوحين يتهافتون في النار
قال أبو بكر بن عياش عن محمد بن سويد : كان لطاووس طريقان إذا رجع من المسجد أحدهما فيه رواس و كان يرجع إذا صلى المغرب فإذا أخذ الطريق الذي فيه الرواس أن يتعشى فقيل له فقال : إذا رأيت الرؤوس كالحة لم أستطع آكل قال أبو بكر : فذكرته لسريع المكي فقال : قد رأيته يقف عليها
و قال أبو غندر الدمشقي : كان أويس إذا نظر إلى الرؤوس المشوية يذكر هذه الآية :
{ تلفح و جوههم النار و هم فيها كالحون }
فيقع مغشيا عليه حتى يظن الناظرون إليه أنه مجنون خرجهما ابن أبي الدنيا و غيره
و قال الأصمعي : حدثنا الصقر بن حبيب قال : مر ابن سيرين برواس قد أخرج رأسا فغشي عليه

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
قال الله عز و جل : { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب }
روى نافع مولى يوسف السلمي عن نافع عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر هذه الآية :
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها }
فقال عمر : أعد علي فأعادها عليه فقال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها : [ تبدل في الساعة الواحدة مائة مرة ] فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم خرجه ابن أبي حاتم و ابن مردويه
و خرجه ابن مردويه أيضا من طريق نافع أبي هروز أنبأنا نافع عن ابن عمر قال : تلا رجل عند عمر هذه الآية :
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب }
فقال عمر : أعده علي و ثم كعب فقال : يا أمير المؤمنين أنا عندي تفسير هذه الآية قرأتها قبل الإسلام قال : فقال : هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من صلى الله عليه و آله وسلم صدقناك و إلا لم ننظر إليها : قال : إني قرأتها قبل الإسلام
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها }
و في الساعة الواحدة : عشرين و مائة مرة فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم نافع أبو هرمز : ضعيف جدا و هو نافع مولى يوسف السلمي أيضا عند طائفة من الحفاظ منهم ابن عدي و منهم من قال : هما اثنان و كلاهما ضعيف
و روى الربيع بن برة عن الفضل الرقاشي أن عمر سأل كعبا عن هذه الآية فقال : إن جلده يحرق و يجدد في ساعة أو مقدار ساعة مائة ألف مرة قال عمر : صدقت و هذا منقطع
و روى ثوير بن أبي فاختة ـ و هو ضعيف ـ عن ابن عمر أنه قال في هذه الآية : إذا أحرقت جلودهم بدلوا جلودا بيضاء أمثال القراطيس خرجه ابن أبي حاتم
و خرج أيضا بإسناده عن يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في هذه الآية قال : يجعل الله للكافر مائة جلد بين كل جلدين لون من العذاب
و عن هشام عن الحسن في هذه الآية قال : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فيعودون كما كانوا
و عن الربيع بن أنس قال : مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا و سنه تسعون ذراعا و بطنه لو وضع فيه جبل لوسعه فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها

فصل ـ في تسويد وجوه أهل النار و مد جسومهم
خرج الترمذي [ من حديث السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في قوله تعالى :
{ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم }
قال : يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه و يمد له في جسمه ستون ذراعا و يبيض وجهه و يجعل على رأسه تاج من نور يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم آتنا بهذا و بارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول لهم : أبشروا ! لكل رجل منكم مثل هذا قال : و أما الكافر فيسود وجهه و يمد له في جسمه ستون ذراعا في صورة آدم و يلبس تاجا من نار فيراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا فيقولون : اللهم أخره عنا فيقول : أبعدكم الله ! فإن لكل رجل منكم مثل هذا ] و قال : حسن غريب
و روى عطاء بن يسار عن كعب قال : يؤتى بالرئيس في الشر فيقال له : أجب ربك فينطلق به إلى ربه فيحتجب عنه و يؤمر به إلى النار فيرى منزله و منزل أصحابه فيقال : هذه منزلة فلان هذه منزلة فلان فيرى ما أعد الله لهم فيها من الهوان و يرى منزلته أشر من منازلهم قال : فيسود وجهه و تزرق عيناه و يوضع على رأسه قلنسوة من نار فيخرج فلا يراه أهل ملأ إلا تعوذوا بالله منه فيأتي أصحابه الذين كانوا يجتمعون به على الشر و يعينونه عليه فما يزال يخبرهم بما أعهد الله لهم في النار حتى يعلو وجوههم من السواد مثل ما علا وجهه فيعرفهم الناس بسواد وجوههم فيقولون : هؤلاء أهل النار خرجه أبو نعيم و غيره و هذا إنما هو قبل دخولهم إلى النار فإذا دخلوا النار عظم خلقهم على ما تقدم في الأحاديث السابقة
و أما سنهم فعلى سن أهل الجنة لا يزادون عليه و روى دراج [ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من مات و هو من أهل الجنة من صغير و كبير يردون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبدا و كذلمك أهل النار ] خرجه الترمذي و في رواية غير الترمذي [ بني ثلاث و ثلاثين ]
و خرج الطبراني [ من طريق سليم بن عامر عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما من أحد يموت سقطا أو هرما و إنما الناس بين ذلك إلا بعث ابن ثلاثين سنة فإن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم و صورة يوسف و قلب أيوب و من كان من أهل النار عظموا و فخموا كالجبال ] و رواه غير الطبراني و قال : [ أبناء ثلاث و ثلاثين سنة ]
فصل ـ ذو الوجهين في الدنيا له وجهان من نار
و قد ورد أن بعضهم له لسانان من نار و و جهان من نار ففي سنن أبي داود [ عن عمار عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار ] و يروى نحوه من حديث أنس و أبي هريرة أيضا
و خرج الطبراني [ من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة و له وجهان من نار ]
فصل ـ فيمن تمسخ صورهم إلى صورة قبيحة
و منهم من تمسخ صورته على صورة قبيحة و في الصحيح أن إبراهيم عليه السلام إذا شفع في أبيه قيل له : يا إبراهيم انظر ما وراءك فإذا هو بذيخ ملطخ فيؤخذ بقوائمه و يلقى في النار و الذيخ : الضبع الذكر
و قال أبو العالية في قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } قال : في النار في صورة خنزير خرجه ابن أبي حاتم
قال ابن مسعود : إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منها أحدا غير صورهم و ألوانهم فلا يعرف منهم أحد و سنذكر كلامه بتمامه فيما بعد إن شاء الله تعالى
فصل ـ في نتن ريح أهل النار
قال الأوزاعي في موعظته للمنصور : [ بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : لو أن رجلا أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه و تشويه خلقه ] و قد رواه أيضا بكر بكر بن خنيس عن عبد الملك الجسري عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم مرسلا
و روى ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو قال : لو أن رجلا من أهل النار أخرج إلى الدنيا لمات أهل الدنيا من وحشة منظره و نتن ريحه قال : ثم بكى عبد الله بكاء شديدا خرجه ابن أبي الدنيا و خرج أيضا من طريق النضر بن إسماعيل قال : مر الربيع بن أبي راشد برجل به زمانة فجلس يحمد الله و يبكي فمر به رجل فقال : ما يبكيك رحمك الله ؟ قال ذكرت أهل الجنة و أهل النار فشبهت أهل الجنة بأهل العافية و أهل البلاء بأهل النار فذلك الذي أبكاني
الباب الحادي و العشرون في ذكر أنواع عذاب أهل النار فيها و تفاوتهم في
العذاب بحسب أعمالهم
خرج مسلم [ من حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : منهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذ النار إلى ركبتيه و منهم من تأخذ النار إلى حجزته و منهم من تأخذ النار إلى ترقوته ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن أهون أهل النار عذابا رجل منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه مع إجزاء العذاب و منهم من في النار إلى ركبتيه مع إجزاء العذاب و منهم من في النار إلى أرنبته مع إجزاء العذاب و منهم من في النار إلى صدره مع إجزاء العذاب و منهم من قد اغتمر ]
و في الصحيحين [ من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن أهون أهل النار عذابا رجل في أخمص رجلية جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم ] و لفظ مسلم : [ إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان و شركان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا و إنه لأهونهم عذابا ]
و لمسلم [ من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إن أدنا أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حر نعليه ]
و في الصحيحين [ عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار تبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه ]
و فيهما أيضا [ عن العباس بن عبد المطلب أنه قال : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك و يغضب لك ؟ قال : نعم هو في ضحضاح من نار و لولا ذلك كان في الدرك الأسفل من النار ]
و في رواية لمسلم قال : [ قال : وجدته في غمرة من النار فأخرجته إلى ضحضاح ]
و لمسلم أيضا [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن أهون اهل النار عذابا أبو طالب و هو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه ]
و روى الحكم بن ظهير و هو ضعيف [ عن السدي عن مرة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم إن أشد الناس عذابا رجل يرمى به فيها فيهوي فيها سبعين خريفا و إن أدنى أهل النار عذابا رجل في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه حتى يخرج من منخره ]
و روى مسكين أبو فاطمة [ عن اليمان بن يزيد عن محمد بن حمير عن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه ذكر أهل الكبائر من الموحدين فقال : منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه و منهم من تأخذه النار إلى حجزته و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم ] و ذكر الحديث و هو منكر قاله : الدار قطني و غيره
[ و قال عبيد بن عمير قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إن أدنى أهل النار عذابا لرجل عليه من نار يغلي منهما دماغه كأنه مرجل مسامعه جمر و أضراسه جمر و شفاهه لهب النار و تخرج أحشاء جنبيه من قدميه و سائرهم كالحب القليل في الماء الكثير فهو يفور ] خرجه هناد بن السري في كتاب الزهد بإسناده صحيح إلى عبيد و هو مرسل و قد روي عن عبيد موقوفا غير مرفوع
و روي أيضا بإسناده عن مسعود في قوله تعالى :
{ فاطلع فرآه في سواء الجحيم }
قال عبد الله : اطلع ثم اطلع إلى أصحابه فقال : لقد رأيت جماجم القوم تغلي
و بإسناده عن مجاهد في قوله :
{ سمعوا لها شهيقا و هي تفور }
قال : تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير
و عن سفيان الثوري قال في هذه الآية : تغلي بهم كالحب القليل في الماء الكثير
و في مصنف عبد الرزاق : [ عن معمر عن إسماعيل بن أبي سعيد أن عكرمة مولى ابن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن أهون أهل النار عذابا لرجل يطأ جمرة يغلي منها دماغه فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : و ما كان جرمه يا رسول الله ؟ قال : كانت له ماشية يغشى بها الزرع و يؤذيه ]
و في صحيح مسلم [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ ! فيقول : لا و الله يا رب ! ! ]
و اعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي دخلوا بها النار كما قال تعالى :
{ و لكل درجات مما عملوا }
و قال تعالى :
{ جزاء وفاقا }
قال ابن عباس : وافق أعمالهم فليس عقاب من تغلظ كفره و أفسد في الأرض و دعا إلى الكفر كمن ليس كذلك قال تعالى :
{ الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون }
و قال تعالى :
{ و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
و كذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أصحاب الصغائر و قد يخفف عن بعضهم العذاب بحسنات أخر له أو بما شاء الله من الأسباب و لهذا يموت بعضهم في النار كما سيأتي ذكره في ما بعد إن شاء الله تعالى
و أما الكفار إذا كان لهم حسنات في الدنيا من العدل و الإحسان إلى الخلق فهل يخفف عنهم بذلك من العذاب في النار أو لا ؟
هذا فيه قولان للسلف و غيرهم : أحدهما : أنه يخفف عنهم بذلك أيضا و روى ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير معنى هذا القول و اختاره ابن جرير الطبري و غيره
و روى الأسود بن شيبان [ عن أبي نوفل قال : قالت عائشة : يا رسول الله أين عبد الله بن جدعان ؟ قال : في النار فجزعت عائشة و اشتد عليها فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ذلك قال : يا عائشة ما يشتد عليك من هذا ؟ قالت بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! ! إنه كان يطعم الطعام و يصل الرحم قال : إنه يهون عليه بما قلت ] خرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق و هو مرسل
و روى عامر بن مدرك الحارثي [ عن عتبة بن اليقظان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : ما أحسن من محسن كافر أو مسلم إلا أثابه الله عز و جل في عاجل الدنيا أو ادخر له في الآخرة قلنا : يا رسول الله ما إثابة الكافر في الدنيا ؟ قال إن كان قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله المال و الولد و الصحة و أشباه ذلك قلنا : إثابة الكافر في الآخرة ؟ قال : عذابا دون العذاب ثم تلا :
{ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ]
خرجه ابن أبي حاتم و الخرائطي و البزار في مسنده و الحاكم في المستدرك و قال : صحيح الإسناد و خرجه البيهقي في كتاب البعث و النشور و قال : في إسناده نظر انتهى و عتبة بن يقظان تكلم فيه بعضهم
و قد سبقت الأحاديث في تخفيف العذاب عن أبي طالب بإحسانه إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم و خرج الطبراني بإسناده ضعيف [ عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أتى النبي صلى الله عليه و آله وسلم يوم حجة الوداع فقال : إنك تحث على صلة الرحم و الإحسان و إيواء اليتيم و إطعام الضعيف و المسكين و كل هذا كان يفعله هشام بن المغيرة فما ظنك به يا رسول الله ؟ قال : كل قبر صاحبه أن لا إله إلا الله فهو حفرة من حفر النار و قد وجدت عمي أاب طالب في طمطام من فأخرجه بمكانه مني و إحسانه إلي فجعله في ضحضاح من النار ]
و القول الثاني : أن الكافر لا ينتفع في الآخرة بشيء من الحسنات بحال و من حجة أهل هذا القول قوله تعالى :
{ و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }
و قوله تعالى :
{ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } و نحو هذه الآيات
و في صحيح مسلم : [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا و يجزى بها في الآخرة و أما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها ] و في رواية له أيضا : [ إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا و أما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة و يعقب له رزقا في الدنيا على طاعته ]
و فيه أيضا : [ عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم و يطعم المسكين فهل ذاك نافعة ؟ قال : لا ينفعه لأنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ]
و هؤلاء جعلوا تخفيف العذاب عن أبي طالب من خصائصه بشفاعة النبي صلى الله عليه و آله وسلم له و جعلوا هذه الشفاعة من خصائص النبي صلى الله عليه و آله وسلم لا يشركه فيها غيره
فصل ـ و من عذاب أهل النار : الصهر
و من أنواع عذابهم الصهر قال الله تعالى : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد }
قال مجاهد :
{ يصهر به ما في بطونهم }
يذاب به إذابة و قال عطاء الخراساني : يذاب به ما في بطونهم كما يذاب الشحم
و خرج الترمذي [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه و هو الصهر ثم يعود كما كان ] و قال : حسن غريب صحيح
و قال الله عز و جل :
{ خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم }
قال كثير من السلف : نزلت هذه الآية في أبي جهل
قال الأوزاعي يؤخذ أبو جهل يوم القيامة فيخرق في رأسه خرق ثم يؤتى بسجل من الحميم فيصب في ذلك الخرق ثم يقال له : ذق إنك أنت العزيز الكريم
قال مجاهد في قوله :
{ يرسل عليكما شواظ من نار و نحاس فلا تنتصران }
قال : النحاس : الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم يعذبون به و قال عطاء الخراساني في قوله تعالى :
{ و نحاس }
قال : الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم فيعذبون به و قد سبق في الباب الثامن عشر آثار متعددة تتعلق بهذا الفضل أيضا

فصل في تفسير قوله تعالى : التي تطلع على الأفئدة
قال الله تعالى
{ كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة }
قال محمد بن كعب القريظي في قوله :
{ تطلع على الأفئدة }
قال : تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه عن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية ثم قال : تحرقهم إلى الأفئدة و هم أحياء لقد بلغ منهم العذاب ! ثم يبكي
و قال الله عز و جل :
{ وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر }
قال صالح بن حيان عن ابن بريدة في قوله :
{ لا تبقي و لا تذر }
قال : تأكل العظم و اللحم و المخ و لا تذره على ذلك و قال السدي : لا تبقي من جلودهم شيئا و لا تذرهم من العذاب و قال أبو سنان : لا تذرهم إذا بدلوا خلقا جديدا
و قال أبو رزين في قوله :
{ لواحة للبشر }
قال : تلفح وجهه لفحة تدعه أشد سوادا من الليل قال قتادة :
{ لواحة للبشر }
حراقة للجلد خرجه كله ابن حاتم و غيره
و قال الله تعالى :
{ كلا إنها لظى * نزاعة للشوى }
قال : تحرق كل شيء منه و يبقى فؤاده يصيح و عن ابن زيد قال : تقطع عظامهم ثم يجدد خلقهم و تبدل جلودهم
و روى ابن مهاجر عن مجاهد في قوله :
{ نزاعة للشوى }
تنزع الجلد و عنه قال : تنتزع اللحم ما دون العظم

فصل ـ و من عذاب أهل النار : سحبهم على وجوههم
و من أنواع عذابهم سحبهم في النار على وجوههم قال الله تعالى :
{ إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر }
و قال تعالى : { فسوف يعلمون * إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون }
قال قتادة : يسجرون في النار مرة و في الحميم مرة و قال تعالى :
{ يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله و أطعنا الرسولا }
و قال قتادة : قال ابن عباس
{ صعودا }
صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه
و قال كعب : يقول الله عز و جل للإمام الجائر :
{ خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه }
فيسحب على وجهه في النار فينتشر لحمه و عظامه و مخه
و قال ثابت أبو زيد القيسي عن عاصم الأحول عن أبي منصور مولى سليم : إن ابن عباس قال :
{ يسحبون * في الحميم }
قال أبو زيد : أراه قال : ينسلخ كل شيء عليه من جلد و لحم و عروق و أعصاب حتى يصير في عقبيه جسد من لحمه مثل طوله و طوله ستون ذراعا ثم يكسى جلدا آخر ثم يسجر في الحميم خرجه كله ابن أبي حاتم
فصل ـ و من أهل النار من يعذب بالصعود إلى أعلى النار ثم يهوي فيها
و منهم من يعذب بالصعود إلى أعلى النار ثم يهوي فيها كذلك أبدا و منهم من يكلف صعود جبل في النار و التردي منه و قد سبق في الباب الرابع عشر ما ورد في تفسير قوله تعالى :
{ سأرهقه صعودا }
و في الصحيحين : [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من قتل نفسه بحديد فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا و من قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا و من تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم مخلدا فيها أبدا ]
و روى شريك [ عن الأعمش عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : القتل في سبيل الله مكفر كل شيء ـ أو قال يكفر الذنوب ـ إلا الأمانة يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أد أمانتك فيقول : أنى يا رب و قد ذهبت الدنيا ؟ فيقال : اذهبوا به إلى الهاوية فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجد الأمانة هناك كهيئتها فيحملها و يضعها على عنقه فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأى أنه قد خرج منها زلت عن منكبيه فهوت فهوى في أثرها أبد الآبدين ] قال : [ و الأمانة في الصلاة و الأمانة في الصوم و الأمانة في الحديث ـ قال : ـ و أشد ذلك الودائع ]
قال : فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ قال : صدق
قال شريك : و حدثنا عياش العامري عن زاذان عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم بنحو منه و لم يذكر الأمانة في الصوم و الأمانة في كل شيء كذا رواه إسحاق الأزرق عن شريك مرفوعا و رواه منحاب بن الحارث عن شريك موقوفا و كذا رواه أبو الأحوص عن الأعمش فوقفه على ابن مسعود و زاد فيه في خصال الأمانة : الكيل و الميزان و الغسل من الجنابة
و روى عاصم عن أبي صالح قال : إذا ألقي الرجل في النار لم يكن لمنتهى حتى يبلغ قعرها ثم تجيش به جهنم فترفعه إلى أعلى جهنم و ما على عظامه مزعة لحم فتضربه الملائكة بالمقامع فيهوي بها إلى قعرها فلا يزال كذلك أو كما قال خرجه البيهقي و في هذا المعنى يقول ابن المبارك رحمه الله في صفة النار :
( تهوي بسكانها طورا و ترفعهم ... إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا )
فصل ـ و من أهل النار من يدور في النار و يجر أمعاءه معه
و منهم من يدور في النار و يجر أمعاءه معه و قد رأى النبي صلى الله عليه و آله وسلم عمرو بن لحي يجر قصبه في النار
و في الصحيح [ عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك ؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف و تنهانا عن المنكر ؟ ! قال : بلى كنت آمركم بالمعروف و لا آتيه و أنهاكم عن المنكر و آتيه ]
و قال أبو المثنى الأملوكي : إن في النار أقواما يربطون بنواعير من نار تدور بهم النواعير و مالهم فيها راحة و لا فترة
فصل ـ و من أهل النار من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة
و منهم من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة الضيقة قال الله عز و جل :
{ و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا }
قال كعب : إن في جهنم تنانير ضيقها كضيق زج رمح أحدكم ثم يطبق على أناس بأعمالهم و قد سبق ذكره
قال آدم بن أبي إياس : أنبأنا المسعودي عن يونس بن خباب عن ابن مسعود قال : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار ثم قذفوا في نار الجحيم فيرون أنه لا يعذب في النار غيرهم ثم تلا ابن مسعود
{ لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون }
و خرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن مسعود و عنده : فلا يرى أن أحدا يعذب في النار غيره
و روى المنهال بن عمرو عن نعيم ـ و قيل : إنه بن الدجاجة ـ عن سويد بن عفلة قال : إذا أراد الله أن ينسى أهل النار جعل للرجل صندوقا على قدره من النار و لا ينبض عرق إلا فيه مسمار من نار ثم تضرم فيه النار ثم يقفل بقفل من نار ثم يجعل ذلك الصندوق في صندوق من نار ثم تضرم بينهما نار ثم يقفل ثم يطرح ـ أو يلقى ـ في النار فذلك قوله تعالى :
{ لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل }
و قوله تعالى : { لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون }
قال : فما يرى أن في النار أحدا غيره خرجه البيهقي و خرجه أبو نعيم إلا أن عنده عن المنهال عن خيثمة عن سويد فذكره
فصل ـ في جهنم سبعون داء
و ربما يبتلى أهل النار بأنواع من الأمراض الحادثة عليهم و قد سبق عن شفي بن ماتع أن في جهنم لسبعين داء كل داء مثل جزء من أجزاء جهنم
و قال الأعمش عن مجاهد : يلقى الجرب على أهل النار فيحتكون حتى تبدو العظام فيقولون : بما أصابنا هذا ؟ فيقال : بأذاكم المؤمنين و رواه شعبة عن منصور عن مجاهد عن يزيد بن شجرة فذكره بمعناه

فصل ـ و من أهل النار من يتأذى أهل النار بعذابه من نتن ريحه
و من أهل النار من يتأذى أهل النار بعذابه إما من نتن ريحه أو غيره قال صالح بن حيان [ عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إن ريح فروج أهل الزنا ليؤذي أهل النار ]
و قال أبو بكر بن عياش : حدثنا رجل عن مكحول رفعه قال : تروح أهل النار برائحة فيقولون : ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا النار أنتن من هذه الرائحة فيقول : هذه رائحة فروج الزناة
و روى إسماعيل بن عياش [ عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي عن أيوب بن بشير العجلي عن شفي بن ماتع عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون ما بين الجحيم و الحميم يدعون بالويل و الثبور فيقول أهل النار بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الآذى ؟ ! قال : فرجل مغلق عليه تابوت من جمر و رجل يجر أمعاءه و رجل يسيل فوه قيحا و دما و رجل يأكل لحمه فيقال لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد قد مات و في عنقه أموال الناس ثم يقال للذي يجر أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه لا يغسله ثم يقال للذي يسيل فوه قيحا و دما : ما بال قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ فيقول : إن الأبعد كان ينظر إلى كلمة خبيثة فيستلذها كما يستلذ الرفث ثم يقال للذي يأكل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال : إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس ] خرجه الحافظ أبو نعيم و قال : شفي بن ماتع مختلف فيها و قيل : إن له صحبة و خرجه أيضا بإسناد آخر إلى إسماعيل بن عياش و في لفظه قال : [ في عنقه أموال الناس مات و لم يدع لها وفاء و لا قضاء ! و قال ـ : يعمد إلى كل كلمة خبيثة فيستلذها ـ و قال : ـ كان يأكل لحوم الناس و يمشي بالنميمة ]
و روى الإمام أحمد بإسناده إلى منصور بن زاذان قال : نبئت أن بعض من يلقى في النار يتأذى أهل النار بريحه فيقال له : ويلك ! ما كنت تعمل ؟ أما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك و نتن رائحتك ؟ فيقول : كنت عالما فلم أنتفع بعلمي

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : و يأتيه الموت من كل مكان
قال الله تعالى : { و يأتيه الموت من كل مكان و ما هو بميت و من ورائه عذاب غليظ }
و قال إبراهيم في قوله : { و يأتيه الموت من كل مكان }
حتى من تحت كل شعرة في جسده و قال الضحاك : حتى من إبهام رجليه و المعنى : أنه يأتيه مثل شدة الموت و ألمه من كل جزء من أجزاء بدنه حتى شعره و ظفره و هو مع هذا لا تخرج نفسه فيستريح قال ابن جريح : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيستريح و لا ترجع إلى مكانها من جوفه و تأول جماعة من المفسرين على ذلك قوله تعالى :
{ ثم لا يموت فيها و لا يحيا }
قال الأوزاعي عن بلال بن سعد : تنادي النار يوم القيامة : يا نار أحرقي يا نار استفي يا نار انضجي كلي و لا تقتلي ! !

فصل ـ [ و عذاب الكفار في النار متواصل أبدا ]
و عذاب الكفار في النار لا يفتر عنهم و لا ينقطع و لا يخفف بل هو متواصل أبدا قال الله عز و جل :
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون }
و قال تعالى : { و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها }
و قال تعالى : { فلا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينصرون }
و قال تعالى : { وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }
و قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول ـ على منبر دمشق ـ : لا يأتي على صاحب الجنة ساعة إلا و هو يزداد ضعفا من النعيم لم يكن يعرفه و لا يأتي على صاحب النار ساعة إلا و هو مستنكر لنوع من العذاب لم يكن يعرفه قال الله عز و جل :
{ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }
قال جسر بن فرقد [ عن الحسن : سألت أبا برزة عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قرأ :
{ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }
فقال : أهلك القوم بمعاصيهم لله تعالى ] خرجه ابن أبي حاتم و جسر ضعيف و خرجه البيهقي و لم يرفعه و لفظه : سألت أبا برزة عن أشد آية على أهل النار قال : قوله عز و جل :
{ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }
و قال مجاهد : بلغني أن استراحة أهل النار أن يضع أحدهم يده على خاصرته و لأهل النار أنواع من العذاب لم يطلع الله عليها خلقه في الدنيا
قال مبارك عن الحسن : ذكر الله السلاسل و الأغلال و النار و ما يكون في الدنيا ثم قرأ :
{ وآخر من شكله أزواج }
قال آخر : لا ترى في الدنيا خرجه ابن أبي حاتم
و قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شريح حدثنا إبراهيم بن سليمان عن الأعمش عن الحسن عن ابن عباس في قوله تعالى :
{ زدناهم عذابا فوق العذاب } قال : هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل و بعضها في النار
فصل ـ أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز و جل
و أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز و جل إبعادهم عنه و إعراضه عنهم و سخطه عليهم كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضل من كل نعيم الجنة و تجليه لهم و رؤيتهم إياه أعظم من جميع أنواع نعيم الجنة قال الله تعالى :
{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون }
فذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من العذاب : حجابهم عنه ثم صليهم الجحيم ثم توبيخهم بتكذيبهم به في الدنيا و وصفهم بالران على قلوبهم و هو صدأ الذنوب الذي سود قلوبهم فلم يصل إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله و لا من إجلاله و مهابته و خشيته و محبته فكما حجبت قلوبهم في الدنيا عن الله حجبوا في الآخرة عن رؤيته و هذا بخلاف حال أهل الجنة قال الله تعالى :
{ للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة }
و الذين أحسنوا هم أهل الإحسان و الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه كما فسره النبي صلى الله عليه و آله وسلم لما سأله عنه جبريل عليه السلام فجعل جزاء الإحسان الحسنى و هم الجنة و الزيادة و هي النظر إلى وجه الله عز و جل كما فسره بذلك رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم في حديث صهيب و غيره
قال جعفر بن سليمان : سمعت أبا عمران الجوني قال : إن الله لم ينظر إلى إنسان قط إلا رحمه و لو نظر إلى أهل النار لرحمهم و لكن قضى أن لا ينظر إليهم
و قال أحمد بن أبي الحواري : حدثنا أحمد بن موسى عن أبي مريم قال : يقول أهل النار : إلهنا ارض عنا و عذبنا بأي نوع شئت من عذابك فإن غضبك أشد علينا من العذاب الذي نحن فيه ! ! قال أحمد : فحدثت سليمان ابن أبي سليمان فقال : ليس هذا كلام أهل النار هذا كلام المطيعين لله قال : فحدثت به أبا سليمان فقال : صدق سليمان بن أبي سليمان ـ و سليمان و هو ولد أبي سليمان الداراني و كان عارفا كبير القدر رحمه الله ـ و ما قاله حق فإن أهل النار جهال لا يتفطنون لهذا و إن كان في نفسه حقا و إنما يعرف هذا من عرف الله و أطاعه و لعل هذا يصدر من بعض من يدخل النار من عصاة الموحدين كما أن بعضهم يستغيث بالله لا يستغيث بغيره فيخرج منها و بعضهم يخرج منها برجائه لله وحده و بعض من يؤمر به إلى النار يتشفع إلى الله بمعرفته فينجيه منها
قال أبو العباس بن مسروق : سمعت سويد بن سعيد يقول : سمعت الفضيل ابن عياض يقول : يوقف رجل بين يدي الله عز و جل لا يكون معه حسنة فيقول الله عز و جل : اذهب هل تعرف أحدا من الصالحين أغفر لك بمعرفته ؟ فيذهب فيدور مقدار ثلاثين سنة فلا يرى أحدا يعرفه فيرجع إلى الله عز و جل فيقول : يا رب لا أرى أحدا ! ! فيقول الله عز و جل اذهبوا به إلى النار فتتعلق به الزيانية يجرونه فيقول : يا رب إن كنت تغفر لي بمعرفة المخلوقين فإني بوحدانيتك أنت أحق أن تغفر لي فيقول الله للزبانية : ردوا عارفي لأنه كان يعرفني و اخلعوا عليه خلع كرامتي و دعوه يتبحبح في رياض الجنة فإنه عارف بي و أنا له معروف
فصل ـ فيما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها ـ أجارنا الله منها
قال الله عز و جل : { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هذا نزلهم يوم الدين }
و النزل : هو ما يعد للضيف عند قدومه فدلت هذه الآيات على أن أهل النار يتحفون عند دخولها بالأكل من شجرة الزقوم و الشرب من الحميم و هم إنما يساقون إلى جهنم عطاشا كما قال تعالى :
{ و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا }
قال أبو عمران الجوني : بلغنا أن أهل النار يبعثون عطاشا ثم يقفون مشاهد القيامة عطاشا ثم قرأ :
{ و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا }
قال مجاهد في تفسير هذه الآية : متقطعة أعناقهم عطشا و قال مطر الوراق : عطاشا ظماء
و في الصحيحين [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حديث الشفاعة الطويل إنه يقال لليهود و النصارى : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا يتساقطون في النار ]
و قال أيوب عن الحسن : ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة و لم يشربوا فيها شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشا و احترقت أجوافهم جوعا ثم انصرف بهم إلى النار فيسقون من عين آنية قد آن حرها و اشتد نضجها
و روى ابن المبارك بإسناده عن كعب قال : إن الله ينظر إلى عبده يوم القيامة و هو غضبان فيقول : خذوه فيأخذه مائة ألف ملك أو يزيدون فيجمعون بين ناصيته و قدميه غضبا لغضب الله فيسحبونه على وجهه إلى النار قال : فالنار أشد عليه غضبا من غضبهم سبعين ضعفا قال : فيستغيث بشربة فيسقى شربة يسقط منها لحمه و عصبه ثم يركس في النار أو يدكس في النار فويل له من النار ! !
قال ابن المبارك : حدثت عن بعض أهل المدينة أنه يتفتت في أيديهم إذا أخذوه فيقول : ألا ترحموني فيقولون : كيف نرحمك و لم يرحمك أرحم الراحمين ؟ !
و روى الأعمش عن مالك بن الحارث قال : إذا طرح الرجل في النار هوى فيها فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل : مكانك حتى تتحف قال : فيسقى كأسا من سم الأساود و العقارب فيتميز الجلد على حدة و الشعر على حدة و العصب على حدة و العروق على حدة خرجه ابن أبي حاتم
و روى محمد بن سليمان بن الأصبهاني [ عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم فلفحتهم لفحة فلم تدع لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب ] خرجه الطبراني و رفعه منكر فقد رواه ابن عيينة عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل أو غيره من قوله لم يرفعه و رواه محمد بن فضيل عن أبي سنان عن عبد الله أبي الهذيل عن أبي هريرة من قوله في قوله تعالى : { لواحة للبشر } قال : تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحما على عظم إلا وضعته على العراقيب
الباب الثاني و العشرون ـ في ذكر بكاء أهل النار و زفيرهم و شهيقهم و
صراخهم و دعائهم الذي لا يستجاب بهم
قال الله تعالى : { لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون }
قال تعالى : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق }
قال الربيع بن أنس : الزفير مثل صوت الحمار أوله زفير و آخره شهيق و قال تعالى :
{ و هم يصطرخون فيها }
و في حديث حارثة : و كأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها و قد سبق
و روى معاوية بن صالح [ عن سليم بن عامر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : رأيت رؤيا فذكر حديثا طويلا و فيه قال : ثم انطلقنا فإذا نحن نرى دخانا و نسمع عواء قلت : ما هذا ؟ قال : هذه جهنم ] خرجه الطبراني و غيره
و روى الأعمش [ عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يلقى البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود و لو أرسلت فيه السفن لجرت ] خرجه ابن ماجه و روي عن الأعمش عن عمر بن مرة و يزيد الرقاشي عن أنس موقوفا من قوله و رواه سعيد بن سلمة عن يزيد الرقاشي قال : بلغنا هذا الكلام و لم يسنده و لم يرفعه
و روى سلام بن مسكين عن قتادة عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال : إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت ثم إنهم ليبكون بالدم بعد الدموع و لمثل ما هم فيه فليبك
و قال صالح المري : بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المدنف
و قال ابن إسحاق عن محمد بن كعب : زفروا في جهنم فزفرت النار و شهقوا فشهقت النار بما استحلوا من محارم الله قال : و الزفير من النفس و الشهيق من البكاء
و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :
{ لهم فيها زفير و شهيق }
قال : صوت شديد و صوت ضعيف
و روى مالك عن زيد بن أسلم في قوله عز و جل :
{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص }
قال زيد : صبروا مائة عام ثم بكوا مائة عام ثم قالوا :
{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص }
و روى الوليد بن مسلم [ عن أبي سلمة الدوسي ـ و اسمه ثابت بن شريح ـ عن سالم بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه كان يدعو : اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذروف الدموع من خشيتك قبل أن يكون الدمع دما و الأضراس جمرا ] سالم بن عبد الله و هو المحاربي و حديثه مرسل و ظن بعضهم أنه سالم بن عبد الله بن عمر و زاد بعضهم في الإسناد : عن أبيه و لا يصح ذلك كله
و روى الوليد بن مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله قال : إن داود عليه السلام قال : ربي ارزقني عينين هطالتين يبكيان بذروف الدموع و يشفياني من خشيتك قبل أن يعود الدمع دما و الأضراس جمرا قال : و كان داود عليه السلام يعاتب في كثرة البكاء فيقول : دعوني أبكي قبل يوم البكاء قبل تحريق العظام و اشتعال اللحي و قبل أن يأمر بي ملائكة غلاط شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون ! !
و روى يونس بن ميسرة عن أبي إدريس الخولاني قال : إن داود عليه السلام قال : أبكي نفسي قبل يوم البكاء أبكي نفسي قبل أن لا ينفع البكاء ثم دعا بجمر فوضع يده عليه حتى إذا حره رفعها و قال : أوه العذاب الله أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه
و روى ثابت البناني عن صفوان بن محرز قال : لداود عليه السلام يوم يتأوه فيه يقول : أوه أوه من عذاب الله عز و جل قبل أن لا ينفع أوه قال : فذكرها صفوان ذات يوم في مجلس فبكى حتى غلبه البكاء فقام
و قال عبد الله بن رياح الأنصاري سمعت كعبا يقول : إن إبراهيم لحليم أواه منيب قال : كان إذا ذكر النار قال : أوه من النار أوه من النار و عن أبي الجوزاء و عبيد بن عمير نحو ذلك
و روى ابن أبي الدنيا بإسناد له عن رياح القيسي أنه مر بصبي يبكي فوقف عليه يسأله : ما يبكيك يا بني ؟ ! و جعل الصبي لا يحسن يجيبه و لا يرد عليه شيئا فبكى رياح ثم قال : ليس لأهل النار راحة و لا معول إلا البكاء و جعل يبكي
و بإسناد له آخر أن رياح القيسي زار قوما فبكى صبي لهم من الليل فبكى رياح لبكائه حتى أصبح فسئل بعد ذلك عن بكائه فقال : ذكرت ببكاء الصبي بكاء أهل النار في النار ليس لهم نصير ثم بكى
فصل ـ في طلب أهل النار الخروج منها
قال الله عز و جل : { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون }
و قال تعالى : { و نادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون }
و قال تعالى : { وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }
و قال تعالى : { و هم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير }
و في حديث الأعمش [ عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أ بي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في ذكر أهل النار قال : فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيقولون :
{ أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال }
قال : فيقولون : ادعوا مالكا فيقولون : { يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون }
قال الأعمش نبئت أن بين دعائهم و بين إجابة مالك لهم ألف عام قال : فيقولون : ادعوا ربكم فإنه ليس أحد خيرا من ربكم فيقولون :
{ ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون }
قال فيجيبهم : { اخسؤوا فيها و لا تكلمون }
قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير و عند ذلك يأخذون في الحسرة و الزفير و الويل ] خرجه الترمذي مرقوفا على أبي الدرداء
و روى أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : لأهل النار خمس دعوات يكلمون في أربع منها و يسكت عنهم في الخامسة فلا يكلمون يقولون :
{ ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل }
فيرد عليهم : { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا }
ثم يقولون : { ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون }
فيرد عليهم : { و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها }
إلى آخر الآيتين ثم يقولون :
{ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل }
فيرد عليهم { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال }
ثم يقولون : { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل }
فيرد عليهم : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير }
ثم يقولون : { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون }
فيرد عليهم :
{ اخسؤوا فيها و لا تكلمون } إلى قوله : { و كنتم منهم تضحكون }
قال : فلا يتكلمون بعد ذلك خرجه آدم بن أبي إياس و ابن أبي حاتم
و خرج ابن أبي حاتم من رواية قتادة عن أبي أيوب العتكي عن عبد الله ابن عمرو و قال : نادى أهل النار { يا مالك ليقض علينا ربك } قال : فخلى عنهم أربعين عاما ثم أجابهم : { إنكم ماكثون } فقالوا : { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } قال : فخلى عنهم مثل الدنيا ثم أجابهم : { اخسؤوا فيها و لا تكلمون } قال : فأطبقت عليهم فيئس القوم بعد تلك الكلمة و إن كان إلا الزفير و الشهيق
و عن عطاء بن السائب عن أبي الحسن عن ابن عباس في قوله تعالى : { و نادوا يا مالك ليقض علينا ربك } قال : فيتركهم ألف سنة ثم يقول : { إنكم ماكثون } و خرجه البيهقي و عنده عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس
و قال سنيد في تفسيره : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : نادى أهل النار خزنة جهنم أن { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } فلم يجيبوهم ما شاء الله ثم أجابوهم بعد حين و قالوا لهم : { ادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } ثم نادوا : { يا مالك ليقض علينا ربك } فيسكت عنهم مالك خازن جهنم أربعين سنة ثم أجابهم : { إنكم ماكثون } ثم نادى الأشقياء ربهم :
{ قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } الآيتين فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا ثم أجابهم بعد : { اخسؤوا فيها و لا تكلمون }
و روى صفوان بن عمرو قال : [ سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قال الله : يا أهل الجنة
{ كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم }
قال : نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي و رضواني و جنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول لأهل النار : { كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم سخطي و معصيتي و ناري امكثوا فيها خالدين مخلدين فيقولون : { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فيقول : { اخسؤوا فيها و لا تكلمون } فيكون ذلك آخر عهدهم بكلام ربهم عز و جل ] خرجه أبو نعيم و قال : كذا رواه أيفع مرسلا
و قال أبو الزعراء عن ابن مسعود : إذا أراد الله أن لا يخرج منها أحدا غير و جوههم و ألوانهم فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول : يا رب فيقال : من عرف أحدا فليخرجه قال : فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحدا فيناديه الرجل فيقول : يا فلان أنا فلان فيقول : ما أعرفك ! قال : فعند ذلك يقولون في النار : { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فيقول عند ذلك : { اخسؤوا فيها و لا تكلمون } فإذا قال ذلك أطبقت عليهم فلم يخرج منها أحد
و في رواية قال ابن مسعود ليس بعد هذه الآية خروج { اخسؤوا فيها و لا تكلمون }
و ذكر عبد الرزاق في تفسيره عن عبد الله بن عيسى عن زياد الخراساني أسنده إلى بعض أهل العلم قال : إذا قيل لهم : { اخسؤوا فيها و لا تكلمون } سكتوا فلا يسمع لهم فيها حس إلا كطنين الطست
فصل ـ [ أهل النار لا يزالون في رجاء حتى يذبح الموت ]
و لا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت فحينئذ يقع منهم الإياس و تعظم عليهم الحسرة و الحزن
و في الصحيحين [ عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة و النار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون و يقولون : نعم هذا الموت و يقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون فيقولون : نعم هذا الموت قال : فيؤمر به فيذبح ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم :
{ و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون } ]
و خرجه الترمذي بمعناه و زاد [ فلولا أن الله قضى لأهل الجنة بالحياة و البقاء لماتوا فرحا و لولا أن الله قضى لأهل النار بالحياة و البقاء لماتوا ترحا ]
و خرج الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه معناه [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال فيه : إن أهل الجنة يطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه و إن أهل النار يطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ] و في رواية الترمذي : [ مستبشرين يرجون الشفاعة ]
و خرجاه في الصحيحين [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم بمعناه و في حديثه فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم و يزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم ] و خرجه الترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم مختصرا و فيه : [ فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة و لو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار ]
و خرجه ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن مسعود من قوله نحو هذا المعنى غير مرفوع و زاد : [ أنه ينادى أهل الجنة و أهل النار : هو الخلود أبدا الآبدين ]
قال : فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرحه لماتوا و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا من شهقه لماتوا فذلك قوله :
{ و أنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين }
و قوله تعالى : { و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر }
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن هشام بن حسان قال : مر عمر بن الخطاب بكثيب من رمل فبكى فقيل له : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ذكرت أهل النار فلو كانوا مخلدين في النار بعدد هذا الرمل كان لهم أمد يمدون إليه أعناقهم و لكنه الخلود أبدا و قد روي عن ابن مسعود هذا المعنى أيضا مرفوعا و موقوفا و سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
فصل ـ عصاة الموحدين ينفعهم الدعاء في النار
و أما عصاة الموحدين فإنه ربما ينفعهم الدعاء في النار خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي ظلال عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان يا منان فيقول الله عز و جل لجبريل عليه السلام : اذهب فأتني بعبدي هذا فيذهب جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون فيرجع إلى الله عز و جل فيخبره فيقول ائتني به فإنه في مكان كذا و كذا فيجيء به و يوقفه على ربه فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك ؟ فيقول يا رب شر مكان و شر مقيل فيقول : ردوا عبدي فيقول : يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيقول : دعوا عبدي ]
أبو ظلال اسمه هلال ضعفوه
خرج الترمذي [ من طريق رشيدين بن سعد حدثني ابن أنعم ـ هو الإفريقي عن أبي عثمان أنه حدثه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن رجلين من دخل النار اشتد صياحهما فقال الرب عز و جل أخرجوهما فلما خرجا قال لهما لأي شيء اشتد صياحكما قالا : فعلنا ذلك لترحمنا قال : رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار قال : فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردا و سلاما و يقوم الآخر فلا يلقي نفسه فيقول له الرب عز و جل : ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك ؟ قال : إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني فيقول له الرب عز و جل : لك رجاؤك فيدخلا جميعا الجنة برحمة الله عز و جل ] قال الترمذي : إسناد هذا الحديث ضعيف
و في صحيح مسلم [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله عز و جل فيلتف أحدهم فيقول أي رب إذا أخرجتني منها فلا تعدني فيها قال : فينجه الله منها ] و خرجه ابن حبان في صحيحه و عنده : فليلتفت فيقول : يا رب ما كان هذا رجائي فيك فيقول : ما كان رجاؤك ؟ ! قال : كان رجائي إذا أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها فيC فيدخله الجنة
و خرج الإمام أحمد [ من رواية علي بن زيدان بن جدعان عن ابن المسيب عن أبي سعيد و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن آخر رجلين يخرجان من النار فيقول الله عز و جل لأحدهما : يا ابن آدم ما أعددت لهذا اليوم ؟ هل عملت خيرا قط ؟ هل رجوتني ؟ فيقول : لا أي رب فيؤمر به إلى النار فهو أشد أهل النار حسرة و يقول للآخر : ما أعدت لهذا اليوم ؟ هل عملت خيرا قط أو رجوتني ؟ لا أي رب إلا أني كنت أرجوك قال : فيرفع له شجرة ] و ذكر الحديث في دخوله الجنة و ما يعطى فيها
و خرج هناد بن السري [ من طريق أبي هارون العبدي و فيه ضعف شديد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : أن رجالا يدخلهم الله النار فيحرقهم بها حتى يكونوا فحما أسود و هم أعلى أهل النار فيجأرون إلى الله عز و جل يدعونه فيقولون : ربنا أخرجنا منها فاجعلنا في أصل هذا الجدار فإذا جعلهم في أصل الجدار رأوا أنه لا يغني عنهم شيئا قالوا : ربنا اجعلنا من وراء هذا السور لا نسألك شيئا بعده فيرفع لهم شجرة حتى تذهب عنهم سخنة النار أو شحنة النار ] و ذكر الحديث
الباب الثالث و العشرون ـ في ذكر نداء أهل النار أهل الجنة و أهل الجنة
أهل النار و تكليم بعضهم بعضا
قال الله تعالى : { و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } إلى قوله : { و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين }
قال سفيان بن عينة عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال : ينادي الرجل أخاه : إني قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال : أجبه فيقول ذكر إن الله حرمها على الكافرين
و قال سنيد في تفسيره : حدثنا حجاج عن أبي بكر بن عبد الله قال : ينادون أهل النار : يا أهل الجنة فلا يجيبونهم ما شاء الله ثم يقال : أجيبوهم و قد قطع الرحم و الرحمة فيقول أهل الجنة : يا أهل النار عليكم لعنة الله يا أهل النار عليكم غضب الله يا أهل النار لا لبيكم و لا سعديكم ماذا تقولون ؟ فيقولون : ألم نكن في الدنيا آباءكم و أبناءكم و إخوانكم و عشيرتكم ؟ فيقولون بلى فيقولون :
{ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين }
قال الله عز و جل : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أإنك لمن المصدقين }
قال خليد العصري في قوله تعالى : { فاطلع فرآه في سواء الجحيم }
قال : في وسطها و رأى جماجم تغلي فقال فلان : و الله لولا أن الله عز و جل عرفه إياه لما عرفه كقد تغير حبره و سبره فعند ذلك يقول :
{ إن كدت لتردين }
و قال تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر }
روى أبو الزعراء عن ابن مسعود أنه لا يترك في النار غير هؤلاء الأربعة قال : و ليس فيهم من خير
و في حديث مسكين أبي فاطمة [ عن اليمان بن يزيد عن محمد بن حمير عن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في خروج أهل التوحيد من النار قال : ثم يقول الله لأهل الجنة : اطلعوا لمن بقي في النار فيطلعون إليهم فيقولون :
{ ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين }
أي إن لم نكن منهم لو كنا لخرجنا معهم ] خرجه الإسماعيلي و غيره و هو منكر كما سبق ذكره
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن حفص حدثنا الثوري عن أبي خالد عن الشعبي قال : يشرف قوم في الجنة على قوم في النار فيقولون ما لكم في النار و إنما كنا نعمل بما كنتم تعلمون ؟ فيقولون : إنا كنا نعلمكم و لا نعمل به
و قال سعيد بن بشير : عن قتادة : إن في الجنة كوى إلى النار فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون : ما بال الأشقياء و إنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم ؟ فقالوا : إنا كنا نأمركم و لا نأتمر و ننهاكم و لا ننتهي
و قال معمر عن قتادة قال كعب : إن بين أهل النار و أهل الجنة كوى لا يشاء رجل من أهل الجنة أن ينظر إلى عدوه من أهل النار إلا فعل
و قال أحمد بن أبي الحواري : حدثنا عبد الله بن غياث عن الفزاري قال : لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب باب يدخل عليه زواره من الملائكة و باب يدخل عليه أزواجه من الحور و العين و باب مقفل في ما بينه و بين أهل النار يفتحه إذا شاء أن ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه و باب فيما بينه و بين دار السلام يدخل فيه على ربه إذا شاء
و خرج ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك في قوله تعالى :
{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك }
من الدر و الياقوت { ينظرون }
يعني على السرر ينظرون كان ابن عباس يقول : السرر بين الجنة و النار فيفتح أهل الجنة الأبواب فينظرون على السرر إلى أهل النار كيف يعذبون و يضحكون منهم و يكون ذلك مما يقر الله به أعينهم أن ينظروا إلى عدوهم كيف ينتقم الله منه
و خرج البيهقي و غيره [ من حديث علي بن أبي سارة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار : يا فلان هل تعرفني ؟ فيقول : لا و الله لا أعرفك من أنت فيقول أن الذي مررت بي في دار الدنيا فاستسقيتني شربة ماء فأسقيتك قال : قد عرفت قال : فاشفع لي بها عند ربك قال : فيسأل الله عز و جل فيقول : يا رب شفعني فيه فيؤمر به فليخرج من النار ]
الباب الرابع و العشرون ـ في ذكر خزنة جهنم و زبانيتها
قال الله تعالى : { عليها تسعة عشر * وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا }
قال آدم بن أبي إياس : حدثنا حمادة بن سلمة حدثنا الأزرق بن قيس عن رجل من بني تيم قال : كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية { عليها تسعة عشر } فقال : ما تقولون ؟ تسعة عشر ملكا ؟ قلنا : بل تسعة عشر ألفا فقال : و من أين علمت ذلك قال : قلت : لأن الله تعالى يقول : { و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } قال أبو العوام صدقت و بيد كل واحد منهم مرزبة من حديد لها شعبتان فيضرب بها الضرب يهو بها سبعين ألفا بين منكبي كل ملك منهم مسيرة كذا و كذا فعلى قول أبي العوام و من وافقه الفتنة للكفار إنما جاءت من ذكر العدد الموهم للقلة حيث لم يذكر المميز له
و يشبه هذا ما روى سعيد بن بشير عن قتادة في قوله :
{ و ما يعلم جنود ربك إلا هو } أي من كثرتهم
و كذلك روى إبراهيم بن الحكم بن أبان و فيه ضعف عن أبيه عن عكرمة قال : إن أول من وصل من أهل النار إلى النار وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم مسودة وجوههم كالحة أنيابهم قد نزع الله الرحمة من قلوبهم ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة لو طار الطائر من منكب أحدهم ليطير شهرين قبل أن يبلغ المنكب الآخر ثم يجدون على الباب التسعة عشر عرض صدر أحدهم سبعون خريفا ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة حتى يأتون الباب ثم يجدون على كل باب منها من الخزنة مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها خرجه ابن أبي الحاتم
و هذا يدل على أن كل باب من أبواب جهنم تسعة عشر خزانا هم رؤساء الخزنة تحت يد كل واحد منهم أربعمائة ألف
و المشهور بين السلف و الخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقتلهم و ظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم و ممانعتهم و لم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته و لهذا قال الله تعالى :
{ و ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } إلى قوله { و ما يعلم جنود ربك إلا هو }
قال السدي : إن رجلا من قريش يقال له أبو الأشدين قال : يا معشر قريش لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة و بمنكبي الأيسر التسعة الباقية ثم تمرون إلى الجنة ـ يقوله مستهزئا ـ فقال الله عز و جل : { و ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } و قال قتادة : ذكر لنا أبا جهل حين نزلت هذه الآية قال : يا معشر قريش أما يستطع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحدا من خزنة النار و أنتم الدهم و صاحبكم هذا يزعم أنهم تسعة عشر ؟ !
و قال قتادة : في التوراة و الإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر
و روي حديث [ عن الشعبي عن البراء في قوله الله عز و جل : { عليها تسعة عشر } قال : إن رهطا من يهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وسلم عن خزنة جهنم فقال : الله و رسوله أعلم فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه و آله وسلم فأنزل الله عليه ساعتئذ { عليها تسعة عشر } فأخبر أصحابه و قال : ادعهم فجاؤوا فسألوه عن خزنة جهنم فأهوى بأصابع كفيه مرتين و أمسك الإبهام في الثانية ] خرجه ابن أبي حاتم خرجه و حريث هو ابن أبي مطر ضعيف
و خرجه الترمذي من طريق مجالد [ عن الشعبي عن جابر قال : ناس من اليهود لناس من أصحاب صلى الله عليه و آله وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم قال : و ما غلبوا ؟ قال : سألتهم يهود هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قال : فما قالوا ؟ قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه و آله وسلم فقال : يغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا : أرنا الله جهرة علي بأعداء الله فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال : هكذا و هكذا في مرة عشرة و في مرة تسعة قالوا : نعم ] و هذا أصح من حديث حريث المتقدم قاله البيهقي و غيره
و خرج الإمام أحمد [ من حديث عبد الله بن العاص قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يوما كالمودع فقال : أنا محمد النبي الأمي ثلاثا و لا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم و خواتمه و جوامعه و علمت كم خزنة النار و حملة العرش ] و ذكر بقية الحديث

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : عليها ملائكة غلاظ شداد
و قد وصف الله الملائكة الذين على النار بالغلظ و الشدة قال الله تعالى :
{ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون }
و روى أبو نعيم بإسناده عن كعب قال : إن الخازن من خزان جهنم مسيرة ما بين منكبيه سنة و إن مع كل واحد منهم لعمود له شعبتان من حديد يدفع به الدفعة فيكب به في النار سبعمائة ألف
و روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن الملك من خزنة جهنم ما بين منكبيه مسيرة خريف فيضرب الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحينا من لدن قرنه إلى قدمه و في رواية أخرى له قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة خريف و ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب
و روى الجوزجاني بإسناده [ عن صالح أبي الخليل قال : ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه و آله وسلم بعث الله إليه نفرا رمن الرسل فتلقوه بالفرح و البشر و في ناحية المسجد مصلى يصلي لا يلتفت إليه فقام إليه فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : ما منكم من أحد إلا قد رأيت منه البشر و الفرح غير صاحب هذه الزاوية فقالوا : أما إنه قد فرح بك كما فرحنا و لكنه خازن من خزان جهنم ]
و روى بكر بن خميس [ عن عبد الله الجسري عن الحسين أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و آله وسلم : لو أنا خازنا من خزان جهنم أشرف على أهل الأرض لمات أهل الأرض مما يرون من تشويه خلقه ] مرسل ضعيف

فصل ـ في تفسير قوله تعالى : و نادوا يا مالك
قال الله تعالى : { و نادوا يا مالك }
و مالك هو خازن جهنم و هو كبير الخزنة و رئيسهم و قد رآه النبي صلى الله عليه و آله وسلم ليلة الإسراء و بدأه مالك بالسلام خرجه مسلم من حديث أنس رآه النبي صلى الله عليه و آله وسلم في منامه و هو كريه المرآة ـ أي كرية المنظر ـ كأكره ما أنت راء من الرجال و قد سبق هذا من حديث سمرة بن جندب

فصل ـ تفسير قوله تعالى فليدع ناديه سندع الزبانية
قال الله تعالى : { فليدع ناديه * سندع الزبانية }
قال أبو هريرة : الزبانية : الملائكة و قال عطاء : هم الملائكة الغلاظ الشداد و قال مقاتل : هم خزنة جهنم و قال قتادة : الزبانية في كلام العرب : الشرط و قال عبد الله بن الحارث : الزبانية رؤوسهم في الأرض و أرجلهم في السماء خرجه ابن أبي حاتم و خرج أيضا بإسناده عن المنهال بن عمرو قال : إذا قال الله تعالى : { خذوه فغلوه } ابتدره سبعون ألف ملك و إن الملك منهم ليقول هكذا ـ يعني يفتح يديه ـ فيلقى سبعين ألفا في النار

الباب الخامس و العشرون ـ في ذكر مجيء النار يوم القيامة و خروج عنق منها
يتكلم
قال الله عز و جل : { كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا * وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول يا ليتني قدمت لحياتي }
و قال الله تعالى : { فإذا جاءت الطامة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى }
و قال الربيع بن أنس في قوله : { و برزت الجحيم لمن يرى } قال : كشف عنها غطاؤها و قال تعالى :
{ كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين }
و روى العلاء بن خالد الكاهلي [ عن أبي وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يؤتى يومئذ بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ] خرجه مسلم من طريق حفص بن غياث عن العلاء به و خرجه الترمذي من طريق سفيان عن العلاء موقوفا على ابن مسعود و رجح العقيلي و الدارقطني
و خرج ابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية :
{ و جيء يومئذ بجهنم }
تغير لون النبي صلى الله عليه و آله وسلم و عرف ذلك في وجهه حتى اشتد ذلك على أصحابه فسألوه فقال : [ إنه جاءني جبريل فأقرأني هذه الآية قال : كيف يجاء بها ؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام تشرد مرة لو تركت لأحرقت أهل الجمع و من عليه ثم تعرض جهنم فتقول : مالي و مالك يا محمد لقد حرم الله لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال : نفسي نفسي و محمد صلى الله عليه و آله وسلم يقول : أمتي أمتي ]
الوصافي شيخ صالح لا يحفظ فكثرت المناكير في حديثه
و خرج أبو يعلى الموصلي [ من حديث أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا جمع الله الناس في صعيد واحد يوم القيامة أقبلت النار يركب بعضها بعضا و خزنتها يكفونها و هي تقول : و عزة ربي لتخلن بيني و بين أزواجي أو لأغشين الناس عنقا واحدا فيقولون : من أزواجك ؟ فيقول : كل متكبر جبار ]
و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يخرج يوم القيامة عنق من النار لها عينان تبصران و أذنان تسمعان و لسان ينطق تقول : إني وكلت بثلاثة : بكل جبار عنيد و بكل من دعا مع الله إلها آخر و بالمصورين ] و صحيحه الترمذي و قد قيل : إنه ليس بمحفوظ بهذا الإسناد و إنما يرويه الأعمش [ عن عطية عن أبي سعيد و غير واحد عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يخرج عنق من النار يتكلم يقول : و كلت اليوم بثلاثة : بكل جبار عنيد و من جعل مع الله إلها آخر و من قتل نفسا بغير نفس فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم ] خرجه الإمام أحمد و خرجه البزار و لفظه : [ يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق لها عينان تبصر بهما و لها لسان تتكلم به فتقول : إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر و بكل جبار عنيد و بكل من قتل نفسا فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام ] و قد روي عن عطية عن أبي سعيد موقوفا
و روى ابن لهيعة [ عن خالد بن أبي عمران عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يخرج عنق من النار فتنطوي عليهم و تتغيظ و يقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة و كلت بمن دعا مع الله إلها آخر و وكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب و وكلت بكل جبار عنيد فتنطوي عليهم فتطرحهم في غمرات جهنم ] خرجه الإمام أحمد
و روي [ عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يخرج عنق من النار فيظل الخلائق كلهم فيقول : أمرت بكل جبار عنيد و من زعم أنه عزيز كريم و من دعا مع الله إلها آخر ] و رواه أبو المنهال سيار بن سلامة عن شهر بن حوشب عن ابن عباس موقوفا قال : إذا كان يوم القيامة خرج عنق من النار فأشرفت على الخلائق لها عينان تبصران و لسان فصيح تقول : إني وكلت بكل جبار عنيد فتلقطهم من الصفوف فتحسبهم في نار جهنم ثم تخرج ثانيا فتقول : إني وكلت بمن آذى الله و رسوله فتلقطهم من الصفوف فتحبسهم في نار جهنم ثم تخرج ثالثة قال أبو المنهال : أحسب أنها قالت : إني وكلت اليوم بأصحاب التصاوير فتلقطهم من الصفوف فتحسبهم في نار جهنم
و في حديث الصور الطويل الذي خرجه إسحاق بن راهويه و أبو يعلى الموصلي و غيرهما بإسناده فيه ضعيف [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : ثم يأمر الله تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطعة مظلمة فيقول :
{ و امتازوا اليوم أيها المجرمون } إلى قوله { أفلم تكونوا تعقلون } ]
و خرج ابن أبي الدنيا من طريق الشعبي عن أبي هريرة قال : يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام آخذ بكل زمام سبعون ألف ملك و هي تمايل عليهم حتى توقف عن يمين العرش و يلقي الله عليها الذل يومئذ فيوحي الله إليها : ما هذا الذل ؟ فيقول : يا رب أخاف أن يكون لك في نقمة فيوحي الله إليها : إنما خلقتك نقمة و ليس لي فيك نقمة و يوحي الله إليها فتزفر زفرة لا تبقى دمعة في عين إلا جرت ثم تزفر أخرى فلا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا صعق إلا نبيكم نبي الرحمة صلى الله عليه و آله وسلم يقول : يا رب أمتي أمتي
و روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن أبي عبد الله الجدلي عن عبادة بن الصامت و كعب قالا : يخرج عنق من النار : أمرت بثلاثة : بمن جعل مع الله إلها آخر و بكل جبار عنيد و بكل معتد ألا إني أعرف بالرجل من الوالد بولده و المولود بوالده
الباب السادس و العشرون ـ في ضرب الصراط على متن جهنم ـ و هو جسر جهنم و
مرور الموحدين عليه
روى زيد بن أسلم [ عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر حديثا طويلا قال : ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة فيقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله و ما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف و كلاليب و حسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمره المؤمن كظرف العين و كالبرق و كالريح و كالطير و كأجاويد الخيل و الركاب فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكدوس على وجهه في النار ] خرجاه في الصحيحين و في رواية للبخاري [ حتى يمر آخرهم يسحب سحبا ] و في رواية لمسلم قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدق من الشعر و أحد من السيف
و روى آدم بن أبي إياس في تفسيره : [ حدثنا أبو عمرو الصنعاني عن زيد ابن أسلم فذكر الحديث و لفظه : يمر المؤمنون على الصراط بنورهم فمنهم من يمر كطرف العين ] و ذكر الحديث
و خرجا في الصحيحين أيضا [ من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر الحديث و فيه قال : و يضرب الجسر بين ظهراني جهنم فأكون أنا و أمتي أول من يجيزه و لا يتلكم في ذلك اليوم إلا الرسل و دعوة الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم و في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمتها إلا الله عز و جل تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله و منهم المجازى حتى ينجى ] و ذكر الحديث و في آخره قال : و أبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيء
و خرج مسلم [ من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة و أبي مالك عن ربعي عن حذيفة كلاهما عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر حديث الشفاعة و فيه قال : فيأتون محمدا صلى الله عليه و آله وسلم فيقوم و يؤذن له و ترسل معه الأمانة و الرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا و شمالا فيمر أولكم كالبرق قال : قلت بأبي أنت و أمي أي شيء كمر البرق ؟ قال : ألم تر إلى البرق كيف يمر و يرجع في طرفه عين ؟ ! ثم كمر الريح ثم كمر الطير و أشد الرجال تجري بهم أعمالهم و نبيكم صلى الله عليه و آله وسلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد و حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا قال : و في حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه فمخدوش ناج و مكردس في النار و الذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفا ]
و في حديث الصور الطويل الذي سبقت الإشارة إليه [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : و يضرب الصراط بين ظهراني جهنم كقدر الشعرة أو كحد السيف له كلاليب و خطاطيف و حسك كحسك السعدان دونه جسر دحض مزلقة ] و هو يشعر بالتفريق بين الجسر و الصراط و الأحاديث الصحيحة السابقة تدل على أنهما واحد
و روى أبو خالد الدالاني [ عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر حديثا طويلا و فيه قال : و الصراط كحد السيف دحض مزلة قال : فيقولون : انجوا على قدر نوركم فمنهم من يمر كأشد الرجال و يرمل رملا فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدميه تخر يد و تتعلق يد و تخر رجل و تعلق رجل فتصيب جوانبه النار ] خرجه الحاكم و صححه هو و غيره من الحفاظ
و في سنن أبي داود [ عن الحسن عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت النار فبكت فقال لها رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : مالك يا عائشة ؟ قالت : ذكرت فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا : عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل و عند الكتب حين يقال : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أو من وراء ظهره و عند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حافتاه كلاليب كثيرة و حسك كثيرة يحبس الله بها من شاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا ]
و روى ابن لهيعة [ عن خالد بن أبي عمران عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم نحوه إلا أنه ذكر الميزان و تطاير الكتب و خروج عنق من النار و قال : و لجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف و عليه كلاليب و حسك تأخذ من شاء الله و الناس عليه كالطرف و كالبرق و كالريح و كأجاويد الخيل و الركاب و الملائكة يقولون : رب سلم سلم فناج مسلم و مخدوش مسلم و مكردس في النار على وجهه ]
خرجه الإمام أحمد
و روى أبو سلام الدمشقي : [ حدثني عبد الرحمن حدثني رجل من كندة قال : أتيت عائشة فقلت : حدثك رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة ؟ قالت : لقد سألته عن هذا قال : نعم حين يوضع الصراط لا أملك لأحد فيه شفاعة حتى أعلم أين يسلك بي و يوم تبيض وجوه و تسود وجوه حتى أنظر ماذا يفعل بي أو قال : يوحى إلي و عند الجسر حين يستحد و يستحر قلت : و ما يستحد و ما يستحر ؟ قالت : يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف و يستحر حتى يكون مثل الجمرة فأما المؤمن فيجيزه لا يضره و أما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ وسطه خر من قدميه فهوى بيده إلى قدميه قالت : فهل رأيت من يسعى حافيا فتأخذه شوكة حتى كادت تنفذ قدميه ؟ ! فإنها كذلك يهوي بيده و رأسه إلى قدميه فتضربه الزبانية بخطاب في ناصيته و قدميه فتقذفه في جهنم فيهوي فيها مقدار خمسين عاما قلت : و ما ثقل الرجل قال : ثقل عشر خلفات سمان فيومئذ :
{ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } ]
خرجه بقي بن مخلد في مسنده و ابن أبي حاتم في تفسيره و في إسناده جهالة و في بعض ألفاظه نكارة
و الأحاديث الصحيحة تدل على أن الصراط إنما يوضع بعد الإذن في الشفاعة كما سبق و خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقاذع بهم جنبتا الصراط تفاذع الفراش في النار فينجي الله برحمته من شاء ]
و خرج الحاكم [ من حديث سليمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك ! ] و قال : صحيح قلت : المعروف أنه موقوف على سلمان الفارسي من قوله
و خرج الحاكم أيضا [ من حديث أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : و تسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة فيقول : حس حس فيقول ربك : ادنه ]
و خرج البيهقي [ من حديث زياد النمري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : الصراط كحد السفرة أو كحد السيف و إن الملائكة ينجون المؤمنين و المؤمنات و إن جبريل لآخذ بحجزتي و إني لأقول ذكر يا رب سلم سلم فالزالون و الزالات يومئذ كثير ]
و خرج أيضا من حديث سعيد بن زرني [ عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : على جهنم جسر مجسور أدق من الشعر و أحد من السيف أعلاه نحو الجنة دحض مزلة بجنبتيه كلاليب و حسك من النار يحبس الله بها من يشاء من عباده الزالون و الزالات يومئذ كثير و الملائكة بجانبيه قيام ينادون : اللهم سلم سلم فمن جاء بحق يومئذ جاز و يعطون النور يومئذ على قدر إيمانهم بأعمالهم فمنهم من يمضي عليه كلمح البرق و منهم من يمضي عليه كمر الريح و منهم من يمضي عليه كمر الفرس السابق و منهم من يشتد عليه شدا و منهم من يهرول و منهم من يعطى نوره إلى موضع قدميه و منهم من يحبو حبوا و تأخذ النار منهم بذنوب أصابوها فعند ذلك يقول المؤمن : بسم الله حس حس و يلتوي و هي تحرق من شاء الله منهم على قدر ذنوبهم ] ثم قال البيهقي في زياد النميري و يزيد الرقاشي و سعيد بن زربي : ليسوا بأقوياء
خرج أيضا من حديث [ عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : الصراط على جهنم مثل حرف السيف بجنبتيه الكلاليب و الحسك فيركبه الناس فيختطفون و الذي نفسي بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة و مضر ] و هذا مرسل و خرجه من وجه آخر موقوفا على عبيد بن عمير مختصرا و خرج أيضا بإسناده [ عن ابن مسعود قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ]
و خرج الترمذي بإسناد فيه ضعيف [ عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : شعار المؤمنين على الصراط : رب سلم سلم ] و يروى نحوه من حديث أنس مرفوعا بإسناد لا يصح [ و روى منصور بن عمار عن ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : شعار أمتي إذا حملواة على الصراط : لا إله إلا أنت ] و هذا فيه نكارة و الله أعلم
و في صحيح مسلم [ عن مسروق عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه و آله وسلم : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ؟ قال : على الصراط ]
و فيه أيضا [ عن ثوبان أن حبرا من اليهود سأل النبي صلى الله عليه و آله وسلم : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ؟ قال : هم في الظلمة دون الجسر قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال : فقراء المهاجرين ] و ذكر الحديث و يمكن الجمع بين الحديثين بأن الظلمة دون الجسر حكمها حكم الجسر و فيها تقسيم الأنوار للجواز على الجسر فقد يقع تبديل الأرض و السموات و طي السماء من حين وقوع الماس في الظمة و يمتد ذلك إلى حال المرور على الصراط و الله أعلم
و اعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده و لا شريك به شيئا و مشرك يعبد مع الله غيره فأما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط إنما يقعمون في النار قبل وضع الصراط و يدل على ذلك ما في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع الشمس من يعبدها و يتبع القمر من يعبد القمر و يتبع الطواغيت من يعبد الطواغيت و تبقى هذه الأمة فيها منافقوها فذكر الحديث إلى أن قال : و يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا و أمتي أول من يجيزه ]
و فيهما أيضا [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام و الأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق غير من كان يعبد الله من بر و فاجر و غير أهل الكتاب فتدعى اليهود فيقال : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزير ابن الله فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة و لا ولد فماذا تبغون ؟ قالوا : عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة و لا و لد
فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا ربنا فاسقنا قال : فيشار إليهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر و فاجر أتاهم رب العالمين فذكر الحديث إلى أن قال : فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد الله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد اتقاء و رياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول من صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم ] و ذكر الحديث و عند البخاري في رواية [ ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ ] و ذكر الباقي بمعناه
فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح وعزير من أهل الكتاب فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط إلا أن عباد الأصنام و الشمس و القمر و غير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا فترد النار مع معبودها أولا و قد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى في شأن فرعون :
{ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار و بئس الورد المورود }
و أما من عبد المسيح و العزير من أهل الكتاب فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إلى الأنبياء ثم يردون في النار بعد ذلك
و قد ورد في حديث آخر أن من كان يعبد المسيح يمثل له شيطان المسيح فيتبعونه و كذلك من كان يعبد العزير و في حديث الصور أنه يمثل لهم ملك على صورة المسيح و ملك على صورة العزير و لا يبقى بعد ذلك إلا من كان يعبد الله وحده في الظاهر سواء كان صادقا أو منافقا من هذه الأمة و غيرها ثم يتميز المنافقون على المؤمنين بامتناعهم من السجود و كذلك يمتازون عنهم بالنور الذي يقسم المؤمنين
و قد اختلف السلف هل يقسم للمنافين نور مع المؤمنين ثم يطفأ أو لا يقسم له نور بالكلية على قولين :
فقال أحدهما : إنه لا يقسم له نور بالكلية قال صفوان بن عمرو : حدثني سليم بن عامر سمع أبا أمامة يقول : يغشى الناس ظلمة شديدة ـ يعني يوم القيامة ـ ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا و يترك الكافر و المنافق فلا يعطيان شيئا و هو المثل الذي ضربه الله في كتابه قال تعالى :
{ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
فلا يستضيء الكافر و المنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير
و { يوم يقول المنافقون و المنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا }
قال : و هي خدعة الله خدع بها المنافقين قال عز جلاله :
{ يخادعون الله و هو خادعهم }
فيرجعون إلى الموضع الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم
{ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب } إلى قوله : { و بئس المصير }
قال سليم : فلا يزال المنافق مغترا حتى يقسم النور و يميز الله الله بين سبيل المؤمن و المنافق خرجه ابن أبي حاتم و خرج أيضا من رواية مقاتل بن حيان و الضحاك عن ابن عباس ما يدل على مثل هذا القول أيضا و لكنه منقطع
و القول اثاني : أنه يقسم للمنافين النور مع المؤمنين كما كانوا مع المؤمنين في الدنيا ثم يطفأ نور المنافقين إذ بلغ السور قاله مجاهد و روى عتبة بن يقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال : ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافقين فيطفأ نوره فالمؤمن يشفق مما يرى من إطفاء نور المنافق فهم :
{ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا }
و روى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه و كذا روى جويبر عن الضحاك
و سنذكر في الباب الآتي إن شاء الله من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ما يدل على صحة هذا القول
و قال آدم بن أبي إياس : [ أنبأنا المبارك بن فضلة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : يدفع يوم القيامة إلى كل مؤمن نور و إلى كل منافق نور فيمشون معه فبينمكا نحن على الصراط إذ غشينا ظلمة فيطفأ نور المنافق و يضيء نور المؤمن فعند ذلك
{ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا }
حين يضيء نور المنافقين ] و قد سبق صفة مشي المنافق على الصراط في حديث عائشة و إن كان في إسناده ضعيف
و روى بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام قال : يوضع الجسر على جهنم ينادي مناد : أين محمد و أمته ؟ فيقوم فتتبعه أمته برها و فاجرها قال : فيأخذون الجسر فيطمس الله أنظار أعدائه فيتهافتون فيها من شمال و يمين و ينجو النبي و الصالحون معه ثم ينادي مناد : أين عيسى و أمته ؟ فيقوم فتتبعه أمته يرها و فاجرها فيأخذون بالجسر فيطمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون فيها من شمال و يمين فينجو النبي و الصالحون معه ثم يتبعهم الأنبياء و الأمم حتى يكون آخرهم نوح رحم الله نوح خرجه ابن خزيمة و غيره
و قد تبين بما ذكرنا في هذا الباب من حديث ابن مسعود و أنس و غيرهما أن اقتسام المؤمنين الأنوار على حسب إيمانهم و أعمالهم الصالحة و كذلك مشيهم على الصراط في السرعة و البطء و هذا أيضا مذكور في حديث حذافة و أبي هريرة و غيرهما
و روى أبو الزعراء عن ابن مسعود قال : يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرا زمرا أوائل كلمح كلمح البرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير ثم كمر البهائم حتى يمر الرجل سعيا و حتى يمر الرجل مشيا حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه فيقول : يا رب لم بطأت بي ؟ فيقول : إني لم أبطىء بك إنما أبطأت بك عملك
و ذلك أن الأيمان و العمل الصالح في الدنيا هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد بسلوكه و الاستقامة عليه و أمرهم بسؤال الهدية إليه فمن استقام سيره على هذا المسقيم في الدنيا ظاهرا و باطنا استقام مشيه على ذلك الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على هذا الصراط المستقيم قوله الدنيا بل انحرف عنه إما إلى فتنة الشبهات أو إلى فتنة الشهوات كان اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم بحسب اختطاف الشبهات و الشهوات له عن هذا الصراط المستقيم كما في حديث أبي هريرة : إنها تخطف الناس بأعمالهم
و روى الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله في قوله تعالى :
{ إن ربك لبالمرصاد }
قال : من وراء الصراط ثلاثة جسور جسر عليه الأمانة و جسر عليه الرحم و جسر عليه الرب تبارك و تعالى
و قال أيفع بن عبد الكلاعي : لجهنم سعة قناطر و الصراط عليها و ذكر أنه يحبس الخلق عند القنطرة الأولى فيسألون عن الصلاة فيهلك من يهلك و يهنجو من ينجو و يحبسون عند القنطرة الثانية فيسألون الأمانة هل أدوها أم أضاعوها فيهلك من يهلك و ينجو من ينجو ثم يحبسون عند الثالثة فيسألون عن الرحم و قد ذكرنا فيما تقدم غير حديث في حبس الولاة على جسر جهنم و تزلزل الجسر بهم
و خرج أبو داود [ من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من رمى مسلما بشيء يريد به تشيينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ] و قد روي بلفظ آخر و هو [ من قال في مؤمن مالا يعلم حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ]
و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي سليمان الداراني قال : و صفت لأختي عبدة قنطرة من قناطر جهنم فأقامت يوما و ليلة في صيحة واحدة أمسكت ثم انقطع عنها بعد فكلما ذكرت لها صاحت قيل له : من أي شيء كان صياحها ؟ قال : مثلت نفسها على القنطرة و هي تكفأ بها و كان أبو سفيان يقول : إذا سمعت الرجل يقول لآخر : بيني و بينك الصراط و لا يدري ما هو لو عرف الصراط أحب أن لا يتعلق بأحد و لا يتعلق به أحد
و كان أبو مسلم الخولاني يقول لا مرأته : يا أم مسلم شدي رحلك فليس على جسر جهنم معبر
و روى ابن أبي الدنيا من طريق معاوية بن أبي صالح عن أبي اليمان أن رجلا كان شابا أسود الرأس و اللحية فنام ليلة فرأى في نومه كأن الناس حشروا و إذا بنهر من لهب نار و إذا جسر يجوز الناس عليه يدعون بأسمائهم فإذا دعي الرجل أجاب فناج و هالك قال : فدعاني باسمي فدخلت في الجسر فإذا حده كحد السيف يمور بي يمينا و شمالا قال : فأصبح الرجل أبيض اللحية و الرأس مما رأى
و سمع أسود بن سالم رجلا ينشد هذين البيتين :
( أمامي موقوف قدام ربي ... يسائلني و ينكشف الغطاء )
( و حسبي أن أمر على صراط ... كحد اليف أسفله لظاء )
فغشي عليه
و روي عن بشر بن الحارث قال : قال لي فضيل بن عياض : يا بشر مسيرة الصراط خمسة عشر ألف فرسخ فانظر كيف تكون على الصراط
قال محمد بن السماك : سمعت رجلا من زهاد أهل البصرة يقولون : الصراط ثلاثة ألف سنة ألف سنة يصعدون فيه و ألف سنة يستوي بهم و ألف سنة يهبطون منه
و روى فضيل بن إسحاق عن الفضيل قال : الصراط أربعون ألف فرسخ
و روى ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء من حديث جعفر بن سليمان قال : سمعت مالك بن دينار يسأل علي بن زيد ـ و هو يبكي ـ فقال : يا أبا الحسن كم بلغك أن ولي الله يحبس علىالصراط ؟ قال : كقدر رجل في صلاة مكتوبة أتم ركوعها و سجودها قال فهل بلغك أن الصراط يتسمع لأولياء الله ؟ قال : نعم
و من حديث رشيدين بن سعد عن عمر بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال قال : بلغنا أن الصراط يكون على بعض الناس أدق من الشعر و على بعض الناس مثل الوادي الواسع
و قال سهل التستري من دق عليه الصراط في الدنيا عرض له في الآخرة و من عرض عليه الصراط في الدنيا دق عليه في الآخرة و معنى هذا أن من ضيق على نفسه في الدنيا باتباع الأمر و اجتناب النهي و هو حقيقة الاستقامة على الصراط المستقيم في الدنيا كان جزاؤه أن يتسع له الصراط في الآخرة ومن وسع على نفسه في الدنيا باتباع الشهوات المحرمة و الشبهات المضلة حتى خرج عن الصراط المستقيم ضاق عليه الصراط في الآخرة بحسب ذلك و الله أعلم
رأى بعض السلف رجلا يضحك فقال له : ما أضحكك ؟ ليس تقر عينك أبدا أو تخلف جهنم وراءك
و قال أحمد بن أبي الحواري : حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة البيساني عن معاذ بن جبل يرفعه قال : إن المؤمن لا تسكن روعته و لا يأمن اضرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره خرجه ابن أبي الحاتم و قال : أبو حمزة مجهول و يونس الحذاء قال : و أبو حمزة عن معاذ مرسل و الله أعلم
الباب السابع والعشروبن ـ في ذكر و رود النار نجانا الله منها برحمته
قال الله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }
روى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : بكى عبد الله بن رواحة فبكت امرأته فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت قال : إني ذكرت هذه الآية { و إن منكم إلا واردها } و قد علمت أني داخلها فلا أدري أناج منها أنا أم لا
و روى ابن المبارك عن عباد المقبري عن بكر المزني قال : لما نزلت هذه الآية { و إن منكم إلا واردها } ذهب ابن روحة إلى بيته فبكى وجاءت المرأة فبكت و جاءت الخادم فبكت ثم جاء أهل البيت فجعلوا يبكون كلهم فلما انقطعت عبرته قال : يا أهلاه ما يبكيكم ؟ قالوا : لا ندري و لكنا رأيناك تبكي فبكينا قال : آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ينبئني فيها ربي أني وارد النار و لم ينبئني أني صادر عنها
و قال موسى بن عقبة في مغازيه : زعموا أن ابن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤته فبكى أهله حين رأوه يبكي فقال : و الله ما بكيت جزعا من الموت و لا صبابة لكم ولكني بكيت جزعا من قول الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } فأيقنت أني واردها فلا أدري أنجو منها أم لا
و قال حفص بن حميد عن شمر بن عطية : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يبكي و يقول : رب أنا ممن تنجي ؟ أم ممن تذر فيها جيثيا ؟ !
و روى أبو إسحاق عن أبي ميسرة أنه كان إذا أوى إلى فراشه قال : ياليت أمي لم تلدني فقالت له امرأته : يا أبا ميسرة إن الله قد أحسن إليك هداك للإسلام قال : أجل إن الله يبين لنا أنا واردو النار و لم يبين أنا صادرون منها
و روينا من طريق سفيان بن حسين عن الحسن قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إذا التقوا يقول الرجل منهم لصاحبه : هل أتاك أنك وارد في النار فيقول : نعم فيقول : هل أتاك أنك خارج منها فيقول : لا قال : فيقول : ففيم الضحك إذا ؟
و قال ابن عينة عن رجل عن الحسن : قال رجل لأخيه يا أخي هل أتاك انك وارد النار ؟ قال : نعم قال : هل أتاك أنك خارج منها ؟ قال لا قال : ففيم الضحك إذا ؟ قال : فما رؤي ضاحكا حتى مات
و قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن في قوله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } قال : قال رجل لأخيه : فقد جاءك عن الله أنك وارد في جهنم ؟ قال : نعم قال : فأيقنت بالورود ؟ قال : نعم قال : فأيقنت و صدقت بذلك ؟ قال : نعم وكيف لا أصدق و قد قال الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } قال : فأيقنت أنك صادر عنها ؟ قال : و الله ما أدري أأصدر عنها أم لا قال : ففيم التثاقل ؟ و فيم الضحك ؟ و فيم اللعب ؟
قال أحمد : و حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك قال : سمعت الحسن يقول : لا و الله إن أصبح فيها مؤمن إلا حزينا و كيف لا يحزن المؤمن و قد جاءه عن الله أنه وارد جهنم و لم يأته أنه صادر عنها ؟
قال أحمد : و أنبأنا حسين بن محمد حدثنا ابن عياش عن عبد الله بن دينار أن لقمان قال لابنه : يا بني كيف يأمن النار من هو واردها ؟
و قد اختلف الصحابة و من بعدهم في تفسير الورود فقالت طائفة : الورود هو المرور على الصراط و هذا قول ابن مسعود و جابر و الحسن و قتادة و عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم و الكلبي و غيرهم
و روى إسرائيل [ عن السدي قال : سألت مرة الهمداني عن قول الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } فحدثني عن ابن مسعود أنه حدثهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كسير الرجل ثم كمشيه ] خرجه الترمذي و قال حديث حسن
و خرج الإمام أحمد أوله و خرجه الحاكم و قال : صحيح و رواه شعبة عن السدي عن مرة عن عبد الله موقوفا و لو يرفعه شعبة مع أنه قرأ بأن السدي حدثه به مرفوعا قال الدر قطني : يحتمل أن يكون مرفوعا
قلت : و رواه أسباط عن مرة الهمداني عن عبد الله موقوفا أيضا فقال : يرد الناس الصراط جميعا و ورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر كالبرق فذكر الحديث بطوله و في آخره : حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على إبهامي قدميه يتكفأ به الصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس و ذكر بقية الحديث خرجه ابن أبي حاتم
و رواه الحكم بن ظهير [ عن السدي عن مرة عن عبد الله فرفع آخر الحديث و لفظ حديثه قال عبد الله : الورود ليس بالدخول فيها و لكنه حضورها و الوقوف عليها مثل الدابة ترد الماء و لا تدخله ثم قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : يضع الله الصراط على جهنم فيجوز العباد عليه و ذكر الحديث بطوله و في آخره : و لو قيل لأهل النار : إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا سنة لرجوا و قالوا : إنا لا بد مخرجون و لو قيل لأهل الجنة : إنكم ماكثون في الجنة عدد كل حصاة في الدنيا سنة حزنوا و قالوا : إنا لا بد مخرجون و لكن الله جعل لهما الأبد و لم يجعل لهما الأمد ] و الحكم بن ظهير ضعيف
و لعل هذا الكلام في آخر الحديث موقوف على ابن مسعود فإنه روي عنه موقوفا من وجه آخر بإسناد جيد قال أبو الحسن بن البراء العبدي في كتاب الروضة له : حدثنا أحمد بن خالد هو الخلال حدثنا عثمان بن عمر حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال : لو أن أهل جهنم و عدوا يوما من أبد أو عدد أيام الدنيا لفرحوا بذلك اليوم لأن كل ما هو آت قريب
و قد روي أول الحديث من طريق أبي إسحاق مرقوفا أيضا بمخالفة في الإسناد فروى عمرو بن طلحة القتاد عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله { و إن منكم إلا واردها } قال الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطائفة الأولى كالبرق و الثانية كالريح و الثالثة كأجود الخيل و الرابعة كأجود الإبل و البهائم ثم يمرون و الملائكة يقولون : رب سلم سلم خرجه الحاكم و قال : صحيح على شرط الشيخين و كذا خرجه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن إسرائيل
و خرج مسلم في صحيحه من حديث روح بن عبادة أبنأنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود فقال : نحن يوم القيامة على كذا و كذا انظر أي ذلك فوق الناس قال فتدعىالأمم بأوثانها و ما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول : من تنتظرون ؟ فنقول : ننتظر ربنا فيقول : أنا ربكم فيقولون : حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك فينطلق بهم فيتبعونه و يعطي كل إنسان منهم مؤمن أو منافق نوره ثم يتبعونه و على جسر جهنم كلاليب و حسك تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فينجو أول زمرة وجوهم كالقمر و ذكر بقية الحديث كذا خرجه مسلم عن عبد الله بن سعيد ـ و هو الأشج ـ و إسحاق بن منصور و كلاهما عن روح به
و خرجه الإمام أحمد [ عن روح به و زاد فيه بعد قوله : فيتجلى لهم يضحك قال : سمعت النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال ذكر فينطلق بهم فيتبعونه ] و ساق الحديث فجعله من هذا الموضع مرفوعا و ما قبله مرقوفا و قد روى محمد بن شرحبيل الصنعاني عن ابن جريح هذا الحديث فرفع أوله أيضا و هو ذكر التجلي و الضحك و رواه عبد الرزاق عن رباح بن زيد عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فذكر التجلي وروى عنه الحديث كله أيضا بهذا الإسناد و هذا يدل على أن أول الحديث لم يكن عند ابن جريج عن أبي الزبير مرفوعا و إن كان عنده كله مرفوعا [ عن زياد بن سعد عن أبي الزبير و كذلك رواه أبو قرة عن مالك عن زياد ابن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ] فذكره كله مرفوعا و كذلك رواه ابن لهيعة [ عن أبي الزبير قال سمعت جابرا يسأل عن الورود فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول : نحن يوم القيامة على كوم ] و ذكر الحديث كله مرفوعا و في حديثه زيادة بعد قوله : و يعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا أو يغشاه ظلمة و قوله في هذه الرواية : [ و نحن يوم القيامة على كوم ] هذه الرواية الصحيحة
و أما ما ورد في رواية روح عن ابن جريج عن كذا و كذا فإن أصله تصحيف من الراوي للفظة كوم فكتب عليه كذا و كذا لإشكال فهمه عليه ثم كتب انظر أي ذلك يأمر الناظر فيه بالتروي و الفكر في صحة لفظه فأدخل ذلك كله في الرواية قديما و لم يقع ذلك في نسخ صحيح مسلم كما يظنه بعضهم فإن الحديث في مسند الإمام أحمد و كتاب السنة لابنه عبد الله كذلك
و خرجه الطبراني في كتاب السنة [ من طريق أبي عاصم عن ابن جريح أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل عن الورود فقال : نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس فتدعى الأمم بأوثانها و ذكر الحديث إلى قوله : فيتجلى لهم يضحك قال : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول : حتى يبدو كذا و كذا فينطلق بهم فيتبعونه ] و ذكر الحديث بتمامه و في سياقه أيضا [ و تغشى المنافقين ظلمة ] فظهر بهذه الرواية أن الشك و التصحيف إنما جاء روح بن عبادة و لعله وقع في كتابه كذلك فحدث به كما في كتابه و الله أعلم و لكن قد رواه محمد بن يحيى المازني عن ابن جريح كما رواه عنه روح خرجه من طريقه الخلال
و مما يستدل به على أن الورود ليس هو الدخول ما خرجه مسلم من حديث [ أبي الزبير عن جابر قال : أخبرتني أم بشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و آله وسلم يقول عند حفصة : لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها قالت : بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت حفصة : { و إن منكم إلا واردها } فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : قد قال الله عز و جل :
{ ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا } ]
و رواه الأعمش [ عن أبي سفيان عن جابر عن أم بشر بنحوه و في بعض روايات الأعمش : فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : يردونها ثم يصدرون عنها بالأعمال ]
و قالت طائفة : الورود هو الدخول و هذا هو المعروف عن ابن عباس : و روي عنه من غير وجه و كان يستدل لذلك بقوله تعالى في فرعون :
{ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار }
و بقوله : { و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا }
و كذلك قوله تعالى : { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها }
و قد سبق عن عبد الله بن رواحة نحو هذا إلا أن الرواية عنه منقطعة
و روى مسلم الأعور عن مجاهد { و إن منكم إلا واردها } قال : داخلها
و سئل كعب عن الورود المذكور في الآية فقال : تمسك النار عن الناس كأنها متن إهالة حتى تسوى عليها أقدام الخلق كلهم برهم و فاجرهم ثم يقول لها الرب عز و جل : خذي أصحابك و دعي أصحابي فتخسف بكل ولي لها و ينجي الله المؤمنين ندية ثيابهم
قال كعب : ألم تر إلى القدر الكثيرة الودك إذا بردت استوت بيضاء كالشحم ؟ فإذا أوقدت النار تحتها انخسف الودك في القدر من ههنا و ههنا
و في رواية عنه قال : فهي أعرف بهم من الوالد بولده
و قال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم بعدنا ربنا أنا نرد النار ؟ قال : بلى و لكن مررتم عليها و هي خامدة و في رواية عنه قال : إذا جاز المؤمنون الصراط نادى بعضهم بعضا : ألم يعدنا ربنا أن نمر على جسر جهنم ؟ فيقول : بلى و لكن مررتم عليها و هي خامدة
و قال مسكين : سمعت أشعث الحداني يقول : بلغني أن أهل الإيمان إذا مروا بصراط جهنم قال : تقول لهم جهنم : جوزوا عني قد بردتم و هجي ذروني و أهلي و لكن هذا و الذي قد يدلان على أن الورود هو المرور على الصراط كالقول الأول
[ و روى كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن و قال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فقلت : إنا اختلفنا في الورود فقال يردونها جميعا و قال سليم بن مرة : يدخلونها و قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول : لا يبقى بر و لا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم
{ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } ]
خرجه الإمام أحمد و أبو سمية لا ندري من هو
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ] و قد فسر عبد الرزاق و غيره تحلة القسم بالورورد لقوله : { و إن منكم إلا واردها } و ظاهر هذا يقتضي أن الورود هو مس النار و في رواية : [ فيلج النار لا تحلة القسم ] فجعله مستثنى من ولوجها
و روى عبد الملك بن عمير [ عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : من مات له ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل ]
و خرج الإمام أحمد من حديث [ ابن لهيعة و رشدين بن سعد كلاهما عن زاذان بن نائل عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطان لم يرد النار إلا تحلة القسم فإن الله يقول : { و إن منكم إلا واردها } ] إسناده ضعيف
و خرج الطبراني [ من حديث الواقدي حدثنا شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام ] الواقدي متروك
و روى [ منصور بن عمار عن بشير بن طلحة عن خالد بن دريك عن يعلى ابن منبه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : تقول جهنم للمؤمن : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ] غريب و فيه نكاره
و قد فسر بعضهم الورود بالحمى في الدنيا روى مجاهد و عثمان بن الأسود و فيه حديث مرفوع : الحمى حظ المؤمن من النار و إسناده ضعيف
و قالت طائفة : الورود : ليس عاما و إنما هو خاص بالمحضرين حول جهنم المذكورين في قوله تعالى :
{ فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا } إلى قوله : { و إن منكم إلا واردها }
كأنه يقال لهؤلاء الموصوفين : و إن منكم إلا واردها روي هذا التأويل عن زيد بن أسلم و هو بعيد جدا و عن عكرمة أنه كان يقرأ : { و إن منكم إلا واردها } يقول : الضمير يعود إلى الظلمة كذلك كنا نقرؤها و روي هذا القول عن ابن عباس من وجه منقطع و الصحيح عنه ما سبق
فصل ـ إذا وقف العبد بين يدي الله تستقبله النار
و قد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم : [ أن العبد إذا وقف بين يدي ربه للحساب فإنه تستقبله النار تلقاء وجهه و أخبر أن الصدقة تقي صاحبها من النار ] ففي الصحيحين [ عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه و بينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم و ينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم و ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار و لو بشق تمرة ]
و في صحيح مسلم عنه [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : من استطاع منكم أن يستتر من النار و لو بشق تمرة فليفعل ]
و في صحيح البخاري عنه [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال ليقفن أحدكم بين يدي الله عز و جل ليس بينه و بينه حجاب و لا ترجمان يترجم له ثم ليقولن له : ألم أوتك مالا ؟ فليقولن : بلى ثم ليقولن : ألم أرسل إليك رسولا ؟ فيقولن : بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر على شماله فلا يرى إلا النار فليتقين أحدكم النار و لو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة ]
و في [ حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه خرج يوما فقال : رأيت الليلة عجبا فذكر حديثا طويلا و فيه رأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار و شررها بيديه من وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على رأسه و ظلا على وجهه ]
الباب الثامن و العشرون ـ في ذكر حال الموحدين في النار و خروجهم منها
برحمة أرحم الراحمين و شفاعة الشافعين
قد تقدم في الأحاديث الصحيحة أن الموحدين يمرون على الصراط فينجو منهم من ينجو و يقع منهم من يقع في النار فإذا دخل أهل الجنة الجنة فقدموا من وقع من إخوانهم الموحدين في النار فيسألون الله عز و جل إخراجهم منها
روى [ زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حديث طويل سبق ذكر المرور على الصراط ثم قال : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون : ربنا إنهم كانوا يصومون معنا و يصلون معنا و يحجون فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى أنصاف ساقية و إلى ركبتيه فيقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول لهم : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه نصف مثقال دينار من خيره فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا بإخراجه أحدا فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا فيقولون : ربنا لم نذر فيها خيرا و كان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم :
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما }
فيقول الله عز و جل : شفعت الملائكة و شفع النبيون و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج بها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ] و ذكر بقية الحديث خرجاه في الصحيحين و لفظه لمسلم
و المراد بقوله : [ لم يعملوا خيرا قط ] من أعمال الجوارح و إن كان أصل التوحيد معهم و لهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه لم يعمل خيرا قط غير التوحيد خرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا و من حديث ابن مسعود موقوفا
و يشهد لهذا ما في [ حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حديث الشفاعة قال : فأقول : يا رب ائذن لي فيمن يقول لا إله إلا الله فيقول : و عزتي و جلالي و كبريائي و عظمتي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله ] خرجاه في الصحيحين و عند مسلم : [ فيقول : ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك ] و هذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا معها خيرا قط بجوارحهم و الله أعلم
و روى أبو الهيثم [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يوضع الصراط بين ظهراني جهنم عليه حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم و مجروح به ناج و محتبس منكوس فيها فإذا فرغ الله من القضاء بين العباد و تفقد المؤمنون رجالا في الدنيا كانوا يصلون بصلاتهم و يزكون زكاتهم و يصومون صومهم و يحجون حجهم و يغزون غزوهم فيقولون : أي ربنا عباد من عبادك كانوا معنا في الدنيا يصلون بصلاتنا و يزكون زكاتنا و يصومون صومنا و يحجون حجنا و يغزون غزونا و لا نراهم ؟ فيقول الله عز و جل : اذهبوا إلى النار فمن وجدتموه فيها فأخرجوه قال : فيخرجونهم و قد أخذتهم النار على قدر أعمالهم فمنهم من أخذته إلى قدميه و منه من أخذته إلى ركبتيه و منهم من أخذته إلى أزرته و منه من أخذته إلى ثديه و منهم من أخذته إلى عنقه و لم تغش الوجوه قال : فيستخرجونهم ثم يطرحون في ماء الحياة قيل : يا نبي الله و ما ماء الحياة ؟ قال : غسل أهل الجنة قال : فينبتون فيها كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم تشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا فيستخرجونهم منها ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها ] خرجه الحاكم و قال : صحيح الإسناد
و خرجاه في الصحيحين [ من حديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يدخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ثم يقول الله عز و جل : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة ـ أو حبة من خردل ـ من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة أو الحياء شك مالك فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية ؟ ] و لفظه للبخاري و عند مسلم : [ فيخرجون منها حمما قد امتحشوا ]
و في الصحيحين أيضا [ عن الزهري عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يجمع الله الناس يوم القيامة فذكر الحديث بطوله و فيه ذكر جواز الناس على الصراط ثم قال : حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد و أراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل الكبائر من النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن دخل النار يعرفون بأثر السجود تأكل النار ما من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت البية في حميل السيل ] و ذكر بقية الحديث
و خرج مسلم [ من حديث يزيد الفقير عن جابر قال : قال : رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارة وجوههم حتى يدخلوا الجنة ]
و خرج أيضا [ من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون و لكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبابير ضبابير فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل لأهل الجنة : أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة في حميل السيل ] و ظاهر الحديث يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة و تفارق أرواحهم أجسادهم
و يدل على ذلك ما خرجه البزار من حديث عبد الله بن رجاء [ حدثنا سعيد بن مسلمة أخبرني موسى بن جبير عن أبي أمامة بن سهل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن أدنى أهل الجنة حظا ـ أو نصيبا ـ قوم يخرجهم الله من النار فيرتاح لهم الرب تعالى إنهم كانوا لا يشركون بالله شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما تنبت البقلة حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم قالوا : ربنا كما أخرجتنا من النار و أرجعت الأرواح إلى أجسادها فاصرف وجوهنا عن النار فتصرف وجوههم عن النار ]
و روى مسكين أبو فاطمة [ حدثني اليمان بن يزيد عن محمد بن حمير عن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها إذا ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل النار منهم في الباب الأول من جهنم لا تزرق أعينهم و لا تسود وجوههم و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلون بالسلاسل و لا يجرعون الحميم و لا يلبسون القطران في النار حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد و حرم صورهم على النار من أجل السجود منهم من تأخذه النار إلى قدميه و منهم من تأخذه النار إلى حجزته و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم فمنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج : و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها و أطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء مما مضى فيخرجهم إلى عين في الجنة و هو قوله تعالى :
{ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ]
خرجه ابن أبي حاتم و غيره و خرجه الإسماعيلي مطولا و قال الدارقطني في كتاب المختلق : هو حديث منكر و اليمان مجهول و مسكين ضعيف و محمد ابن خمير لا أعرفه في هذا الحديث انتهى
و قد سبق حديث أنس في الذي ينادي في النار ألف سنة : يا حنان يا منان ثم يخرج منها
و روينا من طريق محمد بن معاوية حدثنا حازم عن الحسن قال : أهل التوحيد في النار لا يقيدون فتقول الخزنة بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء يقيدون و هؤلاء لا يقيدون ؟ ! فناداهم مناد : إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلام الليل إلى المساجد
و قال مروان بن معاوية عن مالك بن أبي الحسن عن الحسن قال : يخرج رجل من النار بعد ألف عام قال الحسن : ليتني ذلك الرجل
فصل ـ إن طالبني بذنوبي لأطالبنه بعفوه
قال أحمد بن أبي الحواري : دخلت على أبي سليمان و هو يبكي فقلت : ما يبكيك ؟ قال : لئن طالبني بذنوبي لأطالبنه بعفوه و لئن طالبني ببخلي لأطالبنه بجوده و لئن أدخلني النار لأخبرن أهل النار أني كنت أحبه
و روى ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله تعالى بإسناده عن علي ابن بكار أنه سئل عن حسن الظن بالله قال : أن لا يجمعك و الفجار في دار واحدة
و عن سلمان بن الحكم بن عوانة أن رجلا دعا بعرفات فقال : لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا قال : ثم بكى و قال : ما إخالك تفعل بعفوك ثم بكى و قال : و لئن فعلت : فبذنوبنا لا تجمعن بيننا و بين قوم ظالمين عاديناهم فيك
و عن حكيم بن جابر قال : قال إبراهيم عليه السلام : اللهم لا تشرك من كان يشرك بك و من كان لا يشرك بك
قال ابن أبي الدنيا : و حدثني أبو حفص الصيرفي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا تلى :
{ و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت }
قال : و نحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت أتراك تجمع بين القسمين في دار واحدة ؟ ! ثم بكى أبو حفص بكاء شديدا
و روى أبو نعيم بإسناده عن عون بن عبد الله قال : ما كان الله لينقذنا من شر ثم يعيدنا فيه :
{ و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها }
و ما كان الله ليجمع بين أهل القسمين في النار :
{ و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } و نحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت
و قال محمد بن إسحاق السراج : حدثنا حماد بن المؤمل الكلبي حدثني بعض أصحابنا عن ابن السماك قال : لما طلبني هارون الرشيد قال : تكلم و ادع فدعوت بدعاء أعجبه و قلت في دعائي : اللهم إنك قلت : { و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } اللهم إنا نقسم بالله جهد أيماننا لتبعثن من يموت أفتراك يا رب تجمع بين أهل القسمين في مكان واحد ؟ و هارون يبكي
الباب التاسع و العشرون ـ في ذكر أكثر أهل النار
أهل النار الذين هم أهلها على الحقيقة هم الذين يخلدون فيها و لهم أعدت كما قال تعالى : { أعدت للكافرين } و قد ذكرنا فيما تقدم حديث [ أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون ] و هؤلاء أهلها الخالدون فيها هم أكثر ممن يدخلها من عصاة الموحدين الذين يخرجون منها بعد أن يهذبون و ينقوا و يدل على ذلك ما روى [ أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : يقول الله عز و جل يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك و سعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار من ذريتك قال : يا رب و ما بعث النار قال : من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعون فحينئذ تضع الحامل و يشيب الوليد :
{ و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد }
فشق ذلك على الناس حتى تغيرت و جوههم فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : من يأجوج و ماجوج تسعمائة و تسعة و تسعون و منكم واحد ثم قال : أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة فكبرنا فقال : شطر أهل الجنة فكبرنا ] خرجاه في الصحيحين و لفظه البخاري
روى [ هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم هذا المعنى و في حديثه : إنما أنتم جزء من ألف جزء ] خرجه الإمام أحمد و الحاكم و صححه
و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم هذا المعنى أيضا و في حديثه قال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : قاربوا و سدوا فإنها لم تكن نبوة فإنها نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت و إلا كملت من النافقين و ما مثلكم و مثل الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير و في رواية قال : اعملوا و أبشروا فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج و مأجوج و من هلك من بني آدم و بني إبليس ]
و خرج [ ابن أبي حاتم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم نحوه في حديثه : و من هلك من كفرة الجن و الإنس ]
فهذه الأحاديث و ما معناها تدل على أن أكثر بني آدم من أهل النار و تدل أيضا على أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إلى غيرهم و غير أتباع الرسول كلهم في النار إلا من لم تبلغه الدعوة أو لم يتمكن من فهمها على ما جاء فيهم من الاختلاف و المنتسبون إلى اتباع الرسول كثير منهم من تمسك بدين منسوخ و كتاب مبدل و هم أيضا من أهل النار كما قال تعالى :
{ و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده }
و أما المنتسبون إلى الكتاب المحكم و الشريعة المؤيدة و الدين الحق فكثير منهم من أهل النار أيضا و هم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار و أما المنتسبون إليه ظاهرا و باطنا فكثير منهم فتن بالشبهات و هم أهل البدع و الضلال
و قد وردت الأحاديث على أن هذه الأمة ستفترق على بضع و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة و كثير منهم أيضا فتن بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار ـ و إن لم يقتض ذلك الخلود فيها ـ فلم ينج من الوعيد بالنار و لم يستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة إلا فرقة واحدة و هو ما كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله وسلم و أصحابه ظاهرا و باطنا و سلم من فتنة الشهوات و الشبهات و هؤلاء قليل جدا لا سيما في الأزمان المتأخرة و القرآن يدل على أن أكثر الناس هم أهل النار و هم الذين اتبعوا الشيطان كما قال تعالى :
{ و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين }
و قال تعالى : { لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين }
فأما عصاة الموحدين فأكثر من يدخل النار منهم النساء كما في الصحيحين [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال في خطبة الكسوف : رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء بكفرهن قيل : أيكفرون بالله ؟ ! قال : يكفرن العشير و يكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط ]
و في صحيح مسلم [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ]
و خرج البخاري من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم مثله
و خرجا في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن : و لم ذلك يا رسول الله ؟ قال : تكثرن اللعن و تكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل و دين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ]
و خرج مسلم من حديث جابر و ابن عمر و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم نحوه
و خرجا في الصحيحين [ من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين و أصحاب الجد محبوسون غير أن أهل النار قد أمر بهم إلى النار و قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ]
و خرج الإمام أحمد من [ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء و اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء و الأغنياء ]
و في صحيح مسلم [ عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن أقل ساكني الجنة النساء و قد أشكل على بعض النساء ] الجمع بين هذا الحديث و بين حديث [ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال في أهل الجنة : لكل واحد منهم زوجتان ]
و في صحيح مسلم [ عن أيوب عن ابن سيرين قال : إما تفاخروا و إما تذاكروا الرجل في الجنة أكثر أم النساء ؟ فقال أبو هريرة : ألم يقل أبو القاسم صلى الله عليه و آله وسلم : إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر و التي تليها على أضوء كوكب دري في السماء كل واحد منهم زوجتان اثننتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم و ما في الجنة أعزب ]
فرام بعضهم الجمع بين الحديثين بأن قلة النساء في الجنة إنما هو قبل خروج عصاة الموحدين من النار فإذا خرجوا منها كان النساء حينئذ في الجنة أكثر و الصحيح أن أبا هريرة إنما أراد أن جنس النساء في الجنة أكثرمن جنس الرجال لأن كل رجل منهم له زوجتان و لم يرد أن النساء من ولد آدم أكثر من الرجال
و يدل على هذا أنه ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة هذا الصحيحة : [ لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين ] كذلك رواه يونس عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم خرجه من طريقه الإمام أحمد و كذا رواه هشام عن محمد بن سيرين عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم خرج حديثه البيهقي و خرج هذه اللفظة البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم
و يشهد لذلك أن في بعض ألفاظ روايات حديث أبي هريرة هذه المخرجة في الصحيح أيضا : [ و أزواجهم الحور العين ] بدل قوله : [ لكل واحد منهم زوجتان ] فهاتان الزوجتان من الحور العين لا بد لكل رجل دخل الجنة منهما و أما الزيادة على ذلك فتكون بحسب الدرجات و الأعمال و لم يثبت في حصر الزيادة على الزوجتين شيء
و يدل أيضا على ما ذكرنا ما خرجه مسلم في صحيحه من [ حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة فذكر الحديث و في آخره قال : ثم يدخل بيته فيدخل عليه زوجتان من الحور العين ] و ذكر الحديث و كذلك ورد في الشهيد إذا استشهد أنه يبتدره زوجتان من الحور العين فيدل هذا على أن لكل رجل من أهل الجنة زوجتين من الحور العين و لو كان أدنى أهل الجنة منزلة و الله أعلم
و روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن أبي صالح قال : بلغنا أن أكثر ذنوب أهل النار في النساء كأنه يشير إلى الزنا و متعلقاته
و روى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن ابن مسعود قال : ذنبان لا يغفران فذكر أحدهما رجل زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن هذه التي يهلك بها من هذه الأمة يشير إلى الشبهات المضلة و الله أعلم
الباب الثلاثون ـ في ذكر صفات أهل النار و أصنافهم و أقسامهم
قد سبق قول ابن مسعود أنه لا يترك في النار سوى الأربعة و ليس فيهم خير و أخذه من قوله تعالى :
{ قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين }
و في الصحيحين عن [ حارثة بن وهب و عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ : كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار ؟ : كل عتل جواظ مستكبر ]
و العتل قال مجاهد و عكرمة : هو القوي و قال أبو رزين : هو الصحيح و قال عطاء بن يسار عن وهب الذماري قال : تبكي السماء و الأرض من رجل أتم الله خلقه و أرحب جوفه و أعطاه معظما من الدنيا ثم يكون ظلوما غشوما للناس فذلك العتل الزنيم و قال إبراهيم النخعي : العتل : الفاجر و الزنيم : اللئيم في أخلاق الناس
[ و روى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال : لا يدخل الجنة جواظ و الا جعظري و لا العتل الزنيم
فقال رجل من المسلمين : ما الجواظ الجعظري و العتل الزنيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : الجواظ : الذي جمع و منع و أما الجعظري : فالفظ الغليظ قال الله تعالى :
{ فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } و أما العتل الزنيم : فشديد الخلق رحيب الجوف مصحح أكول شروب واجد للطعام ظلوم للأنام ]
[ و روى معاوية بن صالح عن كثير بن حارث عن القاسم مولى معاوية قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن العتل الزنيم قال : هو الفاحش اللئيم ] و قال معاوية : و حدثني عياض بن عبد الله الفهري عن موسى ابن عقبة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم بذلك خرجه كله ابن أبي الحاتم
و أما المستكب فهو الذي يتعاطى الكبر على الناس و التعاظم عليهم و قد قال تعالى :
{ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين }
و قد زكرنا فيما سبق حديث يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يساقون إلى سجن في النار يقال له : بولس تعلوهم نار الأنيار يغشاهم الذل من كل مكان فإن عقوبة التكبير الهوان و الذل كما قال الله تعالى :
{ فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق }
و في الحديث الصحيح [ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم فيما يحكيه عن ربه عز و جل قال : الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته بناري يعني ألقيه في جهنم ]
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : تحاجة الجنة و النار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين و المتجبرين و قالت الجنة : لا يدخلني إلا ضعفاء الناس و سقطهم قال الله عز و جل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي و قال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي و لكل واحدة منكم ملؤها و أما النار فلا تمتليء حتى يضع عليها رجله فتقول قط قط فهنالك تمتليء و ينزوي بعضها إلى بعض و لا يظلم الله من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقا ] و في رواية خرجها ابن أبي حاتم : فقالت النار : [ مالي لا يدخلني إلا الجبارون و المتكبرون و الأشراف و أصحاب الأموال ؟ ]
و خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : افتخرت الجنة و النار فقالت النار : يا رب يدخلني الجبابرة و المتكبرون و الملوك و الأشراف و قالت الجنة : أي رب يدخلني الضعفاء و الفقراء و المساكين ] ذكر الحديث بمعنى ما تقدم و سبب هذا أن الله عز و جل حف الجنة بالمكاره و حف النار بالشهوات كما قال تعالى :
{ فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى }
و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : حجبت الجنة بالمكاره و حجبت النار بالشهوات ] و خرجه مسلم و لفظه : [ حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات ] و خرجه أيضا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم
و خرجه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : لما خلق الله الجنة و النار أرسل جبريل إلى الجنة فقال : انظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها قال : فجاءها فنظر إليها و إلى ما أعد لأهلها قال ارجع إليه فقال : و عزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال : ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها قال : فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت ألا يدخلها أحد قال : فاذهب إلى النار فانظر إلى ما أعددت لأهلها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال : و عزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال : ارجع إليها فقال : و عزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها ]
فتبين بهذا أن صحة الجسد و قوته و كثرة المال و التنعم بشهوات الدنيا و التكبير و التعاظم على الخلق و هي صفات أهل النار ذكرت في حديث حارثة بن وهب هي جماع الطغيان و البغي كما قال تعالى :
{ كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى }
و الطغيان و إيثار الحياة الدنيا و شهواتها من موجبات النار كما قال تعالى : { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى }
و أما الضعف في البدن و الآستضعاف في الدنيا من قلة المال و السلطان مع الإيمان فهو جماع كل خير و لهذا يقال : من العصمة أن لا تجد فهذه صفة أهل الجنة التي ذكرت في حديث في حديث حارثة
و قد روي نحو حديث حارثة من وجوه متعددة و في بعضها زيادات خرج له الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ألا أنبئكم بأهل الجنة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : الضعفاء المغلوبون ألا أنبئكم بأهل النار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : كل شديد جعظري هم الذين لا يألمون رؤوسهم ]
[ و من حديث سراقة بن مالك بن جعشم أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال له : يا سراقة ألا أخبرك بأهل الجنة و أهل النار ؟ قال : بلى يا رسول الله قال : أما أهل النار فكل جعظري جواظ مستكبر و أما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون ]
[ و من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : أهل النار كل جواظ مستكبر جماع مناع و أهل الجنة الضعفاء المغلوبون ]
[ و من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ألا أخبركم بأهل الجنة و أهل النار ؟ أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف أشعث ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره و أما أهل النار فكل جعظري جواظ جماع مناع ذي تبع و قد سبق تفسير الجعظري بالفظ الغليظ الجافي ]
و خرج الطبراني [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ألا أخبركم بصفة أهل الجنة ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : كل ضعيف متضاعف ذو مطرين لو أقسم على الله لأبره ألا أنبئكم بأهل النار ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : كل جظ جعظر مستكبر قال : فسألته ما الجظ ؟ قال : الضخم و ما الجعظر قال : العظيم في نفسه ]
و ورى [ عثمان بن أبي العاتكة عن أبي جعفر الحنفي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ألا أنبئكم بأهل النار ؟ قالوا : بلى قال كل سمين ليس طيب الريح ]
و [ روى سليم بن عامر عن فرات البهراني عن أبي عامر الأشعري أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن أهل النار فقال : لقد سألت عن عظيم كل شديد قعبري فقال : و ما القعبري يا رسول الله ؟ قال : الشديد على العشيرة الشديد على الأهل الشديد على الصاحب قال : فمن أهل الجنة يا رسول الله ؟ فقال : سبحان الله ! لقد سألت عن عظيم كل ضعيف مزهد ]
و في المعنى أحاديث أخر و في صحيح مسلم عن [ عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال في خطبته : و أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى و مسلم عفيف متعفف ذو عيال و أها النار خمسة : الضعيف الذي لا نر له الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلا و لا مالا و الخائن الذي لا يخفى له طمع و إن دق إلا خانه و رجل لا يصبح و لا يمسي إلا و هو يخادعك عن أهلك و مالك ] و ذكر البخل و الكذب و الشنظير الفاحش
ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه و آله وسلم أهل الجنة ثلاثة أصناف :
أحدها : [ ذو السلطان المقسط المتصدق و هو من كان له سلطان على الناس فسار في سلطانه بالعدل ثم ارتقى درجة الفضل
و الثاني : الرحيم الرقيق القلب الذي لا يخص برحمته قرابته بل يرحم المسلمين عموما فتبين أن القسمين أهل الفضل و الإحسان
و الثالث : العفيف المتعفف ذو العيال و هو من يحتاج إلى ما عند الناس فيتتعفف عنهم و هذا أحد نوعي الجود أعني العفة عما في أيدي الناس لا سيما مع الحاجة ]
و قد وصف الله في كتابه أهل الجنة ببذل الندى و كف الأذى و لو كان الأذى بحق فقال :
{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين }
فهذا حال معاملتهم للحق ثم وصف قيامهم بحق الحق فقال :
{ و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون }
فوصفهم الله عند الذنوب بالاستغفار و عدم الإصرار و هو حقيقة التوبة النصوح و قريب من هذه الآية قوله تعالى :
{ فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة * أولئك أصحاب الميمنة }
و العقبة قد فسرها ابن عباس بالنار و فسرها ابن عمر بعقبة في النار كما تقدم فأخبر سبحانه أن اقتحامها و هو قطعها مجاوزتها يحصل بالإحسان إلى الخلق إما بعتق الرقبة و إما بالإطعام في المجاعة و المطعم إما يتيم من ذوي القربى أو مسكين قد لصق في التراب فلم يبق له شيء و لا بد مع هذا الإحسان أن يكون من أهل الإيمان و الآمر لغيره بالعدل و الإحسان و هو التواصي بالصبر و التواصي بالمرحمة و أخبر سبحانه أن هذه الأوصاف أوصاف أصحاب الميمنة
و أما أهل النار فقد قسمهم النبي صلى الله عليه و آله وسلم في هذا الحديث خمسة أصناف :
الصنف الأول : الضعيف الذي لا زبر له و يعني بالزبر القوة و الحرص على ما ينتفع به صاحبه في الآخرة من التقوى و العمل الصالح و خرج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الله يبغض المؤمن الذي لا زبر له قال بعض رواة الحديث :
يعني الشدة في الحق و لما حدث مطرف بن عبد الله بحديث عياض بن حمار هذا و بلغ قوله : [ الضعيف الذي لا زبر له ] فقيل له : أو يكون هذا ؟ قال : نعم و الله لقد أدركتهم في الجاهلية و إن الرجل ليرعى على الحي ماله إلا وليدتهم يطؤها
و قال ابن شوذب : يقال : إن عامة أهل النار كل ضعيف لا زبر له الذي هم فيكم اليوم تبع لا يبغون أهلا و لا مالا خرجه عبد الله بن الإمام أحمد في الزهد و هذا القسم شر أقسام الناس و نفوسهم ساقطة لأنهم ليس لهم همم في طلب الدنيا و لا الآخرة و إنما همة أحدهم شهوة بطنه و فرجه كيف اتفق له و هو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم
و الصنف الثاني : الخائن الذي لا يخفى له طمع و إن دق إلا خانه أي يعني لا يقدر على خيانة و لو كانت حقيرة يسيرة إلا بادر إليها و اغتنمها و يدخل في ذلك التطفيف في المكيال و الميزان و كذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع و أموال اليتامى و غير ذلك و هو خصلة من خصال النفاق و ربما يدخل الخيانة من خان الله و رسوله في ارتكاب المحارم سرا مع إظهار اجتنابها
قال بعض السلف : كنا نتحدث أن صاحب النار من لا تمنعه خشية الله من شيء خفي له
الصنف الثالث : المخادع الذي دابه صباحا و مساء مخادعة الناس على أهليهم و أموالهم و الخداع من أوصاف المنافقين كما وصفهم الله تعالى بذلك و الخداع معناه إظهار الخير و إضمار الشر لقصد التواصل إلى أموال الناس و أهاليهم و الانتفاع بذلك و هو من جملة المكر و الحيل المحرمة و في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : [ من غشنا فليس منا و المكر و الخداع في النار ]
الصنف الرابع : الكذب و البخل و لم يحفظ الراوي ما قاله النبي صلى الله عليه و آله وسلم في هذا حفظا جيدا و الكذب و البخل خصلتان و في مسند الإمام أحمد في هذا الحديث الكذب أو البخل بالشك و قد قيل : إنه عدهما واحدا كذا قاله مطر الورق و هو أحد رواة هذا الحديث
و الكذب و البخل كلاهما ينشأ عن الشح كما جاء في ذلك في الأحاديث و الشح هو شدة حرص الانسان على ما ليس له من الوجوه المحرمة و ينشأ عنه البخل و هو إمساك الإنسان ما في يده و الامتناع من إخراجه في وجوهه التي أمر بها فالمخادع الذي سبق ذكره هو الشحيح و هذا الصنف هو البخيل فالشحيح أخذ المال بغير حقه و البخيل منعه من حقه كذلك روي تفسير الشح و البخل عن ابن مسعود و طاووس و غيرهما من السلف و في الأثر إن الشيطان قال : مهما غلبني ابن آدم فلن يغلبني بثلاث : يأخذ المال من غير حله أو ينفقه في غير وجهه أو يمنعه من حقه
و ينشأ عن الشح أيضا الكذب و المخادعة و التحيل على ما يستحقة الإنسان بالطرق الباطلة المحرمة و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : [ إن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار ]
و في المسند [ عن عبد الله بن عمرو قال : سئل النبي صلى الله عليه و آله وسلم ما عمل أهل النار ؟ قال : الكذب إذا الكذب العبد فجر و إذا فجر كفر و إذا كفر دخل النار ]
الصنف الخامس : الشنطير و قد فسر بالسيىء الخلق و الفحاش هو الفاحش المتفحش و في الصحيحين [ عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه ]
و في الترمذي [ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم إن الله يبغض الفاحش البذيء ] و البذيء الذي يجري لسانه بالسفه و نحوه من لغو الكلام و في المسند عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : [ يحسب امرئ من الشر أن يكون فاحشا بذيئا بخيلا جبانا ] فالفاحش هو الذي يفحش في منطقه و يستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب و نحوه و يأتي في كلامه بالسخف و ما يفحش ذكره
فصل ـ في ذكر أول من يدخل النار من عصاة الموحدين
خرج الإمام أحمد [ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة و أول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد و عبد مملوك لا يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه و فقير متعفف ذو عيال و أول ثلاثة يدخلون النار : فأمير متسلط و ذو ثروة من مال يمنع حق الله في ماله و فقير فخور ] و خرج الترمذي أوله و قال : حديث حسن
فهؤلاء الأصناف الثلاثة من أهل النار و ضد الأصناف الثلاثة من أهل الجنة المذكورين في حديث عياض بن حمار فإن السلطان المسلط ضد العادلى المحسن و الغني الذي يمنع حق الله ضد الرحيم الرقيق القلب بذي القربى و كل مسلم و الفقير الفخور ضد المتعفف الصابر على شدة الفقير و ضره و أوصاف هؤلاء الثلاثة هي : الظلم و البخل و الكبر و الثلاثة ترجع إلى الظلم لأن الملك يظلم الناس بيده و البخيل يظلم الفقراء بمنع حقوقهم الواجبة و الفقير الفخور يظلم الناس بفخره عليهم بقوله و أذاه لهم بلسانه
و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حديث طويل ذكر فيه المقاتل و القاريء و المتصدق الذين يراؤون بأعمالهم و قال : أولئك أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة يا أبا هريرة ]
و قد يجمع بين هذا الحديث و الذي قبله بأن هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار و أولئك الثلاثة أول من يدخل النار أخص من دخولها فإن تسعيرها يقتضي تلهبها و إيقادها و هذا قدر زائد على مجرد الدخول و إنما زاد عذاب أهل الرياء على سائر العصاة لأن الرياء هو الشرك الأصغر و الذنوب المتعلقة بالشرك أعظم من المتعلقة بغيره
و قد ورد أن فسقة القراء يبدأ بهم قبل المشركين [ فروى عبد الملك بن إبراهيم الجدي حدثنا عبد الله بن عبد العزيز العمري عن أبي طوالة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الزنابية أسرع إلى فسقه القراء منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون : يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان ؟ فيقال لهم : ليس من علم كمن لا يعلم ] خرجه الطبراني و أبو نعيم و قال : غريب من حديث أبي طوالة تفرد به عند العمري انتهى و العمري هذا هو أبو عبد الرحمن الزاهد رحمه الله
و قد ذكرنا في الباب الخامس و العشرين أحاديث متعددة في خروج عنق من النار يوم القيامة تتكلم و أنها تلتقط من صفوف الخلق : المشركين و المتكبرين و أصحاب التصاوير و في رواية [ و من قتل نفسا بغير نفس فينطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام ] و روى عن ابن عباس و غيره من السلف أن ذلك يكون قبل نشر الدواوين و نصب الموازين و جاء في حديث مرفوع أن ذلك يكون قبل حساب سائر الناس و الله أعلم
و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين