كتاب : التماس السعد في الوفاء بالوعد
المؤلف : السخاوي

بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي الحمد لله الذي لا يخلف وعده، ولا يمنع سائله رفده، ولا ينقص مع كثرة عطاياه ما عنده، واشهد ألا إله إلا الله الملك المعبود وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. من عليه المعول والعمدة، وبه يتوسل عند المولى ف يكل كرب وشدة صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الذين خلفوه في الأمر بعده، صلاة وسلاما غير متقيد فيهما بمدة.
وبعد فهذا تصنيف لطيف سميته (التماس السعد في الوفاء بالوعد) جمعت فيه ما تيسر لي الوقوف عليه من الأحاديث والآثار ومناسبات الأشعار، وافتتحته بآية في المعنى مع طرف من تفسيرها الاسنى ليتوافق دليل السنة والكتاب ويظهر قوة من جنح في ذلك للوجوب من الأصحاب كما سيأتي في موضعه، مع إيضاحه وبيان قوة منزعه، جعلته عند مولانا الملك الأشرف لي ذخيرة رجا أن يلحظني بما ترجع به العين بجيد نقده فريده، ويتذكر بمجرد النظر فيه سابق وعده الصادق ويتخير من التقرير المعتبر ما يندرج في عموم بره ورفده وهو للغرض موافق ليحوز مع شرف نيته الثواب، الوارد فيه الكتاب والسنة معا، ويفوز بما تنطق به الجوارح في غيبته، فضلا عن اللسان من الحمد والدعاء ويضاف ذلك لمحاسنه الجمة التي لم نر من شاركه فيها من الملوك الأئمة. وإذا كانت العطايا هبات ربانية، وكريم السجايا نفحات روحانية فليس بمستبعد أن يدخر لمن تأخر في الزمن من الفعل البديع والقول الحسن، ما يفوق به من سبقه، توفيقا من الله وصدقه، وما عسى أن يقال في جميل صفاته وصقيل فكرته وذاته، قال:
مَلِكٌ لَهُ رَأيٌ سَديدُ مِثلَما ... حازَ الشَجاعَةَ بِالقَنا وَالمُرهفِ
مَلِك مِنهُ سالِمُ مِثلَ اِسمِهِ ... بِالحُسنِ ذا يُدعى وَذا بِالأشرَفِ
كالقَولِ وَالوَعدِ اللَّذينِ تَماثلا ... ذا صادِقٍ فيه وَذا مِنهُ وفي
ثبت الله قواعد مملكته، ونصره في سكونه وحركته، وكفاه كل مهماته وحفظه من كل جهاته ومتعه بالنظر لوجهه الكريم في دار النعيم المقيم بمنه وكرمه آمين.
آية في الوفاء بالوعد
فأقول: قال الله عزوجل وهو أصدق القائلين (وَعَدَ اللَهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلوا الصالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَهُم في الأَرضِ كَما اِستَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُم دِينَهُم الَّذي اِرتَضى لَهُم وَلَيُبَدِلَنّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أمنا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئا وَمَن كَفَر بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم الفاسِقون) وهذه الآية الشريفة الذي الابتدا بها تشتمل على مقصد من الأغراض اللطيفة، ويتأتى الكلام عليها من عشرين وجها فأكثر من العلوم العقلية والنقلية، التي لا شاذ فيها ولا منكر لكني اقتصرت منها على ما اقتضاه الحال واتضح فيه المقال.
فأولها
سبب النزول
المعنى بشأنه العلماء الفحول، وقد أخبرني به الإمام العز أبو محمد الحنفي رحمه الله مشافهة غير مرة عن غير واحد منهم أبو حفص المزي أنا أبا الحسن السعدي أنبأهم عن عبد الواحد بن أبي المطهر الصيدلاني قال أخبرني أبو سعد الاسماعيلي قال أخبرنا عمر بن شاه قال أخبرنا السيد أبو الحسن الحسني قال أخبرنا أبو محمد بن الشرقي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية واسمه رفيع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الإله فنزلت.

وهذا حديث حسن أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن محمد بن اسحاق المروزي عن أحمد بن سعيد الدارمي به باختصار، فوقع لنا بدلا له عاليا، ورواه الضيا في المختاره عن عبد الواحد فوافقناه فيه بعلو، وأخرجه الحاكم في صحيحه المستدرك عن محمد بن صالح بن هاني عن محمد بن شاذان عن أحمد بن سعيد الدارمي فوقع لنا عاليا وقال الحاكم عقب تخريجه إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورويناه في دلائل النبوة للبيهقي عن الحاكم، وقال الطبراني لا يروى عن أبي إلا بهذا الإسناد تفرد به أحمد قلت وهذه الدعوة مردودة فقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن سليمان بن أحمد عن أحمد بن الخضر عن محمد بن عبده عن علي بن الحسين به نحوه.
ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره أيضا من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع لكن بدون أبي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده لا شريك له سرا، وهم خايفون لا يؤمرون بالقتال، وكانوا بها خايفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم أن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله أبد الدهر نحن خايفون هكذا ما يأتي عليها يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة، وأنزل الله عزوجل هذه الآية.

وثانيهما
أن هذا وعد من الله عزوجل لرسوله
صلى الله عليه وسلم

بأنه سيجعل أمته خلفاء في الارض أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم لفظا ومعنى، والوعد من الله متحتم الوقوع على ما سأوضحه في هذا المجموع فقد فعل الله تبارك وتعالى ذلك وله الحمد والمنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر الجزيرة العربية وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم والمقوقس صاحب مصر والإسكندرية وملوك عمان والنجاشي الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختاره الله لما عنده من الكرامة قام بالامر بعده خليفته أفضل الأمة بعده وكان أول من أسلم من الرجال على التحقيق أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بويع في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم وذلك في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر فلم شعث ما وهي عند موته عليه السلام وأطد جزيرة العرب ومهدها وبعث الجيوش الاسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفا منها وقتلوا خلقا منها، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى أرض مصر ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عزوجل واختار له ما عنده وذلك وهو موسوم في مسا يوم الاثنين لثمان بقين من جماد الآخرة سنة ثلاث عشرة فكانت خلافته رضي الله عنه سنتين ودون أربعة أشهر ومن الله على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه وبويع له يوم مات أبو بكر بنص أبي بكر عليه فقام بالأمر بعده قياما تاما لم يدر الفلك بعد الأنبياء عليهم السلام وصاحبه على قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها وديار مصر إلى آخرها وأكثر اقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية (الإهانة) وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزاع يده من بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل رضي الله عنه ودفن في يوم الأحد مستهل المحرم سنة أربع وعشرين وكانت خلافته عشر سنين ونصف سنة وهو أول خليفة تسمى بأمير المؤمنين قال بعض السلف - رضي الله عنهم - خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حق في كتاب الله ثم تلى هذه الآية وروينا في الحادي عشر من المجالسة عن ابن قتيبة أنه قال هذه الآية شاهدة لخلافة ابي بكر الصديق رضي الله عنه وقوله تعالى (لَيَستَخلِفَنَهُم في الأَرض) أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بقوله من بعد خوفهم أمنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا الخايفين في صدر الاسلام وقبل الهجرة والمستضعفين ثم وجدوا بعد هذا جميع ما وعدهم الله به من النصر والظفر والظهور والعز ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الاسلامية إلى أقصى مشارق الارض ومغاربها ففتحت بلا الغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى اقصى بلاد الصين وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية وفتحت مداين العراق وخراسان والاهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل ملكهم الاعظم خاقان، وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك ببركة تلاوته وجمعه الأمى على حفظ القرآن وتلاوته، وكانت خلافته بإجماع الصحابة بعد موت عمر - رضي الله عنه - في المحرم سنة أربع وعشرين وقتل بعد عصر الجمعة من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين وكانت خلافته دون اثنتي عشرة سنة بأيام وبويع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة بعده وبما تقدم ظهر قوله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الصحيح إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى منه9 وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه حين وفد عليه أتعرف الحيرة قلت: (لم أرها) وقد سمعت بها قال فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج

الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت كسرى بن هرمز قال نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى والذي نفسي بيده لتكونن الثالث لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقوله بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وها نحن نتقلب فيما وعدنا الله - عزوجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم فصدق الله ورسله وجل ونسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا وسلوك سبيله، ونصر ملكنا على أعدائه وامتداد العدل في رعيته في ابتداء ملكه وإنهائه فإنه ممن أكسبه الله محاسن جمة لو لم يكن منها إلا تحريه في الولايات المهمة وتثبته في العزل غلا بجنحة، ونظره في المصالح المهمة بنفسه ليتخير منها ما يراه أقرب إلى الصحة، والأمن بمهابته في الطرقات والسبل وجلالته في الأنفس (خصوصا) من جل ونبل وشهامته وشجاعته، وصيانته، وعبادته، وطلعته النيرة، وبهجته المشتهرة بارك الله في أيامه، وأسعده في خواصه وخدمه.عينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت كسرى بن هرمز قال نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى والذي نفسي بيده لتكونن الثالث لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقوله بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وها نحن نتقلب فيما وعدنا الله - عزوجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم فصدق الله ورسله وجل ونسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا وسلوك سبيله، ونصر ملكنا على أعدائه وامتداد العدل في رعيته في ابتداء ملكه وإنهائه فإنه ممن أكسبه الله محاسن جمة لو لم يكن منها إلا تحريه في الولايات المهمة وتثبته في العزل غلا بجنحة، ونظره في المصالح المهمة بنفسه ليتخير منها ما يراه أقرب إلى الصحة، والأمن بمهابته في الطرقات والسبل وجلالته في الأنفس (خصوصا) من جل ونبل وشهامته وشجاعته، وصيانته، وعبادته، وطلعته النيرة، وبهجته المشتهرة بارك الله في أيامه، وأسعده في خواصه وخدمه.
وعن الأصمعي قال قيل للحسن رحمه الله إنك كنت تقول الآخر أشر وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال الحسن لا بد للناس من متنفسات. رواه الدينوري في المجالسة في الجزء الثالث عشر منها، قال البراء بن عازب رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت ونحن في خوف شديد يعني فحصل ما وعد الله تعالى به من الأمن فكانوا كذلك آمنين بقية حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كانوا آمنين في امارة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الشرط وغيروا فغير بهم فالصدر الاول وهم الصحابة رضوان الله عليهم لما كانوا أقوم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عزوجل وأطوعهم لله، وأشدهم إظهارا لكلمة الله في المشارق والمغارب كان نصرهم بحسبهم فأيدهم الله تأييدا عظيما وتحكموا في سائر البلاد والعباد، ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم لكن قد ثبت في الصحيحين من وجوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة)، وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وفي رواية حتى يقاتلون الدجال وفي رواية حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وهم ظاهرون.

وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها، وقد فسر غير واحد من الأئمة هذه الطائفة بأصحاب الحديث الذين قال فيهم إمامنا الشافعي - رحمه الله - إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأل الله التوفيق والإلهام لأقوم طريق، ثم اعلم أنه قد ذكر في هذه الشريفة من الأحاديث المنيفة ما ظاهره التعارض وهو ما في الصحيحين عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم أثنى عشر رجلا ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي فسالت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال كلهم من قريش، وما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما كلهم عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا.
ووجه التعارض أن الأول فيه دلائل على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادل من قريش وهم الذين وقعت بهم البشارة في الكتب المتقدمة وليسوا هم بأئمة الشيعة الإثني عشر فإن كثيرا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء بخلاف هؤلاء فإنهم يكونون من قريش، والثاني فيه النص على ثلاثين سنة ثم تكون ملكا عضوضا أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعضون فيه عضا ولم يكن في هذه المدة المحددة إلا الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأيام الحسن بن علي رضي الله عنهم، وأجيب عن ذلك بأجوبة منها: أنه ليس في الأول أن العدد المذكور على الولا فيحتمل على وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا حسبما وقع في الخارج فقد وجد منهم الأربعة المذكورون على الولا ثم كانت بعدهم فترة ثم وجد منهم ما شاء الله ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته كنيته يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عزوجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكاينا خلافة وكاينا ملكا عضوضا وكاينا عتوا وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير ويرزقون مع ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عزوجل وهو حديث حسن رواه الدارمي والطيالسي في مسنديهما ومما يشبه هذه الآية قوله تعالى: (إِذ أَنتُم قَليلٌ مُستَضعَفونَ في الأَرض تَخافونَ أَن يَتَخَطَفَكُم الناسُ فَآواكُم وَأَيَدَكُم بِنَصرِه وَرَزَقَكُم مِن الطَيباتِ لَعَلَكُم تَشكُرون).
وقوله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه (عَسى رَبُكُم أَن يَهلِكَ عَدوكُم وَيَستَخلِفَكُم في الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلون).
وقوله تعالى: (وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلى الَّذينَ اِستُضعِفوا وَنَجعَلَهُم أَئِمَةً وَنَجعَلَهُم الوارِثينَ وَنُمَكِنَ لَهُم في الأَرضِ وَنريَ فِرعونَ وهامان وَجنودَهُما مِنهُم ما كانوا يَحذرون).

وثالثها
في حكم الوفاء بالوعد
وقد قال قطب زمانه أبو زكريا النووي رحمه الله في الأذكار قد أجمع العلماء على أن من وعد إنسانا شيئا ليس بمنهي عنه فينبغي له أن يفي بوعده وهل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه خلاف بينهم فذهب الشافعي وابو حنيفة رحمهما الله والجمهور إلى أنه مستحب فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة ولكن لا يأثم انتهى، وقال المهلب انجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، وتعقب شيخنا رحمه الله دعوة الاتفاق على عدم الفرضية، فقد قال النووي عقب ما تقدم وذهب جماعة إلى أنه واجب قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز انتهى وكذا صرح ابن عبد البر أن المذكور أجل من قال به.

قلت وفي كتاب الغرر من الاخبار لوكيع قال حدثنا شيخ قال حدثنا محمد بن عبيد عن أبيه أن ابن اشوع قضى له بعده، وابن أشوع هذا قرأت بخط الحافظ الدمياطي أنه سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي القاضي حدث عن الشعبي وقد اتفقا عليه، ومات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق وكانت ولايته من سنة خمس ومائة إلى أن عزل عنها في سنة عشرين ومائة انتهى. ولخص ذلك شيخنا حيث قال: كان قاضي الكوفة في زمان أمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة وقد علق على ذلك البخاري في صحيحه فقال: وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وقال شيخنا في الفتح وقع بيان رواية ابن أشوع لذلك عن سمرة في تفسير أسحاق بن راهويه قال البخاري ورأيت إسحاق ابن إبراهيم وهو ابن راهويه يحتج بحديث ابن أشوع يعني عن سمرة في القول بوجوب انجاز الوعد وترجم البخاري باب من أمر بانجاز الوعد، قال وفعله أي الأمر بإنجاز الوعد الحسن وكأنه البصري راوي حديث العدة عطية قلت وكذا حكي القول بالوجوب عن أحمد.
وفي ثالث عشر المجالسة عن الدينوري عن الحسن بن أبي جعفر قال سمع مطرف رجلا يقول أستغفر الله وأتوب إليه فأخذ بذراعه، وقال لعلك لا تفعل من وعد فقد أوجب، وفي أنيس المنقطعين أنه قيل لبعض الصالحين وقد أصبح صائما تطوعا افطر فإن المتطوع أمير نفسه فقال أني لاستحي من ربي عزوجل أن أعده وعدا وهو أن أصوم ولا أوفي له بوعدي، ثم قال النووي قال يعني ابن العربي وذهبت المالكية مذهبا ثالثا إلى أنه ارتبط الوعد بسبب كقوله تزوج ولك كذا، أو أحلف إنك لا تشتمني ولك كذا وجب الوفاء بالوعد ونحو ذلك وإن كان وعدا مطلقا لم يجب. انتهى وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله وأشار النووي إلى ذلك بقوله واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض، وأما الأنبياء عليهم السلام فسيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لا يخلفون الوعد، وهذا يحتمل أن يكون وجوبا ويحتمل أن يكون خلافه وجزم غير واحد كما سيأتي أيضا بأن إنفاذ الصديق رضي الله عنه لعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوص به صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
إذا علم هذا فقد استشكل والد شيخنا رحمهما الله عدم الوجوب حيث قال لم يذكر يعني النووي جوابا عن الآيات التي صدر بها الباب من الأذكار وهي (وَأَوفوا بِعَهدِ اللهِ إِذا عاهَدتُم).
ثم (يا أَيُها الَّذينَ آمنوا أَوفوا بِالعُقود)، (وَأَوفوا بِالعَهدِ إِنّ العَهدَ كانَ مسؤولا)، (يا أَيها الَّذينَ آمَنوا لَمَ تُقولونَ ما لا تَفعَلون كَبُرَ مَقتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلون)، وهذه الأخيرة كما قال أشدها ولا عن الأحاديث التي فيها آية المنافق إذا وعد أخلف لا سيما آية الصف والحديث المذكور والدلالة على الوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع هذا الزجر الشديد الذي لم يرد مثله إلا في المحرمات الشديدة التحريم، وأورده شيخنا في الفتح حيث قال: وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية والحديث يعني قوله تعالى كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وحديث آية المنافق قال والدلالة إلى آخره.
قلت ولم ينفرد والد شيخنا بالبحث في ذلك فقد قال الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله وناهيك به قول الأصحاب لا يجب الوفاء بالشرط مشكل لأن ظواهر الآيات والسنة تقتضي وجوبه وإخلاف الوعد كذب والكذب من أخلاق المنافقين، قال ولا أقول يبقى دينا في ذمته حتى يقضي من تركته وإنما يجب الوفاء به تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف وتصير الواجبات ثلاثة منها ما هو ثابت في الذمة ويطالب بأدائه وهو الدين على موسر وكل عبادة وجبت وتمكن منها، ومنها ما يثبت في الذمة ولا يجب أداؤه كالزكاة بعد الحول وقبل التمكن، ومنها ما لم يثبت في الذمة ويجب أداؤه كهذا. انتهى.

وسلك شيخنا طريقة أخرى حيث قال وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك، قلت ونظير ذلك نفقة القريب فإنه إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به، ونحوه قولهم في فايدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها والله المستعان.
وإلى هذا الإستشكال أشار صاحب الخادم في آخر الهبة فقال فإن قيل فيجب الوفاء بالوعد للخروج عن الكذب فإنه حرام وترك الحرام واجب، وقد ذكر الماوردي في الشهادات في الكلام على المروءة أن مخالفة الوعد كذب ترد به الشهادة فالجواب ما قال الغزالي في الإحياء أن إخلاف الوعد إنما يكون كذبا إذا لم يكن في عزمه حين الوعد الوفاء به، أما لو كان عازما عليه ثم بدا له الا يفعل فليس بكذب لأنه حينئذ إخبار عما في نفسه، وكان مطابقا له فيكون صدقا... انتهى.
وقد عده الغزالي رحمه الله في إحيائه من حقوق المسلم فقال منها ألا يعد مسلما بوعد إلا ويفي به، ثم إن كل ما أسفلته في الوعد بالخير، أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه، وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة، وقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعده الله عزوجل على عمل ثوابا فهو منجز له، ومن أوعده الله على عمل عقابا فهو بالخيار. أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث سهيل بن أبي حزم القطعي عن ثابت البناني عنه وقال عبد الملك بن قريب الأصمعي كنت عند أبي عمرو بن العلا فجاء عمرو بن عبيد فقال يا أبا عمرو، الله يخلف الميعاد؟ قال لا، قال فإذا وعد على عمل ثوابا أنجزه؟ قال نعم قال وإذا وعد على عمل عقابا أنجزه؟ قال إن الوعد عند العرب غير الوعيد، إن العرب لا تعد خلفا أن تعد الشر فلا تفي به، إنما الخلف عندهم أن يعد الخير فلا يفي به، أما سمعت قول الشاعر:
وَلا يَرهبُ اِبن العَمِ وَالجارُ صولَتي ... وَلا انثَنى مِ، صولَةِ المُتَهَدِدِ
وَإِني إذا أَوعَدتُهُ وَوَعَدتُه ... لِيُكَذبَ إِيعادي وَيَصدُقَ موعدي
أخرجه الخرايطي في مكارم الاخلاق.
وفي الجزء الثالث عشر من المجالسة من طريق المدايني قال ذكر حيان بن سليم عامر بن الطفيل فقال كان والله إذا وعد الخير وفاو إذا أوعد الشر أخلف، قال وأنشد أبو عمرو بن العلا في نحو هذا المعنى فذكرهما بلفظ
وَلا يَرهَب اِبنُ العَمِ ما شِئتَ صولَتي ... وَيَأمَنُ مِني صولَة المُتَهَدِدِ
وَإِني إِذا أَوعَدتُهُ أَو وَعَدتُهُ ... لِيُكَذبَ إِيعادي ويَصدُقَ موعدي
وهو موافق لصنيعهم في الفرق بين الخير والشر حيث يقال في الخير وعدته وفي الشر أوعدته لكن هذا محله فيما إذا أسقط الفعل أما إذا أثبت فلا فرق، فقد قال صاحب المحكم: يقال وعدته خيرا، ووعدته شرا، قال فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير وعدته، وفي الشر أوعدته على أن ابن الاعرابي قد حكى في نوادره أوعدته خيرا بالهمز أيضا وأنشدن ابن قتيبة لرجل في الحجاج بن يوسف كما في الثالث عشر من المجالسة.
كَأنَّ فُؤَادي بَينَ أَظفارٍ وَطائِرٍ ... مِنَ الخَوفِ في جَوِ السَما مُحلِق
حِذارَ امرءا قَد كُنتُ أَعلَمُ أَنّهُ ... مَتى ما يُعَدُ مِن نَفسِهِ الشَرُ يَصدُقُ
وقال تعالى: (وَإِن يَك صادِقا يُصِبكُم بَعضَ الَّذي يَعِدُكُم)، ومن آيات الوعد: (أَفَمَن وَعدناهُ وَعداً حَسناً فَهُو لاقيهِ)، (وَعَدكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثيرَةً تَأخُذُونَها فَعَجَلَ لَكُم هَذِهِ وَكَف أيديَ الناسِ عًنكُم).

ورابعها
في الاحاديث والآثار الواردة في الوفاء بالوعد

وقد كان صلى الله عليه وسلم أعظم خلق الله وفاءا بالوعد حتى جاء عن عبد الله بن أبي الحمسا رضي الله عنه أنه قال: (بايعت النبي قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال يا فتى لقد شققت على أنا ههنا منذ ثلاث انتظرك) رواه أبو داود في سننه وفي سنده خلف وقد ذكر الواحدي عند تفسير قوله تعالى عن إسماعيل عليه السلام أنه كان صادق الوعد نقلا عن مقاتل أنه قام ينتظر إنسانا لميعاد ثلاثة أيام، وهذا أورده في أنيس المنقطعين فقال حكى أن إسماعيل عليه السلام وعد إنسانا أن ينتظره في مكان فمضى ذلك الإنسان ونسي وعده فعاد إليه بعد ثلاثة أيام أو أكثر، وإسماعيل عليه السلام ينتظره في ذلك المكان فتعجب الرجل، ومدح إسماعيل رب العرش فقال إنه كان صادق الوعد، انتهى بل قال الكلبي أنه أقام حتى حال عليه الحول، وهذا حكاه الزمخشري فقال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن إسماعيل عليه السلام وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة ورواه ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل عليه السلام دخل قرية هو ورجل فأرسله في حاجة وقال إنه ينتظره فأقام حولا كاملا في انتظاره وعنده أيضا من طريق ابن شوذب أنه اتخذ ذلك مسكنا فسمى من يومئذ صادق الوعد، وفي الإحياء يقال أن إسماعيل عليه السلام واعد إنسانا في موضع فلم يرجع إليه فبقى اثنين وعشرين يوما في انتظاره وهذا خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت من حديث يزيد الرقاشي أن إسماعيل نبي الله وعد رجلا ميعادا فجلس له إسماعيل عليه السلام اثنين وعشرين يوما مكانه لا يبرح للميعاد، ولها الآخر عن ذلك حتى جاء بعد ذلك قلت ويجمع بينهما على تقدير الصحة في كلها بالتعدد، وقد روى عن مجاهد أن إسماعيل عليه السلام لم يعد بشيء إلا وفى به، وهذه الآية أوردها البخاري حيث ترجم في صحيحه باب من أمر بإنجاز الوعد.
وجاء عن محمد بن سيرين أنه انتظر أيضا فعند ابن أبي الدنيا في الصمت من طريق ابن عبد ربه القصاب قال واعدت محمد بن سيرين أن اشترى له أضاحي فنسيت موعده لشغل ثم ذكرت بعد فأتيته قريبا من نصف النهار وإذا محمد ينتظرني فسلمت عليه فرفع رأسه فقال أما أنه قد يقبل أهون ذنب منك فقلت شغلت وعنفني أصحابي في المجيء إليك، وقالوا قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة فقال لو لم تج حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو حاجة لا بد منها، وأقت بعضهم الانتظار بحد فإن لم يجد فارق وروى ابن أبي الدنيا أيضا عن الحسن بن عبيد الله النخعي قال قلت لإبراهيم النخعي يواعد الرجل الميعاد ولا يجىء قال لينتظره ما بينه وبين أن يدخل وقت الصلاة التي تجىء وأشار إليه الغزالي في الإحياء.
ومن الأدلة في الوفاء بالوعد ما أورده البخاري في الباب السابق عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما أي الأجلين أي المشار إليهما في قوله تعالى (ثَماني حُجَج فَإِن أَتمَمت عَشرا فَمِن عِندكَ) قضى موسى عليه السلام فقال قضى أكثرهما وأطيبهما يعني عشر سنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل.
وكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد ولفظ حكيم إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وعد لم يخلف، والمراد برسول الله صلى الله عليه وسلم أو نبي الله من اتصف بذلك ولم يرد شخصا بعينه، ووجه الاستدلال من هذا أن موسى عليه السلام لم يجزم بوفا العشر في قوله (ذَلِكَ بَيني وبَينَكَ أَيَما الأَجَلَينِ قَضيتَ) بعد قوله له (عَلى أَن تَأجُرَني ثَماني حُجَج فَإِن أَتمَمتَ عَشرا فَمِن عِندَكَ)، ومع عدم جزمه عليه السلام وفاها فكيف لو جزم قال ابن الجوزي لما رأى موسى عليه السلام تلفت شعيب عليه السلام متعلقا للزيادة لم يقتض كريم أخلاقه أن يخيب ظنه فيه. انتهى.

ويروي في داود عليه السلام بخصوصه أنه كان لا يخلف وعدا وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فسايلني وهو يظن أني لأم كلثوم ابنة عقبة، فقلت إنما أنا للكلبية فقال عبد الله دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أخبر أنك تقرأ القرآن في كل يوم وليلة، صم صوم داود، صم يوما وأفطر يوما فإنه أعدل الصيام وكان لا يخلف الوعد، رواه أحمد وهو في الصحيح ولكن بدون المقصود منه، وعن عبد الرحمن ابن أبزى قال كان داود عليه السلام يقول لا تعدن أخاك شيئا لا تنجزه له فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة أخرجه الخرائطي ولكون الأنبياء لا يخلفون الوعد كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله الغزالي في الإحياء إذا وعد وعدا قال عسى لكن قال مخرجه إنه لم يجده، وكذا كان بعض التابعين رحمهم الله يستثنى فروى ابن أبي الدنيا عن أبي اسحاق قال كان أصحاب عبد الله يعني ابن مسعود يقولون إذا وعد فقال إن شاء الله لم يخلف وأشار إليه الغزالي في الإحياء، قال وهو الأولى وربما توقف صلى الله عليه وسلم عن الالتزام بالوعد، كما رواه الخرايطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجده فقالت عدني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العدة عطية وهو في المراسيل لأبي داود وكذا الصمت لابن أبي الدنيا من حديث يونس بن عبيد البصري عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال العدة عطية.
وكذا هو في أول الفوائد التي بآخر مسند عمر للنجاد من حديث يونس ابن عبيد عن الحسن قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما عندي ما أعطيك فقال تعدني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة واجبة، وهذا المتن قد روى عن قباث بن أشيم الليثي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة عطية رواه الطبراني في الأوسط وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العدة عطية) رواه القضاعي في مسند الشهاب والطبراني في الأوسط وغيرهما ولفظه عند أبي نعيم في الحلية إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (العدة عطية والموقوف منه) رواه البخاري في الأدب المفرد.
ومن حديث أبي معمر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجز له، وجاء في ذلك حديث مرفوع فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال جاء رسول الله إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت لألعب فقالت أمي يا عبد الله تعال أعطيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أردت أن تعطيه قالت أردت أعطيه تمرا لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة) رواه أحمد والبخاري في تاريخه وابن سعد والطبراني والذهلي والخرائطي وآخرون.
ومن شواهد حديث (العدة عطية) ما روى بنحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عدة المؤمن دين وعدة المؤمن كالأخذ باليد) أخرجه الديلمي في مسنده وهو عنده وكذا الطبراني وغيرهما عن علي رضي الله عنهما أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العدة دين ويل لمن وعد ثم أخلف ويل له ويل له ثلاثا) ورواه القضاعي في مسنده مقتصرا على قوله (العدة دين) وعن ابن المبارك عن ابن لهيعة معضلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الوأي يعني الوعد مثل الدين أو أفضل أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت وهو عند الديلمي في مسنده بسند ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد) وهذه الطرق يؤكد بعضها بعضا.

وفي الأمر بالوفاء بالوعد والهي عن الخلف فيه أحاديث أيضا منها عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم) رواه ابن حبان في صحيحه، وكذا الحاكم في مستدركه وغيرهما، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال أخبرني أبو سفيان رضي الله عنه أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم فزعمت (أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال وهذه صفة نبي) أخرجه البخاري في باب من أمر بإنجاز الوعد من صحيحه، وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تقبلوا لي بست اتقبل لكم بالجنة، قالوا وما هي قال: إذا وعد أحدكم فلا يخلف وذكر باقيها) أخرجه أحمد بن منيع والحسن بن سفيان وابو يعلى في مسانيدهم وآخرون منهم الحاكم في مستدركه واقتصر بعضهم منه على قوله إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اكفلوا لي ست خصال اضمن لكم الجنة..) وذكر منها الوفاء بالوعد أخرجه الطبراني وهو عندنا بعلو في عشاريات شيخنا وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني في الأوسط.
وعن الزبير بن عدي مرسلا عند سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب وعن الحسن مرسلا أيضا عن سعيد فقط، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه) أخرجه البخاري في الادب المفرد.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو من كملت مرؤته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته) أخرجه العسكري في الامثال والديلمي في مسنده.
وجاء في التنفير من إخلاف الوعد (من حديث أبي بكر الصديق، وابن مسعود، وابن عمرو، وأنس، وجابر وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أشدن مما تقدم حيث عده منافقا، وهو كما قال حجة الاسلام محمول على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفا، وعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن يحترز من صورة النفاق كما يحترز من حقيقته قال ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذورا من غير ضرورة، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وعد أبا الهيثم ابن التيهان خادما فأتي بثلاثة من السبي فأعطى اثنين وبقى واحد فجاءت فاطمة ابنة رسول الله تطلب منه خادما، وهي تقول ألا ترى أثر الرحا يا رسول الله في يدي فذكر موعده لأبي الهيثم فجعل يقول كيف بموعدي لأبي الهيثم فآثره به على فاطمة لما سبق من موعده له مع إنها كانت تدير الرحا بيدها.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال إن لي عندك موعدا يا رسول الله فقال صدقت فاحتكم ما شئت، فقال احتكم ثمانين ضائنة وراعيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي لك، ولقد احتكمت يسيرا، فلصاحبة موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف عليه السلام كانت أحزم وأجزل حكما منك حين حكمها موسى عليه السلام فقالت حكمي ان تردني شابة وادخل معك الجنة، قال فكان الناس يضعفون ما احتكم به حتى جعل مثلا يقولون أقنع من صاحب الثمانين والراعي. انتهى كلام الغزالي.

وقصة أبي الهيثم عند الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لكن بدون ذكر ما هنا من قصة فاطمة رضي الله عنها وأما حديث الذي جاءه وهو يقسم غنائم هوازن بحنين فاخرجه ابن حبان والحاكم في المستدرك وصحح إسناده من حديث أبي موسى رضي الله عنه وفيه نظر كما قال العراقي شيخ شيخي رحمهما الله مع اختلاف في سنده ثم إن المحمل الذي حمل الغزالي عليه الأحاديث التي في التنفير قد جاء مقيدا به في حديث رويناه في الطبراني من حديث أبي وقاص عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل إذا وعد أحدكم وهو يحدث نفسه أنه يخلف وهو في سنن أبي داود والترمذي وقال: حديث غريب من حديث أبي وقاص المذكور عن زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجى للميعاد فلا إثم عليه وقد أشار الغزالي إليه وقوله لم يجى للميعاد ليست عند الترمذي ومعناها لم يجى الوقت الذي قدر الله وقوعها فيه.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له فهو كالمدلي جاره إلى غير منعه) أخرجه أحمد وللخوف من هذا الترهيب بادر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما كما أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت من حديث هارون بن رئاب قال لما حضرت عبد الله بن عمرو بن العاص الوفاة قال إنه قد كان خطب إلي إبنتي رجل من قريش وقد كان مني غليه شبيه بالوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق اشهدوا أنى قد زوجتها إياه.
وهكذا أورده الغزالي في الاحياء لكنه كما في النسخة التي وقفت عليها جعله ابن عمر لا ابن عمرو، وكان بعض السادات يغتم إذا وعد حتى يفي فعن معاذ بن العلا قال سال رجل أبا عمرو بن العلا بن العلا حاجة فوعده بها ثم إن الحاجة تعذرت على أبي عمرو فلقيه الرجل بعد ذلك فقال له أبو عمرو وعدتني وعدا تنجزه فقال أبو عمرو فمن أولى بالغم قال أنا قال لا بل أنا قال الرجل وكيف ذلك أصلحك الله قال لأني وعدتك وعدا فإبت بفرح الوعد وإبت أنا بهم الإنجاز فبت ليلتك فرحا مسروا، وبت ليلتي مفكرا مهموما ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة فلقيتني مدلا، ولقيتك محتشما، أخرجه الخرائطي.

بل كان بعضهم يحذر من التقيد بعهدة الوعد فعن فرات بن سلمان قال كان يقال إذا سئلت فلا تعد وقل اسمع ما تقول فإن يقدر شيء كان، وعن الطيالسي عن شعبة قال ما واعدت أيوب يعني السختياني موعدا قد غلا قال حين يريد أن يفارقني ليس بيني وبينك موعد فإذا جئت وجدته قد سبقني ونحوه قول أبي عوانة كان رقبة يعدنا في الحديث ثم يقول ليس بيني وبينك موعد نأثم من تركه، ويسبقنا مع ذلك إليه، رواها كلها ابن أبي الدنيا في الصمت وعن المهلب بن أبي صفرة أنه قال لابنه عبد الملك يا بني إنما كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عدات أنفذها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلا تبدأ بالعدة فإن مخرجها سهل ومصدرها وعر واعلم أن لا وإن قبحت فربما روحت ولم توجب الطمع أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وحديث إنفاذ أبي بكر عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري في إنجاز الوعد في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبو بكر رضي الله عنه من قبل العلا بن الحضرمي فقال أبو بكر رضي الله عنه من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا قال جابر فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات قال جابر فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة انتهى، واشار غير واحد كما حكاه شيخنا إلى أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن بطال لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه ولم يسأل جابر البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئا في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ادعى شيئا في بيت المال، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام، وفي التنزيل الثنا على نبي الله السيد إسماعيل عليه السلام كما تقدم بأنه كان صادق الوعد، وكذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الموفين فروى البخاري من حديث المسور رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له من بني عبد شمس فقال وعدني فوفاني ومما جاء عن السلف أن عوف ابن النعمان الشيباني كان يقول في الجاهلية لأن أموت عطشا أحب إلي من أن أموت مخلافا لوعد، رواه الخرايطي في المكارم وابن أبي الدنيا في الصمت والدينوري في الثالث عشر من المجالسة، وعن الخرايطي أنه قال آفة المروءة خلف الوعد، وعن إياس بن معاوية قال لأن يكون في فعال الخير للمرء فضل عن قوله أجمل من أن يكون في قوله فضل عن فعاله، وعن الأصمعي قال وصف أعرابي قوما فقال (أولئك قوم أدبتهم الحكمة، وأحكمهم التجارب ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به مسافة آجالهم فذلت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالانجاز فأحسنوا المقال وشفعوه بالفعال، أخرجه الخرايطي، وعن الحسن البصري رحمه الله قال فضل الفعال على المقال مكرمة، وفضل المقال على الفعال منقصة أخرجه أبو نعيم في الحلية وعن ابن فضيل كان عمر بن هبيرة يقول: اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قرب من أجلي، أخرجه الدينوري في المجالسة.
وفيها أيضا من حديث صالح بن كيسان قال خرج علينا الزهري من عند هشام بن عبد الملك فقال لقد تكلم اليوم رجل عند أمير المؤمنين ما سمعت كلاما أحلى منه قال له يا أمير المؤمنين اسمع مني: أربع فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك ودنياك، قال ما هي؟ قال لا تعدن أحد عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتفق سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن الأعمال آخرا فاحذر العواقب، وأن الدهر تارات فكن على حذر.
ومن كلمات السلف: الوعد سحابة، والإنجاز مطر، وأحسن المواعيد ما صدقه الإمطار والله الموفق.

وخامسها
في شيء من الأشعار في ذلك
فجاء عن الفضل بن عباس بن عتبة ابن أبي لهب كما أورده ابن أبي الدنيا في الصمت.
إِنّا أُناسٌ مِن سَجِيَتِنا ... صِدقُ الحَديثِ وَوَأَينا حَتمُ
شَرُ الإِخاءُ أَخا مزدرد ... مزج الإِخاءِ إِخاؤهُ وَهُم
لَبِسوا الحَياءَ فَإِن نَظرَت حِسبتَهُم ... سَقَموا وَلَم يمسَسهُموا سَقمُ

زَعَمَ اِبنَ عمي أَن حِلمي ضَرَني ... ما ضَرُ قَبلي أَهلَهُ الحِلم
وعن أبي قاموس الحميري يمدح يحيى بن خالد البرمكي في عدم نسيانه الوعد قال:
رَأيتَ يَحيى أَتَمَ اللهُ نِعمَتَهُ ... عَليه يَأتي الَّذي لَم يَأتِهِ أَحدُ
يَنسى الَّذي كانَ مِن مِعروفِهِ أَبداً ... إِلى الرِجالِ وَلا يَنسى الَّذي يَعُد
وعن الحسن بن علي المخرمي في التحريض على الوفاء بالوعد:
لأَحسنَ مِن ظِبيَةً بِالجَرد ... مَقرَطِقة ثَديها قَد نَهِدَ
وَمُبسِمُها واضِحُ نَيرُ ... وَفي خَدِها ضوء نارُ تَقِد
وَأحسَن مِنها عَلى حُسنِها ... تَقاضى الفَتى نَفسهُ ما وَعَد
وعن شيخنا مما يذكر به شخصا في الوفاء له بوعده:
يا صادِقَ الوَعدِ قولاً ... وَصادِق الوُدِ فِعلاً
أَتَيت بابَك أرجو ... تَنجيزُ وَعدَكَ فَضلاً
وعن غيره:
يا بنَ الكِرام الغُرِ وَعدُكَ أَنَني ... مَديمٌ عَلى مَرِ الزَمانِ لَكَ شُكراً
فَلا زِلتَ بِالمَعروف بَرا لقَصاد ... وَصَدرُكَ بِالُعرفانِ بَينَ الملا بَحراً
وعن آخر:
أَهَزَكَ لا أَني وَجَدتُكَ ناسِيا ... لَوعَدي وَلا أَني أَريدُ التَقاضِيا
وَلَكِن رَأَيتَ السَيفَ عِندَ اِنتِضائِهِ ... إِلى الهَز مُحتاجا وَإن كان ماضِيا
وعن آخر:
لَستُ أَستَقبِحُ اِقتَضاكَ بِوعدٍ ... لا وَإِن كُنتَ سَيدَ الكُرَماء
فإِلهُ السَماءِ قَد ضَمِن الر ... زقَ عَليهِ وَيُقضى بِالدُعاء
ويقرب منه:
حَثَّ الجوادِ عَلى النَدا وَتُقاضُهُ ... بِالوَعدِ واحمِلُهُ عَلى الإِنجازِ
وَدع الوُثوق بِطَبعِهِ فَلَرُبَما ... نَشِطَ الجَوادُ بِشَوكَةِ الَهمازِ
وقال أبو جعفر محمد بن علي العدوي:
تَيَمَمت ما أَرجُوهُ مِن حُسن وَعدُكُم ... فَكُنتَ كَما يَرجو مَنالَ الفَراقِدَ
هَبوني لَم أَستاهِل العُرفَ مِنكُم ... أَما كُنتُموا أهلاً لِصِدقِ المواعِدِ
عدة الكريم نقد وتعجيل وإسعاد وتكميل.
وقال غيره:
كُلُ جُودٍ وَإِن تَعاظَمَ قَدراً ... قُل مِن فَرطِ كَثَرَةٍ التَردادَ
إِنما الجُودُ بِالحَياةِ وَلَكِن ... يَعتَريها السِقامُ بِالمِيعادِ
ولمهيار الديلمي في استنجاز وعد
أَظَلَت عَلينا مِنكَ يَوماً غِمامَةً ... أَضاءَ لَها بَرقٌ وَأَبطا رَشاشُها
فَلا غَيثِها يُجلي فَييأَسُ طامِعٌ ... وَلا غَيثها يَأَتي فَتَروى عِطاشُها
وفي ذم الاخلاف بالوعد من الأشعار أيضا قول كعب بن زهير في قصيدته الشهيرة:
كانَت مَواعيدُ عَرقوبَ لَها مَثلاً ... وَما مواعيدُها إِلاّ الأَباطِيلَ
قلت وعرقوب كان رجلا من العماليق وهو عرقوب بن معبد بن زهرة أحد بني شمس بن ثعلبة وقيل غير ذلك وكان من خبره أنه أتاه أخ له يسأله شيئا فقال إذا أطلع نخلي فلما أطلع أتاه قال إذا أبلح فلما أبلح أتاه قال إذا أزهى فلما أزهى أتاه قال إذا أرطب فلما أرطب أتاه قال إذا صار تمرا فلما صار تمرا جذه بالليل ولم يعطه شيئا فصار المثل يضرب به في الإخلاف فيقال أخلف من عرقوب.
وأنشد ابن قتيبة كما في ثالث عشر من المجالسة:
لِسانُكَ أَحلى مِن جَنى النَحلِ مَوعِدا ... وَكَفُك بِالمَعروفِ أَضيق مِن قُفلِ
تَمنَى الَّذي يَأتِيَكَ حَتى إِذا إِنتَهى ... إِلى أجَلٍ ناوَلَتهُ طَرفُ الحَبلِ
وقال آخر:
لَم أَثِق مِنهُ بِوعدِ ... وَمواعيدُ كَزورِ
هَكَذا إبليسُ في الدُنيا ... أَمانيهِ غُرورُ
وقال غيره:
أَمّا الوَفاءُ فَشيءٌ قَد سَمِعتُ بِهِ ... وَما رَأيتُ لَهُ عَينا وَلا أثراً
وَلا أُطالِبُ في الدُنيا بِهِ أَحَداً ... وَلا أَلومُ أَخا غَدرٍ إِذا غَدرا

وَمَن يَعولُ في الدُنيا عَلى بَشرٍ ... فإِنّهُ بَشرٌ لا يَعرِفُ البَشرا
وهذه آخره، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وجنده.