كتاب : صيد الخاطر
المؤلف : ابن الجوزي

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه المستعان وعليه التكلان
قال الشيخ الإمام العالم أبو الفرج؛ عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي رحمة الله عليه: الحمد لله حمداً يبلغ رضاه، وصلى الله على أشرف من اجتباه، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه.
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: قيدوا العلم بالكتابة.
وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه.
ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب، ما لم يكن في حساب، فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله ولي النفع، إنه قريب مجيب.
فصل بين اليقظة والغفلة
قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة ! فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته.
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها، لسببين.
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان ؟!.
وهذه حالة تعم الخلق، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر.
فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع لضجوا كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة !.
ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً، فهم كالسنبلة تميلها الرياح !.
وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كما دحرجته على صفوان.... !!.
فصل روابط النفس بالدنيا
جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة ثم هي من داخل، وذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع، من خارج.
وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن.
وليس كذلك. لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا، كالماء الجاري فإنه يطلب الهبوط، وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف.
ولهذا أجاب معاون الشرع: بالترغيب والترهيب يقوى جند العقل.
فأما الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يغلب، إنما العجب أن يغلب.
فصل تقدير العواقب
من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها، نال خيرها، ونجا من شرها.
ومن لم ير العواقب غلب عليه الحس، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة وبالنصب ما رجا منه الراحة.
وبيان هذا في المستقبل، يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو، أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته.
فأين لذة معصيتك ؟ وأين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه ! فليت الذنوب إذ تخلت خلت ! وأزيدك في هذا بياناً: مثل ساعة الموت، وأنظر إلى مرارة الحسرات على التفريط، ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات، لأن حلاوة اللذات استحالت حنظلاً، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم.
أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه ؟ فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى الحس فتندم.
فصل متاع الغرور
من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه " وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه " .
تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن.
أعجب العجائب، سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك، عما قد خبىء لك.
تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم.
لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك - قبل الممات - مضجعك.
وقد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:
كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر !
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الرّيح بعدك والقبر !
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده، حتى نزل !.
وكم شاهدت والي قصر، وليه عدوه لما عزل !.
فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري...

وكيف تنام العين وهي قريرة ؟ ... ولم تدر من أيّ المحلين تنزل ؟

فصل لا تحم حول الحمى
من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة. ومن ادعى الصبر، وكل إلى نفسه.
ورب نظرة لم تناظر !.
وأحق الأشياء بالضبط والقهر، اللسان والعين.
فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة. فإن الهوى مكايد.
وكم من شجاع في صف الحرب اغتيل فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه ! واذكر حمزة مع وحشي.
فتبصّر ولا تشم كلّ برقٍ ... ربّ برقٍ فيه صواعق حين
واغضض الطرف تسترح من غرام ... تكتسي فيه ثوب ذل وشين
فبلاء الفتى موافقة النف ... س وبدء الهوى طموح العين
فصل حالة القلب مع العبادة
أعظم المعاقبة أن لا يحس المعاقب بالعقوبة. وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب.
ومن هذه حاله، لا يفوز بطاعة.
وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها، ومعظمها من قبل طلبهم للرياسة.
فالعالم منهم، يغضب إن رد عليه خطؤه، والواعظ متصنع بوعظه، والمتزهد منافق أو مراء.
فأول عقوباتهم، إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلق.
ومن خفي عقوباتهم، سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبد.
إلا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم، بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم، بل أحلى، وهممهم عند الثريا، بل أعلى.
إن عرفوا تنكروا، وإن رئيت لهم كرامة، أنكروا.
فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم أملاك السماء.
نسأل الله معز وجل التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم.
فصل دعوة إلى علو الهمة
من علامة كمال العقل علو الهمة ! والراضي بالدون دنيء !!.
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
فصل المحبة الإلهية
سبحان من سبقت محبته لأحبابه، فمدحهم على ما وهب لهم، واشترى منهم ما أعطاهم، وقدم المتأخر من أوصافهم، لموضع إيثارهم، فباهى بهم في صومهم، وأحب خلوف أفواههم.
يا لها من حالة مصونة لا يقدر عليها كل طالب ! ولا يبلغ كنه وصفها كل خاطب.
فصل دوام اليقظة
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا يدري متى يستدعى ؟.
وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الأمل.
وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة، ولا يتحاشى من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع.
وينسى أن الموت قد يبغت فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه. فإن بغته الموت رئي مستعداً، وإن نال الأمل ازداد خيراً.
فصل الذنب.. وعقوبته
خطرت لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة، والبلايا العظيمة، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة.
فقلت: سبحان الله ! إن الله أكرم الأكرمين، والكرم يوجب المسامحة.
فما وجه هذه المعاقبة ؟.
فتفكرت، فرأيت كثيراً من الناس في وجودهم كالعدم، لا يتصفحون أدلة الوحدانية، ولا ينظرون في أوامر الله تعالى ونواهيه، بل يجرون - على عاداتهم - كالبهائم.
فإن وافق الشرع مرادهم، وإلا فمعولهم على أغراضهم.
وبعد حصول الدينار لا يبالون، أمن حلال كان أم من حرام.
وإن سهلت عليهم الصلاة فعلوها، وإن لم تسهل تركوها.
وفيهم من يبارز بالذنوب العظيمة، مع نوع معرفة المناهي.
وربما قويت معرفة عالم منهم، وتفاقمت ذنوبه.
فعلمت أن العقوبات، وإن عظمت دون إجرامهم.
فإذا وقعت عقوبة لتمحص ذنباً، صاح مستغيثهم: ترى هذا بأي ذنب ؟.
وينسى ما قد كان، مما تتزلزل الأرض لبعضه.
وقد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يدري أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه.
فمتى رأيت معاقباً، فاعلم أنه لذنوب.
فصل حقيقة زهد العلماء
تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال عز وجل: " وَلاَ يَجدُون في صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا " .

وقال تعالى: " والّذِيْنَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا أغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فيِ قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمنُوا " .
وقد كان أبو الدرداء: يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر.
والأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا، ينظرون إلى الرياسة فيها، ويحبون كثرة الجمع والثناء.
وعلماء الآخرة، بمعزل من إيثار ذلك، وقد كانوا يتخوفونه، ويرحمون من بلي به.
وكان النخعي: لا يستند إلى سارية.
وقال علقمة: أكره أن يوطأ عقبي.
وكان بعضهم: إذا جلس إليه أكثر من أربعة، قام عنهم.
وكانوا يتدافعون الفتوى، ويحبون الخمول، مثل القوم، كمثل راكب البحر، وقد خب، فعنده إلى أن يوقن بالنجاة.
وإنما كان بعضهم يدعو لبعض، ويستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا، فالأيام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنة.

فصل ثمار الطاعة
من أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال.
قال الله عز وجل: " وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد.
وقال صلى الله عليه وسلم: البر لا يبلى، والإثم لا ينسى والديان لا ينام وكما تدين تدان.
وقال أبو سليمان الداراني: من صفى صفي له ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفىء في ليله.
وكان شيخ يدور في المجالس، ويقول: من سره أن تدوم له العافية، فليتق الله عز وجل.
وكان الفضيل بن عياض، يقول: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق دابتي، وجاريتي.
واعلم - وفقك الله - أنه لا يحس بضربة مبنج، وإنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه.
ومتى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شكرت، أو زلة قد فعلت، واحذر من نفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغتبت بسعة بساط الحلم، فربما عجل انقباضه.
وقد قال الله عز وجل: " إِنَّ اللّه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ، حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم " .
وكان أبو علي الروذباري يقول: من الاغترار أن تسيء، فيحسن إليك، فتترك التوبة، توهماً أنك تسامح في العقوبات ... !!!.
فصل ما يطيقه البشر وما لا يطيقونه من التكليف
تفكرت يوماً في التكليف، فرأيته ينقسم إلى سهل، وصعب.
فأما السهل، فهو أعمال الجوارح، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض، فالوضوء والصلاة أسهل من الصوم، والصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة.
وأما الصعب فيتفاوت، فبعضها أصعب من بعض.
فمن المستصعب، النظر، والاستدلال، الموصلان إلى معرفة الخالق. فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل.
ومن المستصعب غلبة الهوى، وقهر النفوس، وكف أكف الطباع عن التصرف فيما يؤثره، وكل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه، ورجاء عاقبته، وإن شق عاجلاً.
وإنما أصعب التكاليف وأعجبها، أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل، ثم نراه يفقر المتشاغل بالعلم، المقبل على العبادة، حتى يعضه الفقر بناجذيه، فيذل للجاهل في طلب القوت.
ويغني الفاسق مع الجهل، حتى تفيض الدنيا عليه.
ثم تراه ينشيء الأجسام ويحكمها، ثم ينقض بناء الشباب في مبدأ أمره، وعند استكمال بنائه، فإذا به قد عاد هشيماً.
ثم تراه يؤلم الأطفال، حتى يرحمهم كل طبع.
ثم يقال له: إياك أن تشك في أنه أرحم الراحمين.
ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون، ويقال له: أعتقد أن الله تعالى أضل فرعون واعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة وقد وبخ بقوله: " وعَصَى آدَمُ رَبَّهُ " .
وفي مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر والتكذيب.
ولو فتشوا على سر هذه الأشياء، لعلموا أن تسليم هذه الأمور، تكليف العقل ليذعن، وهذا أصل، إذا فهم، حصل السلامة والتسليم.
نسأل الله عز وجل أن يكشف لنا الغوامض، التي حيرت من ضل، إنه قريب مجيب.
فصل أهمية الزمن
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة.

ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: " نية المؤمن خير من عمله " .
وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات. فنقل عن عامر بن عبد قيس أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس.
وقال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني، فإني في وردي السادس.
ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له.
فقال: الآن تطوى صحيفتي.
فإذا علم الإنسان - وإن بالغ في الجد - بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته.
فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفاً، وغرس غرساً، وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له. أو أن يصنف كتاباً من العلم، فإن تصنيف العالم ولده المخلد.
وأن يكون عاملاً بالخير، عالماً فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به.
فلذلك الذي لم يمت.
قد مات قوم وهم في الناس أحياء.

فصل شرف العالم غناه بعمله
رأيت من أعظم حيل الشيطان ومكره، أن يحيط أرباب الأموال بالآمال، والتشاغل باللذات القاطعة عن الآخرة وأعمالها.
فإذا علقهم بالمال - تحريضاً على جمعه، وحثا على تحصيله - أمرهم بحراسته بخلا به.
فذلك من متين حيله، وقوي مكره.
ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية، أن خوف من جمعه المؤمنين، فنفر طالب الآخرة منه، وبادر التائب يخرج ما في يده.
ولا يزال الشيطان، يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات الكسب، إظهاراً لنصحه وحفظ دينه. وفي خفايا ذلك عجائب من مكره.
وربما تكلم الشيطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب، فيقول له: اخرج من مالك وادخل في زمرة الزهاد.
ومتى كال لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، ولا تنال مراتب العزم.
وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة والواردة على سبب ولمعنى.
فإذا أخرج ما في يده. وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طموحه بصلة الإخوان. أو يحسن عنده صحبة السلطان، لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أياماً، ثم يعود الطبع فيتقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه.
ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمندلاً به، ويقف في مقام اليد السفلى.
ولو أنه نظر في سير الرجال نبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث، عن رؤسائهم، لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال، حتى ضاقت بلدته بمواشيه.
وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والجمع الغفير من الصحابة.
وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم، ولا من تناول المباح عند الوجود.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم حي.
وكان أكثرهم يخرج فاضل مما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى الإخوان.
وقد كان ابن عمر لا يرد شيئاً، ولا يسأل.
وإني تأملت أكثر أهل الدين والعلم على هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز.
وقد كانوا قديماً يكفيهم بيت المال فضلات الإخوان، فلما عدمت في هذا الأوان، لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه.
وليته قدر فربما تلف الدين لم يحصل له شيء.
فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه، وأن يجتهد في الكسب ليربح مداراة ظالم، أو مداهنة جاهل، ولا يلتفت إلى ترهات المتصوفة، الذي يدعون في الفقر ما يدعون.
فما الفقر إلا مرض العجزة، وللصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض.
اللهم إلا أن يكون جباناً عن التصرف، مقتنعاً بالكفاف، فليس ذلك من مراتب الأبطال، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد.
وأما الكاسب ليكون المعطي لا المعطى، والمتصدق لا المتصدق عليه، فهي من مراتب الشجعان الفضلاء.
ومن تأمل، هذا علم شرف الغنى ومخاطرة الفقر.
فصل الندم على ما فات
تأملت أحوال الفضلاء، فوجدتهم - في الأغلب - قد بخسوا من حظوظ الدنيا، ورأيت الدنيا - غالباً - في أيدي أهل النقائص.
فنظرت في الفضلاء، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص، وربما تقطع بعضهم أسفاً على ذلك.
فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له: ويحك تدبر أمرك، فإنك غالط من وجوه.

أحدها: أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا، فاجتهد في طلبها تربح التأسف على فوتها، فإن قعودك - متأسفاً على ما ناله غيرك، مع قصور اجتهادك غاية العجز.
والثاني: أن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر، وهذا هو الذي يدلك عليه علمك ويبلغه فهمك. وما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم وأديانهم. فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على فقد ما فقده أصلح لك، وكان تأسفك عقوبة لتأسفك على ما تعلم المصلحة في بعده، فاقنع بذلك عذاباً عاجلاً، إن سلمت من العذاب الآجل.
والثالث: أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة، من مطاعم الدنيا ولذاتها بالإضافة إلى الحيوان البهيم.
لأنه ينال ذلك أكثر مقداراً ، مع أمن، وأنت تناله مع خوف، وقلة مقدار.
فإذا ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقاً بالحيوان البهيم، من جهة أنه يشغله ذلك عن تحصيل الفضائل. وتخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب.
فإذا آثرت - مع قلة الفضول - الفضول، عدت على ما علمت بالإزراء، فشنت علمك، ودللت على اختلاط رأيك...

فصل أسباب الخطأ
تأملت إقدام العلماء على شهوات النفس المنهي عنها، فرأيتها مرتبة تزاحم الكفر لولا تلوح معنى: هو أن الناس عند مواقعة المحظور ينقسمون.
فمنهم: جاهل بالمحظور، أنه محظور، فهذا له نوع عذر.
ومنهم: من يظن المحظور مكروهاً لا محرماً، فهذا قريب من الأول.
وربما دخل في هذا القسم آدم صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: من يتأول فيغلط، كما يقال: إن آدم عليه الصلاة والسلام. نهي عن شجرة بعينها، فأكل من جنسها، لا من عينها.
ومنهم: من يعلم التحريم، غير أن غلبات الشهوة أنسته تذكر ذاك، فشغله ما رأى عما يعلم.
ولهذا لا يذكر السارق القطع، بل يغيب بكليته في نيل الحظ.
ولا يذكر راكب الفاحشة الفضيحة ولا الحد، لأن ما يرى يذهله عما يعلم.
ومنهم: من يعلم الخطر ويذكره...
غير أن بالحزم أولى بالعاقل، كيف وقد علم أن هذا الملك الحكيم قطع اليد في ربع دينار، وهدم بناء الجسم المحكم بالرجم بالحجارة، لالتذاذ ساعة.
وخسف، ومسخ، وأغرق.....
فصل ضرورة الجزاء
من تأمل أفعال البارىء سبحانه، رآها على قانون العدل، وشاهد الجزاء مرصداً، ولو بعد حين.
فلا ينبغي أن يغتر مسامح، فالجزاء قد يتأخر.
ومن أقبح الذنوب التي قد أعد لها الجزاء العظيم، الإصرار على الذنب، ثم يصانع صاحب باستغفار، وصلاة، وتعبد، وعنده أن المصانعة تنفع.
وأعظم الخلق اغتراراً، من أتى ما يكرهه الله. وطلب منه ما يحبه هو، كما روي في الحديث: " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " .
ومما ينبغي للعاقل أن يترصد، وقوع الجزاء، فإن ابن سيرين قال: عيرت رجلاً فقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة.
وقال ابن الجلا: رآني شيخ لي وأنا أنظر إلى أمرد، فقال: ما هذا ؟ لتجدن غبها، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وبالضد من هذا، كل من عمل خيراً أو صحح نية، فلينتظر جزاءها الحسن، وإن امتدت المدة.
قال الله عز وجل: " إِنَّه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " .
وقال عليه الصلاة والسلام: من غض بصره عن محاسن امرأة أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه.
فليعلم العاقل أن ميزان العدل لا يحابى.
فصل حقائق الحياة بين العلم والجهل
تأملت أحوال الصوفية والزهاد، فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة، بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي.
يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، وبأحاديث لها أسباب، وجمهورها لا يثبت.
فمن ذلك، أنهم سمعوا في القرآن العزيز: " وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ " ، " اعلَمْوا أنَّما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ " ثم سمعوا في الحديث: " للدنيا أهون على الله من شاة ميتة، على أهلها " فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها.
وذلك أنه ما لم يعرف حقيقة الشيء فلا يجوز أن يمدح ولا أن يذم.
فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جعلت قراراً للخلق، تخرج منها أقواتهم، ويدفن فيها أمواتهم.
ومثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه.
ورأينا ما عليها من ماء، وزرع، وحيوان، كله لمصالح الآدمي، وفيه حفظ لسبب بقائه.
ورأينا بقاء الآدمي سبباً لمعرفة ربه، وطاعته إياه، وخدمته.

وما كان سبباً لبقاء العارف العابد، يمدح ولا يذم.
فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل، أو العاصي في الدنيا.
فإنه إذا اقتنى المال المباح، وأدى زكاته، لم يلم.
فقد علم ما خلف الزبير، وابن عوف وغيرهما، وبلغت صدقة علي - رضي الله عنه - أربعين ألفاً. وخلف ابن مسعود: تسعين ألفاً، وكان الليث بن سعد يستغل كل سنة عشرين ألفاً، وكان سفيان، يتجر بمال، وكان ابن مهدي يستغل كل سنة ألفي دينار.
وإن أكثر من النكاح والسراري، كان ممدوحاً لا مذموماً، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم زوجات، وسراري وجمهور الصحابة، كانوا على الإكثار من ذلك. وكان لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أربع حرائر، وسبع عشرة أمة.
وتزوج ولده الحسن، نحواً من أربعمائة.
فإن طلب التزوج للأولاد، فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ فمباح، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى، من إعفاف نفسه والمرأة، إلى غير ذلك.
وقد أنفق موسى - عليه السلام - من عمره الشريف عشر سنين في مهر ابنة شعيب.
فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء، لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: خيار هذه الأمة أكثرها نساء.
وكان يطأ جارية له، وينزل في أخرى.
وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان الربيع يعزل.
وأما المطعم، فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم. يأكل ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل، وما نقل عنه أنه امتنع من مباح.
وجيء علي رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه، وقال: ما هذا ؟ قالوا: يوم النوروز، فقال: نوروزنا كل يوم.
وإنما يكره الأكل فوق الشبع، واللبس على وجه الاختيال والبطر.
وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك، لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد، وإلا فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم: حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيراً.
وكان لتميم الداري: حلة اشتريت بألف درهم، يصلي فيها بالليل.
فجاء أقوام، فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى، ثم تطلبوا لها الدليل.
وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع طريقاً ويتطلب دليلها.
ثم انقسموا: فمنهم، متصنع في الظاهر، ليث الشرى في الباطن.
يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات. ويري الناس بزيه أنه متصوف متزهد، وما تزهد إلا القميص وإذا نظر إلى أحواله فعنده كبر فرعون.
ومنهم: سليم الباطن، إلا أنه في الشرع جاهل.
ومنهم: من تصدر، وصنف، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة، وكانوا كعمي اتبعوا أعمى.
ولو أنهم تلمحوا للأمر الأول، الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، لما ذلوا.
ولقد كان جماعة من المحققين، لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حاد عن الشريعة، بل يوسعونه لوماً.
فنقل عن أحمد أنه قال له المروزي: ما تقول في النكاح ؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: فقد قال إبراهيم. قال: فصاح بي وقال: جئتنا ببنيات الطريق ؟ وقيل له: إن سريا السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقف الألف وسجدت الباء، فقال: نفروا الناس عنه.
واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم، كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير، كانا على الباطل ؟ فقال له: إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله، لتعظيمهم في نفسه.
كما ينقل عن أبي يزيد رضي الله عنه، أنه قال: تراعنت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة.
وهذا إذا صح عنه، كان خطأ قبيحاً، وزلة فاحشة، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء.
فإذا لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه.
وقد كان يستعذب الماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها.

وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية، أنه قال: سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً، فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان علي مسح، فكانت عيني إذا المتنبي أدلكها بالمسح فذهبت إحدى عيني. وأمثال هذا كثير، وربما حملها القصاص على الكرامات، وعظموها عند العوام، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي، وأحمد.
ولعمري، إن هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب، لأن الله تعالى قال: " وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن لنفسك عليك حقاً " .
وقد طلب أبو بكر رضي الله عنه، في طريق الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم، ظلاً، حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها.
وقد نقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط، وكان سببه من وجهين. أحدهما: الجهل بالعلم، والثاني: قرب العهد بالرهبانية.
وقد كان الحسن يعيب فرقد السنجي، ومالك بن دينار، في زهدهما، فرئي عنده طعام فيه لحم، فقال: لا رغيفي مالك، ولا صحنا فرقد.
ورأى على فرقد كساء، فقال: يا فرقد إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية.
وكم قد زوق قاص مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد ولا ماء، وهو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال، وأن الله تعالى لا يجرب عليه.
فربما سمعه جاهل من التائبين فخرج فمات في الطريق، فصار للقائل نصيب من إثمه.
وكم يروون عن ذي النون: أنه لقي امرأة في السياحة فكلمها وكلمته، وينسون الأحاديث الصحاح: لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً وليلة إلا بمحرم.
وكم ينقلون: أن أقواماً مشوا على الماء، قد قال إبراهيم الحربي: لا يصح أن أحداً مشى على الماء قط.
فإذا سمعوا هذا قالوا: أتنكرون كرامات الأولياء الصالحين ؟.
فنقول: لسنا من المنكرين لها، بل نتبع ما صح، والصالحون هم الذين يتبعون الشرع، ولا يتعبدون بآرائهم.
وفي الحديث: إن بني إسرائيل شددوا، فشدد الله عليهم.
وكم يحثون على الفقر حتى حملوا خلقاً على إخراج أموالهم، ثم آل بهم الأمر إما إلى التسخط عند الحاجة، وإما إلى التعرض بسؤال الناس.
وكم تأذى مسلم بأمرهم الناس بالتقلل ! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس، فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل.
فحكى أبو طالب المكي في " قوت القلوب " : أن فيهم من كان يزن قوته بكربة رطبة، ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل، وكنت أنا ممن اقتدى بقوله في الصبا، فضاق المعي وأوجب ذلك، مرض سنين.
أفترى هذا شيئاً تقتضيه الحكمة، أو ندب إليه الشرع ؟.
وإنما مطية الآدمي قواه، فإذا سعى في تقليلها، ضعف عن العبادة.
ولا تقولن: الحصول على الحلال المحض مستحيل، لذلك وجب الزهد تجنباً للشبهات، فإن المؤمن حسبه أن يتحرى في كسبه هو الحلال ولا عليه من الأصول التي نبتت من هذه الأموال.
فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور وأجرة الفجور، كان لنا حلالاً بوصف الغنيمة.
أفتريد حلالاً، على معنى أن الحبة من الذهب لم تنتقل - مذ خرجت من المعدن، على وجه لا يجوز.
فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أوليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تصدق على بريرة بلحم فأهدته، جاز له أكل تلك العين لتغير الوصف.
وقد قال أحمد بن حنبل: أكره التقلل من الطعام، فإن أقواماً فعلوه فعجزوا عن الفرائض.
وهذا صحيح، فإن المتقلل لا يزال يتقلل، إلى أن يعجز عن النوافل ثم الفرائض ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله.
ولا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث، التي تحث على الجوع، فإن المراد بها إما الحث على الصوم، وإما النهي عن مقاومة الشبع.
فأما تنقيص المطعم على الدوام، فمؤثر في القوى، فلا يجوز.
ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يود أن يأكله كل يوم.
واسمع مني بلا محاباة.
لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، وقال إبراهيم بن أدهم، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم - أقوى أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظن.
ولقد ذاكرت بعض مشايخنا ما يروى عن جماعة من السادات، أنهم دفنوا كتبهم، فقلت له: ما وجه هذا ؟.
فقال: أحسن ما نقول أن نسكت، يشير إلى أن هذا جهل من فاعله.

وتأولت أنا لهم: فقلت: ما دفنوا من كتبهم، فيه شيء من الرأي، فما رأوا أن يعمل الناس به.
ولقد روينا في الحديث، عن أحمد بن أبي الحواري: أنه أخذ كتبه فرمى بها في البحر: وقال، نعم الدليل كنت ! ولا حاجة لنا إلى الدليل، بعد الوصول إلى المدلول ؟.
وهذا - إذا أحسنا به الظن - قلنا: كان فيها من كلامهم ما لا يرتضيه.
فأما إذا كانت علوماً صحيحة، كان هذا من أفحش الإضاعة، وأنا وإن تأولت لهم هذا، فهو تأويل صحيح في حق العلماء منهم، لأنا قد روينا عن سفيان الثوري: أنه قد أوصى بدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها، عن قوم، وقال: حملني شهوة الحديث - وهذا لأنه كان يكتب عن الضعفاء والمتروكين، فكأنه لما عسر عليه التمييز أوصى بدفن الكل.
وكذلك من كان له رأي من كلامه ثم رجع عنه، جاز أن يدفن الكتب التي فيها ذلك، فهذا وجه التأويل للعلماء.
فأما المتزهدون، الذين رأوا صورة فعل العلماء، ودفنوا كتباً صالحة لئلا تشغلهم عن التعبد، فإنه جهل منهم.
لأنهم شرعوا في إطفاء مصباح يضيء لهم، مع الإقدام على تضييع مال لا يحل تضييعه.
ومن جملة من عمل بواقعة دفن كتب العلم، يوسف بن أسباط، ثم لم يصبر عن التحديث فخلط، فعد في الضعفاء.
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا محمد بن المظفر الشامي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: حدثنا يوسف بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عمرو العقيلي، قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الخلال. قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت ليوسف بن أسباط: كيف صنعت بكتبك ؟ قال: جئت إلى الجزيرة، فلما نضب الماء دفنتها حتى جاء الماء عليها، فذهبت.
قلت: ما حملك على ذلك ؟ قال: أردت أن يكون الهم هماً واحداً.
قال العقيلي: وحدثني آدم، قال: سمعت البخاري قال: قال صدقة: دفن يوسف بن أسباط كتبه، وكان بعد يغلب عليه الوهم فلا يجيء كما ينبغي.
قال المؤلف قلت: الظاهر أن هذه كتب علم ينفع، ولكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط، الذي قصده به الخير، وهو شر.
فلو كانت كتبه من جنس كتب الثوري، فإن فيها. عن ضعفاء ولم يصح له التمييز، قرب الحال. إنما تعليله بجمع الهم هو الدليل على أنها ليست كذلك، فانظر إلى قلة العلم، ماذا تؤثر مع أهل الخير.
ولقد بلغنا في الحديث عن بعض من نعظمه، ونزوره، أنه كان على شاطىء دجلة، فبال ثم تيمم، فقيل له الماء قريب منك، فقال: خفت أن لا أبلغه !!.
وهذا وإن كان يدل على قصر الأمل، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تلاعبوا به، من جهة أن التيمم، إنما يصح عند عدم الماء.
فإذا كان الماء موجوداً كان تحريك اليدين بالتيمم عبثاً. وليس من الضروري وجود الماء أن يكون إلى جانب المحدث، بل لو كان على أذرع كثيرة، كان موجوداً فلا فعل للتيمم، ولا أثر حينئذ.
ومن تأمل هذه الأشياء، علم أن فقيهاً واحداً - وإن قل أتباعه، وخفت إذا مات أشياعه - أفضل من ألوف تتمسح العوام بهم تبركاً، ويشيع جنائزهم ما لا يحصى.
وهل الناس إلا صاحب أثر نتبعه، أو فقيه يفهم مراد الشرع ويفتي به ؟.
نعوذ بالله من الجهل، وتعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل !.
فإن من ورد المشرب الأول، رأى سائر المشارب كدرة.
والمحنة العظمى مدائح العوام، فكم غرت ... !!.
كما قال علي رضي الله عنه: ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً.
ولقد رأينا وسمعنا من العوام، أنهم يمدحون الشخص، فيقولون: لا ينام الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجة، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً، قد نحل جسمه، ودق عظمه، حتى إنه يصلي قاعداً، فهو خير من العلماء الذي يأكلون ويتمتعون.
ذلك مبلغهم من العلم، ولو فقهوا علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة فتناولها عالم يفتي عن الله، ويخبر بشريعته، كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً وأفضل من عبادة ذلك العابد باقي عمره.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقيه واحد، أشد على إبليس من ألف عابد.
ومن سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه.
وإنما أمدح العالمين بالعلم، وهم أعلم بمصالح أنفسهم.
فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش، كأحمد بن حنبل.
وكان فيهم، من يستعمل رقيق العيش، كسفيان الثوري، مع ورعه، ومالك مع تدينه، والشافعي مع قوة فقهه.

ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه.
فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه.
وقد قالت رابعة: إن كان صلاح قلبك في الفالوذج فكله.
ولا تكونن أيها السامع ممن يرى صور الزهد.
فرب متنعم لا يريد التنعم، وإنما يقصد المصلحة.
وليس كل بدن يقوى على الخشونة، خصوصاً من قد لاقى الكد وأجهده الفكر، أو أمضه الفقر، فإنه إن لم يرفق بنفسه، ترك واجباً عليه من الرفق بها.
فهذه جملة لو شرحتها بذكر الأخبار والمنقولات لطالت، غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري، والله ولي النفع برحمته.

فصل حياة البرزخ
قد أشكل على الناس أمر النفس وماهيتها، مع إجماعهم على وجودها، ولا يضر الجهل بذاتها مع إثباتها.
ثم أشكل عليهم مصيرها بعد الموت، ومذهب أهل الحق أن لها وجوداً بعد موتها، وأنها تنعم وتعذب.
قال أحمد بن حنبل؛ أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار.
وقد جاء في أحاديث الشهداء: أنها في حواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة.
وقد أخذ بعض الجهلة بظواهر أحاديث النعيم، فقال: إن الموتى يأكلون في القبور، وينكحون.
والصواب من ذلك أن النفس تخرج بعد الموت إلى نعيم أو عذاب، وأنها تجد ذلك إلى يوم القيامة.
فإذا كانت القيامة، أعيدت إلى الجسد ليتكامل لها التنعم بالوسائط وقوله - في حواصل طير خضر - دليل على أن النفوس لا تنال لذة إلا بواسطة.
إلا أن تلك اللذة لذة مطعم أو مشرب، فأما لذات المعارف والعلوم فيجوز أن تنالها بذاتها، مع عدم الوسائط.
والمقصود من هذا المذكور أني رأيت بعض الانزعاج من الموت، وملاحظة النفس بعين العدم عنده، فقلت لها: إن كنت مصدقة للشريعة فقد أخبرت بما تعرفين، ولا وجه للإنكار.
وإن كانت هناك ريب في أخبار الشريعة، صار الكلام في بيان صحة الشريعة.
فقالت: لا ريب عندي، قلت: فاجتهدي في تصحيح الإيمان، وتحقيق التقوى، وأبشري حينئذ بالراحة من ساعة الموت.
فإني لا أخاف عليك إلا من التقصير في العمل.
واعلمي أن تفاوت النعيم بمقدار درجات الفضائل، فارتفعي بأجنحة الجد إلى أعلى أبراجها، واحذري من قانص هوى، أو شرك غرة، والله الموفق.
فصل حيرة عالم
قلت يوماً في مجلسي: لو أن الجبال حملت ما حملت لعجزت.
فلما عدت إلى منزلي، قالت لي النفس: كيف قلت هذا ؟ وربما أوهم الناس أن بك بلاء، وأنت في عافية في نفسك وأهلك !!.
وهل الذي حمل إلا التكليف الذي يحمله الخلق كلهم ؟ فما وجه هذه الشكوى.
فأجبتها: إني لما عجزت عما حملت، قلت هذه الكلمة لا على سبيل الشكوى ؟. ولكن للاسترواح.
وقد قال كثير من الصحابة والتابعين قبلي: ليتنا لم نخلق !.
وما ذاك إلا لأثقال عجزوا عنها.
ثم من ظن أن التكاليف سهلة، فما عرفها.
أترى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين ؟ هيهات! هذا أسهل التكليف.
وإن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال، ومن جملته: أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذعان للمقدر، فكان من أصعب التكليف.
وخصوصاً فيما لا يعلم العقل معناه كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك والآمر به، أرحم الراحمين.
فهذا مما يتحير العقل فيه، فيكون تكليفه التسليم، وترك الاعتراض... !!.
فكم بين تكليف البدن وتكليف العقل .. ؟.
ولو شرحت هذا لطال، غير أني أعتذر عما قلته، فأقول عن نفسي، وما يلزمني حال غيري.
إني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد منه، بل فنونه كلها.
ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه.
والزمان لا يسع، والعمر أضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات.
ثم إن العلم دلني على معرفة المعبود، وحثني على خدمته.
ثم صاحت بي الأدلة عليه إليه، فوقفت بين يديه، فرأيته في نعته وعرفته بصفاته.
وعاينت بصيرتي من ألطافه ما دعاني إلى الهيمان في محبته، وحركني إلى التخلي لخدمته.
وصار يملكني أمر كالوجد كلما ذكرته، فعادت خلوتي في خدمتي له، أحلى عندي من كل حلاوة.
فكلما ملت إلى الانقطاع عن الشواغل إلى الخلوة، صاح بي العلم أين تمضي ؟.
أتعرض عني وأنا سبب معرفتك به.

فأقول له: إنما كنت دليلاً وبعد الوصول يستغنى عن الدليل ؟.
قال: هيهات ! كلما زدت، زادت معرفتك بمحبوبك، وفهمت كيف القرب منه.
ودليل هذا، أنك تعلم غداً، أنك اليوم في نقصان.
أو ما تسمعه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " .
ثم ألست تبغي القرب منه ؟ فاشتغل، بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق، على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم ؟.
أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي رضي الله عنه: لأن يهدي الله بك رجلاً، خير لك من حمر النعم ؟.
فلما فهمت صدق هذه المقالة، تهوست على تلك الحالة، وكلما تشاغلت بجمع الناس، تفرق همي.
وإذا وجدت مرادي من نفعهم، ضعفت أنا، فأبقى في حيز التحير متردداً، لا أدري على أي القدمين أعتمد.
فإذا وقفت متحيراً صاح العلم: قم لكسب العيال، وادأب في تحصيل ولد بذكر الله، فإذا شرعت في ذلك قلص ضرع الدنيا وقت الحلب، ورأيت باب المعاش مسدوداً في وجهي. لأن صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة.
فإذا التفت إلى أبناء الدنيا، رأيتهم لا يبيعون شيئاً من سلعها إلا بدين المشتري.
وليت من نافقهم أو راءاهم نال من ديناهم، بل ربما ذهب دينه ولم يحصل مراده.
فإن قال الضجر: اهرب. قال الشرع: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
وإن قال العزم: انفرد، قال: فكيف بمن تعول ؟.
فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا، وقد ربيت في نعيمها، وغذيت بلبانها، ولطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة.
فإذا غيرت لباسي وخشنت مطعمي، لأن القوت لا يحتمل الانبساط، نفر الطبع لفراق العادة، فحل المرض فقطع عن واجبات، وأوقع في آنات.
ومعلوم أن لين اللقمة بعد التحصيل من الوجوه المستطابة ثم تخشينها لمن لم يألف سعي في تلف النفس.
فأقول: كيف أصنع وما الذي أفعل ؟.
وأخلو بنفسي في خلواتي، وأتزيد من البكاء على نقص حالاتي.
وأقول: أصف حال العلماء، وجسمي يضعف عن إعادة العلم ؟.
وحال الزهاد، وبدني لا يقوى على الزهد ؟.
وحال المحبين، ومخالطة الخلق تشتت همي، وتنقش صور المحبوبات من الهوى في نفسي ؟ فتصدأ مرآة قلبي ؟.
وشجرة المحبة تحتاج إلى تربية في تربة طيبة، لتسقى ماء الخلوة من دولاب الفكرة.
وإن آثرت التكسب لم أطق. وإن تعرضت لأبناء الدنيا - مع أن طبعي الأنفة من الذل وتديني يمنعني - فلا يبقى للميل مع هذين الجاذبين أثر.
ومخالطة الخلق تؤذي النفس مع الأنفاس !!!.
ولا تحقيق التوبة أقدر عليه، ولا نيل مرتبة من علم أو عمل أو محبة يصح لي. فإذاً رأيتني كما قال القائل:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له ... إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
تحيرت في أمري، وبكيت على عمري، وأنادي في فلوات خلواتي بما سمعته من بعض العوام، وكأنه وصف حالي:
واحسرتي كم أداري فيك تعثيري ... مثل الأسير بلا حبل ولا سيري
ما حيلتي في الهوى قد ضاع تدبيري ... لما شكلت جناحي قلت لي طيري

فصل طريق الفلاح
تأملت أمر الدنيا والآخرة، فوجدت حوادث الدنيا حسية طبعية، وحوادث الآخرة إيمانية يقينية. والحسيات أقوى جذباً لمن لم يقو علمه ويقينه.
والحوادث إنما تبقى بكثرة أسبابها، فمخالطة الناس، ورؤية المستحسنات، والتعرض بالملذوذات، يقوي حوادث الحس.
والعزلة، والفكر، والنظر في العلم يقوي حوادث الآخرة.
ويبين هذا بأن الإنسان إذا خرج يمشي في الأسواق، ويبصر زينة الدنيا، ثم دخل إلى المقابر، فتفكر ورق قلبه فإنه يحس بين الحالتين فرقاً بيناً.
وسبب ذلك، التعرض بأسباب الحوادث.
فعليك بالعزلة والذكر والنظر في العلم، فإن العزلة حمية، والفكر والعلم أدوية. والدواء مع التخليط لا ينفع.
وقد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق، والتخليط في الأفعال فليس لك دواء إلا ما وصفت لك.
فأما إذا خالطت الخلق وتعرضت للشهوات، ثم رمت صلاح القلب رمت الممتنع.
فصل أسباب الحرص
تأملت حرص النفس على ما منعت منه، فرأيت حرصها يزيد على قدر قوة المنع.
ورأيت في الشرب الأول، أن آدم عليه السلام لما نهي عن الشجرة، حرص عليها مع كثرة الأشجار المغنية عنها.

وفي الأمثال: المرء حريص على ما منع، وتواق إلى ما لم ينل.
ويقال: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولوا نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه.
وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء. وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فلما بحثت عن سبب ذلك وجدت سببين: أحدهما: أن النفس لا تصبر على الحصر فإنه يكفي حصرها في صورة البدن، فإذا حصرت في المعنى بمنع زاد طيشها.
ولهذا لو قعد الإنسان في بيته شهراً لم يصعب عليه.
ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يوماً طال عليه.
والثاني: أنها يشق عليها الدخول تحت حكم، ولهذا تستلذ الحرام، ولا تكاد تستطيب المباح.
ولذلك يسهل عليها التعبد على ما ترى، وتؤثره لا على ما يؤثر.

فصل حقيقة العمل ودوافعه
ما زالت نفسي تنازعني بما يوجبه مجلس الوعظ، وتوبة التائبين، ورؤية الزاهدين... إلى الزهد والانقطاع عن الخلق والانفراد بالآخرة.
فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان، فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون، يبكون ويندبون على ذنوبهم، ويقوم في الغالب جماعة يتوبون ويقطعون شعور الصبا.
وربما اتفق خمسون ومائة. ولقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة.
وعمومهم صبيان قد نشأوا على اللعب والانهماك في المعاصي.
فكأن الشيطان لبعد غوره في الشر، رآني أجتذب إلي من أجتذب منه، فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده.
ولقد حسن إلي الانقطاع عن المجالس، وقال: لا يخلو من تصنع للخلق.
فقلت: أما زخرفة الألفاظ وتزويقها، وإخراج المعنى من مستحسن العبارة، ففضيلة لا رذيلة.
وأما أن أقصد الناس بما لا يجوز في الشرع، فمعاذ الله.
ثم رأيته يربني في التزهد قطع أسباب ظاهرة الإباحة - من الاكتساب.
فقلت له: فإن طاب لي الزهد، وتمكنت من العزلة، فنفذ ما بيدي أو احتاج بعض عائلتي، ألست أعود القهقرى ؟.
فدعني أجمع ما يسد خلتي، ويصونني عن مسألة الناس، فإن مد عمري، كان نعم السبب، وإلا كان للعائلة. ولا أكون كراكب أراق ماءه لرؤية سراب، فلما ندم وقت الفوات، لم ينتفع بالندم.
وإنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم، وجمع المال الساد للخلة الكبر أخذاً بالحزم..
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لأن تترك ورثتك أغنياء، خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وقال: نعم المال الصاح، للرجل الصالح.
وأما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير، والعزلة عن الشر واجبة على كل حال. وأما تعليم الطالبين، وهداية المريدين، فإنه عبادة العالم.
وإن من تفضيل بعض العلماء إيثاره التنفل بالصلاة والصوم، عن تصنيف كتاب، أو تعليم علم ينفع لأن ذلك بذر يكثر ريعه، ويمتد زمان نفعه.
وإنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين.
أحدهما: حب البطالة، لأن الانقطاع عندها أسهل.
والثاني: حب المدحة فإنها إذا توسمت بالزهد كان ميل العوام إليها أكثر.
فعليك بالنظر في الشرب الأول، فكن مع الشرب المقدم. وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله تعالى عنهم.
فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة، من الانقطاع عن العلم ؟ والانفراد عن الخلق.
وهل كان شغل الأنبياء إلا معانات الخلق ؟ وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر.
إلا أن ينقطع من ليس بعالم بقصد الكف عن الشر، فذاك في مرتبة المحتمي يخاف شر التخليط.
فأما الطيب العالم بما يتناول، فإنه ينتفع بما يناله.
فصل بين العلم والعمل
تأملت المراد من الخلق فإذا هو الذل، واعتقاد التقصير والعجز.
ومثلت العلماء والزهاد العاملين صنفين فأقمت في صف العلماء مالكاً وسفيان وأبا حنيفة والشافعي وأحمد، وفي صف العباد مالك بن دينار ورابعة ومعروف الكرخي وبشر بن الحارث.
فكلما جد العباد في العبادة وصاح بهم لسان الحال. عباداتكم لا يتعداكم نفعها وإنما يتعدى نفع العلماء، وهم ورثة الأنبياء، وخلفاء الله في الأرض، هم الذين عليهم المعول، ولهم الفضل، إذا أطرقوا وانكسروا وعلموا صدق تلك الحال، وجاء مالك بن دينار إلى الحسن يتعلم منه ويقول: الحسن أستاذنا.
وإذا رأى العلماء أن لهم بالعلم فضلاً، صاح لسان الحال بالعلماء: وهل المراد من العلم إلا العمل ؟!.

وقال أحمد بن حنبل: وهل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه معروف ؟ وصح عن سفيان الثوري قال: وددت أن يدي قطعت ولم أكتب الحديث.
وقالت أم الدرداء لرجل: هل عملت بما علمت ؟ قال: لا. قالت: فلم تستكثر من حجة الله عليك؟.
وقال أبو الدرداء: ويل لمن يعلم ولم يعمل مرة، وويل لمن علم ولم يعمل سبعين مرة.
وقال الفضيل: يغفر للجاهل سبعون ذنباً. قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.
فما يبلغ من الكل قوله تعالى: " هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُون والَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ " .
وجاء سفيان إلى رابعة: فجلس بين يديها ينتفع بكلامها، فدل العلماء العلم على أن المقصود منه العمل به، وأنه آلة فانكسروا واعترفوا بالتقصير.
فحصل الكل على الاعتراف والذل، فاستخرجت المعرفة منهم حقيقة العبودية باعترافهم، فذلك هو المقصود من التكليف.

فصل التفكر في الله ومحبته
تأملت قوله تعالى: " يُحِبُّهُم وَيُحبُّونهُ " . فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقاً وقالت: محبته طاعته، فتدبرت ذلك فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس.
وبيان هذا: أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية، ومحبة العلم والعمل ترى الصور المعنوية فتحبها.
فإنا نرى خلقاً يحبون أبا بكر رضي الله عنه، وخلقاً يحبون علياً بن أبي طالب رضي الله عنه، وقوماً يتعصبون لأحمد بن حنبل، وقوماً للأشعري، فيقتتلون ويبذلون النفوس في ذلك.
وليسوا ممن رأى صور القوم، ولا صور القوم توجب المحبة.
ولكن لما تصورت لهم المعاني فدلتهم على كمال القوم في العلوم، وقع الحب لتلك الصور التي شوهدت بأعين البصائر.
فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية وبذلها ؟ وكيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي، وعرفني ملذوذات علمي ؟ فإن التذاذي بالعلم وإدراك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية، فهو الذي علمني وخلق لي إدراكاً وهداني إلى ما أدركته.
ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد، أراه فيه بإتقان ذلك الصنع، وحسن ذلك المصنوع.
فكل محبوباتي منه، وعنه، وبه، الحسية والمعنوية، وتسهيل سبل الإدراك به، والمدركات منه، وألذ من كل لذة عرفاني له، فلولا تعليمه ما عرفته.
وكيف لا أحب من أنا به، وبقائي منه، وتدبيري بيده ورجوعي إليه، وكل مستحسن محبوب هو صنعه وحسنه وزينه وعطف النفوس إليه.
فكذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور، والعجيب الصنعة أكمل من المصنوع، ومعنى الإدراك أحلى عرفاناً من المدرك.
ولو أننا رأينا نقشاً عجيباً لاستغرقنا تعظيم النقاش وتهويل شأنه، وظريف حكمته عن حب المنقوش. وهذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية، إذا خرق نظرها الحسيات ونفذ إلى ما وراءها، فحينئذ تقع محبة الخالق ضرورة.
وعلى قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له.
فإن قوي أوجب قلقاً وشوقاً.
وإن مال بالعارف إلى مقام الهيبة أوجب خوفاً.
وإن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاء قوياً، " قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ " .
فصل التسليم للحكمة العليا
تأملت حالاً عجيبة، وهي أن الله سبحانه وتعالى قد بنى هذه الأجسام متقنة على قانون الحكمة.
فدل بذلك المصنوع على كمال قدرته، ولطيف حكمته.
ثم عاد فنقضها فتحيرت العقول بعد إذعانها له بالحكمة، في سر ذلك الفعل.
فأعلمت أنها ستعاد للمعاد، وأن هذه البنية لم تخلق إلا لتجوز في مجاز المعرفة، وتتجر في موسم المعاملة فسكنت العقول لذلك.
ثم رأت أشياء من هذا الجنس أظرف منه، مثل اخترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنيانه.
وأعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه يتململان. ولا يظهر سر سلبه، والله الغني عن أخذه، وهما أشد الخلق فقراً إلى بقائه.
وأظرف منه إبقاء هرم لا يدري معنى البقاء، وليس له فيه إلا مجرد أذى.
ومن هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم، وتوسعته على الكافر الأحمق.
وفي نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها، فيبقى مبهوتاً.
فلم أزل أتلمح جملة التكاليف، فإذا عجزت قوي العقل عن الاطلاع على حكمة ذلك وقد ثبت لها حكمة الفاعل، علمت قصورها عن درك جميع المطلوب فأذعنت مقرة بالعجز. وبذلك تؤدي مفروض تكليفها.

فلو قيل للعقل: قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بني أفيجوز أن ينقدح في حكمته أنه نقض ؟ لقال. لأني عرفت بالبرهان أنه حكيم، وأنا أعجز عن إدراك علله فأسلم على رغمي مقراً بعجزي.

فصل دور المرأة في حياة الرجل
تأملت في فوائد النكاح ومعانيه وموضوعه، فرأيت أن الأصل الأكبر في وضعه وجود النسل.
لأن هذا الحيوان لا يزال يتحلل ثم يختلف من المتحلل الغذاء، ثم يتحلل من الأجزاء الأصلية مالا يخلفه شيء، فإذا لم يكن بد من فنائه، وكان المراد امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفاً عن الأصل.
ولما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة وملاقاة ما لا يستحسن لنفسه، جعلت الشهوة تحث عليه ليحصل المقصود.
ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر، وهو استفراغ هذا الماء الذي يؤذي دوام احتقانه.
فإن المني ينفصل من الهضم الرابع، فهو من أصفى جوهر الغذاء وأجوده، ثم يجتمع، فهو أحد الذخائر للنفس فإنه تدخر - لبقائها وقوتها - الدم ثم المني، ثم تدخر التفل الذي هو من أعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره.
فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحو إقلاق البول للحاقن، إلا أن إقلاقه من حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة، فتوجب كثرة اجتماعه، وطول احتباسه، أمراضاً صعبة. لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤذي، وربما أحدث سمية.
ومتى كان المزاج سليماً فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز البول، وقد ينحرف بعض الأمزجة، فيقل اجتماعه عنده فيندر طلبه لإخراجه، وإنما نتكلم عن المزاج الصحيح، فأقول: قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه أوجب أمراضاً وجدد أفكاراً رديئة، وجلب العشق والوسوسة إلى غير ذلك من الآفات.
وقد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع وهو بعد متقلقل، فكأنه الآكل الذي لا يشبع.
فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل في المنكوح، إما لدمامته، وقبح منظره، أو لآفة فيه، أو لأنه غير مطلوب للنفس فحينئذ يخرج منه ويبقى بعضه.
فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك، فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى. وفي المحل الذي هو دونه، كالوطء بين الفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل النكاح، وكوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب.
فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقصي فضول المني، فيحصل للنفس كمال اللذة، لموضع كمال بروز الفضول.
ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضاً، فإنه إذا كان من شابين قد حبسا أنفسهما عن النكاح مدى مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما، أو من المدمن على النكاح على الأغلب.
ولهذا كره نكاح الأقارب، لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها، فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه، ومدح نكاح الغرائب لهذا المعنى.
ومن هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية بمنكوح مستجد، وإن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة.
ومثال هذا أن الطاعم إذ امتلأ خبزاً ولحماً حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة، قدمت إليه الحلوى فيتناول، فلو قدم أعجب منها لتناول، لأن، الجدة لها معنى عجيب.
وذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت، وتطلب غير ما عرفت، ويتخايل لها في الجديد نوع مراد. فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر، فكأنها قد علمت وجود غرض تام بلا كدر، وهي تتخايله فيما تراه.
وفي هذا المعنى دليل مدفون على البعث، لأن في خلق همته متعلقة بلا متعلق نوع عبث. فافهم هذا ؟.
فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا عادت تطلب جديداً.
ولذلك قال الحكماء: العشق، العمى عن عيوب المحبوب، فمن تأمل عيوبه سلا.
ولذلك يستحب للمرأة أن لا تبعد عن زوجها بعداً تنسيه إياها، ولا تقرب منه قرباً يملها معه، وكذلك يستحب ذلك له، لئلا يملها أو تظهر لديه مكنونات عيوبها.
وينبغي له أن لا يطلع منها على عورة، ويجتهد في أن لا يشم منها إلا طيب ريح، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات، فإنهن يعلمن ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم.
فأما الجاهلات فإنهن لا ينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن.
فمن أراد نجابة الولد وقضاء الوطر فليتخير المنكوح، إن كان زوجة فلينظر إليها، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها، ولينظر إلى كيفية وقوعها في نفسه، فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه، فإذا انصرف الطرف قلق القلب بتقاضي النظرة، فهذا الغاية.

ودونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض.
وإن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر، ومن قدر على مناطقة المرأة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه، ثم ليرى ذلك منها، فإن الحسن في الفم والعينين.
وقد نص أحمد: على جواز أن يبصر الرجل من المرأة التي يريد نكاحها ما هو عورة، يشير إلى ما يزيد على الوجه.
ومن أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه، فإنه لا يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد، وتوقانها لأجل الحب، فإذا رأى قلق الحب أقدم. فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا عبد الجبار بن أبي عامر قال: حدثني أبي قال: حدثني خالد بن سلام قال: حدثنا عطاء الخراساني قال: مكتوب في التوراة كل تزويج على غير هوى حسرة وندامة إلى يوم القيامة.
ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها من الخفي، وإن الصورة إذا خلت من المعنى كانت كخضراء الدمن.
ونجابة الولد مقصودة، وفراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من رغبات أصل عظيم، يوجب إقبال القلب على المهمات.
ومن فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية.
ولهذا جاء في الحديث: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان.
وإذا وضع العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء.
فمن قدر على امرأة صالحة في الصورة والمعنى فليغمض عن عوراتها، ولتجتهد هي في مراضيه من غير قرب يمل، ولا بعد ينسي، ولتقدم على التصنع له يحصل الغرضان منها، الولد وقضاء الوطر.
ومع الاحتراز الذي أوصيت به، تدوم الصحبة، ويحصل الغناء بها عن غيرها.
فإن قدر على الاستكثار فأضاف إليها سواها عالماً أنه بذلك يبلغ الغرض الذي يفرغ قلبه زيادة تفريغ كان أفضل لحاله.
فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته، أو خاف وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة، أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن الورع فحسبه واحدة.
ويدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف. فليبالغ الواجد لهن في حفظهن وسترهن.
فإن وجد ما لا يرضيه عجل الاستبدال، فإنه سبب السلو، وإن قدر على الاقتصار فإن الاقتصار على الواحدة أولى، فإن كانت على الغرض قنع، وإن لم تكن استبدل، ونكاح المرأة المحبوبة يستفرغ الماء المجتمع، فيوجب نجابة الولد وتمامه، وقضاء الوطر بكماله.
ومن خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري فإنهن أقل غيرة، والاستظراف لهن أمكن من استظراف الزوجات.
وقد كان جماعة يمكنهم الجمع، وكان النساء يصبرن، فكان لداود عليه الصلاة والسلام مائة امرأة، ولسليمان عليه الصلاة والسلام ألف امرأة، وقد علم حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة سرية، وتزوج ابنه الحسن رضي الله عنه بنحو من أربعمائة، إلى غير هذا مما يطول ذكره.
فافهم ما أشرت إليه تفز به إن شاء الله تعالى.

فصل حلاوة الطاعة وشؤم المعصية
كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة، وكل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في الآخرة. فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء.
وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم وخوف بعذاب من عذاب. فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة.
وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟.
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ فقال: ولا من هم.
فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك.

وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس، وعلى ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً، كما في حديث أبي أمامة: عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه.
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها.
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: الصبحة تمنع الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وقد روى المفسرون: أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولداً، وجاء يوسف بأحد عشر بالهمة، ومثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء وفهم كما قال الفضيل: إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. وعن عثمان النيسابوري: أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة، ثم قال: ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة.
ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف: " وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٍ " امتدت أكفهم بين يديه بالطلب، يقولون: " وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا " .
ولما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالاً، ولما بغت عليه بدعواها: " مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا " ، نطقها الحق بقولها: " أَنَا رَاوَدْتُهُ " .
ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك، وكذلك إذا فعل طاعة. وفي الحديث: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة، أي عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة.
ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع، طلباٍ للراحة العاجلة، فانقلبت أحواله إلى التنغص العاجل، وعكست عليه المقاصد.
حكى بعض المشايخ: أنه اشترى في زمن شبابه جارية، قال: فلما ملكتها تاقت نفسي إليها، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقاً يرخص لي، فكلهم قال: لا يجوز النظر إليها بشهوة، ولا لمسها، ولا جماعها، إلا بعد حيضها، قال: فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت وهي حائض، فقلت: قرب الأمر، فسألت الفقهاء فقالوا: لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه، قال: فقلت لنفسي وهي شديدة التوقان لقوة الشهوة، وتمكن القدرة، وقرب المصاقبة: ما تقولين ؟ فقالت؛ الإيمان بالصبر على الجمر شئت أو أبيت، فصبرت إلى أن حان ذلك، فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيل ما هو أعلى منها أرفع.

فصل بين السر والعلانية
نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل، فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس.
وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليعلم أن هنالك رباً لا يضيع عمل عامل.
وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه، أو تأباه، وتذمه أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر الحق، إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً.
فصل السابقون الأولون
تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها.
ثم نظرت في المعمور منها، فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار.
ثم تأملت المسلمين فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه.
فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا شكر لها.
ولا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس.
وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها.
كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذ رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي وهزني، وقل: ما لك يا عمر ؟.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا.
فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ، السلطان.

وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب خمر، حتى ربما قال بعضهم: إيش يعمل الجندي. أيلبس القطن ؟.
ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع.
وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى. ما أكثر تقلبهم في الأنجاس وتهوينهم لأمر الصلوات، وربما صلت المرأة منهن قاعدة.
ثم نظرت في التجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت؛ وصار الربا في معاملتهم فاشياً، فلا يبالي أحدهم من أين تحصل له الدنيا ؟. وهم في باب الزكاة مفرطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا من عصم الله.
ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً، والتطفيف والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل.
ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه وما يتأدب به.
ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهن قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله.
فقلت: واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته ؟.
فنظرت فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون. فتأملت العباد، والمتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بخير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل، لئلا ينكسر جاهه.
ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى أن لا يعودوا مريضاً، ولا يشهدوا جنازة، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم. ولا يتزاورون، بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء، فقد صارت النواميس كالأوثان يعبدونها ولا يعلمون.
وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل لئلا يخل بناموس التصدر، ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه، لا تناول المباحات.
ثم تأملت العلماء والمتعلمين. فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه ثم يكتفي.
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه ولا يكاد يجب ذوق معاملة لله سبحانه، وإنما همته أن يقول وحسب.
إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل. عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه. فذلك قطب الدنيا، ومتى مات أخلف الله عوضه.
وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة.
ومثل هذا لا تخلو الأرض منه. فهو بمقام النبي في الأمة.
وهذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول، حافظاً للحدود، وربما قل علمه أو قلت معاملته.
فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد.
ولقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أولهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل.
وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً، وما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب.
وإن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن، فنقص من الآخر، فمنهم من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكلا هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة.
ولا يأس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم. فقد أطلع الله عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام.
فخزائن الله مملوءة، وعطاؤه لا يقف على شخص.
ولقد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه: أنا عملت في قارب ثم كسر، وهذا غلط فمن أين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك، وكم من متأخر سبق متقدماً، وقد قيل:
إن الليالي والأيام حاملةٌ ... وليس يعلم غير اللّه ما تلد

فصل جهادا لهوى
رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً في المقدار حتى إنها إذا مالت مالت بالقلب والعقل والذهن، فلا يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح.
فصحت بها يوماً وقد مالت بكليتها إلى شهوة: ويحك ! قفي لحظة أكلمك كلمات ثم افعلي ما بدا لك.

قالت: قل أسمع.
قلت: قد تقرر قلة ميلك إلى المباحات من الشهوات، وأما جل ميلك فإلى المحرمات. وأما أكشف لك عن الأمرين، فربما رأيت الحلوين مرين.
أما المباحات من الشهوات، فمطلقة لك ولكن طريقها صعب، لأن المال قد يعجز عنها، والكسب قد لا يحصل معظمها، والوقت الشريف يذهب بذلك.
ثم شغل القلب بها وقت التحصيل، وفي حالة الحصول، وبحذر الفوات.
ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز، وإن كان مطعماً فالشبع يحدث آفات، وإن كان شخصاً فالملل، أو الفراق، أو سوء الخلق.
ثم ألذ النكاح أكثره إيهاناً للبدن، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
وأما المحرمات: فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات وتزيد عليها بأنها آفة العرض ومظنة عقاب الدنيا وفضيحتها، وهناك وعيد الآخرة، ثم الجزع كلما ذكرها التائب.
وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة. ألا ترين إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً ؟ لأنه قهر. بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب، عزيزاً لأنه قهر.
فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن، كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحرز، ولا يرى بعين فكره القطع.
وليفتح عين البصيرة لتأمل العواقب واستحالة اللذة نغصة، وانقلابها عن كونها لذة، إما لملل أو لغيره من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب. فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع، فما ردت كلب الجوع، بل شهت الطعام.
وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى مع تأمل فوائد الصبر عنه.
فمن وفق لذلك كانت سلامته قريبة منه.

فصل حجب العيش
خطر لي خاطر والمجلس قد طاب، والقلوب قد حضرت، والعيون جارية، والرؤوس مطرقة، والنفوس قد ندمت على تفريطها، والعزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها، وألسنة اللوم تعمل في الباطل على تضييع الحزم وترك الحذر فقلت لنفسي: ما بال هذه اليقظة لا تدوم ؟ فإني أرى النفس واليقظة في المجلس متصادقين متصافيين، فإذا قمنا عن هذه التربة، وقعت الغربة.
فتأملت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة، والقلب ما يزال عارفاً، غير أن القواطع كثيرة، والفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه وتعالى قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا، وتحصيل حوائج النفوس، والقلب منغمس في ذلك، والبدن أسير مستخدم.
وبينما الفكر يجول في اجتلاب الطعام والشراب والكسوة، وينظر في صدد ذلك، وما يدخره لغده وسنته، إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية - ومنها المني - فاحتاج إلى النكاح، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا. فتفكر في ذلك وعمل بمقتضاه.
ثم جاء الولد فاهتم به وله، وإذا الفكر عامل في أصول الدنيا وفروعها.
فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائعاً ولا حاقناً. بل يحضره جامعاً لهمته، ناسياً ما كان من الدنيا على ذكره. فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما ألف، ويجذبه بما عرف، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه. فيحضرون النفس إلى باب المطالبة بالتفريط، ويؤاخذون الحس بما مضى من العيوب، فتجري عيون الندم، وتنعقد عزائم الاستدراك.
ولو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها، لتشاغلت بخدمة باريها.
ولو وقعت في سورة حبه، لاستوحشت عن الكل شغلاً بقربه.
ولهذا اعتمد الزهاد الخلوات، وتشاغلوا بقطع المعوقات، وعلى قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم، كما أن الحصاد على مقدار البذر.
غير أني تلمحت في هذه الحالة - دقيقة - وهو أن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها. وهو العجب بحالها، والاحتقار لجنسها.
وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها، إلى دعوى: لي، وعندي، وأستحق. فتركها في حومة ذنوبها تتخبط.
فإذا وقفت على الشاطىء قامت بحق ذلة العبودية، وذلك أولى لها.
هذا حكم الغالب من الخلق، ولذلك شغلوا عن هذا المقام. فمن بذر فصلح له فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح له عبوديته، وتسلم له عبادته.
وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم " .
فصل من شطحات التصوف

تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين، وما يسميه جهلة المتزهدين توكلاً من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: " أمسك عليك بعض مالك أو كما قال له " . وقال لسعد: " لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " .
فإن اعترض جاهل فقال: فقد جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله. فالجواب أن أبا بكر صاحب جأش وتجارة، فإذا أخرج الكل أمكنه أن يستدين عليه، فيتعيش.
فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله، وإنما الذم متطرق إلى من يخرج ماله ليس من أرباب المعائش.
أو يكون من أولئك، إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلا على الناس، يستعطيهم ويعتقد أنه على الفتوح، وقلبه متعلق بالخلق، وطمعه ناشب فيهم.
ومتى حرك بابه نهض قلبه. وقال: رزق قد جاء.
وهذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش، وإن لم يقدر كان إخراج ما يملك أقبح، لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس.
وربما ذل لبعضهم، أو تزين له بالزهد، وأقل أحواله أن يزاحم الفقراء والمكافيف والزمنى في الزكاة.
فعليك بالشرب الأول، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين ؟.
وقد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا وخلفوا الأموال، فرد إلى الشرب الأول، الذي لم يطرق فإنه الصافي.
واحذر من المشارع المطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على الشريعة، مذعنة بلسان حالها أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به.
واعلم - وفقك الله تعالى - أن البدن كالمطية، ولا بد من علف المطية، والاهتمام به.
فإذا أهملت ذلك كان سبباً لوقوفك عن السير.
وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعاماً على عاتقه فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت.
وقال سفيان الثوري. إذا حصلت قوت شهر فتعبد.
وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا: هذا شك في الرازق والثقة به أولى. فإياك وإياهم.
وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف فلا يعول عليه، ولا يهولنك خلافهم.
فقد قال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح. فقلت له: قال ابن أدهم، فما تركني أتمم حتى صاح علي، وقال: أذكر لك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتأتيني ببنيات الطريق ؟.
واعلم وفقك الله: أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد. وقال: لا آكل ولا أشرب، ولا أقوم من الشمس في الحر، ولا استدفيء من البرد، كان عاصياً بالإجماع.
وكذلك لو قال وله عائلة: لا أكتسب ورزقهم على الله تعالى: فأصابهم أذى كان آثماً.
كما قال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " .
واعلم أن الاهتمام بالكسب يجمع الهم، ويفرغ القلب، ويقطع الطمع في الخلق، فإن الطبع له حق يتقاضاه.
وقد بين الشرع ذلك فقال: إن لنفسك عليك حقاً؛ وإن لعينك عليك حقاً.
ومثال الطبع مع المريد السالك، كمثل كلب لا يعرف الطارق، فكل من رآه يمشي، نبح عليه، فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه.
فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير، فافهم هذه الأصول فإن فهمها مهم..

فصل الشهوات مهلكة
تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد هلاك، وفخوخ تلف.
فمن قوي عقله على طبعه وحكم عليه يسلم، ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته.
ولقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوق في التسري. ثم يستعمل الحرارات المهيجة للباه، فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية وتلف.
ولم أر في شهوات النفس أسرع هلاكاً من هذه الشهوة، فإنه كلما مال الإنسان إلى شخص مستحسن أوجب ذلك حركة الباه زائداً عن العادة.
وإذا رأى أحسن منه زادت الحركة وكثر خروج المني زائداً عن الأول، فيفنى جوهر الحياة أسرع شيء.
وبالضد من هذا أن تكون المرأة مستقبحة فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة المؤذية كما ينبغي، فيقع التأذي بالاحتباس وقوة التوق إلى منكوح.
وكذلك المفرط في الأكل فإنه يجني على نفسه كثيراً من الجنايات، والمقصر في مقدار القوت كذلك، فعلمت أن أفضل الأمور أوساطها.
والدنيا مفازة فينبغي أن يكون السابق فيها العقل، فمن سلم زمام راحلته إلى طبعه وهواه، فيا عجلة تلفه - هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا - فقس عليه أمر الآخرة فافهم.
فصل النجاة في العلم

بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال: لا آكل. فقيل له: لم ؟. لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي.
فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم.
أما الوجه الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا أصحابه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الدجاج، ويحب الحلوى والعسل.
ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد ما تقول في هذا ؟ فقال لا آكله ولا أحب من أكله. فقال الحسن: لعاب النحل، للباب البر، مع سمن البقر، هل يعيبه مسلم؟.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج. فقال: ولم ؟ قال يقول: لا أؤدي شكره، فقال: إن جارك جاهل وهل يؤدي شكر الماء البارد ؟.
وكان سفيان الثوري: يحمل في سفره الفالوذج. والحمل المشوي، ويقول: إن الدابة إذا أحسن إليها عملت.
وما حدث في الزهاد بعدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية وأنا خائف من قوله تعالى: " لا تُحَرِّمُو طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم ولاَ تَعْتَدُوا " .
ولا يحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء إلا أن يكون ذلك لعارض.
وسبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه اشتهى شيئاً فآثر به فقيراً، وأعتق جاريته رميثة، وقال: إنها أحب الخلق إلي، فهذا وأمثاله حسن، لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره، وأكثر لها من سواه.
فإذا وقع في بعض الأوقات كسرت، بذلك الفعل سورة هواها أن تطغى بني كل ما تريد.
فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق، فإنه يعمي قلبها، ويبلد خواطرها، ويشتت عزائمها، فيؤذيها أكثر مما ينفعها.
وقد قال إبراهيم بن أدهم: إن القلب إذا أكره عمي، وتحت مقالته سر لطيف وهو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب، وهو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها، فتعلم باختيارها له صلاحه، وصلاحها به ؟.
وقد قال حكماء الطب: ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم، وإن كان فيه نوع ضرر؛ لأنها إنما تختار ما يلائمها، فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر.
ولولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن ؟ فإن الشهوة للطعام تثور، فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة.
فالشهوة مريد ورائد ونعم الباعث هي على مصلحة البدن.
غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى، ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة عاد ذلك بفساد أحوال النفس، ووهن الجسم. واختلاف السقم الذي تتداعى به الجملة، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش، والغذاء عند الجوع، والجماع عند قوة الشهوة، والنوم عند غلبته، حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى قتله الكمد.
فهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد، علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. من حيث النقل، وخالف الموضوع من حيث الحكمة.
ولا يلزم على هذا قول القائل: فمن أين يصفو المطعم ؟ لأنه إذا لم يصف كان الترك ورعاً، وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع، وكان ما شرحته جواباً للقائل - ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق.
والوجه الثاني: أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي أن لا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل، وإدلالها في الباطن به، فهذه مخاطرة وغلط.
وربما قال بعض الجهال: هذا صد عن الخير والزهد. وليس كذلك، فإن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " .
ولا ينبغي أن يغتر بعبادة جريج، ولا بتقوى ذي الحويصرة، ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه. من إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها.
وصارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها، تقبيل اليد، وتوفير التوقير، وحراسة الناموس.
وأكثرهم في خلوته؛ على غير حالته في جلوته.
وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة، وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية.

فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل، فمتى حصل أوجب معرفة المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص.
وأصل الأصول: العلم، وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: " أُولئكَ الّذِينَ هدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ " .

فصل تربية النفس
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين.
أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها.
مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح.
وأخفى من ذلك أن يرى - بمنعه إياها ما منع - أنه قد فضل من سواه ممن لم يمنعها ذلك، وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها.
والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه.
ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر.
ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها.
وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب. ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً، ومن لقمة ربما حرمت لقمات.
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها - بل يرخي لها في وقت والطول بيده.
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها.
فإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت، فبالعنف.
ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب.
وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم.
هذه مجاهدة من حيث العمل، فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق، وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، وأسجدت لك ملائكتي، وارتضاك للخلافة في أرضه، وراسلك، واقترض منك واشترى.
فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة ؟.
وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد.
وإن ونت في العمل، حدثها بجزيل الأجر.
وإن مالت إلى الهوى، خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم وَأَبْصَارَكُمْ " ، والمعنوية كقوله تعالى: " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتَي الّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرضِ بِغَيرِ الْحَقِّ " .
فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل.
فصل علة الإبطاء في الإجابة
رأيت من البلاء العجاب. أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر.
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
ولقد عرض لي من هذا الجنس. فإنه نزلت بي نازلة. فدعوت وبالغت، فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب ؟.
فقلت: إخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة.
قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي " .

والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه.
فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود، كما روي عن أبي يزيد رضي الله عنه: أنه نزل بعض الأعاجم في داره، فجاء، فرآه فوقف بباب الدار، وأمر بعض أصحابه فدخل، فقلع طيناً جديداً قد طينه، فقام الأعجمي وخرج.
فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال: هذا الطين من وجه فيه شبهة، فلما زالت الشبهة زال صاحبها.
وعن إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار منكر، فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد، وصلى ثم خرج، فبصبص الكلب له فمضى، وأنكر فزال المنكر.
فسئل عن تلك الحال فقال: كان عندي منكر، فمنعني الكلب، فلما عدت تبت من ذلك، فكان ما رأيتم.
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.
وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت.
والسادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول.
وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ.
فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء.
وإنما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك.
وقد حكي عن يحيى البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يا يحيى إني أحب أن أسمع صوتك.
وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك، من حصول ما فاتك من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب.

فصل علاج البلايا
من نزلت به بلية، فأراد تمحيقها، فليتصورها أكثر مما هي تهن.
وليتخيل ثوابها وليتوهم نزول أعظم منها، ير الربح في الاقتصار عليها.
وليتلمح سرعة زوالها، فإنه لولا كرب الشدة، ما رجيت ساعات الراحة.
وليعلم أن مدة مقامها عنده، كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل لحظة، فيا سرعة انقضاء مقامه، ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل، ووصف المضيف بالكرم.
فكذلك المؤمن في الشدة، ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، فكأن قد لاح فجر الأجر، فانجاب ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدجى، فما طلعت شمس الجزاء، إلا وقد وصل إلى منزل السلامة.
فصل خطر العلم مع قلة العمل
لما رأيت نفسي في العلم حسناً، فهي تقدمه على كل شيء وتعتقد الدليل، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على النوافل. أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم، قد عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السليمة والرأي الصحيح.
إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصحت بها فما الذي أفادك العلم ؟. أين الخوف؟ أين القلق ؟ أين الحذر ؟.
أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم ؟.
أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟.
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج، كثير البكاء ؟.
أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟.
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟.
أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟.
ويقول: يا دنيا غري غيري ؟.
أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟.
أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة ؟.
أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر ؟.
أما قالت ابنة الربيع بن خيثم له ؟: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام ؟. فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات.
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟.
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ وكان يقول: والفاه سبقني العابدون، وقطع بي.

أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟.
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟.
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟ أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم، أو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
احذري من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به، فإنها حالة الكسالى الزمنى:
وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوي الورود على المصدر
ومثّل لنفسك أي الرعي ... ل يضمك في حلبة المحشر

فصل زهاد جهلة
مما يزيد العلم عندي فضلاً، أن قوماً تشاغلوا بالتعبد عن العلم، فوقفوا عن الوصول إلى حقائق الطلب.
فروي عن بعض القدماء أنه قال لرجل: يا أبا الوليد، إن كنت أبا الوليد، يتورع أن يكنيه ولا ولد له !!.
ولو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: كنى صهيباً أبا يحيى، وكنى طفلاً فقال: يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟.
وقال بعض المتزهدين: قيل لي يوماً: كل من هذا اللبن. فقلت: هذا يضرني، ثم وقفت بعد مدة عند الكعبة فقلت: اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين، فهتف بي هاتف، ولا يوم اللبن؟.
وهذا لو صح جاز أن يكون تأديباً له، لئلا يقف مع الأسباب ناسياً للمسبب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: " ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى الآن قطعت أبهري. وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر " .
ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافراً، وقال لسعد: لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع.
وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم.
ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى.
فصل شرف البشر
ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء، فإن كان التفضيل بالصور، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة.
وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي، إنما هي قالب. ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة، مثل خلوف فم الصائم، ودم الشهداء، والنوم في الصلاة، فبقيت صورة معمورة، وصار الحكم للمعنى.
ألهم مرتبة يحبهم، أو فضيلة يباهي بهم. وكيف دار الأمر فقد سجدوا لنا. وهو صريح في تفضيلنا عليهم، فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة، يوم " لاَ عِلْمَ لَنَا " ، " يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ " .
وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا أثقال أعباء الجسم.
بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في السير بها لطرق أرض مني قبل العشر.
واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صاد.
أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع، إنما العجب من مصاعد يشق الطريق ويغالب العقبات ؟.
بلى قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية. لقدرتهم على دك الصخور، وشق الأرض لذلك توعدوا: " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ " لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه.
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع الغفلة. يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم.
تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به، ما قدر على التماسك.
يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له: الكسب لعائلتك، واحذر في كسبك. وقد تمكن منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه إلى ما لا بد منه.
فتارة يقال للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرة فؤادك بكفك، ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار.
وتارة يقال لموسى عليه السلام: صم شهراً، ليلاً ونهاراً.

ثم يقال للغضبان: اكظم، وللبصير أغضض، ولذي المقول اصمت، ولمستلذ النوم تهجد، ولمن مات حبيبه اصبر، ولمن أصيب في بدنه أشكر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحل أن تفر. ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات فينزع الروح عن البدن، فإذا نزل فاثبت. واعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط لأنه مما يجري به القدر. وإن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق.
فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ وهل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع، ولا رد هوى ؟. وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح ؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكبر وظائفهم الاستغفار لنا. فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة.
وإذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روي عن هاروت، وماروت، خرجوا أقبح من بهرج.
ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير، لأنهم شديدو الإشفاق والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق. لكن طمأنينة من لم يخطىء تقوي نفسه. وانزعاج الغائص في الزلل يرقى روحه إلى التراقي ؟.
فاعرفوا إخواني شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل السلامة في كتاب الله
رأيت كثيراً من الخلق وعالماً من العلماء، لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أمر بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها، كالروح مثلاً، فإن الله تعالى سترها بقوله: " قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " فلم يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء، ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه، وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته.
فإن قال قائل: فما السر في كتم هذه الأشياء ؟ قلت: لأن النفس ما تزال تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها، فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا يعلم كنهه، فهو أجل وأعلى.
ولو قال قائل: ما الصواعق ؟ وما البرق ؟ وما الزلازل ؟.
قلنا: شيء مزعج، ويكفي.
والسر في ستر هذا أنه لو كشفت حقائقه خف مقدار تعظيمه.
ومن تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز، فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق أجل وأعلى.
فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده، ثم يستدل على جواز بعثه رسله، ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله، ولا يزاد على ذلك.
ولقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم فعاد وبال ذلك عليهم.
وإذا قلنا: إنه موجود، وعلمنا من كلامه أنه سميع، بصير، حي، قادر. كفانا هذا في صفاته، ولا نخوض في شيء آخر.
وكذلك نقول: متكلم والقرآن كلامه، ولا نتكلف ما فوق ذلك.
ولم يقل السلف: تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا قالوا: استوى على العرش بذاته، ولا قالوا: ينزل بذاته، بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة.
ونقول: لما لم يثبت بالدليل ما لا يجوز عليه.
وهذه كلمات كالمثال، فقس عليها جميع الصفات، تفز سليماً من تعطيل، متخلصاً من تشبيه.
فصل سر وجود الهمل
رأيت أكثر الخلق في وجودهم كالمعدومين، فمنهم من لا يعرف الخالق، ومنهم من يثبته على مقتضى حسه، ومنهم من لا يفهم المقصود من التكليف.
وترى المترسمين بالزهد يدأبون في القيام والقعود، ويتركون الشهوات، وينسون ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة، وتقبيل الأيادي.
ولو كلم أحدهم لقال: ألمثلي يقال هذا ؟ ومن فلان الفاسق ؟.
فهؤلاء لا يفهمون المقصود، وكذلك كثير من العلماء في احتقارهم غيرهم، والتكبر في نفوسهم.
فتعجبت كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق، وسكنى الجنة ؟!.
فرأيت أن الفائدة في وجودهم في الدنيا، تجانس الفائدة في دخولهم الجنة، فإنهم في الدنيا بين معتبر به، يعرف عارف الله سبحانه نعمة الله عليه، بما كشف له مما غطى عن ذاك، ويتم النظام بالاقتداء تصور أولئك.
فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصورة، الزاهد كراعي البهم، والعالم كمؤدب الصبيان، والعارف كملقن الحكمة.
ولولا نفاط الملك وحارسه. ووقاد أتونه. ما تم عيشه.

فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم، فإذا وصلوا إليه حرر مانعهم، وفيهم من لا يصل إليه، فيكون وجود أولئك كزيادة - لا - في الكلام. هي حشو، وهي موكدة.
فإن قال قائل: فهب هذا يصح في الدنيا. فكيف في الجنة ؟.
والجواب: أن الأنس بالجيران مطلوب، ورؤية القاصر من تمام لذة الكامل، ولكل شرب.
ومن تأمل ما أشرت إليه، كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح.

فصل من دروس النشأة
لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي. بتسخير السحاب. وإنزال المطر برفق، والبذر دفين تحت الأرض، كالموتى، قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة فإذا أصابته اهتز خضراً.
وإذا انقطع عنه الماء، مد يد الطلب يستعطي، وأمال رأسه خاضعاً، ولبس حلل التغير، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس، وبرودة الماء، ولطف النسيم، وتربية الأرض فسبحان من أراني - فيما يربيني به - كيف تربيتي في الأصل.
فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه، قبيح بك - والله - الإقبال على غيره.
ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك، ينادي لسان حاله بي مثل ما بك، يا حمام !.
فارجعي إلى الأصل الأول، واطلبي من المسبب.
ويا طوبى لك أن عرفتيه، فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة.
فصل الخلوة وحلاوة المناجاة
كنت في بداية الصبوة، قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة.
وحببت إلي الخلوة. فكنت أجد قلباً طيباً. وكانت عين بصيرتي قوية الحدة تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات.. ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة !!.
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
ثم استمالني آخر فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه، لخوف الشبهات. وكانت حالتي قريبة.
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح، فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة.
وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله.
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلساً فيما بيني وبين حالي.
وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي علي بعد نفور عني، وأراني عيب ما كنت أوثره.
فأفقت من مرض غفلتي ! وقلت في مناجاة خلوتي: سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ وبأي لسان أنطق بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي وأصلحت حالي على كره من طبعي.
فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك !.
وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي على الخلوة بك.
وما أغناني إذ أفقرتني إليك، وما آنسني إذ أوحشتني من خلقك.
آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك.
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل.
وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم.
وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض.
فالآن قد هبت نسائم العافية، فأحسست بالألم فاستدللت على الصحة.
فيا عظيم الإنعام تممم لي العافية.
آه من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة.
لقد فتقت ما يصعب رتقه، فواأسفاً على بضاعة ضاعت، وعلى ملاح تعب في موج الشمال مصاعداً مدة، ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول.
يا من يقرأ تحذيري من التخليط فإني - وإن كنت نفسي بالفعل، نصيح لإخواني بالقول - احذروا - إخواني من الترخص فيما لا يؤمن فساده.
فإن الشيطان يزين المباح، في أول مرتبة. ثم يجر إلي الجناح فتلمحوا المآل، وافهموا الحال.
وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة، فيكفي الاعتبار في تلك الحال، بأبيكم: " هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى " ؟.
إنما تأمل آدم الغاية وهي الخلد، ولكنه غلط في الطريق، وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء.
يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد.
مثاله أن يقول للعالم أدخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم، فيستعجل الداخل رؤية المنكرات، ويتزلزل دينه.
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم.
فمن لم يتق بدينه فليحذر من المصائد، فإنها خفية.

وأسلم ما للجبان العزلة، خصوصاً في زمان قد مات فيه المعروف، وعاش المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة.
فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هم فيه.
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من نفع العلم قد صاروا كالشرطة.
فليس إلا العزلة عن الخلق. والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة. ولأن أنفع نفسي وحدي: خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر.
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوي، والصبر الصبر على ما توجبه العزلة.
فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته. فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر كل عسر، وحصلت كل مطلوب.
والله الموفق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به.

فصل مدخل الفساد
تأملت على نفسي تأويلاً في مباح أنال به شيئاً من الدنيا، إلا أنه في باب الورع كدر.
فرأيته أولاً قد احتلب در الدين فذهبت حلاوة المعاملة لله تعالى.
ثم عاد فقلص ضرع حلبي له فوقع الفقد للحالين.
فقلت لنفسي: ما مثلك إلا كمثل وال ظالم جمع مالاً من غير حله، فصودر. فأخذ منه الذي جمع، وألزم ما لم يجمع.
فالحذر الحذر من فساد التأويل، فإن الله تعالى لا يخادع، ولا ينال ما عنده بمعصيته.
فصل خير الأمور الوسط
رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً، أو اتعظت بدارج، أو زارت قبور الصالحين، تتحرك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى.
فقلت لها يوماً، وقد كلمتني في ذلك: حدثيني ما مقصودك ؟ وما نهاية مطلوبك ؟.
أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه.
وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده، فيقع نضوي طلحاً في يومين.
وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا ؟.
وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب.
بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك، وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم.
اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل.
وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوي الذهن.
ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان، وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري مجراه من كونه حاقناً، أو حاقباً.
وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل ؟، فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل.
فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير.
ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم.
هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم.
وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة.
فالله الله في العلم، والله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه.
فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة.
فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة.
فقلت لها: قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم. يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم.
وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر، وجميع الجوارح، وتحقق الحلال في المطعم، وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير، ومناهبة الزمان في الأفضل، ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران.
ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية.
وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد، وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون.
ولا تتعرضي لمصالح البدن، بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب، لا على مقضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين.

ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس فلان يأكل الخل والبقل، وفلان لا ينام الليل، فاحملي ما تطيقين، وما قد علمت قوة البدن عليه.
فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها، فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو قتلت.
وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها، فعليك بالعلم. فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق.

فصل سلفيون جهال
عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا، لأن من أمر ما جاء ومر من غير اعتراض ولا تعرض فما قال شيئاً لا له ولا عليه.
ولكن أقواماً قصرت علومهم، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل، ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا.
وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء فقالت:
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة شفاها
فلما أتمت القصيدة، قال: لكاتبه إقطع لسانها، فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى.
فقالت له: ويلك إنما قال أجزل لها العطاء.
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت: كاد والله يقطع مقولي.
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد، لم ألمه، وهذه طريقة السلف.
فأما من قال: الحديث يقتضي كذا، ويحمل على كذا، مثل أن يقول: استولى على العرش بذاته، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته فهذه زيادة فهمها قائلها من الحس لا من النقل.
ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش. لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى.
وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام. فقاس صفة الحق عليه.
فأين هؤلاء وأتباع الأثر ؟.
ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين.
واعلم أيها الطالب للرشاد، أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان. عليهما مر الأحاديث كلها.
أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " . ومن فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس.
وأما العقل فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات، واستدل على حدوثها بتغيرها، ودخول الانفعال عليها، فثبت له قدم الصانع.
وا عجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام ؟.
أوليس في الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة والنار.
أوليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته. لما ثبت عند من يفهم ماهية الموت؟.
فقال: الموت عرض يوجب بطلان الحياة. فكيف يمات الموت ؟.
فإذا قيل له فما تصنع بالحديث ؟.
قال: هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى.
قلنا له: فقد روي في الصحيح: تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان.
فقال الكلام لا يكون غمامة، ولا يتشبه بها.
قلنا له أفتعطل النقل، قال: لا، ولكن أقول يأتي ثوابهما.
قلنا: فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق.
فقال: علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام، والموت لا يذبح ذبح الأنعام، ولقد علمتم سعة لغة العرب. ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا.
فقال العلماء صدقت: هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة، وفي ذبح الموت.
فقال: واعجبا لكم، صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما، حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه، بما قد دل الدليل على تنزيهه عنه؟.
فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة. ويقول: لا أقطع حتى أقطع، فما قطع حتى قطع.
فصل حول دليل الرجم
تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً. مع ثبوت حكمها إجماعاً، فوجدت لذلك معنيين.

أحدهما: لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق. بل ذكر الجلد، وستر الجرم، ومن هذا المعنى قال بعض العلماء: إن الله تعالى قال في المكروهات " كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ " ، على لفظ لم يسم فاعله، وإن كان قد علم أن هو الكاتب.
فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال: " :كَتَبَ رَبُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " .
والوجه الثاني: أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها النفوس قنوعاً ببعض الأدلة.
فإن الاتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً. إلا أنه ليس كالدليل المقطوع بنصه.
ومن هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة والسلام، في ذبح ولده بمنام، وإن كان الوحي في اليقظة آكد.

فصل قوانين الأسباب والمسببات
عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده، عالماً بأنه لا يقدر على جلب نفعي ودفع ضري سواه.
ثم قمت أتعرض بالأسباب، فأنكر على يقيني، وقال: هذا قدح في التوكل.
فقلت: ليس كذلك، فإن الله تعالى وضعها من الحكم.
وكان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد وإن وجوده كالعدم.
وما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى: " وَإذَا كُنْتَ فِيِهمْ فَأَقَمْتَ لَهْمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ " .
وقال تعالى: " فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ " .
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وشاور طبيبين، ولما خرج إلى الطائف لم يقدر على دخول مكة، حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال: أدخل في جوارك.
وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب.
فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضي عن الأسباب دفعاً للحكمة.
ولهذا أرى أن التداوي مندوب إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا.
ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجباً، أو ندباً.
ولم يسبقه حظر، فيقال: هو أمر إباحة.
وكانت عائشة رضي الله عنه تقول: تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينعت له.
وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا.
ومن ذهب إلى أن تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: يدخل الجنة سبعون ألفاً بلا حساب. ثم وصفهم فقال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
وهذا لا ينافي التداوي، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا ويسترقون لئلا تصيبهم نكبة، وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة، ورخص في الرقية في الحديث الصحيح. فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه.
وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي، وشرب ماء التمر عندي أوفق، وهذا طب.
فإذا لم أشرب ما يوافقني، ثم قلت اللهم عافني، قالت لي الحكمة: أما سمعت أعقلها وتوكل ؟ إشرب وقل عافني، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء.
وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد، وإنما سافر على التجريد لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أو لا، وقد تقدم الأمر إليه: " وَتَزَوَّدُوا " فقال: لا أتزود، فهذا هالك قبل أن يهلكه.
ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء، ليم على تفريطه، وقيل له: هلا استصحبت الماء قبل المفازة.
فالحذر الحذر من أفعال أقوام فمرقوا عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع، والمخالفة للأوضاع.
ولولا قوة العلم والرسوخ فيه، لما قدرت على شرح هذا ولا عرفته، فافهم ما أشرت إليه، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو.
فصل النظافة والجمال
تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال أبدانهم، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال بعد الأكل.
ومنهم من لا ينقي يديه في غسلها من الزهم، ومنهم من لا يكاد يستاك، وفيهم من لا يكتحل، وفيهم من لا يراعي الإبط إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين والدنيا.

أما الدين إنه قد أمر المؤمن بالتنظف والاغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالناس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم، وأمر الشرع بتنقية البراجم، وقص الأظفار، والسواك، والاستحداد. وغير ذلك من الآداب.
فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع، وربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة، مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل.
وأما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم، يتقدمون إلى السرار.
والغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم.
فإذ أخذوا في مناجاة السر، لم يمكن أن أصدف عنهم، لأنهم يقصدون السر، فألقى الشدائد من ريح أفواههم.
ولعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه.
ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة، وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل، فيثمر ذلك التفاتها عنه.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي.
وفي الناس من يقول: هذا تصنع.
وليس بشيء، فإن الله تعالى: " زيَّنَنَا لَمّا خَلَقَنَا " . لأن العين حظاً في النظر.
ومن تأمل أهداب العين والحاجبين. وحسن ترتيب الخلقة، علم أن الله زين الآدمي.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه، وكان ساقه ربما انكشفت فكأنها جمارة.
وكان لا يفارقه السواك، وكان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة.
وفي حديث أنس الصحيح: ما شانه الله بيضاء.
وقد قالت الحكماء: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله.
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ما لكم تدخلون علي قلحاً، استاكوا.
وقد فضلت الصلاة بالسواك، على الصلاة بغير سواك، فالمتنظف ينعم نفسه، ويرفع منها قدرها.
وقد قال الحكماء: من طال ظفره قصرت يده، ثم إنه يقرب من قلوب الخلق وتحبه النفوس، لنظافته وطيبه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب.
ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال. فإن النساء شقائق الرجال، فكما أنه يكره الشيء منها فكذلك هي تكرهه، وربما صبر هو على ما يكره وهي لا تصبر.
وقد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد وهم من أقذر الناس، وذلك أنهم ما قومهم العلم.
وأما ما يحكى عن داود الطائي: أنه قيل له لو سرحت لحيتك، فقال: إني عنها مشغول، فهذا معتذر عن العمل بالسنة، والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الآخرة، ولو كان مفيقاً لذلك لم يتركه، فلا يحتج بحال المغلوبين.
ومن تأمل خصائص الرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كاملاً في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق.

فصل اخشوشنوا
تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر والبرد. فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة. وإنما تحصل مجرد لذة ولا خير في لذة تعقب ألماً.
فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج. وذلك على غاية في الضرر، وأهل الطب يقولون: إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة ويضعون الخيوش المضاعفة الرقيق الشفاف وفي البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد.
وهذا من حيث الحكمة مضاد ما وضعه الله تعالى. فإنه جعل الحر لتحلل الأخلاط، والبرد لجمودها، فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً، فتنعكس الحكمة التي وضع الحر والبرد لها، ويرجع الأذى على الأبدان.
ولا يظن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر والبرد.
وإنما أقول له: لا يفرط في التوقي، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الأخلاط، إلى حد لا يؤثر في القوة. وفي البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب لا المؤذي، فإن الحر والبرد لمصالح البدن.
وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد أصلاً فتغيرت حالته فمات عاجلاً، وقد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب.
فصل فلسفة الصبر والرضا
ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضى به.
فأما الصبر: فهو فرض. وأما الرضا فهو فضل.
وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر.
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال، فهو يصوغه أواني يستعملها.

ومعلوم أن البلور والعقيق والشبه، قد يكون أحسن منها صورة، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه.
ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبة عليه.
ثم يرى خلقاً من أهل الدين، وطلاب العلم، مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم.
فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ويبتدي بالقدح في حكمة القدر.
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا، وعلى جدال إبليس في ذلك.
وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين.
وأبلغ من هذا إيلام الحيوان، وتعذيب الأطفال، ففي مثل هذه المواطن يتمحص الإيمان.
ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل.
أما النقل فالقرآن والسنة، أما القرآن فمنقسم إلى قسمين، أحدهما بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: " إِنَّمَا نُملي لهمْ ليزْدَادُوا إثماً " . " وَلَوْلاَ أَنْ يَكونَ الناسُ أمة واحة لجَعْلنا لمنْ يكفُرُ بالرَّحمن لبُيوتهم سقفاً مِنْ فِضَّةٍ " ، " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيْهَا فَفَسَقُوا فِيهَا " . وفي القرآن من هذا كثير.
والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى: " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمُ " ، " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ وَالضَّرّ؟َاءُ وَزُلْزِلُوا " ، " أًمْ حَسِبْتُمُ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " وفي القرآن من هذا كثير.
وأما السنة فمنقسمة إلى قول وحال. أما الحال: فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: كسرى وقيصر في الحرير والديباج، فقال له صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا عمر ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟.
وأما القول فكقوله عليه الصلاة والسلام: لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
وأما العقل: فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر. فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللاً.
ومنها أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى، لأن ذلك البسط يوجب عقاباً طويلاً، وهذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب. والمراحل تطوى. والركبان في السير الحثيث.
ومنها أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين إن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه. فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة وعوقب على التواني فيما كلف، فهذه النبذة تقوي أزر الصبر.
وأزيدها بسطاً فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين، أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟ وبعلي إلا مثل ابن ملجم: أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر، ولو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا.. لرأيت المسبب لا الأسباب، والمقدر لا الأقدار، فصبرت على بلائه. إيثاراً لما يريد، ومن ههنا ينشأ الرضى.
كما قيل لبعض أهل البلاء: ادع الله بالعافية، فقال: أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني

فصل الرضا عن الله
لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم. هتف بي هاتف من باطني. دعني من شرح الصبر على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت.
وصف حال الرضى. فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح.
فقلت: أيها الهاتف اسمع الجواب. وافهم الصواب.
إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي.
أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة.
فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار، حلاوة كما قال القائل:
عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب

وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني ... لما تحبّ أحبّ
وقال بعض المحبين في هذا المعنى:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاك
فصاح بي الهاتف. حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى، مما لا يدخل.
فقلت له: نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد.
إرضى بما كان منه. فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك، فلا ترضى به من فعلك.
وكن مستوفياً حقه عليك، مناقشاً نفسك فيما يقربك منه، غير راض منها بالتواني في المجاهدة.
فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها. فكن راضياً بها كما قالت رابعة رحمة الله عليها - وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ - فقالت: إن الراضي لا يتخير ومن ذاق طعم المعرفة. وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضى عنده ضرورة.
فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة.
فقد قال سبحانه وتعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.
فذلك الغنى الأكبر... ووافقراه ... !!!!.

فصل تعليل
رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمن الصبا عن المعاش، فيحتاجون إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما يكفي، فيحتاجون إلى التعرض للإذلال، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين.
أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال، والثاني: نفع أولئك بثوابهم.
ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك. لم تساكنها بالقلب، ونبت عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء شبهاً بها. مزبلة عليها الكلاب، أو غائطاً يؤتى لضرورة.
فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار. لم يكن للقلب بها متعلق متمكن فتهون حينئذ.
فصل من خلط الزهاد
ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات. والذي يحملهم على هذا الجهل. فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم.
وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو.
غير أن لنا ضابطاً هو الشرع، فيه الرخصة وفيه العزيمة. فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط.
ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها.
ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى. فتنبت القلوب من خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف حفظاً لقوة الراحلة.
ولأن آلة العلم والحفظ. القلب والفكر، فإذا رفهت الآلة جاد العمل، وهذا أمر لا يعلم إلا بالعلم.
فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا. وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان، وإنضاء الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة، كما قال القائل. روحوا القلوب تعي الذكر.
فصل التصوف ونشر الجهل
ليس في الوجود شيء أشرف من العلم، كيف لا وهو الدليل. فإذا عدم وقع الضلال.
وإن من خفي مكائد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل التعبد وهو العلم، حتى أنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم ورموها في البحر. وهذا قد ورد عن جماعة. وأحسن ظني بهم أن أقول: كان فيها شيء من رأيهم وكلامهم فما أحبوا انتشاره.
وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه، كان رميها إضافة للمال لا يحل وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل المحابر تلامذتهم.
وحتى قال جعفر الخلدي: لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا، كتبت مجلساً عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال: دع علم الورق، وعليك بعلم الخرق.
ورأيت محبرة مع بعض الصوفية. فقال له صوفي آخر: استر عورتك ! وقد أنشدوا للشبلي:
إذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق
وهذا من خفي حيل إبليس، " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ " ، وإنما فعل وزينه عندهم لسببين:

أحدهما: أنه أرادهم يمشون في الظلمة.
والثاني: أن تصفح العلم كل يوم يزيد في علم العالم. ويكشف له ما كان خفي عنه، ويقوي إيمانه ومعرفته، ويريه عيب كثير من مسالكه خصوصاً، إذا تصفح منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة.
فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة، فأظهر أن المقصود العمل، لا العلم لنفسه، وخفي على المخدوع أن العلم عمل وأي عمل.
فاحذر من هذه الخديعة الخفية، فإن العلم هو الأصل الأعظم، والنور الأكبر.
وربما كان تقليب الأوراق أفضل من الصوم والصلاة، والحج والغزو.
وكم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده، ويضيع كثيراً من الفرض بالنقل، ويشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب.
ولو كانت عنده شعلة من نور العلم لاهتدى، فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء الله تعالى.

فصل تعليل النفس
مر بي حمالان جذع ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاد النغم، وكلمات الاستراحة.
فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله، والآخر همته مثل ذلك.
فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما، وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر.
فتأملت السبب في ذلك، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وطربه به، وإحالة فكره في الجواب بمثل ذلك، فينقطع الطريق، وينسى ثقل المحمول.
فأخذت من هذا إشارة عجيبة، ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره.
فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر:
فإن تشكت فعلّلها المجرة من ... ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
ومن هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمة الله عليه: سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر ؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها قال له: البئر الأخرى.
فما زال يعلله... ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا.
ومن فهم هذا الأصل علل النفس وتلطف بها ووعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك.
وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك.
واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق؛ فهذا رمز إلى الإشارة، وشرحه يطول.
فصل تلحين الوحي وتطريب الوعظ
تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ، يعتقدها العوام وجهال العلماء قربة، وهي منكر وبعد.
وذاك أن المقرىء يطرب ويخرج الألحان إلى الغناء، والواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون وليلى، فيصفق هذا، ويخرق ثوبه هذا، ويعتقدون أن ذلك قربة.
ومعلوم أن هذه الألحان كالموسيقى، توجب طرباً للنفوس ونشوة؛ والتعرض لما يوجب الفساد غلط عظيم.
وينبغي الاحتساب على الوعاظ في هذا، وكذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون الأحزان ليكثر بكاء النساء، فيعطون على ذلك الأجرة.
ولو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك، وهذه أضداد للشرع.
قال ابن عقيل: حضرنا عزاء رجل قد مات له ولد، فقرأ المقرىء: " يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف " ، فقلت له: هذه نياحة بالقرآن.
وفي الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة والمحبة، فترى الحائك والسوقي الذي لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى.
والصافي حالاً منهم - وهو أصلحهم - يتخايل بوهمه شخصاً هو الخالق، فيبكيه شوقه إليه لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله.
وليس ما يتخايلونه المعبود؛ لأن: المعبود لا يقع في خيال.
وبعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بمر الحق.
إلا أن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب، ولا يتعرض لما يفسدهم.
بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه، وهذا يحتاج إلى صناعة، فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقا ببيت من الشعر.
وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم، لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ، قدر الملح في الطعام، ثم يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق.

وقد حضر أحمد بن حنبل؛ فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى، ثم قال: لا يعجبني الحضور، وإنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء.
وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم.
وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم؛ لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم، فرأوا حضور القصص صاداً لهم، واليوم كثر الإعراض عن العلم، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ، يرده عن ذنب، ويحركه إلى توبة، وإنما الخلل في القاص، فليتق الله عز وجل.

فصل ضرر الجدال
من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين، والنفاة للصفات والإضافات.
فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق؛ فإن النفوس تأنس بالإثبات؛ فإذا سمع العامي ما يوجب النفي. طرد عن قلبه الإثبات، فكان أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه، مقاوماً لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو، وشارعاً في إبطال ما يفتون به.
وبيان هذا أن الله تعالى أخر باستوائه على العرش، فأنست النفوس إلى إثبات الإله ووجوده، قال تعالى: " وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ " وقال تعالى: " بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتَانِ " وقال: " غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " ، " رَضيَ اللَّهُ عنهم " وأخبر الرسول أن ينزل إلى السماء الدنيا وقال: قلوب العباد بين إصبعين وقال: وكتب التوراة بيده، وكتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس؛ قيل له: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " فمحا من قلبه ما نقشه الخيال، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة.
ولهذا أقر الشرع مثل هذا، فسمع منشداً يقول: وفوق العرش رب العالمينا، فضحك.
وقال له آخر: أويضحك ربنا ؟ فقال: نعم، وقال: إنه على عرشه هكذا، كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس.
وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه.
فأما إذا ابتدأنا بالعامي الفارغ من فهم الإثبات، فقلنا: ليس في السماء، ولا على العرش، ولا يوصف بيد، وكلامه صفة قائمة بذاته، وليس عندنا منه شيء، ولا يتصور نزوله، انمحى من قلبه تعظيم المصحف، ولم يتحقق في سره إثبات إله.
وهذه جناية عظيمة على الأنبياء، توجب نقض ما تعبوا في بيانه، ولا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها، فإنه يفسده ويصعب صلاحه.
فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون محمولاً، ولا أن يوصف بملاصقة ومس، ولا أن ينتقل.
ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يدبره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغالية.
ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن، فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية، وهما: الإقامة، والإزاغة.
ولا إلى تأويل من قال: يداه نعمتاه، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات. وقد حدثنا بما نعقل. وضربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس، علمنا المقصود بذكر ذلك.
وأصلح ما نقول للعوام: أمروا هذه الأشياء كما جاءت، ولا تتعرضوا لتأويلها، وكل ذلك يقصد به حفظ الإثبات، وهذا الذي قصده السلف.
وكان أحمد يمنع من أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، كل ذلك ليحمل على الاتباع، وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها.
وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فأضعف في النفوس قوي التعظيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو يشير إلى المصحف.
ومنع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيماً له.
فإذا جاء متحذلق فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم، فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم، فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع.
وينبغي أن يفهم أوضاع الشرع ومقاصد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلام في القدر ونهى عن الاختلاف، لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي.

فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى وعاقب، تزلزل إيمانه بالعدل.
وإن قال: لم يقدر ولم يقض تزلزل إيمانه بالقدرة، والملك، فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء.
ولعل قائلاً يقول: هذا منع لنا عن الاطلاع على الحقائق، وأمر بالوقوف مع التقليد.
فأقول: لا، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل، وما أمرت بالتنقير لمعرفة الكنه مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق.
فإن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: أرني كيف تحيي، فأراه ميتاً حيي، ولم يره كيف أحياه، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم، يقنع من الناس بنفس الإقرار واعتقاد الجمل.
وكذلك كانت الصحابة، فما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء ولا أنهم قالوا استوى بمعنى استولى ويتنزل بمعنى يرحم.
بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس، وكفوا كف الخيال بقوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " .
ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان: من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟.
ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة، وتعطيل المعطلة، ووقف على جادة السلف الأول، والله الموفق.

فصل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم
قرأت هذه الآية: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِهِ " فلاحت لي فيها إشارة كدت أطيش منها.
وذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر فإن السمع آلة لإدراك المسموعات، والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب، فيتدبر، ويعتبر. فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر، أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذر من بطشه عند مخالفته.
وإن عني معنى السمع والبصر، فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا، شغلا بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى ويسمع وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عن ما يتأدب به، فيبقى الإنسان خاطئاً على نفسه لا يدري ما يراد به، لا يؤثره عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يحمل، وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته ولا يتفكر في خسران آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ بصديقه، ولا يتزود لطريقه كما قال الشاعر:
الناس في غفلة والموت يوقظهم ... وما يفيقون حتى ينفد العمر
يشيعون أهاليهم بجمعهم ... وينظرون إلى ما فيه قد قبروا
ويرجعون إلى أحلام غفلتهم ... كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا
وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح الحالات.
فصل حقيقة العشق
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته وصنفت في ذلك كتاباً سميته بذم الهوى.
وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة، وأنهم اختلفوا. فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس.
وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق.
إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحه ههنا.
وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد. فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها، إما بالفكر في المحبوب أو بالمخالطة له، تسلت أنفسهم وتعلقت بمطلوب آخر.
فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي عن عيوبها، إلا جامد واقف.
فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم، بل يوقفوا الطبع تتبع حادي فإذا علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما ملوا ميلاً شديداً إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب، وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين، كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة.
فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم، بل يوقفوا إبل الطبع تتبع حادي الفهم، فإن للهمم متعلقاً لا تجده في الدنيا، لأنه يروم ما لا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر.

وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارىء، فهو مانع لها من الوقوف مع سواه. وإن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره.
وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها كما قالت رابعة:
أحب حبيباً لا أعاب بحبّه ... وأحببتهم من في هواه عيوب
ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بامرأة فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فزوجه وجاء به إلى المنزل وألبسه غير خلقانه.
فلما جن الليل صاح الفقير: ثيابي ثيابي. فقدت ما كنت أجده، فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة.
وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل وأهل الأنفة من الرذائل.
وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مثانتها.
ومثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام، عن التفكر في تقلبه في الفم وبلعه.
ويذهل عن الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة، وينسى عند بلع الرضاب استحالته عن الغذاء، وفي تغطية تلك الأحوال مصالح.
إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم هذا الإحساس من غير طلب له في غالب أحوالهم، فينغص عليهم لذيذ العيش، ويوجب الأنفة من رذالة الهوى.
وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق، وعلى قدر وجمود الذهن يقوى القلق، قال المتنبي:
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
ومجموع ما أردت شرحه. أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن.
وسبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص وعيوبه، أو في طلب ما هو أم منه.
وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها، وتتنقل في معبر الاعتبار.
فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين، وغفلتهم عن المقامين، يوجب أسرهم وقسرهم وحيرتهم.

فصل دعاء المقر بالذنب
عرض لي أمر لي يحتاج إلى سؤال الله عز وجل ودعائه، فدعوت وسألت. فأخذ بعض أهل الخير يدعو معي، فرأيت نوعاً من أثر الإجابة.
فقالت لي نفسي: هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك، فقلت لها: أما أنا فإني أعرف من نفسي من الذنوب والتقصير ما يوجب منع الجواب، غير أنه يجوز أن يكون أنا الذي أجبت، لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي، إذ معي انكسار تقصيري ومعه الفرح بمعاملته.
وربما كان الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج، على أنني أنا وهو نطلب من الفضل، لا بأعمالنا، فإذا وقفت أنا على قدم الانكسار معترفاً بذنوبي. وقلت أعطوني بفضلكم فما لي في سؤالي شيء أجبت به.
وربما تلمح ذاك حسن عمله وكان صاداً له.
فلا تكسريني أيتها النفس فيكفيني كسر علمي بي لي.
ومعي من العلم الموجب للأدب، والاعتراف بالتقصير، وشدة الفقر إلى ما سألت، ويقيني بفضل المطلوب عنه، ما ليس مع ذلك العابد، فبارك الله في عبادته. فربما كان اعترافي بتقصيري أوفى.
فصل حسن التدبر
قرأت من غرائب العلم، وعجائب الحكم، على بعض من يدعي العلم، فرأيته يتلوى من سماع ذلك، ولا يطلع على غوره، ولا يشرئب إلى ما يأتي، فصرفت عن إسماعه شيئاً آخر وقلت: إنما يصلح مثل هذا لذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء.
ثم أخذت من هذه إشارة هي إنه لو كان هذا يفهم ما جرى ومدحني لحسن ما صنعت لعظم قدره عندي، ولأريته محاسن مجموعاتي وكلامي.
ولكني لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه، وصدفت بنظري إليه.
وكانت الإشارة: أن الله عز وجل، قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب، وأحكم الترتيب ثم عرضها على الألباب، فأي لب أوغل في النظر مدح على قدر فهمه فأحبه المصنف، وكذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم، فمن فتشه بيد الفهم. وحادثه في خلوة الفكر. استجلب رضى المتكلم به وحظى بالزلفى لديه.
ومن كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات، صرف عن ذلك المقام.
قال الله عز وجل: " سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الذِينَ يَتَكَبَّرونَ في الأرض بِغَيْرِ الْحَقَّ " .
فصل عظمة الهمة
دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا ؟ أليس الموت ؟ فما الذي ينفع طول الحياة ؟.
فقلت له: يا أبله. لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث.

أليس في كل يوم يزيد علمي ومعرفتي فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم حصادي ؟.
أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة ؟ لا والله؛ لأني ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم.
وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي.
ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد قال الله لسيد المرسلين: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزيد المؤمن من عمره إلا خيراً.
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة.
فيا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع.

فصل حدود التعلق بالأسباب
قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب وإن كانت لا تساكنها لأنها لما انفردت لمعرفتها انفرد لها بتولي أمورها.
فإذا تعرضت بالأسباب محي أثر الأسباب: " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيئاً " .
وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف عليهما السلام، حتى قال: " وأَخَاف أَنْ يأكلَهُ الذِّئْبُ " فقالوا: " فأكله الذئب " .
فلما جاء أوان الفرج، خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح " إنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ " .
وكذلك قول يوسف عليه السلام للساقي: " اذكْرني عِند رَبّكَ " فعوقب بأن لبث سبع سنين، وإن كان يوسف عليه السلام يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله، وأن التعرض بالأسباب مشروع، غير أن الغيرة أثرت في العقوبة.
ومن هذا قصة مريم عليها السلام: " وَكَفّلَهَا زَكَرِيَّا " فغار المسبب من مساكنة لأسبابك " كلمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِنْدَهَا زِرْقاً " .
ومن هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا ن حيث لا يحتسب.
والأسباب طريق، ولا بد من سلوكها. والعارف لا يساكنها غير أنه يجلى له من أمرها ما لا يجلى لغيره، من أنها لا تساكن، وربما عوقب إن مال إليها وإن كان ميلاً لا يقبله، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب، وتأمل عقبى سليمان عليه السلام لما قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً، ولم يقل: إن شاء الله. فما حملت إلا واحدة جاءت بشق غلام.
ولقد طرقتني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب بالا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة، ومداراته بكلمة. فبينما أنا أفكر في تلك الحال دخل علي قارىء فاستفت فتفاءلت بما يقرأ فقرأ: " وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُون " .
فبهت من إجابتي على خاطري، وقلت لنفسي: اسمعي فإنني طلبت النصر في هذه المداراة فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم فاتني ما ركنت لأجله من النصر.
فيا طوبى لمن عرف المسبب وتعلق به، فإنها الغاية القصوى، فنسأل الله أن يرزقنا.
فصل الإيمان والذنوب
المؤمن لا يبالغ في الذنوب وإنما يقوى الهوى وتتوقد نيران الشهوة فينحدر.
وله مراد لا يعزم المؤمن على مواقعته، ولا على العود بعد فراغه.
ولا يستقصي في الانتقام إن غضب، وينوي التوبة قبل الزلل.
وتأمل إخوة يوسف عليهم السلام. فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف فقالوا: " اقْتُلُوا يوسُفَ " ثم زاد ذلك تعظيماً فقالوا: " أَوِ اطْرَحُوهً أرْضاً " . ثم عزموا على الإنابة فقالوا: " وَتكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالحينَ " .
فلما خرجوا به إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد.
فقال كبيرهم: " لاَ تَقْتُلُوا يوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابت الجُبِّ " ولم يرد أن يموت بل يلتقطه بعض السيارة، فأجابوا إلى ذلك.
والسبب في هذه الأحوال أن الإيمان في قمع النفوس يكون على حسب قوته، فتارة يردها عند الهم، وتارة يضعف فيردها عند العزم، وتارة عن بعض الفعل، فإذا غلبت الغفلة، ووقع الذنب، فتر الطبع، فنهض الإيمان للعمل، فينقص بالندم أضعاف ما التذ.
فصل علم المغرورين

أفضل الأشياء التزيد من العلم، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافياً استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعاً له من الاستفادة. والمذاكرة تبين له خطأه، وربما كان معظماً في النفوس فلم يتجاسر على الرد عليه.
ولو أنه أظهر الاستفادة لأهديت إليه مساويه فعاد عنها.
ولقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني أنه قال: إن الله تعالى يعلم جمل الأشياء ولا يعلم التفاصيل، ولا أدري أي شبهة وقعت في وجه هذا المسكين حتى قال هذا.
وكذلك أبو حامد حين قال: النزول التنقل، والاستواء مماسة. وكيف أصف هذا بالفقه، أو هذا بالزهد وهو لا يدري ما يجوز على الله مما لا يجوز.
ولو أنه ترك تعظيم نفسه لرد صبيان الكتاب رأيه عليه، فبان له صدقهم.
ومن هذا الفن أبو بكر بن مقسم: فإنه عمل كتاب الاحتجاج للقراء، فأتى فيه بفوائد، إلا أنه أفسد علمه بإجازته أن يقرأ به، ثم تفاقم ذلك منه حتى أجاز ما يفسد المعنى، مثل قوله تعالى: " فَلَمَّا اسْتَيأسوا مِنْهُ خَلَصُوا " . فقال: يصلح أن يقال هنا نجياً أي خلصوا كراماً براء من السرقة.
وهذا سوء فهم للقصة، فإن الذي نسب إلى السرقة فظهرت معه ما خلص؛ فما الذي ينفع خلاصهم.
وإنما سيقت القصة ليبين أنهم أنفردوا وتشاوروا فيما يصنعون؛ وكيف يرجعون إلى أبيهم وقد احتبس أخوهم.
فأي وجه للنجاة ها هنا ؟.
ومن تأمل كتابه رأى فيه من هذا الجنس ما يزيد على الإحصاء من هذا الفن القبيح؛ ولو أنه أصغى إلى علماء وقته: وترك تعظيم نفسه لبان له الصواب.
غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب نعوذ بالله من ذلك.

فصل الإدلال بالعبادة
تأملت قوله عز وجل: " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيْمَانِ " ، فرأيت فيه معنى عجيباً.
وهو أنهم لما وهبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام، وعلموا أنها لا تصلح للعبادة، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء. كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم.
فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب، فقد جهلوا قدر الموهوب، وغفلوا عن وهب.
وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليست ملكاً لهم ؟.
فعلى هذا كل متعبد ومجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة، وقوة الفهم والعقل صواباً، فوقع على المطلوب، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس.
ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار، فقالوا: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا، فقال كل منهم: فعلت كذا وكذا. وهؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم، فبه توسلوا إليه.
وإن كانوا لاحظوا أفعالهم، فلمحوا جزاءها ظناً منهم أنهم هم الذين فعلوا، فهم أهل غيبة لا حضور ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة.
ومثل هذا رؤية المتقي تقواه حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق.
وربما احتقر أهل المعاصي وتشمخ عليهم. وهذه غفلة عن طريق السلوك، وربما أخرجت.
ولا أقول لك خالط الفساق احتقاراً لنفسك، بل اغضب عليهم في الباطن وأعرض عنهم في الظاهر ثم تلمح جريان الأقدار عليهم فأكثرهم لا يعرف لمن عصى ؟.
وجمهورهم لا يقصد العصيان، بل يريد موافقة هواه، وعزيز عليه أن يعصى.
وفيهم من غلب عليه تلمح العفو والحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو.
وهذه كلها ليست باعتذار لهم، ولكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى، واعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم، لأنك تعرف من تعصي، وتعلم ما تأتي.
بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع، ووصل المقطوع.
فالعجب ممن يدل بخير علمه، وينسى من أنعم ووفق.
فصل أثر الجهال والمبتدعين في الفكر الإسلامي
جهال المتكلمين
اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل، وكذلك كل الشرائع.
إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال.
مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام، فتأملوا الفعل الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر، فنسبوا الفاعل إلى الإلهية.

ولو تأملوا ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات، وهذا القدر يكفي في عدم صلاح إلهيته، فيعلم حينئذ أن ما جرى على يديه فعل غيره.
وقد يؤثر ذلك في الفروع. مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوا عشرين يوماً، ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم.
ومن هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول والفروع، وقد قارب الضلال في أمتنا هذه المسالك، وإن كان عمومهم قد حفظ من الشرك والشك والخلاف الظاهر الشنيع لأنهم أعقل الأمم وأفهمها.
غير أن الشيطان قارب بهم ولم يطمع في إغراقهم، وإن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلال.
فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم: جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل قيل في صفته: " مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ " وبين ما عساه يشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل له: " لِتُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا نُزِّلِ إِلَيْهِم " . فقال بعد البيان: تركتكم على بيضاء نقية.
فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه، ولم يرضوا بطريقة أصحابه، فبحثوا ثم انقسموا.
فمنهم: من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها، فإن القرآن والحديث يثبتان الإله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس، كقوله تعالى: " ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ " وقوله تعالى: " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ " وقوله تعالى: " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي " وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ينزل الله إلى السماء الدنيا ويبسط يده لمسيء الليل والنهار، ويضحك ويغضب.
وكل هذه الأشياء - وإن كان ظاهرها يوجب تخايل التشبيه - فالمراد منها إثبات موجود، فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها قطع ذلك بقوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " .
ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر. وقد قصد الشرع تقرير وجوده فقال: " إنَّا أَنْزَلْنَاهُ " ، " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ " ، " فَذَرْني وَمَنْ يُكَذِّبُ بهذَا الْحّدِيثِ " ، " وَهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ " . وأثبته في القلوب بقوله تعالى: " فيْ صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمِ " ، وفي المصاحف بقوله تعالى: " فِي لَوْحٍ مَحفوظٍ " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو.
فقال قوم من هؤلاء: مخلوق، فأسقطوا حرمته من النفوس، وقالوا: لم ينزل ولا يتصور نزوله، وكيف تنفصل الصفة عن الموصوف، وليس في المصحف إلا حبر وورق ؟ فعادوا على ما تعب الشارع في إثباته بالمحو.
كما قالوا: إن الله عز وجل ليس في السماء، ولا يقال استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا، بل ذاك رحمته، فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها، وليس هذا مراد الشارع.
وجاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع، بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا: الله على العرش، ولم يقنعوا بقوله: " ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " .
ودفن لهم أقوام من سلفهم دفائن، ووضعت لهم الملاحدة أحاديث، فلم يعلموا ما يجوز عليه مما لا يجوز، فأثبتوا بها صفات - جمهور الصحيح منها آت على توسع العرب - فأخذوه هم على الظاهر، فكانوا في ضرب المثل كجحا، فإن أمه قالت له: احفظ الباب، فقلعه ومشى به، فأخذ ما في الدار، فلامته أمه. فقال: إنما قلت احفظ الباب، وما قلت احفظ الدار.
ولما تخايلوا صورة عظيمة على العرش، أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش، مثل قوله: ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة. فقالوا: ليس المراد به دنو الاقتراب، وإنما المراد قرب المنزل والحظ.
وقالوا في قوله تعالى: " إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ " . هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات. فهم يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً.
ويسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات، فإنه قد أضاف إليه النفخ والروح. وأثبتوا خلقه باليد، فلو قالوا خلقه بقدرته لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي صفة تولي بها خلق آدم دون غيره. فأي مزية كانت تكون لآدم ؟.
فشغلهم النظر في فضيلة آدم، عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به.
فإنه لا يجوز عليه المس، ولا العمل بالآلات، وإنما آدم أضافه إليه. فقالوا نطلق على الله تعالى اسم الصورة لقوله: خلق آدم على صورته.
وفهموا هذا الحديث وهو قوله عليه السلام: إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقل قبح الله وجهك ولا وجهاً أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته.

فلو كان المراد به الله عز وجل لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم لأن الحديث كذا جاء - ولا وجهاً أشبه وجهك - ورووا حديث خولة بنت حكيم: وإن آخر وطئة وطئها الله بوج. وما علموا النقل ولا السير، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اشدد وطأتك على مضر، وأن المراد به آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج. وهي غزاة حنين. فقالوا: نحمل الخبر على ظاهره وأن الله وطىء ذلك المكان.
ولا شك أن عندهم أن الله تعالى كان في الأرض ثم صعد إلى السماء، وكذلك قالوا في قوله: إن الله لا يمل حتى تملوا. قالوا: يجوز أن الله يوصف بالملل فجهلوا اللغة وما علموا أنه لو كانت حتى ههنا للغاية لم تكن بمدح لأنه إذا مل حين يمل فأي مدح وإنما هو كقول الشاعر:
جلبت مني هذيل بخرق ... لا يمل الشر حتى يملوا
والمعنى لا يمل وإن ملوا.
وقالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي الرحمن. فقالوا - الحقو - صفة ذات وذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت.
وعمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبد الله بن عمرو. وقال: خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر. فقالوا: نثبت هذا على ظاهره. ثم أرضوا العوام بقولهم ولا نثبت جوارح، فكأنهم يقولون فلان قائم وما هو قائم.
فاختلف قولهم هل يطلق على الله عز وجل أنه جالس أو قائم كقوله تعالى: " قائماً بالقسط " .
وهؤلاء أخس فهما من جحا لأن قوله قائماً بالقسط لا يراد به القيام وإنما هو كما يقال: الأمير قائم بالعدل.
وإنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها فالحذر من هؤلاء فما لهم فقه ولا عبادة.
وإنما الطريق طريق السلف على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال فلا ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه.
ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل: هذا من الراوي، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه.
فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما.
فهذا أصل يجب البناء عليه فلا هو يهولنك ذكر معظم في النفوس.
وكان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم، وإنا أدخل أقوام فهي ما تأذينا به.

جهال الزهاد
ولقد أدخل المتزهدون في الدين، ما ينفر الناس منه، حتى إنهم يرون أفعالهم فيستبعدون الطريق.
وأكثر أدلة هذه الطريق القصاص، فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم وهو لا يحسن الوضوء كلموه بدقائق الجنيد، وإشارات الشبلي، فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية وترك الكسب للعائلة ومناجاة الحق في خلوة على زعمه.
مع كونه لا يعرف أركان الصلاة، ولا أدبه العلم، ولا قوم أخلاقه شيء من مخالطة العلماء.
فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الاصطبل.
فإن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا أشباحاً يظنهم الملائكة ثم يطأطىء رأسه، ويمد يده للتقبيل.
فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع وقعد في زاوية، فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه.
فلو قيل له عد مريضاً، قال: ما لي عادة. فلعن الله عادة تخالف الشريعة.
فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه لا التي عليها الفقهاء، فيقعون في الضلال.
ومن المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا.
ثم يتفاوت جهالهم، فمنهم من سلك مذهب الإباحة ويقول الشيخ لا يعارض، وينهمك في المعاصي.
ومنهم: من يحفظ ناموسه فيفتي بغير علم، لئلا يقال: الشيخ لا يردي ؟.
ولقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمة الله عليه: أن الشريف الدحالي - وكان يقصد فيزار ويتبرك به - حضر عنده يوماً فسئل أبو حكيم - هل تحل المطلقة ثلاثاً إذا ولدت ذكراً - قال: فقلت لا والله، فقال لي الشريف: اسكت فوالله لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة.
وحكى لي الشيخ أبو حكيم أن جد آذاد الحداد وكان يتوسم بالعلم، جاءت إليه امرأة فزوجها من رجل ولم يسأل عن انقضاء العدة، فاعترضها الحاكم وفرق بينها وبين الزوج، وأنكر على المزوج.
فلقيته المرأة. فقالت: يا سيدي أنا امرأة لا أعلم فكيف زوجتني ؟ فقال: دعي حديثهم ما أنت إلا طاهرة مطهرة.

وحدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين، ويقول والله ما سهوت ولكن أفعله احترازاً، فقال له الفقيه: قد بطلت صلاتك كلها لأنك زدت سجوداً غير مشروع.

أثر المتصوفة
ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصوفة فإنهم سلكوا طرقاً أكثرها تنافي الشريعة، وأهل التدين منهم يقللون ويخفقون.
وهذا ليس بشرع، حتى إن رجلاً كان قريباً من زماني يقال له كثير، دخل إلى جامع المنصور وقال. عاهدت الله عهداً ونقضته، فقد ألزمت نفسي أن لا تأكل أربعين يوماً.
فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام ثم في العشر الرابع، أشرف على الموت.
قال: فما انقضت حتى تفرغ فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشاً كنشيش المقلاة ثم مات بعد أيام.
فانظروا إلى هذا المسكين وما فعله به جهله.
ومنهم من فسخ لنفسه في كل ما يحب من التنعم واللذات واقتنع من التصوف بالقميص والفوطة والعمامة اللطيفة، ولم ينظر من أين يأكل ولا من أين يشرب، وخالط الأمراء من أرباب الدنيا، ولباس الحرير، وشراب الخمور، حفظاً لماله وجاهه.
ومنهم أقواماً عملوا سننا لهم تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت.
ومنهم من أكب على سماع الغناء والرقص واللعب ثم انقسم هؤلاء، فمنهم من يدعي العشق فيه، ومنهم من يقول بالحلول، ومنهم يسمع على وجه الهوى واللعب.
وكلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام.
وهذا الشرح يطول وقد صنفت كتباً ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى، منها تلبيس إبليس.
والمقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهماً له فأنت تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتترك بنيات الطريق ولا تقلد في دينك الرجال.
فإن فعلت فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى.
واحذر جمود النقلة، وانبساط المتكلمين، وجموع المتزهدين، وشره أهل الهوى، ووقوف العلماء على صورة العلم من غير عمل، وعمل المتعبدين بغير علم.
ومن أيده الله تعالى بلطفه، رزقه الفهم، وأخرجه عن ربقة التقليد، وجعله أمة وحده في زمانه، لا يبالي بمن عبث ولا يلتفت إلى من لام. قد سلم زمامه إلى دليل واضح السبيل.
عصمنا الله وإياكم من تقليد المعظمين وألهمنا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه درة الوجود، ومقصود الكون صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه ورزقنا اتباعه مع أتباعه.
فصل التقوى خير حافظ
اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: " وتلكَ الأيامُ نداولها بينَ الناس " .
فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي.
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة عليه، وإن ابتلى حملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه.
لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير والتقوى أصل السلامة حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، ويوافق على الحدود.
والمنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول وتخليه خاسراً.
ولازم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، وفي المرض إلا العافية.
فصل قمع الشهوة
تأملت أمراً عجيباً، وأصلاً ظريفاً، وهو انهيال الابتلاء على المؤمن. وعرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها. وخصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة.
فقلت: سبحان الله ههنا بين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين.
والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، فبالله عليكم يا إخواني، تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان يكون ؟.
وقيسوا بين تلك الحالة، وحالة آدم عليه السلام، ثم زنوا بميزان العقل عقبى تلك الخطيئة، وثمرة هذا الصبر.
واجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى.
وإن اللذات لتعرض على المؤمن، فمتى لقيها في صف حربه وقد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب هزم.
وكأني أرى الواقع في بعض أشراكها ولسان الحال يقول له قف مكانك؛ أنت وما اخترت لنفسك.
فغاية أمره الندم والبكاء.
فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش.
وكم من شخص زلت قدمه فما ارتفعت بعدها.
ومن تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا: " وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا " عرف شؤم الزلل.

ومن تدبر أحوالهم قاس ما بينهم وبين أخيهم من الفروق. وإن كانت توبتهم قبلت، لأنه ليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح.
ورب عظم هيض لم ينجبر، فإن جبر فعلى وهى.
فتيقظوا إخواني لعرض المشتهيات على النفوس، واستوثقوا من لجم الخيل.
وانتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة.
فربما مد الوادي فراح بالركب.

فصل فضل الله في الإجابة
تأملت حالة عجيبة وهي أن المؤمن تنزل به النازلة فيعدو، ويبالغ، فلا يرى أثراً للإجابة.
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه، فإن كان راضياً بالأقدار، غير قنوط من فضل الله عز وجل، فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ لأن هناك يصلح الإيمان ويهزم الشيطان، وهناك تبين مقادير الرجال.
وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى: " حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والذينَ آمنوا مَعَه: متى نَصْرُ اللهِ " .
وكذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً وطال الأمر عليه لم ييأس من الفرج فأخذ ولده الآخر ولم ينقطع أمله من فضل ربه: " أَنْ يَأْتِيَنِي بهم جَميعاً " .
وكذلك قال زكريا عليه السلام: " ولم أكنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً " .
فإياك أن تستطيل مدة الإجابة وكن ناظراً إلى أنه المالك وإلى أنه الحكيم في التدبير والعالم بالمصالح، وإلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك، وإلى أنه يريد أن يرى تضرعك، وإلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك إلى غير ذلك. وإلى أنه يبتليك بالتأخير لتحارب وسوسة إبليس.
وكل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله وتوجب الشكر له إذ أهلك بالبلاء للالتفات إلى سؤاله، وفقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله.
فصل أسرار الغرائز
لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا باجتلاب المصالح ودفع المؤذي، ركب فيه الهوى ليكون سبباً لجلب النافع. والغضب ليكون سبباً لدفع المؤذي.
ولولا الهوى في المطعم، ما تناول الطعام، فلم يقم بدنه فجعل له إليه ميل وتوق.
فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق، وكذلك في المشرب والملبس والمنكح.
وفائدة المنكح من وجهين، أحدهما: إبقاء الجنس وهو معظم المقصود، والثاني: دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها.
ولولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد، ففات النسل وآذى المحتقن.
فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود، وأما الجاهدون فإنهم مالوا مع الشهوة والهوى ولم يفهموا مقصود وضعها فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه، وفاتهم ما خلقوا لأجله وأخرجهم هواهم إلى فساد المال وذهاب العرض والدين، ثم أداهم إلى التلف.
وكم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ليحرك طبعه بالمستجد فما كان بأسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتعجل تلفه.
وكذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه وبمن يحبه.
فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا، ولم تخلق لنفس الالتذاذ وإنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها رشد، إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمة أوفى حظاً من الآدمي منها.
فطوبى لمن فهم حقائق الوضع، ولم يمل به الهوى عن فهم حكم المخلوقات.
فصل النتيجة بحسب الأسباب
من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة.
ولقد تفكرت في أقوام أعرفهم يقرون بالزنا وغيره، فأرى من تعترهم في الدنيا مع جلادتهم ما لا يقف عند حد.
وكأنهم قد ألبسوا ظلمة، فالقلوب تنفر عنهم.
فإن اتسع لهم شيء فأكثره من مال الغير، وإن ضاق بهم أمر أخذوا يتسخطون على القدر.
هذا وقد شغلوا بهذه الأوساخ عن ذكر الآخرة.
ثم عكست فتفكرت في أقوام صابروا الهوى، وتركوا ما لا يحل.
فمنهم من قد أينعت له ثمرات الدنيا من قوت مستلذ، ومهاد مستطاب، وعيش لذيذ، وجاء عريض، فإن ضاق بهم أمر وسعه الصبر، وطيبه الرضى، ففهمت بالحال معنى قوله تعالى: " إِنَّهُ مَنْ يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِين " .
فصل التذلل إلى الله تعالى
ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال، وأن يتعلق بذيل فضله إن عصى وإن أطاع.
وليكن له أنس في خلوته به، فإن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش، كما قال الشاعر:
أمستوحش أنت مما جني ... ت فأحسن إذا شئت واستأنس

فإن رأى نفسه مائلاً إلى الدنيا طلبها منه، أو إلى الآخرة سأله التوفيق للعمل لها.
فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل الله إصلاح قلبه، وطب مرضه، فإنه إذا صلح لم يطلب ما يؤذيه.
ومن كان هكذا كان في العيش الرغد غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى، فإنه لا يصلح الأنس إلى بها.
وقد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللجأ والسؤال.
وفي الخبر: إن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك هاله أمرهم فقال: أين محمد بن واسع ؟ فقيل: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومىء بإصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وسنان طرير، فلما فتح عليهم قال له: ما كنت تصنع ؟ قال: آخذ لك بمجامع الطرق.

فصل الثرثرة بالنعم
ينبغي لمن تظاهرت نعم الله عز وجل عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها، ولا يكشف جملتها، وهذا من أعظم لذات الدنيا التي يأمر الحزم بتركها، فإن العين حق.
وإني تفقدت النعم فرأيت إظهارها حلواً عند النفس، إلا أنها أظهرت لوديد لم يؤمن تشعث باطنه بالغيظ.
وإن أظهر لعدو فالظاهر إصابته لموضع الحسد، إلا أنني رأيت شر الحسود كاللازم، فإنه في حال البلاء يتشفى، وفي حال النعم يصيب بالعين.
ولعمري إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده، ولكنه لا يؤمن أن يخاطر بنعمته، فإن الغالب إصابة الحاسد لها بالعين، فلا يساوي الالتذاذ بإظهار ما غيظ به ما أفسدت عينه بإصابتها.
وكتمان الأمور في كل حال فعل الحازم، فإنه إن كشف مقدار سنه استهرموه إن كان كبيراً، واحتقروه إن كان صغيراً.
وإن كشف ما يعتقده ناصبه الأضداد بالعداوة: وإن كشف قدر ماله استحقروه إن كان قليلاً، وحسدوه إن كان كثيراً، وفي هذه الثلاثة يقول الشاعر:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمموّه وممخرق ومكذب
وقس على ما ذكرت ما لم أذكره، ولا تكن من المذاييع الغر الذين لا يحملون أسرارهم حتى يفشوها إلى من لا يصلح.
ورب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان.
فصل تتابع العثرات
رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلى ما عثر به، فينظر إليه، طبعاً موضوعاً في الخلق.
إما ليحذر منه إن جاز عليه مرة أخرى، أو لينظر - مع احترازه وفهمه - كيف فاته التحرز من مثل هذا.
فأخذت من ذلك إشارة وقلت: يا من عثر مراراً هلا أبصرت ما الذي أعثرك فاحترزت من مثله، أو قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة.
فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته كيف عثر مثلي مع احترازه بمثل ما أرى.
فالعجب لك كيف عثرت بمثل الذنب الفلاني والذنب الفلاني ؟.
كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه، وترى بعين فكرك مآله ؟ كيف آثرت فانياً على باق ؟ كيف بعت بوكس ؟ كيف اخترت لذة رقدة على انتباه معاملة.
آه لك لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم لا يقلها ظهر، وتنكيس رأس أمسى بعيد الرفع، ودموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع.
وأقبح الكل، أن يقال لك: بماذا ؟ ومن أجل ماذا ؟ وهذا على ماذا ؟ يا من قلب الغرور عليه الصنجة ووزن له والميزان راكب.
؟فصل ثمرة التقوى تأملت قوله تعالى: " فَمنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى " .
قال المفسرون: هداي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابي.
فوجدته على الحقيقة أن كل من اتبع القرآن والسنة وعمل بما فيهما، فقد سلم من الضلال بلا شك، وارتفع في حقه شقاء الآخرة بلا شك، إذا مات على ذلك.
وكذلك شقاء الدنيا فلا يشقى أصلاً، ويبين هذا قوله تعالى: " وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعلْ لَهُ مَخْرجاً " .
فإن رأيته في شدة فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب عنده عسلاً.
وإلا غلب طيب العيش في كل حال.
والغالب أنه لا ينزل به شدة إلا إذا انحرف عن جادة التقوى.
فأما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه، ولا بلية تنزل به، هذا هو الأغلب فإن وجد من تطرقه البلايا مع التقوى، فذاك في الأغلب لتقدم ذنب يجازي عليه، فإن قدرنا عدم الذنب. فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء حتى يخرج تبراً أحمر، فهو يرى عذوبة العذاب. لأنه يشاهد المبتلي في البلاء الألم.
قال الشبلي:
أحبك الناس لنعمائك ... وأنا أحبك لبلائك
فصل الاستكانة للمعصية
لا ينال لذة المعاصي إلا سكران بالغفلة.
فأما المؤمن فإنه لا يلتذ لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم، وحذر العقوبة.
فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي فيتنغص عيشه في حال التذاذه.
فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصاً بهذه المراقبات، وإن كان الطبع في شهوته.
وما هي إلا لحظة، ثم خذ من غريم ندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان مع طول الزمان.
حتى أنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذر العتاب، فأف للذنوب ما أقبح آثارها وما أسوأ أخبارها، ولا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة.
فصل زهد يهدم الدين والدنيا
بكرت يوماً أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة، فجعلت أجول وحدي وأتفكر في ذلك المكان ومن كان به من العلماء والصالحين.
ورأيت أقواماً قد جاوروا فيه فسألت أحدهم: منذ كم أنت ها هنا ؟ فأومأ إلى قريب من أربعين سنة.
فرأيته في بيت كثير الدرن والوسخ. وجعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة، فأخذت النفس تحسن ذلك، وتذم الدنيا والاغترار بها.
فأقبل العلم ينكر على النفس، وخضه الفهم لحقائق الأمور، وموضوع الشرع يقوي ما قال العلم. فينحل من ذلك أن قلت للنفس: اعلمي أن هؤلاء على ضربين.
منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم والعمل وطلب الولد، ونفع الخلق، وانتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم، فيحدث له من نفسه حالة تشابه فيها الوحش فتؤثر الانفراد لنفس الانفراد.
وربما يبس الطبع، وساء الخلق، وربما حدث من حبس مائه المحتقن سمية أفسدت بدنه وعقله، وربما أورثته الخلوة وسوسة، وربما ظن أنه من الأولياء واستغنى بما يعرفه، وربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات وهو يعدها كرامات وربما ظن أن الذي هو فيه الغاية ولا يدري أنه إلى الكراهة أقرب.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن يبيت الرجل وحده، وهؤلاء كل منهم يبيت وحده، ونهى عن التبتل وهذا تبتل، ونهى عن الرهبانية وهذا من خفي خدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلال بألطف وجه وأخفاه.
والضرب الثاني: مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة، إذ ليس لأحدهم مأوى، فهم في مقام الزمنى.
وإن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم والعمل والكسب وتعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب، فرضوا بالعمى بعد البصر، وبالزمن بعد الإطلاق.
فقالت لي النفس: لا أرضى هذا الذي تقوله، فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات والمطاعم المشتهيات. فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم.
فقلت لها: إن فهمت حدثتك وإن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك.
أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد، ومنها شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية، وكمال خروجها لا يكون إلا بوجود المستحسن. واعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في الفرج وبتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي.
كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم، وننهاه عن الحكم وهو غضبان أو حاقن.
وبكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي تخلق منها.
ثم للنفس حظ فهو يستو فيه استيفاء الناقة حظها من العلف في السفر، وذلك يعين على سيرها.
وأما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها. وإنما المراد إصلاح الناقة لجمع هممها، ونيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها.
وإذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجباً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه عائشة رضي الله عنها وكانت مستحسنة ورأى زينب فاستحسنها فتزوجها وكذلك اختار صفية وكان إذا وصفت له امرأة بعث يخطبها. وكان لعلي رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة سرية مات عنهن.
وقبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان عليه السلام ألف امرأة، فمن ادعى خللاً في هذه الطرق، أو أن هؤلاء آثروا هواهم، وأنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض وغيرها أفضل. فقد ادعى على الكاملين النقصان وإنما هو الناقص في فهمه لا هم.
وقد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية وفالوذج، وكان حسن المطعم، وكان يقول إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل.

وهذه الفنون التي أشرت إليها أن قصدت للحاجة إليها، أو لقضاء وطر النفس منها، أو لبلوغ الأغراض الدينية والدنيوية منها، فكله قصد صحيح لا يعكر عليه من يقوم ويقعد في ركعات لا يفهم معناها، وفي تسبيحات أكثر ألفاظها ردية.
كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات، وأشرف العبادات، وهو الآمر بالمصالح، والناطق بالنصائح.
ثم منفعة العلم معروفة، وزهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس.
ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والجوارح على التي لا تصيد. والطين الذي يعمل منه ما ينتفع به على الطين في المطلع.
وغاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح، وأكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح.
فكم فوتت العزلة علماً يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب، والله الموفق.

فصل نهاية العصاة
ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي. فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل.
وإن كان حلمه يسع الذنوب، إلا أنه شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر.
ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا. فقلعت أصولهم. ونقض ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم.
وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم. فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم.
ورأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات. فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات. فكانوا موجودين كالمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحن إلى لقائهم.
فالله الله في مراقبة الحق عز وجل. فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة، وجزاؤه مرصد للمخطىء ولو بعد حين.
وربما ظن أنه العفو - وإنما هو إمهال - وللذنوب عواقب سيئة.
فالله الله الخلوات. الخلوات.
البواطن البواطن. النيات النيات.
فإن عليكم من الله عيناً ناظرة.
وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه، فكم قد استدرج.
وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها.
وما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا، فلعله...
وهذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه.
ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى: قدرت على لذة هي غاية وليست بكبيرة.
فنازعتني نفسي إليه، اعتماداً على صغرها، وعظم فضل الله تعالى وكرمه.
فقلت لنفسي: إن غلبت هذه فأنت أنت، وإذا أتيت هذه فمن أنت ؟.
وذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم، وتمكن الإعراض عنهم.
فارعوت ورجعت عما همت به. والله الموفق.
فصل هذه ليست صغائر
كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة. وهي تقدح في الأصول، كاستعارة طلاب العلم جزءاً لا يردونه. وقصد الدخول على من يأكل ليؤكل معه، والتسامح بعرض العدو التذاذاً بذلك واستصغاراً لمثل هذا الذنب.
وإطلاق البصر في المحرم استهانة بتلك الخطيئة.
وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس، ومن مقام رفعة القدر عند الحق. أو فتوى من لا يعلم لئلا يقال: هو جاهل ونحو ذلك مما يظنه صغيراً وهو عظيم.
وربما قيل له بلسان الحال: يا من اؤتمن على أمر يسير فخان. كيف ترجو بتدليك رضا الديان؟.
قال بعض السلف: تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف.
فالله الله، اسمعوا ممن قد جرب، كونوا على مراقبة. وانظروا في العواقب. واعرفوا عظمة الناهي. واحذروا من نفخة تحتقر، وشررة تستصغر فربما أحرقت بلداً.
وهذا الذي أشرت إليه يسير يدل على كثير، وأنموذج يعرف باقي المحقرات من الذنوب.
والعلم والمراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره، ويعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة أثر شؤم فعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل كيف تدعو وماذا تبغي
رأيت من نفسي عجباً: تسأل الله عز وجل حاجاتها، وتنسي جناياتها.
فقلت: يا نفس السوء أو مثلك ينطق ؟.
فإن نطق فينبغي أن يكون السؤال العفو فحسب.

فقالت: فممن أطلب مراداتي ؟ قلت: ما أمنعك من طلب المراد. إنما أقول حققي التوبة، وانطقي.
كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل، فإن قيل لنا: أفيموت ! قلنا لا بل يتوب ويأكل.
فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس، ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى والندم عليه جاءتك مراداتك.
كما روي: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
وقد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال ثم يسبلهما ويقول: مثلي لا يسأل وما أبقت الذنوب لي وجهاً.
وهذا يختص ببشر لقوة معرفته، كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحاً فاستحي للزلل.
فأما أهل الغفلة فسؤالهم على بعد، فافهم ما ذكرته، وتشاغل بالتوبة من الزلل ثم العجب من سؤالاتك فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا، بل فضول العيش.
ولا تسأل صلاح القلب والدين مثل ما تسأل صلاح الدنيا.
فاعقل أمرك فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جرف.
وليكن حزنك على زلاتك شاغلاً لك من مراداتك، فقد كان الحسن البصري شديد الخوف؛ فلما قيل له في ذلك قال: وما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب لا غفرت لك.

فصل غرور المتعبدين
أعجب العجب دعوى المعرفة مع البعد عن العرفان. بالله، ما عرفه إلا من خاف منه، فأما المطمئن فليس من أهل المعرفة.
وفي المتزهدين أهل تغفيل، يكاد أحدهم يوطن نفسه على أنه ولي محبوب ومقبول.
وربما توالت عليه ألطاف ظنها كرامات ونسي الاستدراج الذي لفت مساكنته الألطاف.
وربما احتقر غيره وظن أن محلته محفوظة به، تغره ركيعات ينصب فيها، أو عبادة ينصب بها.
وربما ظن أنه قطب الأرض وأنه لا ينال مقامه بعده أحد.
وكأنه ما علم أنه بينما موسى مكالم نبىء يوشع.
وبينا زكريا عليه السلام مجاب الدعوة نشر المنشار.
وبينا يحيى عليه السلام يوصف بأنه سيد سلط عليه كافر احتز رأسه.
وبينا بلعام معه الاسم الأعظم صار مثله كمثل الكلب.
وبينا الشريعة يعمل بها نسخت وبطل حكمها.
وبينا البدن معمور خرب وسلط البلى عليه.
وبينا العالم يدأب حتى ينال مرتبة يعتقدها، نشأ طفل في زمانه ترقى إلى سبر عيوبه وغلطه.
وكم من متكلم يقول: ما مثلي !!، لو عاش فسمع ما حدث بعده من الفصاحة عد نفسه أخرس.
هذا وعظ ابن السماك، وابن عمار، وابن سمعون، لا يصلح لبعض تلامذتنا ولا يرضاه.
فكيف يعجب من ينفق شيئاً. وربما أتى بعدنا من لا يعدنا ؟.
فالله الله من مساكنة مسكن، ومخالفة مقام.
وليكن المتيقظ على انزعاج، محتقراً للكثير من طاعاته، خائفاً على نفسه من تقلباته، ونفوذ الأقدار فيه.
واعلم أن تلمح هذه الأشياء التي أشرت إليها بضرب عنق العجب، ويذهب بطر الكبر.
فصل الإعداد للنهاية باليقين
من عاش مع الله عز وجل طيب النفس في زمن السلامة خفت عليه زمن البلاء، فهناك المحك.
إن الله عز وجل بينا يبني نقض، وبينا يعطي سلب، فيطيب النفس والرضا هناك بين.
فأما من تواصلت لديه النعم فإنه يكون طيب القلب لتواصلها، فإذا مسته نفحة من البلاء فبعيد ثباته.
قال الحسن البصري: كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلاء تباينوا.
فالعاقل من أعد ذخراً، وحصل زاداً، وازداد من العدد للقاء حرب البلاء.
ولا بد من لقاء البلاء، ولو لم يكن إلا عند صرعة الموت، فإنها إن نزلت والعياذ بالله فلم تجد معرفة توجب الرضى أو الصبر، أخرجت إلى الكفر.
ولقد سمعت من كنت أظن فيه كثرة الخير وهو يقول في ليالي موته: ربي هو ذا يظلمني، فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها ذلك اليوم.
كيف وقد روى أن الشيطان يقول لأعوانه في تلك الساعة: عليكم بهذا، فإن فاتكم لم تقدروا عليه.
وأي قلب يثبت عند إمساك النفس، والأخذ بالكظم، ونزع النفس والعلم بمفارقة المحبوبات إلى ما لا يدري ما هو، وليس في ظاهره إلا القبر والبلاء.
فنسأل الله عز وجل يقيناً يقيناً شر ذلك اليوم، لعلنا نصبر للقضاء، أو نرضى به.
ونرغب إلى مالك الأمور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه، حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا، وتفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا.
ونعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا، حتى إذا انعكس علينا أمر عدنا إلى القدر بالتسخط.

وهذا هو الجهل المحض، والخذلان الصريح، أعاذنا الله منه.

فصل سعادة العارفين
ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل، فإن العارف به مستأنس به في خلوته.
فإن عمت نعمة علم من أهداها، وإن مراً مذاقه في فيه، لمعرفته بالمبتلى.
وإن سأل فتعوق مقصوده، صار مراده ما جرى به القدر، علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة، وثقته بحسن التدبير.
وصفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه، قائم بين يديه، ناظر بعين اليقين إليه، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها.
فإن نطقت فلم أنطق بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري
إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب، ولم ير سوى المسبب، فهو في أطيب عيش معه.
إن سكت تفكر في إقامة حقه، وإن نطق تكلم بما يرضيه، لا يسكن قلبه إلى زوجة ولا إلى ولد، ولا يتشبث بذيل محبة أحد.
وإنما يعاشر الخلق ببدنه، وروحه عند مالك روحه.
فهذا الذي لا هم عليه في الدنيا، ولا غم عنده وقت الرحيل عنها.
ولا وحشة له في القبر، ولا خوف عليه يوم المحشر.
فأما من عدم المعرفة فإنه معثر لا يزال يضج من البلاء لأنه يعرف المبتلى.
ويستوحش لفقد غرضه لأنه لا يعرف المصلحة.
ويستأنس بجنسه لأنه لا معرفة بينه وبين ربه.
ويخاف من الرحيل لأنه لا زاد له ولا معرفة بالطريق.
وكم من عالم وزاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال، وربما زاد عليهما.
وكم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما.
وإنما هي مواهب وأقسام. " ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء " .
فصل حلاوة الكفاح في سبيل الحق
بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي.
وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمض وأرمض.
فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم وقل، فهو مقام من لو أقسم على الله لأبره.
تالله لولا صبر عمر ما انبسطت يده بضرب الأرض بالدرة.
ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه، وقد سمعت من آثار عزمته: لئن أشهدني الله مشهداً ليرين الله ما أصنع، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه فلولا هذا العزم ما كان انبساط وجهه يوم حلف والله لا تكسر سن الربيع.
بالله عليك تذوق حلاوة الكف عن المنهى، فإنها شجرة تثمر عز الدنيا. وشرف الآخرة.
ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل.
وقل قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام والذي فيه أغاث وأعصر.
بالله عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى والطاعة ثم عرضت له فتنة في الوقت الأخير، كيف نطح مركبه الجرف فغرق وقت الصعود.
أف والله للدنيا، لا بل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب.
إنما نسب العامي باسمه واسم أبيه، فأما ذوو الأقدار فالألقاب قبل الأنساب.
قل لي: من أنت ؟ وما عملك ؟ وإلى أي مقام ارتفع قدرك ؟ يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي.
بالله عليك أتدري من الرجل ؟.
الرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه وتقلل عطشاً إليه نظر إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه، فذهب العطش.
كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي، أو بما لا تصدق الشهوة فيه، أو ما لا تقدر عليه..
كذا والله عادتك إذا تصدقت أعطيت كسرة لا تصلح لك، أو في جماعة يمدحونك.
هيهات والله لا نلت ولايتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة. تبذل أطايبك. وتترك مشتهياتك، وتصبر على مكروهاتك.
علماً منك تدخر ثوابك لدينا إن كنت معاملاً بأنك أجير وما غربت الشمس.
فإن كنت محباً رأيت ذلك قليلاً في جنب رضى حبيبك عنك.
وما كلامنا مع الثالث.. !!.
فصل أسرار الحكمة
رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه.
وربما لم يبين له شيء منها - مثل النقض بعد البناء - فيقف متحيراً.
وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة، فوسوس إليه: أين الحكمة من هذا ؟.
فقلت له احذر أن تخدع يا مسكين، إنه قد ثبت بالدليل القاطع فيما رأيت من إتقان الصنائع مبلغ حكمة الصانع، فإن خفي عليك بعض الحكم فلضعف إدراكك.
ثم ما زالت للملوك أسرار فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه ؟.
يكفيك الجمل وإياك إياك أن تتعرض لما يخفى عليك.
فإنك بعض موضوعاته وذرة من مصنوعاته.

فكيف تتحكم على من صدرت عنه ؟.
ثم قد ثبتت عندك حكمته وحكمه وملكه فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم، فإنه سيورثك الدهش.
وغمض عما يخفى عليك فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي نور الشمس.

فصل سياسة النفس
أعجب الأشياء مجاهدة النفس. لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة.
فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا.
وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وظلموها.
وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها.
ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض، أو بر والدة.
وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول. فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه.
فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده، فإنه لا ينبسط إليه الغلام. فإن انبسط ذكر هيبة المملكة.
فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما عليها.
فصل إضاعة الوقت
رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً.
إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر.
وإن طال النهار فبالنوم.
وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق.
فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم، وما عندهم خبر.
ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل.
إلا أنهم يتفاوتون وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة.
فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الأخبار بالنافق هناك، فيستكثرون منه فيزيد ربحهم.
والغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما خرجوا لا مع خفير.
فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً.
فالله الله في مواسم العمل.
والبدار البدار قبل الفوات.
واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد. فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع مع الندم.
فصل أنواع التخطيط
أضر ما على المريض التخليط، وما من أحد إلا وهو مريض بالهوى، والحمية هي رأس الدواء.
والتخليط يديم المرض، وتخليط أرباب الآخرة على ضربين.
أحدهما: تخليط العلماء، وهو إما لمخالطة الأضداد كالسلاطين فإنهم يضعفون قوي يقينهم وكلما زادت المخالطة، يفقدون دليلهم عند المريدين.
والثاني: تخيط الزهاد، وقد يكون بمخالطة أرباب الدنيا، وقد يكون بحفظ الناموس في إظهار التخشع، لاجتلاب محبة العوام.
فالله الله فإن ناقد الجزاء بصير، والإخلاص في الباطن، والصدق في القلب.
ونعم طريق السلامة ستة الحال..
فصل العلماء العاملون
لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم.
وكان أنفعهم لي في صحبة العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه.
ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ.
ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه.
فكان - وأنا صغير السن حينئذ - يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد.
وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً.
وربما سئل الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن.
وكان كثير الصوم والصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح، فراحوا عن القلوب وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم. فقل الانتفاع بهم في حياتهم، ونسوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم.
فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر.
والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه.
فصل وأملي لهم
سبحان الملك العظيم الذي من عرفه خافه، ومن أمن مركه قط ما عرفه.

لقد تأملت أمراً عظيماً أنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه لا مانع.
فإذا زاد الانبساط ولم ترعو العقول أخذ أخذ جبار.
وإنما كان ذلك الإمهال ليبلو صبر الصابر، وليملي في الإمهال للظالم، فيثبت هذا على صبره، ويجزي هذا بقبيح فعله.
مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما لا نعلمه.
فإذا أخذ أخذ عقوبة رأيت على كل غلطة تبعة.
وربما جمعت فضربت العاصي بالحجر الدامغ.
وربما خفي على الناس سبب عقوبته فقيل فلان من أهل الخير فما وجه ما جرى له ؟.
فيقول القدر: حدود لذنوب خفية صار استيفاؤها ظاهراً.
فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به، واستتر حتى كأنه لا يعرف.
وأمهل حتى طمع في مسامحته، وناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته، لا حول ولا قوة إلا بالله.

فصل سياسة النفس
تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به، فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة.
ولولا قوة القلب وطول الأمل لم يقع التشاغل به.
فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه، وأبتدىء بالتصنيف أرجو أن أتمه، فإذا تأملت باب المعاملات قل الأمل، ورق القلب، وجاءت الدموع، وطابت المناجاة، وغشيت السكينة، وصرت كأني في مقام المراقبة.
إلا أن العلم أفضل وأقوى حجة، وأعلى رتبة، وإن حدث منه ما شكوت منه.
والمعاملة وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان، الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره، وانفرد بعزلته عن اجتذاب الخلق إلى ربهم.
فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم.
فإني لأكره لنفسي من جهة ضعف قلبي ورقته أن أكثر زيارة القبور، وأن أحضر المحتضرين؛ لأن ذلك يؤثر في فكري، ويخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت، ولا أنتفع بنفسي مدة.
وفصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقاوم المرض بضده.
فمن كان قلبه قاسياً شديد القسوة، وليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ قاوم ذلك بذكر الموت ومحاضرة المحتضرين.
فأما من قلبه شديد الرقة فيكفيه ما به، بل ينبغي له أن يتشاغل بما ينسيه ذلك لينتفع بعيشه، وليفهم ما يفتي به.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح ويسابق عائشة رضي الله عنها، ويتلطف بنفسه؛ فمن سار سيرته عليه الصلاة والسلام فهم من مضمونها ما قلته من ضرورة التلطف بالنفس.
فصل ساعة الاحتضار
من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي.
ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف.
ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى.
فالعاقل من مثل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك.
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته.
فإنه يكف كف الهوى ويبعث على الجد.
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه كان كالأسير لها.
كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: إذا مت اليوم ففلان يغسلني، وفلان يحملني.
وقال معروف لرجل صل بنا الظهر، فقال: إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر، فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
وذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة، فجعل معروف يقول له: اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك.
فصل أهل الإشارة
ربما أخذ المتيقظ بيت شعر فأخذ منه إشارة فانتفع بها.
قال الجنيد: ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حادياً في طريق مكة شرفها الله تعالى يقول:
أبكي وما يدريك ما يبكيني ... أبكي حذاراً أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني
فانظر رحمك الله ووفقك، إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما اطلع عليه، ولم يصلح للاطلاع على مثلها إلا الجنيد.
فإن أقواماً فيهم كثافة طبع، وخشونة فهم.
قال بعضهم لما سمع مثل هذه. إلام يشار بهذه ؟.
إن كان الحق؛ فالحق عز وجل لا يشار إليه بلفظ تأنيث.
وإن كان إلى امرأة فأين الزهد ؟.

ولعمري إن هذا حدآء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا، ولذلك ينهى عن سماع القصائد وأقوال أهل الغناء، لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس، وغلبات الهوى.
ومن أين لنا مثل الجنيد وسري ؟.
وإذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان.
وأما اعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب: أن سرياً لم يأخذ الإشارة من اللفظ، ولم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيثاً أو تذكيراً.
وإنما أخذ الإشارة من المعنى؛ فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات، فيقول: أبكي حذاراً من إعراضك وإبعادك. فهذا الحاصل له.
وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى لفظ تأنيث فافهم هذا.
وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بكان وكان.
فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأة تنشد:
غسلت له طول الليل ... فركت له طول النهار
خرج يعاين غيري ... زلق وقع في الطين
فأخذ من ذلك إشارة معناها: يا عبدي إني حسنت خلقك، وأصلحت شأنك، وقومت بنيتك، فأقبلت على غيري، فانظر عواقب خلافك لي.
وقال ابن عقيل: وسمعت امرأة تقول: من هذا لكان. وكانت كلمة بقيت في قلقها مدة:
كم كنت بالله أقول لك ... لذا التواني غائله
وللقبيح خميرة ... تبين بعد قليل
قال ابن عقيل: فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غداً تبين خمايرها بين يدي الله تعالى.

فصل حساب الورعين
أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص.
فكنت كلما حصل شيء منه فاتني من قلبي شيء، وكلما استنارت لي طريق التحصيل، تجدد في قلبي ظلمة.
فقلت يا نفس السوء - الإثم حواز القلوب - وقد قال استفت قلبك فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر.
وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت، والنوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك.
وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني أخرى، ثم تدعى الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه. وتقول: فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر.
فقلت لها: أوليس الورع يمنع من هذا ؟ قالت: بلى.
قلت: أليست القوة في القلب تحصل به ؟ قالت: بلى.
قلت: فلا خير لك في شيء هذا ثمرته.
فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك.
إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه ؟ قالت: لا.
قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير ولا تنالين إلا الكدر العاجل، والوزر الذي لا يؤمن.
ويحك اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه.
وكأنك لا تريدين أن لا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو ما لا يصح وجهه.
أو ما سمعت أن من ترك شيئاً لله عوضه لله خيراً منه ؟.
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم، وأملوا فما بلغوا مناهم ؟.
كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها.
وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء، وكم من طيب العيش لا يملك دينارين.
وكن من ذي قناطير منغص.
أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه ؟.
ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه، والمتقي معافى.
فضجت النفس من لومي وقالت: إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني ؟.
فقلت: لها أضن بك عن الغبن وأنت أعرف بباطن أمرك.
قالت: فقل لي ما أصنع. قلت: عليك بالمراقبة لمن يراك، ومثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك.
فخذي بالأحوط، واحذري من الترخص في بيع اليقين، والتقوى بعاجل الهوى.
فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له: مهلاً، فما انقضت مدة الإشارة، والله مرشدك إلى التحقيق، ومعينك بالتوفيق.
فصل جزاء الفسوق
ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب إنهم يشربون الخمور ويفسقون ويظلمون، ويفعلون أشياء توجب الحدود.
فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً ؟ ولو ثبت فمن يقيمه ؟.
وأستبعد هذا في العادة لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم.
فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم، حتى رأيناهم قد نكبوا وأخذوا مرات، ومرت عليهم العجائب.

فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم.
وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة، فعلمت أنه ما يهمل شيء، فالحذر الحذر فإن العقوبة بالمرصاد.

فصل الغنى من العافية
اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل والشرع.
فمن ذلك حفظ ماله، وطلب تنميته والرغبة في زيادته، لأنه سبب بقاء الإنسان ماله فقد نهى عن التبذير فيه، فقيل له: " ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أموالَكم " فاعلم أنه سبب لبقائه: " التي جَعَلَ اللّه لكمُ قِيَاماً " أي قواماً لمعاشكم.
وقال عز وجل: " ولا تَبْسُطها كلَّ البسطِ " ، وقال تعالى: " ولا تبذِّرْ تبذيراً " وقال تعالى: " لَمْ يُسرفوا ولَمْ يَقتُرُوا وكان بين ذلك قواماً " .
ومن فضيلة المال أن الله تعالى قال: " مَنْ ذَا الذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضاَ حسناً " . وقال تعالى: " وأنفقوا في سبيل اللّه " وقال تعالى: " ينفقون أموالهم " وقال تعالى: " لا يَستوِي منكم من أنفقَ مِنْ قبل الفَتح " ، وجعل المال نعمة، وزكاته تطهيراً، فقال تعالى: " خُذْ مِنْ أموَالِهِمْ صَدقَةَ تُطهرُهُمْ وتزكيهمْ بهَا " .
وقال صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للرجل الصالح، وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاه عن ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازياً في سبيل الله.
وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتجرون، ومن سادات التابعين سعيد ابن المسيب. مات وخلف مالاً، وكان يحتكر الزيت - أي ينفرد ببيعه - .
وما زال السلف على هذا ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بداً من الاضطراب في طلبته، فيبذل عرضه أو دينه.
ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية.
وتلك حكمة وضعها الواضع.
وإنما نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة وقالوا: نحن لا نمسك شيئاً. ولا نتزود لسفر، ورزق الأبدان يأتي.
وهذا على مضادة الشرع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.
وموسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود.
ونبينا صلى الله عليه وسلم لما هاجر تزود، وأبلغ من هذا قوله تعالى: " وَتَزَوَّدُوا فإن خيرَ الزاد التقوَى " .
ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا، فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض.
ويرون زيادة الطلب للمال حرصاً وشرهاً.
وفي الجملة إنما اخترعوا بآرائهم طريقاً فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا.
وشيء من البهرجة إذا نصبوا شباك الصيد بالتزهد فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحاً.
قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: واليد العليا.
قال: هي المعطية.
قال فالعجب عندي من قوم يقولون هي الآخذة.
ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوماً استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة.
فأما الشرائع فأنها بريئة من حالهم، وفي الحديث: ضاق البلد بمواشي إبراهيم ولوط عليهما السلام فافترقا.
وكان شعيب عليه السلام كثير المال. ثم قد ند طمعه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال: " فإنْ أتممتَ عشراً فمنْ عندِك " .
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب.
فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال: " هَلْ آمنكُم عليهِ " . فقالوا: " وتزدَادُ كيْلَ بعِير " ؛ فقال: خذوه.
وقال بعض السلف: من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه فهو مجنون.
وقد نفر جماعة من المتصوفة خلقاً من الخلق عن الكسب، وأوحشوا بينهم وبينه، وهو دأب الأنبياء والصالحين.
وإنما طلبوا طريق الراحة وجلسوا على الفتوح.
فإذا شبعوا رقصوا؛ فإذا انهضم الطعام أكلوا.
فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة، إما بسبب شكر أو بسبب استغفار.
وأطم الطامات ادعاؤهم أن هذا قربة.
وقد انعقد إجماع العلماء أن من ادعى الرقص قربة إلى الله تعالى كفر.
فلو أنهم قالوا مباح كان أقرب حالاً، وهذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع، وليس في الشرع أمر بالرقص ولا ندب إليه.

ولقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان وينظرون إليهم، فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا: نعتبر بخلق الله !!!.
أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره وقال: وهل كانت فتنة داود إلا من النظر ؟.
هيهات ! لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد.
والعجب ممن يذم الدنيا وهو يأكل فيشبع، ولا ينظر من أين المطعم.
وما زال صالحوا السلف يفتشون على المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو وأصحابه ويقولون مع من نعمل غداً.
وكان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء، وله في الورع مقامات، فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون أتباع أولئك السادة، ويأكلون من مال فلان، وهم يعرفون أصول تلك الأموال، ويقولون رزقنا.
فواعجباً إذا كان الآكل لا يبالي به من أين، ولا لديه امتناع من شهوة ولا تقلل، ولا يخلو الرباط من المطبخ، ولا ينقطع ليلة، وأصله من مال قد عرق من أين هو والحمام دائر والمغني يدق بدف فيه جلاجل ورفيقه بالشبابة، وسعدى وليلى في الإنشاد، والمردان في الشمع، ثم يذم الدنيا بعد هذا.
فقولوا لنا: من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ؟ ولكن من مرت عليه زرجتهم فإنهم أخس منهم.

فصل عجائب الكون
عرض لي في طريق الحج خوف من العرب فسرنا على طريق خيبر، فرأيت من الجبال الهائلة والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجده عند ذكر غيرها.
فصحت بالنفس: ويحك اعبري إلى البحر وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالاً هي أعظم من هذه، ثم اخرجي عن الكون والتفتي إليه فإنك ترينه بالإضافة إلى السموات والأفلاك كذرة في فلاة.
ثم جولي في الأفلاك وطوفي حول العرش وتلمحي ما في الجنان والنيران.
ثم اخرجي عن الكل والتفتي إليه، فإن تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي لا تقف قدرته عند حد.
ثم التفتي إليك فتلمحي بدايتك ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية، وليس إلا العدم، وفيما بعد البلى وليس إلا التراب.
فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ والمنتهى ؟.
وكيف يغفل فعل القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم ؟.
بالله لو صحت النفوس عن سكر هواها لذابت من خوفه، أو لغابت في حبه.
غير أن الحس غلب فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل، وإن الفطنة لو تلمحت المعاني لدلت القدرة عليه أو في من دليل الجبل.
سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عما خلقوا له، سبحانه.
فصل الصبر على الألم
للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل.
فلا بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء.
فإن تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل، كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة.
فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع.
فالواجب الصبر وإن كن الدعاء مشروعاً ولا ينفع إلا به، إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل بل يتعبد بالصبر والدعاء والتسليم إلى الحكيم.
ويقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة.
فأما المستعجل فمزاحم للمدبر وليس هذا مقام العبودية وإنما المقام الأعلى هو الرضى والصبر هو اللازم.
والتلاحي بكثرة الدعاء نعم المعتمد، والاعتراض حرام والاستعجال مزاحمة للتدبير، فافهم هذه الأشياء فإنها تهون البلاء.
فصل عون على الصبر
ليس في الوجود شيء أصعب من الصبر إما على المحبوب أو على المكروهات.
وخصوصاً إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج.
وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها، والزاد من أجناس.
فمنه تلمح مقدار البلاء وقد يمكن أن يكون أكثر.
ومنه أنه في حال فوقها أعظم منها مثل أن يبتلي بفقد ولد وعنده أعز منه.
ومن ذلك رجاء العوض في الدنيا.
ومنه تلمح الأجر في الآخرة.
ومنه التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلف فيما يمدحون عليه والأجر من الحق عز وجل.
ومن ذلك بأن الجزع لا يفي بل يفضح صاحبه إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل والفكر.
فليس في طريق الصبر نفقة سواها، فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ويقطع بها ساعات ابتلائه وقد صبح المنزل.
فصل اختيار الله أولى

ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها.
لأن الذي إليه أن يدعو، والمدعو مالك حكيم، فإن لم يجب فعل ما يشاء في ملكه، وإن أخر فعل بمقتضى حكمته.
فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد، مزاحم بمرتبة مستحق.
ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه.
فربما سأل سيلاً سال به وفي الحديث: أن رجلاً كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد فهتف به هاتف: إنك غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت.
فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته وحكمه وأيقن أن الكل ملكه طاب قلبه قضيت حاجته أو لم تقض.
وفي الحديث: ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه. فإما أن يعجلها وإما أن يؤخرها وإما أن يدخرها له في الآخرة.
فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب وما لم يجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط.
فافهم هذه الأشياء وسلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال.

فصل فضل العلم
من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع.
وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى.
فإذا مر أحدهم بالوحي انزعج أهل السماء حتى يخبرهم بالخبر، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم. قالوا الحق. كما إذا انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته ومعناه.
فسبحان من خص فريقاً بخصائص شرفوا بها على جنسهم.
ولا خصيصة أشرف من العلم. بزيادته صار آدم مسجوداً له وبنقصانه صارت الملائكة ساجدة.
فأقرب الخلق من الله العلماء، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به.
فكلما دله على فضل اجتهد في نيله وكلما نهاه عن نقص بالغ في تجنبه.
فحينئذ يكشف العلم له سره، ويسهل عليه طريقه، فيصير كمجتذب يحث الجاذب فإذا حركه عجل في سيره.
والذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غوره ولا يكشف له عن سره، فيكون كمجذوب لجاذب جاذبه.
فافهم هذا المثل وحسن قصدك وإلا فلا تتعب.
فصل التلطف مع النفس
اعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم، وفسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت والقبور والآخرة.
فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت. وأحاديث الآخرة تقرأ عليه وتجري على لسانه فتذكاره الموت زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة.
بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفسه أمله قليلاً فيصنف ويعمل أعمال خير، ويقدر على طلب ولد.
فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته.
ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته فسبقها، وكان يمزح ويشاغل نفسه ؟.
فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن وتزعج النفس.
وقد روي عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف ففتح عليه فخاف على عقله. فسأل الله أن يرد ذلك عنه.
نتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس وفي ذلك صلاحها والله الموفق والسلام.
فصل التطلع إلى الأفضل
من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال. وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض.
ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن.
والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله.
أما في البدن: فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها.
فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشرع على الكل بالبعض. فأمر بقص الأظفار، ونتف الإبط، وحلقة العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة.

وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب فكان الغاية في النظافة والنزاهة.
ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ولكن التوسط هو المحمود.
ثم ينبغي له أن يرفق ببدنه الذي هو راحلته ولا ينقص من قوتها فتنقص قوته.
ولست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين جارية كم فيها من منفعة لصاحبها ولغيره.
ولا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض.
وليس ذلك من الشرع ولا نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
إنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا لم يجدوا جاعوا، وربما آثروا فصبروا ضرورة.
وكذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها - فرب لقمة منعت لقمات - فلا يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح ولا يتلفت إلى متزهد يقول لا أبلغها الشهوات.
فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم وأخذ ما يصلح بمقدار.
ولم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق.
إنما نقل عنهم تركها لسبب، إما للنظر في حلها، أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت ويجوز ذلك.
وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره ولا يفضل غيره عليه.
وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم.
ومن أقبح النقص التقليد، فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد. فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.
ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها. فإن القنوع في حالة الأرذال.
فكن رجلاً رجله في الثّرى ... وهامة همّته في الثريّا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل.
وما قعد من قعد بالا لدناءة الهمة وخساستها.
واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتهب. ولا تخلد إلى كسل.
فما فات ما فات إلا بالكسل. ولا نال من نال إلا بالجد والعزم.
وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور، وقد قال بعض من سلف:
ليس لي مال سوى كرّي ... فبه أحيا من العدم
قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلا هممي

فصل الفقر بلاء ومنقصة
ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال.
وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه.
وقل الصبر فدخوا مداخل شانتهم وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن لهم. فالزهري مع عبد الملك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير. وما زال خلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم.
وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا.
وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات وسببه الفقر.
فعلمنا أن كمال العز وبعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة.
ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين.
إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك.
وإما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي، وأحمد ابن حنبل.
ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات. وربما تلف دينه.
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس فإنه يجمع لك دينك. فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع ولا آفة طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك الفقر.
فإن كان له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشره، خارج عن حيز العلماء، نعوذ بالله من تلك الأحوال.
فصل فضل الفقه

أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته. ومن تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم.
فإن أرباب المذاهب فاقوا على الخلائق أبداً، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أبو باللغة.
واعتبر هذا بأهل زماننا فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني ويعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء.
وكما رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع.
وربما جهل عمل ما ينويه في صلاته، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم. فإنه لا يكون فقيهاً.
بل يأخذ من كل علم بخط ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا والآخرة.

فصل نقائض سببها استمكان الهوى
رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من غيبة، ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول.
فبحثت عن سبب ذلك، فوجدته من شيئين: أحدهما العادة، والثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعاً ولا بصراً.
ومن هذا القبيل أن إخوة يوسف قالوا - حين سمعوا صوت المنادي: " إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ " - " لَقَدْ عَلِمْتُم ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كنَّا سَارِقينَ " ، فجاء في التفسير أنهم لما دخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا تتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا قد رأيتم ما صنعنا بإبلنا فكيف نسرق، ونسوا هم تفاوت ما بين الورع واختطاف أكلة لا يملكونها، وبين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب وبيعه بثمن بخس.
وفي الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة، وفيما لا ينقص شيئاً من عادته في مطعم وملبس.
نرى أقواماً يأخذون ويقول أحدهم: كيف يراني عدوي بعد أن بعت داري، أو تغير ملبوسي ومركوبي !.
ونرى أقواماً يوسوسون في الطهارة ويستعملون الكثير من الماء ولا يتحاشون من غيبة.
وأقواماً يستعملون التأويلات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز.
حتى أني رأيت رجلاً من أهل الخير والتعبد أعطاه رجل مالاً ليبني به مسجداً، فأخذه لنفسه وأنفق عوض الصحيح قراضة. فلما احتضر قال لذلك الرجل: اجعلني في حل فإني فعلت كذا وكذا.
ونرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها، فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا منها لم يتمالكوا.
وفي الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها.
وقد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم، فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم.
وكذلك قيصر فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل، ثم لم يقدر على مقاومة هواه وترك ملكه.
فالله الله في تضييع الأصول ! ومن إهمال سرح الهوى. فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى.
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه.
وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت.
على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط، فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى، وأن يكون بصيراً بما يقوى عليه من أعدائه وبمن يقوى عليه.
فصل تجارب مع الناس
من أعظم الغلط الثقة بالناس والاسترسال إلى الأصدقاء.
فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً، لأنه قد اطلع على خفي السر، قال الشاعر:
احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعم بالمضرة
واعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم، أو الغبطة وحب الرفعة، فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له وقد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر وربما حسد.
فإن قلت: كيف يبقى الإنسان بلا صديق ؟ قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد، وأن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يتبسم، ولا يتناول من شهوات الدنيا شيئاً، فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح هبط من أعينهم.
فإذا كانت هذه حالة العوام، وتلك حالة الخواص، فمع من تكون المعاشرة ؟.
لا بل والله ما تصح المعاشرة مع النفس لأنها متلونة.

وليس إلا المداراة للخلق والاحتراز منهم واتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق.
فإن ندر فيكن غير مماثل، لأن الحسد إليه أسبق.
وليكن مرتفعاً عن رتبة العوام، غير طامع في نيل مقامك.
وإن كانت معاشرة هذا لا تشفي لأن المعاشرة ينبغي ان تكون بين العلماء للمجانس فلزمهم من الإشارات في المخالطة ما تطيب به المجالسة، ولكن لا سبيل إلى الوصال.
ومثل هذه الحال أنك إن استخدمت الأذكياء عرفوا باطنك، وإن استخدمت البله انعكست مقاصدك.
فاجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة. والبله لحوائجك في منزلك لئلا يعلموا أسرارك.
واقنع من الأصدقاء، بمن وصفته لك، ثم لا تلقه إلا متدرعاً درع الحذر، ولا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه، وكن كما يقال عن الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخى الأعادي فهو يقظان هاجع

فصل علماء الدنيا
رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل، ورذيلته، وطلباً للعلم، وفضيلته.
فلما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا، ومن لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنسفه من حظوظ.
فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس وغيرهم.
فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها.
وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت وانتفعت عدت إلى أسفل سافلين.
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال ؟.
ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟.
ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟.
على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا.
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك.
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر ف ما قد عزمت عليه زيادة، بل لعله كله مخاطرة بالنفس، وبذل الوجه الذي طالما صين لمن لا يصلح التفات مثلك إلى مثله.
وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف، وقد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم.
وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ.
ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن ؟. وكم رمى قفر في بواديه من هالك.
ثم ما تحصله يفنى ويبقى منه ما أعطى، وعيب المتقين إياك، واقتداء الجاهلين بك.
ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه، خصوصاً وقد مر أكثر العمر.
ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي.
فصل التخطيط لتحصيل العلوم النافعة
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده.
وقد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه وهو مع ذلك حريص على الازدياد.
ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر، فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان جميعاً: وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر:
كدودة القز، ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وكذلك رأينا خلقاً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها، وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر ثم ينقسمون.
فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل عنده للحديث - أسلم سالما الله - مائة طريق.
وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء بن عرفة عن مائة شيخ، وكان عنده سبعون نسخة.
ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها من صحة حديثها ولا من فهم معناها، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي وعندي له نسخة، والكتاب الفلاني والفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه.
وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة:
زوامل للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله، فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط.

ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم وما خلطوا ما يعتبر به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم.
فإن قال قائل: أليس في الحديث منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا ؟.
قلت: أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم، والا اقتصر على بعضه.
بل أقول له: قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب.
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به.
فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكماله الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب.
وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصاً إن تشاغل بالنسخ.
ثم لا يحفظ القرآن.
أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث.
أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة.
فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك.
فأقول: ذو الهمة لا يخفي من زمان الصبا.
كما قل سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها.
كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بلغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها.
ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس.
فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة.
ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً.
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدىء بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث عليم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك.
وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.
ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له.
ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة.
ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.
ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب القبول منهم، فقد احتوى على المقصود من علم الأصول.
فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع.
ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً صالحاً.
مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد.
ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه.
فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا ويجذب إلى مقام الولاية.
ومن أريد وفق.
وإن الله عز وجل أقواماً يتولى تربيتهم ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدباً، ويسمى العقل. ومقوماً، ويقال له الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويهيء لهم أسباب القرب منه.
فإن لاح قاطع قطعهم عنه حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم.
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد.

فصل نضح السرائر
إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود.

فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم.
ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى.
ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفي ذكره وقبره.
ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق.
فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب، يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب.
فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه.
ورب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة وكأنه قيل له: إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطوته، واعرفوا ما ذكرته. ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص.

فصل الأقدار والأسباب
من عرف جريان الأقدار ثبت لها.
وأجهل الناس بعد هذا من قاواها، لأن مراد المقدر الذل له.
فإذا قاويت القدر فنلت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل.
مثال هذا: أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة، فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق مستحياُ من الله كيف يسألهم.
وإن كان له عذر بالحاجة التي ألجأته، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى معتذراً مستحياً وذاك المراد منه.
أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فلا يقدر على العود إليها حتى يدخل في خفارة المطعم بن عدي وهو كافر.
فسبحان من ناط الأمور بالأسباب، ليحصل ذل العارف بالحاجة إلى التسبب.
فصل محك الحوادث
سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء.
هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة.
وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه.
وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة.
وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح.
وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول.
وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم ويقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة ومن مكائد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء. ثم لما تم مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض نزل به ضيف النقلة، فقال: واكرباه.
فمن تلمح بحر الدنيا وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء.
فصل في رياضة النفس
ينبغي للعاقل أن لا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها ؟ ويجرب نفسه في ركوب بعضها سراً من الخلق فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها، ثم يعود فيفتضح.
مثله: رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة ولبس الدون وانفرد في زاوية، وغلب على قلبه ذكر الموت والآخرة، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح بما جرت به العادة.
فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقه من مرض.
ومنهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب.
وإنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل الخير، ولا يدخله في زي أهل الفاقة.
فإن قويت عزيمته في بيته ما يطيق، وترك ثوب التجمل لستر الحال، ولم يظهر شيئاً للخلق، فإنه أبعد من الرياء، وأسلم من الفضيحة.
وفي الناس من غلب عليه قصر الأمل وذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم.
وهذا الفعل عندي من أعظم الخطأ وإن كان منقولاً عن جماعه من الكبار.
ولقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال: أخطأوا كلهم وقد تأولت لبعضهم بأنه كان فيها أحاديث عن قوم ضعفاء ولم يميزوها، كما روي عن سفيان في دفن كتبه.
أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره.
وهذا التأويل يصح في حق علمائهم.

فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه وابن أسباط فتفريط محض.
فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع أو من ارتكاب ما يظن عزيمة وهو خطيئة، أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى.
وعليكم من العمل بم تطيقون كما قال صلى الله عليه وسلم.

فصل أهوال الآخرة
أجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته.
فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة.
ولو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف والجزاء الدائم بين يديه.
فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها.
ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها ويعلم وجه أخذها، ليسلم له عاقبة لذته.
وإلا فلا خير في لذة من بعدها نار.
وهل عد في العقلاء قط من قيل له: اجلس في المملكة سنة ثم نقتلك.
هيهات بل الأمر بالعكس وهو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين ليستريح في عاقبته.
وفي الجملة أف للذة أعقبت عقوبة.
وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب قال أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال حدثنا يوسف بن عمر القواس قال حدثنا الحسين بن إسماعيل إملاء قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن مسلمة البلخي قال حدثنا محمد بن علي القوهستاني قال حدثنا دلف بن أبي دلف، قال: رأيت كأن آتيا بعد موت أبي فقال: أجب الأمير. فقمت معه، فأدخلني دار وحشة وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد وإذا أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم: دلف، قلت: نعم أصلح الله الأمير ؟ فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخفاق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت، قلت: نعم ؟ فأنشأ يقول:
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء
فصل جوانب الفضل
اللذات كلها بين حسي وعقلي، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح.
وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال النهاية، وأنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين، غير أن للطالب المرزوق علامة وهو أن يكون مرزوقاً علو الهمة وهذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور.
كما يروي في الحديث أن كان لعبد المطلب مفرش في الحجر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأناً.
فإن قال قائل: فإذا كانت لي همة ولم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟.
فالجواب أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر.
ثم من البعيد أن يرزقك همة ولا يعينك، فانظر في حالك فلعله أعطاك شيئاً ما شكرته، أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه.
واعلم أنه ربما روي عنك من لذات الدنيا كثيراً ليؤثرك بلذات العلم، فإنك ضعيف ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك.
وأما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدىء طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفاً، ويجهل علم الفقه الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل؛ فبه تبين سير الكاملين.
وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو فقد شحذت شفرة لسانه على أجود مسن.
ومتى أدى العلم لمعرفة الحق وخدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح لغيره.
وينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءاً من زمانه مصروفاً إلى توفير الاكتساب والتجارة، مستنيباً فيها، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتنع من الإسراف والتبذير.
فإن رواية العلم والعمل به إلى درجة المعرفة لله عز وجل آسرة للمشاعر، فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء، ويا لها حالة سليمة من آفة.
وإن وجد من طبعه منازعاً إلى الشوق في النكاح فليتخير السراري في الأغلب غل.
وليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن ودينهن.
فإن رضين طلب الولد منهن، وإلا فالاستبدال بهن سهل.

ولا يتزوج حرة إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها والتسري، وليكن قصده الاستمتاع بها لا إجهاد النفس في الإنزال.
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الأصل.
فهذه الحالة الجامع من لذتي الحس والعقل ذكرتها على وجه الإشارة.
وفهم الذكي يميل عليه ما لم أشرحه.
؟فصل شروط التعلم والحفظ أعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض.
وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موت، فنظر إلى مائة كتاب وقال: قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد، ثم خرج فقال: ما يجيء منه شيء.
فقيل له: ما الذي كنت تفعل ؟ قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة من الغلط تحمل القلب حفظ الكثير من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل ومنهم من يعجز عن عشرين رطلاً، فكذلك القلوب.
فليأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات.
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات.
والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل.
ويرفه القوي في بقية الزمان، والدوام أصل عظيم.
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ.
وللحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان.
وأفضلهما إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع.
ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطىء نهر، لأن ذلك يلهي.
والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل.
والخلوة أصل وجمع الهم أصل الأصول.
وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه.
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وأن لا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله.
ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح.
وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ.
قال الزهري: ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ.
وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال: بجمع الهم.
وقال حماد بن سلمة: بقلة الغم.
وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته.
وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم.
فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم.
ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز والعلم غزير.
وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل.
وأفضل ما تشوغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما عبد هذا بمنزلة تابع، ومن رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله، المقصود على الأحسن: " وَاتّ؟قُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللّهُ " .

فصل بين الخطأ والتوبة
من أراد دوام العافية والسلامة فليتق الله عز وجل.
فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى وإن قل إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة.
ومن الاغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما قالت النفس: إنه يغفر فتسامحت ولا شك أنه يغفر ولكن لمن يشاء.
وأنا أشرح لك حالاً فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة.
وذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ولا عزم على العود بعد الفعل ثم انتبه لما فعل فاستغفر الله كان فعله وإن دخله عمداً في مقام خطأ.
مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تقصد.
فهذا معنى قوله تعالى: " إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفْ مِنَ الشيطان تَذَكّرُوا فَإذَا هم مُبْصِرُونَ " .

فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها، المصر عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره.
ومن البعد أن لا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا قائم أتأمل حدثاً نصرانياً، ما هذا ؟ لترين غبها ولو بعد حين، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
واعلم أنهم من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر.
ومن أعظم العقوبة أن لا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض.
قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة، فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقبت ذلك موت أعز الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة فصلح حالي.
ثم عاد الهوى فحملين على إطلاق بصري مرة أخرى، فطمس قلبي وعدمت رقته، واستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول، ووقع لي تعويض عن المفقود بما كان فقده أصلح.
فلما تأملت ما عوضت وما سلب مني صحت من ألم تلك السياط.
فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة.
واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة.
وبالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلاً في نيل رضاه.
ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم هلاكاً، وعافيتكم مرضاً، وصحتكم سقماً والأمر بآخره، والعاقل من تلمح العواقب.
وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء فما أسرع زواله.
والله الموفق إذ لا حول إلا به ولا قوة إلا بفضله.

فصل خطر الجدل على العامة
قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام، فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس لله في الأرض كلام. وهل المصحف إلا ورق وعفص وزاج. وإن الله ليس في السماء وإن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله ؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء. أي ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض.
ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت، هذا عبارة جبريل. فما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام، وصار أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح، وإلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس.
فشكا إلي جماعة من أهل السنة فقلت لهم اصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات، وإن كانت مدموغة. وللباطل جولة وللحق صولة والدجالون كثير. ولا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان.
قال قائل: فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت: اعلم وفقك الله تعالى أن الله عز وجل ورسوله قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل ولم يكلفهم معرفة التفاصيل.
إما لأن الاطلاع على التفاصيل يخبط العقائد وإما لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك.
فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إثبات الخالق ونزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه فقال تعالى: " أَمَّنْ جَعَل الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَها أَنْهاراً " .
وقال تعالى: " وفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرْونَ " .
وما زال يستدل على وجوده بمخلوقاته، وعلى قدرته بمنوعاته، ثم أثبت نبوة نبيه بمعجزاته، وكان من أعظمها القرآن الذي جاء به فعجز الخلائق عن مثله.
واكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة، ومضى على ذلك القرن الأول والمشرب صاف لم يتكدر.
وعلم الله عز وجل ما سيكون من البدع، فبالغ في إثبات الأدلة وملأ بها القرآن.
ولما كان القرآن هو منبع العلوم، وأكبر المعجزات للرسول، أكد الأمر فيه فقال تعالى: " وهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ " ، " ونُنزِّل مِنَ الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاءٌ " .
فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى: " يُريدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ " .
وأخبر أنه مسموع بقوله تعالى: " حَتى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ " .
وأخبر أنه محفوظ فقال تعالى: " في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ " .
وقال تعالى: " بَلْ هُوَ آياتٌ بيِّنَاتٌ في صُدُورِ الذِينَ أُوتُوا الْعِلْمِ " .

وأخبر أنه مكتوب ومتلو فقال تعالى: " وَما كُنْتَ تَتْلو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ولا تَخَطُّهُ بِيَمِينِك " .
إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن.
ثم نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون أتى به من قبل نفسه. فقال تعالى. " أَمْ يَقولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُو الحقُّ مِنْ ربِّك " .
وتواعده لو فعل فقال تعالى: " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعضَ الأقاويل " .
وقال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال: " إِنْ هذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ سأصْليهِ سَقَر " .
ولما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام بثمود، وإرسال الريح على عاد، والخسف بقارون، وقلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلام، وإرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة.
تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن فقال تعالى: " فذرني وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الحديث " . " ذَرْني ومَنْ خَلَقتُ وَحِيداً " .
وهذا لأنه أصل هذه الشرائع والمثبت لكل شريعة تقدمت. فإن جمع الملل ليس عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا لأن كتبهم غيرت وبدلت.
وقد علم كل ذي عقل أن القائل: " إِن هذَا إِلاَّ قَوْلُ البشَرِ " إنما أشار إلى ما سمعه.
ولا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب. أن قوله " وإنه " كناية عن القرآن، وقوله: " تنزل به " كناية أيضاً عنه وقوله: " هذا كتاب " إشارة إلى حاضر.
وهذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ثم دس الشيطان دسائس البدع فقال قوم: هذا المشار إليه مخلوق، فثبت الإمام أحمد رحمة الله ثبوتاً غيره على دفع هذا القوم لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس، ويخرجه عن الإضافة إلى الله عز وجل.
ورأى أن ابتداع ما لم يقل فيه لا يجوز استعماله فقال: كيف أقول ما لم يقل.
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري. فقال مرة بقول المعتزلة، ثم عن له فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس. فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق.
وزادت فخبطت العقائد فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم.
والكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج والشبه في كتب الأصول فلا أطيل به ههنا بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه، وهو أن الشرع قنع منا بالإيمان جملة وبتعظيم الظواهر، ونهى عن الخوض فيما يثير غبار شبهة ولا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم.
وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟..
وما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما، إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق.
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت وجود القرآن فقال قائل: ليس ههنا قرآن. فقد رد الظواهر التي تعب الرسول صلى الله عليه وسلم في إثباتها وقرر وجودها في النفوس.
وبماذا يحل ويحرم، ويبت ويقطع، وليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء.
وهل للمخالف دليل إلا أن يقول: قال الله فيعود فيثبت ما نفى.
فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع.
فإن اعترضه ذو شبهة. فقال: هذا صوتك وهذا خطك. فأين القرآن ؟ فليقل له: قد أجمعنا أنا وأنت على وجود شيء به نحتج جميعاً.
وكما أنك تنكر علي أن أثبت شيئاً لا يتحقق لي إثباته حساً، فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعاً.
وأما قولهم هل في المصحف إلا ورق وعفص وزاج، فهذا كقول القائل: هل الآدمي إلا لحم ودم ؟.
هيهات أن معنى الآدمي هو الروح، فمن نظر إلى اللحم والدم وقف مع الحس.
فإن قال: فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة. قلنا له: وهذا مما ننكره عليك لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك ولا لخصمك.
فإن أردت بالكتابة الحبر وتخطيطه فهذا ليس هو القرآن.
وإن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة.
وهذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل كالروح مثلاً، فإنا نعلم وجودها في الجملة، فأما حقيقتها فلا.
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل، فوجب الوقوف مع السمعيات مع نفي ما لا يليق بالحق.

لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطاً ولا يفيده بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي، فلا وجه للسلامة إلا طريق السل والسلام.
وكذلك أقو أن إثبات الإله بظواهر الآيات والسنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه وإن كان التنزيه لازماً.
وقد كان ابن عقيل يقول: الأصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآي والسنن. ولأنهم يأنسون بالإثبات فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت السياسات والحشمة.
وتهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه. لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات. فيطمعوا ويخافوا شيئاً قد أنسوا إلى ما يخاف مثله ويرجى.
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي ولا طمع ولا مخالفة من النفي.
ومن تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الأعرابي: أو يضحك ربنا ؟ قال: نعم فلم يكفهر من هذا القول.

فصل تكاليف بعد الهمة
أعظم البلايا أن يعطيك همة عالية ويمنعك من العمل بمقتضاها، فيكون من تأثير همتك الأنفة من قبول إرفاق الخلق استثقالاً لحمل مننهم، ثم يبتليك بالفقر فتأخذ منهم.
ويلطف مزاجك، فلا تقبل من المأكولات ما سهل إحضاره، فتحتاج إلى فضل نفقة، ثم يقلل رزقك ويعلق همتك بالمستحسنات. ويقطع بالفقر السبيل إليهن.
ويريك العلوم في مقام معشوق، ويضعف بدنك عن الإعادة ويخلي يديك من المال الذي تحصل به الكتب.
ويقوي توقك إلى درجات العارفين والزهاد، ويحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا وهذا البلاء المبين.
وأما الخسيس الهمة الذي لا يستنكف من سؤال الخلق، ولا يرى الاستبدال بزوجته، ويكتفي بيسير من العلم. ولا يتوق إلى أحوال العارفين. فذاك لا يؤلمه فقد شيء، ويرى ما وجد هو الغاية. فهو يفرح فرح الأطفال بالزخارف، فما أهون الأمر عليه.
إنما البلاء على العارف ذي الهمة العالية الذي تدعوه همته إلى جميع الأضداد للتزيد من مقام الكمال، وتقصر خطاه عن مدارك مقصوده.
فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين.
ولولا حالات غفلة تعتري هذا المبتلي يعيش بها لكان دوام ملاحظته للمقامات يعمي بصره، واجتهاده في السلوك يخفي قدمه لكن ملاحظات الإمداد له تارة ببلوغ بعض مراده وتارة بالغفلة عما قصد. تهون عليه العيش.
وهذا كلام عزيز لا يفهمه إلا أربابه، ولا يعلم كنهه إلا أصحابه.
فصل الحزم أولى
تراعنت علي نفسي في طلبها شيئاً من أغراضها بتأويل فاسد، فقلت لها: بالله عليك تصبري.
فإن في المعبر شغلاً يحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر.
إذا هممت بفعل فقدري حصوله ثم تلمحي عواقبه وما تجتنين من ثمراته، فأقل ذلك الندم على ما فعلت، ولا يؤمن أن يثمر غضب الحق عز وجل وإعراضه عنك.
فأف للقاطع عنه ولو كان الجنة.
ثم اعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافاً وأن ميزان العدل تبين فيه الذرة فتلمحي الأموات والأحياء، وانظري إلى من نشر ذكره بالخير والشر، وزيادة ذلك ونقصانه.
فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها، حتى أن حبات القلوب تتعلق بأهل الخير، وتنفر من أهل الشر من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل.
قال إبليس: أو تترك مرادك لأجل الخلق ؟ قلت: لا.
إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة لا عن الغرض.
ونحن نرى من يمشي ثلاثين فرسخاً ليقال ساع، فالمتقي قد نال شرف الذكر وإن لم يقصد نيل ذلك مترجحاً له في وزن الجزاء: " سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً " .
قالت النفس: لقد أمرتني بالصبر على العذاب، لأن ترك الأغراض عذاب.
قلت: لك عن الغرض عوض، ومن كل متروك بدل.
وأنت في مقام مستعبد ولا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة في زمان الاستئجار وكل زمان المتقي نهار صوم.
ومن خاف العقاب ترك المشتهى، ومن رام القرب استعمل الورع، وللصبر حلاوة تبين في العواقب...
فصل الهزيمة أمام الشهوة
من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل ؟ فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط ويقال لك ابق بما اخترت، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له، لم يزل في نزول.

وكان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب: أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغير اسمك.
فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر.
فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي ؟ وما كل إلا إسم حسن. فأكل، وهكذا الخسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل.
فالله الله في حريق الهوى إذا ثار وانظر كيف تطفئه.
فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على الحقيقة.
فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم والسلام.

فصل فضل المجاهدة
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى، ويضربونهم بأسياف اللذة.
فأما المخلطون فصرعى من أول وقت اللقاء.
وأما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح، فهم يجرحون ويداوون إلا أنهم من القتل محفوظون، بلى ! إن الجراحة في الوجه شين باق، فليحذر ذلك المجاهدون.
فصل احذر أن تقع
الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة، ويدور حول الحب، والسلامة بعيدة.
فكم من صابر اجتهد سنين ثم في آخر الأمر وقع.
فالحذر الحذر. فقد رأينا من كان على سنن الصواب، ثم زل على شفير القبر.
فصل مهالك الذنوب
اعلموا إخواني ومن يقبل نصيحتي. أن للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد. على حلاوتها أضعافاً مضاعفة.
والمجازي بالمرصاد لا يسبقه شيء ولا يفوته.
أو ليس يروى في التفسير. أن كل واحد من أولاد يعقوب عليهم السلام - وكانوا اثني عشر - ولد له اثنا عشر ولداً، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر وجوزي بتلك الهمة فنقص ولداً.
فواأسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم، ولمثخن بالجراح وما عنده من نفسه خبر.
ولمتقلب في عقوبا ما يدري بها، ولعمري أن أعظم العقوبة أن لا يدري بالعقوبة.
فواعجبا للمغالط نفسه، يرضي نفسه بشهوة ثم يرضي ربه بطاعة، ويقول حسنة، وسيئة.
ويحك من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين.
رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارط لا يستدرك.
ويحك انتبه لنفسك ما الذي تنتظر بأوبتك ؟ وماذا تترقب بتوبتك المشيب ؟ فها هو ذا أوهن العظم وهل بعد رحيل الأهل والأولاد والأقارب، إلا اللحاق.
قدر أن ما تؤمله من الدنيا قد حصل، فكان ماذا ؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلاً.
ثم آخر جرعة اللذة شرقة، وإما أن تفارق محبوبتك أو يفارقك.
فيا لها جرعة مريرة تودع عندها أن لو لم تره.
آه لمحجوب العقل عن التأمل، ولمصدود عن الورود، وهو يرى المنهل أما في هذه القبور نذير ؟ أما في كرور الزمان زاجر ؟.
أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل.
نادهم في ناديهم. هيهات صموا عن مناديهم.
فلو أن ما بهم الموت، إنما هنيهة... ثم القبور.
العمل حصل يا معدوماً بالأمس، يا متلاشي الأشلاء في الغد.
بأي وجه تلقى ربك ؟ أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عتاب ؟.
بالله إن الرحمة بعد المعاتبة، ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب.
فكيف إن أعقب العتاب عقاب، وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن الحسين المعدل، قال: أخبرنا أبو الفضل الزهري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا أبو العباس بن واصل المقرىء، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال: رأى جار لنا يحيى بن أكثم بعد موته في منامه، فقال: ما فعل بك ربك ؟ فقال: وقفت بين يديه، فقال لي: سوءة لك يا شيخ.
فقلت: يا رب إن رسولك قال إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم، وأنا ابن ثمانين أسير الله في الأرض.
فقال لي: صدق رسولي قد عفوت عنك.
وفي رواية أخرى عن محمد بن سلم الخواص، قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي يا شيخ السوء لولا شيبتك لأحرقتك بالنار.
والمقصود من هذا النظر بعين الاعتبار، هل يفي هذا بدخول الجنة فضلاً عن لذات الدنيا.
فنسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين، وأن يرينا الأشياء كما هي لنعرف عيوب الذنوب والله الموفق.
فصل التعلق بالله فوز
ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه. فما رأيت طريقاً للخلاص. فعرضت لي هذه الآية: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً " فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم. فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج.
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى، وامتثال أمره، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج.
ثم أعجبه أن يكون من حيث لم يقدره المتفكر المحتال المدبر، كما قال عز وجل: " وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ " .
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب، فقد قال عز وجل: " ومنْ يتوكلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حسبهُ " .
فصل حكمة الإبطاء في إجابة الدعاء
من العجب إلحاحك في طلب أغراضك وكلما زاد تعويقها زاد إلحاحك.
وتنسى أنها قد تمتنع لأحد أمرين، إما لمصلحتك فربما معجل أذى، وإما لذنوبك فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة.
فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي.
وانظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك، أو لمجرد هواك ؟.
فإن كان للهوى المجرد. فاعلم أن من اللطف بك والرحمة لك تعويقه.
وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه فيمنع رفقاً به.
وإن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره، أو كان صلاح الدين بعدمه.
وفي الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك، وقد يمنعك ما تهوى ابتلاء ليبلو صبرك. فأره الصبر الجميل تر عن قرب ما يسر.
ومتى نظفت طرق الإجابة من أدران الذنوب، وصبرت على ما يقضيه لك. فكل ما يجري أصلح لك. عطاء كان أو منعاً.
فصل الاستعداد للموت
يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً.
ولا يغترر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان.
ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا:
يعمّر واحدٌ فيغرّ قوماً ... وينسى من يموت من الشباب
ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه.
فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً. وإنما يقدم المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة لطول الأمل.
وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل.
ولا تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة، أو خرقاً فارقعه باستغفار.
وإذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك.
وإياك والتسويف فإنه أكبر جنود إبليس:
وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوى الورود على المصدر
ومثّل لنفسك أي الرعيل ... يضمك في حلبة المحشر
ثم صور لنفسك قصر العمر، وكثرة الأشغال، وقوة الندم على التفريط عند الموت؛ وطول الحسرة على البدار بعد الفوت.
وصور ثواب الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل.
ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها، وفكرة تحادثها بها.
فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك.
وقد والله دنستك أهواؤك، وضيعت عمرك.
فالبدار البدار في الصيانة، قبل تلف الباقي بالصبابة. فكم تعرقل في فخ الهوى جناح حازم، وكم وقع في بئر بوار مخمور. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل إحسان المتاب
الحذر الحذر من المعاصي. فإن عواقبها سيئة.
وكم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبداً مع تعثير أقدامه، وشدة فقره وحسراته على ما يفوته من الدنيا، وحسرة لمن نالها.
فلو قارب زمان جزائه على قبيحه الذي ارتكبه كان اعتراضه على القدر في فوات أغراضه يعيد العذاب جديداً.
فوا أسفاً لمعاقب لا يحس بعقوبته.
وآه من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه.
أو ليس ابن سيرين يقول: عيرت رجلاً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة.
وابن الخلال يقول: نظرت إلى شاب مستحسن فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
فواحسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها.
فالله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء. والحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات. فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية.

ولا تغتر بستره أيها العاصي فربما يجذب عن عورتك، ولا بحلمه فربما بغت العقاب.
وعليك بالقلق واللجأ إليه والتضرع. فإن نفع شيء فذلك، وتقوت بالحزن، وتمزز كأس الدمع.
واحفر بمعول الأسى قليب قلب الهوى لعلك تنبط من الماء ما يغسل جرم جرمك.

فصل هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
؟
إخواني: اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر.
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق. وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته - مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم - فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام فإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون.
غير أنه في الأغلب أو تلطف في العقاب كما قيل:
ومن كان في سخطه محسناً ... فكيف يكون إذا ما رضي
غير أن العدل لا يحابى. وحاكم الجزاء لا يجوز. وما يضيع عند الأمين شيء.
أيها المذنب: إذا أحسست نفحات الجزاء فلا تكثرن الضجيج، ولا تقولن قد تبت وندمت، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت.
وإن للمجازاة زماناً يمتد امتداد المرض الطويل. فلا تنجع فيه الحيل حتى ينقضي أوانه.
وإن بين زمان: وعصى إلى إبان: فتلقى مدة مديدة.
فاصبر أيها الخاطيء حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس. فإذا عصرته كف الأسى، ثم تكررت دفع الغسلات حكم بالطهارة.
بقي آدم يبكي على زلله ثلاث مائة سنة.
ومكث أيوب عليه السلام في بلائه ثماني عشرة سنة.
وأقام يعقوب يبكي على يوسف عليهما السلام ثمانين سنة.
وللبلايا أوقات ثم تنصرم، ورب عقوبة امتدت إلى زمان الموت.
فاللازم لك أن تلازم محراب الإنابة، وتجلس جلسة المستجدي. وتجعل طعامك القلق، وشرابك البكاء، فربما قدم بشير القبول فارتد يعقوب الحزن بصيراً.
وإن مت في سجنك فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الآخرة، وفي ذلك ربح عظيم.
فصل دموع التوبة
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد.
وربما تأخرت العقوبة ثم فجأت، وربما جاءت مستعجلة، فليبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب، ولا ماء يطفىء تلك النار إلا ما كان من عين العين.
لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه.
فصل العبودية لله
واعجبا من عارف بالله عز وجل يخالفه ولو في تلف نفسه.
هل العيش إلا معه ؟ هل الدنيا والآخرة إلا له ؟.
أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب.
تالله لقد فاته أضعاف ما حصل.
أقبل على ما أقوله يا ذا الذوق، هل وقع لك تعثير في عيش ؟ وتخبيط في حال ؟ إلا حال مخالفته:
ولا انثنى عزمي عن بابك ... إلاّ تعثرت بأذيالي
أما سمعت تلك الحكاية عن بعض السلف أنه قال: رأيت على سور بيروت شاباً يذكر الله تعالى فقلت له: ألك حاجة ؟.
فقال: إذا وقعت لي حاجة سألته إياها بقلبي فقضاها.
يا أرباب المعاملة، بالله عليكم لا تكدروا المشرب، قفوا على باب المراقبة وقوف الحراس، وادفعوا ما لا يصلح أن يلج فيفسد.
واهجروا أغراضكم لتحصيل محبوب الحبيب، فإن أغراضكم تحصل.
على أنني أقول أف لمن ترك بقصد الجزاء.
أهذا شرط العبودية، كلا ؟.
إنما ينبغي لي إذا كنت مملوكاً أن أفعل ليرضى لا لأعطي.
فإن كنت محباً رأيت قطع الآراب في رضاه وصلا.
أقبل نصحي يا مخدوعاً بغرضه.
إن ضعفت عن عمل بلائه فاستغث به.
وإن آلمك كرب اختياره فه نك بين يديه.
ولا تيأس من روحه وإن قوي خناق البلاء.
بالله إن موت الخادم في الخدمة حسن عند العقلاء.
إخواني لنفسي أقول فمن له شرب معي فليرد، أيتها النفس لقد أعطاك ما لم تأملي وبلغك ما لم تطلبي. وستر عليك من قبيحك ما لو فاح ضجت المشام، فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض.
أمملوكة أنت أم حرة ؟ أما علمت أنك في دار التكليف وهذا الخطاب ينبغي أن يكون للجهال، فأين دعواك المعرفة ؟.
أتراه لو هبت نفحة، فأخذت البصر كيف كانت تطيب لك الدنيا ؟.

واأسفا عليك لقد عشيت البصيرة التي هي أشرف، وما علمت كم أقول عسى ولعل ؟ وأنت في الخطأ إلى قدام.
قربت سفينة العمر من ساحل القبر، ومالك في المركب بضاعة تربح.
تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف ففرقت تلفيق القوي وكان قد فصلت المركب.
بلغت نهاية الأجل وعين هواك تتلفت إلى الصبا.
بالله عليك لا تشمتي بك الأعداء. هذا أقل الأقسام.
وأوفى منها، أن أقول: بالله عليك لا يفتونك قدم سابق مع قدرتك على قطع المضمار.
الخلوة، الخلوة واستحضري قرين العقل، وجولي في حيرة الفكر. واستدركي صبابة الأجل قبل أن تميل بك الصبابة عن الصواب.
واعجبا كلما صعد العمر نزلت. وكلما جد الموت هزلت.
أتراك ممن ختم له بفتنة، وقضيت عليه عند آخر عمره المحنة، كان أول عمرك خيراً من الأخير.
كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب: " وَتِلْكَ الأمْثَالُ تَضْرِبَها لِلنَّاس وَمَا يعقلها إِلاَّ الْعالُمون " .
نسأل الله عز وجل ما لا يحصل إلا به، وهو توفيقه إنه سميع مجيب.

فصل التعفف والصبر
قدرت في بعض الأيام على شهوة النفس هي عندها أحلى من الماء الزلال في فم الصادي.
وقال التأويل: ما ههنا مانع ولا معوق إلا نوع ورع.
وكان ظاهر الأمر امتناع الجواز. فترددت بين الأمرين، فمنعت النفس عن ذلك.
فبقيت حيرتي لمنع ما هو الغاية في غرضها من غير صاد عنه بحال إلا حذر المنع الشرعي.
فقلت لها: يا نفس والله ما من سبيل إلى ما تودين، ولا ما دونه ؟.
فتقلقلت فصحت بها: كم وافقتك في مراد ذهبت لذته وبقي التأسف على فعله ؟.
فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف زمانها ؟.
فقالت: كيف أصنع ؟ فقلت:
صبرت ولا واللّه ما بي جلادة ... على الحب لكني صبرت على الرغم
وها أنا ذا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل. وقد تركت باقي هذه الوجهة البيضاء. أرجو أن أرى حسن الجزاء على الصبر فأسطره فيه إن شاء الله تعالى.
فإنه قد يعجل جزاء الصبر وقد يؤخره.
فإن عجل سطرته، وإن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه، فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
والله إني ما تركته إلا لله تعالى ويكفيني تركه ذخيرة، حتى لو قيل لي أتذكر يوماً آثرت الله على هواك، قلت: يوم كذا وكذا.
فافتخري أيتها النفس بتوفيق من وفقك، فكم قد خذل سواك.
واحذري أن تخذلي في مثلها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان هذا في سنة إحدى وستين وخمسمائة، فلما دخلت سنة خمسة وستين، عوضت خيراً من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع ولا غيره.
فقلت: هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا، ولأجر الآخرة خير والحمد لله.
فصل ذهاب العاجلة
لا أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح. لأنه ليس كل أحد يقوى على الترك.
إنما المحنة من طلبها فلم يجدها، أو أكثرها، إلا من طريق الحرام، فاجتهد في تحصيلها، ولم يبال كيف حصلت.
فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه، ولم ينتفع صابحه بوجود لأنه لو وزن ما آثر عقابه طاشت كفة اللذة التي فنيت عند أول ذرة من أجزائها.
وكم قد رأينا ممن آثر شهوته فسلبت دينه.
فليعجب العاقل حين التصفح لأحوالهم كيف آثروا شيئاً ما أقاموا معه، وصاروا إلى عقاب لا يفارقهم.
فالله الله في بخس العقول حقها.
ولينظر السالك أين يضع القدم فرب مستعجل وقع في بئر بوار.
ولتكن عين التيقظ مفتوحة فإنكم في صف حرب لا يدري فيه من أين يتلقى النبل، فأعينوا أنفسكم ولا تعينوا عليها.
فصل حلاوة الطاعة
الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه.
فأمر بقصد نيته ورفع اليدين إليه والسؤال له.
فقلوب الجهال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا.
والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة وكفتهم عن الانبساط.
ولولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ولا قدرت عين على نظر.
ومن هذا الجنس إنه ليغان على قلبي ومتى تحققت المراقبة حصل الأنس، وإنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة، لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين.

في لذة عيش المستأنسين، ويا خسار المستوحشين.
وليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلاة والصيام.
إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر واجتناب النهي.
هذا هو الأصل والقاعدة الكلية، فكم من متعبد بعيد، لأنه مضيع الأصل وهادم للقواعد بمخالفة الأمر وارتكاب النهي.
وإنما المحقق من أمسك ذؤابة ميزان المحاسبة للنفس فأدى ما عليه واجتنب ما نهى عنه.
فإن رزق زيادة تنفل وإلا لم يضره والسلام.

فصل تجميل مستحب
الدنيا في الجملة معبر، فينبغي للإنسان أن لا ينافس بلذاتها وأن يعبر الأيام بها.
فإنه لو تفكر في كيفية الذبائح ووسخ من يباشرها وعمل الكامخ وغيرها من المأكولات ما طابت له.
ولو تفكر في جولان اللقمة مختلطة بالريق ما قدر على إساغتها.
والمرء لا يخلو من حالين، إما أن يريد التنعم باللذات المباحات، أو يريد دفع الوقت بالضرورات.
وأيهما طلب فلا ينبغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه، فإنه لو نظر إلى عورة الزوجة نبا عنها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيته رسول الله ولا رآه مني.
فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه ثم يغمض عن التفتيش ليطيب له عيشه !.
وينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا فلا تحضره إلا على أحسن حال.
وبمثل هذا يدوم العيش.
فأما إذا حصلت البذلة بانت بها العيوب، فنبت النفس وطلبت الاستبدال، ثم يقع في الثانية مثل ما يقع في الأولى.
وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له ليدوم الود بحسن الائتلاف، ومتى لم يجر الأمر على هذا في حق من له أنفة من شيء تنبو عنه لنفس وقع في أحد أمرين إما الإعراض عنها، وإما الاستبدال بها.
ويحتاج في حالة الإعراض إلى صبر عن أغراضه، وفي حالة الاستبدال إلى فضل مؤنة وكلاهما يؤذي.
ومتى لم يستعمل ما وصفنا لم يطب له عيش في متعة، ولم يقدر على دفع الزمان كما ينبغي.
فصل معرفة الفضل
نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات وتدفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة.
فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة وكان درسي قد بلغ إلى سورة يوسف فاتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: " قال معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي " انتبهت لها وكأني خوطبت بها.
فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس أفهمت ؟.
هذا حر بيع ظلماً فراعى حق من أحسن إليه، وسماه مالكاً وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: إنه ربي.
ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه فقال: أحسن مثواي.
فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك.
وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصا.
أفما تذكرين كيف رباك وعلمك ورزقك ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد ؟.
وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن ؟.
وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله.
وجلى في عرصة لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن.
وساق رزقك بلا كلفة تكلف ولا كدر من، رغداً غير نزر ؟.
فوالله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات ؟ أم سلامة المزاج واعتدال التركيب ؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة ؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر ؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل ؟ أم تحبب طريق النقل واتباع الأثر من غير جمود على تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع ؟.
" وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها " .
كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟.
كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟.
كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ؟.
كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك ؟.
فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم وبلوغ الأمل.
فإن منعت مراد فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح.
ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره امتلأت الطروس ولم تنقطع الكتابة.
وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح.

فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه ؟ " معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون " .

فصل اتقاء الشبهات
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة. وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها.
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
قال بعض المعتبرين: قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم وتحتمل الإباحة، إذ الأمر فيها مردد.
فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك، فقارب المقدور عليه فإذا تمكنت فتركت كنت تاركاً حقيقة.
ففعلت وتركت، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه الجواز وإن كان الأمر يحتمل.
فلما وافقتها أثر ذلك ظلمة في قلبي لخوف أن يكون الأمر محرماً.
فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص والتأويل، وتارة أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع.
فإذا ترخصت لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل في القلب.
فلما لم آمن عليها بالتأويل تفكرت في قطع طمعها من ذلك الأمر المؤثر فلم أر ذلك إلا بأن قلت لها: قدري أن هذا الأمر مباح قطعاً، فوالله الذي لا إله إلا هو لأعدت إليه.
فانقطع طمعها باليمين والمعاهدة، وهذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها لأن تأويلها لا يبلغ إلى أن تأمر بالحنث والتكفير.
فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً ومؤدياً إلى ما لا يجوز والله الموفق.
فصل سكرة الهوى حجاب
لولا غيبة العاصي في وقت المعاصي كان كالمعاند.
غير أن الهوى يحول بينه وبين الفهم للحال، فلا يرى إلا قضاء شهوته.
وإلا فلو لاحت له المخالفة خرج من الدين بالخلاف؛ فإنما يقصد هواه فيقع الخلاف ضمناً وتبعاً.
وأكثر ما يقع هذا في نار إلى حلفا.
ثم لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظة وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه ولو أعطى الدنيا.
غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك.
آه كم معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن ثم بقيت آثارها.
وأقله ما لا يبرح من المرارة في الندم.
والطريق الأعظم في الحذر أن لا يتعرض لسبب فتنة، ولا يقاربه.
فمن فهم هذا وبالغ في الاحتراز كان إلى السلامة أقرب.
فصل أشد الناس بلاء
البلايا على مقادير الرجال. فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم من دين ودنيا.
وأولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة.
أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم.
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع، وتجويد الدين، وكمال العلم، ثم تبتلى بنفس تميل إلى المباحات، وتدعى أنها تجمع بذلك همها، وتشفي مرضها، لتقبل مزاحمة العلة على تحصيل الفضائل.
وهاتان الحالتان كضدين، لأن الدنيا والآخرة ضرتان.
واللازم في هذا المقام مراعاة الواجبات، وأن لا يفسح للنفس في مباح لا يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ورع.
المبتلي يصيح، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الولد.
واعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثيراُ في الدين، فأوثق السكر قبل فتح الماء وألبس الدرع قبل لقاء الحرب، وتلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد، واستظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه وإن لم يتيقن.
فصل استغل وقتك في الأنفس من العلوم
ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفاً إلى الحفظ والإعادة.
فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى.
غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع.
ولما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل بالنسخ والمطالعة، وبين راحة للبدن وأخذ لحظه.
ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره، وإن النفس لتهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار لأن ذلك أشهى وأخف عليها.
فليحذر الراكب من إهمال الناقة، ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق.
ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد.
ومن انحرف عن الجادة طالت طريقه.
ومن طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لأجله، على أن الإنسان إلى التحريض أحوج لأن الفتور ألصق به من الجد.

وبعد، فاللازم في العلم طلب المهم، فرب صاحب حديث حفظ مثلاً لحديث: من أتى الجمعة فليغتسل: عشرين طريقاً، والحديث قد ثبت من طريق واحد، فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل.
والعمر أقصر وأنفس من أن يفرط منه في نفس.
وكفى بالعقل مرشداً إلى الصواب وبالله التوفيق.

فصل صلاح السر أصر القبول
إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف.
فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا.
وهذا نهاية الخذلان.
وقد روي عن مالك بن أنس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: لا أدري، فقال سافرت البلدان إليك، فقال ارجع إلى بلدك وقل سألت مالكاً فقال لا أدري.
فانظر إلى دين هذا الشخص وعقله كيف استراح من الكلفة، وسلم عند الله عز وجل.
ثم إن كان المقصود الجاه عندهم، فقلوبهم بيد غيرهم.
والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك.
ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته.
فتدبرت السبب فوجدته السرير، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة.
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعقبت القلوب بنشر طيبه.
فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.
فصل من أسرار الحرمان
نزلت في شدة وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة، فانزعجت النفس وقلقت.
فصحت بها: ويلك، تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم حرة مالكة ؟. أمدبَّرة أنت أم مدبِّرة ؟.
أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك، ولم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟.
وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد.
فافهمي معنى التكليف وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب.
فلما تدبرت ما قلته سكنت بعض السكون.
فقلت لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك ولا تقتضين نفسك بالواجب له، وهذا عين الجهل.
وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس، لأنك مملوكة، والمملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى.
فسكنت أكثر من ذلك السكون.
فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك قد استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق أسرعت.
كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى.
أو ما سمعت قوله تعالى: " وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقهُ " ، " يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً " .
أو ما فهمت أن العكس بالعكس ؟.
آه من سكر غفلة صار أقى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني. فعرفت النفس أن هذا حق فاطمأنت.
فقلت: وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان فيه ضررك.
فمثلك كمثل طفل محموم يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح.
كيف وقد قال الله: " وَعَسَى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم " .
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة، زادت طمأنينتها.
فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك، ويحط من مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك.
ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك.
فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت، فقالت: لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت إذ فهمت.
فصل الغنى عافية للعلماء
حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم.
فالعلماء يتواضعون لهم ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم.
فرأيت هذا عيباً في الفريقين.
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم، ولكن لجهلهم بقدره فاتهم وآثروا عليه كسب الأموال.
فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون ولا يعلمون قدره.
وإنما أعود باللوم على العلماء وأقول: ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال.
وإن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم والطلب منهم حراماً عليكم.
وإن كنتم في كفاف فلم لم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة.

إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر، أني علمت قلة صبر النفس على الكفاف والعزوف عن الفضول، فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام.
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى، ويبالغ في الكسب، وإن ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم؛ فإنه يصون بعرضه عرضه.
وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت وخلف مالاً.
وخلف سفيان الثوري مالاً وقال لولاك لتمندلوا بي.
وقد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال، ومن كان من الصحابة والعلماء يقتنيه، والسر في فعلهم ذلك، وحتى طالبي العلم على ذلك ما بينته من أن النفس لا تثبت على التعفف، ولا تصبر على دوام التزهد.
وكم قد رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في يده، ثم ضعفت فعاد يكتسب من أقبح وجه.
فالأولى ادخار المال والاستغناء عن الناس. ليخرج الطمع من القلب، ويصفو نشر العلم من شآئبة ميل.
ومن تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة.
وإنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لمي يؤثر عنده بذل الدين والوجه.
فطلب الراحة ونسي أنها في المعنى عناء.
كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم وادعاء التوكل.
وما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل.
وإنما طلبوا طريق الراحة وجعلوا التعرض للناس كسباً.
وهذه طريقة مركبة من شيئين: أحدهما: قلة الأنفة على العرض. الثاني: قلة العلم.

فصل غلبة الشهوة
تأملت وقوع المعاصي من العصاة فوجدتهم لا يقصدون العصيان، وإنما يقصدون موافقة هواهم، فوقع العصيان تبعاً.
فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة فإذا به ملاحظتهم لكرم الخالق، وفضله الزاخر.
ولو أنهم تأملوا عظمته وهيبته ما انبسطت كف بمخالفته.
فإنه ينبغي والله أن يحذر ممن أقل فعله تعميم الخلق بالموت، حتى إلقاس الحيوان البهيم للذبح، وتعذيب الأطفال بالمرض، وفقر العالم، وغنى الجاهل.
فليعرض المقدم على الذنوب على نفسه الحذر ممن هذه صفته.
فقد قال الله تعالى: " ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " .
وملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرجاء.
فالخائف آخذ بالحزم، والراجي متعلق بحبل طمع، وقد يخلف الظن.
فصل عفة العالم من تمام دينه
رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء ويتسذلونهم بشيء يسير يعطونهم من زكاة أموالهم.
فإن كان لأحدهم ختمة قال فلان ما حضر، وإن مرض قال فلان ما تردد.
وكل منته عليه شيء نزر يجب تسليمه إلى مثله.
وقد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم.
ودواؤه من جهتين: إحداهما: القناعة باليسير. كما قيل: من رضي بالخل والبقل لم يستعبده أحد.
والثاني صرف الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا. فإنه يكون سبباً لإعزاز العلم، وذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم، مع احتمال هذا الذل.
ومن تأمل ما تأملته وكانت له أنفة قدر قوته، واحتفظ بما معه، أو سعى في مكتسب يكفيه.
ومن لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه.
فصل العقل أصل الدين
مدار الأسر كله على العقل؛ فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل.
وثمرة العقل فهم الخطاب، وتلمح المقصود من الأمر.
ومن فهم المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق.
وإني رأيت كثيراً من الناس لا يعملون على دليل. بل كيف اتفق، وربما كان دليلهم العادات، وهذا أقبح شيء يكون.
ثم رأيت خلقاً كثيراً لا يتبعون الدليل بطرق إثباته كاليهود والنصارى. فإنهم يقلدون الآباء ولا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا.
وكذلك يثبتون لإله ولا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز.
فينسبون إليه الولد، ويمنعون جواز تغييره ما شرع.
وهؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع وما يجوز عليه، ولا في الدليل على صحة النبوات، فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل.
ومن هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون ويتزهدون وينصبون أبدانهم في العلم بأحاديث باطلة. ولا يسألون عنها من يعلم.
ومن الناس من يثبت الدليل ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل.

ومن هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا، وما فهموا المقصود، فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها وأن النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق. وعذبوها بكل نوع، ومنعوها حظوظها. جاهلين بقوله صلى الله عليه وسلم: إن لنفسك عليك حقاً.
وفيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف التقوى.
وكل ذلك لضعف الفهم للمقصود والتلمح للمراد. كما روي عن داود الطائي أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه وهو شديد الحر.
وقال لسفيان إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب، وتشرب الماء البارد المبرد، فمتى تحب الموت والقدوم على الله ؟.
وهذا جهل بالمقصود. فإن شرب الماء الحار يورث أمراضاً في البدن ولا يحصل به الري.
وما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة، بل بترك ما تدعو إليه من ما نهى الله عنه.
وفي الحديث الصحيح: أن أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرش له في ظل صخرة.
وكان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء. وقال: إن كان عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا.
ولو فهم داود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل هذا.
ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة والخوف وكان يأكل اللذيذ ويقول: إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل.
ولعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول: هذا ميل على الزهاد، فأقول: كن مع العلماء وانظر إلى طريق الحسن، وسفيان، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي، وهؤلاء أصول الإسلام.
ولا تقلد دينك من قل علمه وإن قوي زهده.
واحمل أمره على أنه كان يطيق هذا ولا تقتد بهم فيما لا تطيقه.
فليس أمرنا إلينا، والنفس وديعة عندنا.
فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي أنكرت عليهم.
هذا رمز إلى المقصود والشرح يطول.

فصل حول تقسيم الأرزاق
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم لا ينظر فيما لا يجني من مكروه.
مثال أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل وملكه وتدبيره.
فإذا رأى الإنسان عالماً محروماً، وجاهلاً مرزوقاً، أوجب عليه الدليل المثبت حكمة الخالق التسليم إليه، ونسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه.
فإن أقواماً لم يفعلوا ذلك جهلاً منهم، أفتراهم بماذا حكموا ؟.
بفساد هذا التدبير ؟ أليس بمقتضى عقولهم ؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه ؟.
فكيف يحكم على حكمته وتدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالإضافة إليه أنقص من كل شيء؟.
ولقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالساً على الجسر وفي يده رغيف يأكله، فجازت خيل وأموال فقال: لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم.
ثم جازت خيل وأموال فقال: لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم.
فلما مر الخادم رأى شخصاً محتقراً، فرى الرغيف إلى ناحيته وقال: وهذا لفلان ! ما هذه القسمة ؟.
ولو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته وقلة تعظيمه له. وذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش ولكنه ميراث إبليس، حيث اعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام.
فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه، ومن مملوك يتيه على سيده.
ومما ينبغي فيه الدليل ولا يلتفت إلى ما جنت الحال، أن العلم أشرف مكتسب.
وقد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا فأزروا على العلم وقالوا: لا فائدة فيه.
وذلك لجهلهم بمقدار العلم، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى، وإنما يبين الاختبار بفقد الغرض.
ولو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم إلا إعراضه عن الدنيا وتضييق العيش عليه، ثم لم يخلف شيئاً وحرم أهله الميراث، لكفاه ذلك دليلاً على صدق طلبه لمطلوب آخر.
وربما رأى الجاهل قوماً من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم ويدعيه ناقصاً وهذا غلط كبير.
فليتق الله العاقل وليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى والعمل بالعلم.
وليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات، وليلزم اتباع الدليل وإن جنى مكروهاً والله الموفق.
فصل بين آدم ويوسف
قرأت سورة يوسف عليه السلام، فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره وشرح قصته للناس ورفع قدره بترك ما ترك.

فتأملت خبيئة الأمر فإذا هي مخالفة للهوى المكروه.
فقلت: واعجباً لو وافق هواه من كان يكون ؟.
ولما خالفه لقد صار أمراً عظيماً تضرب الأمثال بصبره، ويفتخر على الخلق باجتهاده.
وكل ذلك قد كان بصبر ساعة فيا له عزاً وفخراً، أن تملك نفسك ساعة الصبر عن المحبوب وهو قريب.
وبالعكس منه حالة آدم في موافقته هواه، لقد عادت نقيصة في حقه أبداً لولا التدارك فتاب عليه.
فتلمحوا رحمكم الله عاقبة الصبر ونهاية الهوى.
فالعاقل من ميز بين الأمرين. الحلوين والمرين.
فإن من عدل ميزانه ولم تمل به كفة الهوى رأى كل الأرباح في الصبر، وكل الخسران في موافقة النفس.
وكفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهى والله الموفق.

فصل تكامل المعارف في إصلاح القلوب
رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين.
لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها.
وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وتكثير الأجزاء.
وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغالب به الخصم.
وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟.
وقد كان جماعة من السلف يقصدون البعد الصالح للنظر إلى سمته وهديه. لا لاقتباس علمه.
وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك.
وقد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره وآدابه. فجمعت كتاباً في أخبار الحسن وكتاباً في أخبار سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وبشر الحافي، وأحمد بن حنبل، ومعروف، وغيرهم من العلماء والزهاد، والله الموفق للمقصود.
ولا يصلح العمل مع قلة العلم.
فهما في ضرب المثل كسائق وقائد والنفس بينهما حرون ومع جد السائق والقائد ينقطع المنزل، ونعوذ بالله من الفتور.
فصل قوة الإرادة
ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد ظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا. أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء.
فقلت لها: يا نفس السوء جوابك من وجهين: أحدهما أنك تأولت ما لا تعتقدين فلو استفتيت لم تفت بما فعلت.
قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته.
قلت: إلا أن اعتقادك ما ترضينه لغيرك في الفتوى.
والثاني أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك، لأنه لولا نور في قلبك ما أثر مثل هذا عندك.
قالت فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب.
قلت: فاعزمي على الترك وقدري ما تركت جائزاً بالإجماع، وعدي هجره ورعاً، وقد سلمت.
فصل التوسط في المعاملة
مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما استطاع، فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته.
وإن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوماً ما كما لا يحتاج إلى عويد منبوذ لا يلتفت إليه.
لكم كم من محتقر احتيج إليه. فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقعت الحاجة في دفع ضر.
ولقد احتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم.
واعلم أن الظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم. لأن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً. وقد يلوح منه مضرب خفي، وإن اجتهد المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو.
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في أن لا يظاهر بالعداوة أحداً لما بينت من وقوع احتياج الخلق بعضهم إلى بعض وإقدار بعضهم على ضرر بعض.
وهذا فصل مفيد تبين فائدته للإنسان مع تقلب الزمان.
فصل بين المتعة والخوف
رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت وما يتضمنها من الآفات.
وبيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة وسلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوبة فإن لم يقصد هو الشر حصل من عماله.
ثم هو خائف منزعج في كل أموره حذر من عدو أن يسيئه، قلق ممن هو فوقه أن يعزله، ومن نظير أن يكيده.
ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم، وتنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة.

وإن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة.
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها.
وإن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علو السن وذهاب زمان اللذة.
كما حكي أن رجلاً من الرؤساء كان حال شبيبته فقيراً، فلما كبر استغنى وملك أموالاً واشترى عبيداً من الترك وغيرهم وجواري من الروم فقال هذه الأبيات في شرح حاله.
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا
وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا
يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تعقد من أطرافها لينا
يردن إحياء ميت لا حراك به ... وكيف يحيين ميتاً صار مدفونا
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا ... فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
وهذه الحالة هي الغالبة فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند قرب رحيله، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير أو حسن الإلتذاذ.
والإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو إلا أن يبلغ، فإذا بلغ كانت همته في المنكوح كيف ما اتفق.
وإن تزوج جاء الأولاد فمنعوه اللذة وانكسر في نفسه وافتقر إلى الكسب عليهم.
فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين وخطه الشيب فانفرق من نفسه لعلمه أن النساء ينفرقن منه كما قال ابن المعتز بالله:
لقد أتعبت نفسي في مشيبي ... فكيف تحبني الغيد الكعاب
وهكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات، إن وجدهن، لم يجد ما لا يبلغ به المراد.
وإن اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه، وإذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى وأعظم مبغض.
ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وإن قتر.
ولده يرصد موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه.
فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها.
ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا، إلا من عصم الله.
فإياك إياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته.
ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف.
فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس. كيف تشتهي هذا. فقال: أتركه حتى أشتهيه.

فصل مناجاة
وقع بيني وبين أرباب الولايات نوع معاداة لأجل المذهب. فإني كنت في مجلس التذكير أنظر أن القرآن كلام الله وأنه قديم، وأقدم أبا بكر.
واتفق في أرباب الولايات من يميل إلى مذهب الأشعري، وفيهم من يميل إلى مذهب الروافض، وتمالؤا في الباطن.
فقلت يوماً في مناجاتي للحق سبحانه وتعالى: سيدي نواصي الكل بيدك، وما فيهم من يقدر لي على ضر، إلا أن تجريه على يده، وأنت قلت سبحانك " وما هم بضارين به من أحد إلاَّ بإذن اللّه " .
وطيبت قلب المبتلي بقولك: " قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا " .
فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني كان خوفي على ما نصرته أكثر من خوفي على نفسي، لئلا يقال لو كان على حق ما خذل.
وإن نظرت إلى تقصيري وذنوبي فإني مستحق للخذلان، غير أني أعيش بما نصرته من السنة، فأدخلني في خفارته.
وقد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك فإن لم تحفظني بي فاحفظني بهم.
سيدي انصرني على من عاداني، فإنهم لا يعرفونك كما ينبغي، وهم معرضون عنك على كل حال، وأنا - على تقصيري - إليك أنسب.
فصل بلاء المتصوفة
روي عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد وعرقه يسيل، فجاز بعض العقلاء فقال له: يا أحمق هذا تقاوي على الله تعالى ... !!!، وما أحسن ما قال هذا ! فإنه ما وضع التكليف إلا على خلاف الأغراض، وقد يحرج صاحبه إلى أن يعجز عن الصبر.
فالجاهل الأحمق من تقاوى أو من يسأل البلاء كما قال ذلك الأبله: فكيف ما شئت فاختبرني.
فصل التجلد للأمور

والسعيد من ذل الله وسأل العافية، فإنه لا يوهب العافية على الإطلاق إذ لا بد من بلاء، ولا يزال العاقل يسأل العافية لتغلب على جمهور أحواله فيقرب الصبر على يسير البلاء.
وفي الجملة ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا سبيل إلى محبوباته خالصة، ففي كل جرعة غصص، وفي كل لقمة شجا:
وكم من يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وعلى الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار، وقل أن تجري الأقدار إلا على خلاف مراد النفس: فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر، وتسهيل الأمر، ليذهب زمان البلاء سالماً من شكوى، ثم يستغيث الله تعالى سائلاً العافية.
فأما المتجلد فما عرف الله قط. نعوذ بالله من الجهل به، ونسأله عرفانه، إنه كريم مجيب.

فصل طريق النبوة الطريق الأمثل
الجادة السليمة والطريق القويمة، الاقتداء بصاحب الشرع. والبدار إلى الاستنان به، فهو الكامل الذي لا ينقص فيه.
فإن خلقاً كثيراً انحرفوا إلى جادة الزهد، وحملوا أنفسهم فوق الجهد، فأفاقوا في أواخر العمر، والبدن قد نهك، وفاتت أمور مهمة من العلم وغيره.
وإن أقواماً انحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخر قدم، وقد فاتهم العمل به.
فطريق المصطفى صلى الله عليه وسلم العلم والعمل، والتلطف بالبدن.
كما أوصى عبد الله بن عمر، عمرو بن العاص وقال له: إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً.
فهذه هي الطريق الوسطى والقول الفصل.
فأما اليبس المجرد، فكم فوت من علم، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل.
فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق، والعابد جاهل بها، فيمشي العابد من الفجر إلى العصر، ويقوم العالم قبيل العصر فيلتقيان وقد سبق العالم فضل شوطه.
فإن قال قائل: بين لي هذا، قلت: صورة التعبد خدمة لله تعالى، وذل له، وربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة، لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود الكرامة على يده، وأنه مستحق تقبيل يده، أو إنه خير من كثير من الناس، وذلك كله لقة العلم.
وأعني بالعلم فهو أصول العلم، لا كثرة الرواية ومطالعة مسائل الخلاف.
فإذا طالع العالم الأصولي، سبق هذا العابد بحسن خلق، ومداراة الناس، وتواضعه في نفسه، وإرشاده الخلق إلى الله تعالى.
فيعسر هذا على العابد، وهو في ليل جهله بالحال راقد.
ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف فحبس زوجته عن مطلوب ولم يطلقها، وصار كالتي حبست الهرة فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض.
ومن تأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى كاملاً من الخلق يعطي كل ذي حق حقه.
فتارة يمزح، وتارة يضحك، ويداعب الأطفال، ويسمع الشعر، ويتكلم بالمعاريض، ويحسن معاشرة النساء، ويأكل ما قدر عليه وأتيح له، وإن كان لذيذاً كالعسل. ويستعذب له الماء، ويفرش له في الظل، ولم ينكر ذلك.
ولم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة والمتزهدين، ومن منع النفس شهواتها على الإطلاق.
فقد كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقبل، ويمص اللسان، ويطلب المستحسنات.
فأما أكل خبز الشعير ووزن المأكول، وتجفيف البدن، وهجر كل مشتهى، فإنه تعذيب للنفس، وهدم للبدن، لا يقتضيه عقل، ولا يمدحه شرع.
وإنما اقتنع أقوام بالقليل، لأسباب مثل أن حدثت شبهة فتقللوا، أو اختلط طعام بطعام فتورعوا.
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يوفي العبادة حقها بقيام الليل والاجتهاد في الذكر.
فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق وبشرعته التي لا شوب فيها. ودع حديث فلان وفلان من الزهاد، واحمل أمرهم على أحسن محمل، وأقم لهم الأعذار مهما قدرت.
فإن لم تجد عذراً فهم محجوجون بفعله، إذ هو قدوة الخلق، وسيد العقلاء.
وهل فسد الناس إلا بالإنحراف عن الشريعة.
ولقد حدثت آفات من المتصوفة والمتزهدين، خرقوا بها شبكة الشريعة وعبروا، فمنهم من يدعي المحبة والشوق، ولا يعرف المحبوب.
فتراه يصيح ويستغيث ويمزق ثيابه ويخرج عن حد الشرع بدعواه ومضمونها.
ومنهم من حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال أريد أفضل من ذلك فقال: لا أفضل.

وفيهم من خرج إلى السياحة فأفات نفسه الجماعة، وفيهم من دفن كتب العلم وقعد يصلي ويصوم، ولم يعلم أن دفنها خطأ قبيح، لأن النفس تغفل وتحتاج إلى التذكير في كل وقت، ونعم المذكر كتب العلم.
وإنما دخل إبليس على كل قوم منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح، ليس العابد في الظلمة.
وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى جبل الآكام، فقال هذه - هوكلة - وهذه كلمة عامية معناها حب البطالة.
وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة، وأتباعة جنازة، وعيادة مريض.
إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام.
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه ؟.
بالله لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة.
على أنه لو فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلاة والصوم فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة.
والعمل بالبدن سعي الآلات الظاهرة، والعلم سعي الآلات الباطنة من العقل والفكر والفهم، فلذلك كان أشرف.
فإن قلت: كيف تذم المعتزلين للشر وتنفي عنهم التعبد ؟ قلت: ما أذمهم، بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي والآفات التي سببها قلة العلم، وحملوا على أنفسهم التي ليست لهم، وعن غير إذن الآمر ما لم يجز.
حتى أن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة، وحتى قال بعض الحمقى: دخلت الحمام فوجدت غفلة، فآليت أن لا أخرج حتى أسبح كذا وكذا تسبحية، فطال الأمر فمرضت.
وهذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له، ومن المتصوفة والزهاد من قنع بصورة اللباس، وركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب.
طهر الله الأرض منهم وأعان العلماء عليهم.
فإن أكثر الحمقى معهم، فلو أنكر عالم على أحدهم مال العوام على العالم بقوة الجهل.
ولقد رأيت كثيراً من المتعبدين وهو في مقام العجائز يسبح تسبيحات لا يجوز النطق بها، ويفعل في صلاته ما لم ترد به السنة.
ولقد دخلت يوماً على بعض من كان يتعبد، وقد أقام إماماً وهو خلفه في جماعة يصلي بهم صلاة الضحى ويجهر، فقلت لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة النهار عجماء فغضب ذلك الزاهد وقال: كم ينكر هذا علينا !.
وقد دخل فلان وأنكر فلان وأنكر، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام. فقلت: واعجباً ومن قال لكم لا تناموا، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال به: قم ونم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام، ولعله ما مضت عليه ليلة إلا ونام فيها.
ولقد شاهدت رجلاً كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور وهو يمشي في الجامع مشياً كثيراً دائماً، فسألت ما السبب في هذا المشي ؟ فقيل لي حتى لا ينام.
وهذه كلها حماقات أوجبتها قلة العلم، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم اختلط العقل، وفات المراد من التعبد لبعد الفهم.
ولقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلاً اسمه كثير دخل عليهم الجامع فقال: إني عاهدت الله على أمر ونقضته، وقد جعلت عقوبتي لنفسي أن لا آكل شيئاً أربعين يوماً، قال: فمكث منها عشرة أيام قريب الحال يصلي في جماعة، ثم في العشر الثاني بان ضعفه وكان يداري الأمر، ثم صار في العشر الثالث يصلي قاعداً، ثم استطرح في العشر الرابع، فلما تمت الأربعون جيء بنقوع فشربه فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلاة، ثم مات بعد أيام.
فقلت: يا الله العجب، انظروا ما فعل الجهل بأهله، ظاهر هذا أنه في النار، إلا أن يعفى عنه.
ولو فهم العلم وسأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل، وأن ما فعله بنفسه حرام.
ولكن من أعظم الجهل استبداد الإنسان بعلمه، وكل هذه الحوادث نشأت قليلاً قليلاً حتى تمكنت.
فأما الشرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيء، وما كانت الصحابة تفعل شيئاً من هذه الأشياء، وقد كانوا يؤثرون ويأكلون دون الشبع، ويصبرون إذا لم يجدوا. فمن أراد الاقتداء فعليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي ذلك الشفاء والمطلوب.
ولا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع اسمه، فيقول: قال: أبو يزيد وقال الثوري، فإن المقلد أعمى.

وكم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا، فمن فهم هذا المشار إليه طلب الأفضل والأعلى والله الموفق.

فصل أساس البدع
تأملت الدخل الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم والعمل فرأيته من طريقين قد تقدما هذا الدين وأنس الناس بهما.
فأما أصل الدخل في العلم والاعتقاد فمن الفلسفة.
وهو أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانعكاف على الكتاب والسنة، فأوغلوا في النظر في مذاهب أهل الفلسفة وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها العقائد.
وأما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية.
فإن خلقاً من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف، ولم ينظروا في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسمعوا ذم الدنيا وما فهموا المقصود.
فاجتمع لهم الإعراض عن علم شرعنا مع سوء الفهم للمقصود، فحدثت منهم بدع قبيحة.
فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالإعراض عن العلم، فدفنوا كتب وغسلوها.
وألزمهم زاوية التعبد فيما زعم، وأظهر لهم من الخزعبلات ما أوجب إقبال العوام عليهم فجعل إلههم هواهم.
ولو علموا أنهم منذ دفنوا كتبهم وفارقوا العلم انطفأ مصباحهم ما فعلوا.
لكن إبليس كان دقيق المكر يوم جعل علمهم في دفين تحت الأرض.
وبالعلم يعلم فساد الطريقين ويهتدي إلى الأصوب.
نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا إياه فإنه النور في الظلم، والأنيس في الوحدة، والوزير عند الحادثة.
فصل أهل الفراغ بلاء
أعوذ بالله من صحبة الباطلين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة.
وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب إنتهاؤه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت مهم بين أمرين.
إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي.
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.
ولقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر.
ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج؛ ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين والغلاء والرخص إلى غير ذلك.
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك " وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم " .
فصل العالم ومراحل حياته
رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة.
لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما خلقوا بعد.
ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم.
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد، فإنه ليس كل من صنف صنف.
وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله عز وجل عليها من شاء من عباده ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر، لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال الحواس.
وربما خان الفهم والعقل من قدر عمره، وإنما يكون التقدير على العادات الغالبة لا أنه لا يعلم الغيب فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين، ثم يبتدىء بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم.
هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع والحفظ وأعين على تحصيل المطالب.

فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة.
ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين، ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم ويسمع الحديث والعلم ويعلل التصانيف إلى أن يقع مهم إلى رأس السبعين، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل.
فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه، فذلك أشرف العدد للآخرة.
ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن اختطف في خلال ما ذكرنا فنية المؤمن خير من عمله.
وإن بلغ إلى هذه المنازل فقد بينا ما يصلح لكل منزل.
وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفناً، وقد بلغ جماعة من العلماء سبعاً وسبعين سنة، منهم أحمد بن حنبل، فإن بلغها فليعلم أنه على شفير القبر، وإن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.
فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة زاده وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس وفي بذل العلم، أو مخالطة الخلق.
فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض.
وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله.
وبعد فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه.
نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا ولا يتولى عنا إنه قريب مجيب.

فصل أثر العادة في الناس
رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع !.
فكم من رجل يوصف بالخير يبيع ويشتري، فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح من غير تقليد لإمام، أو عمل برخصة، عادة من القوم، واستثقالاً للاستفتاء.
ونرى خلقاً يحافظون على صلاة الرغائب ويتوانون عن الفرائض.
وكثيراً من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس، ثم يتصدقون على الفقراء.
وربما توانوا عن إخراج الزكاة، وتكاسلوا باستعمال التأويلات فيها.
ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال.
ومنهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه.
ومنهم من يعلم أن أصل ماله حرام، ويصعب عليه فراقه للعادة.
وفيهم من يحلف بالطلاق ويحنث، ويرى الفراق صعباً.
فربما تأول، وربما تكاسل عن التأويل اتكالاً على عفو الله تعالى، ووعداً من النفس بالتوبة.
ومنهم من يرى أن استعمال الشرع ربما ان سبباً في تضييق معاشه.
وقد ألف التفسح فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف والعادات في الجملة هي المهلكة.
ولقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة، فاشتريت منه دكاناً وعقدت معه العقد، فلما افترقنا غدر بعد أيام.
فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى.
فأحضرته فحلف باليمين الغموس أنه ما بعته، فقلت ما تدور عليه السنة.
وأخذ يبرطل لمن يحول بيني وبينه من الظلمة.
فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فلا يلتفت معها إلى قول فقيه، يقول هذا ما قبض الثمن فكيف يصح البيع ؟.
وآخر يقول كيف يحوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه ؟.
وآخر يقول يجب عليك أن تقيله البيع.
فلما لم أقله أخذ هو وأقاربه يأخذون عرضي، ورأى أنه يحامي عن ملكه، ثم سعى بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني، ويبرطل ما لا لخلق الظلمة، فبالغوا وسعوا.
إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم.
ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم: لا تحكم له، فوقف عن الحكم بعد ثبوب البينة عنده، فرأيت من هذا الحاكم ومن حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظاً لرياستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظاً لماله، لجهله وعلم هؤلاء، فينحل لي من الأمر أن العادات غلبت على الناس، وأن الشرع أعرض عنه.
وإن وقعت موافقة للشرع فكما اتفق أو لأجل العادة.
فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم عادة غالبة !!.
فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي ويحافظ على الصلاة، ثم لما خاف فوت غرضه ترك الشرع جانباً.
وكم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون ويطلبون العلم، غير أنهم لما خافوا على رياستهم أن تزول تركوا جانب الدين.

ثم إن الله تعالى نصرني عليه وتقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت عنده، ودارت السنة فمات الشيخ على قل، فنسأله عز وجل التوفيق للانقياد لشرعه ومخالفة أهوائنا.

فصل شرف العلم وتنزيهه
ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزاً ولا شرفاً ولا راحة ولا سلامة أفضل من العزلة.
فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق.
لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قدر المخالط لهم، ولهذا عظم قدر الخلفاء لاحتجابهم.
وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصاً في أمر مباح هان عندهم.
فالواجب عليه صيانة علمه وإقامة قدر للعلم عندهم.
فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك، فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك.
وقال سفيان الثوري: تعلموا هذا العلم واكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب.
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: لولا حدثان قومك في الكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين.
وقال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب: رأيت الناس يكرهونهما فتركتها.
ولا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء، إنما هذه صيانة للعلم.
وبيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها قل عندهم وإن كان مباحاً، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية.
فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظاً لهم، ومتى أراد مباحاً فليستتر به عنهم.
وهذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد قدم الشام راكباً على حمار ورجلاه من جانب، فقال: يا أمير المؤمنين يتلقاك عظماء الناس، فما أحسن ما لاحظ.
إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال: إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العز في غيره أذلكم.
والمعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال، وإن كانت الصور تلاحظ.
فإن الإنسان يخلو في بيته عرياناً، فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين وعمامة ورداء.
ومثل هذا لا يكون تصنعاً ولا ينسب إلى كبر.
وقد كن مالك بن أنس يغتسل ويتطيب ويقعد للحديث، ولا تلتفت يا هذا إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين، فإن العزلة أصون للعالم والعلم، وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه.
وقد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة، وعن قول هذا سكتوا عنه، وهذا فعل الحازم.
فإن أردت اللذة والراحة فعليك أيها العلم بقعر بيتك، وكن معتزلاً عن أهلك يطب لك عيشك، واجعل للقاء الأهل وقتاً، فإذا عرفوه تصنعوا للقائك، فكانت المعاشرة بذلك أجود.
وليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك.
واحترس من لقاء الخلق وخصوصاً العوام.
واجتهد في كسب يعفك عن الطمع، فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا.
وقد قيل لابن المبارك مالك لا تجالسنا ؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه.
ومتى رزق العالم الغني عن الناس والخلوة، فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذته.
وإن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات.
نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكال، وتوفيقاً لصالح الأعمال، فالسالكون طريق الحق أفراد.
فصل من قصص الحياة
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ.
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرط في اكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللذات.
فكلهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعفت، أو فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات.
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال واأسفا على ما جنيت.
وإن لم يكن له إفاقة صار متأسفاً على فوات ما كان يلتذ به.
فأما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم.
هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب.
وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها كما قال الشاعر:
اهتز عند تمني وصلها طريا ... ورب أمنية أحلى من الظفر

ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه.
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم. وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم.
فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك.
فقلت له: أيها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف.
وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جزى اللّه المسير إليه خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزاد
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.
كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء.
فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم.
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود.
وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدري بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة، ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله عز وجل.
ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب.
غير أنه عز وجل صانني، وعلمني، وأطلعني من أسرار العلم معرفته، وإيثار الخلوة به، حتى أنه لو حضر معي معروف وبشر لرأيتها رحمة.
ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط حتى رأيت أقل الناس خيراً مني.
وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني.
ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة.
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه.
وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه، لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل، والأم لم تلتفت إلي. فركز في طبعي حب العلم.
وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى قوم أمري.
وكم قد قصدني عدو فصده عني. وإذ رأيته قد نصرني وبصرني ودافع عني ووهب لي، قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي.
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس.
وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل.
ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.
ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه. أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت: فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا عذب من دل عليه.
إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه وسلم. أقتل ابن أبي المنافق فقال: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. إلهي فاحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك.
حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي.
لا تبر عوداً أنت ريّشته ... حاشا لباني الجود أن ينقضا
لا تعطش الزرع الذي نبته ... بصوب إنعامك قد روضا

فصل اللذة بين الواقع والخيال
من الأمور التي تخفي على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده امرأة أو جارية يهواها هوى شديداً أنه لا يلتذ في الدنيا.
فإذا صور محبوباً مملوكاً تخايل لذة عظيمة.
وإذا كان عنده من لا يميل إليه اعتقد نفسه محروماً.
وهذا أمر شديد الخفاء، فينبغي أن يوضح. وهو أن المملوك مملول.
ومتى قدر الإنسان على ما يشتهيه مله ومال إلى غيره.
تارة لبيان عيوبه التي تكشفها المخالطة فإنه قد قال الحكماء. العشق يعمي عن عيوب المحبوب.
وتارة لمكان القدرة عليه، والنفس لا تزال تتطلع إلى ما لا تقدر عليه.
ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدرة فإنها قد تكون ولكن ناقصة بمقدار القدرة، وإنما يقويها تجني المحبوب. فيكون تجنيه كالامتناع، أو امتناعه من الموافقة.

فإذا صفا فلا بد من أكدار، منها الحذر عليه، ومنها قلة ميله إلى هذا العاشق، وربما يتكلف القرب منه ويعلم الإنسان بقلة ميل محبوبه إليه فينغص بل يبغض.
فإن خاف منه خيانة احتاج إلى حراسة فقويت النغص.
وأصلح المقامات التوسط، وهو اختيار ما تميل النفس إليه ولا يرتقي إلى مقام العشق، فإن العاشق في عذاب. وإنما يتخايل الفارغ من العشق التذاذ العاشق وليس كذلك. فإنه كما قيل:
وما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى عذب المذاق
تراه باكياً في كل وقت ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التداني ... وتسخن عينه عند الفراق

فصل تفاوت الهمم والآمال
ما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته. فإن من علت همته يختار المعالي.
وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب.
وإني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنابه في عذاب، ولا أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر عم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل.
ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فإذا بها في فن واحد. ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة. وكان أبو مسلم الخراساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع.
قيل: فما الذي يبرد غليلك. قال: الظفر بالملك.
قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال.
قيل: فاركب الأهوال، قال. العقل مانع.
قيل: فما تصنع ؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خطراً لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات. فكم فتك وقتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا.
ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين.
ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. وكان المتنبي يقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما لهمدى ينتهي بي في مراد أحدّه
يرى جسمه يكسي شفوفاً تربّه ... فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.
ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً. وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها.
وأريد استقصاء كل فن، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه.
فإن عرض لي ذو همة في فن قد بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره. فلا أعد همته تامة.
مثل المحدث فاته الفقه. والفقيه فاته علم الحديث. فلا أرى الرضى بنقصان من العلوم إلا حادثاً عن نقصه الهمة.
ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.
ثم إني أروم الغني عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب. وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف. وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة.
وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد.
فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا.
وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب.
ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي.
فواقلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف. وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.
وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم.
ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.

غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل.
وربما كانت الحيرة في الطلب غليلاً إلى المقصود. وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة.
وإن بلغ همي مراده... وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله.

فصل الترويح عن النفوس
لما سطرت هذا الفصل المتقدم، رأيت أذكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه.
وهو أنه لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف. فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن.
وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السباح في طلب الدر صعود.
ودوام السير يحسر الإبل، والمفازة صعبة ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى، وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.
فأما من جرد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عواره، فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقيل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ولو أخرجها الإنسان لفظها.
ولو فكر في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته، فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه كما قال لبيد:
فأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وقال البستي:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... تجمّ وعللّه بشيء من الزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما يعطي الطعام من الملح
وقال أبو علي بن الشبل:
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى ... وعداً، فخيرات الجنان عدات
واجعل رجاءك دون يأسك جنة ... حتى تزول بهمّك الأوقات
واستر عن الجلساء بثك، إنما ... جلساؤك الحسّاد والشّمات
ودع التوقع للحوادث إنهللحي من قبل الممات ممات
فالهم ليس له ثبات مثل ما ... في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها ... لم تصف للمتيقظين حياة
وقال أيضاً:
يحفظ الجسم تبقى النفس فيه ... بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممض فلا تمتها ... ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء ... وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا ... وبالتركيب منفعة الدواء
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس.
وما زالت النفوس ترى الظاهر. وإنما الفكر والعقل مع الغائب.
ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش.
ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم ولا صنف.
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه، فإن الأول في مقام العزيمة، وهذا في مكان الرخصة.
ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل معك على قدر صدق الطلب، وقوة اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق.
فصل في تعليم التدبير
قوام الآدمي بشيئين الحرارة والرطوبة.
ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها، فالآدمي محتاج إلى تحصيل خلف للمتحلل.
فأبدان النشوء تغتذي بأكثر مما يتحلل منها.
والأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها والأبدان التي قد أخذت في الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به. ولا تتشبع مما تغتذي به، وينبغي للناشيء البالغ أن يتحفظ في النكاح، لأنه بعفته يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر.
وأما المتوسط والواقف السن فينبغي أن يحذر فضول الجماع، فإن حصل له مثل ما يخرج منه فأسرف، فاللازم أخذ من الحاصل، ويوشك أن يسرع النفاد.
وأما الشيخ فترك النكاح كاللازم له، خصوصاً إذا زاد علو السن، لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبداً.

ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون الفاضل مدخراً لوقت العجز: وليحذر السرف، فإن العدل هو الأصلح.
ثم ينظر في الزوجة، والمطلوب منها شيئان: وجود الولد، وتدبير المنزل، فإذا كانت مبذرة فعيب لا يحتمل، فإن انضمت صفة العقر فلا وجه للإمساك.
إلا أن تكون مستحسنة الصورة، فإن ضم إليها عقل وعفاف حسن الإمساك.
وإن كانت مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم.
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة، فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده.
ولينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه فإنه يربح محبته ومنهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره وليعرض عن الذنوب.
فإن لم يمكن عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن وليجعل للمماليك زمن راحة.
والعجب ممن يعني بدابته وينسى مداراة جاريته، وأجود المماليك الصغار، وكذلك الزوجات، لأنهم متعودون خلق المشتري.
وليحفظ نفسه بالهيبة من الإنحراف مع الزوجة، ولا يطلعها على ماله، فإنها سفيهة تطلب كثرة الإنفاق.
وأما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد مستقبلهم.
ومتى كان الصبي ذا أنفة - حيياً - رجى خيره.
وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته للجهال والسفهاء، فإن الطبع لص.
وليحذر الصبي من الكذب غالة التحذير، ومن المخالطة للصبيان المعوجين.
وليوصه بزيادة البر للوالدين، وليحفظ من مخالطة النساء.
فإذا بلغ فليزوج بصبية لم تعرف غيره فينتفعان.
هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا.
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث.
وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة، فإذا بلغ تشتت همته، فليضرب تارة، ويرشى أخرى، ليبلغ وقد حصل محفوظات سنية.
وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن، ثم الفقه مذهباً وخلافاً، وما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن.
وليحذر من عادات أصحاب الحديث، فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر وما حصلوا فهم شيء.
فإذا بلغوا سناً طبوا جواز فتوى، أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقرى.
لأنهم يحفظون بعد كبر السن فلا يحصل مقصودهم، فالحفظ في الصبا للمهم من العلم أصل عظيم.
وقد رأينا كثيراً ممن تشاغل بالمسموعات وكتابة الأجزاء ورأى الحفظ صعباً فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك.
فلما احتاج إلى نفسه قعد يتحفظ على كبر فلم يحصل مقصوده.
فاليقظة لفهم ما ذكرت، وانظر في الإخلاص، فما ينفع شيء دونه.

فصل عقبى التفريط
اشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس وسبعين، وكلما جاء الشعير زاد السعر.
وتدافع الناس على اشتراء الطعام فاغتبط من يستعبد كل سنة يزرع ما يقوته، وفرح من بادر في أول النيسان إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه.
وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان.
وبان ذل نفوس كانت عزيزة.
فقلت: يا نفس خذي من هذه الحال إشارة، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة.
وكل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته، فتنبهي.
فقد نبهت ناساً الدنيا على أمر الآخرة.
وبادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن.
فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد.
وما لك زرع، وحاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار.
فصل هاجس مقلق
تأملت حالة أزعجتني، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه، وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان لا يؤثره؛ فيبقى متحيراً يقول: ما حيلتي.
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه وهو لا يريدني.
وربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل.
ومن هذا خاف الحسن فقال: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: لا غفرت لك.
فليس إلا القلق والخوف لعل سفينة الرجا تسلم - يوم دخلوها الشاطىء - من جرف.
فصل عدد الأحاديث

جرى بيني وبين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد: صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع مائة ألف حديث.
فقلت له: إنما يعني به الطرق، فقال: لا بل المتون، فقلت: هذا بعيد التصور.
ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاماً ينصر ما قال ذلك الشخص، وهو أنه قال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل: كيف يجوز أن يقال: إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل وامرأة صحبوه نيفاً وعشرين سنة بمكة ثم بالمدينة حفظوا أقواله وأفعاله، ونومه ويقظته وحركاته وغير ذلك سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة.
واحتج بقول أحمد: صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة ألف حديث وكسر، وأن إسحاق بن راهويه كان يملي سبعين ألف حديث حفظاً، وأن أبا العباس بن عقدة قال: أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث.
قال ابن عقدة: وظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث.
قلت: ولا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون. وقد عجبت كيف خفي هذا على الحاكم وهو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل، وقد طاف الدنيا مرتين حتى حصله وهو أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة.
قال حنبل بن إسحاق: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفاً.
فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة.
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق. لأن السبع مائة الألف إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف أهملها ؟.
فإن قيل: فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة. ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفاً.
وكيف ضاعت هذه الجملة ؟ ولم أهملت وقد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها ورمى الباقي ؟.
وأصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع والكذب.
وكذلك قال أبو داود: جمعت كتاب السنن من ستمائة ألف حديث.
ولا يحسن أن يقال: إن الصحابة الذين رووها ماتوا ولم يحدثوا بها التابعين.
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث، وما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلاً.
ومعلوم أنه لو جمع الصحيح والمحال الموضوع وكل منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغ خمسين ألفاً.
فأين الباقي ؟.
ولا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين؛ فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم ودونوها وأخذوا بها، ولا وجه لتركها، ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق، وأن ما توهمه الحاكم فاسد.
ولو عرض هذا الاعتراض عليه، وقيل له: فأين الباقي لم يكن له جواب.
لكن الفهم عزيز. والله المنعم بالتوفيق.
ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وأن ما أخرج كالأنموذج، وإلا فكان يطول.
وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسمعيلي، وحكي عن البخاري أنه قال: ما تركت من الصحيح أكثر.
وإنما يعني الطرق، يدل على ما قلته أن الدارقطني وهو سيد الحفاظ جمع ما يلزم البخاري ومسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما قالوا لأخرج مجلدات، ثم قوله: ما يلزم البخاري دليل صريح على ما قلته، لأنه من أخرج الأنموذج لا يلزمه شيء.
وكذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتاباً جمع فيه ما يلزم البخاري إخراجه فذكر حديث الطائر فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال.
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة الحديث.
وإنما وقع لقلة الفقه والفهم.
إن البخاري ومسلم تركا أحاديث أقوام ثقات لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص الأكثرون من الحديث وزادوا هم.
ولم كان ثم فقه لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة.
وتركوا أحاديث أقوام لأنهم انفردوا بالرواية عن شخص. ومعلوم أن انفراد الثقة لا عيب فيه، وتركوا من ذلك الغرائب، وكل ذلك سوء فهم.
ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، فقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة ولا يقبل القدح حتى يبين سببه.
وكل من لم يخالط الفقهاء وجهد مع المحدثين تأذى وساء فهمه. فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين.

فصل فقه اللغة

اعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفس أو المصنوع لا بد له من صانع، وأن المبني لا بد له من بان، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة.
ومثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل، وألهم العرب النطق بالصواب من غير لحن، فهم يفرقون بين المرفوع والمنصوب بأمارات في جبلتهم، وإن عجزوا عن النطق بالعلة.
قال عثمان بن جني: سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي فقلت له: كيف تقول ضربت أخوك ؟ فقال: أقول ضربت أخاك.
فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول أخوك أبداً.
قال: فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع، فقلت: أليس زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً، فقال إيش هذا، اختلفت جهتها في الكلام.
وهذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه، وإنه ليس استرسالاً ولا ترخيماً.
قال عثمان: واللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والنحو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتكسير وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها.

فصل الأيقاظ والغافلون
تدبرت أحوال الأخيار والأشرار فرأيت سبب صلاح النظر، وسبب فساد الأشرار إهمال النظر.
وذاك أن العاقل ينظر فيعلم أنه لا بد من صانع، وأن طاعته لازمة، ويتأمل معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم قياده إلى الشرع.
ثم ينظر فيما يقربه إليه. ويزلفه لديه.
فإذا شق عليه إعادة العلم تأمل ثمرته فسهل ذلك.
وإذا صعب عليه قيام الليل فكذلك.
وإذا رأى مشتهى تأمل عاقبته فعلم أن اللذة تفنى، والعار والإثم يبقيان؛ فيسهل عليه الترك.
وإذا اشتهى الانتقام ممن يؤذيه ذكر ثواب الصبر وندم الغضبان على أفعاله في حال الغضب.
ثم لا يزال يتأمل سرعة ممر العمر فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل فينال مناه.
وأما الغافل فإنه لا يرى إلا الشيء الحاضر.
فمنهم من لم يتأمل في معنى المصنوع وإثبات الصانع، فجحدوا وتركوا النظر وجحدوا الرسل وما جاءوا به، ونظروا إلى العاجل، ولم يتفكروا في مبتداه ومنتهاه.
فليس عندهم من عرفان المطعم إلا الأكل.
ولو تأملوا كيف أنشىء ؟ ولماذا جعل حافظاً للأبدان ؟ لعرفوا حقائق الأمور.
وكذلك كل شهوة تعرض لهم لا ينظرون في عاقبتها بل في عاجل لذتها.
وكم قد جنت عليهم من وقوع حد وقطع يد وفضيحة. فتعجيل اللذة يفوت الفضائل، ويحصل الرذائل.
وسببه عدم النظر في العواقب، وهذا شغل العقل، وذاك المذموم شغل الهوى.
نسأل الله عز وجل يقظة ترينا العواقب، وتكشف لنا الفضائل والمعائب، إنه قادر على ذلك.
فصل قوة الهمة
خلقت لي همة عالية تطلب الغايات.
بلغت السن وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال.
فأنكرت علي العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب.
فقلت إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات.
وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رجيلاً.
وقيل لآخر جئناك في حاجة لا ترزؤك، فقال هلا طلبتم لها سفاسف الناس ؟.
فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا فلم لا نطمع في فضل كريم قادر ؟.
وقد سألته هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة خمس وسبعين فإن مد لي أجلي وبلغت ما أملته نقلت هذا الفصل إلى ما بعد وبيضته، وأخبرت ببلوغ آمالي.
وإن لم يتفق ذلك فسيدي أعلم بالمصالح، فإنه لا يمنع بخلاً، ولا حول إلا به.
فصل فساد التصوف
ما أقل من يعمل الله تعالى خالصاً لأن أكثل الناس يحبون ظهور عباداتهم.
وسفيان الثوري كان يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي وكانوا يسترون أنفسهم.
واليوم ثياب القوم تشهرهم، وقد كان أيوب السختياني يطول قميصه حتى يقع على قدميه، ويقول كانت الشهرة في التطويل، واليوم الشهرة في التقصير.
فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق ومحو الجاه من قلوبهم بالتعمل وإخلاص القصد وستر الحال وهو الذي رفع من رفع.

فقد كان أحمد بن حنبل يمشي حافياً في وقت ونعلاه في يديه ويخرج للقاط، وبشر يمشي حافياً على الدوام وحده، ومعروف يلتقط النوى.
واليوم صارت الرياسات أكثر من كل حاجة، وما تتمكن الرياسات حتى تتمكن من القلب الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الخلق، فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا.
ولقد رأيت من الناس عجباً، حتى من يتزي بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر علي، وإن رآني أزور فقيراً عظم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه.
فقلت: فواعجباً هذه كانت طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.
فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه.
لا جرم والله سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق.
فكم ممن يتعب في تربية ناموس ولا يلتفت إليه ولا يحظى بمراده، ويفوته المراد الأكبر.
فالتفتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق. ولتكن عمدتكم الاستقامة مع الحق، فبذلك صعد السلف وسعدوا.
وإياكم وما الناس عليه اليوم، فإنه بالإضافة إلى يقظة السلف نوم.

فصل القدر السابق
والله ما ينفع تأديب الوالد إذا لم يسبق اختيار الخالق لذلك الولد، فإنه سبحانه إذا أراد شخصاً رباه من طفولته وهداه إلى الصواب، ودله على الرشاد، وحبب إليه ما يصلح، وصحبه من يصلح.
وبغض إليه ضد ذلك، وقبح عنده سفساف الأمور، وعصمه من القبائح، وأخذ بيده كلما عثر.
وإذا أبغض شخصاً تركه دائم التعثير متخبطاً في كل حال، ولم يخلق له همة لطلب المعالي، وشغله بالرذائل عن الفضائل، وإن قال لم خصصت بهذا، قال الخطاب الذي لا يجاب " بما كسبت أيديكم " .
فصل من الأدلة على الله
من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها، فقد دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع، فلم يحجبها ستر وإن تكاثف ولا يعرف مع هذا ماهيتها ولا كيفيتها ولا جوهرها ولا محلها.
ولا يفهم من أين جاءت، ولا يدري أين تذهب، ولا كيف تعلقت بهذا الجسد ؟؟.
وهذا كله يوجب عليها أن لها مدبراً وخالقاً، وكفى بذلك دليلاً عليه. إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها عليها. فسبحانه سبحانه.
فصل زهد الصوفية في العلم
سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذين فهموا مقصود الأمر ومراد الشارع، فهم حفظة الشريعة فأحسن الله جزاءهم.
وإن الشيطان ليتجافاهم خوفاً منهم، فإنهم يقدرون على أذاه، وهو لا يقدر على أذاهم.
ولقد تلاعب بأهل الجهل والقليل الفهم.
وكان من أعجب تلاعبه أن حسن لأقوم ترك العلم ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به.
وهذا لو فهموه قدح في الشريعة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بلغوا عني، وقد قال له ربه عز وجل: " بلغ " .
فإذا لم يتشاغل بالعلم فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق.
ولقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد، كبشر الحافي، فإنه قال لعباس بن عبد العظيم: لا تجالس أصحاب الحديث، وقال لإسحاق بن الضيف: إنك صاحب حديث فأحب أن لا تعود إلي.
ثم اعتذر فقال: إنما الحديث فتنة إلا لمن أراد الله به.
وإذا لم يعمل به فتركه أفضل. وهذا عجب منه.
من أين له أن طلابه لا يريدون الله به، وأنهم لا يعملون به ؟.
أوليس العمل به على ضربين: عمل بما يجب، وذلك لا يسع أحداً تركه، والثاني نافلة ولا يلزم.
والتشاغل بالحديث أفضل من التنفل بالصوم والصلاة.
وما أظنه أراد إلا طريقه في دوام الجوع والتهجد، وذلك شيء لا يلام تاركه.
فإن كان يريد أن لا يوغل في علوم الحديث فهذا خطأ لأن جميع أقسامه محمودة.
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟.
فالله الله في الالتفات إلى قول من ليس بفقيه، ولا يهولنك تعظيم اسمه فالله يعفو عنه.
فصل جانب الله أحق أن يرعى
العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل وإن غضب الخلق.
وكل من يحفظ جانب المخلوقين ويضيع حق الخالق يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه فيسخطه عليه.
قال المأمون لبعض أصحابه: لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك.
ولما بالغ طاهر بن الحسين فيما فعل بالأمين وفتك به وصلب رأسه وإن كان ذلك عن إرادة المأمون، ولكن بقي أثر ذلك في قلبه، فكان المأمون لا يقدر أن يراه.

ولقد دخل عليه يوماً فبكى المأمون، فقال له طاهر: لم تبك لا أبكى الله عينك، فلقد دانت لك البلاد ؟.
فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وسره حزن، ولن يخلو أحد من شجن.
فلما خرج طاهر نفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم، وسأله أن يسأل المأمون لم بك ؟ فلما تغدى المأمون قال: يا حسين اسقني.
قال: لا والله ولا أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر ؟.
قال: يا حسين وكيف عنيت بهذا حتى سألت عنه ؟ قال: لغمي بذلك.
قال: يا حسين أمر إن خرج من رأسك قتلتك.
قال: يا سيدي ومتى أخرجت لك سراً ؟.
قال: إني ذكرت أخي محمداً وما ناله من الذلة فحنقتني العبرة فاسترحت إلى إفاضتها ولن يفوت طاهراً مني ما يكره.
فأخبر حسين طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد.
فقال له: إن المعروف عندي ليس بضائع فغيبني عن عينه. قال: سأفعل.
فدخل على المأمون فقال: ما بت البارحة. قال: ولم ؟ قال: لأنك وليت غسان بن عباد خراسان. وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه.
قال: فمن ترى ؟ قال: طاهر بن الحسين فعقد له فمضى، فبقي مدة ثم قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة.
فقال له صاحب البريد: ما دعوت لأمير المؤمنين قال: سهو فلا تكتب.
ففعل ذلك في الجمعة الثانية والثالثة. فقال له: لا بد أن أكتب لئلا يكتب التجار ويسبقوني.
قال: اكتب فكتب، فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد وقال: إنه لم يذهب علي احتيالك في أمر طاهر، وأنا أعطي الله عهداً إن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي لتذمن عقباك.
فشخص وجعل يتلوم في الطريق ويعتل بالمرض، فوصل إلى الري وقد بلغته وفاة طاهر.
قلت: ولما خرج الراشد من بغداد وأرادوا تولية المقتفي شهد جماعة من الشهود بأن الراشد لا يصلح للخلافة فنزعوه وولوا المقتفي.
فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود فذمه، وقال: كان فيمن أعان على أبي جعفر.
وعلى ضد هذا كل من يراعي جانب الحق والصواب، يرضى عنه من سخط عليه.
ولقد حدثني الوزير ابن هبيرة أن المستنجد بالله كتب إليه كتاباً وهو يومئذ ولي عهد، وأراد أن يستره من أبيه قال فقلت: للواصل به والله ما يمكنني أقرؤه لا أجيب عنه.
فلما ولي الخلافة دخلت عليه فقلت: أكبر دليل على صدقي وإخلاصي أني ما حابيتك في أبيك. فقال: صدقت أنت الوزير.
وحدثني بعض الأصدقاء أن قوماً ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم ليستخلص، فقال المسترشد لصاحب المخزن: خلصه لهم وخذ ما ضمنوا لنا.
فأحضر ابن الرطبي وعرض الأمر عليه، فقال: هذا أمر بظلم وما أحكم فيه.
فقال: إن السلطان قد تقدم، قال ما أفعل ؟.
فأحضر قاضياً آخر فبت الحكم، فأخبر الخليفة بالحال.
فقال: أما ابن الرطبي فيشكر على ما قال. وأما الآخر فيعزل.
وذلك لأنه بان له أن الحق ما قاله ابن الرطبي.
وكذلك ما طلبه السلطان من أن يلقب ملك الملوك، فاستفتى الفقهاء فأجازوا ذلك وامتنع من إجازته الماوردي، فعظم قدره عند السلطان.
ومثل هذا إذا تتبع كثير.
فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق وإن سخط المخلوق، فإنه يعود صاغراً.
ولا يسخط الخالق، فإنه يسخط المخلوق فيفوت الحظان جميعاً.

فصل النظر إلى الحقائق
ينبغي للعاقل أن ينظر إلى الأصول فيمن يخالطه ويعاشره ويشاركه ويصادقه ويزوجه أو يتزوج إليه.
ثم ينظر بعد ذلك في الصور، فإن صلاحها دليل على صلاح الباطن.
أما الأصول فإن الشيء يرجع إلى أصله، وبعيد ممن لا أصل له أن يكون فيه معنى مستحسن.
وإن المرأة الحسناء إذا كانت من بيت رديء فقل أن تكون صينة، وكذلك أيضاً المخالط والصديق والمباضع والمعاشر.
فإياك أن تخالط إلا من له أصل يخاف عليه الدنس، فالغالب معه السلامة، وإن وقع غير ذلك كان نادراً.
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجل: أشر علي فيمن استعمل.
فقال: أما أرباب الدين فلا يريدونك أي لا يسألونك الرياسة، وأما أرباب الدنيا فلا تردهم، ولكن عليك بالأشراف، فإنهم يصونون شرفهم عما لا يصلح.
وقد روى أبو بكر الصولي قال: حدثني الحسين بن يحيى عن إسحاق قال: دعاني المعتصم فأدخلني معه الحمام، ثم خرج فخلا بي وقل: يا أبا إسحاق في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه.
إن أخي المأمون اصطنع قوماً فأنجبوا، واصطفيت أنا مثلهم فلم ينجبوا.

قلت: ومن هم ؟ قال: اصطنع طاهراً وابنه إسحاق وآل سهل فقد رأيت كيف هم.
واصطنعت أنا الأفشين فقد رأيت إلى ما آل أمره، وأسناش فلم أجده شيئاً، وكذلك إيتاخ ووصيف.
قلت: يا أمير المؤمنين، ههنا جواب، علي أمان من الغضب.
قال: لك ذاك. قلت: نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها، واستعملت فروعاً لا أصول لها فلم تنجب.
فقال: يا أبا إسحاق مقاساة ما مر بي طول هذه المدة أهون علي من هذا الجواب.
أما الصور، فإنه متى صحت البنية ولم يكن فيها عيب فالغالب صحة الباطن وحسن الخلق، ومتى كان فيها عيب فالعيب في الباطن أيضاً.
فاحذر من به عاهة كالأقرع والأعمى وغير ذلك، فإن بواطنهم في الغالب ردية.
ثم مع معرفة المخالط، وكمال صورته لا بد من التجربة قبل المخالطة، واستعمال الحذر لازم، وإن كان كما ينبغي.

فصل تجارب مع الحياة
ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب والتحرز مما يمكن أن يكون.
ومن الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه ولصحة بدنه، وربما لا يجري له مصحوبه فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك، فيكون مستعداً لتغير الأحوال.
وكذلك النظر في لذة تفنى وتبقى تبعتها وعارها، وإيثار الكسل والدعة لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل.
وكذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال، خصوصاً إذا أريد من ذكي فإنه يفطن بأقل تلويح.
فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر وتلطف في الاحتيال.
وقد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر، وأتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء.
مثل ما روي أن رجلاً من الأشراف كان لا يقوم لأحد ولا يخشى أحداً، فجاز عليه بعض الوزراء وحي فلم يرد ولم يقم.
فقال ذاك الوزير لرجل: أخبر فلاناً أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه، وقد أمر له بمائة ألف، فليحضر ليقبضها، فأخبره ذلك الرجل.
فقال الشريف: إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي، وإنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه.
فمتى وقع الإنسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه، ويسرق أغراضه بصنوف الاحتيال وينظر فيما يجوز وقوعه فليحترز منه. كما ينظر صاحب الرقعة النقلات.
وكثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فأعطوه وبالغوا في إكرامه ليصيدوه؛ فإن كان قليل الفطنة وقع الشرك، وإن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئاً فزاه ذلك احترازاً.
وأقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور، فإنك إذا آذيت شخصاً فقد غرست في قلبه عداوة، فلا تأمن تفريع تلك الشجرة، ولا تلتفت إلى ما يظهر من ود وإن حلف فإن قاربته فكن منه على حذر.
ومن التغفل أن تعاقب شخصاً أو تسيء إليه إساءة عظيمة وتعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد، فتراه ذليلاً لك طائعاً تائباً مقلعاً عما فعل، فتعود فتستطيبه وتنسى ما فعلت وتظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت.
فربما عمل لك المحن، ونصب لك المكايد، كما جرى لقصير مع الزباء، وأخباره معروفة.
فإياك أن تساكن من آذيته، بل إن كان ولا بد فمن خارج فما تؤمن الأحقاد.
ومتى رأيت عدوك فيه غفلة لا يثنيه مثل هذا فأحسن إليه، فإنه ينسى عداوتك ولا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه.
ومن الخور إظهار العداوة للعدو.... ومن أحسن التدبير التلطف بالأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم.... ولو لم يمكن ذاك كان اللطف سبباً في كف أكفهم عن الأذى، وفيهم من يستحيي لحسن فعلك فيتغير قلبه لك.
وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلاً قد شتمهم أهدوا إليه وأعطوه، فهم بالعاجل يكفون شهر، ويحتالون في تقليب قلبه، ويقع بذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا.
وكفى بالذهن الناظر إلى العواقب والتأمل لكل ممكن مؤدباً.
فصل في حفظ السر
رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به.
فواعجباً كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه.
وفي الحديث: استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان.
ولعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء، وترى بإفشائه راحة، خصوصاً إذا كان مرضاً أو هماً أو عشقاً.
وهذه الأشياء في إفشائها قريبة. إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضاً.
فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه، فإنه إذا ظهر بطل ما يريد أن يفعل، ولا عذر لمن أفشى هذا النوع.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزواً ورى بغيره.
فإن قال قائل: إنما أحدث من أثق به، قيل له وكل حديث جاوز الاثنين شائع، وربما لم يكتم صديقك.
وكم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب فنم الحديث إلى الصاحب وهرب ففات السلطان مراده.
وإنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره ولا يفشيه إلى أحد.
ومن العجز إفشاء السر إلى الولد والزوجة.
والمال من جملة السر. فإطلاعهم عليه يجر المتاعب إن كان كثيراً فربما تمنوا هلاك الموروث. وإن كان قليلاً تبرموا بوجوده.
وربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات.
وستر المصائب من جملة كتمان السر، لأن إظهارها يسر الشامت ويؤلم المحب.
وكذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن، لأنه إن كان كبيراً استهرموه وإن كان صغيراً احتقروه.
ومما قد انهال فيه كثير من المفرطين أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميراً أو سلطاناً فيقولون فيه فيبلغ ذلك إليه فيكون سبب الهلاك.
وربما رأى الرجل من صديقه إخلاصاً وافياً فأشاع سره. وقد قيل:
إحذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق ... فكان أدرى بالمضرة
ورب مفش سره إلى زوجة أو صديق فيصير بذلك رهيناً عنده، ولا يتجاسر أن يطلق الزوجة، ولا أن يهجر الصديق، مخافة أن يظهر سره القبيح.
فالحازم من عامل الناس بالظاهر، فلا يضيق صدره بسره. فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم لم يقدر أحد منهم أن يقول فيه ما يكره.
ومن أعظم الأسرار الخلوات، فليحذر الحازم فيها من الانبساط بمرأى من مخلوق. ومن خلق له عقل ثاقب دله على الصواب قبل الوصايا.

فصل في طريق الاستذكار
ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار له.
خصوصاً تكرار ما ليس لها في تكراره وحفظه حظ، مثل مسائل الفقه.
بخلاف الشعر والسجع، فإن لها لذة في إعادته وإن كان صعباً، لأنها تلتذ به مرة ومرتين.
فإذا زاد التكرار صعب عليها، ولكن دون صعوبة الفقه وغيره من المستحسنات عند الطبع، فتراها تخلد إلى الحديث والشعر والتصانيف والنسخ، لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره، فهو في المعنى كالماء الجاري، لأنه جزء بعد جزء.
وكذا من ينسخ ما يحب أن يسمعه أو يصنف، فإنه يلتذ بالجدة ويستريح من تعب الإعادة.
إلا أنه ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقراراً لا يزول.
ويجعل أوقات التعب من الإعادة للنسخ، ويحذر من تفلتها إلى النسخ عند الإعادة فيقهرها، فإنه يحمد ذلك حمد السري وقت الصباح.
وسيندم من لم يحفظ ندم الكسعي وقت الحاجة إلى النظر والفتوى.
وفي الحفظ نكتة ينبغي أن تلحلظ، وهو أن الفقيه يحفظ الدرس ويعيده ؟ ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لفظه، فينبغي أن يحكم الحفظ ويكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ.
فصل العزلة النافعة
ما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم والزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتاً بنكبة أو حسوداً على نعمة، أو من يأخذ عليك غلطاتك.
فيا للعزلة ما ألذها، سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت.
ثم خلا فيها القلب بالفكر، بعدما كان مشغولاً عنه بالمخالطة، فدبر أمر دنياه وآخرته، فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها.
وما رأيتها مثل ما يصنع المخالط، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس وكلامهم فيشتغل بها عما بين يديه. فمثله كمثل رجل يريد سفراً قد أزف، فجالس أقوماً فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق وما تزود.
فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل والسلامة من شر المخالطة كفى..
ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم والزاهد، فإنهما يعلمان مقصود العزلة وإن كانا لا في عزلة.
أما العالم فعلمه مؤنسه، وكتبه محدثه، والنظر في سير السلف مقومه، والتفكر في حوادث الزمان السابق فرجته.
فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته تضاعفت لذاته، واشتغل به عن الأكوان وما فيها.
فخلا بحبيبه وعمل معه بمقتضى علمه.
وكذلك الزاهد تعبده أنيسه، ومعبوده جليسه، فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن الخلق، وغابوا عنه.

إنما اعتزلا ما يؤذي. فهما في الوحدة بين جماعة. فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما، بل هما قدوة للمتعبدين وعلم للسالكين. ينتفع بكلامهما السامع. وتجري موعظتهما المدامع وتنتشر هيبتهما في المجامع.
فمن أراد أن يتشبه بأحدهما فليصابر الخلوة وإن كرهها ليثمر له الصبر العسل.
وأعوذ بالله من عالم مخالط للعالم، خصوصاً لأرباب المال والسلاطين يجتلب ويجتلب ويختلب ويختلب فما يحصل له شيء من الدنيا إلا وقد ذهب من دينه أمثاله.
ثم أين الأنفة من الذل للفساق ؟.
فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم ولا يدري مالمراد به.
وكأنه به وقد وقع في بادية جرز وقفر أمل مهلك في تلك البراري.
وكذلك المتزهد إذا خالط وخلط، فإنه يخرج إلى الرياء والتصنع والنفاق، فيفوته الحظان، لا الدنيا ونعيمها تحصل له ولا الآخرة.
فنسأل الله عز وجل خلوة حلوة، وعزلة عن الشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته، ويلهم كلا منا طلب نجاته. إنه قريب مجيب.

فصل مراحل الحياة وضروراتها
ما أبله من لا يعلم متى يأتيه الموت، وهو لا يستعد للقائه.
وأشد الناس بلهاً وتغفيلاً من عبر الستين وقارب السبعين - فإن ما بينهما هو معترك المنايا. ومن نازل المعترك استعد - وهو مع ذلك غافل عن الاستعداد.
قال الشباب لعلنا في شيبنا ... ندع الذنوب فما يقول الأشيب ؟
والله إن الضحك من الشيخ ما له معنى. وإن المزاح منه بارد المعنى.
وإن تعرضه بالدنيا وقد دفعته عنها يضعف القوي ويضعف الرأي.
وهل بقي لابن ستين منزل ؟.
فإن طمع في السبعين فإنما يرتقي إليها بعناء شديد إن قام دفع الأرض. وإن مشى لهث. وإن قعد تنفس.
ويرى شهوات الدنيا ولا يقدر على تناولها. فإن أكل كد المعدة، وصعب الهضم، وإن وطىء أذى المرأة، وقع دنفاً لا يقدر على رد ما ذهب من القوة إلى مدة طويلة. فهو يعيش عيش الأسير.
فإن طمع في الثمانين فهو يزحف إليها زحف الصغير.
وعشر الثمانين من خاضها ... فإن الملمات فيها فنون
فالعاقل من فهم مقادير الزمان. فإن فيما قيل قبل البلوغ صبي ليس على عمره عيار.
إلا أن يرزق فطنة ففي بعض الصبيان فطنة تحثهم من الصغر على اكتساب المكارم والعلوم.
فإذا بلغ فليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى وتعلم العلم.
فإذا رزق الأولاد فهو زمان الكسب للمعاملة. فإذا بلغ الأربعين انتهى تمامه. وقضى مناسك الأجل. ولم يبق إلا الانحدار إلى الوطن.
كأن الفتى يرقى من العمر معلماً ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ
فينبغي له عند تمام الأربعين أن يجعل جل همته التزود للآخرة. ويكون كل تلمحه لما بين يديه. ويأخذ في الاستعداد للرحيل.
وإن كان الخطاب بهذا لابن عشرين، إلا أن رجاء التدارك في حق الصغير لا في حق الكبير.
فإذا بلغ الستين فقد أعذر الله إليه في الأجل وجاز من الزمن أخطره. فليقبل بكليته على جمع زاده، وتهيئة آلات السفر.
وليعتقد أن كل يوم يحيا فيه غنيمة ما هي في الحساب.
خصوصاً إذا قوي عليه الضعف وزاد.
وكلما علت سنه فينبغي أن يزيد اجتهاده. فإذا دخل في عشر الثمانين فليس إلا الوداع وما بقي من العمر إلا أسف على تفريط أو تعبد على ضعف.
نسأل الله عز وجل يقظة تامة تصرف عنا رقاد الغفلات. وعملاً صالحاً نأمن معه من الندم يوم الانتقال، والله الموفق.
فصل الاشتغال بفلسفة الكلام
ما نهى السلف عن الخوض في الكلام إلا لأمر عظيم، وهو أن الإنسان يريد أن ينظر ما لا يقوى عليه بصره فربما تحير فخرج إلى الحجب.
لأنا إذا نظرنا في ذات الخالق حار العقل وبهت الحس، فهو لا يعرف شيئاً لا بداية له إنه لا يعلم إلا الجسم والجوهر والعرض، فإثبات ما يخرج عن ذاك لا يفهمه.
وإن نظرنا في أفعاله رأيناه يحكم البناء ثم ينقضه ولا نطلع على تلك الحكمة.
فالأولى للعاقل أن يكف كف التطلع إلى ما لا يطيق النظر إليه.
ومتى قام العقل فنظر في دليل وجود الخالق بمصنوعاته، وأجاز بعثة نبي واستدل بمعجزاته، كفاه ذلك أن يتعرض لما قد أغنى عنه.
وإذا قال القرآن كلام الله تعالى بدليل قوله: " حتى يسمع كلام اللّه " كفاه.

وأما من تحذلق فقال: التلاوة هي المتلو أو غير المتلو، والقراءة هي المقروء أو غير المقروء، فيضيع الزمان في غير تحصيل، والمقصود العمل بما فهم.
وقد حكي أن ملكاً كتب إلى عماله في البلدان إني قادم عليكم فاعملوا كذا وكذا، ففعلوا إلا واحداً منهم.
فإنه قعد يتفكر في الكتاب فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر ؟ أترى كتبه قائماً أو قاعداً ؟.
فما زال يتفكر حتى قدم الملك ولم يعمل مما أمره به شيئاً.
فأحسن جوائز الكل وقتل هذا.

فصل السعادة الحقة
لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها وما اللذة فيها إلا شرف العلم وزهرة العفة وأنفة الحمية، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق.
فأما الالتذاذ بالمطعم والمنكح فشغل جاهل باللذة، لأن ذاك لا يراد لنفسه بل لإقامة العوض في البدن والولد.
وأي لذة ي النكاح وهي قبل المباشرة لا تحصل.
وفي حال المباشرة قلق لا يثبت.
وعند انقضائها، كأن لم تكن، ثم تثمر الضعف في البدن.
وأي لذة في جمع المال فضلاً عن الحاجة. فإنه مستعبد للخازن يبيت حذراً عليه، ويدعوه قليله إلى كثيره.
وأي لذة في المطعم وعند الجوع يستوي خشنه وحسنه.
فإن ازداد الأكل خاطر بنفسه.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بنيت الفتنة على ثلاث، النساء وهن فخ إبليس المنصوب. والشراب وهو سيفه المرهف. والدينار والدرهم، وهما سهماه المسمومان.
فمن مال إلى النساء لم يصف له عيش. ومن أحب الشراب لم يمتع بعقله. ومن أحب الدينار والدرهم كان عبداً لهما ما عاش.
فصل عالم الغيب
أصل كل محنة في العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق.
فإن الفلاسفة لما رأوا إيجاد شيء لا من شيء كالمستحيل في العادات قالوا بقدم العالم.
ولما عظم عندهم في العادة الإحاطة بكل شيء قالوا: إنه يعلم الجمل لا التفاصيل.
ولما رأوا تلف الأبدان بالبلاء أنكروا إعادتها. وقالوا الإعادة رجوع الأرواح إلى معادنها.
وكل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين خرج إلى الكفر.
فإن المجسمة دخلوا في ذلك لأنهم حملوا أوصافه على ما يعقلون.
وكذلك تدبيره عز وجل. فإن من حمله على ما يعقل في العادات رأى ذبح الحيوان لا يستحسن، والأمراض تستقبح، وقسمة الغنى للأبله، والفقر للجلد العاقل أمراً ينافي الحكمة.
وهذا في الأوضاع بين الخلق. فأما الخالق سبحانه فإن العقل لا ينتهي إلى حكمته. بلى. قد ثبت عنده وجوده وملكه وحكمته.
فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق جهل.
ألا ترى إلى أول المعترضين وهو إبليس كيف ناظر فقال " أنا خير منه " ، وقول خليفته وهو أبو العلاء المعري:
رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
ونسأل الله عز وجل توفيقاً للتسليم، وتسليماً للحكيم " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " .
أترى نقدر على تعليل أفعاله فضلاً عن مطالعة ذاته ؟.
وكيف نقيس أمره على أحوالنا ؟.
فإذا رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يسأل في أمه وعمه فلا يقبل منه، ويتقلب جائعاً والدنيا ملك يده ويقتل أصحابه والنصر بيد خالقه، أوليس هذا مما يحير !.
فما لنا والاعتراض على مالك قد ثبتت حكمته واستقر ملكه.
فصل ثمن العلياء
تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله.
فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة. حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس.
ونحو هذا تحصيل المال، فإنه يحتاج إلى المخاطرات والأسفار والتعب الكثير.
وكذلك نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر.
وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس. قال الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
ومن هذا الفن تحصي الثواب في الآخرة. فإنه يزيد على قوة الاجتهاد والتعبد، أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس، أو على قدر الصبر على فقد المحبوب ومنع النفس من الجزع.
وكذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى.
والعفاف لا يكون إلا بكف كف الشره.
ولولا ما عانى يوسف عليه السلام ما قيل له: " أيها الصديق " .

ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة. فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وه لها سابقون.
وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم. فهم يحتقرونها مع التمام ويعتذرون من التقصير.
ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلاً لأنه يرى نفسه وعمله لسيده.
وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات.
فلئن التذوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف والحسرة وزن تلمح صبر يوسف عليه السلام وعجلة ماعز بان له الفرق، وفهم الربح من الخسران.
ولقد تأملت نيل الدر من البحر فرأيته بع معاناة الشدائد.
ومن تفكر فيما ذكرته مثلاً بانت له أمثال.
فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له انتهب حتى اللحظة وزاحم كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها.
أو ليس في الحديث يقال للرجل: اقرأ وارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها.
فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلاً.

فصل صراع اليقين مع أحداث الحياة
ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة، ويتجنب المحظورات فحسب إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة.
وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه.
وقد يدعو فلا يرى للإجابة أثراً، وسره لا يتغير لأنه يعلم أنه ممولك وله مالك يتصرف بمقتضى إرادته.
فإنه اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة، كما جرى لإبليس.
والإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء.
فقد يرى مثل يحيى بن زكريا يتسلط عليه فاجر فيأمر بذبحه فيذبح، وربما اختلج في الطبع أن يقول فهل رد عنه من جعله نبياً ؟.
وكذلك كل تسلط من الكفار على الأنبياء والمؤمنين وما وقع رد عنهم، فإنه هجس بالفكر أن القدرة تعجز عن الرد عنهم كان ذلك كفراً.
وإن علم أن القدرة متمكنة من الرد وما ردت وأن الله قد يجيع المؤمنين ويشبع الكفار، ويعافي العصاة، ويمرض المتقين، لم يبق إلا التسليم للمالك وإن أمض وأرمض..
وقد ذهب يوسف بن يعقوب عليهما السلام فبكى يعقوب ثمانين سنة ثم لم ييأس، فلما ابنه الآخر قال: " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَميعاً " .
وقد دعا موسى عليه السلام على فرعون، فأجيب بعد أربعين سنة.
وكان يذبح الأنبياء ولا ترده القدرة القديمة العظيمة وصلب السحرة، وقطع أيديهم.
وكم من بلية نزلت بمعظم القدر، فما زاده ذلك إلا تسليماً ورضىَ فهناك يبين معنى قوله: " وَرَضُوا عنه " .
وههنا يظهر قدر قوة الإيمان لا في ركعات.
قال الحسن البصري: استوى الناس في العافية فإذا نزل البلاء تباينوا.
فصل هذا العلم أفسد العامة
أضر ما على العوام المتكلمون فإنهم يخلطون عقائدهم بما يسمعونه منهم.
من أقبح الأشياء أن يحضر العامي الذي لا يعرف أركان الصلاة ولا الربا في البيع مجلس الوعظ فلا ينهاه عن التواني في الصلاة، ولا يعلمه الخلاص من الربا، بل يقول له القرآن قائم بالذات، والذي عندنا مخلوق.
فيهون القرآن عند ذلك العامي، فيحلف به على الكذب.
ويح المتكلم لو كان له فهم لعلم أن الله سبحانه وتعالى نصب أعلاماً تأنس بها النفوس وتطمئن إليها كالكعبة وسماها بيته، والعرش وذكر استواءه عليه.
وذكر من صفاته اليد والسمع والبصر والعين، وينزل إلى السماء الدنيا، ويضحك وكل هذا لتأنس النفوس بالعادات.
وقد جل عما تضمنته هذه الصفات من الجوارح.
وكذلك عظم أمر القرآن، ونهى المحدث أن يمس المصحف فآل الأمر بقوم من المتكلمين إلى أن أجازوا الاستنجاء به.
فهؤلاء على معاندة الشريعة، لأنهم يهينون ما عظم الشرع.
وهل الإيغال في الكلام مما يقرب إلى معرفة الحقائق التي لا يمكن خلافها !.
هيهات لو كان كذلك ما وقع بين المتكلمين خلاف.
أوليس الشرب الأول ما تكلموا في شيء من هذا ! وإن كانوا تعرضوا ببعض الأصول.
ثم جاء فقهاء الأمصار فنهوا عن الخوض في الكلام، لعلمهم ما يجلب وما يجتنب.
ومن لم يقنع بعقيدة مثل الصحابة، ولا بطريق مثل طريق أحمد والشافعي في ترك الخوض فلا كان من كان.

ثم بالله تأملوا أليس قد وجب علينا هجر الربا بقوله تعالى: " لا تأكلوا الرِّبا " وهجر الزنا بقوله: " ولا تقربوا الزنا " .
فأي فائدة لنا في ذكر قراءة ومقروء وتلاوة ومتلو وقديم ومحدث.
فإن قيل: فلا بد من اعتقاد، قلنا: طريق السلف أوضح محجة، لأنا ما نقوله تقليداً، بل بالدليل ولكنا لم نستفده عن جوهر وعرض وجزء لا يتجزأ.
بل بأدلة النقل مع مساعدة العقل من غير بحث عما لا يحتاج إليه. وليس هذا مكان الشرح.

فصل حقيقة الموت
ما زلت عن عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أتخايل إلا بلى الأبدان في القبور فأحزن لذلك فمرت بي أحاديث قد كانت تمر بي ولا أتفكر فيها.
منها قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفس المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرده الله عز وجل إلى جسده يوم يبعثه: فرأيت أن الرحيل إلى الراحة، وأن هذا البدن ليس بشيء، لأنه مركب تفكك وفسد، وسيبنى جديداً يوم البعث فلا ينبغي أن يتفكر في بلاه.
ولتسكن النفس إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة فلا يبقى كبير حزن، وأن اللقاء للأحباب عن قرب.
وإنما يبقى الأسف لتعلق الخلق بالصور، فلا يرى الإنسان إلا جسداً مستحسناً قد نقض فيحزن لنقضه.
والجسد ليس هو الآدمي، وإنما هو مركبه، فالأرواح لا ينالها البلى. والأبدان ليست بشيء.
واعتبر هذا بما إذا قلعت ضرسك ورميته في حفرة، فهل عندك خبر مما يلقى في مدة حياتك؟.
فحكم الأبدان حكم ذلك الضرس، لا تدري النفس ما يلقى، ولا ينبغي أن تغتم بتمزيق جسد المحبوب وبلاه.
واذكر تنعم الأرواح، وقرب التجديد، وعاجل اللقاء فإن الفكر في تحقيق هذا يهون الحزن ويسهل الأمر.
فصل قد يكون الكتمان حزما
ً
ينبغي للعاقل أن لا يتكلم في الخلوة عن أحد بشيء حتى يمثل ذلك الشيء ظاهراً معلناً به ثم ينظر فيما يجني.
فرب رجل وثق بصدق فتكلم أمامه عن سلطان بأمر فبلغه فأهلكه.
أو عن صديق فبلغه فوقعت الواقعة.
وكذلك ينبغي كتم المذاهب، فإنه ما يربح مظهرها إلا المعاداة.
ولما صرح الشريف أبو جعفر في زمان المقتدي بمخالفة الأشاعرة أخذ وحبس حتى مات.
وكان المقصد قطع الفتن وإصلاح الرعية، فإنه أهم إلى السلطان من التعصب لمذهب.
فصل فقه الحكمة العليا
رأيت كثيراً من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار.
وفيهم من قل إيمانه، فأخذ يعترض.
وفيهم من خرج إلى الكفر، ورأى أن ما يجري كالعبث، وقال ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد، والابتلاء ممن هو غني عن أذانا.
فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا: إن حضر عقلك وقلبك حدثتك.
وإن كنت تتكلم بمجرد واقعك من غير نظر وإنصاف فالحديث معك ضائع.
ويحك، أحضر عقلك، واسمع ما أقول: أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك الحق أن يتصرف كيف يشاء !.
أليس قد ثبت أنه حكيم والحكيم لا يعبث !.
وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئاً فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال: ما أدري ؟ أحكيم هو أم لا.
والسبب في قوله هذا، أنه رأى نقضاً بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم.
وجوابه لو كان حاضراً أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة ؟.
أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك ؟.
وكيف يهب لك الذهن الكامل ويفوته هو الكمال ؟.
وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس. فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أوفى من كل حكيم، لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول.
فهذا إذا تأمله المنصف زال عنه الشك.
وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: " أم لَهُ البنات ولكم البنون " أي أجعل لنفسه الناقصات وأعطاكم الكاملين ؟.
فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا.
ونقول هذا فعل عالم حكيم. ولكن ما يبين لنا معناه.
وليس هذا بعجب، فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة، وقتل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة أذعن.
فليكن المرء مع الخالق كموسى مع الخضر.
أولسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع ويمضغ ويصير إلى ما نعلم. ولسنا نملك ترك الأفعال ولا ننكر الإفساد له، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه.

فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه ؟.
ومن أجل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه، فإن فرضه التسليم لا الاعتراض.
ولو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل وتسليمه لكفى.
ولقد تأملت حالة عجيبة، يجوز أن يكون المقصود بالموت هي، وذلك أن الخالق سبحانه في غيب لا يدركه الإحساس.
فلو أنه لم ينقض هذه البنية لتخايل للإنسان أنه صنع لا بصانع.
فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت لا تعرفها لكونها في الجسد وتدرك عجائب الأمور بعد رحيلها.
فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها.
وتذكرت حالها في الدنيا - فإن الذكريات تعاد كما تعاد الأبدان - فيقول قائلهم " إنَّا كُنَّا قيلُ في أهلنا مُشْفِقين " .
ومتى رأت ما قد وعدت به من أمور الآخرة. أيقنت يقيناً لا شك معه.
ولا يحصل هذا بإعادة ميت سواها. وإنما يحصل برؤية هذا الأمر فيها.
فتبنى بنية تقبل البقاء وتسكن جنة لا ينقضي دوامها.
فيصلح بذلك اليقين أن تجاوز الحق، لأنها آمنت بما وعد، وصبرت بما ابتلى، وسلمت لأقدراه، فلم تعترض، ورأت في غيرها العبر، ثم في نفسها. فهذه هي التي يقال لها: " ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " .
فأما الشاك والكافر فيحق لهما الدخول إلى النار واللبث فيها، لأنهما رأيا الأدلة ولم يستفيدا ونازعا الحكيم واعترضا عليه، فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما، فبقيت نفوسهما على ما كانت عليه.
فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا لم تنتفع بالموت والإعادة ودليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى: " ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه " .
فنسأل الله عز وجل عقلاً مسلماً يقف على حده، ولا يعترض على خالقه وموجده.
ثم الويل للمعترض، أيرد اعتراضه الأقدار ؟.
فما يستفيد إلا الخزي، نعوذ بالله ممن خذل.

فصل عند الصباح يحمد السرى
لا ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موت، وإن كان الطبع لا يملك.
إلا أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن إما لطلب الأجر بما يعاني، أو لبيان أثر الرضى بالقضاء، وما هي إلا لحظات ثم تنقضي.
وليتفكر المعافى من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها أين هي في زمان العافية ؟ ذهب البلاء وحصل الثواب.
كما تذهب حلاوة اللذات المحرمة ويبقى الوزر. ويمضي زمان التسخط بالأقدار، ويبقى العتاب.
وهل الموت إلا آلام تزيد فتعجز النفس عن حملها فتذهب.
فليتصور المريض وجود الراحة بعد رحيل النفس، وقد هان ما يلقى كما يتصور العافية بعد شرب الشربة المرة.
ولا ينبغي أن يقع جزع بذكر البلى، فإن ذلك شأن المركب، أما الراكب ففي الجنة أو في النار.
وإنما ينبغي أن يقع الاهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل قبل نزول المعوق عنها.
فالسعيد من وفق لاغتنام العافية، ثم يختار تحصيل الأفضل فالأفضل في زمن الاغتنام.
وليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل ههنا. والعمر قصير، والفضائل كثيرة فليبالغ في البدار.
فيا طول راحة التعب، ويا فرحة المغموم، ويا سرور المحزون.
ومتى تخايل اللذة في الجنة من غير منغص ولا قاطع، هان عليه كل بلاء وشدة.
فصل بين العلم والعمل
حضرنا يوماً جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له، فرأيت من ذم الناس للدنيا، وعيب من سكن إليها، والتقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمراً كبيراً من الحاضرين.
فقلت: نعم ما قلتم. ولكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه.
أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل والقلق من الخوف.
وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري، وطووا الأيام بالمجاعة، وداموا على سهر الليل، ولازموا المقابر، فهلكوا سريعاً.
ولعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل.
ولكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون، فقال: إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب.
ولا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير، ولا يحسن في العقل دوام السهر وطول القلق، لأنه يؤثر في البدن فيفوت أكثر المقصود.
كيف وقد خلق بدن الآدمي خلقاً لطيفاً، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ.
وإذا دام على السهر قوي اليبس، وإذا لازم الحزم مرض القلب.

فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه وبالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له.
وإلا فمتى دام المؤذي عجل التلف. ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل، فيقول: إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم.
ويقول: كفى المرء إثماً أن يضيع من يقوت.
ويحث على النكاح، ويرى دوام القلق واليبس يترك الزوجة كالأرملة، والولد اليتيم.
ولا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق، ومن أراد مصداق ما قلته فليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح، ويسابق عائشة، ويكثر من التزوج. وكان يتلطف ببدنه، فيختار الماء البائت ويحب الحلوى واللحم.
ولولا مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء، ولا حفظ العلم، ولا كتب الحديث.
لأن من يقول: ربما مت اليوم كيف يكتب وكيف يسمع ويصنف.
فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت وعدم ذكره حق ذكره، فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا ويصلح الدين.
وإنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفريط وإهمال المحاسبة للنفس، وتضييع الزمان في غير التزود، وربما قويت فحملت على المعاصي.
فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافاً.
فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا. ومتى زادت وقع الذم. فافهم ما قلته.
ولا تقل فلان شديد اليقظة ما ينام الليل، وفلان غافل ينام أكثر الليل، فإن غفلة توجب مصلحة البدن والقلب لا تذم والسلام.

فصل الإخلاص التام
ما يكاد يحب الاجتماع بالناس إلا فارغ.
لأن المشغول القلب بالحق يفر من الخلق ومتى تمكن فراغ القلب من معرفة الحق امتلأ بالخلق فصار يعمل لهم ومن أجله ويهلك بالرياء ولا يعلم.
وإني لأتأمل على بعض من يتزي بالفقر والتصوف وهو يلبس ثياباً لا تساوي ديناراً، وعنده المال الكثير، وقد أمرع نفسه في المطاعم الشهية، وهو عامل بمقتضى الكبر والتصدر، فيتقرب إلى أرباب الدنيا، ويستذري أرباب العلم، ويزور أولئك دونهم.
وإنما يرد ما يعطي ليشيع له اسم زاهد، فتراه يربي الناموس وهو في احتياله كثعلب، وفي نهوضه إلى أغراضه في الباطن كلب شري.
فأقول: سبحان الله، ما يزهد إلا الثياب، أترى: ما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
أوعوذ بالله من رؤية النفس، ورؤية الخلق، فإن من رأى نفسه تكبر، والمتكبر أحمق، لأنه ما من شيء يتكبر به إلا ولغيره أكثر منه.
ومن راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم.
فأما العامل لله سبحانه وتعالى فهو بعيد من الخلق، فإن تقربوا إليه ستر حاله بما يوجب بعدهم عنه.
وقد رأينا من يرائي ولا يدري فيمتنع من المشي في السوق، ومن زيارة الإخوان، ومن أن يشتري شيئاً بنفسه.
وتوهمه نفسه أني أكره مخالطة السوقة، وإنما هذا يربي جاهلاً بين العامة، إذ لو خالطهم لامتحي جاهه، وبطل تقبيل يده.
وقد كان بشر الحافي يجلس في مجلس عند العطار.
وأبلغ من هذا كله أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يشتري الشيء ويحمله، وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين فاشترى ثوباً، وقد كان طلحة بن مطرف قارىء أهل الكوفة، فلما كثر الناس عليه مشى إلى الأعمش فقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحة.
هذا والله الكبريت الأحمر، والإكسير، لا ما يظن إكسيراً في الكيمياء.
والمعاملة مع الله تعالى هكذا تكون.
فأما ضد هذه الحال فحالة عابد للخلق ملبس. وقد غم هذا جمهور الخلق حاشا السلف.
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
فصل مراتب العصيان
كل المعاصي قبيحة، وبعضها أقبح من بعض، فإن الزنا من أقبح الذنوب، فإنه يفسد الفرش ويغير الأنساب، وهو بالجارة أقبح، فقد روي في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي ذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي، قال: أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك. قلت ثم أي، قال: أن تزاني حليلة جارك.
وقد روى البخاري في تاريخه من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره، ولأن يسرق من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره.

وإنما كان هذا، لأنه يضم إلى معصية الله عز وجل انتهاك حق الجار.
ومن أقبح الذنوب أن يزني الشيخ، ففي الحديث: إن الله يبغض الشيخ الزاني لأن شهوة الطبع قد ماتت، وليس فيها قوة تغلب، فهو يحركها ويبالغ، فكانت معصيته عناداً.
ومن المعاصي التي تشبه المعاندة لبس الرجل الحرير والذهب، خصوصاً خاتم الذهب الذي يتحلى به الشيخ، وأنه من أبرد الأفعال وأقبح الخطايا.
ومن هذا الفن الرياء والتخاشع وإظهار التزهد للخلق، فإنه كالعبادة لهم مع إهمال جانب الحق عز وجل.
وكذلك المعاملة بالربا الصريح، خصوصاً من الغني الكثير المال.
ومن أقبح الأشياء أن يطول المرض بالشيخ الكبير ولا يتوب من ذنب، لا يعتذر من زلة، ولا يقضي ديناً، ولا يوصي بإخراج حق عليه.
ومن قبائح الذنوب أن يتوب السارق أو الظالم ولا يرد المظالم.
والمفرط في الزكاة أو في الصلاة ولا يقضي.
ومن أقبحها أن يحنث في يمين طلاقه ثم يقيم مع المرأة.
وقس على ما ذكرته، فالمعاصي كثيرة، وأقبحها لا يخفى.
وهذه المستقبحات فضلاً عن القبائح الأخرى تشبه العناد للآمر، فيستحق صاحبها اللعن ودوام العقوبة.
وإني لأرى شرب الخمر من ذلك الجنس، لأنها ليس مشتهاة لذاتها، ولا لريحا ولا لطعمها فيما يذكر.
إنما لذتها - فيما يقال - بعد تجرع مرارتها.
فالإقدام على ما لا يدعو إليه الطبع إلى أن يصل التناول إلى اللذة معاندة.
نسأل الله عز وجل إيماناً يحجز بيننا وبين مخالفته، وتوفيقاً لما يرضيه، فإنما نحن به وله.

فصل آفة العلماء
انتقدت على أكثر العلماء والزهاد أنهم يبطنون الكبر.
فهذا ينظر في موضعه وارتفاع غيره عليه وهذا لا يعود مريضاً فقيراً يرى نفسه خيراً منه.
حتى إني رأيت جماعة يومأ إليهم، منهم من يقول لا أدفن إلا في دكة أحمد بن حنبل، ويعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى، ثم يرى نفسه أهلاً لذلك التصدر.
ومنهم من يقول. ادفنوني إلى جانب مسجدي ظناً منه أنه يصير بعد موته مزاراً كمعروف الكرخي.
وهذه خلة مهلكة ولا يعلمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر.
وقل من رأيت إلا وهو يرى نفسه.
والعجب كل العجب ممن يرى نفسه، أتراه بماذا رآها !.
إن كان بالعلم فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد فقد سبقه العباد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية.
فإن قال: قد عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني، فما علي ممن تقدم.
قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف.
ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي.
إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيراً من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه.
فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعبادة.
ومن تلمح خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من حال غيره على شك.
فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة، والمؤمن الحق لا يزال يحتقر نفسه.
وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلي من أن أرى نفسي أهلاً لذلك.
وقد روينا: أن رجلاً من الرهبان رأى في المنام قائلاً يقول له: فلان الإسكافي خير منك، فنزل من صومعته فجاء فسأله عن عمله فلم يذكر كبير عمله.
فقيل له في المنام: عد إليه وقل له: مم صفرة وجهك ؟.
فعاد فسأل فقال: ما رأيت مسلماً إلا وظننته خيراً مني فقيل له: فبذاك ارتفع.
فصل علاج الغاضب
متى رأيت صاحبك قد غضب وأخذ يتكلم بما لا يصلح، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصراً، ولا أن تؤاخذه به.
فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري.
بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها، فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج، والعقل قد استتر.
ومتى أخذت في نفسك عليه، أو أجبته بمقتضى فعله كنت كعاقل واجه مجنوناً، أو كمفيق عاتب مغمى عليه. فالذنب لك.
بل انظر بعين الرحمة، وتلمح تصريف القدر له، وتفرج في لعب الطبع به. واعلم أنه إذا انتبه ندم على ما جرى، وعرف لك فضل الصبر.
وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به.

وهذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد، والزوجة عند غضب الزوج، فتتركه يشتفي بما يقول، ولا تعول على ذلك، فسيعود نادماً معتذراً.
ومتى قوبل على حالته ومقالته صارت العداوة متمكنة، وجازى في الإفاقة على ما فعل في حقه وقت السكر.
وأكثر الناس على غير هذه الطريق.
متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول ويعمل، وهذا على غير مقتضى الحكمة؛ بل الحكمة ما ذكرته، " وما يعقلها إلاَّ العالمون " .

فصل تجارب مع الناس
ليس في الدنيا أكثر بلاهة ممن يسيء إلى شخص ويعلم أنه قد بلغ إلى قلبه بالأذى ثم يصطلحان في الظاهر، فيعلم أن ذلك الأثر محيي بالصلح.
وخصوصاً مع الملوك، فإن لذتهم الكبرى أن لا يرتفع عليهم أحد، ولا ينكسر لهم غرض، فإذا جرى شيء من ذلك لم ينجبر.
واعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني، فإنه غض من قدر المنصور قبل ولايته فحصل ذلك في نفسه فقتله.
ومن نظر في التواريخ رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا، ولا ينبغي لمن أساء إلى ذي سلطان أن يقع في يده، فإنه إذا رام التخلص لم يقدر. فيبقى ندمه على ترك احترازه، وحسرته على مساكنة الظمآن للسلامة أشد عليه من كل ما يلقى به من الهوان والأذى.
ومن هذا الجنس الأصدقاء المتماثلون، فإنك متى آذيت شخصاً وبلغ إلى قلبه أذاك فلا تثق بمودته، فإن أذاك نصب عينه، فإن لم يحتل عليك لم يصف لك.
ولا تخالط إلا من أنعمت عليه فحسب، فهو لم ير منك إلا خيراً فيكون في نفسه، وكذلك الولد والزوجة والمعاملون.
ويلحق بهذا أن أقول: لا ينبغي أن تعادي أحداً ولا تتكلم في حقه، فربما صارت له دولة فاشتفى.
وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه.
فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت.
فصل الاستعداد لليوم والغد
كل من يتلمح العواقب ولا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل.
واعتبر هذا في جميع الأحوال، مثل أن يغتر بشبابه ويدوم على المعاصي ويسوف بالتوبة.
فربما أخذ بغتة ولم يبلغ بعض ما أمل.
وكذلك إذا سوف بالعمل أو بحفظ العلم، فإن الزمان ينقضي بالتسويف ويفوت المقصود.
وربما عزم على فعل خير أو وقف شيء من ماله فسوف فبغت.
فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه وعمل بمقتضى ذلك فإن امتد الأجل لم يضره، وإن وقع المخوف كان محترزاً.
ومما يتعلق بالدنيا أن يميل مع السلطان ويسيء إلى بعض حواشيه ثقة بقربه منه، فربما تغير ذلك السلطان فارتفع عدوه فانتقم منه.
وقد يعادي بعض الأصدقاء ولا يبالي به لأنه دونه في الحالة الحاضرة.
فربما صعدت مرتبة ذلك فاستوفى ما أسلفه إليه من القبيح وزاد.
فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه ولم يعاد أحداً.
فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة كتم ذلك، فإن صح له أن يثب على عدوه فينتقم منه انتقاماً يبيحه الشرع جاز، على أن العفو أصلح في باب العيش.
ولهذا ينبغي أن يخدم البطال، فإنه ربما عمل فعرف ذلك لمن خدم.
وقس على أنموذج ما ذكرته من جميع الأحوال.
فصل علماء الآخرة ملوك
بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة.
وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريماً.
فالسعيد من اقتنع بالبلغة، فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا.
اللهم إلا أن يكون متورعاً في كسبه، معيناً لنفسه عن الطمع، قاصداً إعانة أهل الخير والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته.
فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت سلامته ظاهراً فالعاقبة خطرة.
قال أبو محمد التميمي: ما غبطت أحداً إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم بأمر الله فإنه غسله وخرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد ونحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا.
وذاك أن التميمي كان متعلقاً على السلطان يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة القرب.
وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة.
ولعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطأوا طريقها، لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة.

وليس أشرف وأطيب عيشاً من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين ولا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب.
فإنه لا يخلو من كسرة وقعب ماء ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه، أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق.
ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داؤد، ويحيى بن أكثم عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا والسلامة في الآخرة.
وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف.
ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقي له لذة مطعم ولا منكح.
وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري أكثر منهن فذهبت قوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء فلا يجد في الوطء كبير لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل.
فإن من أكل على شبع ووطىء من غير صدق شهوة وقلق لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع والعزب إذا وجد امرأة.
ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام ولذة الأمن قد حرمها الأمراء فلذتهم ناقصة وحسابهم زائد.
والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين كالحسن وأحمد وسفيان، والعباد المحققين كمعروف، فإن لذة العلم تزيد على كل لذة.
وأما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم.
وكذلك لذة الخلوة والتعبد. فهذا معروف، كان منفرداً بربه طيب العيش معه لذيذ الخلوة به.
ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن.
وأقله من يقل على قبره فيقرأ: " قل هو اللّه أحد " ، ويهديها له. والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة.
هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف، وكذلك قبور العلماء المحققين.
ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها.
فقال سفيان بن عيينة منذ أخذت من مال فلان الأمير منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن.
وهذا أبو يوسف القاضي لا يزور قبره اثنان.
فالصبر عن مخالطة الأمراء وإن أوجب ضيق العيش من وجه يحصل طيب العيش من جهات.
ومع التخليط لا يحصل مقصود. فمن عزم جزم.
كان أبو الحسن القزويني لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء السلطان فيقعد لانتظاره ليسلم عليه.
ومد النفس في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف.

فصل التزام الجادة
من عرف الشرع كما ينبغي وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة وأكابر العلماء علم أن أكثر الناس على غير الجادة.
وإنما يمشون مع العادة، يتزاورون فيغتاب بعضهم بعضاً، ويطلب كل واحد منهم عورة أخيه، ويحسده إن كانت نعمة، ويشمت به إن كانت مصيبة، ويتكبر عليه إن نصح له، ويخادعه لتحصيل شيء من الدنيا، ويأخذ عليه العثرات إن أمكن.
هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد لا الرعاع.
فالأولى بمن عرف الله سبحانه، وعرف الشرع، وسير السلف الصالحين الانقطاع عن الكل.
فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم والخير تلقاه وقد لبس درع الحذر، ولم يطل معه الكلام، ثم عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيراً لنطاق الكمال.
فصل كمال الخلق
الكمال عزيز. والكامل قليل الوجود.
فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن.
فصورة البدن تسمى خلقاً، وصورة الباطن تسمى خلقاً.
ودليل كمال صورة البدن حسن الصمت، واستعمال الأدب.
ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق.
فالطبائع العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره.
والأخلاق الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل.
فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة أوجبت النقص.
فصل لا بد من الابتلاء
ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الأغراض.
فأين تكون البلوى إذن ؟.
لا والله، لا بد من انعكاس المرادات ومن توقف أجوبة السؤالات، ومن تشفي الأعداء في أوقات.

فأما من يريد أن تدم له السلامة والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف، ولا فهم التسليم.
أليس الرسول صلى الله عليه وسلم ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما يجري يوم أحد.
أليس يصد عن البيت ويقهر بعد ذلك.
فلا بد من جيد ورديء، والجيد يوجب الشكر، والرديء يحرك إلى السؤال والدعاء.
فإن امتنع الجواب، أريد نفوذ البلاء، والتسليم للقضاء.
وههنا يبين الإيمان، ويظهر في التسليم جواهر الرجال.
فإن تحقق التسليم باطناً وظاهراً فذلك شأن الكامل.
وإن وجد في الباطن انعصار من القضاء لا من المقتضى فإن الطبع لا بد أن ينفر من المؤذي دل على ضعف المعرفة.
فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان، فتلك حال الجهال نعوذ بالله منها.

فصل لا بد من التصبر
من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه. مثل أن يحوج الرجل الصالح إلى مداراة الظالم والتردد إليه، وإلى مخالطة من لا يصلح، وإلى أعمال لا تليق به أو إلى أمور تقطع عليه مراده الذي يؤثره.
فقد يقال للعالم: تردد على الأمير وإلا خفنا عليك سطوته، فيتردد فيرى ما لا يصلح له ولا يمكنه أن ينكر.
أو يحتاج إلى شيء من الدنيا وقد منع حقه، فيحتاج أن يعرض بذكر ذلك، أو يصرح لينال بعض حقه، ويحتاج إلى مداراة من تصعب مداراته، بل تتشتت همته لتلك الضرورات.
وكذلك يفتقر إلى الدخول في أمور لا تليق به، مثل أن يحتاج إلى الكسب فيتردد إلى السوق أو يخدم من يعطيه أجرته.
وهذا لا يحتمله قلب المراقب لله سبحانه لأجل ما يخالطه من الأكدار.
أو يكون له عائلة وهو فقير فيتفكر في إغنائهم، فيدخل في مداخل كلها عنده عظيمة.
وقد يبتلى بفقد من يحب، أو ببلاء في بدنه، أو بعكس أغراضه وتسليط معاديه عليه، فيرى الغاسق يقهره. والظالم يذله.
وكل هذه الأشياء تكدر عليه العيش، وتكاد تزلزل القلب.
وليس في الابتلاء بقوة الأشياء إلا التسليم واللجأ إلى القدر في الفرج.
يرى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم، ولا يتغير قلبه، ولا ينطق بالشكوى لسانه.
أو ليس الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج أن يقول: من يواريني من ينصرني. ويفتقر إلى أن يدخل مكة في جوار كافر.
ويشق السلى على ظهره وتقتل أصحابه، ويداري المؤلفة، ويشتد جوعه وهو ساكن لا يتغير.
وما ذاك إلا أنه علم أن الدنيا دار ابتلاء، لينظر الله فيها كيف تعملون.
ومما يهون هذه الأشياء علم العبد بالأجر، وإن ذلك مراد الحق.
فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
فصل داء الحرص عند العارفين
لا ينكر أن الطباع تحب المال، لأنه سبب بقاء الأبدان، لكنه يزيد حبه في بعض القلوب حتى يصير محبوباً لذاته للتوصل به إلى المقاصد.
فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب، ويمنعها اللذات، وتصير لذاته في جمع المال. وهذه جبلة في خلق كثير.
وليس العجب أن تكون في الجهال وينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة للطبع ومخالفته، خصوصاً في الأفعال اللازمة في جمع المال.
فأما أن يكون العالم جامعاً للمال من وجوه قبيحة ومن شبهات قوية وبحرص شديد وبذل في الطلب، ثم يأخذ من الزكوات ولا تحل له مع الغنى، ثم يدخره ولا ينفع به، فهذه بهيمية تخرج عن صفات الآدمية.
بل البهيمية أعذر، لأنها بالرياضة تتغير طباعها، وهؤلاء ما غيرتهم رياضة، ولا أفادهم العلم.
ولقد كان أبو الحسن البسطامي مقيماً في رباط البسطامي الذي على نهر عيسى، وكان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفاً، وكان يحترم ويقصد، فخلف ما لا يزيد على أربعة آلاف دينار.
ورأينا بعض أشياخنا وقد بلغ الثمانين وليس له أهل ولا ولد، وقد مرض فألقى نفسه عند بعض أصدقائه يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه وما يشفيه، فمات فخلف أموالاً عظيمة.
ورأينا صدقة بن الحسين الناسخ، وكان على الدوام يذم الزمان وأهله، ويبالغ في الطلب من الناس ويتجفف وهو في المسجد وحده ليس له من يقوم بأمره، فمات فخلف فيما قيل ثلاث مائة دينار.
وكان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي. وكان يجمع المال، فسرق منه نحو مائة دينار، فتلهف عليها وكان ذلك سبب هلاكه.
ومن أحوال الناس أنك ترى أقواماً جلسوا على صفة القوم يطلبون الفتوح، فيأتيهم منها الكثير الذي يصيرون به من الأغنياء، وهم لا يمتنعون من أخذ زكاة ولا من طلب.

وكذلك القصاص، يخرجون إلى البلاد ويطلبون، فيحصل لهم المال الكثير، فلا يتركون الطلب عادة.
فيا سبحان الله. أي شيء أفاد العلم. بل الجهل كان لهؤلاء أعذر.
ومن أقبح أحوالهم لزومهم الأسباب التي تجلب لهم الدنيا من التخاشع والتنسك في الظاهر، وملازمة حث العزلة عن المخالطة، وكل هؤلاء بمعزل عن الشرع.
ولقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ به إلى التعرض به للهلاك.
فالويل لهم، ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا، وإن كان مقلب القلوب قد صرف القلوب عن محبتهم، لأن الحق عز وجل لا يميل بالقلوب إلا إلى المخلصين.
فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة، وما حصلوا إلا صورة الحطام.
نسأل الله عز وجل عقلاً يدبر دنيانا، ويحصل لنا آخرتنا، والرزاق قادر.

فصل قليل ما هم
ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود.
هذا العمر موسم. والتجارات تختلف. والعامة تقول: عليكم بما خف حمله وكثر ثمنه.
فينبغي للمستيقظ أن لا يطلب إلا الأنفس.
وأنفس الأشياء في الدنيا معرفة الحق عز وجل.
فمن العارفين السالكين من وافى في طريقه بغيته في السفر، ومنهم من همته متعلقة بطلب ربحه، ومنهم من ينظر إلى ما يرضى الحبيب فيجلبه إلى بلد المعاملة، ويرضي بالقبول ثمناً، ويرى أن كل البضائع لا تفي بحق الحفاوة.
ومنهم من يرى لزوم الشكر في اختياره هذا السلوك دون غيره فيقر بالعجز.
وقد ارتفع قوم عن هذه الأحوال، فرأوا مجرد التوفيق يشغلهم عن النظر إلى العمل.
أولئك الأقلون عدداً وإن الأعظمين قدراً أقل نسلاً من عنقاء مغرب.
فصل أيها الشيوخ استعدوا للرحيل
من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر من الطواف خصوصاً إن كان لا يؤمل العود لكبر سنه وضعف قوته.
فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر الهاجم بما يصلح له.
فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشباب، واسترخى الوتر في المشيب عن سية القوس. فانحدر إلى القاب وضعفت القوى.
وما بقي إلا الاستسلام لمحارب التلف، فالبدار البدار إلى التنظيف ليكون القدوم على طهارة.
وأي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السلمية تغذ به إلى الهلاك، وصعود عمره نزول عن الحياة، وطول بقائه نقص مدى المدة، فليتفكر فيما بين يديه، وهو أهم مما ذكرناه.
أليس في الصحيح: ما منكم أحد إلا ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة والنار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله.
فواأسفاً لمهدد، لم يحسن التأهب، ويا طيب عيش الموعود بأزيد المنى.
وليعلم من شارف السبعين، أن النفس أنين، أعان الله من قطع عقبة العمر على رمل زرود الموت.
فصل سير الرسول مثل أعلى
من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضى، فليفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه، ورآه حكيماً لا يصنع شيئاً عبثاً، فسلم تسليم مملوك لحكيم، فكانت العجائب تجري عليه ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف.
ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح.
هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ الآفاق، فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران، وهم يضربونه إذا خرج، ويدمون عقبه وشق السلى على ظهره وهو ساكت ساكن.
ويخرج كل موسم فيقول: من يؤويني من ينصرني ؟.
ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا في جوار كافر، ولم يوجد من الطبع تأنف، ولا من الباطن اعتراض.
إذا لو كان غيره لقال: يا رب أنت مالك الخلق، واقدر على النصر، فلم أذل ؟.
كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق ؟ فلم. نعطي الدنية في ديننا؟.
ولما قال هذا، قال له رسول صلى الله عليه وسلم: إني عبد الله ولن يضيعني، فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما.
فقوله: إني عبد الله، إقرار بالملك وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء.
وقوله: لن يضيعني بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً.
ثم يبتلى بالجوع فيشد الحجر، ولله خزائن السموات والأرض.
وتقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتكسر رباعيته، ويمثل بعمه وهو ساكت.

ثم يرزق ابناً ويسلب منه فيتعلل بالحسن والحسين فيخبر بما سيجري عليهما.
ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها فينغص عيشه بقذفها.
ويبالغ في إظهار المعجزات فيقام في وجهه مسيلمة والعنسي وابن صياد.
ويقيم ناموس الأمانة والصدق، فيقال: كذاب ساحر.
ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت.
فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر.
ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار غليظ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ.
هذا الشيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قبله، ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت.
هذا آدم عليه السلام يباح له الجنة سوى شجرة فلا يقع ذباب حرصه إلا على الفقر.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول في المباح ما لي وللدنيا !.
وهذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى، فيصيح من كمد وجده " لا تَذر على الأرض من الكافرين دياراً " . ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اهد قدمي فإنهم لا يعلمون.
هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم، يستغيث عند عبادة قومه العجل ويتوكأ على القدر قائلاً: " إن هي إِلاَّ فتنتك " ويوجه إليه ملك الموت فيقلع عينه.
وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول: إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى.
هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول: هب لي ملكاً، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
هذا والله فعل رجل عرف الوجود والموجد، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته فصار هواه فيما يجري.

فصل خداع الشهوات
أكثر شهوات الحس النساء، وقد يرى الإنسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنها أحسن من زوجته.
أو يتصور بفكره المستحسنات وفكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة، فيسعى في التزوج والتسري.
فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها فيمل ويطلب شيئاً آخر.
ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن منها أن تكون الثانية لا دين لها أو لا عقل أو لا محبة لها أو لا تدبير فيفوت أكثر مما حصل.
وهذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش، لأنهم يجالسون المرأة حال استتار عيوبها عنهم وظهور محاسنها، فتلذ لهم تلك الساعة، ثم ينتقلون إلى أخرى.
فليعلم العاقل أن لا سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد: " ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه " .
وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل: " ولهم فيها أزواج مطهرة " .
وذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة، وعيب الخلق معنى.
فليقنع بما باطنه الدين، وظاهره الستر والقناعة. فإنه يعيش مرفه السر، طيب القلب. ومتى ما استكثر، فإنما يستكثر من شغل قلبه ورقة دينه.
فصل أصناف الناس
سبحان من شغل كل شخص بفن لتنام العيون في الدنيا.
فأما في العلوم فحبب إلى هذا القرآن، وإلى هذا الحديث وإلى هذا النحو، إذ لولا ذلك ما حفظت العلوم.
وألهم هذا المتعيش أن يكون خبازاً، وهذا أن يكون هراساً، وهذا أن ينقل الشوك من الصحراء، وهذا أن ينقي البثار ليلتئم الخلق.
ولو ألهم أكثر الناس أن يكونوا خبازين مثلاً، بات الخبز وهلك، أو هراسين جفت الهرايس، بل يلهم هذا وذاك بقدر لينتظم أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ويندر من الخلق من يلهمه الكمال وطلب الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال، ومعاملات القلوب، وتتفاوت أرباب هذه الحال.
فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار.
نسأله العفو إن لم يقع الرضى، والسلامة إن لم نصلح للمعاملة.
فصل أساس الدين
علم الحديث هو الشريعة، لأنه مبين للقرآن وموضح للحلال والحرام، وكاشف عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه.
وقد مزجوه بالكذب، وأدخلوا في المنقولات كل قبيح.
فإذا وفق الزاهد والواعظ لم يذكروا إلا ما شهدا بصحته.
وإن حرما التوفيق، عمل الزاهد بكل حديث يسمعه لحسن ظنه بالرواة، وقال الواعظ كل شيء يراه الجهلة بالتصحيح، ففسد أحوال الزاهد، وانحرف عن جادة الهدى. وهو لا يعلم.

وكيف لا وعموم الأحاديث الدالة على الزهد لا تثبت، مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أيما أمرىء مسلم اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له. وهذا حديث موضوع، يمنع الإنسان ما أبيح له مما يتقوى به على الطاعة.
ومثل قوله: من وضع ثياباً حساناً، وكذلك ما رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أدمان فقال: أدمان في قدح، لا حاجة لي فيه، أكره أن يسألني الله عن فضول الدنيا.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل البطيخ بالرطب، ومثل هذا إذا تتبع كثير، فقد بنوا على فساد، ففسدت أحوال الواعظ والموعوظ، لأنه يبني كلامه على أشياء فاسدة ومحالات.
ولقد كان جماعة من المتزهدين يعملون على أحاديث ومنقولات لا تصح، فيضيع زمانهم في غير المشروع.
ثم ينكرون على العلماء استعمالهم للمباحات، ويرون أن التجفف هو الدين.
وكذلك الوعاظ يحدثون الناس بما لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه فقد صار المحال عندهم شريعة.
فسبحان من حفظ هذه الشريعة بأخبار أخيار ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين.

فصل درجات الحديث في مسند الإمام أحمد
كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح ؟ فقلت: نعم.
فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فكر ذلك.
وإذا بهم قد كتبوا فتاوي، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، منهم أبو العلاء الهمداني يعظمون هذا القول، ويردونه ويقبحون قول من قاله.
فبقيت دهشاً متعجباً، وقلت في نفسي: واعجبا صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً.
وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحة وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد.
وليس كذلك فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء.
ثم هو قد رد كثيراً مما روى ولم يقل به ولم يجعله مذهباً له.
أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول !.
ومن نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند، وقد طعن فيها أحمد.
ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ قال: إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم.
ويدل على ذلك أن عبد الله قال قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن حراس عن حذيفة ؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود ؟ قلت: نعم.
قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته في المسند. قال قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير.
ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه.
قال القاضي - وقد أخبر عن نفسه - كيف طريقه في المسند فمن جعله أصلاً للصحة فقد خالفه وترك مقصده.
قلت: قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا قد روي.
والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل أتباع شهوات بهيمية
بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول: ما أرى العيش غير أن تتبع النفس هواها فمخطئاً أو مصيباً.
فتدبرت حال هذا وإذا به ميت النفس، ليس له أنفة على عرضه ولا خوف عار.
ومثل هذا ليس في مسلاخ الآدميين، فإن الإنسان قد يقدم على القتل لئلا يقال جبان. ويحمل الأثقال ليقال ما قصر. ويخاف العار فيصبر على كل آفة من الفقر، وهو يستر ذلك حتى لا يرى بعين ناقصة.
حتى إن الجاهل إذا قيل له يا جاهل غضب. واللصوص المتهيئون للحرام إذا قال أحدهم للآخر لا تتكلم، فإن أختك تفعل وتصنع، أخذته الحمية فقتل الأخت.
ومن له نفس لا يقف في مقام تهمة لئلا يظن به.
فأما من لا يبالي أن يرى سكران، ولا يهمه أن شهر بين الناس، ولا يؤلمه ذكر الناس له بالسوء فذاك في عداد البهائم.
وهذا الذي يريد أن يتبع النفس هواها لا يلتذ به لأنه لا يخاف عنتاً ولا لوماً، ولا يكون له عرض يحذر عليه، فهو بهيمة في مسلاخ إنسان.
وإلا فأي عيش لمن شرب الخمر، وأخذ عقيب ذلك وضرب وشاع في الناس ما قد فعل به.
أما يفي ذلك باللذة، لا ؟ بل يربو عليها أضعافاً.

وأي عيش لمن ساكن الكسل إذا رأى أقرانه قد برزوا في العلم وهو جاهل.
أو استغنوا بالتجارة وهو فقير، فهل يبقى للالتذاذ بالكسل والراحة معنى ؟.
ولو تفكر الزاني في الأحدوثة عنه، أو تصور أخذ الحد منه، لكف الكف.
غير أنه يرى لذة حاضرة كأنها لمع برق، ويا شؤم ما أعقبت من طول الأسى.
هذا كله في العاجل. فأما الآجل فمنغصة العذاب دائمة، " والذين آمنوا مشفقون منها " .
نسأل الله أنفة من الرذائل وهمة في طلب الفضائل إنه قريب مجيب.

فصل عواقب الخطايا
قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم.
والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النهي، فتكون تلك الخطيئة كالمعاندة والمبارزة.
فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا تتلافى.
خصوصاً إن وقعت من عارف بالله، فإنه يندر إهماله.
قال عبد المجيد بن عبد العزيز: كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفاً في ثلاثة أيام فلقيه رجل فقال: في كم كتبت هذا ؟. فأومأ بالسبابة والوسطى والإبهام وقال: في ثلاث " وما مسنا من لغوب " فجفت أصابعه الثلاث، فلم ينتفع بها فيما بعد.
وخطر لبعض الفصحاء أن يقدر أن يقول مثل القرآن، فصعد إلى غرفة فانفرد فيها، وقال: أمهلوني ثلاثاً، فصعدوا إليه بعد الثلاث ويده قد يبست على القلم وهو ميت.
قال عبد الحميد: ورأيت رجلاً كان يأتي امرأته حائضاً، فحاض، فلما كثر الأمر به تاب فانقطع عنه.
ويلحق هذا أن يعير الإنسان شخصاً بفعل، وأعظمه أن يعيره بما ليس إليه، فيقول يا أعمى، ويا قبيح الخلقة.
وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً بالفقر فحبست على دين، وقد تتأخر العقوبة وتأتي في آخر العمر.
فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب.
فالحذر الحذر من عواقب الخطايا والبدار البدار إلى محوها بالإنابة.
فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت وإلا اجتمعت وجاءت.
فصل فضل التعفف
اعلم أن الآدمي قد خلق لأمر عظيم... وهو مطالب بمعرفة خالقه بالدليل، ولا يكفيه التقليد. وذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه.
وهو مطالب بإقامة المفروضات، واجتناب المحارم. فإن سمت همته إلى طلب العلم احتاج إلى زيادة جمع الهم.
فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية، لا من منن الناس وصدقاتهم، وقد قنع به.
وأما إذا لم يكن له قوت يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت ويصير طالباً للتحليل في جمع القوت.
فيذهب العمر في تصحيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه، ويفوت المقصود ببقائه، وربما احتاج إلى الأنذال، قال الشاعر:
حسبي من الدهر ما كفاني ... يصون عرضي عن الهوان
مخافة أن يقول قوم ... فضل فلان على فلان
فينبغي للعاقل أن إذا رزق قوتاً أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همه، ولا ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همه.
والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته وقلل الغلو ليجمع بين همه وضرورته.
وليقنع بالقليل، فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت، لأن التشتت في الأول للعدم، وهذا التشتت يكون للحرص على الفضول فيذهب العمر على البارد:
ومن ينفق الأيام في حفظ ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فافهم هذا يا صاحب الهمة في طلب الفضائل، فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان شتتوا قلبك، وطبعك طفل. ففرغ همك من استعانته.
واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك، وصان عرضك عن الخلق.
وإياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج، فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض لغيرك.
وفي الحديث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عليه آثار الفقر، فعرض به فأعطى شيئاً. فجاء فقير آخر فأثره الأول ببعض ما أعطى، فرماه النبي صلى الله عليه وسلم، ونهاه عن مثل ذلك.
والقناعة بما يكفي، وترك التشوف إلى الفضول أصل الأصول.
ولما آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا والصلات اجتمع همه. وحسن ذكره. ولما أطمعها ابن المديني وغيره سقط ذكره.
ثم فيمن ! إنما هو سلطان جائز، أو مزك منان ؟ أو صديق مدل بما يعطي. والعز ألذ من كل لذة، والخروج عن ربقة المنن ولو بسف التراب أفضل.
فصل التجمل مع الناس
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس فما أحد إلا وهو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره.
فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي أن يتجلد بستر تلك النكبة، لئلا يرى بعين نقص.
وليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الرحمة، وليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو العافية.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قدومه مكة وقد أخذتهم الحمى فخاف أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي، فقال: رحم الله من أظهر من نفسه الجلد، فيرملوا - والرمل شدة السعي - .
وزال ذلك السبب وبقي الحكم، ليتذكر السبب فيفهم معناه.
واستأذنوا على معاوية وهو في الموت، فقال لأهله أجلسوني، فقعد متمكناً يظهر العافية، فلما خرج العواد أنشد:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء، لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، وإنها لأشد من كل نائبة.
وكان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية.
بلى، ثم نكتة ينبغي التفطن لها، ربما أظهر الإنسان كثرة المال وسبوغ النعم، فأصابه عدوه بالعين فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة.
والعين لا تصيب إلا ما يستحسن، ولا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى يكون من حاسد، ولا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع.
فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين، فليكن الإنسان مظهراً للتجمل مقدار ما يأمن إصابة العين ويعلم أنه في خير.
وليحذر الإفراط في إظهار النعم، فإن العين هناك محذورة.
وقد قال يعقوب لبنيه عليهم السلام: " لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة " .
وإنما خاف عليهم العين فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر.
فصل مثال أهل العمل ومراتب الجنة
إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته ومحادثته ورؤيته في البقاء الدائم.
وإنما ابتدىء كوننا في الدنيا لأنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط والأدب ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب.
فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في الكتب ويخرج وما فهم شيئاً.
وهذا مثال من لا يعلم وجوده، ولا نال المراد من كونه.
ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه، وقلة فهمه وعدم تعلمه أذى الصبيان، فهو يؤذيهم. ويسرق مطاعمهم، ويستغيثون من يده، فلا هو صلح، ولا فهم، ولا كف عن الشر.
وهذا مثل أهل الشر والمؤذيين.
ومن الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الاستخراج، رديء، الكتابة، فخرج ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته.
وهذا مثل من فهم بعض الشيء وفاتته الفضائل التامة.
ومنهم من جود الخط ولم يتعلم الحساب، وأتقن الآداب حفظاً، غير أنه قاصر في أدب النفس، فهذا يصلح أن يكون كاتباً للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه من الشره وقلة التأدب.
ومنهم من سمت همته إلى المعالي الكاملة، فهو مقدم الصبيان في المكتب ونائب عن معلمهم، ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه، وأدب باطنه، وكمال صناعة الآداب الظاهرة.
ولا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعلم، وتحصيل كل فضيل لعلمه أن المكتب لا يراد لنفسه بل لأخذ الأدب منه، والرحلة إلى حالة الرجولية والتصوف فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة.
فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق الأقران يوم التجاريب، ويعرض لوح عمله جيد الخط، فيقول بلسان حاله " هاؤم اقرؤا كتابيه " .
وكذلك الدنيا وأهلها. من الناس هالك بعيد عن الحق وهم الكفار.
ومنهم خاطىء مع قليل من الإيمان فهو معاقب والمصير إلى خير.
ومنهم سليم لكنه قاصر.
ومنهم تام لكنه بالإضافة إلى من دونه، وهو ناقص بإضافة إلى من فوقه.
فالبدار البدار يا أرباب الفهوم فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى المستقر والقرب من السلطان ومجاورته فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، وبالغوا في استعمال الأدب لتصلحوا للقرب من الحضرة.
ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق.
فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا.
ومنازلهم على قدرهم، فما منزل النفاط كمنزل الحاجب، ولا منزل الحاجب كمكان الوزير.

جنتان، من ذهب آنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، والفردوس الأعلى لآخرين.
والذين في أرض الجنة ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري.
فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين.
وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق. وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن استدراكه.
وليخف من عيب يبقى قبح ذكره.
هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن أزرى بهم اتباع الهوى ثم لحقتهم العافية فنجوا بعد لأي، فليتعظ وليصبر عن المشتهى، فالأيام قلائل.
يدخل فقراء المؤمنين قبل الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام، فالجد الجد، بإقدام المبادرة.
فقد لاح العلم خصوصاً لمن بانت له بانة الوادي، إما بالعلم الدال على الطريق، وإما بالشيب الذي هو علم الرحيل وهو ما يأمله أهل الجد.
وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فيقال له في هذا الوقت ! فيقول أبادر طي صحيفتي.
وبعد هذا، فالمراد موفق، والمطلوب معان. وإذا أدرك لأمر هيأك له.

فصل اختلاف المعادن والمراتب
تأملت حالة عجيبة، وهو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالإضافة إلى من فوقهم، وهم يعلمون فضل أولئك.
فلو تفكروا فيما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات، غير أن ذلك لا يكون، لأن ذلك لا يقع لهم لطيب منازلهم، ولا يقع في الجنة غم.
ويرضى كل بما أعطى من وجهين، أحدهما أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه، وإن علت منزلة غيره، والثاني أنه يحبب إليه كما ولده المستوحش الخلقة، فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن.
إلا أن تحت هذا معنى لطيفاً، وهو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب الفضائل، ثم يتفاوت قصورها.
فمنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام. ومنهم من يسمع يسيراً من الحديث. ومنهم من يعرف قليلاً من الفقه، ومنهم من قد رضي من كل شيء بيسيره، ومنهم مقتصر على الفرائض: ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليلة ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص فاستخدمت البدن كما قال الشاعر:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع سمر ولا يسهل عليه السهر في سماع القرآن.
والإنسان يحشر ومعه تلك الهمة، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا، فكما لم تتق إلى الكمال وقنعت بالدون قنعت في الآخرة بمثل ذلك.
ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل، ولا يطمع من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفاً.
فإن قال قائل فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها !.
قلت: إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته.
وهل رأيت عامياً يحزن على فوات الفقه حزناً يقلقه ! هيهات.
لو كان ذلك الحزن عنده لحركه إلى التشاغل.
فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه. فافهم ما قلته وبادر، فهذا ميدان السباق.
فصل حكمة تعدد الملل
تفكرت في إبقاء اليهود والنصارى بيننا وأخذ الجزية منهم، فرأيت في ذلك حكماً عجيبة.
منها ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفاً فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم.
ومنها ظهور عزه بذلهم إلى غير ذلك مما قد قيل.
ووقع لي فيه معنى عجيب. وهو أن وجودهم وتعبدهم وحفظهم شرع نبيهم صلى الله عليه وسلم دليل على أنه قد كان أنبياء وشرائع وأن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، فقد اجتمعت الجن وهم على إثبات صانع، وإقرار برسل، فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن.
ثم هم يصبرون على باطلهم، ويؤدون الجزية، فكيف لا نصبر على حق، والدولة لنا.
وفي بقائهم احترام لما كان صحيحاً من الدين وليرجع متبصر وليستعمل مفكر.
فصل مشارب أهل العلم
قد ثبت بالدليل شرف العلم وفضله، إلا أن طلاب العلم افترقوا، فكل تدعوه نفسه إلى شيء.
فمنهم من أذهب عمره في القراءات، وذاك تفريط في العلم، لأنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ.
وما أقبح القارىء يسأل عن مسألة الفقه وهو لا يدري.
وليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات.
ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب، ومنهم من يتشاغل باللغة فحسب، ومنهم من يكتب الحديث ويكثر ولا ينظر في فهم ما كتب.
وقد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري ما يقول.

وكذلك القراء، وكذلك أهل اللغة والنحو.
وحدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه قال حدثني ابن المنصوري قال حضرنا مع أبي محمد بن الخشاب، وكان إمام الناس في النحو واللغة، فتذاكروا الفقه، فقال: سلوني عما شئتم، فقال له رجل: إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما هو فماذا نقول، فقال: هو ركن ! فدهشت الجماعة من قلة فقهه.
وإنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً ثم يهتم بالفقه.
ثم ينظر في مقصود العلوم، وهو المعاملة لله سبحانه والمعرفة به والحب له.
وما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم، وإنما ينبغي أن يعرف من ذلك اليسير والمنازل لعلم الأوقات، فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء والحكم فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة، وقد جرب فبان جهل مدعيه.
وقد تقع الإصابة في وقت. وعلى تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا التعجيل الغم.
فإن قال قائل: يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له.
وأبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء فإنه هذيان فارغ. وإذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً. فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود. هذا إذا صح له مراده.
وينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال.
وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب، فلا يخلو كتاب من فائدة.
وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ.
وليحذر صحبة السلطان، ولينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وليجتهد في رياضة نفسه والعمل بعلمه، ومن تولاه الحق وفقه.

فصل هذه الحجب على العقل
طال تعجبي من أقوام لهم أنفة وعندهم كبر زائد في الحد.
خصوصاً العرب الذين من كلمة ينفرون، ويحاربون، ويرضون بالقل والذل حتى أن قوماً منهم أدركوا الإسلام فقالوا: كيف نركع ونسجد فتعلونا أستاهنا ؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود.
ومع هذه الأنفة يذلون لمن هم خير منه، هذا يعبد حجراً، وهذا يعبد خشبة.
وقد كان قوم يعبدون الخيل والبقر، وإن هؤلاء لأخس من إبليس، فإن إبليس أنف لادعائه الكمال أن يسجد لناقص فقال: " أنا خير منه " وفرعون أنف أن يعبد شيئاً أصلاً.
فالعجب ذل هؤلاء المفتخرين المتعجبين المتكبرين لحجر أو خشبة.
وإنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين. وقد أشير إلى هذا في ذم الأصنام في قوله تعالى: " ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون بها " .
والمعنى أن لكم هذه الآلات المدركة وهم ليس لهم شيء منها، فكيف يعبد الكامل الناقص.
غير أن هوى القوم في متابعة الأسلاف، واستحلاء ما اخترعوه بآرائهم غطى على العقول، فلم تتأمل حقائق الأمور.
ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق وقد عرفوه.
فأمية بن أبي الصلت يقر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقصده ليؤمن به، ثم يعود فيقول: لا أؤمن برسول ليس من ثقيف.
وأبو جهل يقول والله ما كذب محمد قط، ولكن إذا كانت السدانة والحجابة في بني هاشم ثم النبوة فما بقي لنا ؟.
وأبو طالب يرى المعجزات ويقول: إني لأعلم أنك على الحق ولولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك.
فنعوذ بالله من ظلمة حسد، وغيابة كبر، وحماقة هوى يغطي على نور العقل. ونسأله إلهام الرشد، والعمل بمقتضى الحق.
فصل درجات العابدين
قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا الله عز وجل على طريق السلامة والمحبة واللطف فعاملهم كذلك، لأنهم لا يحتمل طبعهم غير ذلك.
ففي الأوائل برخ العابد خرج يستسقي فقال: - مناجياً الله - ما هذا الذي لا نعرفه منك. اسقنا الساعة فسقوا.
وفي الصحابة أنس بن النضر يقول: والله لا تكسر سن الربيع، فجرى الأمر كما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره.
وهؤلاء قوم غلب عليهم ملاحظة اللطف والرفق، فلطف بهم، وأجروا على ما اعتقدوا.
وهناك أعلى من هؤلاء يسألون فلا يجابون، وهم بالمنع راضون.
ليس لأحدهم انبساط، بل قد قيدهم الخوف، ونكس رؤوسهم الحذر، ولم يروا ألسنتهم أهلاً للانبساط، فغاية آمالهم العفو.

فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الإجابة عاد على نفسه بالتوبيخ، فقال: مثلك لا يجاب، وربما قال لعل المصلحة في منعي.
وهؤلاء الرجال حقاً، والأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب، فإن لم يجب تذمر في باطنه كأنه يطلب أجرة عمله، وكأنه قد نفع الخالق بعبادته.
وإنما التعبد حقاً من يرضى ما يفعله الخالق، فإن سأل فأجيب رأى ذلك فضلاً.
وإن منع رأى تصرف مالك، فلم يجل في قلبه اعتراض بحال.

فصل علماء القشور وعلماء اللباب
رأيت جماعة من العلماء يتفسحون ويظنون أن العلم يدفع عنهم، وما يدرون أن العلم خصمهم وأنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب.
وذاك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق، والعالم لم يتأدب معه.
ورأيت بعض القوم يقول: أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت. ثم كان يتفسح في أشياء لا تجوز.
فتفكرت فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق، والنظر في سير القدماء، والتأدب بآداب القوم، ومعرفة الحق وما يجب له، ليس عند القوم.
وإنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل وما يحرم، وليس كذلك العلم النافع.
إنما العلم فهم الأصول ومعرفة المعبود وعظمته وما يستحقه، والنظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم، هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال.
ورأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر، فبلغني أنه قال: قد عبدته عبادة ما عبده بها أحد، والآن قد ضعفت. فقلت: ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سبباً لرد الكل.
لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئا، وإنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات ففي حق نفسه فعل.
وما مثله إلا كمثل من وقف يكدي، فلا ينبغي أن يمن على المعطي.
وإنما سبب هذا الانبساط الجهل بالحقائق، وأين هو من كبار علماء المعاملة الذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم إذا رآه السبع هرب منه وهو يقول إذا انقضى الليل عند صلاته: يا رب أجرني من النار. أو مثلي يسأل الجنة !.
وأبلغ من ذا قول عمر: وددت أن أنجو كفافاً لا لي ولا علي.
وقول سفيان عند موته لحماد بن سلمة: أترجو لمثلي أن ينجو من النار. وقول أحمد: لا بعد.
فأنا أحمد الله عز وجل إذ تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلاء الذين ذممتهم. وبالزهد من هؤلاء الذين عبتهم فإني قد اطلعت من عظمة الخالق وسير المحققين على ما يخرس لسان الانبساط. ويمحو النظر إلى كل فعل.
وكيف أنظر إلى فعلي المستحسن ؟ وهو الذي وهبه لي وأطلعني على ما خفي عن غيري.
فهل حصل ذلك بي أو بلطفه ؟ وكيف أشكر توفيقي الشكر !.
ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء لا يحتقر نفسه. هذا في صورة العلم. فدع معناه.
وأي عابد يسمع بالعباد ولا يجري فيي صورة التعبد، فدع المعنى.
نسأل الله عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا، حتى لا يبقى للعجب بمحتقر ما عندنا أثر في قلوبنا: ونرغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسان أن تنطق بالإدلال ونرجو من فضله توفيقاً نلاحظ به آفات الأعمال التي بها نزهو حتى تثمر الملاحظة لعيوبها الخجل من وجودها، إنه قريب مجيب.
فصل الآخرة خير وأبقى
سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة: وليس في الدنيا طيب عيش على الدوام إلا للعارف الذي شغله رضى حبيبه والتزود للرحيل إليه.
فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الآخرة.
وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة، فهو راض بكل ما يجري عليه يرى ذلك من قضاء الخالق، ويعلم أنه مراده، كما قال قائلهم:
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني
فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوت مراده، ويتنغص لبعد ما يشتهي.
فلو افتقر تغير قلبه، ولو ذلك تغير، وهذا لأنه قائم مع غرضه وهواه.
وما أحسن قول الحصري: إيش علي مني وإيش لي فيّ.
وهذا كلام عارف، لأنه إن كان ينظر إلى حقيقة الملكة فعبد يتصرف فيه مولاه.
فاعتراضه لا وجه له، وإرادته أن يقع غير ما يجب فضول في البين، وإن نظر.
أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم " إِنَّ اللّه اشترى " .
أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه ؟.

والله لو قال المالك سبحانه: إنما خلقتكم ليستدل على وجودي، ثم أنا أفنيكم ولا إعادة، لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعاً لما قلت وطاعة.
وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم.
فكيف وقد وعد بالأجر الجزيل، والخلود في النعيم، الذي لا ينفد.
لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة وما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا لاح الحرم.
فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين، لاح المنزل.
والسرور السرور يا متوسطين ضربت الخيم.
والفرح الكامل يا عارفين، قد تلقيتم بالبشائر.
زالت والله أثقال المعاملات عنكم، فكانت معرفتكم بالمبتلى حلاوة تعقبت شربة المجاهدة، فلم يبق في الفم للمر أثر.
تخايلوا قرب المناجاة ولذة الحضور ودوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس الدنيا في الأفول:
ما بيننا له إِلاَّ تصر ... م هذه السبع البواقي
حتى يطول حديثنا ... بصنوف ما كنا نلاقي

فصل حكمة المنع
تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه لك، فإنه لم يمنعك بخلاً، إنما منعك لطفاً. فرأيته كلام من قد عرف الحقائق.
فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزه أصلح له، لأنه لو قدر عليهن تشتت قلبه إما بحفظهن أو بالكسب عليهن.
فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره وانقلب هم الآخرة إلا اهتمام بهن.
فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر.
وإن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه.
وإن أردن الوطء وهو عاجز فربما أهلكنه أو فجرن.
وإن مات معشوقه هلك هو أسفاً.
فالذي يطلب الفائق يطلب سكيناً لذبحه وما يعلم.
وكذلك إنفاذ قدر القوت فإنه نعمة، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً.
ومتى كثر، تشتت الهمم، فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم، فقنع بدفع الوقت على كل حال.
فصل القدرة على التكليف
رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار، فيقول قائلهم: إن وفقت فعلت، وهذا تعلل بارد، ودفع للأمر بالراح.
وهو يشير إلى رد أقوال الأنبياء والشرائع جميعها.
فإن لو قال كافر للرسول: إن وفقني أسلمت. لم يجبه إلا بضرب العنق.
وهذا جنس قول الناس لعلي رضي الله عنه: ندعوك إلى كتاب الله فقال: كلمة حق أريد بها باطل.
وكذلك قول الممتنعين عن الصدقة " أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه " .
ولعمري إن التوفيق أصل الفعل، ولكن التوفيق أمر خفي. والخطاب بالفعل أمر جلي.
فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي.
ومما يقطع هذا الاحتجاج أن يقال لهذا القائل: إن الله سبحانه لم يكلفك شيئاً إلا وعندك أدوات ذلك الفعل ولك قدرة عليه.
فإن كانت القدرة عليه معدومة والأدوات غير محصلة فلا أمر ولا تكليف.
وإن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك وهواك، فاسع بها في إقامة مفروضك.
مثال ذلك: أنك تسافر في طلب الربح، وتسأل الحج فلا تفعل، ويثقل عليك الانتباه بالليل. فلو أردت الخروج إلى العيد انتبهت سحراً.
وتقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثه ساعات فإذا وقفت في الصلاة استعجلت وثقل عليك.
فإياك إياك أن تتعلق بأمر لا حجة لك فيه. ثم من نصيبك ينقص، ومن حظك يضيع، فإنما تحرك لك، وإنما تحرض لنفعك.
فبادر فإنك مبادر بك. ومما يزيل كسلك - إن تأملته - أن تتخايل ثواب المجتهدين وقد فاتك.
ويكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس. فأما الميت الهمة. فما لجرح بميت إيلام.
كيف بك إذا قمت من قبرك وقد قربت نجائب النجاة لأقوام وتعثرت، وأسرعت أقدام الصالحين على الصراط وتخبطت.
هيهات، ذهبت حلاوة البطالة، وبقيت مرارة الأسف، ونضب ماء كأس الكسل، وبقي رسول الندامة !.
وما قدر البقاء في الدنيا بالإضافة إلى دوام الآخرة ؟.
ثم ما قدر عمرك في الدنيا ونصفه نوم، وباقيه غفلة ؟.
فيا خاطباً حور الجنة وهو لا يملك فلساً من عزيمة، افتح عين الفكر في ضوء العبر لعلك تبصر مواقع خطابك.
فإن رأيت تثبيطاً من الباطن فاستغث بعون اللطف، وتنبه في الأسحار، لعلك تتلمح ركب الأرباح، وتعلق على قطار المستغفرين ولو خطوات، وانزل في رباع المجتهدين ولو منزلاً أي منزل.
فصل أصناف الضلالات

نظرت في قول أبي الدرداء رضي الله عنه: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه اليوم إلا القبلة، فقلت واعجباً كيف لو رآنا اليوم وما معنا من الشريعة إلا الرسم.
الشريعة هي الطريق. وإنما تعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأفعاله أو أقواله.
وسبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه وسلم إما الجهل بها أو الخروج عليها فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقاً، وقد كانت الصحابة شاهدته وسمعت منه فقل أن ينحرف أحد منهم عن جادته، إلا أبا الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الانحراف لميل الطباع فضج فإنه قد يعرف الإنسان الصواب، غير أن طبعه يميل عنه.
وما زالت الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يقل الإسعاد بها والنظر فيها إلى أن أعرض عنها بالكلية في زماننا هذا وجهلت إلا النادر، واتخذت طرائق تضاد الشريعة. وصارت عادات، وكانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة.
وإذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعرض عن علوم الشريعة فكيف العوام ؟.
ولما أعرض كثير من العلماء عن المنقولات ابتدعوا في الأصول والفروع.
فالأصوليون تشاغلوا بالكلام وأخذوه من الفلاسفة وعلماء المنطق.
ودخلت أيدي الفروعيين في ذلك فتشاغلوا بالجدل، وتركوا الحديث الذي يدور عليه الحكم.
ثم رأى القصاص أن النفاق بالنفاق، فأقبل قوم منهم على التلبيس بالزهد، ومقصودهم الدنيا.
ورأى جمهورهم أن القلوب تميل إلى الأغاني، فأحضروا المطربين من القراء وأنشدوا أشعار الغزل، وتركوا الاشتغال بالحديث، ولم يلتفتوا إلى نهي العوام عن الربا والزنا، وأمرهم بأداء الواجبات.
وصار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى والمجنون والطور وموسى وأبي يزيد والحلاج والهذيان الذي لا محصول له.
وانفرد أقوام بالتزهد والانقطاع، فامتنعوا عن عيادة المرضى، والمشي بين الناس، وأظهروا التخاشع، ووضعوا كتباً للرياضات، والتقلل من الطعام. وصارت الشريعة عندهم كلام أبي يزيد والشبلي والمتصوفة.
ومعلوم أن من سبر الشريعة لم ير فيها من ذاك شيئاً.
وأما الأمراء فجروا مع العادات، وسموا ما يفعلونه من التنطع سياسات لم يعملوا فيها بمقتضى الشريعة، وتبع الأخير في ذلك المتقدم.
فأين الشريعة المحمدية ؟.
ومن أين تعرف مع الإعراض عن المنقولات ؟.
نسأل الله عز وجل التوفيق للقيام بالشريعة، والإعانة على رد البدع إنه قادر.

فصل مخاطر الهوى
كنت أسمع علياً بن الحسين الواعظ يقول على المنبر: والله لقد بكيت البارحة من يد نفسي.
فبقيت أنا أتفكر وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي ؟.
هذا رجل متنعم له الجواري التركيات. وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء. ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى.
وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض والأفضال على الناس.
وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة الندى. فما الذي يبكيه منها ؟.
فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل لها عرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر ويضعف البدن ويقع النقص، ويرق الجاه، ولا يحصل المراد.
وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم.
فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه، وعلم سترها ودينها، أن يعقد الخنصر على صحبتها.
وأكثر أسباب دوام محبتها أن لا يطلب بصره، فمتى أطلق بصره أو أطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق وينقص المخالطة، ولا يستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب، كما قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الحور موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضرّ مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ثم تصير الثانية كالأولى، وتطلب النفس ثالثة وليس لهذا آخر، بل الغض عن المشتهيات، ويأس النفوس من طلب المستحسنات، يطيب العيش مع المعاشر.

ومن لم يقبل هذا النصح تعثر في طرق الهوى وهلك على البارد، وربما سعى لنفسه في الهلاك العاجل، وفي العار الحاضر، فإن كثيراً من المستحسنات لسن بصينات ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل.
ومنهن المبذرات في المال، ومنهن المبغضة للزوج وهو يحبها كعابد صنم.
وأبله البله الشيخ الذي يطلب صبية... ولعمري إن كمال المتعة إنما يكون بالصبا، كما قال القائل: فعلت بنفسي النساء الصغار ومتى لم تكن الصبية بالغة لم يكمل الاستمتاع، فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع والشيخ لا يقدر.
فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها، وهلك سريعاً.
ولا ينبغي أن يغتر بشهوته الجماع، فإن شهوته كالفجر الكاذب.
وقد رأينا شيخنا اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتاً.
وكان في المارستان شاب قد بقي شهرين بالقيام، فدخلت عليه زوجته فوطئها فانقلب عنها ميتاً.
فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم، والمني، فإذا فرغا ولم تجد ما تعتمد عليه ذهبت.
وإن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء فهي لا تقنع فتصير كالعدو له.
فربما غلبها الهوى ففجرت أو احتالت على قتله، خصوصاً الجواري اللواتي أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك ففيهن قسوة القلب.
وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء، فإن اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك فليرع لها معاشرتها، وليتمم نقصه عندها تارة بالإنفاق، وتارة بحسن الخلق.
وليزد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات، وليكثر من ذكر القيامة وذم الدنيا، وليعرض بذكر محبة العرب، فإنهم كانوا يعشقون ولا يرون وطء المعشوق، كما قال قائلهم:
إنما الحب قبلة ... وغمز كف وعضد
إنما العشق هكذا ... إن نكح الحب فسد
فإن قدر أن يشغلها بالحمل، أو ولد عرقلها به، فاستبقى قوته في مدة اشتغالها بذلك.
فإن وطىء فليصبر عن الإنزال حفظاً لقوته وقضاء لحقها.
وقد قيل لبشر: لم لم تتزوج ؟ فقال: على ماذا أغر مسلمة، وقد قال الله عز وجل: " ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعرُوفِ " .
والمسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول ورأى حبة الفخ فبادر طالباً لها ناسياً تعرقل الجناح والذبح.
ومجموع ما قد بسطته حفظ البصر عن الإطلاق، ويأس النفس عن التحصيل، قنوعاً بالحاصل خصوصاً من قد علت سنه، وعلم أن الصبية عدو له متمنية هلاكه، وهو يربيها لغيره.
وفي بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الآفات، نسأل الله عز وجل توفيقاً من فضله وعملاً بمقتضى العقل والشرع، إنه مجيب قريب.

فصل التعجيل بالخير
أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد وليس لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حد.
فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل.
وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين، فتعلم أنك بعد أيام مثلهم، ثم لا يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك، هذا والله شأن الحمقى.
حاشا من له عقل أن يسلك هذا المسلك.
بلى والله إن العاقل ليبادر السلامة، فيدخر من زمنها للزمن، ويتزود عند القدرة على الزاد لوقت العسرة.
خصوصاً لمن قد علم أن مراتب الآخرة إنما تعلو بمقدار علو العلم لها، وأن التدارك بعد الفوت لا يمكن.
وقدر أن العاصي عفى عنه، أينال مراتب العمال ؟.
ومن أجال على خاطره ذكر الجنة التي لا موت فيها ولا مرض ولا نوم ولا غم، بل لذاتها متصلة من غير انقطاع، وزيادتها على قدر زيادة الجد ههنا انتهب هذا الزمان فلم ينم إلا ضرورة، ولم يغفل عن عمارة لحظة.
ومن رأى أن ذنباً قد مضت لذته وبقيت آفاته دائمة كفاه ذلك زاجراً عن مثله، خصوصاً الذنوب التي تتصل آثارها مثل أن يزني بذات زوج، فتحمل منه فتلحق بالزوج فيمنع الميراث أهله ويأخذه من ليس من أهله، وتتغير الأنساب والفرش، ويتصل ذلك أبداً، وكله شؤم لحظة.
فنسأل الله عز وجل توفيقاً يلهم الرشاد، ويمنع الفساد إنه قريب مجيب.
فصل من مزالق علم الكلام
تأملت سبب تخليط العقائد، فإذا هو الميل إلى الحس وقياس الغائبات على الحاضر.
فإن أقواماً غلب عليهم الحس، فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده، ونسوا أنه قد ظهر بأفعاله. وأن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل.

فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد وفيها غرس وبناء علم أنه لا بد من غارس، إذ الغرس لا يكون بنفسه ولا البناء.
ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع، ثم قاسوه على أحواله فشبهوا، حتى إن قائلهم يقول: في قوله: ينزل إلى السماء ينتقل، ويستدل بأن العرب لا تعرف النزول إلا الانتقال.
وضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق كثير في ذاته. فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب ويرضى.
ونسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء.
وضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن نسبوا فعله إلى ضد الحكمة تعالى عن ذلك.
ومن رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول: إعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، وصفاته ليست كالصفات، وأفعاله لا تقاس بأفعال الخلق.
أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتاً إلا أن تكون جسماً وذاك يستدعي سابقة تأليف، وهو منزه عن ذلك، لأنه المؤلف، وإما أن يكون جوهراً فالجوهر متحيز، وله أمثال، وقد جل عن ذلك، أو عرضاً، فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره، وقد تعالى عن ذلك.
فإذا أثبتنا ذاتاً قديمة خارجة عما يعرف، فليعلم أن الصفات تابعة لتلك الذات، فلا يجوز لنا أن نقيس شيئاً منها على ما نفعله ونفهمه، بل نؤمن به ونسلمه.
وكذلك أفعاله، فإن أحدنا لو فعل فعلاً يجتلب به نفعاً ولا يدفع عنه ضراً عد عابثاً. وهو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه، ولا لرفع ضر إذ المنافع لا تصل إليه والمضار لا تتطرق عليه.
فإن قال قائل: إنما خلق الخلق لينفعهم: قلنا: يبطله، إنه خلق منهم للكفر وعذبهم.
ونراه يؤلم الحيوان والأطفال، ويخلق المضار، وهو قادر أن لا يفعل ذلك.
فإن قال قائل: إنه يثيب على ذلك. قلنا: وهو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء، فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيراً فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك، لأنه قادر أن يغنيه بلا جراح.
ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من الجوع والقتل مع قدرة الناصر، ثم يسأل أمه فلا يجاب، ولو كان المسؤول بعضنا قلنا لم تمنع ما لا يضرك ؟.
غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا ولا تعلل.
والذي يوجب علينا التسليم أن حكمته فوق العقل، فهي تقضي على العقول، والعقول لا تقضي عليها.
ومن قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش؛ وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن.
فإنهم قالوا: كيف يأمر بشيء ويقضي بامتناعه ؟ ولو أن إنساناً إلى داره ثم أقام من يصد الداخل لعيب.
ولقد صدقوا فيما يتعلق بالشاهد. فأما من أفعاله لا تعلل ولا يقاس يشاهد، فإنا لا نصل إلى معرفة حكمته.
فإن قال قائل: فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه. قلنا: لا منافاة، لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم، وأنه مالك، والحكيم لا يفعل شيئاً إلا الحكمة، غير أن الحكمة، لا يبلغها العقل.
ألا ترى أن الخضر خرق سفينة وقتل شخصاً، فأنكر عليه موسى عليهما السلام بحكم العلم ولم يطلع على حكمة فعله، فلما أظهر له الحكمة أذعن، ولله المثل الأعلى.
فإياك إياك أن تقيس شيئاً من أفعاله على أفعال الخلق، أو شيئاً من صفاته أو ذاته سبحانه وتعالى فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الاستواء اعتماداً، والنزول نقلة، ونجوت من الاعتراض الذي أخرج قوماً إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة.
وأول القوم إبليس، فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة، فنسي أنه إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له، والعقد الذي منحه، فنسي أن الواهب أعلم " أولم يروا أن اللّه الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " .
ولقد رأيت لابن الرومي اعتراضاً على من يقول بتخليد الكفار في النار. قال: إن ذلك التأبيد مزيد من الانتقام ينكره العقل، وينبغي كل ما يقوله العقل، ولا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل، وتخليد الكفار لا غرض فيه للمعذب ولا للمعذب فلا يجوز أن يكون.
فقلت العجب من هذا الذي يدعي وجود العقل ولا عقل عنده.
وأول ما أقول له: أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار أم لم يصح؟.
فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة وصحة القرآن، فما وجه ذكر الفرع مع جحد الأصل ؟.
وإن قال قد ثبت عندي فواجب عليه أن يتمحل لإقامة العذر، إلا أن يقف في وجه المعارضة.

وإنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد، وقد بينا أن ذات الحق كالذوات وأن صفته لا كالصفات، وأن أفعاله لا تعلل.
ولو تلمح شيئاً من التعليل لخلود الكفار لبان، إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم لإظهار صدق الوعيد. فإنه قال: من كفر بي خلدته في العذاب ولا جناية كالكفر ولا عقوبة كدوام الإحراق فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد.
ومن الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار. وقد قال سبحانه " ويشف صدور قوم مؤمنين " .
وكم من قلق في صدر، وحنق على أبي جهل فيما فعل، وكم من غم في قلب عمار وأمه سمية وغيرهم من أفعال الكفار بهم فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل الإيمان.
ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض وذكر المعذب بما لا يحسن، فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم واعتراضهم فيهم يعذبون لذلك.
ودليل كفرهم " ويحلفون له كما يحلفون لكم " فإذن كفرهم ما زال، ومعرفتهم به ما حصلت، والشر كامن في البواطن، وعلى ذلك يقع التعذيب " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " .

فصل التسليم لله
ينبغي للمؤمن بالله سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا أن لا يعترض على الله سبحانه في شيء لا في باطنه ولا في ظاهره، ولا يطلب تعليلات أفعاله كلها.
فإن المتكلمين أعرضوا عن السنن وتكلموا بآرائهم فما صفى لهم شرب، بدليل اختلافهم.
وكذلك إضمار القياس؛ فإنهم لما أعلموه جاءت أحاديث تعكر عليهم.
والصواب التعليل لما يمكن، والتسليم لما يخفى.
وكذلك سؤال الحق سبحانه، فإذا دعاه المؤمن ولم ير إجابة سلم وفوض وتأول للمنع.
فيقول: ربما يكون المنع أصلح وربما يكون لأجل ذنوبي، وربما يكون التأخير أولى، وربما لم يكن هذا مصلحة.
وإذا لم يجد تأويلاً لم يختلج في باطنه نوع اعتراض، بل يرى أنه قد تعبد بالدعاء فإن أنعم عليه فبفضل، وإن لم يجب فما لك يفعل ما يشاء.
على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أعراض الدنيا التي إذا ردت كان أصلح.
فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق والرضى بتدبيره وإن أساء.
فمتى أقبلت عليه أقبل على إصلاح شأنك.
وإذا عرفت أنه كريم فلذ به ولا تسأل.
ومتى أقبلت على طاعاته فمحال أن يجود صانع وينصح في العمل ثم لا يعطى الأجرة.
فصل اليقين بالآخرة
والله إني لأتخايل دخول الجنة ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص، في نعيم متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى. فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه.
ومعلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الاجتهاد ههنا.
فواعجبا من مضيع لحظة يقع فيها.
فتسبيحة تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم وظلها.
فيا أيها الخائف من فوت ذلك شجع قلبك بالرجاء.
ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية.
فإنه من ساعة خروج الروح لا بل قبل خروجها تنكشف المنازل لأصحابها. فيهون سير المجذوب للذة المنتقل إليه.
ثم الأرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة.
فكل الآفات والمخافات في نهار الأجل، وقد اصفرت شمس العمر. فالبدار البدار قبل الغروب ولا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل فتذاكر العواقب فإذا فرغ ذلك المجلس، فالنظر في سير المجدين فإنه يعود مستجلباً للفكر منها شتى الفضائل والتوفيق من وراء ذلك.
ومتى أرادك لشيء هيأك له.
فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا من العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض الفهم وعلل العقل.
والعزلة عن الشر حمية والحمية سبب العافية.
فصل عشاق الدنيا
رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا.
وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته.
فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح لأنه يستغني بالرضا بالقضاء فمهما قدر له رضي.
وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض، لأنه مملوك مدبر فتكون همته في خدمة الخالق.
ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق ولا الالتذاذ بالشهوات.
لأنه إما أن يكون مقصراً في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض يزهد في الفاني لينال الباقي.
وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل.

فتراه متأدباً في الخلوة به، مستأنساً بمناجاته، مستوحشاً من مخالطة خلقه، راضياً بما يقدر له.
فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره.
فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش، لأن الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبداً في الحسرات مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة، نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له فإنه لا حول ولا قوة إلا به.

فصل الدنيا مثار القلق
إن اعتمدت على الزوجة لم تكن كما أريد. إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها وإن تمت أخلاقها كانت مريدة لغرضها لا لي. ولعلها تنتظر رحيلي.
وإن اعتمدت على الولد فكذلك، والخادم والمريد لي كذلك، فإن لم يكن لهما مني فائدة لم يريداني.
وأما الصديق فليس ثم، وأخ في الله كعنقاء مغرب، ومعارف يفتقدون أهل الخير ويعتقدون فيهم قد عدموا وبقيت وحدي.
وعدت إلى نفسي - وهي لا تصفوا إلي أيضاً ولا تقيم على حالة سليمة - فلم يبق إلا الخالق سبحانه، فرأيت أني اعتمدت على إنعامه فما آمن ذلك البلاء، وإن رجوت عفوه فما آمن عقوبته، فواأسفا لا طمأنينة ولا قرار.
واقلقي من قلقي، واحرقي من حرقي.
بالله ما العيش إلا في الجنة، حيث يقع اليقين بالرضا والمعاشرة لمن لا يخون ولا يؤذي. فأما الدنيا فما هي دار ذاك.
فصل حقائق الناس
ينبغي لمن صحب سلطاناً أو محتشماً أن يكون ظاهره معه وباطنه سواء؛ فإنه قد يدس إليه من يخبره، فربما افتضح في الابتلاء.
وقد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم، ويجعلون له حجرة في دورهم، فإذا أرادوا أن يختصوه اختبروه باطناً وذاك لا يدري، فيظهر منه ما لا يصلح فيطرد !.
ولقد امتحن أبرويز رجلاً من خاصته، فدس إليه جارية معها ألطاف، وأمرها أن لا تقعد عنده فحملتها.
ثم أنفذها مرة أخرى وأمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت، فلاحظها الرجل.
ثم بعثها ثالثة وأمرها أن تطيل القعود عنده وتحدثه، فأطالت الحديث معه، فأبدى لها شيئاً من الميل إليها، فقالت: أخاف أن يطلع علينا، ولكن دعني أدبر في هذا.
فذهبت فأخبرت الملك بذلك، فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك، فلما جاءته قال: ما فعلت فلانة قالت مريضة فاربد لونه.
ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى، فقالت له: إن الملك يمضي إلى بستانه فيقيم هناك.
فإن أدرك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل.
فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام هنا فاختر المقام ههنا، وأخبره أنك لا تقدر على الحركة.
فإن أجابك إلى ذلك جئت إليك كل ليلة ما دام الملك غائباً، فسكن إلى قولها، ثم مضت وأخبرت الملك بذلك.
فلما كان بعد ثلاث، استدعاه الملك فقال: إني مريض.
فعاد الرسول فأخبره فتبسم. وقال: أول الشر.
فوجه إليه محفة حمل فيها إليه فلما بصر به أبرويز قال: والمحفة الشر الثاني.
فرأى العصابة على رأسه. قال: والعصابة الشر الثالث.
فقال له الملك: أيهما أحب إليك، الانصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام ههنا إلى وقت رجوعي، قال: المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة، فتبسم وقال: حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك.
ثم أمر له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا.
فأيقن الرجل بالأمر، وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً فيقرأ على الناسر حرفاً حرفاً إذا حضروا، وأن ينفى إلى أقصى المملكة، وتجعل العصا على رأس رمح يكون معه حيث كان ليحذر منه من لا يعرفه.
فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره وقال: ومات من ساعته.
قلت: وقد كان جماعة من الأمراء يتنكرون ويسألون العوام عن سيرتهم، فيتكلم العامي بما لا يصلح فيضبطونه وربما بعثوا دسيساً عليه.
ورب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها.
ورأى عمر بن عبد العزيز رجلاً من العمال كثير الصلاة، فدس عليه من قال له: إن أخذت لك الولاية الفلانية فما تعطيني ؟ قال: أعطيتك كذا وكذا، قال له عمر: غررتنا بصلاتك.
وقد بلغت أن رجلاً كلم امرأة فأجابته فاستدعته إلى دارها فلما دخل أقامت على قتله.
فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو بعل يجوز أنه يكون جاسوساً ومختبراً.

وكذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب أو سب رجل فربما كان له في الحاضرين قريب.
ولا يوثق بمودة لا أصل لها فربما كانت تحتها آفة تقصده.
وليحذر من كل أمر يحتمل. ورب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحث بها من لا يقصد أذى للقائل فبلغت فتأذى.
ورب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده.
فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد خصوصاً من عدو آذيته أو قتلت له قريباً.
فربما أظهر الجميل شبكة لاصطيادك كحديث الزباء.

فصل عجز الشيخوخة
رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها ويزداد حرصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. يشيب ابن آدم وتشب منه خصلتان: الحرص والأمل.
ورأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا وكثرة العائلة وقوة الحاجة.
فيحتاج الإنسان إلى التعرض بما يشين العرض ليحصل الغرض.
فقلت إلهي أبعد رؤية جبال عرفة أضل ؟ أبعد مشارفة الحرم تأخذني أعراب البادية ؟.
واأسافا أيطلع فجر النحر وما وصلت إلى عرفات ويا ضياع سفر العم وما حصل المقصود:
قد كنت أرجوك لنيل المنى ... واليوم لا أطلب إلاَّ الرضى
ثم قلت: يا نفس ما لك ملجأ إلا اللجأ واستغاثة الغريق.
فإن رحمت وإلا فكم من حسرة تحت التراب.
فصل الاشتغال عن الهوى
شكا لي بعض الأشياخ فقال: قد علت سني وضعفت قوتي، ونفسي تطلب مني شراء الجوار الصغار.
ومعلوم أنهن يردن النكاح وليس فيّ.
ولا تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت.
فقلت له: عندي جوابان: أحدهما الجواب العامي، وهو أن أقول: ينبغي أن تشتغل بذكر الموت وما قد توجهت إليه، وتحذر من اشتراء جارية لا تقدر على إيفاء حقها فإنها تبغضك، فإن أجهدت استعجلت التلف. وإن استبقيت قوتك غضبت هي، على أنها لا تريد شيخاً كيف كان.
وقد أنشدنا علي بن عبيد الله قال أنشدنا محمد التميمي:
أفق يا فؤادي من غرامك واستمع ... مقالة محزون عليك شفيق
علقت فتاة قلبها متعلق ... بغيرك فاستوثقت غير وثيق
وأصبحت موثوقاً وراحت طليقة ... فكم بين موثوق وبين طليق
فاعلم أنها تعد عليك الأيام، وتطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك.
وربما قصدت حتفك، فاحذر والسلامة في الترك، والاقتناع بما يدفع الزمان.
والجواب الثاني فإني أقول: لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا تكون.
فإن كنت لا تقدر فالأولى مصابرة الترك للكل. وإن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة وطيب الخلق إلا أنه يخاطر.
وإن كنت تقدر في أوقات على ذلك، ورأيت من نفسك توقاً شديداً، فعليك فالمراهقات فإنهن ما عرفن النكاح، وما طلبن الوطء، وأغمرهن بالإنفاق وحسن الخلق مع الاحتياط عليهن، والمنع من مخالطة النسوة.
وإذا اتفق وطء فتصبر عن الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها.
واعتدم وعظها وتذكيرها بالآخرة، واذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح، وقبح صورة الفعل، ولفت قلبها إلى ذكر الصالحين، ولا تخل نفسك من الطيب والتزين والكياسة والمداراة والإنفاق الواسع.
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة.
فصل الحكم بعد تريث
أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة، ولم يتصور تغيرها ولا وقوع ما يجوز وقوعه.
مثاله أن يغتر بدولة فيعمل بمقتضى ملكه فإذا تغيرت هلك.
وربما عادى خلقاً اغتراراً بأنه متسلط أو أنه صاحب سلطان، فإذا تغيرت حاله أكل كفيه ندماً عند فوات التدارك.
وكذلك من له مال يبذره سكوناً إلى وجود المال، وينسى حاله عند العدم.
وكذا من يتناول الشهوات، ويكثر من المآكل والمشارب والنكاح ثقة بعافيته وينسى ما يعقب ذلك من الأمراض والآفات.
ومن أظرف الأحوال أن يحب جاريته فيعتها ويهب لها، أو امرأة فيسكن إليها ويهب لها فتتمكن، ولا تمضي الأيام حتى يسلوها أو يطلب غيرها، ولا يجد طريقاً للخلاص.
فإن تخلص منها أخذت ما غنمت منه فلقي من الغيظ أضعاف ما يلتذ به.
فلا ينبغي أن يوثق بامرأة ولا بمحبة إنسان، فإنه قد يحب امرأة ويظن أنه لا يسلوها أبداً فيسترسل إليها والسلو يحدث.
وربما أحب غيرها فينسى الأولى فيصعب عليه الخلاص من الأولى.

فالعاقل لا يدخل في شيء حتى يهيء الخروج منه، فإن الأشياء لا تثبت، والمحبة لا تدوم، والتغير مقرون بكل حال.
وكذلك يعطي ماله ولده ثم يبقى كلاً عليه فيتمنى الولد هلاكه، وربما عل به في النفقة.
وكذلك قد يثق بالصديق فيبث أسراره إليه، فربما أظهر ذلك فكان منها ما يوجب هلاكه.
وكذلك يغتر الإنسان بالسلامة وينسى طروق الموت فيأتيه بغتة فيبتهته وقد فات الاستدراك ولم يبق إلا الندم.
فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب، محترزة مما يجوز وقوعه، عاملة بالاحتياط في كل حال حافظة للمال والسر، غير واثقة بزوجة ولا ولد ولا صديق، متأهبة للرحيل متهيئة للنقلة. هذه صفة أهل الحزم.

فصل التسليم واليقين
من أعجب الأمور طلب الاطلاع على تحقيق العرفان لذات الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وهيهات، ليس إلا المعرفة بالجملة.
ولقد أوغل المتكلمون فما وقعوا بشيء فرجع عقلاؤهم إلى التسليم.
وكذلك أصحاب الرأي، مالوا إلى القياس فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم، فلم يجدوا ملجأ إلا التسليم، فسموا ما خالفهم استحساناً.
الفقيه من علل بما يمكن، فإذا عجز استطرح للتسليم، هذا شأن العبيد.
فأما من يقول لم فعل كذا وما معنى كذا، فإنه يطلب الاطلاع على سر الملك، وما يجد إلى ذلك سبيلاً لوجهين: أحدهما أن الله تعالى ستر كثيراً من حكمه عن الخلق.
والثاني أنه ليس في البشر إدراك حكم الله تعلى كلها، فلا يبقى مع المعترض سوى الاعتراض المخرج إلى الكفر " فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " .
والمعنى من رضي بأفعالي وإلا فليخنق نفسه فما أفعل إلا ما أريد.
فصل أثر المخالطة
من رزقه الله تعالى العلم، والنظر في سير السلف، رأى أن هذا العالم ظلمة.
وجمهور العالم على غير الجادة، والمخالطة لهم تضر ولا تنفع.
فالعجب لمن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق من المخالطة.
وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليستفاد منه.
فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي، إلا أن يكون عامياً يقصد من يعلمه، فينبغي أن يخالط بالاحتراز.
وفي هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام عكرت الفؤاد فهم ظلمة مستحكمة، فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر ثياب الحذر، ولتكن مجالسته إياهم للتذكرة والتأديب فحسب.
وإن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة، مقصودهم صورة العلم لا العمل به. فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة، إنما شغلهم الغيبة وقصد الغلبة واجتلاب الدنيا.
ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف.
وإن وقعت المخالطة للأمراء، فذاك تعرض لفساد الدين.
لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية فالظلم من ضروراتها، لغلبة العادة عليهم والإعراض عن الشرع.
وإن كانت ولاية دينية كالقضاء، فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه المراجعة فيها، ولو راجع لم يقبلوا.
وأكثر القوم يخاف على منصبه، فيفعل ما أمر به وإن لم يجبر.
وربما رأيت في هذا الزمان أقواماً يبذلون المال ليكونوا قضاة، أو شهوداً، ومقصودهم الرفعة.
ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه، ويقول إنه معروف ويدري أنه كذاب، وإنما عرف لأجل حبة يعطاها.
وكم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه، أو على مكره ؟.
وإن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة، وعلى خلاف العلم، قد جعلوا لأنفسهم نواميس، فلا يتنسمون ولا يخرجون إلى سوق، ويظهرون التخشع الزائد وكله نفاق.
وفيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه، وربما يوح بكمه ليرى. وقد حكي عن طاهر بن الحسين أنه قال لبعض المتزهدين. مذ كم قدمت العراق ؟ قال: دخلتها منذ عشرين سنة، وأنا منذ ثلاثين سنة صائم.
قال: سألناك عن مسألة فأجبت عن اثنتين.
وبيوت الصوفية أربطة فهي خوارج على المساجد.
وهي دكاكين كريهة يقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه، ويتعرضون بالقعود للصدقات، ولأحوال الظلمة.
وقد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم.
وأكثرهم لا يصلي نافلة، ولا يقوم الليل، بل يهمهم المأكول والمشروب والرقص.
وقد اتخذوا سنناً تخالف الشريعة فهم يلبسون المرقع لا من فقر. وهذا قبيح. لأنه ليس عندهم من أمارات الزهد سوى الملبس الدون، فثيابهم تصيح نحن زهاد، وباقي أفعالهم المستورة تفضحهم إذا طلع عليها.

فالمطب دائر، والحمام والحلوى كثيرة، والطيب والدعة، والكبر حاصل بذلك الزي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن فضلة وقد رآه أشعث الهيئة. أما لك مال ؟ قال بلى من كل المال آتاني الله عز وجل ! قال: فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه.
ومن أخلاقهم تنفير الناس من العلم، ويزعمون أن لا حاجة إلى الوسائط، وإنما هو قلب ورب.
ولهم من الأقوال والأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس.
آه لو كان للزمان عمر لاحتاج كل يوم إلى مائة درة، لا بل كان يستعمل السيف في هؤلاء الخوارج.
وهم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم، إذ قولهم فيهم لا يقبل.
فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف، ووفقه للاقتداء بهم، آثر أن يعتزل عن أكثر الخلق، ولا يخالطهم فإنه من خالطهم أوذي.
ومن دارهم لم يسلم من المداهنة فالنصح اليوم مردود.

فصل التأني في معاملة الناس
من البله أن تبادر عدواً أو حسوداً بالمخاصمة.
وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما.
إن اعتذر قبلتن وإن أخذ الخصومة صفحت. وأريت أن الأمر قريب.
ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال وتتجافاه باطناً مع إظهار المخالطة في الظاهر.
فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك واجتهادك في علاج ما يعرفك به.
ومن أعظم العقوبة له العفو عنه الله.
وإن بالغ في السب فبالغ في الصفح تنب عنك العوام في شتمه، ويحمدك العلماء على حلمك.
وما تؤذيه به من ذلك، وتورثه به الكمد ظاهراً، وغيره في الباطن أضعاف، وخير مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها له سمعت أضعافها.
ثم بالخصومة تعلمه أنك عدوه فيأخذ الحذر ويبسط اللسان، وبالصفح يجهل مما في باطنك، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه، أما أن تلقاه بما يؤذي دينك هو الذي قد اشتفى منك.
وما ظفر قط من ظفر به الإثم بل الصفح الجميل.
وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه إما عقوبة لذنب أو لرفع درجة بالابتلاء فهو لا يرى الخصم وإنما يرى القدرة.
فصل حقيقة الدعاء
إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجأ إلى الله بعد أن تقدم التوبة من الذنوب.
فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب.
فإذا ثبت ودعوت ولم تر للإجابة أثراً فتقد أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت فصصحها ثم ادع ولا تمل من الدعاء.
فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك.
ومن منافعك أن لا تعطي ما طلبت بل تعوض غيره.
فإذا جاء إبليس فقال كم تدعوه ولا ترى إجابة، فقل أنا أتعبد بالدعاء. وأنا موقن أن الجواب حاصل.
غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح، فهو يجيء في وقت مناسب، ولو لم يحصل حصل التعبد والذل.
فإياك أن تسأل شيئاً إلا وتقرنه بسؤال الخيرة.
فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك.
وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليبين صاحبك لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك عنه، وترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربك وهو أعلم المصالح ؟ والاستخارة من حسن المشاورة.
فصل أقسام الناس
نظرت إلى الناس فرأيتهم ينقسمون بين عالم وجاهل.
فأما الجهال فانقسموا، فمنهم سلطان قد ربي في الجهل ولبس الحرير وشرب الخمور وظلم الناس، وله عمال على مثل حاله، فهؤلاء بمعزل عن الخير بالجملة.
ومنهم تجار همتهم الاكتساب وجمع الأموال، وأكثرهم لا يؤدي الزكاة ولا يتحاشى من الربا. فهؤلاء في صور الناس.
ومنهم أرباب معاش يطففون المكيال ويخسرون الميزان ويبخسون الناس ويتعاملون بالربا وهم في الأسواق طول النهار لا همة لهم إلا ما هم فيه. فإذا جاء الليل وقعوا نياماً كالسكارى، فهمة أحدهم ما يأكل ويلتذ به، وليس عندهم من الصلاة خبر، فإن صلى أحدهم نقرها أو جمع بينهما، فهؤلاء في عداد البهائم.
ومن الناس ذو رذالة في جميع أحوالهم فهذا كالناس وهذا زبال وهذا نخال وهذا يكسح الحش فهؤلاء أرذل القوم.
ومنهم من يطلب اللذات ولا يساعده المعاش فيخرج إلى قطع الطريق، وهؤلاء أحمق الجماعة، إذ لا عيش لهم.

فإن التذوا لحظة بأكل أو شرب فحركت الريح قصبة هربوا خوفاً من السلطان وما أقل بقاءهم، ثم القتل والصلب مع إثم الآخرة.
ومنهم أرباب قرى قد عمهم الجهل، وأكثرهم لا يتحاشى من نجاسة، فهم في زمرة البقر.
ورأيت النساء ينقسمن أيضاً، فمنهن المستحسنة التي تبغي.
ومنهن الخائنة لزوجها في ماله.
ومنهن من لا تصلي ولا تعرف شيئاً من الدين، فهؤلاء حشو النار.
فإذ سمعن موعظة فإنها كما مرت على حجر.
وإذا قرىء عندهن القرآن فكأنهن يسمعن السمر.
وأما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نية خبيثة يقصد بالعلم المباهاة لا العمل، ويميل إلى الفسق ظناً أن العلم يدفع عنه، وإنما هو حجة عليه.
وأما المتوسطون والمشهورون، فأكثرهم يغشي السلاطين ويسكت عن إنكار المنكر.
وقليل من العلماء من تسلم له نيته ويحسن قصده.
فمن أراد الله به خيراً رزقه حسن القصد في طلب العلم، فهو يحصله لينتفع به وينفع، ولا يبالي بعمل مما يدله عليه العلم.
فتراه يتجافى أرباب الدنيا، ويحذر مخالطة العوام، ويقنع بالقليل خوفاً من المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير.
ويؤثر العزلة فليس مذكراً للآخرة مثلها.
وليس على العالم أضر من الدخول على السلاطين فإنه يحسن للعالم الدنيا ويهون عليه المنكر.
وربما أراد أن ينكر فلا يصح له، فإن عدم القناعة وتقلبت نفسه في طلب فضول الدنيا فهيهات أن يسلم منها لأنه يتعرض بأربابها.
وإن الإنسان ليمشي في السوق ساعة، فينسى بما يرى، ما يعلم.
فكيف إذا انضم إلى ذلك التردد إلى الأغنياء والطمع في أموالهم.
فأما الوحدة فإنها سبب رجوع القلب وجمع الهم، والنظر في العواقب والتهيؤ للرحيل وتحصيل الزاد.
فإذا انضمت إليها القناعة جلبت الأحوال المستحسنة.
ولا تحسن اليوم المجالسة إلا لكتاب يحدثك عن أسرار السلف.
فأما مجالسة العلماء فمخاطرة، إذ لا يجتمعون على ذكر الآخرة في الأغلب.
ومجالسة العوام فتنة للدين، إلا أن يحترز في مجالسهم ويمنعهم من القول فيقول هو ويكلفهم السماع.
ثم يستوفز للبعد عنهم، ولا يمكن الانقطاع الكلي إلا بقطع الطمع. ولا ينقطع الطمع إلا بالقناعة باليسير أو يتميز بتجارة، أو أن يكون له عقار يستغله.
فإنه متى احتاج تشتت الهم، ومتى انقطع العالم عن الخلق وقطع طمعه فيهم وتوفر على ذكر الآخرة فذاك الذي ينفع وينتفع به. والله الموفق.

فصل مهر الجنة.
من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر، ولذات بلا انقطاع، وبلوغ كل مطلوب للنفس، والزيادة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من غير تغيير ولا زوال، إذ لا يقال ألف ألف سنة، ولا مائة ألف ألف، بل ولو أن الإنسان عد الألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده. وكان له نهاية، فبقاء الآخرة لا نفاد له.
إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر.
وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة وجهل، وثلاثون بعد السبعين - إن حصلت - ضعف وعجز.
والتوسط نصف نوم، وبعضه زمان أكل وشرب وكسب، والمنتحل منه للعبادات يسير.
أفلا يشتري ذلك الدائم بهذا القليل ؟ إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع والشراء لغبن فاحش في العقل، وخلل داخل في الإيمان بالوعد.
فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم، هو الذي يدل على الطريق ويعرف ما يصلح لها ويحذر من فظاعتها.
ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها أنه صرفهم عن العلم. فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة، حتى أنه أخذ قوماً من كبار العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهي عنه العلم.
فرأيت أبا حامد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال: شاورت متبوعاً مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني منه، وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال وعلم، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك وعدمه. ثم تخلو بنفسك في زاوية، فتقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، ولا تزال تقول: الله الله إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن الكلمة جارية على لسانك. ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء والأولياء.
قلت: وهذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصى به وإنما أتعجب من الذي قبله مع معرفته وفهمه.

وهل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن ؟.
وله فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم ورياضتهم ؟.
وهل يوثق بما يظهر من هذه المسالك ؟.
ثم ما الذي يفتح. أثم اطلاع على علم الغيب أم هو وحي ؟...
فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم.
وربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس.
فعليك بالعلم. وانظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئاً أو أمر به ؟. وإنما تشاغلوا بالقرآن والعلم فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها.
نسأل الله عز وجل علماً نافعاً، للعدو مانعاً، إنه قادر.

فصل التصرف مع المحبوب
من أراد اصطفاء محبوب؛ فالمحبوب نوعان: امرأة يقصد منها حسن الصورة، وصديق يقصد منه حسن المعنى.
فإذا أعجبتك صورة امرأة فتأمل خلالها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب بها تعلقاً محكماً، فإن رأيتها كما تحب - وأصل ذلك كله الدين كما قال: عليك بذات الدين - فمل إليها واستولدها.
وكن في ميلك معتدلاً، فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة، فإنه يشتط عليك، وتلقى منه الأذى والتجني والهجران والإذلال وطلب الإنفاق الكثير - وإن كانت تحبك - لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال والتسلط على المقهور.
وثم نكتة عجيبة، وهو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة، وهي تحكم بكمال الحب، ثم إن ذلك لا يثبت إليك فتقع وتبقى مقهوراً أو يصعب عليك الخلاص.
وربما تمكنت منك بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك.
ومن أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حباً شديداً، ولا تظهر له ذلك، فسألت عن هذا فقالت: لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت، قال الشاعر:
لا تظهرن مودة لحبيب ... فتى بعينك منه كل عجيب
أظهرت يوماً للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيبي
وكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد، لأنه يتسلط عليك، ويضيع مالك، ويبالغ في الإدلال، ويمتنع عن التعلم والتأدب.
وكذلك إذا اصطفيت صديقاً وخبرته، فلا تخبره بكل ما عندك، بل تعاهده بالإحسان كما تتعاهد الشجرة، فإنها إذا كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها بالتعاهد، ثم كن منه على حذر فقد تتغير الأحوال، وقد قيل:
احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أدرى بالمضرة
فصل السلوك مع البغيض
وأما إذا أبغضت شخصاً لأنه يسوءك فلا تظهرن ذلك، فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك، وتدعوه إلى المبارزة، فيبالغ في حربك والاحتيال عليك، بل ينبغي أن تظهر له الجميل إن قدرت، وتبره ما استطعت حتى تنكسر معاداته بالحياء من بغضك.
فإن لم تطق فهجر جميل، لأتبين فيه ما يؤذي.
ومتى سمعت منه كلمة قذعة فاجعل جوابها كلمة جميلة، فهي أقوى في كف لسانه.
وكذلك جميع ما يخاف إظهاره، فلا تتكلمن به، فربما وقعت كلمة أسقطت بها عز السلطان، فنقلت إليه، فكانت سبب هلاكك.
أو عن صديق فكانت سبب عداوته، أو صرت رهيناً لمن سمعها خائفاً أن يظهرها.
فالحزم كتمان الحب والبغض.
وكذا ينبغي أن تكتم سنك فلا تلغو به بين الناس فإن كنت كبيراً استهرموك وإن كنت صغيراً استحقروك.
وكذلك مقدار مالك فإنه إن كان كثيراً نسبوك في نفقتك إلى البخل. وإن كان قليلاً طلبوا الراحة منك.
وكذلك المذهب، فإنك إن أظهرته لم تأمن أن يسمعه مخالف فيقطع بكفرك. وقد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار.
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سنّ ومالٍ، ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمموه ومخرف ومكذب
فصل خدمة الظالمين
طال تعجبي من مؤمن بالله عز وجل، مؤمن بجزائه، يؤثر خدمة السلطان مع ما يرى منه من الجور الظاهر.
فواعجبا ما الذي يعجبه ؟.
إن كان الذي يعجبه دنيوياً فليس ثم إلا أن يصاح بين يديه بسم الله وهو ما يريد إلا أن يتصدر في المجالس ويلوي عنقه كبراً على النظراء، ويأخذ الأسحات وهو يعلم من أين حصل، وربما انبسط في البراطيل.
ثم يقابل هذا أن يصادر ويعزل، فتستخرج منه تلك المرارة من كل حلاوة كانت في الولاية.
وربما كان قريب الحال فافتقر بالمصادرة جداً، ثم تنطلق الألسن المادحة بالذم.

ثم لو سلم من هذا فإنه لا يسلم من الرقيب له والحذر منه، فهو كراكب البحر إن سلم بدنه من الغرق لم يسلم قلبه من الخوف.
وإن كان ديناً فإنه يعلم أنه لا يمكنونه في الغالب من العمل بمقتضى الدين، إنهم يأمرونه بترك ما يجب وفعل ما لا يجوز فيذهب دينه على البارد.
ولعقاب الآخرة أشق.

فصل الكرامة
العجب من الذي أنف الذل كيف لا يصبر على جلف الخبز ولا يتعرض لمنن الأنذال.
أتراه ما يعلم أنه ما بقي صاحب مروءة ! وأنه إن سأل سأل بخيلاً لا يعطي، فإن أعطى نزراً فإنه يستعبد المعطي بذلك العمر.
ثم ذاك القدر النزر فيذهب عاجلاً، وتبقى المنن والخجل ورؤية النفس بعين الاحتقار، إذ صارت سائلة، ورؤية المعطي بعين التعظيم أبداً.
ثم يوجب ذلك السكوت عن معائب المعطي والبدار إلى قضاء حقوقه وخدمته فيما يفي.
وأعجب من هذا من يقدر أن يستعبد الأحرار بقليل العطاء الفاني ولا يفعل، فإن الحر لا يشترى إلا بالإحسان قال الشاعر:
تفضل على من شئت واعن بأمره ... فأنت ولو كان الأمير أميره
وكن ذا غنى عن من تشاء من الورى ... ولو كان سلطاناً فأنت نظيره
ومن كنت محتاجاً إليه وواقفاً ... على طمع منه فأنت أسيره
فصل واجب الشباب
ينبغي للصبي إذا بلغ ان يحذر كثرة الجماع ليبقى جوهره فيفيده في الكبر، لأنه من الجائز كبره.
والاستعداد للجائز حزم، فكيف للغالب ؟ كما ينبغي أن يستعد للشتاء قبل هجومه.
ومتى أنفق الحاصل وقت القدرة تأذى بالفقر إليه وقت الفاقة.
وليعلم ذو الدين والفهم أن المتعة إنما تكون بالقرب من الحبيب، والقرب يحصل بالتقبيل والضم، وذلك يقوي المحبة، والمحبة يلذ وجودها والوطء ينقص المحبة ويعدم تلك اللذة.
وقد كان العرب يعشقون ولا يرون وطء المعشوق. قال قائلهم إن نكح الحب فسد. فأما الالتذاذ بنفس الوطء فشأن البهائم.
ولقد تأملت المراد من الوطء فوجدت فيه معنى عجيباً يخفى على كثير من الناس وهو أن النفس إذا عشقت شخصاً أحبت إلا القرب منه، فهي تؤثر الضم والمعانقة لأنهما غاية في القرب.
ثم تريد قرباً يزيد على هذا فيقبل الخد.
ثم تطلب العرب من الروح فيقبل الفم، لأنه منفذ إلى الروح.
ثم تطلب الزيادة فيمص لسان المحبوب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشح عائشة ويقبلها ويمص لسانها.
فإذا طلبت النفس زيادة في القرب إلى النفس استعملت الوطء.
فهذا سره المعنوي ويحصل منه الالتذاذ الحسي.
فصل أخطاء الدعاة
ليس على العوام أضر من سماعهم علم الكلام.
وإنما أن يحذر العوام من سماعه والخوض فيه، كما يحذر الصبي من شاطىء النهر خوف الغرق.
وربما ظن العامي أن له قوة يدرك بها هذا وهو فاسد، فإنه قد زل في هذا الخلق من العلماء فكيف العوام.
وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا، فإنه يحضر عندهم العوام الغشم فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة، ولا يعلمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبد، بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات، وأن الكلام قائم بالذات فيتأذى بذلك من كان قلبه سليماً.
وإنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق. والاستواء حق والكيف مجهول.
وليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف الأعراب سوى مجرد الإيمان ولم تتكلم الصحابة في الجواهر والأعراض.
فمن مات على طريقهم مات مؤمناً سليماً من بدعة.
ومن تعرض لساحل البحر وهو لا يحسن السباحة فالظاهر غرقه.
فصل حقيقة المتعة
أشد الناس جهلاً منهوم باللذات. واللذات على ضربين مباحة ومحظورة.
فالمباحة لا يكاد يحصل منها بشيء إلا بضياع ما هو مهم من الدين.
فإذا حصلت منها حبة قارنها قنطار من الهم.
ثم لا تكاد تصفو في نفسها بل مكدراتها ألوف.
فإذا تصور عدمها بعد انقضائها وبقاء هذه الألوف المكدرة صار التصوير مغلصماً للهوى محزناً للنفس.
فإذا أنفت أنفت من الأسف على الدوام المستعبد، وعرفت أنها لذة تغر الغمر وتهدم العمر وتديم الأسى.
ومع هذا فالمنهوم كلما عب من لذة طلب أختها. وقد عرف جناية الأولى وخيانتها.

وهذا مرض العقل، وداء الطبع. فلا يزال هذا كذلك إلى أن يختطف بالموت فيلقى على بساط ندم لا يستدرك.
فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر، ثم لا يهتم بآخرته التي لذتها سليمة من شوائب، منزهة عن معائب دائمة الأمد باقية ببقاء الأبد.
وإنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك، وعمران هذه بتخريب تلك.
فواعجباً لعاقل حصيف حسن التدبير، فاته النظر في هذه الأحوال، وغفل عن تمييز بين هذين الأمرين.
وإن كانت اللذة معصية انضم إلى ما ذكرناه عار الدنيا، والفضيحة بين الخلق، وعقوبة الحدود، وعقاب الآخرة وغضب الحق سبحانه.
بالله، إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل، فذم ذلك لبيان الحزم.
فكيف بالمحرمات التي هي غاية الرذائل ؟.
نسأل الله عز وجل يقظة تحركنا إلى منافعنا. وتزعجنا عن خوادعنا إنه قريب.

فصل أسباب الخطأ
تأملت في الخلق وإذا هم في حالة عجيبة، يكاد يقطع معها بفساد العقل.
وذلك أن الإنسان يسمع المواعظ وتذكر له الآخرة فيعلم صدق القائل، فيبكي وينزعج على تفريطه، ويعزم على الاستدراك، ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه.
فإذا قيل له: أتشك فيما وعدت به، قال لا والله، فيقال: له فاعمل، فينوي ذلك ثم يتوقف عن العمل.
وربما مال إلى لذة محرمة، وهو يعلم النهي عنها.
ومن هذا الجنس تأخر الثلاثة الذين خلفوا ولم يكن لهم عذر وهم يعلمون قبح التأخر. وكذلك كل عاص ومفرط.
فتأملت السبب مع أن الاعتقاد صحيح والفعل بطيء، فإذا له ثلاثة أسباب.
أحدها رؤية الهوى العاجل، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه.
والثاني التسويف بالتوبة، فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت ولم تحصل التوبة.
والعجب ممن يجوز سلب روحه قبل مضي ساعة ولا يعمل على الحزم، غير أن الهوى يطيل الأمد، وقد قال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم: صل صلاة مودع وهذا نهاية الدواء لهذا الداء، فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى صلاة أخرى جد واجتهد.
والثالث رجاء الرحمة فيرى العاصي يقول: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب.
ولو علم أن رحمته ليست رقة إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفوراً ولا آلم طفلاً وعقابه غير مأمون، فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة دراهم.
فنسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزماً يبت المصالح جزماً.
فصل الحذر من الآفات
نظرت فيما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما لبس الخاتم ثم نزعه من يده، ورمى به، وكره أن يرى نفسه مزداناً بهذه الحلية. وقال شغلني نظري إليكم ونظري إليه. وتأملت كذلك في قوله: بينما رجل يتبختر في حلته مرجلاً جمته خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. فرأيت أنه لا ينبغي للمؤمن أن يلبس ثوباً معجباً ولا شيئاً من زينة، لأن ذلك يوجب النظر إلى النفس بعين الإعجاب، والنفس ينبغي أن تكون ذليلة للخالق.
وقد كان القدماء من أحبار بني إسرائيل يمشون على العصي لئلا يقع منهم بطر في المشي.
ولبست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها درعاً لها فأعجبت به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إليك في حالتك هذه.
ولما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها أعلام قال: ألهتني هذه عن صلاتي. وهذا كله يوجب الإعراض عن الزينة وما يحرك إلى الفخر والزهو والعجب.
ولهذا حرم الحرير.
وأقول على أسباب هذا: إن المرقعات التي يظهر فيها المتصوفة بالسوارك والتلميع، ربما أوجبت زهو الملابس، إما لحسنها في ذاتها، أو لعلمه أنها تنبىء عنه بالتصوف والزهد.
وكذلك الخاتم في اليد، وطول الأكمام والنعام الصرارة.
ولا أقول: إن هذه الأشياء تحرم، بل ربما جلبت ما يحرم من الزهو.
فينبغي للعاقل أن يتنبه بما قلت في دفع كل ما يحذر من شره.
وقد ركب ابن عمر نجيباً فأعجبه مشيه فنزل، وقال يا نافع أخله في البدن.
فصل الإقبال على الله
من أراد اجتماع همه وإصلاح قلبه، فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان، فإنه قد كان يقع الاجتماع على ما ينفع ذكره، فصار الاجتماع على ما يضر.
وقد جربت على نفسي مراراً أن أحصرها في بيت العزلة، فتجتمع هي ويضاف إلى ذلك النظر في سير السلف فأرى العزلة حمية والنظر في سير القوم دواء واستعمال الدواء مع الحمية عن التخليط نافع.

فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس ولقائهم تشتت القلب المجتمع، ووقع الذهول عما كنت أراعيه، وانتقش في القلب ما قد رأته العين، وفي الضمير ما تسمعه الأذن، وفي النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا. وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة، والطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم.
فإذا عدت أطلب القلب لم أجده، وأروم ذاك الحضور فأفقده، فيبقى فؤادي في غمار ذلك اللقاء للناس أياماً حتى يسلو الهوى.
وما فائدة تعريض البناء للنقض ؟.
فإن دوام العزلة كالبناء والنظر في سير السلف يرفعه، فإذا وقعت المخالطة انتقض ما بنى في مدة، في لحظة. وصعب التلاقي وضعف القلب.
ومن له فهم يعرض أمراض القلب وإعراضه عن صاحبه وخروج طائره من قفصه.
ولا يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف، ولا على هذا الطائر المحصور أن يقع في الشبكة.
وسبب مرض القلب أنه كان محمياً عن التخليط مغذواً بالعلم وسير السلف فخلط فلم يحتمل مزاجه فوقع المرض.
فالجد الجد فإنما هي أيام وما نرى من يلقى ولا من يؤخذ منه، ولا من تنفع مجالسته، إلا أن يكون نادراً ما أعرفه:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
فالزم خلوتك، وراع - ما بقيت النفس - وإذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق فاعلم أنها بعد كدرة، فرضها ليصير لقاؤهم عندها مكروهاً.
ولو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت الزحمة، كما أن الذي يخلو بحبيبه لا يؤثر حضور غيره.
ولو أنها عشقت طريق اليمن لم تلتفت إلى الشام.

فصل نور البصيرة
تفكرت في سبب هداية من يهتدي، وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص، كما قيل، إذا أرادك لأمر هيأك له.
فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل، فيتلمح الإنسان وجود نفسه، فيعلم أن لها صانعاً، وقد طالبه بحقه وشكر نعمته وخوفه عقاب مخالفته، ولا يكون ذلك بسبب ظاهر.
ومن هذا ما جرى لأهل الكهف: " إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ " .
وفي التفسير: أن كل واحد منهم ألفى في قلبه يقظة، فقال: لا بد لهذا الخلق من خالق، فاشتدوا كرب بواطنهم من وقود نار الحذر، فخرجوا إلى الصحراء، فاجتمعوا عن غير موعد.
فكل واحد يسأل الآخر: ما الذي أخرجك... ؟. فتصادقوا.
ومن الناس من يجعل الخالق سبحانه وتعالى لذلك السبب الذي هو الفكر والنظر سبباً ظاهراً، إما من موعظة يسمعها أو يراها، فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة، ثم ينقسم المتيقظون فمنهم من يغلبه هواه ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده، فيعود القهقرى ولا ينفعه ما حصل له من الانتباه، فانتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه.
ومنهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين: المقل الأمر بالتقوى والهوى المتقاضي بالشهوات.
فمنهم من يغلب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر ويختم له به.
ومنهم من يغلب تارة ويغلب أخرى فجراحاته لا في مقتل.
ومنهم من يقهر عدوه فيسجنه في حبس، فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوساوس.
ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا.
فهمهم صعود وترق.
كلما عبروا مقاماً إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا.
ومنهم من يرقى عن الاحتياج إلى مجاهدة، إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده ولا وقع له.
وإما لشرف مطلوبه فلا يلتفت إلى عائق عنه.
واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام، وإنما يقطع بالقلوب.
والشهوات العاجلة قطاع الطريق والسبيل كالليل المدلهم.
غير أن عين الموفق بصر فرس لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
والصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص.
وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل الإعجاب بالفاني
عجبت لمن يعجب بصورته ويختال في مشيته وينسى مبدأ أمره.
إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء فإن شئت فقل كسيرة خبز معها تمرات وقطعة من لحم ومذقة من لبن وجرعة من ماء ونحو ذلك طبخته الكبد فأخرجت منه قطرات مني، فاستقر في الأنثيين فحركتها الشهوة، فصبت في بطن الأم مدة حتى تكاملت صورتها فخرجت طفلاً تتقلب في خرق البول.

وأما آخره فإنه يلقى في التراب فيأكله الدود ويصير رفاتاً تسفيه السوافي.
وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر ؟ ويقلب في أحوال إلى أن يعود فيجمع.
هذا خبر البدن. إنما الروح التي عليها العمل، فإن تجوهرت بالأدب وتقومت بالعلم، وعرفت الصانع، وقامت بحقه فما يضرها نقض المركب.
وإن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين بل صارت إلى أخس حالة منه.

فصل القصد في المعيشة
هيهات أن يجتمع الهم مع التلبيس بأمور الدنيا خصوصاً بالشاب الفقير الذي قد ألف الفقر.
فإنه إذا تزوج وليس له شيء من الدنيا اهتم بالكسب أو بالطلب من الناس فتشتت همته وجاءه الأولاد فزاد الأمر عليه.
ولا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام.
ومن يفكر فهمته ما يأكل وما يأكل أهله، وما ترضى به الزوجة من النفقة والكسوة، وليس له ذلك؛ فأي قلب يحضر له ؟ وأي هم يجتمع ؟ هيهات.
والله لا يجتمع الهم والعين تنظر إلى الناس، والسمع يسمع حديثهم، واللسان يخاطبهم، والقلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه.
فإن قال قائل: فكيف أصنع ؟ قلت: إن وجدت ما يكفيك من الدنيا، أو معيشة ما تكفيك فاقنع بها، وانفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت، وإن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسر، وتصبر أنت على صورتها وفقرها، ولا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته.
فإن رزقت امرأة صالحة جمعت همك فذاك، وإن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة.
وإياك والمستحسنات فإن صاحبهن إذا سلم كعابد صنم، وإذا حصل بيدك شيء فانفق بعضه فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك.
واحذر كل الحذر من هذا الزمان وأهله فما بقي مواس ولا مؤثر، ولا من يهتم لسد خلة، ولا من لو سئل أعطى إلا أن يعطي نذراً بتضجر.
ومنة يستعبده بها المعطي بقية العمر، ويستثقله كل ما رآه أو يستدعي بها خدمته له والتردد إليه.
وإنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوماً على المنبر علي ألف دينار، وقد ضاق صدري.
فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار، وقال اقض دينك.
فلما عاد وصعد المنبر قال نشكر الله لأبي عمرو فإنه أراح قلبي وقضى ديني.
فقام أبو عمرو فقال: أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي وقد شق عليها ما فعلت فإن رأيت أن تتقدم برده فافعل.
فلما كان في الليل عاد إليه، وقال: لماذا شهرتني بين الناس ؟.
فأنا ما فعلت ذلك لأجل الخلق فخذه ولا تذكرني:
ماتوا وغيب في التراب شخوصهم ... والنشر مسك والعظام رميم
فالبعد البعد عن من همته الدنيا، فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر.
ولا تكاد ترى إلا عدواً في الباطن صديقاً في الظاهر شامتاً على الضر حسوداً على النعمة.
فاشتر العزلة بما بيعت فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق وعاد إلى منزله تغير قلبه.
فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا، واجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق ليخلو القلب بالتفكر في المآب وتتلمح عين البصيرة خيم الرحيل ؟.
فصل الوحدة خير من جليس السوء
كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه أو مرض لبه قصد زيارة بعض الصالحين فانجلى عن نفسه ما أظلم منها.
أما اليوم فمتى حصلت ذرة من الصدق لمريد فردته في بيت عزلة، ووجد نسيماً من روح العافية، ونوراً في باطن قلبه، وكاد همه يجتمع وشتاته ينتظم، فخرج فلقي من يومأ إليه بعلم أو زهد رأى عنده البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي لا ينفع.
ورأى صورته منمس، وأهون ما عليه تضييع الأوقات في الحديث الفارغ. فما يرجع المريد عن ذلك الوطن إلا وقد اكتسب ظلمة في القلب وشتاتاً في العزم، وغفلة عن ذكر الآخرة، فيعود مريض القلب. يتعب في معالجته أياماً كثيرة حتى يعود إلى ما كان فيه.
وربما لم يعد لأن المريد فيه ضعف.
وربما فتن فإنه إذا رأى شيخاً قد جرب وعرف ثم يؤثر البطالة، لم يأمن أن يتبعه الطبع.
فالأولى للمريد اليوم أن لا يزور إلا المقابر ولا يفاوض إلا الكتب، التي قد حوت محاسن القوم.
وليستعن بالله تعالى على التوفيق لمراضيه، فإنه إن أراده هيأه لما يرضيه.
فصل حقيقة الأولياء
تأملت الذين يختارون الحق عز وجل لولايته والقرب منه. فقد سمعنا أوصافهم ومن نظنه منهم، ممن رأيناه.

فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته. فتراه حسن الوجه معتدل القامة سليماً من آفة في بدنه.
ثم يكون كاملاً في باطنه، سخياً جواداً عاقلاً غير خب ولا خادع ولا حقود ولا حسود ولا فيه عيب من عيوب الباطن.
فذاك الذي يبيه من صغره فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ ينبو عن الرذائل ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجر همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراع للأوقات، ساع في طلب الفضائل، خائف من النقائص.
ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطأ إن هم، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه.
ثم ينقسم هؤلاء. فمنهم من تفقه على قدم الزهد والتعبد ومنهم من تفقه على العلم واتباع السنة.
ويندر منهم من يجمع الله له الكل ويرقيه إلى مزاحمة الكاملين.
وعلامة إثبات الكمال في العلم والعمل، الإقبال بالكلية على معاملة الحق ومحبته واستيعاب الفضائل كلها، وسناء الهمة في نشدان الكمال الممكن.
فلو تصورت النبوة أن تكتسب لدخلت في كسبه.
ومراتب هذا الاصطفاء لا يحتملها الوصف، لكونه درة الوجود، التي لا تكاد تنعقد في الصدف إلا في كل ودود.
نسأل الله عز وجل توفيقنا لمراضيه وقربه ونعوذ به من طرده وإبعاده.

فصل أخلاق العامة
أكثر الخلائق على طبع رديء لا تقومه الرياضة. لا يدرون لماذا خلقوا ولا ما المراد منهم.
وغاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم. ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم.
يبذلون العرض دون الغرض، ويؤثرون لذة ساعة، وإن اجتلبت زمان مرض.
يلبسون عند التجارات ثياب محتال، في شعار مختال ويلبسون في المعاملات ويسترون الحال.
إن كسبوا فشبهة. وإن أكلوا فشهوة. ينامون الليل وإن كانوا نياماً بالنهار. في المعنى، ولا نوم إلا بهذه الصورة.
فإذا أصبحوا سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير، وتبصبص كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان ثعلب.
ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى لا على عدم التقوى.
" ذلك مبلغهم من العلم " .
كيف يفلح من يؤثر ما يراه بعينه على ما يبصره بعقله، وما يدركه ببصره أعز عنده مما يراه ببصيرته.
تالله لو فتحوا أسماعهم لسمعوا هاتف الرحيل في زمان الإقامة يصيح في عرصات الدنيا: تلمحوا تقويض خيام الأوائل.
لكن غمرهم سكر الجهالة، فلم يفيقوا إلا بضرب الحد.
فصل صدقات الظلمة
رأيت بعض المتقدمين سئل عن من يكتسب حلالاً وحراماً من السلاطين والأمراء، ثم يبني المساجد والأربطة، هل له فيها ثواب ؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق، وذكر أن له في إنفاق ما لا يملكه نوع حسنة، لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيردها عليهم.
فقلت: واعجبا ! من المتصدين للفتوى الذين لا يعرفون أصول الشريعة.
ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولاً، فإن كان سلطاناً فما يخرج من بيت المال قد عرفت وجوه مصارفه، فكيف يمنع مستحقه ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة ورباط.
وإن كان المنفق من الأمراء ونواب السلاطين، فإنه يجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال، وليس له فيه إلا ما فرض من إيجاب يليق به.
فإن تصرف في غير ذلك كان متصرفاً فيما ليس له، ولو أذن له ما كان الإذن جائزاً.
وإن كان قد أقطع ما لا يقاوم عمله كان ما يأخذه فاضلاً من أموال المسلمين لا حق له فيه.
وعلى من أطلقه في ذلك إثم أيضاً.
هذا وإذا كان حراماً أو غصباً فكل تصرف فيه حرام، والواجب رده على من أخذ منه أو على ورثتهم.
فإن لم يعرف طريق الرد كان في بيت مال المسلمين، يصرف في مصالحهم، أو يصرف ف الصدقة، ولم يحظ آخذه بغير الإثم.
أنبأنا أحمد بن الحسين بن البنا قال: أخبرنا محمد بن علي الزجاجي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأسدي قال: أخبرنا علي بن الحسن قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عون الطائي قال: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا موسى بن سليمان قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اكتسب مالاً من مأثم، فوصل رحماً، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك جميعاً فقذف به في جهنم.

فأما إذا كان الباني تاجراً مكتسباً للحلال فبنى مسجداً أو وقف وقفاً للمتفقهة، فهذا مما يثاب عليه.
ويبعد من يكتسب الحلال حتى يفضل عنه هذا المقدار، أو يخرج الزكاة مستقصاة، ثم يطيب قلبه بمثل هذا البناء والنفقة.
إذ مثل هذا البنيان لا يجوز أن يكون من زكاة.
وأين سلامة النية وخلوص المقصد.
ثم إن بناء المدارس يوم مخاطرة. إذ قد انعكف أكثر المتفقهة على علم الجدل، وأعرضوا عن علوم الشريعة، وتركوا التردد على المساجد، واقتنعوا بالمدارس والألقاب.
وأما بناء الأربطة فليس بشيء أصلاً، لأن جمهور المتصوفة جلوس على بساط الجهل والكسل، ثم يدعي مدعيهم المحبة والقرب، ويكره التشاغل بالعلم، وقد تركوا سيرة سري وعادات الجنيد: واقتنعوا بأداء الفرائض. ورضوا بالمرقعات.
فلا تحسن إعانتهم على بطالتهم وراحتهم ولا ثواب في ذلك.

فصل الإخلاص لله وحده
عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد يرجو بذلك قربه من قلوبهم، وينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له.
فإن رضي عمله ورآه خالصاً لفت القلوب إليه، وإن لم يره خالصاً أعرض بها عنه.
ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته، لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له.
ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك.
وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة. وإن لم يطلعوا عليها.
فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح وإن لم يشاهد منه ذلك.
فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً، لأنه غير مقبول عند الخالق ولا عند الخلق، لأن قلوبهم قد ألفتت عنه، فقد ضاع العمل، وذهب العمر.
ولقد أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال. أخبرنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا حسن بن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج للناس عمله كائناً ما كان..
فليتق الله العبد وليقصد من ينفعه قصده، ولا يتشاغل بمدح من عن قليل يبتلى هو ... وهم.
فصل فقهاء الفتنة
قدم علينا بعض فقهاء من بلاد الأعاجم، وكان قاضياً ببلده فرأيت على دابته الذهب ومعه أتوار الفضة وأشياء كثيرة من المحرمات.
فقلت: أي شيء أفاد هذا العلم ؟ بل والله قد كثرت عليه الحجج.
وأكبر الأسباب قلة علم هؤلاء بسيرة السلف وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم يجهلون الجملة، ويتشاغلون بعلم الخلاف، ويقصدون التقدم بقشور المعرفة وليس يعنيهم سماع حديث ولا نظر في سير السلف.
ويخالطون السلاطين فيحتاجون إلى التزي بزيهم، وربما خطر لهم أن هذا قريب، وإن لم يخطر لهم فالهوى غالب بلا صاد.
وربما خطر لهم أن يقولوا: هذا يحتمل ويغفر في جانب تشاغلنا بالعلم. ثم يرون العلماء يكرمونهم لنيل شيء من دنياهم، ولا ينكرون عليهم.
ولقد رأيت من الذين ينتسبون إلى العلم من يستصحب المردان، ويشتري المماليك، وما كان يفعل هذا إلا من قد يئس من الآخرة.
ورأيت من قد بلغ الثمانين من العلماء، وهو على هذه الحالة.
فالله الله يا من يريد حفظ دينه ويوقن بالآخرة، إياك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة، فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لموضع إلف الهوى.
فإقبل نصحي، واقنع بالكسرة، وابعد عن أرباب الدنيا، فإذا ضج الهوى فدعه لهذا.
وربما قال لك: فالأمر الفلاني قريب، فلا تفعل، فإنه لو كان قريباً يدعو إلى غيره ويصعب التلافي.
فالصبر الصبر على شظف العيش والبعد عن أرباب الهوى، فما يتم دين إلا بذلك.
ومتى وقع الترخص حمل إلى غيره، كالشاطىء إلى اللجة. وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، ووجه أصبح من وجه، وإنما هي أيام يسيرة.
فصل التسليم للحكمة أولى من البحث في الذات
من تفكر في عظمة الله عز وجل، طاش عقله لأنه يحتاج أن يثبت موجوداً لا أول لوجوده.
وهذا شيء لا يعرفه الحس، وإنما يقر به العقل ضرورة.
وهو متحير بعد هذا الإقرار، ثم يرى من أفعاله ما يدل على وجوده، ثم تجري في أقداره أمور لولا ثبوت الدليل على وجوده لأوجبت الجحد.

فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل، وذلك شيء لا يقدر عليه سوى الخالق، ويصير العصا حية ثم يعيدها عصا تلقف ما صنعوا ولا يزيد فيها شيء.
فهل بعد هذا بيان ؟.
فإذا آمنت السحرة تركهم مع فرعون يصلبهم ولا يمنع والأنبياء يبتلون بالجوع والقتل، وزكريا ينشر، ويحيى تقتله زانية، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول كل عام، من يؤويني ؟ من ينصرني ؟.
فيكاد الجاهل بوجود الخالق يقول: لو كان موجوداً لنصر أولياءه.
فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجود بالأدلة الظاهرة الجلية أن لا يمكن عقله من الاعتراض عليه في أفعاله، ولا يطلب لها علة.
إذ قد ثبت أنه مالك وحكيم، فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله نسبنا ذلك العجز إلى مفهومنا.
وكيف لا وقد عجز موسى عليه السلام أن يعرف حكمة خرق السفينة وقتل الغلام، فلما بان له حكمة ذلك الفساد في الظاهر أقر.
فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق ما جحد العقل جحد موسى يوم الخضر.
فمتى رأيت العقل يقول لم فأخرسه بأن تقول له: يا عاجز أنت لا تعرف حقيقة نفسك فما لك والاعتراض على المالك.
وربما قال العقل: أي فائدة في الابتلاء وهو قادر أن يثيب ولا بلاء.
وأي غرض في تعذيب أهل النار وليس ثم تشف.
فقل له: حكمته فوق مرتبتك، فسلم لما لا تعلم، فإن أول من اعترض بعقله إبليس، رأى فضل النار على الطين فأعرض عن السجود.
وقد رأيتنا خلقاً كثيراً وسمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة لأنهم يحكمون العقول على مقتضاها، وينسون أن حكمة الخالق وراء العقول.
فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل أو أن تطلب له جواب اعتراض، وقل له سلم تسلم، فإنك لا تدري غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك.
هذا أصل عظيم، متى فات الآدمي أخرجه الاعتراض إلى الكفر.

فصل الاعتبار بالنفس
العجب ممن يقول: اخرج إلى المقابر فاعتبر بأهل البلى.
ولو فطن علم أنه مقبرة يغنيه الاعتبار بما فيها عن غيرها.
خصوصاً من قد أوغل في السن، فإن شهوته ضعفت، وقواه قلت، والحواس كلت والنشاط فتر، والشعر أبيض.
فليعتبر بما فقد، وليستغن عن ذكر من فقد، فقد استغنى بما عنده عن التطلع إلى غيره..
فصل يقظة العاقل
متى تكامل العقل فقدت لذة الدنيا فتضاءل الجسم وقوي السقم واشتد الحزن.
لأن العقل كلما تلمح العواقب أعرض عن الدنيا، والتفت إلى ما تلمح ولا لذة عنده بشيء من العاجل.
وإنما يلتذ أهل الغفلة عن الآخرة، ولا غفلة لكامل العقل.
ولهذا لا يقدر على مخالطة الخلق، لأنهم كأنهم من غير جنسه، كما قال الشاعر:
ما في الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خلٌ نجاريه
فصل حقائق البعث
ادعى الطبائعيون أن مادة الموجودات الماء والتراب والنار والهواء، فإذا كان في القيامة أذهب الأصول، ثم أعاد الله الحيوان ليعلم أنها كانت بالقدرة لا عن تأثير الكليات.
أقول: من قدح في البعث فقد بالغ في القدح في الحكمة.
ومن قال: الروح عرض، فقد جحد البعث، لأن العرض لا يبقى والأجساد تصير تراباً، فإن وجد شيء فهو ابتداء خلق.
كلا والله بل يعيد النفس بعينها روحاً وجسداً بدليل إعادة مذكوراتها: " قال قائلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ " .
وعزته، إن لطفه في البداية لدليل على النهاية.
حنن الوالدين، وأجرى اللبن في الثدي، وأنشأ الأطعمة، وأطلع العقل على العواقب.
أفيحسن أن يقال بعد هذا التدبير، إنه يهمل العالم بعد الموت فلا يبعث أحداً !.
أترى من أحب أن يعرف فأنشأ الخلق وقال: كنت كنزاً لا أعرف فأحببت أن أعرف: يؤثر أن يعدمهم فيجهل قدره.
سبحان من أعمى أكثر القلوب عن معرفته.
فصل من دلائل الوجود الأعلى
سبحان من ظهر لخلقه حتى لم يبقى خفاء ثم خفي حتى كأنه لا ظهور.
أي ظهور أجلى من هذه المصنوعات التي تنطق كلها بأن لي صانعاً صنعني ورتبني على قانون الحكمة.
خصوصاً هذا الآدمي الذي أنشأه من قطرة، وبناه على أعجب فطرة، ورزقه الفهم والذهن واليقظة والعلم، وبسط له المهاد، وأجرى له الماء والريح، وأنبت له الزرع ورفع له من فوقه السماء فأوقد له مصباح الشمس بالنهار، وجاء بالظلمة ليسكن، إلى غير ذلك، مما لا يخفى.
وكله ينطق بصوت فصيح يدل على خالقه.
وقد تجلى الخالق سبحانه بهذه الأفعال فلا خفاء.

ثم بعث الرسل فقراء من الدنيا ضعاف الأبدان، فقهر بهم الجبابرة، وأظهر على أيديهم من المعجزات ما لا يدخل تحت مقدور بشر.
وكل ذلك ينطق بالحق وقد تجلى سبحانه بذلك لعباده.
ثم يأتي موسى عليه السلام إلى البحر فينفرق فلا يبقى شك في أن الخلق فعل هذا.
ويكلم عيسى عليه السلام الميت فيقوم.
ويبعث طيراً أبابيل تحفظ بيته فيهلك قاصديه.
وهذا أمر يطول ذكره، كله يدل على تجلي الخالق سبحانه بغير خفاء.
فإذا ثبت عند العقلاء ذلك من غير ارتياب ولا شك، ثم جاءت أشياء كأنها تستر الظاهر مثل ما سبق من تسليط الأعداء على الأولياء.
إذا ثبت التجلي بأدلة لا تحتمل التأويل، علمت أن لهذا الخفاء سراً لا نعلمه يفترض على العقل فيه التسليم للحكيم.
فمن سلم سلم، ومن اعترض هلك.

فصل التدين الفاسد
قد يدعي أهل كل مذهب الاجتهاد في طلب الصواب وأكثرهم لا يقصد إلا الحق فترى الراهب يتعبد ويتجوع، واليهودي يذل ويؤدي الجزية.
وصاحب كل مذهب يبالغ فيه ويحتمل الضيم والأذى طلباً للهدى وتحصيل الأجر - في اعتقاده - ومع هذا فيقطع العقل بضلال الأكثرين.
وهذا قد يشكل. وإنما كشفه أنه ينبغي أن يطلب الهدى بأسبابه، ويستعمل الاجتهدا بالإبانة.
فأما من فاتته الأسباب أو فقد بعض الآلات فلا يقال له مجتهد.
فاليهود والنصارى بين عالم قد عرف صدق نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه يجحد إبقاء لرئاسته فهذا معاند، وبين مقلد لا ينظر بعقله فهذا مهمل، فهو يتعبد مع إهمال الأصل، وذاك لا ينفع، وبين ناظر منهم لا ينظر حق النظر، فيقول: في التوراة أن ديننا لا ينسخ. ونسخ الشرائع لاختلاف الأزمنة حق، ولكنه يقول النسخ بداء ولا ينظر في الفرق بينهما، فينبغي أن ينظر حق النظر.
ومن هذا الجنس تعبد الخوارج مع اقتناعهم بعلمهم القاصر، وهو قولهم: لا حكم إلا لله ولم يفهموا أن التحكيم من حكم الله فجعلوا قتال علي رضي الله عنه وقتله مبنياً على ظنهم الفاسد.
ولما نهب مسلم بن عقبة المدينة وقتل الخلق قال: إن دخلت النار بعد هذا إنني لشقي. فظن بجهله أنهم لما خالفوا بيعة يزيد يجوز استباحتهم وقتلهم.
فالويل لعامي قليل العلم لا يتهم نفسه في واقعة ولا يذاكر من هو أعلم منه، بل يقطع بظنه ويقدم.
وهذا أصل ينبغي تأمله، فقد هلك في إهماله خلق لا تحصى. وقد رأينا خلقاً من العوام إذا وقع لهم واقعة لم يقبلوا فتوى: " وجوهٌ يومئذٍ خاشعة. عاملةٌ ناصبة. تصلى ناراً حامية " .
فصل قوام الأنفس
للنفس ذخائر في البدن منها الدم والمني وأشياء تتقوى بها.
فإذا فقدت الذخائر ولم يبق منها شيء ذهبت.
ومن ذخائرها التقوي بالمال والجاه وما يوجب الفرح.
فهذا فقدت ذلك وكانت عزيزة ذات أنفة أحرجت.
وقد يهجم عليها الخوف فلا تجد ذخيرة من الرجاء يقاومه فتذهب.
ويغلب عليها الفرح فلا تجد من الحزن ما يقاومه فتذهب.
فاجتهد في حفظ ذخائرها وخصوصاً الشيخ، فإنه ينبغي له أن لا يفرح بإخراج الدم، ولا بإخراج المني وإن وجد شبقاً، إلا أن يكون الشب زائداً في الحد فيخرج المؤذي في كل حين.
وعلامة أن يكون مؤذياً وجود الراحة عند خروجه، فمتى وجد ضعفاً فقد آذى خروجه.
وليحفظ ذو الأنفة على نفسه حشمته، بأن لا يقف في موقف يعاب به، فإنه يتمتع بذخيرة العز والأنفة ويضاد النفس وجود غير ذلك.
وكذلك ينبغي أن يستعد لآخر عمره بالمال مخافة أن يحتاج فيذل أو يسعى، وقد كلت الآلة.
ولأن يخلف لعدوه أولى من أن يحتاج إلى صديقه.
ولا يلتفت إلى من يذم المال، فإنهم الحمقى الجهال الذين اتكلوا على خبز الراحة، فاستطابوا الكسل والدعة، ولم يأنفوا من تناول الصدقة ولا من التعرض للسؤال.
وقد كان لكل نبي معاش ولجميع الصحابة. وخلفوا أموالاً كثيرة فافهم هذا الأصل، ولا تلتفت إلى كلام الجهال.
فصل رياء الزهاد
رأيت في زهاد زماننا من الكبر وحفظ الناموس ورتبة الجاه في قلوب العامة ما كدت أقطع به أنهم أهل رياء ونفاق.
فترى أحدهم يلبس الثوب الذي يرى بعين الزهد، ويأكل أطايب الطعام، ويتكبر على أبناء الجنس ويصادق الأغنياء، ويباعد الفقراء، ويحب الخطاب بمولانا، ويمشي بحاجبه، ويضيع الزمان في الهذيان، ويتقوت بخدمة الناس له والتسليم عليه.

ولو أنه لبس ثوباً يخلطه بالفقهاء لذهب الجاه ولم يبق له متعلق. ولو أن أفعاله ناسبت ثيابه لهان الأمر، لكنهم بهرجوا على من لا يخفى أمرهم عليه من الخلق، فكيف الخالق سبحانه وتعالى ؟.

فصل تدبير العيش دين
كثيراً ما أعيد هذا المعنى الذي أنا ذاكره في هذا الكتاب بعبارات شتى.
ينبغي للمؤمن أن يتشاغل بمعاشه ويرفق في نفقته. فإنه قد كان للعلماء شيء من بيت المال ورفق من الإخوان، ومعونة من العوام. فانقطع الكل، وبقي المتشاغل بالعلم أو التعبد مسكيناً، خصوصاً ذا العائلة.
وما رأينا مثل هذا الزمان القبيح، فما بقي من يومأ إليه بمعونة ولا باستقراض فيحتاج الإنسان المؤمن أن يدخل في مداخل لا تليق به، وأن يتعرض بما لا يصلح.
فينبغي تقليل العائلة وتقويت القوت وترقيع الخلق.
وإن أمكن معاش فهو أولى من التشاغل بالتعبد والتعلم لفضول العلم، وإلا ضاع الدين في مداخل لا تصلح، أو التعرض لبذل نذل.
فصل الاحتراز واجب
ينبغي للعاقل أن يحترز غاية ما يمكنه، فإذا جرى القدر مع احترازه لم يلم.
والاحتراز ينبغي من كل شيء يكن وقوعه، وأخذ العدة لذلك واجب، وهذا يكون في كل حال، فقد قص رجل ظفره فجار عليه فخبثت يداه فمات.
ومر شيخنا أحمد الحربي وهو راكب بمكان ضيق فتطأطأ على السرج فانعصر فؤاده فمرض فمات.
وكان يحيى بن نزار شيخاً يحضر مجلس قد طرق عليه ثقل الأذن فاستدعى طرقياً فمص أذنه فجرى شيء من مخه فمات.
وانظر إلى احتراز رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر على حائط مائل فأسرع.
وينبغي أن يحترز بالكسب في زمن شبابه ادخاراً لزمن شيبه.
ولا ينبغي أن يثق بمعامل إلا بوثيقة. وليبادر بالوصية مخافة أن يطرقه الموت. ويحترز من صديقه فضلاً عن عدوه.
ولا يثق بمودة من قد آذاه هو، فإن الحقد في القلوب قلما يزول.
وليحترز من زوجته، فربما أطلعها على سره ثم طلقها فيتأذى بما تفعل به.
وقد كان ابن أفلح الشاعر يكاتب رئيساً في زمن المسترشد فعلم بذلك بوابه، واتفق أنه صرف بوابه فنم عليه ونقضت داره.
فهذه المذكرات أمثلة تبنه على ما لم يذكر.
وأهم الكل أن يحترز بأخذ العدة وتحقيق التوبة قبل أن يهجم ما لا يؤمن هجومه. وليحذر من لص الكسل، فإنه محتال على سرقة الزمان.
فصل فضل العلم والنظر
تأملت خصومات الملوك، وحرص التجار، ونفاق المتزهدين، فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس.
وإذا تفكر العاقل في ذلك علم أن أمر الحسيات قريب يندفع بأقل شيء، وأن الغاية منه لا يمكن نيلها.
وإن بالغ عاد بالأذى على نفسه فناله من الضر أضعاف ما ناله من اللذة، كمن يأكل كثيراً أو ينكح كثيراً.
فالسعيد من اهتم لحفظ دينه، وأخذ من ذلك بمقدار الحاجة.
واعجباً، هذا الملبوس إذا كان وسطاً خدم وإن كان مرتفعاً خدم.
فإن نظر اللابس إليه معجباً به فإن الله لا ينظر إليه حينئذ.
وفي الصحيح: بينما رجل يتبختر في بردته خسف به.
والمشروب إن كان حراماً فعقابه أضعاف لذته. وهتكة العرض بين الناس عقاب آخر.
وإن كان مباحاً فالشره فيه يؤذي البدن.
وأما المنكوح فمداراة المستحسن يؤذي فوق كل أذى.
ومقاساة المستقبح أشد أذى فعليك بالتوسط.
وتفكر في أحوال السلاطين كيف قتلوا ظلماً، وكم ارتكبوا حراماً ؟ وما نالوا إلا يسيراً من لذات الحس.
فانقشع غيم العمر عن حسرات الفضائل الفائتة وحصول العقاب.
فليس في الدنيا أطيب عيشاً من منفرد عن العالم بالعلم. فهو أنيسه وجليسه، قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة، لا عن تكلف ولا تضييع دين، وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها. والتحف بالقناعة باليسير، إذ لم يقدر على الكثير. فوجدته يسلم دينه ودنياه.
واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل، ويفرجه في البساتين، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة.
ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم، فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط.
فصل الفقه قبل الكتابة
تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو حرصهم على الكتابة، خصوصاً المحدثين فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا ويفهموا، فيذهب العمر وقد عروا عن العلم إلا اليسير.
فمن وفق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة والحفظ. وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد.

والموفق من طلب المهم، فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل، وجمهور العلوم الفقه. وفي الناس من حصل له العلم وغفل عن العمل بمقتضاه وكأنه ما حصل شيئاً، نعوذ بالله من الخذلان.

فصل التحكم في النفس
ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم.
ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يفتكر فتعرض على نفسه الأحوال وكأنه شاور.
وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
وأشد الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة.
خصوصاً فيما يوجبه الغضب فإنه ينزقه طلب الهلاك أو استتبع الندم العظيم.
وكم من غضب فقتل وضرب ثم لما سكن غضبه بقي طول دهره في الحزن والبكاء والندم.
والغالب في القاتل أنه يقتل فتفوته الدنيا والآخرة. فكذلك من عرضت له شهوة فاستعجل لديها ونسي عاقبتها.
فكم من ندم يتجرعه في باقي عمره. وعتاب يستقبله من بعد موته وعقاب لا يؤمن وقوعه.
كل ذلك للذة لحظة كانت كبرق.
فالله الله، التثبت التثبت في كل الأمور والنظر في عواقبها.
خصوصاً الغضب المثير للخصومة وتعجيل الطلاق.
فصل حدود العقل
سألني سائل، قد قال بعض الحكماء: من لم يحترز بعقله، هلك بعقله فما معنى هذا، فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى، ثم اتضح.
وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه.
فالاحتراز من العقل بالعقل هو أن ينظر فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسماً ولا شبهاً لشيء.
فصل التوسل بالله إلى الله
بلغني عن بعض الكرماء أن رجلاً سأله فقال: أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا وكذا فقال: مرحباً بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته.
فأخذت من ذلك إشارة فناجيت بها فقلت: أنت الذي هديته من زمن الطفولة وحفظته من الضلال، وعصمته عن كثير من الذنوب، وألهمته طلب العلم لا بفهم لشرف العلم، لموضع الصغر، ولا بحب والده - لموت الوالد - ورزقته فهماً لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه، وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم التي لا تكاد تجتمع في شخص، وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك وحسن العبارة ولطفها في الدلالة عليك ووضعت له في القلوب القبول حتى أن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح، وآنسته في خلوته بالعلم تارة وبمناجاتك أخرى، وإن ذهبت أعد لم أقدر على إحصاء عشير العشير " وإن تَعُدُّوا نعمة اللّه لا تحصوها " .
فيا محسناً إلي قبل أن أطلب لا تخيب أملي فيك وأنا أطلب.
فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.
فصل عبيد المال
سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض، والمتوسط منهم يندر.
منهم من يغضب فيقتل ويضرب.
ومنهم من هو أبله بقوة الحلم لا يؤثر عنده السب.
ومنهم شره يتناول كل ما يشتهي.
ومنهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها.
وكذلك سائر الأشياء المحمود منها المتوسط.
فالمنفق كل ما يجد مبذر، والبخيل يخبىء المال ويمنع نفسه حظها.
ومعلوم أن المال لا يراد لنفسه بل للمصالح، فإذا بذر الإنسان فيه احتاج إلى بذل وجهه ودينه ومنة البخلاء عليه، وهذا لا يصلح.
ولأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه.
وفي الناس من يبخل، ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال.
فربما مات أحدهم هزالاً وهو لا ينفقه، فيأخذه الغير ويندم المخلف.
ولقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد، ذكرته لتعتبر به.
فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر عن شيخه عبد المحسن الصوري، قال: كان بصور تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين وجوزة، فيدخل إلى غرفته وقت المغرب فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزع ثوبه.
وفي زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين ويأكلهما.
فبقي على هذا مدة فمات، فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفاً.
ورأيت أن رجلاً من كبار العلماء قد مرض فاستلقى عند بعض أصدقائه ليس له من يخدمه ولا يرفقه وهو يتضرر به، فلما مات وجدوا بين كتبه خمسمائة دينار.

وحدثني أبو الحسن الراندسي قال: مرض رجل عندنا، فبعث إلي فحضرت فقال: قد ختم القاضي على مالي، فقلت: إن شئت قمت وفتحت الختم وأعطيتك الثلث تفرقه وتعمل به ما تشاء.
فقال: لا والله ما أريد أن أفرقه، بل أريد مالي يكون عندي، فقلت: ما يعطونك، وأنا آخذ لك الثلث كي تكون حراً فيه.
فقال: لا أريد، فمات وأخذ ماله.
قال: وجاء رجل فحدثني بعجيبة، قال: مرضت حماتي فقالت لي: أريد أن تشتري لي خبيصاً، فاشتريت لها، وكانت ملقاة في صفة، ونحن في صفة أخرى.
فجاءني ولدي الصغير وقال: يا سيدي، إنها تبلع الذهب، فقمت وإذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه.
فأمسكت يدها وزجرتها عن هذا.
فقالت: أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي، فقلت: ما أفعل، فقالت: إحلف لي، فحلفت، فأعطتني باقي الذهب، ثم ماتت فدفنتها.
فلما كان بعد أشهره مات لنا طفل، فحملناه إليها، وأخذت معي خرقة خام، وقلت للحفار: اجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة، فجئت بها إلى البيت، وتركتها في أجانة وصببت عليها الماء وحركتها، فأخرجت ثمانين ديناراً أو نحوها كانت قد ابتلعتها.
وحكى لي صديق لنا، أن رجلاً مات ودفن في الدار، ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة مقيرة.
فسئل أهله عنها فقالوا: هو قير هذه اللبنة وأوصى أن تترك تحت رأسه في قبره وقال: إن اللبن يبلى سريعاً وهذه لموضع القار لا تبلى.
فأخذوها فوجدوها رزينة، فكسرها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولاها أصحاب التركات.
وبلغني أن رجلاً كان يكنس المساجد ويجمع ترابها ثم ضربه لبناً فقيل له هذا لأي شيء ؟ فقال: هذا تراب مبارك، وأريد أن يجعلوه على لحدي، فلما مات جعل على لحده، ففضل منه لبنات، فرموها في البيت، فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير.
فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده وكله مملوء دنانير.
ولقد مات بعض أصدقائنا وكنت أعلم له مالاً كثيراً، وطال مرضه فما أطلع أهله على شيء ولا أكاد أشك أنه من شحه وحرصه على الحياة ورجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه خوفاً أن يؤخذ فيحيا هو وقد أخذ المال.
وما يكون بع هذا الخزي شيء.
وحدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن. قال: كان فلان له ولدان ذكران وبنت وله ألف دينار مدفونة.
فمرض مرضاً شديداً فاحتوشته أهله، فقال لأحد ابنيه لا تبرح من عندي.
فلما خلا به قال له إن أخاك مشغول باللعب بالطيور، وإن أختك لها زوج تركي ومتى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب، وأنت على سيرتي وأخلاقي، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار، فإذا أنا مت فخذها وحدك.
فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الأب، فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلا يفعل، فمرض الولد فأشفى فجعل الأب يتضرع إليه ويقول: ويحك خصصتك بالمال دونهم فتموت فيذهب المال، ويحك لا تفعل، فما زال به حتى أخبره بمكانه، فأخذه ثم عوفي الولد ومضت مدة فمرض الأب، فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال وبالغ فلم يخبره ومات وضاع المال.
فسبحان من أعدم هؤلاء العقول والفهوم، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

فصل أسس الصداقة
كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم، فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب فأخذت أعتب.
ثم انتبهت لنفسي فقلت: وما ينفع العتاب، فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء.
فهممت بمقاطعتهم، ثم تفكرت فرأيت الناس بي معارف وأصدقاء في الظاهر وإخوة مباطنين، فقلت لا تصلح مقاطعتهم.
إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة.
فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم.
فقد قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك.
وجمهور الناس اليوم معارف ويندر فيهم صديق في الظاهر، فأما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يطمع فيه.
وما رأى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته.
فدع الطمع في الصفا. وخذ عن الكل جانباً، وعاملهم معاملة الغرباء.
وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره.
وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك.
وقد قال الفضيل بن عياض: إذا أردت أن تصادق صديقاً فأغضبه فإن رأيته كما ينبغي فصادقه.

وهذا اليوم مخاطرة، لأنك إذا أغضبت أحداً صار عدواً في الحال.
والسبب في نسخ حكم الصفا، أن السلف كان همتهم الآخرة وحدها فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا.
والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإن رأيت متملقاً في باب الدين فأخبره تقله.

فصل الرضا والشكر
رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض، كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس.
وتأملت على الآدمي حالة عجيبة، وهو أن تكون معه امرأة لا بأس بها إلا أن قلبه لا يتعلق بمحبتها تعلقاً يلتذ به.
ولذلك سببان، أحدهما أن تكون غير غاية في الحسن؛ والثاني أن كل مملوك مكروه، والنفس تطلب ما لا تقدر عليه.
فتراه يضج ويشتهي شيئاً يحبه أو امرأة يعشقها، ولا يدري أن إنما يطلب قيداً وثيقاً يمنع القلب من التصرف في أمور الآخرة أو في أي علم أو عمل، ويخبطه في تصريف الدنيا، فيبقى ذلك العاشق أسير المعشوق، همه كله معه.
فالعجب لمطلق يؤثر القيد، ومستريح يؤثر التعب.
فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ فالويل له لا قرار له ولا سكون.
وإن كانت من المتبرجات اللواتي لا يؤمن فسادهن فذاك هلاكه بمرة.
فلا هو إن نام يلتذ بنومه، ولا إن خرج من الدار يأمن محنة.
وإن كانت تريد نفقة واسعة وليس له، فكم يدخل مدخل سوء لأجلها.
وإن كانت تؤثر الجماع وقد علت سنه فذاك الهلاك العظيم.
وإن كانت تبغضه فما بقيت من أسباب تلفه بقية، فيكون هذا ساعياً في تلف نفسه كما قال القائل:
نحب القدود ونهوى الخدود ... ونعلم أنا نحب المنونا
وهذا على الحقيقة كعابد صنم.
فليتق الله من عنده امرأة لا بأس بها، وليعرض عن حديث النفس ومناها فما له منتهى.
ولو حصل له غرضه كما يريد وقع الملل وطلب ثالثة.
ثم يقع الملل ويطلب رابعة، وما لهذا آخر.
إنما يفيده ذلك في العاجلة تعلق قلبه وأسر لبه، فيبقى كالمبهوت.
فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبه، فإن جرت فرقة أو آفة فتلك الحسرات الدائمة إن بقي أو التلف عاجلاً.
وأين المستحسن المصون الدين القنوع بمن يحبه هذا أقل من الكبريت الأحمر.
فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم. ولا يلتفت إلى سواد الهوى وغاية المنى، يسلم.
فصل العلم والخشية
إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل ويجب على العاقل ألا يرى لنفسه عملاً أو يعجب به.
وذلك بأشياء: منها أنه وفق لذلك العمل " حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " .
ومنها أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها.
ومنها أنه إذ لوحظت عظمة المخدوم احتقر كل علم وتعبد.
هذا إذا سلم من شائبة وخلص من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يغلب الحذر من رده، ويخاف العتاب على التقصير فيه، فيشتغل عن النظر إليه.
وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك، فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون قالوا: ما عبدناك حق عبادتك.
والخليل عليه السلام يقول: " والذي أطمع أن يغفر لي " وما أدل بتصبره على النار وتسليمه الولد إلى الذبح.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما منكم من ينجيه عمله قالوا ولا أنت قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.
وأبو بكر رضي الله عنه يقول: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.
وعمر رضي الله عنه يقول: لو أن لي طلاع الأرض لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر.
وابن مسعود يقول: ليتني إذا مت لا أبعث.
وعائشة رضي الله عنها تقول: ليتني كنت نسياً منسياً.
وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع.
وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بها. فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة وأخرج له كل ليلة رمانة، وسأل الله تعالى أن يميته في سجوده. فإذا حشر قيل له ادخل الجنة برحمتي قال: بل بعملي، فيرون جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي، فيقول: يا رب برحمتك.
وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحيي من ذكره، وهو أنه عزم على الزنا، ثم خاف العقوبة فتركه.
فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة.

إنما لو كان مباحاً فتركه كان فيه ما فيه. ولو فهم لشغله خجل الهمة عن الإدلال، كما قال يوسف عليه السلام: " وما أُبَرِّىءُ نفسي " .
والآخر ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقي أبويه اللبن. وفي هذا البر أذى للأطفال، ولكن الفهم عزيز.
وكأنهم لما أحسنوا - فيما ظنوا - قال لسان الحال: أعطوهم ما طلبوا، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا.
ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه.
وفهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر. ويوجب مساكنه الذل. فتأمله فإنه أصل عظيم.

فصل الذنوب وآثارها
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها.
وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك. وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها.
ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح: أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقول: اشفع لنا فيقول: ذنبي. وإلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم، وإلى موسى، وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم.
فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقية.
ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد على خوف منها.
ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: واسوأتاه منك وإن عفوت. فأف والله لمختار الذنوب ومؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غفر له.
فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً.
وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة.
وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
فصل الحق مع علي بن أبي طالب
نعوذ بالله من سوء الفهم وخصوصاً من المتسمين بالعلم.
روى أحمد في مسنده أنه تنازع أبو عبد الرحمن السلمي وحيان بن عبد الله، فقال أبو عبد الرحمن لحيان: قد علمت ما الذي حدا صاحبك، يعني علياً، قال ما هو قال قول النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وهذا سوء فهم من أبي عبد الرحمن حين ظن أن علياً قاتل وقتل اعتماداً على أنه قد غفر له.
وينبغي أن يعلم أن معنى الحديث: لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت فقد غفرت لكم.
فأما غفران ما سيأتي فلا يتضمنه ذلك، أتراه لو وقع من أهل بدر وحاشاهم الشرك - إذ ليسوا بمعصومين - أما كانوا يؤاخذون به ؟ فكذلك المعاصي.
ثم لو قلنا: إنه يتضمن غفران ما سيأتي، فالمعنى أن مآلكم إلى الغفران.
ثم دعنا من معنى الحديث، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه فعل ما لا يجوز اعتماداً على أنه سيغفر له ؟ حوشي من هذا.
وإنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال، فكان على الحق.
ولا يختلف العلماء أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل أحداً إلا والحق مع علي.
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أدر معه الحق كيفما دار.
فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطاً قبيحاً، حمله عليه أنه كان عثمانياً...
فصل سوء المظهر في الزهد
تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق والرياء وهم يدعون الإخلاص.
منها أنهم يلزمون زاوية فلا يزورون صديقاً، ولا يعودون مريضاً، ويدعون أنهم يريدون الانقطاع عن الناس اشتغالاً بالعبادة.
وإنما هي إقامة نواميس ليشار إليهم بالانقطاع، إذ لو مشوا بين الناس زالت هيبتهم.
وما كان الناس كذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشتري الحاجة من السوق، وأبو بكر رضي الله عنه يتجر في البز. وأبو عبيدة بن الجراح يحفر القبور، وأبو طلحة أيضاً، وابن سيرين يغسل الموتى، وما كان عند القوم إقامة ناموس.
وأصحابنا يلزمون الصمت بين الناس والتخشع والتماوت، وهذا هو النفاق.
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، وبين الناس، ويبكي بالليل.
وقد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد ويصلي فيجتمع الناس فيصلون بصلاته ليلاً ونهاراً، وقد شاع هذا له فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة التطوع: " اجعلوا هذه في البيوت " .
وفي أصحابنا من يظهر الصوم الدائم، ويتقوت بقول الناس: " فلان ما يفطر أصلاً " .

وهذا الأبله ما يدري أنه لأجل الناس يفعل ذلك، لولا هذا كان يفطر والناس يرونه يومين أو ثلاثة حتى يذهب عنه ذلك الاسم ثم يعود إلى الصوم.
وقد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يترك عنده من الطعام ما يأكله الأصحاء. ورأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس ويقرأ المعوذتين والمعنى قد ختمت !!!.
فإن هذه الأعمال هي صريحة في النفاق والرياء.
وفيهم من يأخذ الصدقات وهو غني، ولا يبالي أخذ من الظلمة أو من أهل الخير، ويمشي إلى الأمراء يسألهم، وهو يدري من أين حصلت أموالهم.
فالله الله في إصلاح النيات فإن جمهور هذه الأعمال مردود.
قال مالك بن دينار: وقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.
وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه.
فإنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب، ولم يلتفت إليه أحد، والمخلص محبوب.
فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه، لما فعل.
وكم رأينا من يلبس الصوف ويظهر النسك لا يلتفت إليه، وآخر يلبس جيد الثياب ويبتسم والقلوب تحبه.
نسأل الله عز وجل إخلاصاً يخلصنا، ونستعيذ به من رياء يبطل أعمالنا إنه قادر.

فصل لا استقرار في الدنيا
من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف فإنه موضوع على عكس الأغراض.
فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض. فإن دعا وسأل بلوغ غرض تعبد الله بالدعاء.
فإن أعطى مراده شكر، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب، لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم " .
من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن، أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب.
وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة.
ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر. هذا آدم طاب عيشه في الجنة وأخرج منها.
ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلى بالنار، وإسماعيل بالذبح، ويعقوب بفقد الولد. ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا.
وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم.
فالدنيا وضعت للبلاء فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا كما قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وها هنا تتبين قوة الإيمان وضعفه فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك، والتحكيم لحكمته.
وليقل قد قيل لسيد الكل " ليس لك من الأمر شيء " .
ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل، وإنما هو لمصلحة لا يعلمها، وليؤجر الصابر عن أغراضه، وليعلم الله الذين سلموا ورضوا.
ثم إن زمن الابتلاء مقدار يسير، والأغراض مدخرة تلقى بعد قليل، وكأنه بالظلمة قد انجلت، وبفجر الأجر قد طلع.
ومتى ارتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه، اقتضى إيمانه أن يريد ما يريد، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية في المعنى.
وهذا أصل ينبغي أن يتأمل ويعمل عليه في كل غرض انعكس.
فصل العالم والحاكم
رأيت خلقاً من العلماء والقصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة السلاطين لينالوا من أموالهم، وهم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون الدنيا من وجهها، ولا يخرجونها في حقها.
فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح وهبه لشاعر.
وربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة آلاف.
وربما غزا فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فاصطفاه لنفسه.
هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات.
وأول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه، وقد رأى بعض الصالحين رجلاً عالماً يخرج من دار يحيى بن خالد البرمكي فقال: أعوذ بالله من علم لا ينفع.

كيف ؟ ألم تر المنكرات ولا تنكر، وتتناول من طعامهم الذي لا يكاد يحصل إلا بظلم فينطمس قلبك وتحرم لذة المعاملة للحق سبحانه، ثم لا يقدر لك أن يهتدي بك أحد. بل ربما كان فعل هذا سبباً لإضلال الناس وصرفهم عن الاقتداء به، فهو يؤذي نفسه ويؤذي أميره، لأنه يقول: لولا أنني على صواب ما صحبني ولأنكر علي.
ويؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه الأمير صواب، وتارة بأن الدخول عليه والسكوت عن الإنكار جائز.
أو يحبب إليهم الدنيا، ولا خير والله في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة.
وأنا أفتدي أقواماً صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من شراب الرضى، وبقيت أذكارهم تروي فتروى صدأ القلوب وتجلو صداها.
هذا الإمام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط ولا يقبل مال سلطان.
هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل ويرد على المعتصم ألف دينار.
هذا بشر الحافي يشكو الجوع فيقال له يصنع لك حساء من دقيق فيقول: أخاف أن يقول الله لي هذا الدقيق من أين لك ؟.
بقيت والله أذكار القوم، وما كان الصبر إلا غفوة يوم.
ومضت لذات المترخصين وبليت الأبدان، ووهن الدين.
فالصبر الصبر يا من وفق، ولا تغبطن من اتسع له أمر الدنيا.
فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقاً في باب الدين.
ولا ترخص لنفسك في تأويل، فعمرك في الدنيا قليل:
وسواء إذا انقضى يوم كسرى ... في سرور ويوم صابر كسره
ومتى ضجت النفس لقلة صبر فاتل عليها أخبار الزهاد، فإنها ترعوي وتستحي وتنكسر إن كانت لها همة أو فيها يقظة.
ومثل لها بين ترخص علي بن المديني وقبوله مال ابن أبي داود، وصبر أحمد.
وكم بين الرجلين والذكرين.
وانظر ما يروى عن كل واحد منهما وما يذكران به.
وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد: سلم لي ديني.

فصل الكسب الحرام
تأملت أحوال الناس فرأيت جمهورهم منسلاً من ربقة العبودية.
فإن تعبدوا فعادة أو فيما لا ينافي أغراضهم منافاة تؤذي القلوب.
فأكثر السلاطين يحصلون الأموال من وجوه ردية وينفقونها في وجوه لا تصلح.
وكأنهم قد تملكوها، وليست مال الله الذي إذا غزا أحدهم - باسمه - فغنم الأموال اصطفاها لنفسه، وأعطاها أصحابه كيف اشتهى.
والعلماء لقوة فقرهم وشدة شرههم، يوافقون الأمراء وينخرطون في سلكهم.
والتجار على العقود الفاسدة، والعوام في المعاصي والإهمال لجانب الشريعة.
فإن فات بعض أغراضهم فربما قالوا ما نريد نصلي، لا صلى الله عليهم.
وقد منعوا الزكاة وتركوا الأمر بالمعروف.
فمن الناس من يغره تأخير العقوبة، ومنهم من كان يقطع بالعفو وأكثرهم متزلزل الإيمان، فنسأل الله أن يميتنا مسلمين.
فصل هموم الفقر
من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب، فما مثله إلا كمثل الماء إذا ضرب في وجهه سكر، فإنه يعمل باطناً ويبالغ حتى يفتح فتحة.
فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال، فإذا لم يقدر على الحلال ترخص في تناول الشبهات، فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام.
فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب اجتهد في التعفف عن النكاح، وتقليل النفقة إذا حصل الأولاد، والقناعة باليسير.
فأما من ليس له كسب كالعلماء والمتزهدين، فسلامتهم ظريفة، إذ قد انقطعت موارد السلاطين عنهم ومراعاة العوام لهم، فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال.
فمن قدر منهم على كسب بالنسخ وغيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة والقناعة باليسير.
فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام، لأنه يأخذ من الظلمة خصوصاً بحجة التنمس والتزهد.
ومن كان له منهم مال فليجتهد في تنميته وحفظه، فما بقي من يؤثر ولا من يقرض.
وقد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال، فمن حفظه حفظ دينه.
ولا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال، فما هذا وقته.
واعلم أنه إذا لم يجتمع الهم، لم يحصل العلم ولا العمل ولا التشاغل بالفكر في عظمة الله.
وقد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام.
وكان يصلهم فيفضل عنهم.
وفيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب وسفيان وابن المبارك وكان همه مجتمعاً، وقد قال سفيان في ماله: لولاك لتمندلوا بي !!.

وفقدت بضاعة لابن المبارك فبكى وقال: هو قوام ديني.
وكان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون.
وكان ابن المبارك يبعت إلى الفضل وغيره، وكان الليث بن سعد يتفقد الأكابر، فبعث إلى مالك ألف دينار، وإلى ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى منصور ابن عمار ألف دينار وجارية بثلاثمائة دينار.
وما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى انمحاق ذلك، فقلت عطايا السلاطين، وقل من يؤثر من الإخوان.
إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع عض الزمان.
فأما زماننا هذا، فقد انقبضت الأيدي كلها، حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة، فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء والزهاد أن يعمل همه ليلاً ونهاراً في وجوه الكسب وليس من شأنه هذا ولا يهتدي له.
فقد رأينا الأمر أحوج إلى التعرض للسلاطين والترخص في أخذ ما لا يصلح، وأحوج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا.
فالله الله يا من يريد حفظ دينه، قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك، وخفف العلائق مهما أمكنك، واحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك، وافهم ما قد شرحته، فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها: إن كان عندك إيمان فاصبري، وإن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك.
فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير وجهه وفي المنمسين ذهب دينهم، وزالت دنياهم.
وتفكري في العلماء الصادقين كأحمد وبشر، اندفعت الأيام وبقي لهم حسن الذكر.
وفي الجملة " من يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " .

فصل العبادة على أمل
شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال: ما أقدر على فراقها لأمور، منها كثرة دينها علي وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات تعلم بغضي لها.
فقلت له: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها ! فينبغي أن تخلو بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك فتبالغ في الاعتذار والتوبة.
فأما التضجر والأذى لها فما ينفع كما قال الحسن بن الحجاج: عقوبة من الله لكم فلا تقابلوا عقوبته بالسيف وقابلوها بالاستغفار.
واعلم أنك في مقام مبتلي ولك أجر بالصبر " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم " فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى واسأله الفرج.
فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها.
ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر: " وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إِلاَّ هو " .
وقد روينا أن جندياً نزل يوماً في دار أبي يزيد، فجاء أبو يزيد فرآه فوقف وقال لبعض أصحابه: أدخل إلى المكان الفلاني فاقلع الطين الطري فإنه من وجه فيه شبهة فقلعه، فخرج الجندي.
وأما أذاك للمرأة فلا وجه له لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا.
وقد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض وقال اللهم اغفر لي الذنب الذي سلطت هذا به علي.
قال الرجل: وهذه المرأة تحبني زائداً في الحد، وتبالغ في خدمتي، غير أن البغض لها مركوز في طبعي.
قلت له: فعامل الله سبحانه بالصبر عليها فإنك تثاب.
وقد قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك.
قال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبي.
فجاءتني امرأة، فقالت: يا أبا عثمان، إني قد هويتك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني.
فأحضرت أباها - وكان فقيراً - فزوجني منها وفرح بذلك.
فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة.
وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج، فأقعد حفظاً لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئاً وكأني على جمر الغضا من بغضها.
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قلبها.
قلت له: فهذا عمل الرجال، وأي شيء ينفع ضجيج المبتلى بالتضجر وإظهار البغض.
وإنما طريقه ما ذكرته لك من التوبة والصبر وسؤال الفرج.
وتذكر ذنوباً كانت هذه عقوبتها.
وبالغ، فإن وقع فرج فشيء كأنه ليس في الحساب، وإلا فاستعمال الصبر على القضاء عبادة.
وتكلف إظهار المودة لها وإن لم تكن في قلبك تثبت على هذا.
وليس القيد ذنباً فيلام، إنما ينبغي التشاغل مع من قيدك به والسلام.
فصل بين النفس والناس

لا ريب أن القلب المؤمن بالإله سبحانه وبأوامره يحتاج إلى الانعكاف على ذكره وطاعته وامتثال أوامره، وهذا يفتقر إلى جمع الهم.
وكفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتاً للهم المجتمع.
فينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه لينفرد قلبه بذكر الله سبحانه وتعالى وإنفاذ أوامره والتهيؤ للقائه.
وذلك إنما يحصل بقطع القواطع، والامتناع عن الشواغل.
وما يمكن قطع القواطع جملة، فينبغي أن يقطع ما يمكن منها.
وما رأيت مشتتاً للهم مبدداً للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في طلب كل شيء تشتهيه وذلك لا يوقف على حد فيه، فيذهب الدين والدنيا ولا ينال كل المراد.
مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة، وما يشبه هذه الأشياء.
فيا له من شتات لا جامع له، يذهب العمر ولا ينال بعض المراد منه.
والثاني: مخالطة الناس خصوصاً العوام والمشي في الأسواق، فإن الطبع يتقاضى بالشهوات وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة والراحة.
فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو بالعبادة.
ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة وتضيع الساعات في غير شيء.
فمن أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة بحيث لا يسمع صوت أحد، فحينئذ يخلو القلب بمعارفه، ولا تجد النفس رفيقاً مثل الهوى يذكرها ما تشتهي.
فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق كما تتهوى للضفدع لحظة ثم تعود إلى الماء، فهذه طريق السلامة.
فتأمل فوائدها تطب لك.

فصل الكفر بسبب الدهر
ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر.
وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: " لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر " .
ومعناه أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهاليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله تعالى هو الفاعل لذلك.
فتعجبت كيف علم أهل الأسقام بهذه الحال، وهم على ما كان أهل الجاهلية عليه ما يتغيرون حتى ربما اجتمع الفطناء الأدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم شغل إلا ذم الدهر.
وربما جعلوا الله الدنيا، ويقولون: فعلت وصنعت وحتى رأيت لأبي القاسم الحريري يقول:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو عمي ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
وقد رأيت خلقاً يعتقدون أنهم فقهاء وفهماء ولا يتحاشون من هذا.
وهؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان، فذاك لا اختيار له ولا مراد ولا يعرف رشداً من ضلال، ولا ينبغي أن يلام.
فإنه زمان مدبر لا مدبر، فيتصرف فيه ولا يتصرف بأحد.
وما يظن بعاقل أن يشير إلى أن هذا المذموم المعرض عن الرشد السيء الحكم هو الزمان.
فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام، ونسبوا هذه القبائح إلى الصانع، فاعتقدوا فيه قصور الحكمة وفعل ما لا يصح، كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم.
وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة.
بل هم شر من الكفار، لا أصلح الله لهم شأناً ولا هداهم إلى رشاد.
فصل كنز الوقت
من عجائب ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا مع العلم بقصر العمر، وأنا زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا.
فيا قصير العمر اغتنم يومي مني، وانتظر ساعة النفر، وإياك أن تشغل قلبك بغير ما خلق له.
واحمل نفسك على المبر واقمعها إذا أبت، ولا تسرح لها في الطول، فما أنت إلا في مرعى.
وقبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه.
فصل الاحتراس
قد قررت هذا المعنى في هذا الكتاب، وهو الأمر بحفظ السر، والحذر من الانبساط فيما لا يصلح بين يدي الناس.
فرب منبسط - بين يدي من يظنه صديق - يقول في صديق أو في سلطان يحسب أنه لا يهتم في ذلك، فيكون سبب هلاكه ذاك.
فأوصى السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير أن يحترز من الناس، وأن لا يقول في الخلق كلمة لا تصلح للخلق.
ولا يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين فقد عم الخبث.
فصل التفكر والنظر
تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات.
فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية.

فإن الغافل يقول سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله.
ولو أن إنسان تفكر في رمانة، فنظر في تصفيف حبها وحفظه بالأغشية لئلا يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم، وجعل الغشاء عليه يحفظه، وتصوير الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأم، إلى غير ذلك من المخلوقات، أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق، فقال: سبحان الله، وكان هذا التسبيح ثمرة الفكر؛ فهذا تسبيح المتيقظين.
وما تزال أفكارهم تجول فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققة، وكذلك يتفكرون في قبائح ذنوب قد تقدمت فيوجب ذلك الفكر وقلق القلب وندم النفس، فيثمر ذلك أن يقول قائلهم: أستغفر الله.
فهذا هو التسبيخ والاستغفار.
فأما الغافلون فيقولون ذلك عادة وشتان ما بين الفريقين.

فصل العزلة دواء
لا يصفو التعبد والتزهد والاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع الكلي عن الخلق، بحيث لا يبصرهم ولا يسمع كلامهم إلا في وقت ضرورة كصلاة جمعة أو جماعة، ويحترز في تلك الساعات منهم.
وإن كان عالماً يريد نفعهم وعدهم وقتاً معروفاً واحترز في الكلام معهم.
وأما من يمشي في الأسواق اليوم ويبيع ويشتري مع هذا العالم المظلم، ويرى المنكرات والمستهجنات فما يعود إلى البيت إلا وقد أظلم القلب.
فلا ينبغي للمريد أن يكون خروجه إلا إلى الصحراء والمقابر.
وقد كان جماعة من السلف يبيعون ويشترون ويحترزون، ومع هذا ما صفا لصافيهم وقت حتى قاطع الخلق.
قال أبو الدرداء: زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فاخترت العبادة.
وقد جاء في الحديث: الأسواق تلهي وتلغي.
فمن قدر على الحمية النافعة واضطر إلى المخالطة والكسب للعائلة، فليحترز احتراز الماشي في الشوك، وبعيد سلامته.
فصل المحافظة على صفاء القلب
من رزق قلباً طيباً، ولذة مناجاة، فليراع حاله وليحترز من التغيير.
وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى.
وكنت قد رزقت قلباً طيباً ومناجاة حلوة فأحضر بعض أرباب المناصب إلى طعامه، فما أمكن خلافه. فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت كل ما كنت أجده.
فقلت: واعجباً لقد كنت في هذا كالمكره، فتفكرت وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة، ولكن التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة.
فقالت النفس: ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام ؟.
فقالت اليقظة: وأين الورع عن الشبهات ؟.
فلما تناولت بالتأويل لقمة واستحليتها بالطبع لقيت الأمرين بفقد القلب فاعتبروا يا أولي الأبصار.
فصل اليقظة للآخرة والتدبر
همة المؤمن متعلقة بالآخرة فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله.
ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط.
والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بما ثم، وذلك يشغله عن كل ما تم.
وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع ولا يزول، ولا يعتريه منغص، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلباً في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحاً ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاء وفقد محبوب وهجوم الموت ومعالجة غصصه.
فإن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود، والتائق إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء.
ويعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا فهو يتخير الأجود، ويغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتور.
ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة فيتنغص عيشه ويقوى قلقه، فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء العشوق تارة وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان.
فإذا نازله الموت قوي ظنه بالسلامة، ورجا لنفسه النجاة فيهون عليه.

فإذا نزل إلى القبر وجاءه من يسألونه، قال بعضهم لبعض: دعوه فما استراح إلا الساعة. نسأل الله عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل، وتمنعنا من اختيار الرذائل، فإنه إن وفق، وإلا فلا نافع.

فصل مظاهر الاصطفاء
لقد اعتبرت على مولاي سبحانه وتعالى أمراً عجيباً وهو أنه تعالى لا يختار لمحبته والقرب منه إلا الكامل صورة ومعنى.
ولست أعني حسن التخاطيط وإنما كمال الصورة اعتدالها، والمعتدلة ما تخلو من حسن، فيتبعها حسن الصورة الباطنة، وهو كمال الأخلاق، وزوال الأكدار، ولا يرى في باطنه خبثاً ولا كدراً، بل قد حسن باطنه كما حسن ظاهره.
وقد كان موسى عليه السلام كل من رآه يحبه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم كالقمر ليلة البدر.
وقد يكون الولي أسود اللون، لكنه حسن الصورة لطيف المعاني.
فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام في كمال الخلق والخلق، يكون عمله، ويكون تقريبه إلى الحضرة بحسب ذلك.
فمنهم كالخادم على الباب، ومنهم حاجب، ومنهم مقرب، ويندر من يتم له الكمال. ولعله لا يوجد في مائة سنة منهم غير واحد.
وهذه حكاية ما تحصل بالاجتهاد بل الاجتهاد يحصل منها. لأنه إذا وقع تماماً حث على الجد على قدر نقصائه.
وهذا لا حيلة في أصله، إنما هو جبلة، وإذا أرادك لأمر هيأك له.
فصل الحكمة الإلهية وجهل العقول
تأملت على قوم يدعون العقول ويعترضون على حكمة الخالق.
فينبغي أن يقال لهم: هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته أليس هو من منحه ؟.
أفأعطاكم الكمال ورضي لنفسه بالنقص ! هذا هو الكفر المحض الذي يزيد في القبح على الجحد.
فأول القوم إبليس، فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين فرد حكمة الخالق.
ومر على هذا خلق كثير من المعترضين، مثل ابن الراوندي والبقري وهذا المعري اللعين يقول: كيف يعاب الحجاج بالسخف والدهر أقبح فعلاً منه.
أترى يعني به الزمان ! كلا. فإن ممر الأوقات لا يفعل شيئاً وإنما هو تعريض بالله جل شأنه. وكان يستعجل الموت ظناً منه أنه يستريح.
وكان يوصي بترك النكاح والنسك، ولا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء والتعب ومصير الأبدان إلى البلى.
وهذا لو كان ظن كان الإيجاد عبثاً، والحق منزه عن العبث.
قال تعالى: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً " .
فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثاً. أفنكون نحن ونحن مواطن معرفته ومجال تكليفه قد وجدنا عبثاً ؟.
ومثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على الظواهر، مثل أن يرى مبنياً ينقض.
والعقل بمجرده لا يرى دلك حكمة ولو كشفت له حكمة ذلك العلم أنه صواب.
كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام.
ومعلوم أن ذبح الحيوان، وتقطيع الرغيف، ومضغ الطعام لا يظهر له فائدة على الإطلاق.
فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدناً من المذبوح حسن ذلك الفعل.
واعجباً أو ما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم الذي تعجز عن معرفة حكمة مخلوقاته.
فكيف تعارضه في أفعاله ؟ نعوذ بالله من الخذلان.
فصل وعظ السلاطين
ينبغي لمن وعظ سلطاناً أن يبالغ في التلطف ولا يواجهه بما يقتضي أنه ظالم.
فإن السلاطين حظهم التفرد بالقهر والغلبة فإذا جرى نوع توبيخ لهم كان إذلالاً وهم لا يحتملون ذلك.
وإنما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولاية، وحصول الثواب في رعاية الرعايا، وذكر سير العادلين من أسلافهم.
ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه.
فإن رأى سيرته حميدة كما كان منصور بن عمار وغيره يعظون الرشيد وهو يبكي. وقصده الخير زاد في وعظه ووصيته.
وإن رآه ظالماً لا يلتفت إلى الخير، وقد غلب عليه الجهل، اجتهد في أن لا يراه ولا يعظه.
لأنه إن وعظه خاطر بنفسه، وإن مدحه كان مداهناً.
فإن اضطر إلى موعظته كانت كالإشارة، وقد كان أقوام من السلاطين يلينون عند الموعظة ويحتملون الواعظين.
حتى أنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر.
وقد تغير الزمان، وفسد أكثر الولاة وداهنهم العلماء، ومن لا يداهن لا يجد قبولاً للصواب فيسكت.
وقد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم، وثقفته التجارب، فصار أكثر الولاة يتساوون في الجهل فتأتي الولاية على من ليس من أهلها.
ومثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم والبعد عنهم

فمن ابتلى بوعظهم فليكن على غاية التحرز فيما يقول ولا ينبغي أن يغتر بقولهم عظنا فإنه لو قال كلمة لا توافق أغراضهم ثارت حراراتهم.
وليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الولايات فإنهم إذا سمعوا بذلك صار الواعظ مقصوداً لهم بالإهلاك خوفاً من أن يعتبر السلطان أحوالهم فتفسد أمورهم.
والبعد في هذا الزمان عنهم أصلح، والسكوت عن المواعظ لهم أسلم.
فمن اضطر تلطف غاية التلطف، وجعل وعظه للعوام وهم يسمعون ولا يعنيهم منه بشيء والله الموفق.

فصل الأنبياء الكذبة، ورسالة الإسلام
الحق لا يشتبه بباطل إنما يموه الباطل عند من لا فهم له.
وهذا في حق من يدعي النبوات، وفي حق من يدعي الكرامات.
أما النبوات فإنه قد ادعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم، وبانت فضائحهم، ومنها ما أوجبته خسة الهمة والتهتك في الشهوات، والتهافت في الأقوال والأفعال، حتى افتضحوا.
فمنهم الأسود العنسي، ادعى النبوة ولقب نفسه ذا الحمارة لأنه كان يقول يأتيني ذو الحمار، وكان أول أمره كاهناً يشعوذ فيظهر الأعاجيب. فخرج في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فكاتبته مذ حج وواعدته نجران وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفاً له اليمن، وقاتل شهر بن باذان فقتله وتزوج ابنته فأعانت على قتله فهلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبان للعقلاء أنه كان يشعوذ.
ومنهم مسيلمة، ادعى النبوة وتسمى رحمان اليمامة لأنه كان يقول: الذي يأتيني رحمان. فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وادعى أنه قد أشرك معه، فالعجب أنه يؤمن برسول ويقول إنه كذاب، ثم جاء بقرآن يضحك الناس، مثل قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، ومن العجائب شاة سوداء تحلب لبناً أبيض فانهتك ستره في الفصاحة.
ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره. وبصق في بئر فيبست.
وتزوج سجاح التي ادعت النبوة فقالوا: لا بد لها من مهر فقال: مهرها أني قد أسقطت عنكم صلاة الفجر والعتمة.
وكانت سجاح هذه قد ادعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجاب لها جماعة فقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم اعبروا على الرباب، فليس دونهم حجاب، فقاتلوهم.
ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها وأهدى لها فحضرت عنده فقالت: اقرأ علي ما يأتيك به جبريل.
فقال: إنكن معشر النساء خلقتن أفواجاً، وجعلتن لنا أزواجاً، نولجه فيكن إيلاجاً فقالت: صدقت أنت نبي.
فقال لها: قومي إلى المخدع، فقد هيىء لك المضجع، فإن شئت مستلقاة وإن شئت على أربع، وإن شئت بثلثيه وإن شئت به أجمع، فقالت: بل به اجمع فهو للشمل أجمع.
فافتضحت عند العقلاء من أصحابها، فقال منهم عطارد بن حاجب:
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فعلنة اللّه رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغوانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ومن رعيت حيثما كانا
ثم إنها رجعت عن غيها وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل.
ومنهم طليحة بن خويلد، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة وتبعه عوام ونزل سميراً، فتسمى بذي النون، يقول: إن الذي يأتيه يقال له ذو النون.
وكان من كلامه: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ولا قبح أدباركم شيئاً فاذكروا الله أعفة قياماً..
ومن قرآنه: والحمام واليمام وللصرد الصوام ليبلغن ملكنا العراق والشام.
وتبعه عيينة بن حصين، فقاتله خالد بن الوليد فجاء عيينة إلى طليحة فقال: ويحك أجاءك الملك. قال لا فارجع فقاتل فقاتل ثم عاد، فقال أجاءك فقال لا، فعاد فقاتل ثم عاد فقال: أجاءك ؟ قال: نعم قال: ما قال لك ؟ قال: قال إن لك جيشاً لا تنساه، فصاح عيينة: الرجل والله كذاب.
فانصرف الناس منهزمين وهرب طليحة إلى الشام، ثم أسلم وصح إسلامه وقتل بنهاوند.
وذكر الواقدي: أن رجلاً من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم، كان يلقب كرداناً ادعى النبوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزعم أن دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد والطين. وهذا لأنه كان يطلي ذلك بدهن البيلسان فتعمل فيه النار.

وقد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي، وكان يزعم أن الله تعالى أوحى إليه: يا أيها الجائع اشرب لبناً تشبع، ولا تضرب الذي لا ينفع، فإنه ليس بمقنع.
وزعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله، وحيلته في ذلك أنه يأخذ دهن الغار وحجر البرسان وقنفدا محرقاً وزبد البحر وصدفاً محرقاً مسحوقاً وشيئاً من الصبر والحبط فيطلي به جسمه، فإذا قربت منه السباع فشمت تلك الأرياح وزفورتها نفرت.
وتنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري، وزعم أن دليله أنه يطرح النار في القطن فلا يحترق. وهذا لأنه يدهنه بدهن معروف.
ومنهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير، حكى عنه الأصمعي أنه عارض سورة الإخلاص فقال: قل هو الله أحد إله كالأسد جالس على الرصد لا يفوته أحد.
ومنهم هذيل بن واسع كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني، عارض سورة الكوثر فقال له رجل ما قلت فقال: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، فما يردنك إلا كل فاجر.
فظهر عليه السنوري فقتله وصلبه على العمود، فعبر عليه الرجل فقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، بلا ركوع ولا سجو، فما أراك تعود.
وممن ظهر فادعى أنه يوحي إليه المختار بن أبي عبيد، وكان متخبطاً في دعواه، وقتل خلقاً كثيراً وكان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه ثم قتل.
ومنهم حنظلة بن يزيد الكوفي، كان يزعم أن دليله أنه يدخل البيضة في القنينة ويخرجها منها صحيحة وذاك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة، ثم يدس البيضة فيها، فإذا لقيت الماء صلبت.
وقد تنبأ أقوام قبل نبينا صلى الله عليه وسلم كزرادشت وماني. وافتضحوا.
وما من المدعين إلا من خذل.
وقد جاءت القرامطة بحيل عجيبة، وقد ذكرت جمهور هؤلاء وحيلهم في كتابي التاريخ المسمى بالمنتظم، وما فيهم من يتم له أمر إلا ويفتضح.
ودليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أجلى من الشمس.
فإنه ظهر فقيراً والخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك. وأخبر بما سيكون فكان وصين من زمن النبوة عن الشره وخساسة الهمة والكذب والكبر.
وأيد بالثقة والأمانة والنزاهة والعفة، وظهرت معجزاته للبعيد والقريب.
وأنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء، ولم يقدروا على الإتيان بآية تشبهه فضلاً عن سورة.
وقد قال قائلهم وافتضح، ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كمال قال. وذلك قوله تعالى: " فأتوا بسُورَةٍ " ثم قال: " فإِنْ لَمْ تَفْعَلوا وَلَنْ تَفْعَلُوا " . وكذلك قوله: " فَتَمَنَّوا المَوْتَ " ، " وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ.. " فما تمناه أحد.
إذ لو قال قائل قد تمنيته لبطلت دعواه.
وكان يقول ليلة غزاة بدر: غدا مصرع فلان ههنا فلا يتعداه.
وقال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، لك بعدهما من له كبير قدر، ولا من استتب له حال.
ومن أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا فكان يبيت جائعاً، ويؤثر إذا وجد، ويلبس الصوف ويقوم الليل.
وإنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات، فلما لم يردها دل على أنه يدل على الآخرة التي هي حق.
ثم لم يزل دينه يعلو حتى عم الدنيا، وإن كان الكفر في زوايا الأرض، إلا أنه مخذول.
وصار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء تحيروا في حسن استخراجهم، والزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق زهدهم، والفطناء الذين لا نظير لهم في القدماء.
أوليس قوم موسى يعبدون بقرة، ويتوقفون في ذبح بقرة، ويعبرون البحر، ثم يقولون: اجعل لنا إلهاً ؟.
وقوم عيسى يدخرون من المائدة وقد نهوا.
والمعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان.
وأمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء، وإنما في بعضها ميل إلى الشهوات المنهي عنها؛ وذلك من الفروع لا من الأصول.
فإذا ذكروا وندموا على تفريطهم.
فنحمد الله على هذا الدين وعلى أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا والرياسة، فاستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات كالحلاج وابن الشاش وغيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس.
وإنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم، ولم يزل الله ينشىء في هذا الدين من الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون.

كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون، حفظاًَ لهذا الدين، ودفعاً للشبهات عنه.
فلا يزال الفقيه والمحدث يظهر أن عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى تزهد وتنميس فلا يؤثر ما ادعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم والعمل.
" لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الباطلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ " .

فصل الوجود الحق خدمة الموجد
واعجباً من موجود لا يفهم معنى الوجود، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه.
يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة والحديث الفارغ وطلب اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ.
وقد كلف ببذل المال ومخالفة الطبع من الشرع فبخل به إلى أن يتضايق الخناق، فيقول حينئذ: فرقوا عني بعد موتي وافعلوا كذا.
فأين يقع هذا لو فعل، وبعيد أن يفعل، وإنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة الطبع في تكلف مشاق الإخراج في زمن السلامة.
فافرق بين الحالتين إن كان لك فهم.
فالسعيد من انتبه لنفسه وعمل بمقتضى عقله، واغتنم زمناً نهايته الزمن وانتهب عمراً يا قرب انقطاعه.
ويحك ما تصنع بادخال مال لا يؤثر حسنة في صحيفة ولا مكرمة في تاريخ.
أما سمعت بإنفاق أبي بكر وبخل ثعلبة ؟.
أما رأيت تأثير مدح حاتم وبخل الحباحب ؟.
ويحك لو ابتلاك في مالك لاستغثت أو في بدنك ليلة بمرض لشكوت.
فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي في حقه عليك " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ " .
ولتعلم أن هذا القدر المفرط فيه يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه.
فسبحان من من على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الأجساد، وغطى على قلوب آخرين فوجودهم كالعدم.
وكيف لا يتعب العاقل بدنه إتعاب البدن والمقصود منى.
أترى ما بال الحق متجلياً في إيجادك أيها العبد ! بلى، والله إن وجودك دليل وجوده.
وإن نعمه عليك دليل جوده.
فكما قدمك على سائر الحيوانات، فقدمه في قلبك على كل المطلوبات.
واخيبة من جهله، وافقر من أعرض منه، واذل من اعتز بغيره، واحسرة من اشتغل بغير خدمته.
فصل الاستعداد للرحيل
إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه، خصوصاً إذا علت سنه.
واعجبا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج. أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه، قد أخرج سكين القوي. وأنزل متغشرم الضعف، وقلب السواد بياضاً، ثم في كل يوم يزيد الناقص.
ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان، وإن كان ذلك مزعجاً.
ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران.
وإنه لما يسلي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تكره.
فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرون، ومحاسبين لأنفسهم، يتورعون فاستبدل السفهاء عن العقلاء، والبخلاء عن الكرماء.
فيا سهولة الرحيل، لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت.
فصل الإيمان والتعقل
نظرت في قول الله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّموات وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُوم وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ " ، ثم قال: " وَكثِيرٌ مِنَ النَّاسٍ " فرأيت الجمادات كلها قد وصفت بالسجود، واستثنى من العقلاء، فذكرت قول بعضهم:
ما جحد الصامت من أنشأه ... ومن ذوي النطق أتى الجحود
فقلت: إن هذه لقدرة عظيمة، يوهب عقل الشخص ثم يسلب فائدته، وأن هذا لأقوى دليل على قادر قاهر.
وإلا فكيف يحسن من عاقل أن لا يعرف بوجوده وجود من أوجده ؟.
وكيف ينحت صنماً بيده ثم يعيده ؟.
غير أن الحق سبحانه وتعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة، وأعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة.
فصل مخالطة المحجوبين عن الله غشاوة
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق.
فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم فتر عن عمله.
وإن رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستراً على بابه فهتكه وقال: ما لي وللدنيا، ولبس ثوباً له طراز فرماه وقال: شغلتني أعلامه، ولبس خاتماً ثم رماه وقال: نظرت إليكم ونظرت إليه.

وكذلك رؤية أرباب الدنيا ودورهم وأحوالهم، خصوصاً لمن له نفس تطلب الرفعة.
وكذا سماع الأغاني ومخالطة الصوفية الذين لا نظر لهم اليوم إلا في الرزق الحاصل.
لو كان من أي مكان قبلوه، ولا يتورعون أن يأخذوا من ظالم، وليس عندهم خوف كما كان أوائلهم.
فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل، وكان يبالغ في الورع، وهم ليس لهم ورع سري ولا لهم تعبد الجنيد.
وإنما ثم أكل ورقص وبطالة وسماع أغاني من المردان، حتى قال بعض من يعتبر قوله: حضرت مع رجل كبير يومأ إليه من مشايخ الربط ومغنيهم أمرد، فقام الشيخ ونقطه بدينار على خده.
وادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة فوق الكذب.
وليس العجب منهم، إنما العجب من جهال ينفقون عليهم فينفقون عليهم.
ولقد كان جماعة من القدماء يرون أوائل الصوفية يتعبدون ويتورعون فيعجبهم حالهم، وهم معذورون في إعجابهم بهم.
وإن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة، كما ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس.
فأما اليوم فقد برح الخفاء، أحدهم يتردد إلى الظلمة ويأكل أموالهم، ويصافحهم بقميص ليس فيه طراز، وهذا هو التصوف فحسب.
أو لا يستحي من الله من زهد في رفيع الأثواب لأجل الخلائق لا لأجل الحق.
ولا يزهد في مطعم ولا شبهة !.
فالبعد عن هؤلاء لازم.
وينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق أن لا يخرج إلى سوق جهده، فإن خرج ضرورة غض بصره، وأن لا يزور صاحب منصب ولا يلقاه، فإن اضطر دارى الأمر.
ولا يخالط عامياً إلا لضرورة مع التحرز.
ولا يفتح على نفسه باب التزوج، بل يقنع بامرأة فيها دين، فقد قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور وعاد بالضرر
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته، واحترز من الأتباع المعلمين، وإن غلبت عليه العبادة، زاد في احترازه.
وليجعل خلوته أنيسه، والنظر في سير السلف جليسه.
وليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين والخلوة بها.
ولا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل، وليكن بعد النصف الأول، فليطل مهما قدر، فإنه زمان بعيد المثل.
وليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله، وليتزود في الطريق على قدر طول السفر، نسأل الله عز وجل يقظة من فضله، وإقبالاً على خدمته، وأن لا يخذلنا بالالتفات عنه، إنه قريب مجيب.

فصل أنعم الله التي لا تحصى
كلما نظرت في تواصل النعم علي تحيرت في شكرها، وأعلم أن الشكر من النعم فكيف أشكر، لكني معترف بالتقصير، وأرجو أن يكون اعترافي قائماً ببعض الحقوق.
وعندي خلة أرجو بها كل خير، وهي أن من يصوم أو يصلي يرى أنه تعبد ويخدم كأنه يقضي حق المخدوم.
وأنا أرى أني إذا صليت ركعتين فإنما قمت أكدي فلنفسي أعمل، إذ المخدوم غني عن طاعتي.
وكان بعض المشايخ يقول: جاء في الحديث: الدعاء عبادة، وأنا أقول: العبادة دعاء.
فالعجب ممن يقف للخدمة يسأل حظ نفسه، كيف يرى أنه قد فعل شيئاً، إنما أنت في حاجتك، ومنة من أيقظك لا تقاومها خدمتك، فأنا أقول كما قال الأول:
يا منتهى الآمال أن ... ت كفلتني وحفظتني
وعد الزمان علي كي ... يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً ... لما رآك نصرتني
وكسوتني ثوب الغنى ... ومن المغالب صنتني
فإذا سكت بدأتني ... وإذا سألت أجبتني
فإذا شكرتك زدتني ... فمنحتني وبهرتني
أو إن أجد بالمال فال ... أموال أنت أفدتني
فصل علماء القشور
رأيت أكثر العلماء يتشاغلون بصورة العلم، فهم الفقيه التدريس، وهم الواعظ الوعظ.
فهذا يرعى درسه فيفرح بكثرة من يسمعه، ويقدح في كلام من يخالفه، ويمضي زمانه في التفكر في المناقضات، ليقهر من يجادله، وعينه إلى التصدر والارتفاع في المجالس. وربما كانت همته جمع الحطام، ومخالطة السلاطين.
والواعظ همته ما يرزق به كلامه ويكثر جمعه ويجلب به قلوب الناس إلى تعظيمه، فإن كان له نظير في شغله أخذ يطعن فيه.

وهذه قلوب غافلة عن الله عز وجل، إذ لو كانت لها به معرفة لاشتغلت به، وكان أنسها بمناجاته، وإيثارها لطاعاته، وإقبالها على الخلوة به.
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا وذاك دنيا مثلها.
فإذا خلت بخدمة الله تعالى لم تجد لها طعماً، وكان جمع الناس أحب إليها، وزيارة الخلق لها آثر عندها، وهذه علامة الخذلان.
وعلى ضد هذا متى كان العالم مقبلاً على الله سبحانه مشغولاً بطاعته، كان أصعب الأشياء عنده لقاء الخلق ومحادثتهم، وأحب الأشياء إليه الخلوة.
وكان عنده شغل عن القدح في النظراء أو عن طلب الرياسة.
فإن ما علق به همته من الآخرة أعلى من ذلك.
والنفس لا بد لها مما تشاغل به. فمن اشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق، فإنما يربي رياسته.
وذلك يوجب الإعراض عن الحق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

فصل صفاء البصيرة
قد جاء في الأثر: أرنا الأشياء كما هي، وهذا كلام حسن غاية الحسن.
وأكثر الناس ما يرون الأشياء بعينها، فإنهم يرون الفاني كأنه باق، ولا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه وإن علموا ذلك.
إلا أن أعين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر.
ألا ترى زوال اللذة وبقاء إثمها، ولو رأى اللص قطع يده هان عنده المسروق.
فمن جمع الأموال ولم ينفقها فما رآها بعينها، إذ هي آلة لتحصيل الأغراض، لا تراد لذاتها.
ومن رأى المعصية بعيني الشهوة فما رآها، إذ فيها من العيوب ما شئت ثم ثمرتها عقوبة آجلة، وفضيحة عاجلة.
وانظر إلى أكبر شهوات الحس وهو الوطء فإن الماء لا يحصل إلا بعد مطعم ومشرب، ومن تفكر في المطعم نظر إلى حرث الأرض وأنها تفتقر إلى بقر للحراثة عليهن المحراث، وهو حديد ومعه خشب ويتعلق به حبال.
فمن تفكر في عمل الحبال في زرع القنب وتسريحه وفتله والحديد وجلبه وضربه، والخشب ونباته ونجارته، ودوران الدولاب وعمله، ثم استحصاد الزرع وحصده وتذريته وطحنه وعجنه وخبزه، ومن عمل التنور وجلب الشوك.
ومن هذا الجنس إذ نظر فيه كثر جداً حتى قالوا لا تنال لقمة إلا وقد عمل فيها ثلاثمائة نفس أو نحوهم.
فإذا أكل تلك اللقمة فليفكر في خلق الأسنان لقطعها والأضراس لطحنها وعذوبة ماء الفم لخلطها، واللسان ليقلبها، وعضلات الفم يصعد منها شيء ويبقى شيء حتى يصلح البلع.
ثم يتناول المعي فيوصلها إلى الكبد فيقوم طابخاً لها، فإذا صارت دماً نفت رسوبها إلى الطحال، ومائيتها إلى المثانة، واستخلصت من أخلص الدم وأصفاه للكبد والدماغ والقلب.
وأخذت أجود ذلك فحدرته إلى الأنثيين معداً لخلق آدمي.
فإذا تحركت نيران الشهوة تدفقت تلك النطقة، وقد حكم الشرع بطهارتها؛ وحكم لها بطهارة الرحم والمحل الذي يباشره الذكر، فيخلق منها الآدمي الموحد.
فما جاء هذا الشخص إلا بأغلى الغلاء وبعد عجائب أشرنا إليها، لا أنا عددناها، أفمن فهم هذا يحسن منه أن يبدد تلك النطفة في حرام، أو أن يطأ في محل نجس فتضيع ؟.
فكم يتعلق بالزنا من لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة، منها هتك العرض بين الناس. وكشف العورات المحرمة، وخيانة الأخ المسلم في زوجته إن كانت متزوجة وفضيحة المزني بها وهي كأخت له أو بنت.
فإن علقت منه ولها زوج ألحقته بذلك الزوج، وكان هذا الزاني سبباً في ميراث من لا يستحق، ومنع من يستحق.
ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد.
وأما سخط الحق سبحانه فمعلوم قال تعالى: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً " .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله تعالى من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحل له.
ومن له فهم يعلم أن المراد من النطفة إيجاد الموحدين.
ولولا تركيب الشهوة لم يقع الوطء، لأنه التقاء عضوين غير مستحسنين ولا صورتهما حسنة ولا ريحهما طيب.
وإنما الشهوة تغطي عين الناظر ليحصل الولد أصلاً فهي عارض فمن طلب الشهوة ونسي جنايته بالزنا فما رأى الأشياء على ما هي.
وقس على هذا المطعم والمشرب وجمع المال وغير ذلك.
فصل الحكمة في خلق ما يؤذي
إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي ؟ فالجواب أنه قد ثبتت حكمة الخالق فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم.
ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب. والمؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب.

وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة، قيل لبعض الأطباء: إن فلاناً يقول أنا كالعقرب أضر ولا أنفع.
فقال: ما أقل علمه. إنها لتنفع إذا شق بطنها ثم شد على موضع اللسعة.
وقد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطبق الجوانب، ثم يوضع الفخار في تنور فإذا صارت رماداً سقي من ذلك الرماد مقدار نصف دانق أو أكثر من به الحصاة فيفتها من غير أن يضر بشيء من سائر الأعضاء.
وقد تلسع العقرب من به حمى عتيقة فتزول.
ولسع رجلاً مفلوجاً فزال عنه الفالج.
وقد تلقى في الدهن حتى يجتذب قواها فيزيل ذلك الدهن الأورام الغليظة، ومثل هذا كثير.
فالجاهل عدو لما جهله، وأكبر الحماقة رد الجاهل على العالم.

فصل جلال العبادة وجمال العابدين
كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق فشاهدت عظمته ولطفه ورفعته، تاهت في محبته فخرجت عن حد الثبوت.
وقد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته، فلم يقدروا على مخالطة الخلق.
ومنهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر.
وفيهم من لم ينم إلا غلبة، وفيهم من هام في البراري، وفيهم من احترق في بدنه.
فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره، ويا عيش قلقهم ما أحسن وجده... !!.
كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه الوجد فكان يمشي في الأسواق يقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه.
وكان فتح بن سخرف يقول: قد طال شوقي إليك، فعجل قدومي عليك.
وكان قيس بن الربيع كأنه مخمور من غير شراب.
وكان ابن عقيل يقول: التبذل فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره.
هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين ؟.
هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا سمتا كأثواب الصالحين ؟.
هل رأيت خماراً أحسن من نعاس المتهجدين ؟.
هل رأيت سكراً أحسن من صعق الواجدين ؟.
هل شاهدت ماء صافياً أصفى من دموع المتأسفين ؟.
هل رأيت رؤوساً مائلة كرؤوس المنكسرين ؟.
هل لصق بالأرض شيء أحسن من جباه المصلين ؟.
هل حرك نسيم الأسحار أوراق الأشجار فبلغ تحريكه أذيال المتهجدين ؟.
هل ارتفعت أكف وانبسطت أيد فضاهت أكف الراغبين !.
هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة وتركهما حرك حنين المشتاقين ؟.
وإنما يحسن التبذل في تحصيل أوفى الأغراض.
فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم.
فصل تدريب العقل
أكثرهم لا يعرف الدين، ولا يتأدب بآدابه. بمرة يتفق له قلة العقل من أصل الوضع ثم ذلك القليل لا يعاون، بل يعان عليه، وذاك أن الجارحة إذا دام تعطلها عن عملها الذي هيئت له تعطلت وخمدت ولهذا تنقص أنصار النساخ والرفائين وتحتد أبصار أهل البوادي لأنه صاد لأبصارهم.
وشغل العقل التفكر، والنظر في عواقب الأحوال، والاستدلال بالشاهد على الغائب، وهؤلاء يمتلؤون من الطعام دائماً وذلك يؤذي العقل.
ثم يطيلون النوم، فإذا انتبهوا شربوا المسكر فاتفق للعقل تعطيل وتغطية.... فساء التدبير.
فصل اعتبار القدرات في التوجيه
من المخاطرات تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده.
مثاله أن قوماً قد رسخ في قلوبهم التشبيه، وأن ذات الخالق سبحانه ملاصقة للعرش، وهي بقدر العرش، ويفضل من العرش قدر أربع أصابع.
وسمعوا مثل هذا من أشياخهم، وثبت عندهم أنه إذا نزل وانتقل إلى السماء الدنيا خلت منه ست سموات.
فإذا دعى أحدهم إلى التنزيه وقيل له ليس كما خطر لك، إنما ينبغي أن تمر الأحاديث كما جاءت من غير مساكنة ما توهمته، صعب هذا عليه لوجهين.
أحدهما: لغلبة الحس عليه والحس على العوام أغلب.
والثاني: لما قد سمعه من ذلك من الأشياخ الذين كانوا أجهل منه.
فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه، ولقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في قلبه التشبيه أنه سمع من بعض العلماء شيئاً من التنزيه، فقال: والله لو قدرت عليه لقتلته.
فالله الله أن تحدث مخلوقاً من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف، فإنه لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه.
فكذلك كل ما يتعلق بالأصول.
فصل ميزان الرجولة
لا يغرك من الرجل طنطنته وما تراه يفعل من صلاة وصوم وعزلة عن الخلق.
إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين: حفظ الحدود، وإخلاص العمل.
فكم قد رأينا متعبداً يخرق الحدود بالغيبة، وفعل ما لا يجوز مما يوافق هواه ؟.
وكم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه يقصد بفعله غير الله تعالى.

وهذه الآفة تزيد وتنقص في الخلق.
فالرجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه وألزم به.
والذي يحسن القصد، فيكون عمله وقوله خالصاً لله تعالى، لا يريد به الخلق ولا تعظيمهم له.
فرب خاشع ليقال ناسك، وصامت ليقال خائف، وتارك للدنيا ليقال زاهد.
وعلامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته، وربما تكلف بين الناس التبسم والانبساط لينمحي عنه اسم زاهد.
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية.
واعلم أن المعمول معه لا يريد الشركاء، فالمخلص مفرد له بالقصد، والمرائي قد أشرك ليحصل له مدح الناس.
وذلك ينقلب، لأن قلوبهم بيد من أشرك معه، فهو يقلبها عليه لا إليه.
فالموفق من كانت معاملته باطنة وأعماله خالصة.
وذاك الذي تحبه الناس وإن لم يبالهم، كما يمقتون المرائي وإن زاد تعبده.
ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال لا يتناهى عن كمال العلوم ولا يقصر عن طلب الفضائل.
فهو يملأ الزمان بأكثر ما يسعه من الخير، وقلبه لا يفتر عن العمل القلبي. أبى أن يصير شغله بالحق سبحانه وتعالى.

فصل التطلع بلا عمل
رأيت خلقاً يفرطون في أديانهم ثم يقولون احملونا إذا متنا إلى مقبرة أحمد.
أتراهم ما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه دين وعلى الغال، وقال: ما ينفعه صلاتي عليه.
ولقد رأيت أقواماً من العلماء حملهم حب الصيت على أن استخرجوا إذناً من السلطان، فدفنوا في دكة أحمد بن حنبل وهم يعلمون أن هناك خلقاً رفات بعضهم على بعض. وما فيهم إلا من يعلم أنه ما يستحق القرب من مثل ذلك.
فأين احتقار النفوس ؟ أما سمعوا أن عمر بن عبد العزيز، قيل له: تدفن في الحجرة ؟ فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن أرى نفسي أهلاً لذلك.
لكن، العادات وحب الرياسة غلبت على هؤلاء، فبقي العلم يجري على الألسن عادة لا للعمل به.
ثم آل الأمر إلى جماعة خالطوا السلاطين وباشروا الظلم، يزاحمون على الدفن بمقبرة أحمد ويوصون بذلك.
فليتهم أوصوا بالدفن في موضع فارغ، إنما يدفنون على موتى.
ويخرج عظام أولئك فيحشرون على ما ألقوا من الظلم حتى في موتهم، وينسون أنهم كانوا من أعوان الظلمة.
أترى ما علموا أن مساعد الظالم ظالم، وفي الحديث: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة.
قال السجان لأحمد بن حنبل: هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال: لا، أنت من الظلمة، إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمر.
فصل حقيقة الحسد
رأيت الناس يذمون الحاسد ويبالغون ويقولون: لا يحسد إلا شرير يعادي نعمة الله، ولا يرضى بقضائه، ويبخل على أخيه المسلم.
فرأيت في هذا فما رأيته كما يقولون، وذاك أن الإنسان لا يحب أن يرتفع عليه أحد، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر هو ولم يحب أن يرتفع عليه، وود لو لم ينل صديقه ما ينال، أو أن ينال هو ما نال ذاك لئلا يرتفع عليه وهذا معجون في الطين، ولا لوم على ذلك.
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل، وكنت أظن أن هذا قد وقع لي عن درسي وفحصي، فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه.
قال: أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد قال: أخبرنا ابن النقود قال: أخبرنا المخلص قال: حدثنا البغوي قال: حدثنا أبو روح قال: حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن الحسن قال: ليس من ولد آدم أحد إلا وقد خلق معه الحسد... !!.
فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا بفعل لم يتبعه شيء !!.
فصل الإسراف الجنسي
من أعظم الضرر الداخل على الإنسان كثرة النساء.
إنه أولاً يتشتت همه في محبتهن، ومداراتهن وغيرتهن، والإنفاق عليهن، ولا يأمن إحداهن أن تكرهه وتريد غيره فلا تتخلص إلا بقتله.
ولو سلم من جميع ذلك لم يسلم في الكسب لهن، فإن سلم لم ينج من السآمة لهن أو لبعضهن.
ثم يطلب ما لا يقدر عليه من غيرهن، حتى أنه لو قدر على نساء بغداد كله فقدمت امرأة مستترة من غير البلد ظن أنه يجد عندها ما ليس عندهن.
ولعمري إن في الجدة لذة، ولكن رب مستور إذا انكشف افتضح.
ولو أنه سلم من كل أذى يتعلق بهن أنهك بدنه في الجماع، فيكون طلبه للالتذاذ مانعاً من دوام الالتذاذ.
ورب لقمة منعت لقمات، ورب لذة كانت سبباً في انقطاع لذات.

والعاقل من يقتصر على الواحدة إذا وافقت غرضه، ولا بد أن يكون فيها شيء لا يوافق، إنما العمل على الغالب، فتوهب الخلة الردية للمجيدة.
وينبغي أن يكون النظر إلى باب الدين قبل النظر إلى الحسن.
فإنه إذا قل الدين لم ينتفع ذو مروءة بتلك المرأة، ومما يهلك الشيخ سريعاً الجماع، فلا يغتر بما يرى من انبساط الآلة وحصول الشهوة.
وذلك مستخرج من قوته ما لا يعود مثله، فلا ينبغي أن يغتر بحركة وشهوة، ولا يقرب من النساء إن كان له رأي في البقاء.

فصل أعيت الحماقة من يداويها
إذا رأيت قليل العقل في أصل الوضع فلا ترج خيره.
فأما إن كان وافر العقل لكنه يغلب عليه الهوى فارجه.
وعلامة ذلك أنه يدبر أمره في جهله، فيستتر من الناس إذا أتى فاحشة، ويراقب في بعض الأحوال، ويبكي عند الموعظة، ويحترم أهل الدين، فهذا عاقل مغلوب بالهوى.
فإذا انتبه بالندم انقبض شيطان الهوى وجاء ملك العقل.
فأما إذا كان قليل العقل في الوضع، وعلامته أن لا ينظر في عاقبة عاجلة ولا آجلة ولا يستحي من الناس أن يروه على فاحشة، ولا يدبر أمر دنياه، فذاك بعيد الرجاء.
وقد يندر من هؤلاء من يفلح، ويكون السبب فيه خميرة من العقل غطى عليها الهوى ثم تكشف قليلاً ليعود، فمثلهم كمثل مصروع أفاق.
فصل الحيطة للمستقبل
ينبغي الاحتراز من كل ما يجوز أن يكون، ولا ينبغي أن يقال: الغالب السلامة.
وقد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة فاضطربت، فغرق من في السفينة وإن كان الغالب في هذه الحالة السلامة.
وكذا ينبغي أن يقدر الإنسان في نفقته وإن رأى الدنيا مقبلة، لجواز أن تنقطع تلك الدنيا.
وحاجة النفس لا بد من قضائها، فإذا بذر وقت السعة فجاء وقت الضيق لم يأمن أن يدخل في مداخل سوء، وأن يتعرض بالطلب من الناس.
وكذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض، وللقوي أن يتهيأ للهرم.
وفي الجملة فالنظر في العواقب وفيما يجوز أن يقع شأن العقلاء.
فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى وينسى المرض، أو غنياً وينسى الفقر، أو يرى لذة عاجلة وينسى ما تجني عواقبها.
وليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب، وهو يشير بالصواب من أين يقبل ؟..
فصل القوة عند الابتلاء
يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح.
أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء.
فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان. يرى أن له حقاً في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله.
أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام: بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا يتغير، فلما ضم إلي فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله وقال: " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتيني بهمْ جَميعاً " .
وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى: " أَمْ حِسِتْتُمْ أَنْ تَدْخُلوا الْجَنّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْ مِنْ قَبْلَكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللُّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب " .
ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول والمؤمنين إلا بعد طول البلاء وقرب اليأس من الفرج.
ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قيل له: وما يستعجل. قال: يقول: دعوت فلم يستجب لي.
فإياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء.
فصل المتعة الزائفة
تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي.
فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة من طلب اللذات.
فنظرت في اللذات فرأيتها خدعاً ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها نغصاً فتخرج عن كونها لذات.
فكيف يتبع العاقل نفسه ويرضي بجهنم لأجل هذه الأكدار ؟.
فمن اللذات الزنا، فإن كان المراد إراقة الماء فقد يراق في حلال.
وإن كان في المعشوق فمراد النفس دوام البقاء مع المعشوق، فإذا هي ملكته فالمملوك مملول.

وإن هو قاربه ساعة ثم فارقه فحسرة الفراق تربو على لذة القرب.
وإن كان ولد له من الزنا فالفضيحة الدائمة، والعقوبة التامة، وتنكيس الرأس عند الخالق والمخلوق.
وأما الجاهل فيرى لذته في بلوغ ذلك الغرض، وينسى ما يجني مما يكدر عيش الدنيا والآخرة.
ومن ذلك شرب الخمر، فإنه تنجيس للفم والثوب، وإبعاد للعقل، وتأثيراته معلومة عند الخالق والمخلوق.
فالعجب ممن يؤثر لذة ساعة تجني عقاباً وذهاب جاه، وربما خرج بالعربدة إلى القتل.
وعلى هذا فقس جميع المذوقات، فإن لذاتها إذا وزنت بميزان العقل لا تفي بمعشار عشير عواقبها القباح في الدنيا والآخرة.
ثم هي نفسها ليست بكثير شيء فكيف تباع الآخرة بمثل هذا ؟.
سبحان من أنعم على أقوام، كلما لاحت لهم لذة نصبوا ميزان العقل ونظروا فيما يجني وتلمحوا ما يؤثر تركها فرجحوا الأصلح.
وطمس على قلوب فهي ترى صورة الشيء وتنسى جناياته.
ثم العجب أنا نرى من يبعد عن زوجته وهو شاب ليعدو في الطريق فيقال ساعي.
فيغلب هواه لطلب ما هو أعلى وهو المدح. كيف لا يترك محرماً ليمدح في الدنيا والأخرى ؟.
ثم قدر حصول ما طلبت من اللذات وذهابها وأحسب أنها قد كانت وقد هانت وتخلصت من محنها أين أنت من غيرك ؟ أين تعب عالم قد درس العلم خمسين سنة ؟. ذهب التعب وحصل العلم، وأين لذة البطال ؟ ذهبت الراحة وأعقبت الندم.

فصل نتائج الشهوات
من وقف على موجب الحس هلك. ومن تبع العقل سلم، لأن مجرد الحس لا يرى إلا الحاضر وهو الدنيا. وأما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات، فيعلم وجود الخالق ويعلم أنه قد منح وأباح وأطلق وحظر، وأخبر أني سائلكم ومبتليكم ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي.
وإني قد بنيت لكم داراً غير هذه لإثابة من يطيع وعقوبة من يخالف.
ثم لو ترك الحس وما يشتهي مع أغراضه قرب الأمر إنما يزني فيجلد، ويشرب الخمر فيعاقب، ويسرق فيقطع ويفعل ذلة فيفضح بين الخلق.
ويعرض عن العلم إلى البطالة فيقع الندم عند حصول الجهل.
ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله قد سلمت دنياه وآخرته، وميز بين الخلق بالتعظيم، وكان عيشه في لذاته غالباً خيراً من عيش موافق للهوى.
فليعتبر ذو الفهم بما قلت، وليعمل بمقتضى الدليل وقد سلم.
فصل الإسراف الجنسي
العجب لمؤثر شهوات الدنيا، ألا يتدبر أمرها بالعقل قبل أن يصير إلى منقولات الشرع.
إن أعطم لذات الحس الوطء، فالمرأة المستحسنة إنما يكون حال كمالها من وقت بلوغها إلى الثلاثين، فإذا بلغتها أثر فيها ما مضى من عمرها في الولادة وغيرها.
وربما ابيضت شعرات من رأسها فينفر الإنسان منها. وقد يقع الملل قبل ذلك، وطول الصحبة يكشف العيوب.
وما عيب نساء الدنيا بأبلغ من قوله: " لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " .
فلو تفكر الإنسان في جسد مملوء بالنجاسة ما طالب له ضمه، غير أن الشهوة تغطي عين الفكر.
فالعاقل من حفظ دينه ومروءته بترك الحرام، وحفظ قوته في الحلال فأنفقتها في طلب الفضائل من علم أو عمل.
ولم يسع في إفناء عمره وتشتيت قلبه في شيء لا تحسن عاقبته:
ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ ... إن متّ شوقاً ولا فيها لها ثمن
وعموم من رأينا من الكبار غلبت عليهم شهوة الوطء فانهدمت أعمارهم، ورحلوا سريعاً.
وقد رأينا من العقلاء من زجر نفسه عن هذه المحنة ولم يستعملها إلا وقت الحاجة، فبقي لهم سواد شعورهم وقوتهم حتى تمتعوا بها في الحياة وحصلوا المناقب، وعرفت منهم النفوس قوة العزيمة فلم تطالبهم بما يؤذي.
فصل معنى رؤيا الرسول
قد أشكل على الناس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: من رآني في المنام فقد رآني. فقال: ظاهر الحديث أنه يراه حقيقة.
وفي الناس من يراه شيخاً وشاباً ومريضاً ومعافى.
فالجواب أنه من ظن أن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم المودع في المدينة خرج من القبر وحضر في المكان الذي رآه فيه فهذا جهل لا جهل يشبهه.
فقد يراه في وقت واحد ألف شخص في ألف مكان على صور مختلفة.
فكيف يتصور هذا في شخص واحد ؟ وإنما الذي يرى مثاله لا شخصه.

فيبقى من رآني فقد رآني معناه قد رأى مثالي الذي يعرفه الصواب وتحصل به الفائدة المطلوبة. فإن قيل: فما تقولون في رؤية الحق سبحانه ! فنقول: يرى مثالاً لا مثلاً والمثال لا يفتقر إلى المساواة والمشابهة كما قال تعالى: " أَنزَلَ مِنَ السَّمآءِ ماءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِها " .
فضربه مثالاً للقرآن وانتفاع الخلق به.
ويوضح هذا أنه إنما يرى من رأى الحق سبحانه وتعالى على هيئة مخصوصة والحق سبحانه وتعالى منزه قد توحد فوضح ما قلناه.

فصل ارتباط الحديث بالفقه
هذا فصل غزير الفائدة: اعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه، غير أن العمر قصير. والعلم كثير.
فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر.
من الحديث على الصحاح. والسنن والمسانيد المصنفة. فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في الحد. والمتون محصورة، وإنما الطرق تختلف.
وعلم الحديث يتعلق بعضه ببعض وهو مشتهى، والفقهاء يسمونه علم الكسالى، لأنهم يتشاغلون بكتابته وسماعه، ولا يكادون يعانون حفظه، ويفوتهم المهم وهو الفقه.
وقد كان المحدثون قديماً هم الفقهاء، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث، والمحدثون لا يعرفون الفقه.
فمن كان ذا همة ونصح نفسه تشاغل بالمهم من كل علم، وجعل جل شغله الفقه، فهو أعظم العلوم وأهمها.
وقد قال أبو زرعة: كتب إلي أبو ثور: فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية وتسعون رجلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صح منه طرق يسيرة.
فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم.
ولو اتسع العمر كان استيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية في الجودة، ولكن العمر قصير.
ولما تشاغل بالطرق مثل يحيى بن معين فاته من الفقه كثير، حتى أنه سئل عن الحائض أيجوز أن تغسل الموتى ! فلم يعلم، حتى جاء أبو ثور فقال: يجوز، لأن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض.
فيحيى أعلم بالحديث منه، ولكن لم يتشاغل بفهمه.
فأنا أنهى أهل الحديث أن تشغلهم كثرة الطرق.
ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فلا يعرف حكم الله عز وجل فيها.
وكذلك أنهى من يتشاغل بالتزهد والانقطاع عن الناس أن يعرض عن العلم.
بل ينبغي أن يجعل لنفسه منه حظاً ليعلم إن زل كيف يتخلص.
فصل حاجة الدين إلى سلامة الجسم وصحة الدنيا
معرفة الله سبحانه لا تحصل إلا لكامل العقل، صحيح المزاج، والترقي إلى محبته بذلك يكون.
وإن أقواماً قلت عقولهم وفسدت أمزجتهم فساءت مطاعمهم وقلت فتخايلت لهم الخيالات الفاسدة فادعوا معرفة الحق ومحبته، ولم يكن عندهم من العلم ما يصدهم عما ادعوا فهلكوا، وعلى المؤمن أن يرعى حق بدنه، وليتخير له الأغذية.
وليعلم أن في المأكولات ما يسبب إفساد العقل وفيها ما يزيد في السوداء فيوجب الماليخوليا، فترى صاحبها يحب الخلوة، ويهرب من الناس، وقد يقلل المطعم، فيقوى مرضه فيتخايل خيالات يظنها حقاً.
فمنهم من يقول: إني رأيت الملائكة، وفيهم من يخرجه الأمر إلى دعوى محبة الحق والوله فيه ولا يكون ذلك عن أصل معتمد عليه.
وإنما العاقل العالم اليسير في الطريق بين الرفيقين: العلم والعقل.
فإن تقلل من الطعام فبعقل، وحد التقلل ترك فضول المطعم وما يخاف شره من شبهة أو شهوة يحذر تعودها.
وأما زيادة التقلل مع القدرة فليس لعقل ولا شرع. إلا أن يكون الفقر عم، فيتقلل ضرورة.
ومن تأمل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجدهم يأخذون بمقدار ولا يتركون حظوظ النفس التي تصلحها.
وما أحسن الأمر وأعدله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس.
وقد قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مريض: أصب من هذا الطعام فهو أوفق لك من هذا.
وكان صلى الله عليه وسلم يشاور الأطباء ويحتجم ويحث على التداوي ويقول: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء فتداووا.
فجاء أقوام جهلوا العلم والحكمة في بنيان الأبدان.

فمنهم من أقام في الجبال يأكل البلوط فأصابه القولنج، ومنهم من قلل المطعم إلى أن ضعفت قواهم، ومنهم من اقتصر على نبات الصحراء، ومنهم من كان لا يقوت إلا الباقلاء والشعير. فأوجبت هذه الأفعال أمراضاً في البدن، وترقت إلى إفساد العقل.
واتفق لهم قلة العلم، إذ لو علموا لفهموا أن الحكمة تنهى عن مثل هذا، فإن البدن مبني على أخلاث إذا اعتدلت وقعت السلامة، وإذا زاد بعضها وقع المرض.
وأكثر هؤلاء مرضوا وتعجل لهم الموت، وفيهم من خرج إلى التسودن، وفيهم من لاحت له لوائح فادعى رؤية الملائكة إلى غير ذلك.
فأما أهل العلم والعقل فهربهم من الخلق لخوف المعاصي ورؤية المنكر.
وفيهم من قويت معرفته فشغلته معرفة الحق ومحبته عن ملاقاة الخلق.
فهذه هي الخلوات الصافية، لأنها تصدر عن علم وعقل فتحفظ البدن، لأنه ناقة توصل.
ولا ينبغي أن يتهاون بالمأكولات، خصوصاً من لم يعتده التقشف، ولا يلبس الصوف على البدن من لم يعتد.
ولينظر في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فإنهم القدوة. ولا يلتفت إلى بنيات الطريق، فيقال: فلان الزاهد قد أكل الطين، وفلان كان يمشي حافياً، وفلان بقي شهراً ما أكل.
فإن المحققين من هؤلاء المخلصين لله تعالى على غير الجادة، لأن الجادة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا يفعلون.
هذا ولعمري أنه قد كان فيهم من يقنع بالمذقة من اللبن، ويصبر الأيام عن الطعام. ولكن إما لضرورة، أو لأنه معتاد لذلك كما يعتاد البدوي شرب اللبن وحده ولا يؤذيه ذلك.
وفي الحديث: عودوا كل بدن ما اعتاد وفي المتزهدين من أخرج ماله كله عن يده زهداً، ومعلوم أن الحاجات لا تنقضي، فلما احتاج تعرض للطلب، وافتقر إلى أخذ مال من يد من يعلم أنه ظالم وبذل وجهه.
وقد كانت الصحابة تتجر وتحفظ المال، وجهال المتزهدين يرون جمع المال ينافي الزهد.
فممخضة هذا الفصل أن أقول: ينبغي لمن رزق فهماً أن يسعى في صلاح بدنه ولا يحمل عليه ما يؤذيه، ولا يناوله من القوت ما لا يوافقه، ولا يضيع ماله، وليجتهد في استثماره لئلا يحتاج، فإنه ما نافق زاهد إلا لأهل الدنيا.
ولينظر في سير الكاملين من السلف. وليتشاغل بالعلم، فإنه الدليل. فحينئذ يحمله الأمر على الخلوة بربه، والاشتغال بحبه، فيكون ما ظهر منه ثمرة نضجه لا فجة، والله الموفق.

فصل القدرة على الحياة
ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول، وقد سمعنا ورأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم الدنيا حتى صاروا كالمجانين. فولوا الولايات فخرجوا إلى القتل والضرب والحبس والشتم وذهاب الدين، والمباشرة للظلم وذلك كله لأجل دنيا تذهب سريعاً.
وفي مدة إقامتها هي معجونة بالنغص.
فيا أيها المرزوق عقلاً لا تبخسه حقه، ولا تطفيء نوره، واسمع ما نشير به، ولا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه.
فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلاً فقيراً:
لا تسه عن أدب الصغي ... ر ولو شكا ألم التعب
ودع الكبير لشأنه ... كبر الكبير عن الأدب
وعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما قال أحمد بن حنبل: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدو تسير:
طاول بها الليل مال النجم أم جنحا ... وما طل النوم ضن الجفن أم سمحا
فإن تشكت فعللها المجرة من ... ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها، ثم قال بعد سنة لأولاده: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.
ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال البئر الأخرى فمر عليها فقال له الأخرى، ثم قال: كذا تقطع الدنيا.
ودخلوا إلى بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له ألا بذا تؤذي ؟ فقال هذا أمر ينقضي.
وكان لداود الطائي دار يأوي إليها، فوقع سقف فانتقل إلى سقف إلى أن مات في الدهليز.

فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور، وبعد هذا فلا أطالبك بهذه الرتبة، بل أقول لك: إن حصل لك شيء من المباح لا من فيه ولا أذى ولا نلته بسؤال ولا من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة، فافسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه، وكن مقدراً للنفقة غير مبذر.
فإن الحلال لا يحتمل السرف ومتى أسرفت احتجت إلى التعرض للخلق والتناول من الأكدار.
وإن ضاق بك أمر فاصبر، فإن ضعف الصبر فسل فاتح الأبواب.
فهو الكريم وعنده مفاتح الغيب.
وإياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق أو بتقرب إلى الأمراء تستعطي أموالهم.
واذكر طريق السلف، كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الآخر ورثها عن أبيه بقيت أربعين سنة.
وكانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس ولها ثياب قد بقيت أربعين سنة.
ومن صفا نظره وتهذب لفظه، نفع وعظه، ومن كدر كدر عليه.
والحالة العالية في هذا إقبال القلب على الله عز وجل، والتوكل عليه والنظر إليه والتفات القلب عن الخلق.
فإن احتجت فاسأله، وإن ضعفت فارغب إليه.
ومتى ساكنت الأسباب انقطعت عنه، ومتى استقام باطنك استقامت لك الأمور.

فصل أين الأصدقاء
؟
رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء فبحثت بالتجارب عنهم فإذا أكثرهم حساد على النعم. وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقاً، ولا يواسون من ما لهم صديقاً.
فتأملت الأمر، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئاً يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به.
فينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف ليس فيهم صديق، بل تحسبهم أعداء.
ولا تظهر سرك لمخلوق منهم، ولا تعدن من يصلح لشدة لا ولداً ولا أخاً ولا صديقاً.
بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة بالتوقي لحظة.
ثم انفر عنهم وأقبل على شأنك متوكلاً على خالقك.
فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه.
فليكن جليسك وأنيسك وموضع توكلك وشكواك.
فإن ضعف بصرك فاستغث به، وإن قل يقينك فسله القوة.
وإياك أن تميل إلى غيره، فإنه غيور، وإن تشكو من أقداره، فربما غضب ولم يعتب.
أوحى الله عز وجل إلى يوسف عليه السلام: من خلصك من الجب ؟ من فعل ؟ من فعل ؟ قال: أنت.
قال: فلم ذكرت غيري ؟ فلا أطيلن حبسك أو كما قال.
هذا وإنما تعرض يوسف عليه السلام بسبب مباح: " اذكرني عند ربك " " ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم " .
وما أعرف العيش إلا لمن يعرفه - جل شأنه - ويعيش معه ويتأدب بين يديه في حركاته وكلماته كأنه يراه.
ويقف على باب طرفه حارساً من نظرة لا تصلح، وعلى باب لسانه حافظاً له من كلمة لا تحسن، وعلى باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الأغيار.
ويستوحش من الخلق شغلاً به، وهذا يكون على سيرة الروحانيين.
فأما المخلط فالكدر غالب عليه، والمحق لا يطلب إلا الأرفع قال القائل:
ألا لا أحب السير إلاّ مصاعداً ... ولا البرق إلاّ أن يكون يمانياً
فصل علماء السوء
رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده.
فالقارىء مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم؛ ولا زجر القرآن ووعده.
وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ.
والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة.
وربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه.
والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه، أو المسائل، أو المسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه.
فربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه.
وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق.
وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه.
وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة.
وقد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به.

وكانت حاله تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه ولا يبقى له أثر.
وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف ولا ندم على ذنب.
قال فتغير في آخر عمره ولازمه الفقر، فكان يلقى الشدائد ولا ينتهي عن قبح حاله. إلى أن جمعت له يوماً قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك وقال: يا رب إلى هذا الحد ؟.
قال الحاكي: فتعجبت من غفلته كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له والصيانة وسعة الرزق، وكأنه ما سمع قوله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً " .
ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله.
فما رأيت علماً ما أفاد كعلم هذا، لأن العالم إذا زل انكسر، وهذا مصر لا تؤلمه معصيته.
وكأنه يجوز له ما يفعل، أو كأن له التصرف في الدين تحليلاً وتحريماً.
فمرض عاجلاً ومات على أقبح حال.
قال الحاكي: ورأيت شيخاً آخر حصل صور علم فما أفادته.
كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم.
فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد حتى درج.
وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم.
نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود.
ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون، ولا يعملون، ويتكبرون على الناس بما لا يعملون.
ويأخذون عرض الأدنى وقد نهوا عما يأخذون.
غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم، التي يدرسون.
فهم أخس حالاً من العوام الذين يجهلون " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " .

فصل الحرص على الثقافة
للفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً، من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقه يجتاح إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهماً.
ولقد رأيت بعض الفقهاء يقول: اجتمع الشبلي وشريك القاضي فاستعجبت له كيف لا يدري بعد ما بينهما.
وقال آخر في مناظرة: كانت الزوجية بين فاطمة وعلي رضي الله عنهما غير منقطعة الحكم، فلهذا غسلها.
فقلت له: ويحك فقد تزوج أمامة بنت زينب، وهي ابنة أختها فانقطع.
ورأيت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي من هذا ما يدهش من التخليط في الأحاديث والتواريخ، فجمعت من أغاليطه في كتاب.
وقد ذكر في كتاب له سماه المستظهري وعرضه على المستظهر بالله: أن سليمان بن عبد الملك بعث إلى أبي حازم فقال له: ابعث لي من فطورك، فبعث إليه نخالة مقلوة فأفطر عليها، ثم جامع زوجته فجاءت بعبد العزيز، ثم ولد له عمر.
وهذا تخليط قبيح، فإنه جعل عمر بن عبد العزيز بن سليمان بن عبد الملك، فجعل سليمان جده، وإنما هو ابن عمه.
وقد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب الشامل في الأصول، قال: قد ذكرت طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجبائي القرمطي وابن المقفع تواصل على قلب الدول وإفساد المملكة واستعطاف القلوب وارتياد كل منهم قطراً، فقطن الجبائي في الأحسا، وتوغل ابن المقفع في أطراف بلاد الترك، وقطن الحلاج ببغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن بلوغ الأمنية لبعد أهل بغداد عن الانخداع، وتوفر فطنتهم وصدق فراستهم.
قلت: ولو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقفع، فإن ابن المقفع أمر بقتله المنصور، فقتل في سنة أربع وأربعين ومائة.
وأبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر إلى سنة ست وثمانين ومائتين.
والحلاج قتل سنة تسع وثلاثمائة.
فزمان القرمطي والحلاج متقاربان؛ فأما ابن المقفع فكلا.
فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفاً؛ إذ لكل علم بعلم تعلق.
وأقبح بمحدث يسأل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله منها جمع طرق الأحاديث.
وقبيح بالفقيه أن يقال له: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؛ فلا يدري صحة الحديث ولا معناه.
نسأل الله عز وجل همة عالية لا ترضى بالنقائص بمنه ولطفه.
فصل همة العالم
كانت همم القدماء من العلماء علية، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم.

ألا إن أكثر تصانيفهم دثرت، لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات، ولا ينشطون للمطولات.
ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب ولم تنسخ.
فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.
وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد.
فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانفيهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال:
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلّي أرى الديار بسمعي
وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز.
ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن محمد بن الخشاب وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه.
ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب.
فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع.
فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد.

فصل الكفر حماقة
ليس للآدمي أعز من نفسه، وقد عجبت ممن يخاطر بها ويعرضها للهلاك.
والسبب في ذلك قلة العقل وسوء النظر؛ فمنهم من يعرضها للتلف ليمدح بزعمه.
مثل قوم يخرجون إلى قتل السبع، ومنهم من يصعد إلى إيوان كسرى ليقال شاطر، وساع يمشي ثلاثين فرسخاً، وهؤلاء إذا تلفوا حملوا إلى النار.
فإن هلك ذهبت النفس التي يراد المال لأجلها.
وأعجب من الكل من يخاطر بنفسه في الهلاك ولا يدري، مثل أن يغضب فيقتل المسلم فيشفى غيظه بالتعذيب في جهنم.
وأظرف من هذا اليهود والنصارى، فإن أحدهم يبلغ فيجب عليه أن ينظر في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم فإذ فرط فمات فله الخلود في جهنم.
ولقد قلت لبعضهم: ويحك تخاطر بنفسك في عذاب الأبد، نحن نؤمن بنبيكم فنقول: لو أن مسلماً آمن بنبينا وكذب بنبيكم أو بالتوراة خلد في النار فما بيننا وبينكم خلاف. إذ نحن مؤمنون بصدقه وكتابه، فلو لقيناه لم نخجل ولو عاتبنا مثلاً وقال: هل قمتم بالسبت والسبت من الفروع والفروع لا يعاقب عليها بالخلود.
فقال لي رئيس القوم: ما نطالبكم بهذا لأن السبت إنما يلزم بني إسرائيل.
فقلت: فقد سلمنا بإجماعكم وأنتم هالكون، لأنكم تخاطرون بأرواحكم في العذاب الدائم.
والعجب بمن يهمل النظر فيما إذا توانى فيه أوجب الخلود في العقاب الدائم.
وأعجب من الكل جاحد الخالق وهو يرى أحكام الصنعة ويقول لا صانع.
والسبب في هذه الأشياء كلها قلة العقل وترك إعماله في النظر والاستدلال.
فصل كتمان السر
لا ينبغي للعاقل أن يظهر سراً حتى يعلم أنه إذا ظهر لا يتأذى بظهوره.
ومعلوم أن السبب في بث السر طلب الاستراحة ببثه، وذلك ألم قريب فليصبر عليه.
فرب مظهر سراً لزوجته فإذا طلقت بثته، وهلك.
أو لصديقه فيظهر عليه حسداً له إذا كان مماثلاً وإن كان عامياً فالعامي أحمق.
ورب سر أظهر فكان سبب الهلاك.
فصل تكاليف المجد
ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق العلم. والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره.
ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب، ومذ فقد التفقد لهم من الأمراء ومن الإخوان انقطعوا فلازمهم الفقر ضرورة.
والفضائل تنادي " هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً " .
فكلما خافت من ابتلى قالت:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ولما آثر أحمد بن حنبل رضي الله عنه طلب العلم وكان فقيراً، بقي أربعين سنة يتشاغل به ولا يتزوج، فينبغي للغير أن يصابر فقره كما فعل أحمد..
ومن يطيق ما أطاق ؟ فقد رد من المال خمسين ألفاً وكان يأكل الكامخ ويتأدم بالملح.
فما شاع له الذكر الجميل جزافاً، ولا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب.

فيا له ثناء ملأ الآفاق، وجمالاً زين الوجود، وعزا نسخ كل ذل.
هذا في العاجل، وثواب الآجل لا يوصف.
وتلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف ولا تزار. ترخصوا وتأولوا وخالطوا السلاطين فذهبت بركة العلم ومحى الجاه ووردوا عند الموت حياض الندم.
فيا لها حسرات لا تتلافى، وخسراناً لا ينجبر، وكانت صحبة اللذات طرفة عين ولازم الأسف دائماً.
فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل، فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطالة تذهب ويبقى الأسى، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه:
يا نفس ما هو إلاّ صبر أيام ... كأن مدتها أضغاث أحلام
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدامي
ثم أيها العالم الفقير، أيسرك ملك سلطان من السلاطين ؟ وأن ما تعلمه من العلم لا تعلمه ؟.
كلا، ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا.
ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن أو معنى عجيب تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية.
فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت، وقد شاركتهم في قوام العيش، ولم يبق إلا الفضول الذي إذا أخذ لم يكد يضر.
ثم هم على المخاطرة في باب الآخرة غالباً، وأنت على السلامة في الأغلب.
فتلمح يا أخي عواقب الأحوال، واقمع الكسل المثبط عن الفضائل.
فإن كثيراً من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات وأسف.
رأى رجل شيخنا ابن الزغواني في المنام، فقال له الشيخ: أكثر ما عندكم الغفلة وأكثر ما عندنا الندامة.
فاهرب وفقك الله قبل الحبس، وافسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش.
واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا، وأن يسير التفريط يشين وجه المحاسن.
فالبدار البدار ونفس النفس يتردد، وملك الموت غائب ما قدم بعد، وانهض بعزيمة عازم:
إذا همّ ألقى بين عيينة عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
وإذا يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا
وارفض في هذه العزيمة الدنيا وأربابها، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم، فنحن الأغنياء، وهم الفقراء.
كما قال إبراهيم بن أدهم: ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
فأبناء الدنيا أحدهم لا يكاد يأكل لقمة إلا حراماً أو شبهة.
وهو وإن لم يؤثر ذلك فوكيله يفعله، ولا يبالي هو بقلة دين وكيله.
وإن عمروا داراً سخروا الفعلة، وإن جمعوا مالاً فمن وجوه لا تصلح.
ثم كل منهم خائف أن يقتل أو يعزل أو يشتم، فعيبهم نقص.
ونحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالإباحة، ولا نخاف من عدو، ولا ولايتنا تقبل العزل.
والعز في الدنيا لنا لا لهم، وإقبال الخلق علينا، وتقبيل أيدينا وتعظيمنا عندهم كثير.
وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى.
فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم يعلمون قدر مزيتنا.
وإن غلت أيديهم عن إعطائنا فلذة العفاف أطيب، ومرارة المنن لا تفي بالمأخوذ: وإنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل.
والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا يطلبه ذو نفس شريفة كيف يذل لبذل من لا عزه إلا بالدنانير، ولا مفخرة له إلا بالمكنة، ولقد أنشدني أبو يعلى العلوي:
ربّ قوم في خلائهم ... عرر قد صيروا غررا
ستر المال القبيح لهمسترى إن زال ما سترا
أيقظنا الله من رقدة الغافلين، ورزقنا فكر المتيقظين.
ووفقنا للعمل بمقتضى العلم والعقل، إنه قريب مجيب.

فصل الرفق بالبدن
لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق، فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب.
فترى في الناس من يتزهد وقد ربى جسده على الترف فيعرض عما ألفه فتتجدد له الأمراض، فتقطعه عن كثير من العبادات.
وقد قيل: عودوا كل بدن ما اعتاد، وقد قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضب فقال: أجدني أعافه لأنه ليس بأرض قومي.
وفي حديث الهجرة: أن أبا بكر رضي الله عنه طلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الظل وفرش له فروة وصب على القدح الذي فيه اللبن ماء حتى برد.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم فقال: إن كان عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا.
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج، وفي الصحيح: أنه كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا لم يقدر أكل ما حضر.

ولعمري إن في العرب وأهل السواد من لا يؤثر عنده التخشن في المطعم والملبس، وذاك إذا جرى بعد نوبته على عادته لم يستضر، فأما من قد ألف اللطف فإنه إذا غير حالته تغير بدنه وقلت عبادته.
وقد كان الحسن يديم أكل اللهم ويقول، لا رغيفي مالك ولا صحني فرقد.
وكان ابن سيرين لا يخلي منزله من حلوى.
وكان سفيان الثوري يسافر وفي سفرته الحمل المشوي، والفالوذج.
وقالت رابعة: ما أرى البدن يراد به العمل لله إذا أكل الفالوذج عيباً.
فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه.
وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيت في ترف فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى، أثر معي مرضاً قطعني عن كثير من التعبد.
حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن، فتناولت يوماً ما لا يصلح فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها.
قلت: إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات، إن تناولها لطاعة عظيمة.
وإن مطعماً يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه حضر عنده وقد تغير من التقشف فقال له: من أمرك بهذا !.
فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه كما ينقي الغازي شعير الدابة.
ولا تظنن أني آمر بأكل الشهوات، ولا بالإكثار من الملذوذ، إنما آر بتناول ما يحفظ النفس، وأنهي عما يؤذي البدن.
فأما التوسع في المطاعم، فإنه سبب النوم، والشبع يعمي القلب، ويهزل البدن ويضعفه. فافهم ما أشرت إليه، فالطريق هي الوسطى.

فصل غفلات المعصية
إذا تكامل العقل قوي الذكاء والفطنة.
والذكي يتخلص إذا وقع في آفة كما قال الحسن: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع، فأما المغفل فيجني على نفسه المحن.
هؤلاء إخوة يوسف عليهم السلام، أبعدوه عن أبيه ليتقدموا عنده، وما علموا أن حزنه عليه يشغله عنهم وتهمته إياهم تبغضهم إليه، ثم رموه في الجب فقالوا: " يلتقطه بعض السيارة " وليس بطفل إنما هو صبي كبير.
وما علموا أنه إذا التقط يحدث بحاله، فيبلغ الخبر إلى أبيه وهذا تغفيل.
ثم إنهم قالوا: أكله الذئب، وجاءوا بقميصه صحيحاً، ولو خرقوه احتمل الأمر.
ثم لما مضوا إليه يتمارون قال: " ائتوني بِأخٍ لكم " فلو فطنوا علموا أن ملك مصر لا غرض له في أخيهم.
ثم حبسه بحجة، ثم قال: هذا الصواع يخبرني أنه كان كذا وكذا، هذا كله وما يفطنون.
فلما أحس بهذه الأشياء يعقوب عليه السلام قال: " اذهبوا فتحسسوا من يوسف " وكان يوسف عليه السلام قد نهي بالوحي أن يعلم أياه بوجوده.
ولهذا لما التقيا قال له: هلا كتبت إلي فقال: إن جبريل عليه السلام منعني.
فلما نهى أن يعرفه خبره لينفذ البلاء كان ما فعل بأخيه تنبيهاً، فصار كأنه يعرض بخطبة المعتدة.
وعلى فهم يوسف والله بكى يعقوب لا على مجرد صورته.
فصل الصبر والعفة
الآدمي موضوع على مطلوبات تشتت الهم، العين تطلب المنظور، واللسان يطلب الكلام، والبطن يطلب المأكول، والفرج المنكوح، والطبع يحب جمع المال.
وقد أمرنا بجمع الهم لذكر الآخرة والهوى يشتته.
فكيف إذا اجتمعت إليه حاجات لازمة من طلب قوت البدن وقوت العيال.
وهذا يبكر إلى دكانه ويفتكر في التحصيل، ويستعمل آلة الفهم في نيل ما لا بد منه.
فأي هم يجتمع منه خصوصاً إن أخذه الشره في صورة فيمضي العمر، فينهض الدكان إلى القبر.
فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلاص القصد أو طلب الفضائل.
فمن رزق يقظة، فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل.
فإن كان متزهداً بغير عائلة اكتفى بسعي قليل فقد كان السبتي يعمل يوم السبت فيكتفي به طول الأسبوع.
فإن كان له مال باضع به من يكفيه بدينه، وثقته من أن يهتم هو.
وإن كان له عائلة جمع همه في نية الكسب عليهم فيكون متعبداً.
أو أن يكون قنية مال كعقار ناصفة في نفقته ليكفيه دخله.
وليقلل الهم على مقدار ما يمكنه من حذف العلائق جهده ليجمع الهم في ذكر الآخرة.
فإن لم يفعل أخذ في غفلته وندم في حفرته.
وأقبح الأحوال حال عالم فقيه كلما جمع همه لذكر الآخرة شتته طلب القوت للعائلة.
وربما احتاج إلى التعرض للظلمة وأخذ الشبهات وبذل الوجه، فيلزم هذا التقدير في النفقة.
وإذا حصل له شيء من وجه دبر فيه.

ولا ينبغي أن يحمله قصر الأمل على إخراج ما في يده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركها عالة يتكففون الناس.
وأذل من كل ذل التعرض للبخلاء والأمراء.
فليدبر أمره، ويقلل العلائق، ويحفظ جاهه، فالأيام قلائل.
وقد بعث إلى أحمد بن حنبل مال فسأله ابنه قبوله فقال: يا صالح صني، ثم قال أستخير الله، فأصبح فقال: يا بني قد عزم لي أن لا أقبله.
هذا وكان العطاء هنياً، وجاءه من وجوه. فانعكس الأمر اليوم.

فصل السياسة في المعاملة
العزلة عن الخلق سبب طيب العيش.
ولا بد من مخالطة بمقدار، فدار العدو واستحله، فربما كادك فأهلكك.
وأحسن إلى من أساء إليك، واستعن على أمورك بالكتمان، ولتكن الناس عندك معارف، فأما أصدقاء فلا.
لأن أعز الأشياء وجود صديق، ذاك أن الصديق ينبغي أن يكون في مرتبة مماثل.
فإن صادفته عامياً لم تنتفع به لسوء أخلاقه وقلة علمه وأدبه، وإن صادفت مماثلاً أو مقارباً حسدك.
وإذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله وأقواله ما يدل على حسدك: " ولتعرفنّهم في لحن القول " .
وإذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده، فلا يخرج إليه إلا بما في قلبه.
فإن أردت العيش فابعد عن الحسود لأنه يرى نعمتك فربما أصابها بالعين.
فإن اضطررت إلى مخالطته فلا تفش إليه سرك ولا تشاوره، ولا يغرنك تملقه لك، ولا ما يظهره من الدين والتعبد، فإن الحسد يغلب الدين.
وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل. وأن إخوة يوسف باعوه بثمن بخس.
وكان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء، وعبد الله بن أبي من الرؤساء، أخرجهما حسد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفاق وترك الصواب.
ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه، فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك.
وكلما امتدت امتد عذابه، فلا عيش له، وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم.
ولولا أنه نزع تحاسدوا وتنغص عيشهم.
فصل العقل طريق السعادة
من سار مع العقل وخالف طريق الهوى ونظر إلى العواقب أمكنه أن يتمتع من الدنيا أضعاف ما تمتع من استعمل الشهوات. فأما المستعجل فيفوت نفسه حظ الدنيا والذكر الجميل، ويكون ذلك سبباً لفوات مراده من اللذات.
وبيان هذا من وجهين: أحدهما: إن مال إلى شهوات النكاح وأكثر منها قل التذاذه وفنيت حرارته وكان ذلك سبباً في عدم مطلوبه منها.
ومن استعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ويحتمله كان التذاذه أكثر، لبعد ما بين الجماعين، وأمكنه التردد لبقاء الحرارة.
وكذلك من غش في معاملته أو خان، فإنه لا يعامل فيفوته ربح المعاملة الدائمة لخيانته مرة.
ولو عرف بالثقة دامت معاملة الناس له فزاد ربحه.
والثاني: أنه من اتقى الله وتشاغل بالعلم أو تحقيق الزهد، فتح له من المباحات ما يلتذ به كثيراً.
ومن تقاعد به الكسل عن العلم أو الهوى عن تحقيق الزهد لم يحصل له إلا اليسير من مراده.
قال عز وجل: " وَأًنْ لَوِ اسْتقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقاً " .
فصل الصلة بالله
ينبغي أن يكون العمل كله لله ومعه من أجله.
وقد كفاك كل مخلوق وجلب لك كل خير.
وإياك أن تميل عنه بموافقة هوى وإرضاء مخلوق، فإنه يعكس عليك الحال، ويفوتك المقصود.
وفي الحديث: من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاماً.
وأطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه.
فإن قيل: كيف يعيش معه ؟ قلت: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومراعاة حدوده، والرضى بقضائه، وحسن الأدب في الخلوة، وكثرة ذكره، وسلامة القلب من الاعتراض في أقداره.
فإن احتجب سألته، فإن أعطى وإلا رضيت بالمنع، وعلمت أنه لم يمنع بخلاً، وإنما نظراً لك.
ولا تنقطع عن السؤال لأنك تتعبد به، ومتى دمت على ذلك رزقك محبته وصدق التوكل عليه، فصارت المحبة تدلك على المقصود، وأثمرت لك محبته إياك، فتعيش عيشة الصديقين.
ولا خير في عيش إن لم يكن كذا، فإن أكثر الناس مخبط في عيشه، يداري الأسباب ويميل إليها بقلبه، ويتعب في تحصيل الرزق بحرص زائد على الحد، ويرغبه إلى الخلق ويعترض عند انكسار الأغراض.
والقدر يجري ولا يبالي بسخط، ولا يحصل له إلا ما قدر.

وقد فاته القرب من الحق والمحبة له، والتأدب معه، فذلك العيش عيش البهائم.

فصل الإسراف شر
نظرت في حكمة المطعم والمشرب والملبس والمنكح، فرأيت أن الآدمي لما خلق من أصول تتحلل، وهي الماء والتراب والنار والهواء، وبقاؤه إنما يكون بالحرارة والرطوبة والحرارة تحلل الرطوبة دائماً، فلم يكن هل بد من شيء يخلف ما بطل.
ولما كان اللحم لا ينوب عنه إلا اللحم، أباح الشرع ذبح الحيوان ليتقوى به من هو أشرف منه.
ولما كان بدنه يحتاج إلى كسوة، وله قدرة تمييز، وقدرة يصنع بها ما يقيه الأذى من القطن والصوف، لم يجعل على جلده ما يقيه خلقة، بخلاف الحيوان البهيم، فإنه لما لم يكن له قدرة على ما يغطي جلده عوضه بالريش والشعر والوبر.
ولما لم يكن بد من فناء الآدمي والحيوان هيج شهوة الجماع لتخلف النسل.
فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار الحاجة والمصلحة، ليقع الالتذاذ بالعافية.
ومن البلية طلب الالتذاذ بالمطعم وإن كان غير صالح والشره في تناوله، وكذلك الكسوة والنكاح.
ومن الحزم جمع المال وادخاره لعارض حاجة من ذلك.
ومن التغفيل إنفاق الحاصل، فربما عرضت حاجة فلم يقدر عليها فأثر عدمها في البدن أو في العرض بطلبها من الأنذال.
ومن أقبح الأمور الانهماك في النكاح طلباً لصورة اللذة، ناسياً ما يجني ذلك من انحلال القوة، ويزيد في الحرام بالعقوبة.
فمن مال إلى تدبير العقل سلم في دنياه وآخرته.
ومن أعرض عن مشاورته أو عن القبول منه تعجل عطبه.
فليفهم مقصود الموضوعات وحكمها والمراد منها، فمن لم يفهم ولم يعمل بمقتضى ما فهم كان كأجهل العوام، وإن كان عالماً.
فصل في مخالطة الأمراء
العجب ممن له مسكة من عقل أو عنده قليل من دين كيف يؤثر مخالطتهم.
فإنه بالمخالطة لهم أو العمل معهم يكون قطعاً خائفاً من عزل أو قتل أو سم، ولا يمكنه أن يعمل إلا بمقتضى أوامرهم.
فإن أمروا بما لا يجوز لم يقدر أن يراجع، فقد باع دينه قطعاً بدنياه فمنعه بالخوف من القيام بأمر الله وضاعت عليه آخرته.
ولم يبق بيده إلا عاجل التعظيم وأن يقال بين يديه: بسم الله، وأن ينفذ أوامره.
وذلك بعيد من السلامة في باب الدين وما يلتذ به منه في الدنيا ممزوج بخوف العزل والقتل.
فصل الجزاء من جنس العمل
من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح، فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم.
وفي الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلاً، فقد يرفع المحتقر وقد يتمكن من لا يعد.
بل ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على الأعداء.
فإن أمكن الانتقام منهم كان العفو انتقاماً لأنه يذلهم.
وينبغي أن يحسن إلى كل أحد، خصوصاً من يجوز أن يكون له ولاية، وأن يخدم المعزول، فربما نفع في ولايته.
وقد روينا أن رجلاً استأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد وقال: قولوا له أبو جعفر بالباب.
فلما سمع هش لذلك وقال: ائذنوا له.
فدخل، فقام، وتلقاه وأكرمه وأعطاه خمسة آلاف، وودعه.
فقيل له: رجل من العوام فعلت به هذا ؟.
قال: إني كنت فقيراً، وكان هذا صديقاً، فجئته يوماً فقلت له: أنا جائع.
فقال: اجلس، وخرج، فجاء بشواء وحلوى وخبز فقال: كل.
فقلت: كل معي. قال: لا. قلت: والله لا آكل حتى تأكل معي، فأكل فجعل الدم يجري في فمه.
فقلت: ما هذا ؟ فقال: مرض.
فقلت: والله لا بد أن تخبرني.
فقال: إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئاً.
وكانت أسناني مضببة بشريط من ذهب، فنزعته واشتريت به.
فهلا أكافىء مثل هذا ؟.
وعلى عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات وزير الواثق، وكان يضع من المتوكل فلما ولي عذبه بأنواع العذاب.
وكذلك ابن الجزري كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية فجرت عليه الآفات لما ولي. فالعاقل من تأمل العواقب ورعاها.
وتصور كل ما يجوز أن يقع فعلم بمقتضى الحزم.
وأبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلاً؛ لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض.
فالحازم من استعد له وعمل عمل من لا يندم إذا جاءه.
وحذر من الذنوب فإنها كعدو مراصداً بالجزاء.
وادخر لنفسه صالح الأعمال، فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة.
وأبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة، وإن نقص نقصت.

فهو وإن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره، غير أنه قد رضي به ولا يشعر بذلك.
فرحم الله من تلمح العواقب، وعمل بمقتضى التلمح، والله تعالى الموفق.

فصل أهل الدنيا وأهل الآخرة
لما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم، في تاريخ الملوك والأمم، اطلعت على سير الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والزهاد وغيرهم، فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعباً أذهب أديانهم، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب.
فمن الأمراء من يقتل ويصادر ويقطع ويحبس بغير حق ثم ينخرط في سلك المعاصي كأن الأمر إليه، أو قد جاءه الأمن من العقاب.
فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني ؟ وينسى أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " قُلْ إِنِّي أًخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " .
وقد انخرط جمع ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم العلم.
ورأينا خلقاً من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم، وهذا لأن الدنيا فخ والناس كالعصافير، والعصفور يريد الحبة وينسى الخنق.
قد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلاً إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل.
فلقد باعوا بلذة يسيرة خيراً كثيراً، واستحقوا بشهوات مرذولة عذاباً عظيماً.
فإذا نزل بأحدهم الموت قال: ليتني لم أكن، ليتني كنت تراباً، فيقال له ألآن ؟.
فواأسفي لفائت لا يمكن استدراكه، ولمرتهن لا يصح فكاكه، ولندم لا ينقطع زمانه، ولمعذب عز عليه إيمانه بالله.
بالله ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها ويعول عليها.
ولا يمكن قبول مشاورتها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهى.
فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب وابن عبد العزيز رضي الله عنهما، وفي العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وفي الزهاد أويس القرني.
لقد أعطوا الحزم حقه وفهموا مقصود الوجود.
وما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى.
وربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث والعقاب.
وليس العجب من ذاك إنما العجب من مؤمن يوقن، ولا ينفعه يقينه ويعقل العواقب ولا ينفعه عقله.
فصل علو الهمة
من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وقال الآخر:
ولكل جسم في النّحول بليةٌ ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
وبيان هذا أن من علت همته طلب العلوم كلها ولم يقتصر على بعضها وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن.
ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب.
ثم يرى ترك الدنيا ويحتاج إلى ما لا بد منه.
ويحب الإيثار ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، ويمنعه عز النفس عن الكسب من وجوه التبذل.
فإن هو جرى على طبعه من الكرم، احتاج وافتقر وتأثر بدنه وعائلته.
وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك.
وفي الجملة يحتاج إلى معاناة وجمع بين أضداد، فهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ.
ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال زاد تعبه وقوي وصبه، فأين هو ومن دنت همته ؟ إن كان فقيهاً فسئل عن حديث قال ما أعرفه، وإن كان محدثاً فسئل عن مسألة فقهية قال ما أدري، ولا يبالي إن قيل عنه مقصر.
والعالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة قد كشفت عيبه، وقد رأت الناس عورته.
والقصير الهمة لا يبالي بمنن الناس ولا يستقبح سؤالهم ولا يأنف من رد، والعالي الهمة لا يحمل ذلك.
ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم.
والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه.
فإن سبق فهو المقصود. وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم.
فصل إعجاب المرء بنفسه
المصيبة العظمى رضى الإنسان عن نفسه واقتناعه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق.
فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب، ولا يبحث ولا ينظر في دليل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وإذا سمع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئلا يسمع.
وكذلك كل ذي هوى يثبت عليه، إما لأنه مذهب أبيه وأهله، أو لأنه نظر نظراً أول فرآه صواباً، ولم ينظر فيما يناقضه، ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه.

ومن هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإنهم استحسنوا ما وقع لهم ولم يرجعوا إلى من يعلم.
ولما لقيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فبين لهم خطأهم رجع عن مذهبه منهم ألفان.
وممن لم يرجع عن هواه ابن ملجم، فرأى مذهبه هو الحق فاستحل قتل أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه ورآه ديناً حتى أنه لما قطعت أعضاؤه لم يمانع.
فلما طلب لسانه يقطع انزعج وقال: كيف أبقى ساعة في الدنيا لا أذكر الله.
ومثل هذا ما له دواء.
وكذلك كان الحجاج يقول: والله ما أرجو الخير إلا بعد الموت.
هذا قوله وكم قتل من لا يحل قتله، منهم سعيد بن جبير.
وقد أخبرنا عبد الوهاب وابن ناصر الحفاظ قالا أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي قال أخبرنا إسماعيل بن سعيد قال حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثنا أبو عيسى الختلي قال حدثنا أبو يعلى قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عاصم عن عباد بن كثير بن قحدم قال: وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثون ألفاً، ما يجب على واحد منهم قطع ولا قتل ولا صلب.
قلت وعموم السلاطين يقتلون ويقطعون ظناً منهم جواز ذلك، ولو سألوا العلماء بينوا لهم.
وعموم العوام يبارزون بالذنوب اعتماداً على العفو وينسون العقاب.
ومنهم من يعتمد أني من أهل السنة، أو أن لي حسنات قد تنفع، وكل هذا لقوة الجهل.
فينبغي للإنسان أن يبالغ في معرفة الدليل ولا يساكن شبهته، ولا يثق بعلم نفسه نسأل الله السلامة من جميع الآفات !...

فصل الجزاء العاجل
اعلم أن الجزاء بالمرصاد إن كانت حسنة أو كانت سيئة.
ومن الاغترار أن يظن المذنب إذا لم ير عقوبة أنه قد سومح، وربما جاءت العقوبة بعد مدة.
وقل من فعل ذنباً إلا وقوبل عليه، قال عز وجل: " من يعمل سوءاً يُجْزَ بهِ " .
هذا آدم عليه السلام أكل لقمة فقد عرفتم ما جرى عليه.
قال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إليه ألم اصطنعك لنفسي وأحللتك داري، وأسجدت لك ملائكتي فعصيت أمري ونسيت عهدي ؟.
وعزتي لو ملأت الأرض كلهم مثلك يعبدون ويسبحون في الليل والنهار ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين.
فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وجذب بناصيته فأهبط.
فبكى آدم ثلاث مائة عام على جبل الهند تجري دموعه في أودية جبالها، فنبتت بتلك المدامع أشجار طيبكم هذا.
وكذلك داود عليه السلام، نظر نظرة فأوجبت عتابه وبكاءه الدائم حتى نبت العشب من دموعه.
وأما سليمان عليه السلام فإن قوماً اختصموا إليه فكان هواه مع أحد الخصمين فعوقب وتغير في أعين الناس، وكان يقول: أطعموني فلا يطعم.
وأما يعقوب عليه السلام، فإنه يقال إنه ذبح عجلاً بين يدي أمه، فعوقب بفراق يوسف.
وأما يوسف عليه السلام فأخذ بالهم، وكل واحد من إخوته ولد له إثنا عشر ولداً، ونقص هو ولداً لتلك الهمة.
وأما أيوب عليه السلام فإنه قصر في الإنكار على ملك ظالم لأجل خيل كانت في ناحيته فابتلى.
وأما يونس عليه السلام فخرج عن قومه بغير إذن فالتقمه الحوت.
وأوحى الله عز وجل إلى أرميا: إن قومك تركوا الأمر الذي أكرمت به آباءهم، وعزتي لأهيجن عليهم جنوداً لا يرحمون بكاءهم.
فقال: يا رب هم ولد خليلك إبراهيم، وأمة صفيك موسى، وقوم نبيك داود فأوحى الله تعالى إليه.
إنما أكرمت إبراهيم وموسى وداود بطاعتي، ولو عصوني لأنزلتهم منازل العاصين.
ونظر بعض العباد شخصاً مستحسناً فقال له شيخه: ما هذا النظر ؟ ستجد غبه، فنسي القرآن بعد أربعين سنة.
وقال آخر قد عبت شخصاً قد ذهب بعض أسنانه فانتثرت أسناني.
ونظرت إلى امرأة لا تحل، فنظر إلى زوجتي من لا أريد.
وكان بعض العاقين ضرب أباه وسحبه إلى مكان، فقال له الأب: حسبك إلى ههنا سحبت أبي.
وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً بالإفلاس فأفلست، ومثل هذا كثير.
ومن أعجبت ما سمعت فيه عن الوزير ابن حصير الملقب بالنظام أن المقتفى غضب عليه وأمر بأن يؤخذ منه عشرة آلاف دينار.
فدخل عليه أهله محزونين وقالوا له: من أين لك عشرة آلاف دينار ؟.
فقال: ما يؤخذ مني عشرة ولا خمسة ولا أربعة.
قالوا من أين لك ؟ قال: إني ظلمت رجلاً فألزمته ثلاثة آلاف فما يؤخذ مني أكثر منها.
فلما أدى ثلاثة آلاف دينار وقع الخليفة بإطلاقه ومسامحته في الباقي.

وأنا أقول عن نفسي: ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى يمكنني أن أقول: هذا بالشيء الفلاني.
وربما تأولت فيه بعد، فأرى العقوبة.
فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب فقل أن يسلم منه.
وليجتهد في التوبة، فقد روي في الحديث ما من شيء أسرع لحاقاً بشيء من حسنة حديثة لذنب قديم.
ومع التوبة يكون خائفاً من المؤاخذة متوقعاً لها، فإن لله تعالى قد تاب على الأنبياء عليهم السلام.
وفي حديث الشفاعة يقول آدم ذنبي ويقول إبراهيم وموسى ذنبي.
فإن قال قائل: قوله تعالى: " من يعمل سوءاً يجز به " خبر فهو يقتضي أن لا يجاوز عن مذنب، وقد عرفنا قبول التوبة والصفح عن الخاطئين.
فالجواب من وجهين: أحدهما أن يحمل على من مات مصراً ولم يتب، فإن التوبة تجب ما قبلها.
والثاني: أنه على إطلاقه وهو الذي اختاره أنا وأستدل بالنقل والمعنى.
أما النقل، فإنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله أو نجازى بكل ما نعمل فقال: ألست تمرض، ألست تحزن، أليس يصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به.
وأما المعنى فإن المؤمن إذا تاب وندم كان أسفه على ذنبه في كل وقت أقوى من كل عقوبة.
فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم، ثم آثر لذة المعصية لحظة.

فصل حديث النفس اللوامة
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللطف الرباني، من بدأ الطفولة وإلى الآن أرى لطفاً بعد لطف، وستراً على قبيح. وعفواً عما يوجب عقوبة.
وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان.
ولقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً.
ولو كشف للناس بعضها لاستحييت.
ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب، حتى يظن فيّ ما يظن في الفساق.
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة.
فصرت إذا دعوت أقول: اللهم بحمدك وسترك علي اغفر لي.
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي.
ثم أنا أتقاضى منه مراداتي ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ولا بشكر على نعمة.
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.
وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر وما حصل المقصود.
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فكتبتها ههنا.
قال لنفسه: يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر. وثمرة هذا أن يقال: يا مناظر.
كما يقال للمصارع الفاره.
ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء، وهي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر.
ثم ينسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب.
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له وصار الاسم له.
والعقلاء عن الله تشاغلوا بما - إذا انطووا - نشرهم وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم.
أف لنفسي وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم وما عبق بها فضيلة.
إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف.
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوباً تبلى ولا تحتشم نظر الحق إليها.
وإن انكسرت لها غرض تضجرت، فإن امتدت بالنعم اشتغلت عن المنعم.
أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها.
والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب.
والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف سترني وأنا أتهتك ويجمعني وأنا أتشتت.
وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني.
والله لأنادين على نفسي نداء المتكشفين معائب الأعداء.
ولأنوحن نوح الثاكلين إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها.
والله ما أجد لنفسي خلة استحسن أن أقول متوسلاً بها. اللهم اغفر لي كذا بكذا.
والله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ووقاية تحميني. مع تسلط الأعداء.
ولا عرضت حاجة فممدت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي وهو رب غني عني. وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه.
ولا عذر لي فأقول ما دريت أو سهوت.
والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونور قلبي بالفطنة، حتى أن الغائبات والمكتومات تنكشف لفهمي.

فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى.
وارحماني لمقامات الرجل الفطناء. يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي.
واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي.
واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن.
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار.
وقد جئتك بعد الخمسين وأنا من خلق المتاع.
وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم.
فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمك، ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك فاغفر لي سالف فعلي.

فصل عداوة الأقارب
عداوة الأقارب صعبة، وربما دامت كحرب بكر وتغلب ابني وائل، وعبس وذبيان ابني بغيض، والأوس والخزرج ابني قيلة.
قال الجاحظ ركدت هذه الحرب أربعين عاماً.
والسبب في هذا أن كل واحد من الأقارب يكره أن يفوته قريبه، فيقع التحاسد.
فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لهم، ويرفعهم جهده، ويرفق بهم لعله يسلم.
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لي أقارب أصلهم فيقطعوني فقال: فكأنما تسفهم المل، ولن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك.
فصل حسن العشرة
رأيت كلاب الصيد إذا مرت بكلاب المحلة نبحتها هذه، وبالغت وأسرعت خلفها، وكأنها تراها مكرمة مجللة فتحسدها على ذلك.
ورأيت كلاب الصيد حينئذ لا تلتفت إليها ولا تعيرها الطرف ولا تعد نباحها شيئاً، فرأيت أن كلاب الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلاب.
لأن تلك غليظة البدن كثيفة الأعضاء لا أمانة لها، وهذه لطيفة دقيقة الخلقة ومعها آداب قد ناسبت خلقتها اللطيفة.
وأنها تحبس الصيد على مالكها خوفاً من عقابه، أو مراعاة شكر نعمته عليها.
فرأيت أن الأدب وحسن العشرة يتبع لطافه البدن وصفاء الروح.
وهكذا المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده ولا يعد شيئاً، إذ هو في واد وذاك في واد.
ذاك يحسده على الدنيا، وهذا همته الآخرة فيا بعد ما بين الواديين.
فصل أسرار الحكمة
ملاحظته من أهم الأشياء.
ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله. ويعلم أنه حكيم ومالك، وأنه لا يعبث.
فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه، وسل للحكيم المالك. فإذا طالبه العقل قال: ما بانت لي، فيجب علي تسليم الأمر لمالكه.
وإن أقواماً نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق نسبت إلى ضد الحكمة، فنسبوا الخالق إلى ذلك.
وهذا الكفر المحض، والجنون البارد.
والواجب نسبة الجهل إلى النفوس، فإن العقول قاصرة عن مطالعة حكمته.
وأول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طيناً على نار، والعقل يرى النار أفضل فعاب حكمته.
وعمت هذه المحنة خلقاً ممن ينسب إلى العلم وكثير من العوام.
فكم قد رأينا عالماً يعترض وعامياً يرد فيكفره، وهذه محنة قد شملت أكثر الخلق.
يرون عالماً يضيق عليه وفاسقاً وسع عليه، فيقولون هذا لا يليق بالحكمة.
وقد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات والخراج والجزية والغنائم والكفارات ليستغني بها الفقراء، فاختص بذلك الظلمة.
وصانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها، فجاع الفقير.
فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة ولا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء.
وقد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين من حبسهم الحقوق، وابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم.
وأكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من اعتراض يخرج إلى الكفر فتخرج النفس كافرة.
فكم عامي يقول: فلان قد ابتلى وما يستحق.
ومعناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب وقد قال بعض الخلعاء:
أيا رب تخلق أقمار ليل ... وأغصان بان وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا ... أيا حاكم العدل ذا حكم عدل ؟
ومثل هذا ينشده جماعة من العلماء ويستحسنونه، وهو كفر محض.
وما فهم هؤلاء سر النهي ولا معناه، لأنه ما نهى عن العشق وإنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة كالنظر واللمس والفعل القبيح.
وفي الامتناع عن المشتهى دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء. فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم.

وتسليم النفوس إلى القتل والجهاد دليل على اليقين بالجزاء.
ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل.
كلا. لو تأمل وصبر قليلاً لربح كثيراً.
ولو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء والعوام لطال.
ومن أحسن الناس حالاً في ذلك، ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوماً واشتد جوعه فجلس على الجسر وقد أمضه الجوع.
فمرت خيل مزينة بالحرير والديباج فقال: لمن هذه ؟ فقالوا: لعلي بن بلتق غلام الخليفة.
فمرت جواز مستحسنات فقال: لمن هذه ؟ فقالوا: لعلي بن بلتق.
فمر به رجل فرآه وعليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما ورمى بهما، وقال: هذه لعلي بن بلتق وهذان لي ؟.
ونسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول ويعترض ويفعل أهل هذه المجاعة.
فيا معترضين وهم في غاية النقص على من لا عيب في فعله. أنتم في البداية من ماء وطين، وفي الثاني من ماء مهين، ثم تحملون الأنجاس على الدوام، ولو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفاً.
وكم من رأي يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه.
ثم المعاصي منكم زائدة في الحد.
فما فيكم - بعد - إلا الاعتراض على المالك الحكيم.
ولو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى.
ولو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم ولم يعدهم كان ذلك له، لأنه مالك، لكنه بفضله وعد بالإعادة والجزاء والبقاء الدائم في النعيم.
فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب ذلك إلى قصور علمك.
وقد ترى مقتولاً ظلماً وكم قد قتل وظلم حتى قوبل ببعضه.
وقل أن يجري لأحد آفة إلا ويستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا ورأينا الجزاء وحده.
فسلم تسلم واحذر كلمة اعتراض أو إضمار، فربما أخرجتك من دائرة الإسلام.

فصل يوم العيد ويوم القيامة
رأيت الناس يوم العيد فشبهت الحال بالقيامة. فإنهم لما انتبهوا من نومهم خرجوا إلى عيدهم كخروج الموتى من قبورهم إلى حشرهم، فمنهم من زينته الغاية ومركبه النهاية، ومنهم المتوسط، ومنهم المرذول وعلى هذا أحوال الناس يوم القيامة.
قال تعالى: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً " أي ركبانا " ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً " أي عطاشاً.
وقال عليه الصلاة والسلام: يحشرون ركباناً ومشاة وعلى وجوههم.
ومن الناس من يداس في زحمة العيد، وكذلك الظلمة يطأهم الناس بأقدامهم في القيامة.
ومن الناس يوم العيد الغني المتصدق. كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
ومنهم الفقير السائل الذي يطلب أن يعطى. كذلك يوم الجزاء أعددت شفاعتي لأهل الكبائر.
ومنهم من لا يعطف عليه " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " .
والأعلام منشورة في العيد. كذلك أعلام المتقين في القيامة، والبوق يضرب.
كذلك يخبر بحال العبد فيقال: يا أهل الموقف، إن فلاناً قد سعد سعادة لا شقاوة بعدها، وإن فلاناً قد شقى شقاوة لا سعادة بعدها.
ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة ويخبرون بامتثال الأوامر: " أولئك المقربون " فيخرج التوقيع إليهم " وكان سعيهم مشكوراً " .
ومن هو دونهم يختلف حاله. فمنهم من يرجع إلى بيت عامر: " بما أسلفتم في الأيام الخالية " .
ومنهم متوسط، ومنهم من يعود إلى بيت قفر: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " .
فصل للعلماء والزهاد
يتضمن نصيحة للعلماء والزهاد: يا قوم قد علمتم: أن الأعمال بالنيات، وقد فهمتم قوله تعالى: " ألا للّه الدين الخالص " وقد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون ولا يقولون حتى تتقدم النية وتصح.
أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل والصياح ؟ وترتفع أصواتكم عند اجتماع العوام تقصدون المغالبة.
أو ما سمعتم: من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، لم يرح رائحة الجنة.
ثم يقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها، وقد كان السلف يتدافعونها.
ويا معشر المتزهدين إنه يعلم السر وأخفى أتظهرون الفقر في لباسكم وأنتم تستوفون شهوات النفوس.
وتظهرون التخاشع والبكاء في الجلوات دون الخلوات.
كان ابن سيرين يضحك ويقهقه فإذا خلا بكى أكثر الليل.
قال سفيان لصاحبه: ما أوقحك تصلي والناس يرونك وتنام حيث لا ترى ؟.
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

آه للمرائي من يوم " وحُصل ما في الصدور " وهي النيات.
فأفيقوا من سكركم، وتوبوا من زللكم، واستقيموا على الجادة: " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب اللّه " .

فصل السلوك الحق والعلم
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة جائزين على ما ألفوا من العادة.
وقد يخلص منهم فريقان علماء وعباد.
فتأملت جمهور العلماء فرأيتهم في تخليط، منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا ويعرض عن معاملات الآخرة.
إما لجهله بها، أو لثقل أمرها عليه، فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم، ويتبع في الباقي العادات.
وربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالماً، وقد نسي أن العلم حجة عليه.
ومنهم من هو واقف مع صورة العلم، غافل عن المقصود وهو العمل، وفيهم من يخالط السلطان، فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب والظلم ولا يمكنه الإنكار.
وربما مدح هؤلاء، ويتأذى السلطان بصحبته فيقول: لولا أني على صواب ما جالسني هذا.
ويتأذى العوام فيقولون: لولا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العالم.
ورأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم وينسون أن اليهود من بني إسرائيل.
وأما الفريق الثاني وهم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط. أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة في أكثر عملهم، قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتبا فيها دفائن قبيحة، وأحاديث غير صحيحة، ويأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة.
مثل كتب الحارث المحاسبي، وأبي عبد الله الترمذي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتاب الإحياء لأبي حامد الطوسي.
فإذا فتح المبتدىء عينه وهم بسلوك الطريق بهذه الكتب حملته إلى الخطايا، لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة.
ويذمون الدنيا، ولا يدرون ما المذموم منها ؟.
فيتصور المبتدىء ذم ذات الدنيا، فيهرب المنقطع إلى الجبل، وربما فاتته الجماعة والجمعة، ويقتصر على البلوط والكمثري فيورثه القولنج.
ويقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع، أو يأكل الباقلاء والعدس فيحدث له قراقر.
وإنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولاً بالناقة ليصل. ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه.
وربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف والمتزهدين فيتبعهم المريد فيتأذى بذلك.
ومتى رددنا ذلك المنقول وبينا خطأ فاعله قال الجهال: أترد على الزهاد ؟.
وإنما ينبغي اتباع الصواب ولا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس.
فإنا نقول: قال أبو حنيفة ثم يخالفه الشافعي، وإنما ينبغي أن يتبع الدليل.
قال المروزي: مدح أحمد بن حنبل النكاح فقلت له قد قال: إبراهيم بن أدهم فصاح وقال: وقعنا في بنيات الطريق، عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وتكلم أحمد في الحارث المحاسبي ورد على سري السقطي حين قال: لما خلق الله الحروف وقف الألف وسجدت الياء؛ فقال: نفروا الناس عنه. فالحق لا ينبغي أن يحابى، فإنه جد.
وإني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة، وصار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم؛ فيقال: قال أبو طالب المكي: كان من السلف من يزن قوته بكربة فينقص كل يوم !!!.
وهذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وإنما كانوا يأكلون دون الشبع.
فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهيٌ عنه.
ويقول قاد داود الطائي لسفيان: إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت ؟. وكان ماؤه في دن.
وما علم أن للنفس حظاً، وأن شرب الماء الحار يرهل المعدة ويؤذي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبرد الماء.
ويقول آخر منهم: منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه.
ويقول آخر: أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي.
أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة ؟.
هذا شيء ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الورع حسناً، ولكن لا على حمل المشاق الشديدة.
وهذا بشر الحافي يقول: لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث، وهذا تعليل لا يصلح، لأن الإنسان مأمور بالنكاح، وهو من أكبر المشتهى، وكان بشر حافياً حتى قيل له الحافي، ولو ستر أمره بنعلين كان أصلح.
والحفاء يؤذي العين، وليس من أمر الدنيا في شيء. فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعلان.
وما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على مال والمتزهدون عليه اليوم..

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويمزح ويختار المستحسنات ويسابق عائشة رضي الله عنها، وكان يأكل اللحم، ويحب الحلوى، ويستعذب له الماء.
وعلى هذا كان طريقة أصحابه، فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة، وكلها على غير الجادة.
ويحتجون بقول المحاسبي والمكي، ولا يحتج أحد منهم بصحابي ولا تابعي ولا بإمام من أئمة الإسلام.
فإن رأوا عالماً لبث ثوباً جميلاً أو تزوج مستحسنة أو أفطر بالنهار أو ضحك عابوه.
فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم.
حتى أن بعضهم يقول: منذ ثمانين سنة ما اضطجعت.
ويقول آخر: حلفت لا أشرف الماء سنة.
وهؤلاء على غير الصواب، فإن للنفس حقاً.
فأما من ساء قصده ممن نافق وراءى لاجتلاب الدنيا وتقبيل الأيدي فلا كلام معه، وهم جمهور المتصوفة، فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة، وما معهم أحسن من السفلاطون.
وإنما رقع القدماء للفقر. فهم في اللذات وجمع المال وأخذ الشبهات واستعمال الراحة واللعب ومخالطة السلاطين.
وهؤلاء قد كشفوا القناع وباينوا زهد أوائلهم، بلى. أعجب منهم من ينفق عليهم !!.

فصل مثل الآدمي
إن الله عز وجل جعل لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها.
فمن أمثلة أحواله القمر الذي يبتديء صغيراً ثم يتكامل بدراً، ثم يتناقص بانمحاق وقد يطرأ عليه ما يفسده كالكسوف.
فكذلك الآدمي أوله نطفة، ثم يترقى من الفساد إلى الصلاح، فإذا تم كان بمنزلة البدر الكامل.
ثم تتناقص أحواله بالضعف فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر. قال الشاعر:
والمرء مثل هلال عند طلعته ... يبدو ضئيلاً لطيفاً ثم يتسق
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصاً ثم ينمحق
ومن أمثلة حاله، دود القز فإنه يكون حياً إلى أن يبتديء نبات قوته وهو ورق الفرصاد.
فإذا اخضر الورق دبت الروح فيه.
ثم ينتقل من حال إلى حال كانتقال الطفل.
ثم يرقد كغفلة الآدمي عن النظر في العواقب ثم ينتبه فيحرص على الأكل كحرص الشره على تحصيل الدنيا.
ثم يسدي على نفسه كما يخطب الآدمي الأوزار على دنبه، فيرتهن في ذلك الحبس كما يرتهن الميت في قبره.
ثم يقرض فيخرج خلقاً آخر كما تنصر الموتى غرلا بهماً.
وقد دله على البعث تكون النطفة كالميت. ثم تصير آدمياً.
وإلقاء الحب تحت الأرض فيفسد ثم يهتز خضراً.
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
فصل الهوى العاجل
إنما فضل العقل بتأمل العواقب، فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها.
فإن اللص يرى أخذ المال وينسى قطع اليد. والبطال يرى لذة الراحة وينسى ما تجني من فوات العلم وكسب المال.
فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر، وإذا احتاج سأل فذل، فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة.
ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
وكذلك شارب الخمر، يلتذ تلك الساعة وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة.
وكذلك الزنا، فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني منه من فضيحة الدنيا والحد.
وربما كان للمرأة زوج فألحقت الحمل من هذا به وتسلسل الأمر.
فقس على هذه وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوت خيراً كثيراً، وصابر المشقة تحصل ربحاً وافراً.
فصل اللذات المعنوية
ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد.
بلى، قد يقع في صفاء حالهما كدر. وهو أن العالم يشتغل بالعلم أو بالانقطاع عن الكسب، وقد يكون له عائلة، فربما تعرض بالسلطان ففسد حاله. وكذلك الزاهد.
فينبغي للعالم والعابد أن يتحركا في معاش كنسخ بأجرة أو علم الخوص وإن فتح له بشيء اقتنع باليسير، فلا يستعبده أحد.
كما كان أحمد بن حنبل له أجرة لعلها لا تبلغ ديناراً يتقوت بها.
ومتى لم يقنع أفسدت مخالطة السلاطين والعوام دينه.
وفي الناس من يريد التوسع في المطاعم، ومنهم من لا يوافقه خشن العيش، وهيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات.
وإذا قنع العالم والزاهد بما يكفي، لم يتبذل أحدهما للسلطان ولم يستخدم بالتردد إلى بابه، ولم يحتج الزاهد إلى تصنع.
والعيش اللذيذ للمنقطع الذي لا يتبذل به ولا يحمل منه.
فصل قدر الأفهام

ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم، حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول والفروع.
فترى أقواماً يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس كقول قائلهم: ينزل بذاته إلى السماء وينتقل.
وهذا فهم رديء، لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان ويوجب ذلك كون المكان أكثر منه ويلزم منه الحركة وكل ذلك محال على الحق عز وجل.
وأما في الفروع فكما يروى عن داود أنه في قوله صلى الله عليه وسلم: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه. فقال: إن بال غيره جاز.
فما يفهم المراد من التنجيس بل يأخذ بمجرد اللفظ.
وكذلك يقول: لحم الخنزير حرام لا جلده نعوذ بالله من سوء الفهم.
وكذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال كقول قائلهم:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
والجفنات عدد يسير فلو قال: الجفان لكان أبلغ، ولو قال: بالدجى لكان أحسن، ويقطرن دليل على القلة وكذلك قول القائل:
همها العطر والفراش ويعلو ... ها لجين منظّم ولآلى
وهذا قاصر، فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها. إنما المادح هو القائل:
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
وكذا قول القائل:
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
ولو كان صادقاً في المحبة لما كان له قلب يخاطبه. وإذا خاطبه في الهجر لم يوافقه. إنما المحب الصادق هو القائل:
يقولون لو عاتبت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
ومثل هذا إذا نوقش كثير.
فأقل موجود في الناس الفهم والغوص على دقائق المعاني.

فصل حقيقة المتعة
من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً، فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافاً.
فمن اللذات النساء، فربما تثبت المستحسنة، وربما لم تحب الزوج، فمتى علم ذلك تعزل عنها، وربما خانت، وذلك الهلاك.
فإن تمت المرادات فذكر الفراق زائد في التألم على الالتذاذ.
ومن اللذات الولد ومقاسات البنت إلى أن تتزوج، وما تلقى من زوجها وخوف عارها محن قبيحة.
والابن إن مرض ذاب الفؤاد، وإن خرج عن حد الصلاح زاد الأسف، وإن كان عدواً فمراده هلاك الأب، ثم إن تم المراد فذكر فراقه يذيب القلوب.
ولو أن فاسقاً أحب بعض المردان انهتك عرضه في الدنيا وذهب دينه.
ثم لا يلبث أن تتغير حليته فيصبر مبغوضاً مع ما سبق من الهتكة والإثم.
وكم قد غلبت شهوة رجل وطيء الجواري السود فجاء الولد أسود فبقي عاراً عليه.
ومن هذا الجنس الالتذاذ بالمال، وفي تحصيله آثام، وفراقه حسرة، وذهاب العمر في غبن.
وهذا أنموذج لما لم يذكر فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين والبدن والعافية، ويهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته.
ومن صبر على ما يكره النفع في العاقبة التذ أضعافاً، كطالب العلم فإنه يتعب يسيراً وينال خير الدارين مع سلامة العاقبة.
ولذة البطالة تعقب عدم العلم والعمل فيزيد الأسى على اللذة أضعافاً.
فالله الله أن يغلبك هواك العاجل، ومتى هم الهوى بالتوثب فامنعه وزن عاجله بآجله. وما يتذكر إلا أولو الألباب.
فصل تلبيس إبليس
رأيت إبليس قد احتال بفنون الحيل. على الخلق وأمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح السالك، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل، وشغلهم بأمور الحس، ولا يلتفتون إلى مشورة العقل.
فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب اعترض فكفر.
فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر والدنيا لا يفعلان وإنما هو عيب للمقدر.
ومنهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة، فيقول: أي فائدة في نقض المبنى.
وزعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض، وأنكروا البعث. ويقولون ما جاء من ثم أحد.
ونسوا أن الوجود ما انتهى بعد ولو خلفنا لصار الإيمان بالغيب عياناً، ولا يصلح أن يدل على الأحياء بالأحياء.
ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوام. فحسن لهم علوم الكلام وصاروا يحتجون بقول بقراط وجالينوس وفيثاغورس.
وهؤلاء ليسوا بمتشرعين ولا تبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم أنفسهم.

وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث، فيثبت الإيمان في قلبه.
فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول أخبار آحاد.
وأصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية.
ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولي والجزء الذي لا يتجزأ.
ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق، فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواقعاتهم.
فيقول المعتزلة إن الله لا يرى لأن المرئي يكون في جهة، ويخالفون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " . فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته وإن عجزنا عن فهم كيفيتها.
وقد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن، وقالوا مخلوق، فزالت حرمته من القلوب.
وعن السنة وقالوا أخبار آحاد. وإنما مذاهبهم السرقة من بقراط وجالينوس.
وقد استفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نفسه عن تعب الصلاة والصوم، وقد كان كبار العلماء يذمون علم الكلام، حتى قال الشافعي: حكمي فيهم أن يركبوا على البغال ويشهروا ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بالكلام.
وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم.
فالله الله من مخالطة المبتدعة. وعليكم بالكتاب والسنة ترشدوا.
؟فصل قيمة الوقت رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان وكان القدماء يحذرون من ذلك قال الفضيل: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة.
ودخلوا على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك، فقال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم.
وجاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: صرت مناخ البطالين، ثم مضى ولم يجلس.
ومتى لان المزور طمع فيه الزائر، فأطال الجلوس فلم يسلم من أذى.
وقد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا فقال: إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها أفما تريدون القيام ؟.
وممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس قال له رجل: قف أكلمك، قال: فأمسك الشمس.
وقيل لكرز بن وبرة: لو خرجت إلى الصحراء، فقال: يبطل الزوجار.
وكان داود الطائي يستف الفتيت ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية.
وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى، فقال إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر.
وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه. ومتى اجتمعتم تحدثتم.
واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة.
فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان. كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر ويتوانى.
والذي يعين على اغتنام الزمان الانفراد والعزلة مهما أمكن، والاختصار على السلام أو حاجة مهمة لمن يلقى.
وقلة الأكل، فإن كثرته سبب النوم الطويل وضياع الليل.
ومن نظر في سير السلف وآمن بالجزاء بان له ما ذكرته.
؟؟

فصل آداب المعاشرة
ينبغي للعاقل أن يتخير امرأة صالحة من بيت صالح يغلب عليه الفقر لترى ما يأتيها به كثيراً، وليتزوج من يقاربه في السن.
فأما الشيخ فإذا إذا تزوج صبية آذاها، وربما فجرت، أو قتلته، أو طلبت الطلاق وهو يحبها فيتأذى.
وليتمم نقصه بحسن الأخلاق وكثرة النفقة.
ولا ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيراً فتمل، ولا تبعد عنه فينساها.
ولتكن وقت قربها إليه كاملة النظافة متحسنة، ولتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله، فإن جسم الإنسان ليس بمستحسن.
وكذلك ينبغي أن لا يريها جسمه، وإنما الجماع في الفراش.
ورأى كسرى يوماً كيف يسلخ الحيوان ويطبخ فتقلبت نفسه ونفى اللحم، فذكر ذلك لوزيره، فقال: أيها الملك، الطبيخ على المائدة، والمرأة في الفراش، ومعناه لا تفتش على ذلك.
قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه مني، وقام ليلة عرياناً فما رأيت جسمه قبلها.
وهذا الحزم، وبذلك لا يعيب الرجل المرأة لأنه لم ير عيوبها.

وليكن للمرأة فراش وله فراش، فلا يجتمعان إلا في حال الكمال.
ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة متبذلة تقول: هذا أبو أولادي ويتبذل هو فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي، فينفر القلب وتبقى المعاشرة بغير المحبة.
وهذا فصل ينبغي تأمله والعمل به فإنه أصل عظيم.

فصل أداء الأمانات
لا عيش في الدنيا إلا للقنوع باليسير، فإنه كلما زاد الحرص على فضول العيش زاد الهم وتشتت القلب، واستعبد العبد.
وأما القنوع فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه، ولا يبالي بمن هو مثله، إذ عنده ما عنده.
وإن أقواماً لم يقنعوا وطلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم وذلوا لغيرهم.
وخصوصاً أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فاستعبدوهم ورأوا المنكرات، فلم يقدروا على إنكارها، وربما مدحوا الظالم اتقاء لشره.
فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا.
ومن أقبح الناس حالاً من تعرض للقضاء والشهادة، ولقد كانتا مرتبتين حسنتين.
وكان عبد الحميد القاضي لا يحابي، فبعث إلى المعتضد وقال له: قد استأجرت وقوفاً فأد أجرتها، ففعل.
وقال له المعتضد: قد مات فلان ولنا عليه مال، فقال: أنت تذكر لما وليتني قلت لي: قد أخرجت هذا الأمر من عنقي ووضعته في عنقك، ولا أقبل هذا الذي تقول إلا بشاهدين.
وكذلك كان الشهود، دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم: اشهدوا على مولانا بكذا، فشهدوا، فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال: يا أمير المؤمنين، أشهد عليك بما في هذا الكتاب، فقال: أشهد.
قال: إنه لا يكفي في ذلك، لا أشهد حتى تقول نعم، قال: نعم.
فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل، خصوصاً من يتقرب إليه بالمال ليستشهد فتراه يسحب ليشهد على ما لا يرى.
قال لي أبو المعالي بن شافع: كنت أحمل إلى بعض أهل السواد، وهو محبوس وأشهد عليه.
وأنا أستغفر الله من ذلك.
وليس للشهود جراية فيحملون ذلك لأجلها، وإنما الذي يحصل جر الطيلسان، وطرق الباب، وقول المعرف: حرس الله نعمتك شهادة.
ولما قيل لإبراهيم النخعي: تكون قاضياً. لبس قميصاً أحمر وجلس في السوق. فقالوا: هذا لا يصلح.
ودخل بعض الكبار على الرشيد - وقد أحضره ليوليه القضاء - فسلم وقال له: كيف أنت وكيف الصبيان.
فقيل: هذا مجنون، فيا لله جنون هو العقل.
وما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلاً في أكثر القلوب.
نسأل الله سبحانه سلامة للدين فإنه قادر.
فصل حقيقة الحكمة الإلهية
قد تكرر معناه في هذا الكتاب، إلا أن عادته على النفوس مهمة لئلا يغفل عنه مثله.
ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث، وهذا العلم يوجب نفي الاعتراض على القدر.
وقد لهج خلقٌ بالاعتراض قدحاً في الحكمة، وذلك كفر.
وأولهم إبليس في قوله: " خَلَقْتَنيِ مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " .
ومعنى قوله: أن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة.
وقد رأيت من كان فقيهاً دأبه الاعتراض.
وهذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل، ولو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا حسن أن يعترض عليه.
فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته فاعتراض الناقص الجاهل عليه جنون.
فأما اعتراض الخلعاء فدائم، لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم، فمتى انكسر لأحدهم غرض اعترض.
وفيهم من يتعدى إلى ذكر الموت فيقول: بنى ونقض.
وكان لنا رفيق قرأ القرآن والقراءات وسمع الحديث الكثير، ثم وقع في الذنوب وعاش أكثر من سبعين سنة، فلما نزل به الموت ذكر لي أنه قال: قد ضاقت الدنيا إلا من روحي.
ومن هذا الجنس سمعت شخصاً يقول عند الموت: ربي يظلمني، وهذا كثير.
وكره أن يحكى كلام الخلعاء في جنونهم واعتراضاتهم الباردة.
ولو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة ومارستان صبر ليبين بذلك أثر الخالق لما اعترضوا.
والذي طلبوه من السلامة وبلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا.
فهم كالزورجاري يتلوث بالطين فإذا فرغ لبس ثياب النظافة.
ولما أريد نقض هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نحيت عنه النفس الشريفة بني بناء يقبل الدوام.
وبعد هذا فقل للمعترض: " فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ ليَقْطَعْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظَ " .
قل له: إن اعترض لم يمنع ذلك جريان القدر، وإن سلم جرى القدر.

فلأن يجري وهو مأجور خير من أين يجري وهو مأزور.
وما أحسن سكوت وضاح اليمن لما اختبأ في صندوق، فقال السلطان: أيها الصندوق، إن كان فيك ما نظن فقد محونا أثرك.
وإن لم يكن فليس بدفن خشب من جناح.
فلو أنه صاح ما انتفع بشيء، ولربما أخرج فقتل أقبح قتلة.

فصل قيمة السرور في الدنيا
من تلمح أحوال الدنيا علم أن مراد الحق سبحانه اجتنابها.
فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة، وإلى جانب كل راحة تعباً، وآخر كل لذة نقصاً يزيد عليها.
وما رفع شيء من الدنيا إلا ووضع.
أحب الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فجاء حديث الإفك.
ومال إلى زينب، فجاء: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً " .
ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه فعين العقل ترى فراقه فيتنغص عند وجوده، كما قال الشاعر:
أتم الحزن عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالاً
فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا، فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة، وترك الشواغل، فيجتمع الهم في خدمة الحق.
ومن عدل عن ذلك ندم على الفوات.
فصل العقل
العاقل يدير بعقله عيشته في الدنيا.
فإن كان فقيراً اجتهد في كسب وصناعة تكفه عن الذل للخلق، وقلل العلائق، واستعمل القناعة فعاش سليماً من منن الناس عزيزاً بينهم.
وإن كان غنياً فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق.
ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء.
كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين.
وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه.
ولقد وجد بعض الغسالين مالاً فأكثر النفقة، فعلم به، فأخذ منه المال، وعاد إلى الفقر.
وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره.
ومن الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال، فإنه إن كان قليلاً هان عندها الزوج، وإن كان كثيراً طلبت زيادة الكسوة والحلى.
قال الله عز وجل: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " وكذلك الولد.
وكذلك الأسرار، ينبغي أن تحفظ وأن يحذر منها ومن الصديق، فربما انقلب، فقد قال الشاعر:
إحذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أعلم بالمضرة
بحمد الله تعالى قد نجز ما توخاه الفكر الفاتر من تقييد ما جمعه القلم من صيد الخاطر، متقصراً فيه على ما به التخلي من الأمراض النفسية، والتحلي بالآداب الشرعية، والأخلاق المرضية.
جعله الله تعالى خير هاد على منبر الوعظ والإرشاد، وأنفع كتاب تجلى في مرايا الظهور لهداية العباد.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.