كتاب : آداب الفتوى والمفتي والمستفتي
المؤلف : يحيى بن شرف النووي أبو زكريا

آداب الفتوى والمفتي والمستفتي لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
آداب الفتوى والمفتي والمستفتي
أعلم أن هذا الباب مهم جدا فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه وقد صنف في هذا جماعة من أصحابنا منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي ثم الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح وكل منهم ذكر نفائس لم يذكرها الآخران وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب وبالله التوفيق
مقدمة
في أهمية الإفتاء وعظم خطره وفضله
اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ

ولهذا قالوا المفتي موقع عن الله تعالى
وروينا عن ابن المنكدر قال العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفا تبركا
وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول
وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى في كل ما يسأل فهو مجنون

وعن الشعبي والحسن وأبي حصين بفتح الحاء التابعيين قالوا إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر
وعن عطاء بن السائب التابعي أدركت أقواما يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله
وعن سفيان بن عيينه وسحنون أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما
وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب فقيل له فقال حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب
وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول لا أدري وذلك فيما عرف الأقاويل فيه

وعن الهيثم بن جميل شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدري
وعن مالك أيضا أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب
وسئل عن مسألة فقال لا أدري فقيل هي مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال ليس في العلم شيء خفيف
وقال الشافعي ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه على الفتيا
وقال أبو حنيفة لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة

قال الصيمري والخطيب وقل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره وإن كان كارها لذلك غير موثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب
واستدلا بقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة أو كلت إليها وإن أعطتها عن غير مسألة أعنت عليها

فصل
في معرفة من يصلح للفتوى
قال الخطيب ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق

الإمام إلى معرفة من يصلح الفتيا أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم
ثم روى بإسناده عن مالك رحمه الله قال ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك
وفي رواية ما أفتيت حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك
قال مالك ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه
فصل
في وجوب ورع المفتي وديانته
قالوا وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهورا بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة
وكان مالك رحمه الله يعمل بما لا يلزمه الناس

ويقول لا يكون عالما حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس مما لو تركه لم يأثم وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة

فصل
في شروط المفتي
شرط المفتي كونه مكلفا مسلما ثقة مأمونا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح التصرف والاستنباط متيقظا سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر لأن المفتي في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص فكان كالراوي لا كالشاهد

وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي
قال وذكر صاحب الحاوي إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا صار خصما حكما معاندا فترد فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه
واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين
ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطنا ففيه وجهان
أصحهما جواز فتواه لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة
والثاني لا يجوز كالشهادة والخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين

قال الصيمري وتصح فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه
ونقل الخطيب هذا ثم قال وأما الشراة والرافضة الذين يسبون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة
والقاضي الماوردي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح ورأيت في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد الأسفراييني أن له الفتوى في العبادات وما لا يتعلق بالقضاء وفي القضاء وجهان لأصحابنا
أحدهما الجواز لأنه أهل
والثاني لا لأنه موضع تهمة
وقال ابن المنذر تكره للقضاة الفتوى في

مسائل الأحكام الشرعية
وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي
فصل
في أقسام المفتين
قال أبو عمرو ابن الصلاح المفتون قسمان مستقل وغيره
فالمستقل شرطه مع ما ذكرنا أن يكون قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصلت في كتب الفقه فتيسرت ولله الحمد وأن يكون عالما بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية

اقتباس الأحكام منها وهذا يستفاد من أصول الفقه عارفا من علوم القرآن والحديث والناسخ والمنسوخ والنحو واللغة والتصريف واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك عالما بالفقه ضابطا لأمهات مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأذى به فرض الكفاية وهو المجتهد المطلق المستقل لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد
قال أبو عمرو وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورة لكونه ليس شرطا لمنصب الاجتهاد لأن الفقه ثمرته فيتأخر عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه وشرطه الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما واشتراطه في المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل

ثم لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه كونه حافظا المعظم متمكنا من إدراك الباقي على قرب
وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية
حكى أبو إسحاق وأبو منصور فيه خلافا لأصحابنا والأصح اشتراطه
ثم إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفت مطلق في جميع أبواب الشرع فأما مفت في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان بفتح الباء وغيرهما ومنهم من منعه مطلقا وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة والأصح جوازه مطلقا
القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقل ومن

دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة وللمفتي المنتسب أربعة أحوال
أحدها أن لا يكون مقلدا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد
وادعى الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني هذه الصفة لأصحابنا فحكى عن أصحاب مالك رحمه الله وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم ثم قال والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدا له بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والفتاوى أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي

وذكر أبو علي السنجي بكسر السين المهملة نحو هذا فقال اتبعنا الشافعي دون غيره لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا أنا قلدناه
قلت هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره
قال أبو عمرو دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم وحكى بعض أصحاب الأصول منا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل
ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف
الحالة الثانية أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه مستقلا بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده

وشرطه كونه عالما بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس منصوصا عليه لإمامه بأصوله ولا يعرى عن شوب تقليد له لإخلاله ببعض أدوات المستقل بأن يخل بالحديث أو العربية وكثيرا ما أخل بهما المقيد ثم يتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص الشرع وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه وعليها كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم والعامل بفتوى هذا مقلد لإمامه لا له
ثم ظاهر كلام الأصحاب أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية
قال أبو عمرو ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى وإن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد

الفتوى لأنه قام مقام إمامه المستقل تفريعا على الصحيح وهو جواز تقليد الميت
ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم
وله أن يفتي فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله هذا هو الصحيح الذي عليه العمل وإليه مفزع المفتين من مدد طويلة ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي وما أكثر فوائده
قال الشيخ أبو عمرو وينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره أن ما يخرجه أصحابنا هل تجوز نسبته إلى الشافعي
والأصح أنه لا ينسب إليه
ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه وتارة لا يجده فيخرج على أصوله بأن يجد دليلا على شرط

ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه
فإن نص إمامه على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولا مخرجا
وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصيه فرقا فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق
قلت وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه
الحالة الثالثة أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها يصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم وهذه صفة كثير

من المتأخرين إلى أواخر المئة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج وأما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريبا منه ويقيسون غير المنقول عليه غير مقتصرين على القياس الجلي ومنهم من جمعت فتاويه ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه
الحالة الرابعة أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه وتفريع المجتهدين في مذهبه وما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به والفتوى به وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب

وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه ومثل هذا يقع نادرا في حق المذكور إذ يبعد كما قال إمام الحرمين أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجة تحت ضابط
وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه
قال أبو عمرو وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب

فصل
في بعض مسائل أهلية المفتي
هذه أصناف المفتين وهي خمسة وكل صنف منها يشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم

ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك ولو وقعت له واقعة لزمه أن يسأل عنها ويلتحق به المتصرف النظار البحاث من أئمة الخلاف وفحول المناظرين لأنه ليس أهلا لإدراك حكم الواقعة استقلالا لقصور آلته ولا من مذهب إمام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر
فإن قيل من حفظ كتابا أو أكثر في المذهب وهو قاصر لم يتصف بصفة أحد ممن سبق ولم يجد العامي في بلده غيره هل له الرجوع إلى قوله
فالجواب إن كان في غير بلده مفت يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه فإن تعذر ذكر مسألته للقاصر فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصه وكان العامي فيها مقلدا صاحب المذهب

قال أبو عمرو وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدليل يعضده
وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور عنده وإن اعتقده من قياس لا فارق لأنه قد يتوهم ذلك في غير موضعه
فإن قيل هل لمقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه
قلنا قطع أبو عبد الله الحليمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الروياني وغيرهم بتحريمه وقال القفال المروزي يجوز د
قال أبو عمرو قول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى إمامه الذي قلده فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلا مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا ومن ترك منهم الإضافة

فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به ولا بأس بذلك
وذكر صاحب الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه
أحدها يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده لأنه وصل إلى علمه كوصول العالم
والثاني يجوز إن كان دليلها كتابا أو سنة ولا يجوز إن كان غيرهما
والثالث لا يجوز مطلقا وهو الأصح والله أعلم

فصل
في أحكام المفتين
فيه مسائل
أحداها الإفتاء فرض كفاية فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب في حقهما فرض كفاية وإن لم يحضره غيره فوجهان
أصحهما لا يتعين لما سبق عن ابن أبي ليلى
والثاني يتعين
وهما كالوجهين في مثله في الشهادة ولو سأل عامي عما يقع لم يجب جوابه
الثانية إذا أفتي بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل

به وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلا قاطعا لزم المستفتي نقض عمله ذلك وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه
قال أبو عمرو وإذا كان يفتي على مذهب إمام فرجع لكونه بان له قطعا مخالفة نص مذهب إمامه وجب نقضه وإن كان في محل الاجتهاد لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل إما إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي في علمه كما قبل الرجوع ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض
وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطأه وأنه

خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني أنه يضمن إن كان أهلا للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلا لأن المستفتي قصر كذا حكاه الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح وسكت عليه وهو مشكل وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروفين في بابي الغصب والنكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضمان إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء
الثالثة يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه
فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة
ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع

الحيل المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره
وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل
وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد
ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها الحيلة السريجية في سد باب الطلاق
الرابعة ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وتشغل قلبه وتمنعه التأمل كغضب وجوع

وعطش وحزن وفرح غالب ونعاس أو ملل أو حر مزعج أو مرض مؤلم أو مدافعة حدث وكل حال يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال فإن أفتى في بعض الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطرا بها
الخامسة المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت المال إلا أ يتعين عليه وله كفاية فيحرم على الصحيح ثم إن كان له رزق لم يجز أخذ أجرة أصلا وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم
واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفيتك قولا وأما كتابه الخط فلا فإذا استأجره على كتابة الخط جاز
قال الصيمري والخطيب لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقا من أموالهم على أن يتفرع لفتاويهم جاز

أما الهدية فقال أبو مظفر السمعاني له قبولها بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمها
قال أبو عمرو ينبغي أن يحرم قبولها إن كان رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض
قال الخطيب وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من بيت المال ثم روي بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مئة دينار في السنة
السادسة لا يجوز أن يفتي في الإيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو متنزلا منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها

السابعة لا يجوز لمن كانت فتواه نقلا لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته وبأنه مذهب ذلك الإمام فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم تكن هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منه متفقة وقد تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظما وهو خبير فطن لا يخفى عليه لدربته موضع الإسقاط والتغيير فإن لم يجده إلا في نسخة غير موثوق بها فقال أبو عمرو ينظر فإن وجده موافقا لأصول المذهب وهو أهل لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولا فله أن يفتي به فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل قال الشافعي مثلا كذا وليقل وجدت عن الشافعي كذا أو بلغني عنه ونحو هذا وإن لم يكن أهلا لتخريج مثله لم يجز له ذلك فإن سبيله النقل المحض ولم يحصل ما يجوز له ذلك وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مفصحا بحاله فيقول وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه

قلت لا يجوز لمفت على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه لما فيها من الاختلاف وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بالمذهب بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ومخالف لما عليه الجمهور وربما خالف نص الشافعي أو نصوصا له وسترى في هذا الشرح إن شاء الله تعالى أمثلة ذلك وأرجو إن تم هذا الكتاب أنه يستغنى به عن كل مصنف ويعلم به مذهب الشافعي علما قطعيا إن شاء الله تعالى
الثامنة إذا أفتى في حادثة ثم حدثت مثلها

فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقبلا أو إلى مذهبه إن كان منتسبا أفتى بذلك بلا نظر وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ مايوجب رجوعه فقيل له أن يفتي بذلك والأصح وجوب تجديد النظر ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسأله وكذا تجديد الطلب في التيمم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فيلزمه السؤال ثانيا يعني على الأصح
قال إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفيه السؤال الأول للمشقة
التاسعه ينبغي أن لايقتصر في فتواه على قوله

في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان أو يرجع إلى رأي القاضي ونحو ذلك فهذا ليس بجواب ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الإفتاء كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث الناسي

فصل
في آداب الفتوى
فيه مسائل
إحداهما يلزم المفتي أن يبين الجواب بيانا يزيل الإشكال ثم له الاقتصار على الجواب شفاها فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد لأنه خبر وله الجواب كتابه وإن كانت الكتابة على خطر وكان القاضي أبو حامد المروروذي كثير الهرب من الفتوى في الرقاع

قال الصيمري وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي فأما بإملائه وتهذيبه فواسع
وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قد يكتب السؤال على ورق له ثم يكتب الجواب
وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ولو ترك الترتيب فلا بأس ويشبه معنى قول الله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت 3 سورة آل عمران الآية 106
وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ ثم له أن يستفصل السائل إن حضر ويقيد السؤال في رقعة أخرى ثم يجيب وهذا أولى وأسلم وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ويقول هذا إذا كان الأمر كذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم لكن

هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره وقالوا هذا تعليم للناس الفجور وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل الأقسام واجتهد في بيانها واستيفائها
الثانية ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له بل يكتب جواب ما في الرقعة فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل وإن كان الأمر كذا وكذا فجوابه كذا
واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة ما له تعلق بها مما يحتاج إليه السائل لحديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته
الثالثة إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه فإن ثوابه جزيل
الرابعة ليتأمل الرقعة تأملا شافيا وآخرها آكد فإن السؤال في آخرها وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها

قال الصيمري قال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقعه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده
وكان محمد بن الحسن يفعله
وإذا وجد كلمة مشتبهة سأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها وكذا إن وجد لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعنى أصلحه وإن رأى بياضا في أثناء سطر أو آخره خط عليه أو شغله لأنه ربما قصد المفتي بالإيذاء فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها كما بلي به القاضي أبو حامد المروروذي

الخامسة يستحب أن يقرأها على حاضريه ممن هو أهل لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في إشاعته مفسدة
السادسة ليكتب الجواب بخط واضح وسط لا دقيق خاف ولا غليظ جاف ويتوسط في سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة واستحب بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه خوفا من التزوير ولئلا يشتبه خطه
قال الصيمري وقل ما وجد التزوير على المفتي لأن الله تعالى حرس أمر الدين
وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه خوفا من اختلال وقع فيه أو إخلال ببعض المسؤول عنه

السابعة إذا كان هذا المبتدئ فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى من الورقة
قال الصيمري وغيره وأين كتب من وسط الرقعة أو حاشيتها فلا عتب عليه ولا يكتب فوق البسملة بحال وينبغي أن يدعو إذا أراد الإفتاء
وجاء عن مكحول ومالك رحمهما الله أنهما كانا لا يفتيان حتى يقولا لا حول ولا قوة إلا بالله
ويستحب الاستعاذة من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه و سلم وليقل رب اشرح لي صدري 20 سورة طه الآية 25 الآية ونحو ذلك قال الصيمري وعادة كثيرين أن يبدأوا فتاويهم الجواب وبالله التوفيق وحذف آخرون ذلك
قال الصيمري ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصول وحذف في غيره كان وجها

قلت المختار قول ذلك مطلقا وأحسنه الابتداء بقول الحمد لله لحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أجذم وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه
قال الصيمري ولا يدع ختم جوابه بقوله وبالله التوفيق أو والله أعلم أو والله الموفق
قال ولا يقبح قوله الجواب عندنا أو الذي عندنا أو الذي نقول به أو نذهب إليه أ نراه كذا لأنه من أهل ذلك
قال وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به
قلت وإذا ختم الجواب بقوله والله أعلم ونحوه مما سبق فليكتب بعده كتبه فلان أو فلان بن فلان الفلاني فينتسب إلى ما يعرف به من

قبيلة أو بلدة أو صفة ثم يقول الشافعي أو الحنفي مثلا فإن كان مشهورا بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه
قال الصيمري ورأى بعضهم أن يكتب المفتي بالمداد دون الحبر خوفا من الحك
قال والمستحب الحبر لا غير
قلت لا يختص واحد منهما هنا بالاستحباب بخلاف كتب العلم فالمستحب فيها الحبر لأنها تراد للبقاء والحبر أبقى
قال الصيمري وينبغي إذا تعلقت الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول وعلى ولي الأمر أو السلطان أصلحه الله أو سدده الله أو قوى الله عزمه أو أصلح الله به أو شد الله أزره ولا يقل أطال الله بقاءه فليست من ألفاظ السلف
قلت نقل أبو جعفر النحاس وغيره اتفاق العلماء

على كراهة قول أطال الله بقاءك وقال بعضهم هي تحية الزنادقة وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه
الثامنة ليختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة
قال صاحب الحاوي يقول يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل
وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتي في مسألة آخرها يجوز أم لا فكتب لا وبالله التوفيق
التاسعة قال الصيمري والخطيب إذا سئل عمن قال أنا أصدق من محمد بن عبدالله أو الصلاة لعب وشبه ذلك فلا يبادر بقوله هذا حلال

الدم أو عليه القتل بل يقول إن صح هذا بإقراره أو بالبينة استتابه السلطان فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه
قال وإن سئل عمن تكلم بشيء يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض قال يسأل هذا القائل فإن قال أردت كذا فالجواب كذا
وإن سئل عمن قتل أو قلع عينا أو غيرها احتاط فذكر الشروط التي يجب بجميعها القصاص
وإن سئل عمن فعل ما يوجب التعزير ذكر ما يعزر به فيقول يضربه السلطان كذا وكذا ولا يزاد على كذا هذا كلام الصيمري والخطيب وغيرهما
قال أبو عمرو ولو كتب عليه القصاص أو التعزير بشرطه فليس ذلك بإطلاق بل تقييده بشرطه يحمل الوالي على السؤال عن شرطه والبيان أولى

العاشرة ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفا من الحيلة ولهذا قالوا يصل جوابه بآخر سطر ولا يدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئا يفسدها وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق ولو ضاق باطن الرقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلا أن يبتدئ من أسفلها متصلا بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمه في أسفل ظهرها ليتصل جوابه واختار بعضهم أن يكتب على ظهرها لا على حاشيتها والمختار عند الصيمري وغيره أن حاشيتها أولى من ظهرها
قال الصيمري وغيره والأمر في ذلك قريب
الحادية عشرة إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك

ما عليه وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال بأي شيء تندفع دعوى كذا وكذا أو بينه كذا لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأله عن حاله فيما ادعي عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع
قال الصيمري وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقا يرشده إليه أن ينبهه عليه يعني ما لم يضر غيره ضررا بغير حق
قال كمن حلف لا ينفق على زوجته شهرا يقول يعطيها من صداقها أو قرضا أو بيعا ثم يبرئها
وكما حكي أن رجلا قال لأبي حنيفة رحمه الله حلفت أني أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفر ولا أعصي فقال سافر بها

الثانية عشرة قال الصيمري إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرا له كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل فقال لا توبة له وسأله آخر فقال له توبة ثم قال أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته وأما الثاني فجاء مستكينا قد قتل فلم أقنطه
قال الصيمري وكذا إن سأله رجل فقال إن قتلت عبدي هل علي قصاص فواسع أن يقول إن قتلت عبدك قتلناك فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من قتل عبده قتلناه ولأن القتل له معان
قال ولو سئل عن سب الصحابي هل يوجب القتل فواسع أن يقول روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من سب أصحابي فاقتلوه فيفعل كل هذا زجرا

للعامة ومن قل دينه ومروءته
الثالثة عشرة يجب على المفتي عند اجتماع الرقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا أو جهل السابق قدم بالقرعة والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضرر كثير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة ثم لا يقدم أحدا إلا في فتيا واحدة
الرابعة عشرة قال الصيمري وأبو عمرو إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من موانع الميراث بل

المطلق محمول على ذلك بخلاف ما أطلق الأخوة والأخوات والأعمام وبينهم فلا بد أن يقول في الجواب من أب وأم أو من أب أو من أم وإذا سئل عن مسألة عول كالمنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل للزوجة الثمن ولا التسع لأنه لم يطلقه أحد من السلف بل يقل لها الثمن عائلا وهي ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين أو لها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين أو يقول ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه صار ثمنها تسعا وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال وسقط فلان وإن كان سقوطه في حال دون حال قال وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال
وإذا سئل عن أخوة وأخوات أو بنين وبنات فلا ينبغي أن يقول للذكر مثل حظ الأنثيين 4 سورة النساء الآية 11 فإن ذلك قد يشكل

على العامي بل يقول يقتسمون التركة على كذا وكذا سهما لكل ذكر كذا وكذا سهما ولكل أنثى كذا وكذا سهما قاله الصميري
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس لكونه لفظ القرآن العزيز وأنه قل ما يخفى معناه على أحد
وينبغي أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز والتحفظ وليقل فيها لفلان كذا وكذا بميراثه من أبيه ثم من أمه ثم من أخيه
قال الصيمري وكان بعضهم يختار أن يقول لفلان كذا وكذا سهما ميراثه من أبيه كذا ومن أمه كذا ومن أخيه كذا
قال وكل هذا قريب

قال الصيمري وغيره وحسن أن يقول تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا
الخامسة عشرة إذا رأى المفتي رقعة الاستفتاء وفيها خط غيره ممن هو أهل للفتوى وخطه فيها موافق لما عنده
قال الخطيب وغيره كتب تحت خطه هذا جواب صحيح وبه أقول أو كتب جوابي مثل هذا وإن شاء ذكر الحكم بعبارة ألخص من عبارة الذي كتب
وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهلا للفتوى فقال الصيمري لا يفتي معه لأن في ذلك تقريرا منه لمنكر بل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرقعة ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز لكن ليس له احتباس الرقعة إلا بإذن صاحبها

قال وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنه كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى وطلب من هو أهل لذلك وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فواسع أن يمتنع من الفتوى معه خوفا مما قلناه
قال وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها
قال والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بإبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها
قال أبو عمرو وإذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم للأهلية ولم تكن خطأ عدل إلى الإمتناع من الفتيا معه فإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا معه ضارا بالمستفتين فليفت معه فإن ذلك أهون الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله

أما إذا وجد فتيا من هو أهل وهي خطأ مطلقا بمخالفتها القاطع أو خطأ على مذهب من يفتي ذلك المخطئ على مذهبه قطعا فلا يجوز له الامتناع من الإفتاء تاركا للتنبيه على خطئها إذا لم يكفه ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره أو الإبدال وتقطيع الرقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ ثم إن كان المخطئ أهلا للفتوى فحسن أن تعاد إليه بإذن صاحبها أما إذا وجد فيها فتيا أهل للفتوى وهي على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطئها فليقتصر على كتب جواب نفسه ولا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض
قال صاحب الحاوي لا يسوغ لمفت إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئه ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة

السادسة عشرة إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصيمري يكتب يزاد في الشرح لنجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب
قال وقال بعضهم لا يكتب شيئا أصلا
قال ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاها
وقال الخطيب ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفت آخر إن كان وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب
قال الصيمري وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كلها ولم يرد

الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة أجاب عما أراد وسكت عن الباقي وقال لنا في الباقي نظر أو تأمل أو زيادة نظر
السابعة عشرة ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا
قال الصيمري لا يذكر الحجة إن أفتي عاميا ويذكرها إن أفتى فقيها كمن يسأل عن النكاح بلا ولي فحسن أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نكاح إلا بولي أو عن رجعة المطلقة بعد الدخول فيقول له رجعتها قال الله تعالى وبعولتهن أحق بردهن 2 سورة البقرة الآية 228
قال ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجهة القياس والاستدلال إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوح بالنكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلط فيفعل

ذلك لينبه على ما ذهب إليه ولو كان في ما يفتي به غموض فحسن أن يلوح بحجته
وقال صاحب الحاوي لا يذكر حجة ليفرق بين الفتيا والتصنيف
قال ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ولصار المفتي مدرسا والتفصيل الذي ذكرناه أولى من إطلاق صاحب الحاوي المنع
وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال
الثامنة عشرة قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله

ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وإن قل ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة إن الثابت فيها في نفس الأمر ما هو اللائق فيها بجلال الله تبارك وتعالى وكماله وتقديسه المطلق فيقول ذلك معتقدنا فيها وليس علينا تفصيله وتعيينه وليس البحث عنه من شأننا بل نكل علم تفصيله إلى الله تبارك وتعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى في ذلك وهو سبيل سلف الأمة وأئمة المذاهب المعتبرة وأكابر العلماء والصالحين وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم ومن كان منهم اعتقد اعتقادا باطلا تفصيلا ففي هذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم

وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيغ بفتح الصاد المهملة الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك
قال والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة وبأنها أسلم لمن سلمت له وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي إن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك
واستفتي الغزالي في كلام الله تبارك وتعالى فكان من جوابه وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين وإنما هو من المضلين ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر ومن يدعو الزمن

المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب
وقال في رسالة له الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله تعالى وأخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير بحث وتفتيش والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل
وقال الصيمري في كتابه أدب المفتي والمستفتي أن مما أجمع عليه أهل التقوى أن من كان موسوما بالفتوى في الفقه لم ينبغ وفي نسخه لم يجز له أن يضع خطه بفتوى في مسألة من علم الكلام
قال وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة
قال وكره بعضهم أن يكتب ليس هذا من علمنا أو ما جلسنا لهذا أو السؤال عن غير هذا

أولى بل لا يتعرض لشيء من ذلك
وحكى الإمام الحافظ الفقيه أبو عمرابن عبد البر الامتناع من الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى قال وإنما خالف ذلك أهل البدع
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلا وذلك بأن يكون جوابها مختصرا مفهوما ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون والسؤال عنه صادر عن مسترشد خاص منقاد أو من عامة قليلة التنازع والمماراة والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذلك منهم قليل نادر والله أعلم
التاسعة عشرة قال الصيمري والخطيب

رحمهما الله وإذا سئل فقيه عن مسألة من تفسير القرآن العزيز فإن كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطه بذلك كمن سئل عن الصلاة الوسطى والقرء ومن بيده عقدة النكاح وإن كانت ليست من مسائل الأحكام كالسؤال عن الرقيم والنقير والقطمير والغسلين رده إلى أهله ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير ولو أجابه شفاها لم يستقبح هذا كلام الصيمري والخطيب
ولو قيل إنه يحسن كتابته للفقيه العارف به لكان حسنا وأي فرق بينه وبين مسائل الأحكام والله أعلم

فصل
في آداب المستفتي وصفته وأحكامه
فيه مسائل
إحداها في صفة المستفتي
كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مستفت مقلد من يفتيه والمختار في التقليد أنه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام
الثانية يجب عليه قطعا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفا بأهليته

فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلا للفتوى
وقال بعض أصحابنا المتأخرين إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس
والصحيح هو الأول لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته
ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي المصنف رحمه الله وغيره يقبل في أهليته خبر العدل الواحد

قال أبو عمرو وينبغي أن يشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك
وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعيانهم والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان
أحدهما لا يجب بل له استفتاء من شاء منهم لأن الجميع أهل وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين قالوا وهو قول أكثر أصحابنا
والثاني يجب ذلك لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال وهذا الوجه قول أبي العباس ابن سريج واختيار القفال المروزي وهو الصحيح عند القاضي حسين والأول أظهر وهو الظاهر من حال الأولين

قال أبو عمرو رحمه الله لكن متى اطلع على الأوثق فالأظهر أنه يلزمه تقليده كما يجب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح
وفي جواز تقليد الميت وجهان
الصحيح جوازه لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها ولهذا يعتد بها بعدهم في الإجماع والخلاف ولأن موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه
والثاني لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار
الثالث هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء

قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح ينظر إن كان منتسبا إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا
أحدهما لا مذهب له لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما
والثاني وهو الأصح عند القفال له مذهب فلا يجوز له مخالفته
وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه وإن لم يكن منتسبا بنى على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه
أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده عالما بعينه فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب

وأصحهما أصلا ليقلد أهله
فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتيين
والثاني يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضي إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين ونحن نمهد له طريقا يسلكه في اجتهاده سهلا فنقول أولا ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه آباءه وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين وإن

كانوا أعلم وأعلا درجة ممن بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة وغيرهما
ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة في العصر ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤونة التصوير والتأصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال معرفته وبراعته في العلوم وترجحه في ذلك على من سبقه ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد وهذا مع ما فيه من الإنصاف والسلامة من القدح في أحد من الأئمة جلي واضح إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب

الشافعي والتمذهب به
الرابعة إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب
أحدها يأخذ بأغلظهما
والثاني بأخفهما
والثالث يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة
والرابع يسأل مفتيا آخر فيأخذ بفتوى من وافقه
والخامس يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء وهذا هو الصحيح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف

وعند الخطيب البغدادي ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه
وقال الشيخ أبو عمرو المختار أن عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتيين فيعمل بفتواه وإن لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر وعمل بفتوى من وافقه فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في التحريم والإباحة وقبل العمل اختار التحريم فإنه أحوط وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما وإن أبينا التخيير في غيره لأنه ضرورة وفي صورة نادرة
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتيين وأما العامي الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتيا آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به

وهذا الذي اختاره الشيخ ابن الصلاح ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة وهي الثالث والرابع والخامس والظاهر أن الخامس أظهرها لأنه ليس من أهل الاجتهاد وإنما فرضه أن يقلد عالما أهلا لذلك وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منها والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى أمارتها معنوية فلا يظهر كبير تفاوت بين المجتهدين والله أعلم
الخامسة قال الخطيب البغدادي إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه مفت إلا واحد فأفتاه لزمه فتواه
وقال أبو المظفر السمعاني رحمه الله إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه
قال ويجوز أن يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحته

قال السمعاني وهذا أولى الأوجه
قال الشيخ أبو عمرو لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره ثم اختار هو أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده
قال الشيخ أبو عمرو والذي تقتضيه القواعد أن نفصل فنقول إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الأخذ بفتياه ولا يتوقف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته
وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به بناء على الأصح في تعينه كما سبق وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد افتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده

ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ
السادسة إذا استفتى فأفتي ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال
فيه وجهان
أحدهما يلزمه لاحتمال تغير رأي المفتي
والثاني لا يلزمه وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم الأول والأصل استمرار المفتي عليه

وخصص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حيا وقطع فيما إذا كان ذلك خبرا عن ميت بأنه لا يلزمه والصحيح أنه لا يختص فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه
السابعة أن يستفتي بنفسه وله أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك الجواب بخطه
الثامنة ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك أو الشافعي في كذا ولا يقل إذا أجابه هكذا قلت أنا أو كذا وقع لي ولا يقل أفتاني فلان أو غيرك بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقا لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب

وينبغي أن يبدأ بالأسن الأعلم من المفتين وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة فإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحا لا مختصرا مضرا بالمستفتي ولا يدع الدعاء في رقعة لمن يستفتيه
قال الصيمري فإن اقتصر على فتوى واحد قال ما تقول رحمك الله أو رضي الله عنك أو وفقك الله وسددك ورضي عن والديك ولا يحسن أن يقول رحمنا الله وإياك
وإن أراد جواب جماعة قال ما تقولون رضي الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى
ويدفع الرقعة إلى المفتي منشورة ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها

التاسعة ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف
قال الصيمري يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده
وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل ولا يقل لم قلت فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة طلبها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة
وقال السمعاني لا يمنع من طلب الدليل وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه
والصواب الأول

العاشرة إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا ولا أحدا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا في غيره
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك فلا يؤآخذ إذا صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها والله أعلم