كتاب : الإمام في بيان أدلة الأحكام
المؤلف : الإمام عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام السلمي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ المجتهد الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله هذا بيان لأدلة الأحكام المتعلقة بالملائكة والمرسلين وسائر العالمين والأحكام ضربان أحدهما ما كان طلبا لاكتساب فعل أو تركه والثاني ما لا طلب فيه كالإباحة ونصب الأسباب

والشرائط والموانع والصحة والفساد وضرب الآجال

وتقدير الأوقات والحكم بالقضاء والأداء والتوسعة والتضييق والتعيين والتخيير ونحو ذلك من الأحكام الوضعية الخبرية ثم لا يتعلق طلب ولا تخيير إلا بفعل كسبي ولا يمدح الشرع شيئا من أفعال ولا يذمه ولا يمدح فاعله ولا يذمه ولا يوبخ عليه ولا ينكره ولا يعد عليه بثواب ولا عقاب إلا أن يكون كسبيا

فإن علق شيء من ذلك بفعل جبلي كان متعلقا بآثاره كقوله تعالى { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وقوله صلى الله عليه وسلم إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة وقد تذكر الأوصاف الخمسة الجبلية في معرض الامتنان كقوله تعالى { فأحسن صوركم } وقوله { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وأما الحكم الوضعي فيجوز أن يعلق بسبب كسبي كنصب الزنا أو السرقة سببا للحد والقطع وكنصب القتل سببا للقصاص

ويجوز أن يعلق بما ليس بكسبي كنصب الزوال سببا لإيجاب الظهر والصبح سببا لإيجاب الفجر ورؤية الهلال لإيجاب الصيام وجل الأحكام في هذا الكتاب على بيان أدلة ما فيه طلب أو تخيير ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وتارة بالأخبار وتارة بما

رتب عليها في العاجل والآجل من خير أو شر أو ضر وقد نوع الشارع ذلك أنواعا كثيرة ترغيبا لعباده وترهيبا وتقريبا إلى أفهامهم فتارة يرغب في الفعل يمدحه أو يمدح فاعله أو بما رتبه على الفعل من خير الدنيا والآخرة وتارة يحذر من الفعل بذمة أو ذم فاعله أو توعده على الفعل بشر عاجل أو أجل وكل ذلك راجع إلى المنافع والمضار لكن ذكر أنواع المنافع والمضار ليعلم عباده ما هم صائرون إليه من أنواع بره وإنعامه أو من أنواع تعذيبه وانتقامه فإنه لو اقتصر على ذلك النفع والضر لما أنبأ عما ينبىء عنه لفظ المحبة والبغض ولفظ الرضا والسخط والتقريب والإبعاد والشقاوة والإسعاد فإن اللذة والألم تتفاوت بهذه الأسباب تفاوتا شديدا ولهذه الأوصاف آثار لا يخفى تفاوتها على

أحد فلذلك عول إليها ليقف عباده على درجاتهم ودركاتهم من عالم خفياتهم فسبحان من رتب خير الدارين على معرفته وطاعته وشر الدارين على معصيتة ومخالفته { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } ثم أدلة الأحكام ضربان أحدهما لفظي يدل بالصيغة تارة وبلفظ الخبر أخرى

والثاني معنوي يدل دلالة لزوم إما بواسطة وإما بغير واسطة فكل فعل طلبه الشارع أو أخبر عن طلبه أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو نصبه سببا لخير عاجل أو أجل فهو مأمور به وكل فعل طلب الشارع تركه أو أخبر أنه طلب تركه أو ذمه أو ذم فاعله لأجله أو نصبه سببا لشر عاجل أو أجل فهو منهي عنه وكل فعل خير الشارع فيه مع استواء طرفيه أو أخبر عن تلك التسوية فهو مباح

ويتصرم عرض هذا الكلام بعشرة فصول

الفصل الأول
في الدلالة اللفظية أما الصيغية فكقوله تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } فخذوا أمر وكلوا واشربوا إباحة ولا تسرفوا نهي { اصبروا وصابروا ورابطوا } { اركعوا واسجدوا واعبدوا } { ولا تهنوا ولا تحزنوا } { ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا } { كلوا مما رزقكم الله }

{ كلوا مما في الأرض } { وإذا حللتم فاصطادوا } ومثال الخبر عن الإباحة { أحل لكم صيد البحر وطعامه } { أحل لكم الطيبات } { وأحل لكم ما وراء ذلكم } { ويحل لهم الطيبات } فائدة تمنن الرب بما خلق في الأعيان من المنافع يدل على الإباحة دلالة عرفية إذ لا يصح التمنن بممنوع مثاله كقوله تعالى { وتحمل أثقالكم } { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } { وبالنجم هم يهتدون }

الفصل الثاني
في تقريب أنواع أدلة الأمر كل فعل كسبي عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو فرح به أو أحبه أو أهب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب أو أقسم به أو بفاعله أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره أو لشكره أو لهداية أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه أو لتكفيره أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارته أو وصف فاعله بالطيب أو وصفه بكونه معروفا أو نقي الحزن والخوف عن فاعله أو وعده بالأمن أو نصبه سببا لولاية الله تعالى أو وصف فاعله بالهداية أو وصفه بصفة مدح كالحياة والنور والشفاء أو دعا الله به الأنبياء فهو مأمور به فنذكر بعض أمثلة هذه الأنواع وهي ثلاثة وثلاثون مثالا

المثال الأول تعظيم الفعل وتوقيره { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { هي أشد وطأ وأقوم قيلا } وكذلك الإتسام بالفعل وضرب من تعظيمه وتوقيره { وإنك لعلى خلق عظيم } المثال الثاني مدح الفعل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } { ذلكم خير لكم } { ذلكم أزكى لكم وأطهر } { ومن أحسن دينا } { ومن أحسن قولا } { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } { إن ذلك لمن عزم الأمور } { ويؤت كل ذي فضل فضله } المثال الثالث مدح الفاعل { أولئك هم المفلحون } { وأولئك هم المهتدون }

{ أولئك هم الراشدون } { نعم العبد إنه أواب } { أولئك هم خير البرية } { وأولئك هم أولوا الألباب } المثال الرابع الفرح بالفعل لله أفرح بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها المثال الخامس حب الفعل إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل لا أحد

أحب إليه العذر من الله تعالى وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة وقوله إنك عفو تحب العفو أي يحب أن يعفو بعضنا عن بعض

السادس حب الفاعل { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } { يحب المتقين } يحب الصابرين { يحب المحسنين } { يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } السابع الرضا بالفعل { ورضيت لكم الإسلام دينا } { وإن تشكروا يرضه لكم } { ورضي له قولا } { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } { وأن أعمل صالحا ترضاه } الثامن الرضا عن الفاعل { رضي الله عنهم } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } { ورضوان من الله أكبر } التاسع رضا الفاعل عن ربه { ورضوا عنه } { لعلك ترضى }

{ عيشة راضية } العاشر وصف الفعل بالاستقامة { الصراط المستقيم } { ذلك الدين القيم } { لكان خيرا لهم وأقوم } { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } { دينا قيما } { ثم استقاموا } { وذلك دين القيمة } الحادي عشر وصف الفعل بالبركة { تحية من عند الله مباركة طيبة } التحيات المباركات الطيبات لله

الثاني عشر وصف الفعل بكونه قربة { ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم } { واسجد واقترب } ومن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا الثالث عشر وصف الفاعل بالتقريب { أولئك المقربون } { عينا يشرب بها المقربون } { عند مليك مقتدر } { لهم أجرهم عند ربهم } أنا جليس من ذكرني

الرابع عشر وصف الفعل بالطيب { وهدوا إلى الطيب من القول } { مثلا كلمة طيبة } { إليه يصعد الكلم الطيب } طبت وطاب ممشاك التحيات المباركات الطيبات لله الخامس عشر وصف الفاعل بالطيب { قل لا يستوي الخبيث والطيب } { ليميز الله الخبيث من الطيب } { تتوفاهم الملائكة طيبين } { سلام عليكم طبتم } السادس عشر القسم بالفاعل { والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا } { فالمقسمات أمرا } { والمرسلات عرفا } إن جعلناه لجماعة الرسل أو الملائكة { ولا أقسم بالنفس اللوامة }

أقسم بنفس المؤمن لكثرة لومها إياه في ذات الله تعالى والإقسام بخيل المجاهدين في قوله { والعاديات ضبحا } تنبيه على تعظيم المجاهدين وتوقيرهم بطريق الأولى السابع عشر القسم بالفعل كقوله { والفجر وليال عشر والشفع والوتر }

إن حمل على الصلوات فإنه يرجع إلى تعظيم الفعل فإنهم لا يقسمون إلا بما يحترمون ويعظمون الثامن عشر نصب الفعل سببا لمحبة الله تعالى { فاتبعوني يحببكم الله } ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه { يحبهم ويحبونه } وفيه نظر التاسع عشر نصب الفعل سببا لثواب عاجل { فآتاهم الله ثواب الدنيا } { وآتيناه أجره في الدنيا } { وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }

{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } { سيجعل لهم الرحمن ودا } كما في الحديث إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل أني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } على أحد الأقوال { آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين }

{ يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى } { يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم } { يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين } { يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } إن الله لا يظلم المؤمن من حسناته شيئا يعطى بها في الدنيا ويثاب بها في الآخرة العشرون نصب الفعل سببا لثواب آجل وهو أكثر وعود القرآن { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } الحادي والعشرون نصب الفعل سببا لذكر الله تعالى { فاذكروني أذكركم }

{ ولذكر الله أكبر } أي ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وأكثر الثاني والعشرون نصب الفعل سببا لشكر الله عز وجل { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } { وكان الله شاكرا عليما } { إن ربنا لغفور شكور } الثالث والعشرون نصب الفعل سببا للهداية { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } أي هداية تفرقون بها بين الحق والباطل { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } { ولهديناهم صراطا مستقيما }

{ يهديهم ربهم بإيمانهم } { فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما } الرابع والعشرون نصب الفعل سببا لمغفرة الخطيئات وتكفير السيئات { إن الحسنات يذهبن السيئات } { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم } { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته } { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم } من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } دخل فيه ما تركه كبيرة من المأمورات والصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر

الخامس والعشرون نصب الفعل سببا لإصلاح العمل { اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم } { لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } جعل الله العمل سببا للتثبيت السادس والعشرون نصب الفعل سببا لقبول العمل { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } { فتقبلها ربها بقبول حسن } { إنما يتقبل الله من المتقين } { فتقبل من أحدهما } السابع والعشرون نصب الفعل سببا لمعونة الفاعل ونصرته { أن الله مع المتقين } { والله يحب المحسنين } { إن الله مع الصابرين } { ولينصرن الله من ينصره } { إن تنصروا الله ينصركم } الثامن والعشرون نصب الفعل سببا للبشارة { وبشر المؤمنين } { وبشر الصابرين } { وبشر المحسنين } { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان }

{ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار } التاسع والعشرون وصف الفعل بكونه معروفا في الأصناف { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } { خذ العفو وأمر بالعرف } { تأمرون بالمعروف } { وقولوا لهم قولا معروفا } { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف } الثلاثون نفي الحزن والخوف عن الفاعل { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { ألا تخافوا ولا تحزنوا } { فلا يخاف ظلما ولا هضما } الحادي والثلاثون الوعد بأمن الآخرة { ادخلوها بسلام آمنين } { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } { وهم في الغرفات آمنون } { أم من يأتي آمنا يوم القيامة } { أولئك لهم الأمن } فيه نظر الثاني والثلاثون دعاء الأنبياء بالفعل { توفني مسلما وألحقني بالصالحين }

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا } الثالث والثلاثون نصب الفعل سببا لولاية الله تعالى { الله ولي الذين آمنوا } { وهو يتولى الصالحين } { وهو وليهم بما كانوا يعملون } وقد يتعلق بعض هذه الأدلة باجتناب الحرام كقوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } فإنه مدحهم باجتناب المحرم كما مدحهم بفعل الواجب ولذلك مدحهم بقوله { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } وكل هذه الأدلة عائدة إلى المدح والوعد ولكن لما اختلفت أنواع الوعود والمدائح عددت هذه الأنواع لينتفع بها المتدرب في مضانها

{ بالصالحين } { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا } الثالث والثلاثون نصب الفعل سببا لولاية الله تعالى { الله ولي الذين آمنوا } { وهو يتولى الصالحين } { وهو وليهم بما كانوا يعملون } وقد يتعلق بعض هذه الأدلة باجتناب الحرام كقوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } فإنه مدحهم باجتناب المحرم كما مدحهم بفعل الواجب ولذلك مدحهم بقوله { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } وكل هذه الأدلة عائدة إلى المدح والوعد ولكن لما اختلفت أنواع الوعود والمدائح عددت هذه الأنواع لينتفع بها المتدرب في مضانها

الفصل الثالث
في تقريب أنواع الأدلة النهي عن كل فعل كسبي طلب الشارع تركه أو عتب على فعله أو ذمه أو ذم فاعله لأجله أو مقنه أو مقته فاعله لأجله أو نفى محبته إياه أو محبة فاعله أو نفى الرضا به أو نفى الرضا عن فاعله أو شبه فاعله بالبهائم أو الشياطين أو نصبه مانعا من الهدى أو من القبول أو وصفه بسوء أو كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو بغضوه أو نصب سببا لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل أو لذم أو لوم أو لضلالة أو معصية أو وصف بخبث أو رجس أو نجس أو بكونه إثما أو فسقا أو سببا لإثم أو زجر أو لعن أو غضب أو زوال نعمة أو حلول نقمة أو حد من الحدود أو لارتهان النفوس أو لقسوة أو خزي عاجل أو آجل أو لتوبيخ عاجل أو آجل أو لعداوة الله تعالى أو محاربته أو لاستهزائه

وسخريته أو جعله الرب سببا لنسيانه أو وصف نفسه بالصبر عليه أو بالحلم أو بالصفح عنه أو العفو عنه أو المغفرة لفاعله أو التوبة منه في أكثر المواضع أو وصف فاعله بخبث أو احتقار أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه أو تولي الشيطان فاعله أو وصفه بصفة ذم كالظلمة والمرض وتبرأ الأنبياء منه أو من فاعله أو شكوا إلى الله من فاعله أو جاهروا فاعله بالبراءة والعداوة أو نهي الأنبياء عن الأسى والحزن على فاعله أو نصب سببا لخيبة عاجلة أو آجلة أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها أو وصف فاعله بأنه عدو الله أو بأن الله عدوه أو حمل فاعله إثم غيره أو يلاعن فاعلوه في الآخرة أو تبرأ بعضهم من بعض أو دعا بعضهم على بعض أو وصف فاعله بالضلالة أو سئل فاعله عن علته في غالب الأمر بعرف الاستعمال أو نهي الأنبياء عن الدعاء لفاعله أو رتب عليه إبعاد أو طرد أو لفظ قتل أو وصف الرب نفسه بالغيرة منه فكل ذلك منهي عنه وكل ذلك راجع إلى الذم والوعيد ولكنه نوع ليكون ذكر أنواعه أبلغ في الزجر فنذكر نبذة من أمثلة هذه الأنواع وهي سبعة

وأربعون مثالا الأول العتب على الفاعل { عفا الله عنك لم أذنت لهم } { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } إلى قوله { والله أحق أن تخشاه } { لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } { عبس وتولى } إلى قوله { كلا } الثاني ذم الفعل { لبئس ما كانوا يصنعون } { ساء ما يحكمون } { لقد جئتم شيئا إدا } { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } { ومثل كلمة خبيثة } { ولبئس ما شروا به أنفسهم } { بئسما خلفتموني من بعدي } الثالث ذم الفاعل { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } { فأولئك هم الظالمون } { وأولئك هم المعتدون } { ألا إنهم هم المفسدون } { أولئك هم شر البرية } { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين }

{ إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } الرابع مقت الفعل { إنه كان فاحشة ومقتا } { كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } الخامس مقت الفاعل { ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } السادس نفي محبة الفعل { والله لا يحب الفساد } { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } السابع نفي محبة الفاعل { لا يحب المفسدين } { لا يحب الكافرين } { لا يحب الخائنين } { لا يحب المعتدين } { لا يحب من كان خوانا أثيما } { لا يحب كل مختال فخور } الثامن نفي الرضا بالفعل { ولا يرضى لعباده الكفر }

التاسع نفي الرضا عن الفاعل فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين العاشر تشبيه الفاعل بالبهائم أو الشياطين أو الكفرة { فمثله كمثل الكلب } { إن هم إلا كالأنعام } { كمثل الحمار يحمل أسفارا } { كأنهم حمر مستنفرة } { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } { إنكم إذا مثلهم } { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } الحادي عشر نصب الفعل سببا لحرمان الهدى { لا يهدي القوم الكافرين } لما يرشدهم إليه ويقربهم منه { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم } { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون } أي عن فهم آياتي أو تدبر آياتي الثاني عشر نصب الفعل سببا لحرمان القبول { إنما يتقبل الله من المتقين } { لن تقبل توبتهم } { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله }

{ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } الثالث عشر وصف الفعل بالسوء والكراهة { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } { ويعفو عن السيئات } { ويكفر عنكم من سيئاتكم } وفي الحديث ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال الرابع عشر إستعاذة الأنبياء من الفعل { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } { أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } أي مسألة { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } وفي الحديث وأعوذ بك أن أزل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي استعاذوا من المخالفات كما استعاذوا من البليات

الخامس عشر إبغاص الأنبياء للفعل وكراهتهم له { قال إني لعملكم من القالين } { قال أولو كنا كارهين } السادس عشر نصب الفعل سببا لنفي الفلاح { إنه لا يفلح الكافرون } { إنه لا يفلح الظالمون } { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } { ولا يفلح الساحر حيث أتى } وفي الحديث لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة السابع عشر نصب الفعل سببا لعذاب عاجل { فكلا أخذنا بذنبه } { فأخذهم الله بذنوبهم } { فكذبوه فأهلكناهم } { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } { لهم عذاب في الحياة الدنيا }

{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } { فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا } { سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا } الآية { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } { لهم في الدنيا خزي } { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله } { فأثابكم غما بغم } { فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين } { فالتقمه الحوت وهو مليم } { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا } { فإن له معيشة ضنكا } { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } إلى قوله { ذلك جزيناهم ببغيهم } { مما خطيئاتهم أغرقوا } الثامن عشر نصب الفعل سببا لعذاب آجل وهو أكثر وعيد القرآن

{ إنما يأكلون في بطونهم نارا } { فسوف نصليه نارا } { أولئك أصحاب الجحيم } إنما يجرجر في بطنه نار جهنم التاسع عشر نصب الفعل سببا لذم أو لوم { فتقعد مذموما مخذولا } { فتقعد ملوما محسورا } فتلقى في جهنم ملوما مدحورا { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم } { فالتقمه الحوت وهو مليم } { اخرج منها مذؤوما مدحورا } العشرون نصب الفعل سببا لمعصية أو ضلالة { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } { بل طبع الله عليها بكفرهم } { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }

{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } { فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } { والله أركسهم بما كسبوا } { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } الحادي والعشرون وصف الفعل بالرجس أو الخبث { رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } { الخبيثات للخبيثين } { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } { ومثل كلمة خبيثة } الثاني والعشرون وصف الفاعل بأنه رجس أو نجس { فأعرضوا عنهم إنهم رجس } { إنما المشركون نجس }

الثالث والعشرون وصف الفعل بكونه فسقا { فإنه فسوق } { أو فسقا أهل لغير الله به } فيه نظر لأن الفسق هاهنا صفة للمهل به لكن يجوز أن يقدر أو ذا فسق أهل لغير الله به فحذف المضاف { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الرابع والعشرون وصف الفعل بكونه إثما أو سبب إثما { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } { ومن يكسب خطيئة أو إثما } { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } { فيهما إثم كبير } الخامس والعشرون وصف الفعل بأنه سبب رجس أو لعن أو غضب { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه } { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون }

السادس والعشرون نصب الفعل سببا لزوال نعمة أو حلول نقمة { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم } { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } { فأصبحت كالصريم } { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } السابع والعشرون نصب الفعل سببا لحد { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } الآية { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } 10 { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } 11 { فاجلدوهم ثمانين جلدة } 12 { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما }

الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة

الثامن والعشرون نصب الفعل سببا لارتهان النفوس { كل نفس بما كسبت رهينة } { كل امرئ بما كسب رهين } التاسع والعشرون الذم بالقسوة ونصب الفعل سببا لقسوة أو لخزي { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } 6 { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } 7 { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } 8 { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } 9 { فأذاقهم الله الخزي } 10 { ذلك الخزي العظيم } 11 { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت } الآية 12 الثلاثون التوبيح على الفعل عاجلا أم آجلا { أتعبدون ما تنحتون } 14 { أتأتون الذكران من العالمين } { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } 16 { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } 17 { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها }

{ ألم يأتكم رسل منكم } { أليس هذا بالحق } الحادي والثلاثون نصب الفعل سببا لعداوة الله ومحاربته { فإن الله عدو للكافرين } 5 { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } 6 الثاني والثلاثون نصبه سببا لسخرية الله ونسيانه واستهزائه { الله يستهزئ } 9 { سخر الله منهم } 10 { نسوا الله فنسيهم } 11 { اليوم ننساكم } 12 { وكذلك اليوم تنسى } 13 الثالث والثلاثون وصف الرب تعالى بالحلم والعفو والصبر والصفح والمغفرة والنعمة والتوبة لا حلم ولا صفح ولا مغفرة ولا عفو ولا صبر إلا على مذنب أو عن مذنب ولا توبة في الأغلب إلا عن ذنب والذنب هو المخالفة لاقتضاء الأمر أو النهي ولا يكون الصبر

إلا على مكروه أو عن محبوب لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل وقد تطلق التوبة باعتبارات أخر ولكن غلب عرف الشرع على بعض مسميات التوبة الرابع والثلاثون نسبة الفعل أو الفاعل إلى الشيطان وتوليه وتزيينه { رجس من عمل الشيطان } { قال هذا من عمل الشيطان } { وزين لهم الشيطان أعمالهم } { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } { فهو وليهم اليوم } { أولئك حزب الشيطان } { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا }

الخامس والثلاثون تشبيه الفعل بالمذمومات { في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } السادس والثلاثون تبرأ الأنبياء صلى الله عليه وسلم من الفاعل وإظهار عدواته { إنني براء مما تعبدون } { إنا برآء منكم ومما } تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا السابع والثلاثون شكوى الأنبياء من الفاعل { رب إن قومي كذبون } { أن هؤلاء قوم مجرمون } { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } { إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } { إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } الثامن والثلاثون نهي الأنبياء عن الأسى والحزن على الفاعل { فلا تأس على القوم الفاسقين } { فلا تأس على القوم الكافرين } { ولا تحزن عليهم } { فكيف آسى على قوم كافرين } التاسع والثلاثون عداوة الله للفاعل وحرمان ثوابه { فإن الله عدو للكافرين }

{ عدوي وعدوكم } { ويوم يحشر أعداء الله } { إن الله حرمهما على الكافرين } { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } الأربعون تحقير الفاعل وحجبه { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } أي قدرا { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } { فما بكت عليهم السماء والأرض } { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } الحادي والأربعون نصب الفعل محبطا للعمل الصالح { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } { ضل سعيهم في الحياة الدنيا } { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } الثاني والأربعون نصب الفعل سببا لخيبة عاجلة أوآجلة { وقد خاب من حمل ظلما } { وقد خاب من افترى }

الثالث والأربعون نفي ولاية الفاعل ونصرته { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } { وما لهم من ناصرين } { من ينصرني من الله إن طردتهم } { فمن ينصرني من الله إن عصيته } الرابع والأربعون نهي الأنبياء عن الدعاء للفاعل { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } { فلا تسألن ما ليس لك به علم } الخامس والأربعون السؤال عن علة الفعل يدل على التوبيخ بعرف الاستعمال في غالب الأمر { لم تكفرون بآيات الله } { لم تلبسون } { لم تصدون } { ما منعك أن تسجد } السادس والأربعون الغيرة الشرعية لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن

السابع والأربعون حمل الفاعل إثم غيره والتبرء والتلاعن والتعادي والدعاء في الآخرة { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } { كلما دخلت أمة لعنت أختها } { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } { تبرأنا إليك } { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم } { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا } وأصناف الوعيد كثيرة كسواد الوجوه وزرقة العيون والعبوس والبسور والذل وتنكيس الرؤوس وفيما ذكرناه دلالة على ما تركناه

وكل ما ذكرناه عائد إلى الذم أو الوعيد ولكنه نوع ترهيبا وتحذيرا وإذا تواردت هذه الدلائل على فعل دلت على تأكده في بابه وكذلك أدلة الأمر

الفصل الرابع
فيما يصلح للدلالة على الأمرين وهو أنواع فندكر من ذلك ما يستدل به على غيره الأول كتابة العمل وحفظه { وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين } { وكل شيء أحصيناه كتابا } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } { سنكتب ما يقول } { سنكتب ما قالوا } { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } { ويرسل عليكم حفظة } { إن كل نفس لما عليها حافظ } { أحصاه الله ونسوه }

{ اقرأ كتابك } { فأولئك يقرؤون كتابهم } فمن هذه الآيات ما يدل على كتابة المنهيات ومنها ما يدل على كتابة المنهيات والمأمورات الثاني وضع الموازين وهو دال على الأمر والنهي جميعا إلا أن الثقل يدل على الطاعة والخفة تدل على المعصية كما أن أخذ الكتب بالأيمان يدل على الطاعة وأخذها بالشمائل يدل على المعصية { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون } { فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية } { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } الثالث الطاعة والتقوى فالطاعة علامة لامتثال كل أمر واجتناب كل نهي والتقوى خاصة بفعل الواجبات وترك المحرمات

الرابع السبيل والصراط والطريق يحتمل أن تحمل على التقوى ويحتمل أن تحمل على الطاعة لأنها مؤدية إلى الثواب ومخلصة من العقاب ولما كان الطريق الحقيقي مؤديا إلى المقاصد صح أن يسمى كل من أدى إلى مقصود سبيلا وصراطا وطريقا فلما كانت الطاعة مؤدية إلى الثواب والمعصية مؤدية إلى العقاب سميتا بذلك تجوزا { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله } { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم } { ولتستبين سبيل المجرمين } { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } وأما الاستقامة فيجوز أن تحمل على الطاعة ويجوز أن تحمل على

التقوى فيجوز أن يكون قوله { فاستقم كما أمرت } بمعنى فأطع كما أمرت ويجوز أن يكون بمعنى فاتق كما أمرت وكذلك في قوله { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم استقيموا ولن تحصوا والأولى حمل الاستقامة في قوله تعالى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } على التقوى لتبقى لفظه أفعل على بابها لأن فعل الواجب وترك الحرام أقوم من فعل

المندوب وترك المكروه ولو حملت على الطاعة لكانت لفظة أفعل محمولة على غير بابها وهو خلاف الظاهر أو لكان المباح موصوفا بالاستقامة وهو على خلاف عرف الاستعمال

الخامس ذكر اطلاع الرب سبحانه على الفعل قد يدل على الترهيب الدال على النهي وقد يدل على الترغيب الدال على الأمر وقد يدل على الأمرين { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } { وما ربك بغافل عما تعملون } { والله بما تعملون خبير } { والله بما تعملون بصير } { إن ربي بما تعملون محيط } { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } { ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } السادس الندم والحسرة في الآخرة من ندم في الآخرة على كونه فعل دل ندمه على النهي عن الفعل ومن ندم على كونه ترك دل على النهي عن الترك ومن تحسر على كونه فعل أو تحسر على كونه ترك فكذلك ومن أطلق الحسرة جاز تعلقها

بالأمرين { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } { يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } { وأنذرهم يوم الحسرة } { يا حسرة على العباد } { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } { ويوم يعض الظالم على يديه } { قال عما قليل ليصبحن نادمين } السابع تعجب الرب سبحانه إن تعلق بحسن الفعل دل على الأمر به كقوله صلى الله عليه وسلم يعجب ربك من شاب لا صبوة له وإن تعلق بقبح الفعل دل على النهي عنه { وإن تعجب فعجب قولهم }

{ بل عجبت ويسخرون } { كيف تكفرون بالله } { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } { قاتلهم الله أنى يؤفكون } { قتل الإنسان ما أكفره } { فما أصبرهم على النار } والسياق مرشد إلى حسن الفعل المتعجب منه وقبحه كما يرشد سياق الوعظ إلى أن تحقير الشيء وذمه تزهيد فيه وحث على تركه وأن تفخيمه ومدحه ترغيب فيه وحث على فعله فقوله { قل متاع الدنيا قليل } تزهيد في متاعها { والآخرة خير لمن اتقى } ترغيب في السعي لها وكذلك قوله { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } وقوله { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } الثامن تعظيم الفعل إن كان في سياق مدح دل على الأمر كقوله تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } وإن كان في سياق ذم أو زجر دل على النهي كقوله { إنكم لتقولون قولا عظيما } { وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم }

{ والفتنة أكبر من القتل } { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } التاسع التوبيخ والإنكار إن تعلقا بفعل دلا على النهي عنه وإن تعلقا بترك دلا على الأمر بالمتروك مثاله فيهما { أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين } وليس قوله { أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } من هذا القبيل هذا مثال التوبيخ العاجل وأما الآجل فكقوله { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } العاشر شقاوة الآخرة وسعادتها لا يوصف بشقاء الآخرة إلا عاص وأما سعادتها فقد يوصف بها الطائع وهو الغالب وقد يوصف بها من لم يطع كأطفال المسلمين ومجانينهم ومن اخترم بعد البلوغ وقبل

التمكن من الفعل الحادي عشر الموعظة والتذكرة يدلان على الحث على كل حسن والزجر عن كل قبيح فيدلان على الأمر والنهي مثال ذلك في النهي قوله تعالى { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } وقوله { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ومثاله في الأمر { إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا } ومثاله فيما يصلح للأمر والنهي { قد جاءتكم موعظة من ربكم } { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي اتعاظا لمن كان له عقل { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } { قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } الثاني عشر في الحكمة دلالة على جميع الأحكام فإنها تدل

على شرعية ما فيه جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو يتضمن للأمرين جميعا وأحكام الله تعالى كلها كذلك { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } إشارة إلى ما تقدم من المأمورات والمنهيات التي أولها { لا تجعل مع الله إلها آخر }

وآخرها { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } الثالث عشر تمني الهلاك والتسوية بالجماد يصلح للتعلق بترك التقوى فتمني الهلاك كقوله تعالى { يا ليتها كانت القاضية } وكذلك طلب الهلاك { يا مالك ليقض علينا ربك } وتمني التسوية بالجماد كقوله { يا ليتني كنت ترابا } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } الرابع عشر التمني في الآخرة وإن تعلق بفعل دل على الأمر وإن تعلق بترك دل على النهي { يا ليتني قدمت لحياتي } { يا ويلنا } { ليتني لم أتخذ فلانا خليلا }

الفصل الخامس
في نفي التسوية نفي التسوية بين الفعلين أو الفاعلين أو الجزائين إن رجع إلى تفاوتهما في الرتبة دل على تفضيل أحد الفعلين على الآخر وإن رجع إلى الثواب والعقاب دل على الأمر والنهي وإن رجع إلى مدح أحد الفعلين وذم الآخر رجع إلى أن أحدهما مأمور والآخر منهي مثال نفي التساوي في رتبة الثواب قوله { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } وقوله { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } ومثال نفي التسوية بين الجزائين قوله { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله } أي في جزأيهما ولذلك

أردفه بقوله { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } وفي الكلام حذف تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله إذ لا تصلح المفاضلة بين فعل وفاعل قوله { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } أي ثوابا وعقابا ولذلك أردفه بقوله { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى } { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } وقوله { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } ظاهره في جزائهما بدليل قوله { أصحاب الجنة هم الفائزون }

وقد نفى الله سبحانه وتعالى المساواة بين الفعلين والفاعلين والجزائين في آية واحدة فقال { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات }

فالأعمى الكافر والبصير المؤمن والظلمات الكفر والنور الإيمان والظل الجنة والحرور النار ثم بالغ في نفي تساوي الفاعلين بقوله { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } فإن التفاوت بين الحي والميت أبلغ من التفاوت بين الأعمى والبصير ونفي التسوية بين الفاعلين يرجع إلى نفي تساوي الفعلين أو الجزائين

الفصل السادس
فيما يتضمنه ضرب الأمثال من الأحكام إنما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه تذكيرا وعظا ولذلك قال { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } فما اشتمل من الأمثال على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل أو على مدح أو ذم أو على تفخيم أو تحقير أو على ثواب أو عقاب فإنه يدل على الأحكام بحسب ذلك على ما تقدم ذكره فأما تضعيف الأجر فله مثالان المثال الأول قوله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } وفيه حذف فإن الأمثال مظنة الحذف

والاختصار لكثرة التدوار تقديره كمثل زارع حبة أنبتت سبع سنابل شبه مضاعفة أجر المنفق بمضاعفة غلة الزارع ترغيبا في الإنفاق المثال الثاني قوله { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة } أي كمثل غارس جنة بربوة شبه تضعيف الأجر هاهنا بتضعيف غلة الجنة فإن الفارس للنواة يحصل له من النخلة عشرة أقناء مثلا ويشتمل كل قنو على ألف أو ألفين ثم يتضاعف ذلك مرتين وإنما عظمت المضاعفة هنا بما يزيد على سبع المائة لأنه ضم إليها ابتغاء المرضات والتثبيت وإما ما يرجع إلى إحباط العمل فله أمثلة الأول قوله تعالى { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس } أي كإبطال أجر الذي ينفق ماله رياء الناس ولا يؤمن

بالله واليوم الآخر فمثله كمثل زارع صفوان أو غارس صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا شبه إبطال الكفر والرياء للصدقة بإذهاب الوابل لتراب الصفوان الثاني قوله تعالى { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } شبه إحباط الأعمال عند فقد القيامة بإحراق الأعصار لهذه الجنة مع هرم صاحبها وكثرة عياله وقله احتياله لهرمه وعجزه تنفيرا من الكفر والرياء وإبطال الصدقات بالمن والأذى الثالث قوله تعالى { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } تقديره مثل إحباط

ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صر للحرث المذكور وفيه زجر عن الكفر المحبط الرابع قوله { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } شبه تعذر وصولهم إلى ثواب شيء من أعماله بتعذر جمع الرماد الذي اشتدت به الرياح في يوم عاصف وهذا أبلغ في الزجر عن الكفر لأنه جعله محبطا لجميع أعمالهم والمثل السابق خاص بنفقاتهم

الخامس قوله تعالى { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه } شبه حسبانهم أنهم ينتفعون بأعمالهم بحسبان الظمآن السراب ماء وشبه فقدهم الإنتفاع بها في القيمة بفقد الظمآن الماء لما أتى موضع السراب وهذا أبلغ من الذي قبله لأن في هذا المثل فقدان الثواب والخيبة بعد الحسبان والرجاء ولم يتعرض للرجاء في المثل السابق وأما ما يرجع إلى ذم الفاعل فله أمثله الأول قوله تعالى { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } شبه ناقض العهد في الحمق بناقضة الغزل تنفيرا من نقض العهد

الثاني قوله تعالى { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } جعلهم من جملة الدواب مبالغة في الذم تنفيرا عن التعامي عن الحق وترك النطق به الثالث قوله تعالى { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } وفيه قولان أحدهما أنه شبه دعاءهم الأصنام بالناعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء وفيه زجر عن دعاء الأصنام والقول الثاني فيه حذف تقديره ومثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان كمثل الناعق فيكون تشبيها لهم بالبهائم في عدم الفهم ولا يخفى ما فيه من الزجر وأما ما يرجع إلى ما مدح الفاعل وذمه فله أمثلة الأول قوله تعالى { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع }

فيه ذم لمن تعامى عن الحق ولم يصغ إليه ومدح لمن استمع للحق وعرفه فيتضمن الحث والمنع الثاني قوله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } الآية 3 شبه تعذر الإيمان والصلاح على الكافر بتعذر النفقة على العبد العاجز وشبه تيسر الإيمان على المؤمن وقدرته على الطاعة بالغني الباذل لما في يديه سرا وجهرا وقيل إن الله عز وجل ضرب العبد العاجز مثلا للصنم وضرب الغني الباذل الكائن على صراط مستقيم لنفسه سبحانه وتعالى تزهيدا في عبادة الأصنام وترغيبا في عبادته

الثالث قوله تعالى { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل } شبه المشرك في سوء حاله بالعبد المشترك بين المتشاكسين وشبه المؤمن في حسن حاله بالرجل السالم ترغيبا في عبادته وزجرا عن عبادة غيره وأما ما يرجع إلى الوعيد فله مثالان الأول قوله تعالى { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } شبه الكافر في هلاكه الذي لا يتدارك بهلاك الخار من السماء على الوجه المذكور تنفيرا من الشرك الثاني قوله تعالى { كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } وفيه قولان أحدهما أنه نزل في المنافقين شبه أسماعهم بما أظهروه من الإيمان

بانتفاع المستوقد بالنار وشبه انتهاء أمرهم إلى عذاب الآخرة وشدائدها بانطفاء النار وبقاء مستوقدها في الظلمات فكذلك حصول المنافقين في الخوف بعد الأمن وفي الشدائد بعد الرخاء إذ يعبر بالظلمات عن الشدائد قال الله تعالى { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } وفي ذلك زجر عن النفاق والثاني نزل في منافقي اليهود وكانوا يستفتحون على الكفار برسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به فلما بعث كفروا به فشبه إيمانهم به واستفتاحهم باستيقاد النار وشبه كفرهم بانطفاء النار والحصول في الظلمات مدحا للإيمان وذما للكفران وأما ما يرجع إلى العذاب العاجل فقوله { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }

وذلك تهديد بالعذاب العاجل يتضمن الزجر عن الكفر بأنعم الله وعن تكذيب رسله وأما ما يرجع إلى تسفيه الفاعل وذمه بسخافة العقل فله مثالان الأول قوله تعالى { ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } الآية وهذا المثل يتضمن تسفيه عقل من عبد صنم الذي لا يقدر على جلب نفع ولا يدفع عن نفسه ضرا الثاني قوله تعالى { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } شبه الاعتماد على شفاعة الأصنام وتقريبها إلى الله زلفى باعتماد العنكبوت على بيتها أن يدفع عنها وهو أوهن

البيوت فكذلك الأصنام أوهن معتمد عليه ولقد سفه من اعتمد في عظائم الأمور على أوهن الأشياء وأبعدها في الغناء عنه وأما ما يرجع إلى التزهيد بتحقير المزهد فيه فكقوله { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } وقوله { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } شبه سرعة زوالها مع الاعتماد عليها والاغترار بها بسرعة فساد زرع ظن أهله أنهم قادرون عليه فطرقته جائحة جعلته هشيما تذروه الرياح كل ذلك تزهيد في الإعتماد على الحياة السريعة الزوال وترغيب في ترك السعي لها فإن التحقير للشيء في سياق الوعظ والنصح يتضمن التزهيد فيه بعرف الاستعمال

وأما ما يرجع إلى مدح الفعل وذمه فهو كتشبيه المعرفة بالنور والحياة وتشبيه الجهل بالظلمة والموت وكتشبيه الحق النافع بالماء النافع وبالحلي والأمتعة النافعة وتشبيه الباطل بالزبد الذاهب جفاء مدحا لأحدهما وذما للآخر { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } أي كافرا فهديناه { كمن مثله في الظلمات } أي ظلمات الجهل وكذلك ضرب نور المشكاة مثلا لنوره في قلب المؤمن فالمشكاة كصدر المؤمن والزجاجة كقلبه والمصباح كالمعرفة والزيت كفطنة المؤمن التي تكاد تدرك الصواب من غير توقيف ولا كتاب وكذلك مثل القرآن الذي هو بمعنى القراءة بما أنزله من السماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ثم اندفع الزبد وبقي الماء النافع

شبه القرآن بالماء النافع لأنه حياه للقلوب كما أن الماء حياة للنبات وشبه القلوب بالأودية إذا أخذ كل قلب من ذلك بقدر ما كتب له كما أخذ كل واد من الماء بقدر ما كتب له ثم شبه ارتفاع كلمة الكفر على كلمة الإيمان والقرآن بارتفاع الزبد على الماء ثم شبه زهوق الباطل وذهاب الكفر بذهاب الزبد جفاء وشبه بقاء المعرفة والقرآن ببقاء الماء النافع مدحا للمعرفة والقرآن وذما للجهل والكفران وكذلك شبه ذهاب الكفر وزواله بذهاب زبد الجواهر إذا أحميت في النار ابتغاء حلية أو متاع من الأمتعة وشبه بقاء القرآن ببقاء الحلي والأمتعة النافعة والتشبيه بالزبد يتضمن ذم المشبه به فإنهم يشبهون الحسن بالحسن والقبيح بالقبيح

والمحمود بالمحمود والمذموم بالمذموم والنافع بالنافع والضار بالضار { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } وقد يعبر بالكفر عن الهلاك لأنه سبب الهلاك ويعبر عن الإيمان بالحياة لأنه سبب الحياة الأبدية قال تعالى { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } أي ليؤمن من آمن عن يقين وبصيرة ويكفر من كفر عن يقين ومعرفة وقد شبه الله سبحانه بالأنعام والحمر والكلاب احتقارا للمشبه وذما له ولذلك قال { ساء مثلا } وقال { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } ولما شبههم بالحمر كان في تشبيهه ما يقتضي أنهم أسوأ حالا من الحمر لأن الحمر فرت من سبب هلاكها وهو الأسد وهؤلاء فروا من التذكرة وهي سبب نجاتهم كفرار الحمر من سبب هلاكها وهذا مثل قوله عز وجل { أو كصيب } معناه أو كأصحاب الصيب

شبه القرآن بالصيب والصيب إذا نزل كان رحمة للزارع وبلية على المسافر فكذلك القرآن كان نزوله رحمة للمؤمنين وبلاء على الكافرين { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } فجعل ثقل القرآن عليهم ومشقته عندهم كثقل الصيب ومشقته على المسافر لكن القرآن ثقل عليهم مع كونه سببا لنجاتهم والصيب ثقل على أصحابه لكونه سببا لهلاكهم وتضررهم كما فرت الحمر من القسورة وهو سبب هلاكها وفر المشركون من التذكرة وهي سبب نجاتهم

الفصل السابع
في فوائد متفرقة الأولى السياق مرشد إلى تبين المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات وكل ذلك بعرف الاستعمال فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الاستعمال مثاله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي الذليل المهان لوقوع ذلك في

سياق الذم وكذلك قول قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } أي السفيه الجاهل لوقوعه في سياق الإنكار عليه وكذلك { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } لوقوعه في سياق ذمهم بإضلال الأتباع وأما ما يصلح للأمرين فيدل على المراد به السياق كقوله تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } أراد به عظيما في حسنه وشرفه لوقوع ذلك في سياق المدح وقوله { إنكم لتقولون قولا عظيما } أراد به عظيما في قبحه لوقوع ذلك في سياق الذم وكذلك صفات الرب المحتملة للمعاني المتعددة تحمل في كل سياق على ما يليق به كقوله { إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } تمدح بسهولة في قدرته وكذلك قوله { ذلك حشر علينا يسير } وأما قوله { فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا } وقوله { يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا } فإن المراد في هاتين الآيتين احتقار المعذب وعنته وإنما جاز ذلك لأن من هان عليك

سهل عليك عذابه وعنته ومن عز عليك صعب عليك مصابه ومشقته وإنما حمل على الاستهانة لأنه لا يصلح من الرب التمدح بالقدرة على تعذيب امرأة أو رجل إذ التمدح من الرب بأدنى الصفات قبيح في عرف الاستعمال ولذلك يقبح أن يقال سيبويه يعرف أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والشافعي يعرف مسألة إزالة النجاسة وجالينوس

يعرف أن الصفراء حادة يابسة وكذلك العزيز في أوصاف الرب سبحانه يطلق بمعنى الغالب القاهر ويطلق بمعنى الممتنع من العيب والضيم ويطلق بمعنى الذي لا نظير له ويحمل كل سياق على ما يليق به الفائدة الثانية إخبار الشارع عن ما يعلم بالعادة أو بالعقل أو بالحس ليس الغرض منه الإعلام بذلك المخبر عنه بل به فوائد تنثني عليه الأولى أن يذكر ردا على دعوى مدع وتكذيبا لافتراء مفتر كقوله { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وقوله { فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } وقوله { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } { وما صاحبكم بمجنون } الثانية أن يذكر وعظا كقوله { تلك أمة قد خلت } { قد خلت من قبلكم سنن } { كل نفس ذائقة الموت } { ثم إنكم بعد ذلك لميتون }

{ إنك ميت وإنهم ميتون } { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } كذلك ما تواتر من قصص المكذبين المهلكين فإنه ذكر للاعتبار والأتعاظ وكذلك قال بعد ذكر إهلاكهم { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي اتعاظا لمن كان له عقل وكذلك قوله { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي فاتعظوا وكذلك قوله { كل من عليها فان } الثالثة أن يذكر للدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم }

الآية { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } ذكر أخفى ما في القضية لأنه أبلغ في الدلالة { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } { وما كنت ثاويا في أهل مدين } { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } وكذلك القصص الموافقة لما في التوراة والإنجيل ذكرت للاستدلال على صحة النبوة ولذلك قال { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } أي عبور من حيز الجهل إلى حيز العلم لأن العبرة فعله من العبور فجاز أن تستعمل في العبور من حيز الجهل إلى حيز العلم كما استعملت في العبور من الاغترار إلى حيز الأتعاظ الرابعة أن يذكر عتبا كقوله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } إلى قوله { والله أحق أن تخشاه } وقوله { عبس وتولى } إلى قوله { فأنت له تصدى } الخامسة أن يذكر توبيخا ولوما كقوله { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }

{ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } السادسة أن يذكر تمننا كقوله { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } قوله { إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس } الآية { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم } { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين } الآيتان السابعة أن يذكر للاستدلال على الإعادة بالإنشاء كقوله { ألم يك نطفة من مني يمنى } { ألم نخلقكم من ماء مهين } { ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا } { لم يكن شيئا مذكورا } { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم }

أي اقتدارنا على بعثكم { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } الثامنة أن يذكر تمدحا كتمدح الرب سبحانه بأوصافه التي دل عليها العقل من الحياة والعلم والقدرة والإرادة وقد يذكر العلم والقدرة ترغيبا وترهيبا التاسعة أن يذكر مدحا وذما كقوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } { فأحسن صوركم } ويحتمل أن يكون هذا تمعنا كقوله { خلق الإنسان من عجل } { إن الإنسان خلق هلوعا } { وخلق الإنسان ضعيفا }

العاشرة أن يذكر تنبيها على سعة القدرة كقوله { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } وأما إخباره عن أكل اللحم الطري منهما واستخراج الحلية من الملح فذاك من باب التمنن وكذلك من باب التمنن قوله { يسألونك } { يستفتونك } فإنه تمنن عليهم بأن أجاب سؤالهم ولم يهملهم ولم يعرض عنهم ولا سيما إن أجابهم على الفور ويحتمل أن تكون فائدته نفي ثم احتمال خروج محل السؤال عن الإرادة الحادية عشرة أن يذكر فارقا كقوله { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ذكر فرقا بين الفيء والغنيمة

الثانية عشرة أن يذكر إغراء بالعداوة والقتال وحثا عليهما كقوله { نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة } { يخرجون الرسول وإياكم } الفائدة الثالثة من فوائد الفصل كلمة التوحيد تدل على التكليف بالواجب والحرام إذ معناه لا

معبود بحق إلا الله والعبادة هي الطاعة مع غاية الذل والخضوع فقد نص بالإستثناء على أنه مستحق لها وأما نفيها عن ما عداه فيجوز أن يكون حكما بتحريم ذلك في حق غيره وهو الظاهر ويجوز أن يكون إخبارا عن النفي الأصلي ويكون تحريم عبادة غير مأخوذا من قوله { أمر ألا تعبدوا إلا إياه }

أو من الإجماع وكذلك كل نفي في هذا المعنى كقوله { فلا جناح عليهما } { فلا إثم عليه } الفائدة الرابعة من فوائد الفصل قد يقع في سياق التوبيخ والذم والتهديد ما لا يتعلق به ذم ولا توبيخ ولا وعيد بل يذكر تقبيحا لما يتعلق به الذم والتوبيخ والوعيد كقوله { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } ذكر الأمر بالبر تقبيحا لنسيان الأنفس { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } ذكر الإيمان ببعض الكتاب تقبيحا للكفر ببعضه { فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } ذكر الدعاء تقبيحا لقوله { إنما أوتيته على علم } { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } ذكر الإعراض عن الألهة تقبيحا للإعراض عن الله

تعالى عند النجاة { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } ذكر العلم تقبيحا للكتمان مع المعرفة وكذلك قوله { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } ذكر الاستيقان تقبيحا للجحود مع اليقين وكذلك { أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } ذكر ترك الإتيان للأزواج تقبيحا لإتيان الذكران إن كان الترك مباحا في ملتهم وكذلك قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } ذكر الإيمان مباحا في ملتهم وكذلك قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } ذكر الإيمان تقبيحا للكفر الواقع بعده الفائدة الخامسة قد يقع في سياق المدح والثواب ما لا يتعلقان به بل يذكر تعريفا للممدوح المثاب كقوله { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } وقوله { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }

وقوله { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } الفائدة السادسة قد يقع في سياق التوبيخ والذم مباح لا يتعلق به ذم ولا توبيخ من جهة كونه مباحا لكن من جهة كونه شاغلا عن الواجب كقوله { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } { إن هؤلاء يحبون العاجلة } { وتحبون المال حبا جما } الفائدة السابعة تمنن الرب تعالى بنعمه إن كانت تلك النعم من أفعاله التي لا

اكتساب لنا فيها كان التمنن بها ترغيبا لنا في شكرها بعرف الاستعمال وإن كانت بما خلق في الأعيان من المنافع كان ذلك أذنا في الانتفاع وترغيبا في الشكر { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم } { قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا } { أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } { نسقيكم مما في بطونه } { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } { وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه } { خلق لكم ما في الأرض جميعا } { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } الفائدة الثامنة ولاية الله عز وجل للعبد عبارة عن ثنائه عليه وإحسانه إليه فتدل

على الطاعة الدالة على الأمر { وهو يتولى الصالحين } { وهو وليهم بما كانوا يعملون } وولاية العبد لله قيامه بطاعته وكذلك ولايته لرسوله وأما ولاية المؤمنين فبالنصرة والمؤالفة { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة الفائدة التاسعة قد يتعلق بالمدح والثواب من جهة اللفظ ما لا يدخل تحت الكسب من فعل غير الممدوح فيكون المدح والثواب معلقين بسببه أو بشيء من لوازمه كقوله تعالى { أخرجوا من ديارهم وأموالهم } وقوله { وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } { لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة } كل ذلك ليس من أفعالهم لكنهم تسببوا إلى أن

أوذوا وأخرجوا من ديارهم وقتلوا بما أظهروه من إيمانهم فأثيبوا عليه ومدحوا به لأنهم تسببوا إليه فالثواب والمدح واقعان على السبب دون المسبب إليه وكذلك مدحوا بالظمأ والنصب والمخمصة ورتب عليه الأجر لتسببهم إليه بحصولهم في مظانه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك هو مرتب على الكلم من جهة

اللفظ وعلى التسبب إليه من جهة المعنى وقوله صلى الله عليه وسلم من عزى مصابا فله مثل أجره تقديره مثل أجر صبره فإن المصيبة ليست من فعله حتى يؤجر عليها وقد قال تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } { إنما تجزون ما كنتم تعملون } فلا أجر ولا جزاء إلا على عمل مكتسب في نفسه أو مكتسب السبب

الفائدة العاشرة قد يقع في سياق التعليل ما لا يصح أخذه في التعليل بل يذكر تقريرا للتعليل كقوله تعالى { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } الآية { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } الفائدة الحادية عشرة قد تتعلق خصائص الأمر والنهي بأوصاف الجبلية لا يصح اكتسابها فتكون تلك الخصائص متعلقة بآثارها الداخلة تحت الكسب تعبيرا باسم السبب عن المسبب وبالمثمر عن ثمرته وذلك كالرأفة والرحمة والحلم والأناة والجود والسخاء واللين والحياء والجبن والبخل

والحرص والشح وضيق العطن والفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأوصاف الجبلية المحمودة والمذمومة فأمره بالرحمة ومدحه للراحم أمر بآثار الرحمة من الإحسان إلى المرحوم فقوله صلى الله عليه وسلم ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء معناه عاملوهم معاملة الراحم وقوله الراحمون يرحمهم الرحمن وكذلك المدح بالحلم والأناة في قوله تعالى { إن إبراهيم لحليم } وقوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة

وكذلك مدح الحياء في قوله صلى الله عليه وسلم الحياء خير كله هو مدح لآثاره من الكف عن القبائح ولذلك قال الحياء لا يأتي إلا بخير وقال استحيوا من الله حق الحياء وكذلك مدح الكرم والسخاء مدح لآثارهما من البذل والعطاء ولذلك يجري حكم الذم بكل وصف جبلي والنهي عنه فقوله صلى الله عليه وسلم إياكم والشح إنما نهى عن آثاره

من الإمساك عن بذل ما يجب بذله وكذلك الذم بالجبن متعلق بآثاره ترك الإقدام على ما ينبغي الإقدام عليه وكذلك الغلظة والفظاظة والجفاء وغير ذلك وكذلك النهي عن الهوى إنما هو نهي عن آثاره لأن الهوى ميل طبعي فالنهي عنه نهي عن موافقته ومتابعته وقد صرح بذلك في قوله { ولا تتبع الهوى } بخلاف قوله { ونهى النفس عن الهوى } فإن معناه ونهى النفس عن آثار الهوى فإن الهوى هو الميل إلى المشتهيات طبعا فلا يتعلق به تكليف ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب وكذلك قوله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } لم ينه عن الرأفة في نفسها لأنها جبلية لا يتعلق بها تكليف وإنما النهي عن آثارها كترك الجلد أو تنقيصه أو تخفيفه

وكذلك النهي عن الحسد الهاجم الذي لا يمكن دفعه فإن النهي عنه نهي عن آثاره من الإضرار بالمحسود وكذلك النهي عن الظن الهاجم الذي يتعذر دفعه عند قيام أسبابه في قوله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث

إنما نهى عن آثار الظن وهو أن يعامل بآثاره المذمومة شرعا وإن عمل بأثر لذلك الظن غير مذموم في الشرع فلا بأس فإن الجرم سوء الظن أي من آثار سوء الظن والنهي عن العجلة نهي عن آثارها وقد قال تعالى { خلق الإنسان من عجل } { وكان الإنسان عجولا } وكذلك الجزع في قوله ** إذا مسه الشر جزوعا إنما هو ذم لآثار الجزع وكذلك حب العاجلة وحب الشهوات من النساء والبنين لا يتعلق الذم فيهما بمجرد الحب والميل بل بآثار المحبة الملهية عن السعي للآخرة

الفائدة الثانية عشرة قد يتعلق النهي بشيء والمراد به ما يلازمه فيكون مضافا إليه لفظا وإلى ما يلازمه معنى كقوله تعالى { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } معناه لا تكفروا عند الموت وقوله { وذروا البيع } معناه لا تشتغلوا عن الجمعة ولا تتركوا السعي إليها ولا يبع بعضكم على بيع بعض معناه لا يضر بعضكم ببعض

الفائدة الثالثة عشرة كل فعل كسبي أضافه الله تعالى إلى نفسه كانت إضافته إليه مدحا له كقوله { شهادة الله } و { عهد الله } و { صراط الله } و { دين الله } و { صبغة الله } وكل فعل كسبي برأ الله أنبياء منه فهو مذموم { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } وكذلك قوله { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا }

وكل فعل أخبر الله تعالى عن كتبه أو وزنه فالتكليف متعلق به { سنكتب ما يقول } { ورسلنا لديهم يكتبون } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { وإنا له كاتبون } { وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين } { وكل شيء أحصيناه كتابا } { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } { والوزن يومئذ الحق } وثقل الموازين أخذ الكتب بالأيمان يدل على الطاعات وخفة الموازين وأخذ الكتب بالشمائل أو من وراء الظهور يدل على المخالفات وشهادة الله وأنبيائه وشهادة الجوارح تدل على التكاليف { ثم الله شهيد على ما يفعلون } { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } { إنا أرسلناك شاهدا } { نبعث من كل أمة شهيدا } الآية { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا } { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون }

{ شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ثم يقال لجوارحه انطقي الفائدة الرابعة عشرة وصف القرآن بأنه حق إن حمل الحق على الحكمة والصواب تضمن جميع الأحكام وإن حمل على الصدق تضمن الوعد

والوعيد والأحكام المعبر عنها بألفاظ الأخبار وأما وصف السموات والأرض بأنهما خلقتا بالحق فالمراد بالحق التكاليف بدليل قوله { خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا } وقوله { وخلق الله السماوات والأرض بالحق } أي بسبب التكليف الذي هو حق { ولتجزى كل نفس بما كسبت } معناه لتجزى كل نفس بما كسبت خلقناهما بالحق الذي هو التكليف الفائدة الخامسة عشرة تمني الرجوع إلى الدنيا وسؤال الرجعة والتأخير يدل على الذم والحسرة على ترك الطاعة إلا في حق الشهيد فإنه تمنى الرجوع إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله لما يرى من فضل الشهادة

مثال ذلك { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل } { رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت } { رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } الفائدة السادسة عشرة قد يقع الخطاب بتقدير حضور المخاطب { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } بتقدير حضورك { ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود } الفائدة السابعة عشرة كل فعل رتب عليه وصف الله تعالى بالغني فهو منهي عنه بطريق الاستقراء { ومن كفر فإن الله غني حميد } { إن تكفروا فإن الله غني عنكم }

{ ومن كفر فإن ربي غني كريم } { وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا } وقد جاء { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين } الفائدة الثامنة عشرة إذا كان الفعل حاصلا فالأمر به أمر باستدامته كقوله تعالى

{ فاعلم أنه لا إله إلا الله } { فاستقم كما أمرت } { يا أيها الذين آمنوا } آمنوا على قول وعلى القول الثاني آمنوا بزعمهم غير الأصل وإن كان الفعل غير حاصل فإن كان مقدورا كان الأمر به أمرا بإنشائه كقوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } وإن لم يكن مقدورا كان الأمر به أمرا بالتسبب إليه فالأمر بمعرفة الله أمر بالنظر المفضي إليها إذ لا تدخل تحت الكسب عند العثور على وجه الدليل ولا قبل العثور

الفائدة التاسعة عشرة تكرر دلائل الأمر والنهي وتضافرها على ذلك يدل على اهتمام الشرع بذلك المأمور والمنهي واعتنائه بهما وأكثر ما وقع ذلك في التقوى لكونها جماعا لخير الدنيا والأخرة الفائدة الموفية عشرين من فوائد الفصل الإرسال يدل على أمر الرسول بالإبلاغ وعلى أمر المرسل إليه بالطاعة وأمر الرسول بالإنذار أمر له بالصيغة ونهي لأمته عما أنذروا من أجله من ترك الواجب وفعل الحرام وأمر الرسول بتبشير الفاعل أمر للرسول بإبلاغ البشارة وحث للمبشر على الفعل المنصوب سببا للتبشير الفائدة الحادية والعشرون وصف القرآن بأنه كتاب منزل فيه مجاز من وجهين

أحدهما تسميته كتابا إما باعتبار ما كان عليه في اللوح المحفوظ كقوله { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } وقوله { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } أو باعتبار ما يؤول إليه من كتابته في المصاحف الثاني وصفه بالنزول والألفاظ لا يتصور فيها تنقل ونزول بل

يتجوز بنزولها وتنقلها عن نزول محلها وتنقله ووصفه بكونه بشيرا ونذيرا فيه مجاز من وجهين أيضا أحدهما أن البشير هو المخبر بالخبر السار والنذير هو المخبر الخبر الضار ثم تجوزت العرب باستعمال ذلك في نفس الخبر الثاني وصف جملة الكتاب بكونه بشيرا ونذيرا وليس جملته كذلك فهو من باب وصف الشيء بما قام ببعضه وأما وصفه بأنه أحسن الحديث فشامل لجملته وكذلك وصفه بكونه عربيا على أحد القولين والعرب

تصف الشيء تارة بما قام بجميع أجزائه كالمتحرك والساكن والراحل والقاطن وتارة بما قام ببعض أجزائه كالعارف والعاقل والخائف والآمن الفائدة الثانية والعشرون قد يكون للمجاز مجاز آخر نسبته إليه كنسبة المجاز إلى الحقيقة مثال ذلك إن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه متسبب

عن العقد غالبا ثم سمي الوطء سرا للزومه للسر غالبا ثم سمي العقد سرا تجوزا لكونه سببا للسر الذي هو الوطء فالتعبير عن العقد بكونه سرا في قوله تعالى { ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا } مجاز عن السر الذي هو الوطء فصار التعبير بالسر عن الوطء مجاز عن المجاز الذي تجوز به عن الوطء

الفائدة الثالثة والعشرون قد يجاب الشرط من جهة اللفظ بما لا يجوز أن يكون جوابا من جهة المعنى فيكون الجواب المعنوي أمرا يلازم اللفظ المجازي به أو يدل عليه السياق مثاله قوله تعالى { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } جوابه المعنوي فتأس بهم لأن معرفة المشاركة في المصائب سبب للتأسي فلذلك صح التجوز وكذلك قوله { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } جوابه المعنوي فليحذروا أن يصيبهم ما أصاب الأولين وإنما صح التجوز من جهة أن من علم أن غيره قد عوقب على عمل فإنه يحذر ذلك العمل مخافة أن يصيبه ما أصاب غيره وكثيرا ما تقع هذه الضروب في أوصاف القديم سبحانه كقوله { فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } جوابه المعنوي فإذا جاء أجلهم جزاهم بما عرفه منهم فإن الجزاء بالإساءة والإحسان يتوقف على معرفتهما فلما توقف على ذلك صار كأنه مسبب عنهما لتحقق التوقف وهذا كقولك إن تأت فلانا فإنه جواد كريم جوابه المعنوي يعطيك ويبرك فإن العطاء والبر فرعان للجود والكرم وكذلك قولك إن تستنصر فلانا فإنه أسد باسل جوابه المعنوي ينصرك نصرا بليغا فإن النصر يتوقف على البسالة والجلادة

الفائدة الرابعة والعشرون أمر الرسول بالإعراض ونهي الفاعل عن الاعتذرا ونفي السبيل أما نفي السبيل فيدل على الإذن لأن معناه لا سبيل عليهم بالمؤاخذة وإثباته يدل على النهي { ما على المحسنين من سبيل } { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } ونهي الفاعل عن الإعتذار يدل على النهي عن الفعل { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } { لا تعتذروا لن نؤمن لكم } وأمر الرسول بالإعراض عن الفاعل والتولي عنه يدل على النهي { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } { وأعرض عن الجاهلين } { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } { فتول عنهم حتى حين } { فتول عنهم فما أنت بملوم } الفائدة الخامسة والعشرون نفي الكون كقولك ما كان لكذا كذا وكذا قد يستعمل نفيا وقد يستعمل نهيا مثال النفي { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } { ما كان لله أن يتخذ من ولد }

{ وما كان الله ليطلعكم على الغيب } { وما كان الله ليضيع إيمانكم } { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } { وما كان لنبي أن يغل } { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } { وما يكون لنا أن نعود فيها } { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } ومثال النهي { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا } الفائدة السادسة والعشرون ذكر ما في الفعل من مصلحة يدل على الإذن وذكر ما فيه من مفسدة يدل على النهي مثال ما في الفعل من المفسدة { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }

{ فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } ومثال ما فيه من المصلحة { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } { وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة }

{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } { يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } فذكر مصالح الأفعال إذن أو ترغيب وذكر مفاسدها نهي أو ترهيب الفائدة السابعة والعشرون قد يطلق الجعل بمعنى الشريعة { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } أي ما حكم بذلك الفائدة الثامنة والعشرون قد يطلق المثل على ذات الشيء ونفسه كقوله { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } ومعناه فإن آمنوا بما آمنتم إذ لا مثل لما آمنا

به وقوله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } أي فجزاء القتل من النعم وقوله { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقوله { لمثل هذا فليعمل العاملون } إذ لا مثل للجنة ونعيمها وقالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي يغار على مثلك وقال الشاعر ** يا عاذلي دعني من عذلكما مثلي لا يسمع من مثلك الفائدة التاسعة والعشرون قد يوصف الشيء بما يقوم بجملته وقد يوصف بما يقوم ببعض أجزائه فوصف القرآن بكونه من عند الله منزلا مباركا كريما عليا مجيدا محفوظا أحسن الحديث متشابها في شرفه ونظمه وصف له بما قام بجميع أجزائه

وكذلك وصفه بكونه عربيا عند من قال لا عجمية فيه ووصفه

بالتبشير خاص بآيات البشارة ووصفه بالإنذار خاص بآيات التخويف ووصفه بالصدق عام لآيات الأخبار دون ما لا يدخله تصديق كالأمر والنهي ووصفه بالإعجاز خاص بسورة فما فوقها ووصفه بالموعظة والذكر خاص بآيات الوعظ والتذكير ووصفه بكونه حقا عام إن حمل على الصواب وإن حمل على الصدق اختص بكل ما يدخله التصديق ووصفه بكونه رحمة لجميع جمله لأن آيات الثناء مشتملة على تعريف العباد ما يجب لله من اعتقاد جلاله وكماله وإنعامه وإفضاله وذلك من آثار الرحمة ولا يخفى ما في الأمر والنهي والوعظ والوعد والوعيد من حث

العباد على ما يقربهم إليه ويزلفهم لديه وزجرهم عما يبعدهم منه ويغضبه عليهم من ذلك أبلغ آثار الرحمة الفائدة الموفية الثلاثين المحذوفات التي يجوز حذفها والنطق بها بمثابة المنطوق به لفظا ومعنى فلا يحذفون إلا ما لو نطقوا به لكان أحسن وأفصح وأكمل في ملائمة لفظ ذلك السياق ومعناه ولا يحذفون ما لا دليل عليه وإذا دار المحذوف بين أمرين قدر أحسنهما لفظا ومعنا والسياق مرشد إليه فيقدر في كل موضع أحسن ما يليق به فيقدر في قوله تعالى { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } معناه لو حصل لهم ما في الأرض جميعا ليفتدوا به ما تقبل منهم ويقدر في قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات

الاعتبار أي الأعمال معتبرة بالنيات ويقدر في قوله تعالى { ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } ذلك شاهد بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير فإن استدلاله بخلقنا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة وتقلبها في الأطوار المذكورة وبإحيائه الأرض بعد موتها يشهد باقتداره على الإعادة والإحياء وخلق جميع الأشياء وكذلك تقدر الشهادة في قوله تعالى { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر } إلى قوله { ذلك بأن الله هو الحق } إلى آخر الآية أي إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل وتسخير الشمس والقمر يشهد بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير

الفائدة الحادية والثلاثون المحذوفات أنواع الأول القول وكثيرا ما يحذف في الكلام والقرآن فنذكر لذلك أمثلة أحدها قوله تعالى { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } معناه فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم الثاني قوله تعالى { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } أي يقولون سلام عليكم الثالث قوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق } معناه أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق الرابع قوله { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر } معناه ويقال لهم { ذوقوا مس سقر } قدرت ها هنا ويقال لأنه يناسب يسحبون وقدرت في الآية قبلها وقيل لمناسبة أعيدوا

النوع الثاني ما يحذف من العلل والمعلومات ولذلك أمثلة أحدها قوله تعالى { ولهم عذاب أليم } { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } أي فكتموا واشتروا فحذف الكتمان والاشتراء لإرشاد السياق إليه ولا يصح أن يكون إنزال الكتاب بالحق علة لعذابهم الثاني قوله تعالى { هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } المعنى ولكن أكثركم فاسقون نقمتم منا معناه لإيماننا بالله وبالمنزل فحذف المعلول اختصارا لدلالة السياق عليه وإرشاده إليه الثالث قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } تقديره وليكون من الموقنين أريناه ذلك الرابع قوله تعالى { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى } تقديره ولتنذر أهل أم القرى ومن حولها أنزلناه الخامس قوله { وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد } معناه وأن الله يهدي من يريد أنزلناه آيات بينات

السادس قوله { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } معناه ولأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور استدللنا على جواز البعث بالنشأة وبإحياء الأرض بعد موتها النوع الثالث حذف جواب لو في سياق التهديد وله أمثلة الأول قوله تعالى { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } تقديره لرأيت أمرا هائلا عظيما نكرا لكنه حذف تفخيما للأمر ليذهب الذهن فيه كل مذهب الثاني قوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } الثالث { ولو ترى إذ الظالمون } الرابع { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } الخامس { ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم }

النوع الرابع حذف المقسم إذا كان في الكلام ما يرشد إليه فالمقسم عليه في قوله تعالى { ص والقرآن ذي الذكر } إهلاك المكذبين لقوله { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } والمقسم عليه في قوله تعالى { ق والقرآن المجيد } البعث بعد الموت لما ذكره بعد ذلك من ذكر البعث والدلالة عليه وكذلك المقسم عليه في قوله { بالنفس اللوامة } وأما المقسم عليه في قوله تعالى { والفجر } فإهلاك المكذبين لقوله { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } النوع الخامس حذف الذكر وهو ضربان أحدهما أن يكون من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وذلك كقوله { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } { إنا جعلناها فتنة للظالمين } { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } معناه وما

جعلنا ذكر ذلك إلا فتنة للناس إذ لا يفتنون بمجرد الجعل وإنما يفتنون بذكر ذلك وكذلك قوله { وما جعله الله إلا بشرى لكم } معناه وما جعل الله ذكر الإمداد إلا بشرى لكم فإنهم لا يستبشرون بمجرد الإمداد الثاني أن يكون الذكر مأمورا متعلقا بظرف زماني كقوله تعالى { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وقوله { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم } { اذكر نعمتي عليك } وقوله { يوم يجمع الله الرسل } { ويوم يقول كن فيكون } على قول وقوله { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } معنى ذلك اذكر يوم يجمع الله الرسل أذكر يوم نقول كن فيكون اذكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها اذكر إذ قال ربك فحذف الذكر لكثرة الاستعمال ودلالة السياق عليه النوع السادس حذف الفعل الذي يتعلق به التحليل

والتحريم كقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } معناه نكاح أمهاتكم { حرمت عليكم الميتة } أي أكل الميتة والدم ولحم الخنزير { ويحل لهم الطيبات } أي تناول الطيبات { ويحرم عليهم الخبائث } أي قربان الخبائث { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي نكاح ما وراء ذلكم { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } معناه وأكل طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وأكل طعامكم حل لهم وحذف المضاف في هذا الباب غالبا بعرف الاستعمال حتى لا يكادون يذكرون الفعل المتعلق بالعين المحللة أو المحرمة وقد ترشد المقاصد إلى المحذوفات المختلفة كقوله { إنما الخمر والميسر } الآية معناه إنما شرب الخمر وقمار الميسر واستقسام الأزلام وعبادة الأنصاب أو ذبح الأنصاب فأرشد المقصود من كل عين من هذه الأعيان إلى ما حذف منها النوع السابع حذف المضاف ولا يكاد يحصى كثرة فمن ذلك

قوله تعالى { لها ما كسبت } أي جزاء ما كسبت { وعليها ما اكتسبت } أي وبال ما اكتسبت { وتوفى كل نفس ما عملت } أي أجر ما عملت { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } أي تجدوا ثوابه عند الله { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي جزاء ما سعى ويجزيهم أجرهم بأحسن جزاء الذي كان يعملون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } أي أسباب حسرات عليهم { ولكم في القصاص حياة } أي في شرع القصاص حياة وفي هاهنا للسببية { والحرمات قصاص } وانتهاك الحرمات أسباب القصاص { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } أي سبب ريبة في قلوبهم { والإثم والبغي } أي أسباب الإثم والبغي فإن الإثم عهدة الذنب على قول والأصح أن الإثم الفعل الذي لا عهدة له { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }

{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم } أي إلى أسبابها { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أي ير جزاءه وكذلك { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } { ليروا أعمالهم } أي جزاء أعمالهم { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } أي عن شكر النعيم فإن المباح من النعيم لا يسأل عنه توبيخا وقد وقع ذلك في سياق التهديد { لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم } أي كفتنة إخراج أبويكم { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } أي كآية إرسال الأولين { هي أشد قوة من قريتك } أي من أهل قريتك { لتنذر أم القرى ومن حولها } أي أهل أم القرى ومن حولها { يخافون ربهم } أي عذاب ربهم { يرجون تجارة } أي ربح تجارة لأن ربح الأعمال ثوابها والتجارة بالأعمال { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } كضوء المصباح { أو كصيب من السماء } أي كأصحاب صيب من السماء

{ يذهبن السيئات } أي إثم السيئات { لقد كان في يوسف } أي في قصة يوسف النوع الثامن حذف جواب الشرط فمن ذلك قوله تعالى { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } { فقد كذب الذين من قبلهم } جوابه محذوف تقديره فتأس بمن كذب قبلك من المرسلين ولا يصح أن يكون قوله كذبت رسل من قبلك جوابا لأنه متقدم على الشرط وجواب الشرط لا يتقدم عليه وكذلك قوله { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } لا يجوز أن يكون جوابا لتقدمه على عودهم وإنما الجواب فليحذروا ما أصاب الأولين وكذلك قوله { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } أما العفو فإنه مرتب على الشرط ولكن كان يمنع عن ذلك وأما القدرة فلا يصح فيها الترتيب لقدمها وجواب الشرط يجزكم بذلك لقدرته على الجزاء وكذلك قوله { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } لا يصح ترتيب سمعه وعلمه على عزيمة الطلاق والجزاء فليحذروا أذيتهن بقول يسمعه الله أو فعل يراه الله

وكذلك قوله { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } أي يجازيكم عليه وهذا بعرف الاستعمال النوع التاسع حذف بعض القصة لدلالة المذكور على المحذوف وذلك كقوله تعالى { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق } تقديره فأرسلوه فأتاه فقال يوسف أيها الصديق { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا } حذف فأتياه فقالا إنا رسول رب العالمين الآية وكذلك قوله { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى } حذف الجمل التي أمرا بإبلاغها إما على جهة التفصيل لو لفظ بها وإما على جهة الاختصار مثل أن يقول فأتياه فأبلغاه ذلك قال فمن ربكما يا موسى وكذلك قوله { اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى } فحذف ذكر ما أمر

بإبلاغه إليه ولو لفظ به لكان ذكره مختصرا أحسن فيقدر كذلك ذلك مثل أن تقول وأبلغه ذلك كما قال { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } ولم يقل فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك الفائدة الثانية والثلاثون التذكير بالنعم يتضمن اقتضاء شكرها لأن شكرها هو المقصود من ذكرها { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } { فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } { اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } فالغرض بتذكير النعم والتوسل بذكرها إلى شكرها لما يتوقف شكرها على ذكرها وإلا فمجرد ذكر النعمة لا غرض فيه

الفصل الثامن
فيما يدل على الأحكام من صفات الله تعالى أو صفات الرب سبحانه أوصاف الرب ضربان سلبي وإثباتي

فالسلبي كالقدوس والسلام والغني ويذكرها الرب سبحانه تمدحا لنفسه وإعلاما لعباده وترغيبا في الإعظام والإجلال وقد يذكر الغني لبيان أن جزاء أعمال العباد تعود عليهم دونه كقوله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } { ومن كفر فإن ربي غني كريم } جواب الشرط ومن كفر فقد ضيع حظ نفسه من الثواب ومن السلامة من العقاب فيعود ذلك إلى الزجر عن الكفر وصفات الإثبات ضربان ذاتي وفعلي وتذكر صفات الذات إعلاما وترغيبا في الإجلال والمهابة وتمدحا وترغيبا في الطاعة وتحذيرا من المعصية

وتذكر صفات الفعل للتمدح والتمنن والترغيب والترهيب والتعليم لأجل التعظيم وقد ينسب إليه أوصافا على سبيل التجوز إذ لا يمكن اتصافه بحقائقها وهل يكون مجازها عبارة عن وصف ذاتي أو فعلي فيه خلاف وقد يكون في بعض المواطن عبارة عن وصف ذاتي وفي بعضها عن وصف فعلي كقوله صلى الله عليه وسلم أعوذ برضاك من سخطك فالرضا هنا عبارة عن الإرادة إذ لا يستعاذ بحادث والمراد بالسخط فعل الساخط إذ لا يستعاذ من قديم وبمعافاتك من عقوبتك أي بموجبات معافاتك وهي من قدرتك وإرادتك من عين عقوبتك وبك منك لأن الاستعاذة بالفاعل على التحقيق

وصفات الذات سبع الصفة الأولى الحياة وتذكر تعليما للإجلال وتمدحا كقوله { الحي القيوم } { هو الحي لا إله إلا هو } وقد تذكر ترغيبا كقوله { وتوكل على الحي الذي لا يموت } وذكر الحياة الدائمة ترغيبا في التوكل عليه والالتجاء إليه الصفة الثانية العلم وتذكر تمدحا كقوله { وهو بكل شيء عليم } { ويعلم ما في البر والبحر } { وكان الله بكل شيء عليما } { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } { وأحصى كل شيء عددا } وقد تذكر ترغيبا وترهيبا فالترغيب كقوله { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }

{ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } { والله عليم بالمتقين } والترهيب كقوله { والله عليم بالظالمين } { فإن الله عليم بالمفسدين } { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } { يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } والجمع بين الترغيب والترهيب كقوله { والله يعلم المفسد من المصلح } { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } { يعلم ما تكسب كل نفس } { وما ربك بغافل عما يعملون } { ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } { والله عليم بذات الصدور } { والله يعلم أعمالكم } { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا }

وقد تذكر للتسلية كقوله { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } الصفة الثالثة الإرادة وقد تذكر تمدحا كقوله { فعال لما يريد } تمدح بنفوذ إرادته في كل ما يتعلق به وكذلك قوله { ويفعل الله ما يشاء } { تؤتي الملك من تشاء } { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له } الآية { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } { ولو شاء ربك ما فعلوه } { إن يشأ يذهبكم } وقد تذكر تمننا كقوله { والله يريد أن يتوب عليكم } { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } { ولكن يريد ليطهركم } { يريد الله أن يخفف عنكم } { ولو شاء الله لسلطهم عليكم } { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }

وقد تذكر ترهيبا كقوله { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } { ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } { لو نشاء لجعلناه حطاما } { ولو نشاء لأريناكهم } { لو نشاء جعلناه أجاجا } الصفة الرابعة السمع وتذكر تمدحا كقوله جل ثناؤه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } { والله هو السميع العليم } وتذكر تهديدا كقوله { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } وكقوله { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } ** وتذكر تسكينا وتطمينا كقوله { إنني معكما أسمع وأرى } وتذكر ترغيبا كقوله { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع } أي سامع لدعائهم عبر بالقرب عن السمع لتوقفه عليه في العادة

وتذكر بمعنى الإجابة كقوله { إن ربي لسميع الدعاء } { إنه سميع قريب } وكذلك قول المصلي سمع الله لمن حمده الصفة الخامسة البصر وتذكر تمدحا كقوله { وهو يدرك الأبصار } وكقوله { وهو السميع البصير } وتذكر تسكينا وتطمينا كقوله { أسمع وأرى } وتذكر ترهيبا كقوله { أيحسب أن لم يره أحد } { ألم يعلم بأن الله يرى } وتذكر ترغيبا كقوله { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين } وقوله { وأن سعيه سوف يرى } وتذكر ترهيبا وترغيبا كقوله { وما كنا غائبين } وقوله { فسيرى الله عملكم ورسوله } وقوله { لننظر كيف تعملون } وقوله { فينظر كيف تعملون } وكقوله { إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } الصفة السادسة القدرة وتذكر تمدحا كقوله { والله على كل شيء قدير } { وكان الله على كل شيء مقتدرا } { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير }

{ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } وتذكر ترغيبا ووعدا كقوله { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } أي على المكافأة والمجازاة { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير } أي على ذلك وقد تذكر ترهيبا كقوله { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } { أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم } { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا } الصفة السابعة الكلام وهو الأصل في جميع الأحكام لأمره

ونهيه وإطلاقه وإباحته ووعده ووعيده وذمه ومدحه وغير ذلك مما تقدم ذكره من نصب الأسباب والموانع والشرائط والآجال والأوقات وغير ذلك من أنواع الأحكام وأما صفات الفعل فما كان متعلقه خيرا أو نعمة كالخلاق والرزاق والوهاب والفتاح والنافع والرافع فإنه يذكر تمننا أو تمدحا أو إطماعا في متعلق تلك الصفة وما كان متعلقه شراء أو نقمة فإنه يذكر تمدحا بالقهر والغلبة أو ترهيبا من متعلقه كالقهار والجبار إن أخذ من الإجبار وقد يأمر بأن يتعلم ذلك الوصف ويكون الغرض الترغيب والترهيب كقوله { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } وقد يأمر بإبلاغه إلى عباده لغرض الترغيب والترهيب كقوله { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } وقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } هذا راجع إلى صفة الإدراك كالعلم والسمع والبصر كقوله { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وقد اختلف العلماء في أوصاف لا يجوز اتصاف الرب تعالى بحقائقها فحملها بعضهم على الإرادة الملازمة لذلك الوصف في غالب الأمر وحملها

الآخرون على فعل يثمره ذلك الوصف في غالب الأمر فمن ذلك ما يتعلق بالخير ومنه ما يتعلق بالشر مثال المتعلق بالخير المحبة والمودة والرأفة والرحمة والمصاحبة والمجالسة والمشي والهرولة والتقرب والتقريب والمخالة وأخذ الصدقات بيمينه وإجلاس المقسطين عن يمينه على منابر من نور وبسط يديه بالرحمة والتوبة ونحو ذلك من الأوصاف التي متعلقها خير ونفع فإن جعل ذلك عبارة عن الإرادة قلت يريد بوليه ما يريده المحب بحبيبه والواد بمودوده والراحم بمن رحمه والرؤوف بمن رأف به والمصاحب والمجالس بصاحبه وجليسه والماشي والمهرول إكراما لمن مشى إليه وهرول إليه والمقرب بمن قربه والمتقرب بمن تقرب إليه والخليل بخليله والقابل لها يهدي إليه بيمينه والمجلس لمن يحبه ويكرمه عن يمينه وإن جعلت ذلك عبارة عن الفعل قلت يعامل وليه معاملة الحبيب لحبيبه والواد لمودوده والراحم لمرحومه والرؤوف لمن رأف به والصاحب لصاحبه والمجالس لجليسه والماشي لمن مشى إليه والمهرول لمن هرول إليه والمقرب والمتقرب لمن قربه وتقرب إليه والخليل لخليله والقابل لما يهدي إليه بيمينه والمجلس لمن يكرمه عن يمينه

والباسط يده بالبذل والإعطاء لمن بذل له وأعطاه وكل ذلك راجع إلى الترغيب الدال على الأمر أمثلة { يحببكم الله } { وهو الغفور الرحيم } { إن ربي رحيم ودود } اللهم أنت الصاحب في السفر اللهم أصبحنا في سفرنا أنا جليس من ذكرني ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن جاءني يمشي جئته هرولة { أولئك المقربون } { واتخذ الله إبراهيم خليلا } وإن صاحبكم خليل الله { ويأخذ الصدقات } إلا أخذها الرحمن

بيمينه المقسطون على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن وكلتا يدي ربي يمين { بل يداه مبسوطتان } إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار ومثال المتعلق بالشر والغضب والسخط والأسف والمقت والعداوة ونفي النظر والإبعاد والإعراض ونحو ذلك من الصفات فإن جعلت ذلك عبارة عن الإرادة قلت يريد بالعاصي ما يريده الغضبان بمن أغضبه والساخط بمن أسخطه والماقت بمقوته والعدو

بعدوه والبعد بمن أبعده والمعرض بمن أعرض عنه والمكاره المحتقر لمن لا ينظر إليه حقارة وبغضا وإن جعلت ذلك عبارة عن الفعل قلت يعامله معاملة الغضبان بمن أغضبه والساخط لمن أسخطه والماقت لمقوته والعدو لعدوه والمعرض لمن أعرض عنه والمبعد لمن أبعده والمولي الذي لا ينظر إلى من يكرهه مقتا وكراهة له وكل ذلك راجع إلى الوعيد الدال على النهي أمثلة ذلك { وغضب الله عليهم } { اتبعوا ما أسخط الله } { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } { فإن الله عدو للكافرين } { ألا بعدا لمدين } { فسحقا لأصحاب السعير } وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه { ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } والأحسن في جميع هذه الأوصاف أن

يتجوز لها عن الفعل لأن التهديد به إثم بخلاف التجوز بها عن الإرادة إذ يصح أن يقال أراد ولم يفعل وإن كان ذلك لا يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى لأنه يحتاج إلى نظر وتأمل حتى يعرف وأما إيقاع الفعل فلا توقف فيه فيحصل الترغيب به والترهيب على الفور من غير تأمل والتأمل في صدق الخبر يعم الإخبار عن الإرادة والإخبار عن الفعل ولهذه الأوصاف نظائر كثيرة كالشكور والصبور بمعنى أنه يعامل عباده معاملة الشكور والصبور وكذلك وصفه نفسه بالغيرة أي يعامل عباده معاملة الغيور وكذلك وصفه نفسه بنسيان من نسيه معناه يعاملهم معاملة من سجن من أغضبه في العذاب ثم نسيه ومن أوصافنا ما إذا نسبناه إليه وتعلق به عبر به عن آثاره تجوزا كالتقرب إليه والذهاب إليه والمشي إليه والإعراض عنه والبعد منه وكذلك قول شعيب { واتخذتموه وراءكم ظهريا } معناه يعامله معاملة المتقرب إليه والذاهب إليه والمعرض عنه والنائي بجانبه والنابذ للشيء وراء ظهره اطراحا له أمثله ذلك { واسجد واقترب } { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين }

{ وقال إني مهاجر إلى ربي } { إذ جاء ربه بقلب سليم } ومن جاءني يمشي جئته أهرول { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم } { أعرض ونأى بجانبه } { فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } { فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } وقد وصف نفسه بأوصاف تعود إلى ما ذكرناه كقوله { إن ربك لبالمرصاد } عبر بذلك عن أن أحدا لا يفوته ولا بد له منه لكونه على طريقه والمرصاد والطريق واحد وأما قوله { إن ربي على صراط مستقيم } فعبارة عن عدله في خليفته فإنه لما قال { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } قال إن ربي عادل فيهم محسن اليهم غير ظالم لأحد منهم قال الشاعر ** أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم ** وعبر عن القدرة بالأخذ بالناصية لأن الأخذ بالناصية من آثار القدرة

وأما نزوله فعبارة عن لطفه وعطفه ورفقه بخلقه لأن ذلك لازم لمن نزل إلى عباده ناظرا إليهم ومستعرضا لحاجاتهم ولذلك يقول هل من داع فأستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ثم يبسط يده من يقرض غير عديم ولا ظلوم ذكر هاتين الصفتين ترغيبا في الإقراض فإن العديم لا يعامل والمليء الظلوم لا يقرض وأما قوله وقوله { إلا هو معهم أين ما كانوا } فإنه عبر بذلك عن سمعه لما يقولون وبصره لما يفعلون لأن الحاضر الكائن معك لا يخفى عليه فعلك ولا قولك فلما كان ذلك من آثار المعية عبر بها عنه ولأن المعية سبب للاستحياء من ركوب القبائح ولا سيما معية العظماء الأكابر وذلك متضمن للترغيب والترهيب

والضابط لهذا وأمثاله أن حقائق هذه الأشياء محال في حق القديم سبحانه وتعالى ولكن لها في العادة لوازم لا تنفك عنها غالبا فعبر بها عن لوازمها مثال ذلك إن المجالسة لها آداب وإكرام وحقوق فعبر بالمجالسة عنها وكذلك للمصاحبة حقوق ولوازم في الرفق والحفظ والذب فعبر بالمصاحبة عن هذه اللوازم وكذلك العداوة والمقت لهما لوازم لا تخفى فعبر بهما عن لوازمهما وكذلك المحبة والرضى والفرح والغضب والأسف فليقس ما لم أذكره على ما ذكرته وسأختم ذلك بفصلين أحدهما في ذكر ضروب من المجاز والثاني في كيفية استخراج الأحكام من أدلتها المذكورة وقد تركت أصنافا من الوعد والوعيد والمدح والذم وغير ذلك من الأدلة كبياض الوجوه وسوادها وعبوسها وبسورها ونعمتها ونضارتها ونظرها إلى ربها وسؤال الناس عن أعمالهم وحسابهم على أقوالهم وأفعالهم فإن فيما ذكرته قليلا على ما أهملته وفقنا الله لفهم مراده من كتابه وسنة نبيه عليه السلام ووفقنا على ذلك ووفقنا للعمل به بمنه ولطفه

الفصل التاسع
في ضروب من المجاز يعبر عن الأجسام والأعراض والنسب تارة بالحقيقة وتارة بالمجاز ويتجوز بلفظ الجسم عن جسم آخر كلفظ الإنسان والحيوان والأشجار فإنه يعبر كل واحد من هذه المسميات عن تمثالها من الأجسام

بأهلها ويحتقرهم ويهينهم ويذلهم كما قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم في مآثر الجاهلية إنها موضوعة تحت قدميه استهانة بالمآثر المخالفة للشرع ويتجوز بلفظ النور في الجلال والجمال وفي البداية والتعريف

وكذلك يعبر بلفظ العرض عن عرض آخر على ما سنصفه إن شاء الله تعالى فمن التعبير بألفاظ الأجسام عن المعاني اليد فيد القديم سبحانه وتعالى ويمينه عبارة عن قدرته وبطشه وقوته { بيده الملك } أي في قدرته { مما عملت أيدينا } أي مما أحدثته قدرتنا { لما خلقت بيدي } أي لما كونته بقدرتي { لأخذنا منه باليمين } أي بالقوة والبطش { كنتم تأتوننا عن اليمين } أي بسبب قوتكم وقدرتكم علينا وأما قوله في الصدقة إلا أخذها الرحمن بيمينه فعبارة عن حسن القبول لأن الأخذ باليمين مسبب عنه وكذلك قوله إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن

عبر بذلك عن تكريمهم تقديرهم بمعنى أنه يعاملهم في الإكرام معاملة عظيم أجلس إنسانا على كرسي عن يمينه ويعبر بالعين عن إدراك المبصرات لأنها محل الإدراك كما يعبر باللسان عن الكلام وبالقلب عن العقل فقوله { فإنك بأعيننا } أي بمرأى منا وكذلك قوله { تجري بأعيننا } ومن التعبير باللفظ العرض عن عرض آخر التعبير بوضع القدم عن الاستهانة في قوله حتى يضع الجبار قدمه على النار أي يستهزىء

وبالمجيء والإتيان عن التعريف بعد الجهالة والهداية بعد الضلالة تشبيها لما غاب عن البصيرة بما غاب عن البصر فإن البعد والعزوب سبب للغيبة عن الإدراك لمنعها منه والقرب والحضور سبب الإدراك والمشاهدة وكذلك الوقوف قد يعبر به عن التعريف في قولك وقفته على كذا إذ عرفته به لأن الواقف على الشيء مدرك لما وقف عليه ومنه قوله تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } أي عرفوه فعرفوه وكذلك يعبر بالمحبة والكراهة والسخط والرضى والقرب والبعد والإقبال والإعراض عن آثارها ولوازمها وكذلك التردد في مساءة المؤمن ذكر عبارة عن منزلته عند ربه فإن من عز عليك وكانت له مصلحة في طي مساءة فإنك تتردد في ذلك لمنزلته لديك بخلاف من هان عليك فإنه يسهل عليك مساءة ولا تبالي بما ناله قال الشاعر

** وهان على سراة بني لؤي ** حريق بالبويرة مستطير ** { فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا } أي لا يعز عليه ولا يصعب قال امرؤ القيس ** يعز عليها ريبتي ويسوءها ** بكاه فتثني الجيد أن يتضوعا ** وقد تستعمل بعض أفعالنا المضافة إلى الله سبحانه المتعلقة به على نوع من هذا المجاز كقربنا إليه وبعدنا منه وإعراضنا عنه وإقبالنا إليه وذهابنا إليه كقوله { إني ذاهب إلى ربي } { إلا من أتى الله بقلب سليم } { فسحقا لأصحاب السعير } أي فبعدا لهم { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم }

فأعرض فأعرض الله عنه { ومن أعرض عن ذكري } وأمثلة هذا وشواهده لا تحصى كثرة وسأذكر شيئا من ضروب المجاز يستدل بما ذكرته على ما تركته فمن ذلك اليد وحقيقتها العضو اليد يعبر بها عن القهر والاستيلاء كقوله { قل لمن في أيديكم من الأسرى } أي في قهركم واستيلائكم ويعبر بها عن القدرة وقد ذكرناه ومن ذلك الأخذ ويعبر به عن القهر والهلاك كقوله { فأخذهم الله بذنوبهم } { فأخذهم أخذة رابية } { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } ويعبر عن الجد في التمسك بالعمل كقوله

{ خذوا ما آتيناكم بقوة } { خذ الكتاب بقوة } ويعبر به عن القبول كقوله { ويأخذ الصدقات } وقوله عليه السلام إلا أخذها الرحمن بيمينه ويعبر به عن الأسر كقوله { خذوه فغلوه } { وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } ويعبر به عن الرضى كقوله { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } { آخذين ما آتاهم ربهم } ومن ذلك القبض ويعبر به عن تقتير الرزق { والله يقبض ويبسط } ويعبر به عن البخل { ويقبضون أيديهم } ومن ذلك البسط ويعبر به عن الإغناء { والله يقبض ويبسط } وعن كثرة البذل { ولا تبسطها كل البسط } { بل يداه مبسوطتان } ومن ذلك السعة ويعبر بها عن الغنى كقوله { والله واسع عليم }

{ لينفق ذو سعة من سعته } وعن كثرة التعلق كقوله { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } { وسع ربنا كل شيء علما } { إن ربك واسع المغفرة } ومن ذلك الضيق ويعبر به عن مشقة تحمل ما تكرهه النفوس من الفقر وسائر المكاره كقوله { يجعل صدره ضيقا حرجا } { ولا تك في ضيق مما يمكرون } { وضائق به صدرك } ومن ذلك وصف الزمان والمكان بوصف ما يقع فيهما { بلدا آمنا } { قرية كانت ظالمة } { من قريتك التي أخرجتك } { قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان } الآية { بلدة طيبة } { القرية التي كانت تعمل الخبائث } أمرت بقرية تأكل القرى { وهذا البلد الأمين } إني أخاف عليكم عذاب يوم

{ أليم } { عذاب يوم عظيم } { ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } { وذلك يوم مشهود } { يأكلن ما قدمتم لهن } { يوم عصيب } { يوم عقيم } { أيام نحسات } { الشهر الحرام بالشهر الحرام } ومن ذلك الغل ويعبر به عن البخل كقوله { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } ويعبر به عن التكاليف الشاقة { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم }

وعن موانع الانقياد وموانع الإيمان { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } ومن ذلك التعبير عن الشيء بمحله أو بما قارب محله كقوله { فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } عبر بالقلب عن العقل والأذن عن السمع { فإنك بأعيننا } { تجري بأعيننا } { ولتصنع على عيني } { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } { نزل به الروح الأمين على قلبك } { لما خلقت بيدي } { مما عملت أيدينا أنعاما } { والسماوات مطويات بيمينه } { لأخذنا منه باليمين } { ونأى بجانبه } أي بنفسه { فإذا نزل بساحتهم } أي ربهم وكذلك التعبير باللسان عن اللغة كقوله { بلسان قومه }

{ بلسان عربي مبين } { واختلاف ألسنتكم وألوانكم } وعن الثناء { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } { وجعلنا لهم لسان صدق عليا } ومن ذلك التمسك ويعبر به عن ملازمة الفعل والاعتماد عليه كقوله { فاستمسك بالذي أوحي إليك } { والذين يمسكون بالكتاب } { فقد استمسك بالعروة الوثقى } ومن ذلك الاستقامة ويعبر بها عن تعاطي الأفعال الحسنة ومن ذلك الكفر والرين والغين والحجاب والغطاء والأكنة والغلف والأقفال والختم والطبع والغشاوة والغمرة ويعبر

بذلك كله عن موانع المعرفة والإيمان وسواير البصيرة عن العرفان فالموانع هي الجهل والشك وفساد الاعتقاد لأن الشكوك والجهالة تحول بين البصيرة وبين إدراك المعقولات كما أن الأجسام الكثيفة حائلة بين البصر وبين إدراك المبصرات فصار المعنى الساتر للبصيرة كالجسم الساكر للبصر { إن الذين كفروا } { ألا إن ثمود كفروا ربهم } { بل ران على قلوبهم } إنه ليغان على قلبي { حجابا مستورا } { ومن بيننا وبينك حجاب } { فكشفنا عنك غطاءك } { وجعلنا على قلوبهم أكنة } { قلوبنا غلف } { أم على قلوب أقفالها } { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة }

{ وطبع على قلوبهم } { وجعل على بصره غشاوة } { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } { بل قلوبهم في غمرة من هذا } { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } عبر عن مانع فهم ما يسمعه أو يتعقله بالختم وعن مانع الاعتبار بما يشاهده بعينيه بالغشاوة ومن ذلك الصدق ويعبر به عن الحسن كقوله { قدم صدق } { مقعد صدق } { لسان صدق } ومن ذلك خفض الجناح ويعبر به عن التواضع ولين الجانب { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }

ومن ذلك اللين ويعبر به عن حسن التأني وسرعة الانقياد { فبما رحمة من الله لنت لهم } المؤمنون هينون لينون ومن ذلك الانقلاب على الوجه وعلى العقب أصل انقلب على وجهه رجع على طريقه الذي جاء منه ويعبر به عن الرجوع إلى مثل ما كان عليه من الفعل والاعتقاد انقلب على وجهه رجع إلى دينه وأصل الانقلاب على العقب الرجوع إلى جهة العقب ويعبر به أيضا عما يعبر منه بالإنقلاب على الوجه { انقلبتم على أعقابكم } { يردوكم على أعقابكم } { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } العروة الوثقى و يتجوز بها عن الدين العاصم من العذاب

الحبل يتجوز به عن العهد { واعتصموا بحبل الله جميعا } { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } ** إني بحبلك واصل حبلي ** وبريش نبلك رائش نبلي البناء و يعبر به عن تأليف الأجسام وأحكام تأليفها وإتقانه { والسماء بنيناها بأيد } { والسماء وما بناها } { كيف بنيناها وزيناها } ويعبر به عن أحكام الأمر والمكر وإبرامه { فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم } عبر بذلك عن رجوع وبال مكرهم عليهم

الشفا ويعبر به عن كفرهم الموجب لسقوطهم في النار { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } وكذلك قوله { على شفا جرف هار } عبر به عن نفاقهم الموجب لسقوطهم في النار وكذلك قوله { فانهار به في نار جهنم } الشراء والبيع ويعبر بالشراء عن التكليف بشرط الثواب وعن البيع بالتزام التكليف { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } أي بذل أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } بين اليدين ويعبر به عن التقدم والسبق { فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } { بين يدي عذاب شديد } { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } { اتقوا ما بين أيديكم }

النبذ والترك وراء الظهر ويعبر بهما عن الاستهانة والإعراض { فنبذوه وراء ظهورهم } { ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } { واتخذتموه وراءكم ظهريا } { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم } ويعبر بالثقل عن المشقة كقوله { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } ويعبر به عن الشرف في قوله صلى الله عليه وسلم تركت فيكم الثقلين ومنه الثقلان الجن والإنس لشرفهما بالعقل فتح الباب ويعبر به عن النقل من الشدة إلى الرخاء ومن النعمة إلى البلاء { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي من النعم { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } ويعبر بالفتح أيضا عن المعرفة بعد

الجهالة في قوله { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } على قول بعضهم وعن الحكم لأنه يفتح ما انغلق عن الخصمين { قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم } { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } وعن إفادة الرزق { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }

التعبير ببعض الشيء عن جملته يعبر عن الصلاة بالقرآن في قوله { وقرآن الفجر } وبالقيام في قوله { لا تقم فيه أبدا } من قام رمضان إيمانا واحتسابا وبالتسبيح في قوله { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } وبالذكر في قوله { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } وبالسجود في قوله { ومن الليل فاسجد له } وقوله { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } وقوله { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وبالركوع في قوله { واركعوا مع الراكعين }

ويعبر باليد عن الجملة في قوله { ذلك بما قدمت يداك } { فبما كسبت أيديكم } { مما ملكت أيمانكم } ويعبر بالعضد عن الجملة { سنشد عضدك بأخيك } وقد يعبر بالعضد عن الناصر { وما كنت متخذ المضلين عضدا } الأخذ بالناصية ويعبر به عن القهر والاستيلاء كقوله { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } ومن ذلك وصف الشيء بصفة بعضه قد يوصف الشيء بصفة بعضه كقوله تعالى { بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم } فإن جميع آياته لا تشتمل على البشارة ولا على النذارة 3 ومن ذلك وصف الشيء بما كان عليه وبما يؤول إليه { وآتوا اليتامى أموالهم } { إنك ميت وإنهم ميتون } { أعصر خمرا }

ومن ذلك النسب المجازية { إنهن أضللن كثيرا من الناس } { فأخرجهما مما كانا فيه } { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم } { ولما سكت عن موسى الغضب } العلو والفوقية والدرجة والرفعة يعبر بها عن المجد والشرف { وهو العلي العظيم } ويعبر بالعلو عن الغلبة { وأنتم الأعلون } { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } { نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } { رفيع الدرجات } { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } { وهو القاهر فوق عباده } الإنسلاخ ويعبر به عن ترك العمل بعد التثبث به { فانسلخ منها } الكذب ويعبر به عن بطلان الدلالة وإبهامها { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } العلم ويعبر به عن الظن { فإن علمتموهن مؤمنات }

ويعبر بالظن عن العلم { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } وكذلك الريب والقلق ومنه { ريب المنون } قال أمن المنون وريبها تتوجع ويعبر به عن الشك لأن القلق يلزمه وكذلك الطيب اللذيذ والخبيث المستكره ويعبر بالطيب عن الحلال وعن ما حسن من الأقوال والأعمال وبالخبيث عن الحرام وعما قبح من الفعل والمقال { كلمة طيبة } { ومثل كلمة خبيثة } وقال

النبي صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها منتنة طبت وطاب ممشاك { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين } { كانت تعمل الخبائث } الأرجاس والأنجاس أعيان مستقذرة ويعبر بهما عن الأوصاف المستقبحة { ليذهب عنكم الرجس } { إنما المشركون نجس } وقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها منتنة الطهارة إزالة الأنجاس ويعبر بها عن إزالة الأوصاف المستقبحة شرعا { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } { ذلكم أزكى لكم وأطهر } { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } { ويطهركم تطهيرا }

{ يتلو صحفا مطهرة } معناه من الباطل والكذب والزور الكتابة ويعبر بها عن الإثبات وعن دوام الحفظ { كتب في قلوبهم الإيمان } { سنكتب ما قالوا } { سنكتب ما يقول } النور والضياء ويعبر بهما عن الإبانة والمعرفة { وضياء وذكرا للمتقين } { قد جاءكم من الله نور } ويعبر أيضا بالسراج عن المعرف المظهر { وسراجا منيرا } الموت والظلمة ويعبر بهما عن الجهل { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات } { صم وبكم في الظلمات } ويعبر بالظلمات عن الشدة { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } مجيء ما لا يصح مجيئه بنفسه يعبر بالمجيء والإتيان والقدوم

والحضور عن آثارها من حصول المعرفة { وجاء ربك والملك صفا صفا } { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } وقد يعبر بذلك عن مجيء بحله { جاءتكم موعظة من ربكم } { جاءتهم البينات } وكذلك يعبر بالصعود والنزول عن صعود المحل ونزوله { وأنزلنا إليك الذكر } { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } { ونزلناه تنزيلا } { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } الغمرة و يعبر بها عن الجهل وعن الشدة { بل قلوبهم في غمرة من هذا } { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } أي في شدائده الغامرة

العبرة فعلة من العبور وهو الانتقال من حيز إلى حيز ويعبر بها عن حسن الإنتقال من الاغتزاز إلى الاتعاظ وعن الدلالة الناقلة من الجهل إلى العرفان { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } السكر ويعبر به عن شدة الخوف { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } العنت وإرهاق الصعود ويعبر بهما عن المشقة الشديدة لأن أصل العنت انكسار العظم بعد انجباره والصعود العقبة الشاقة { ذلك لمن خشي العنت منكم } { ولو شاء الله لأعنتكم } { سأرهقه صعودا } الشرعة والطريق والسبيل والصراط والشاكلة والمنهاج بمعنى واحد وهي الطرق ويعبر بها عن كل عمل أدى إلى خير أو شر { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }

{ ويصدون عن سبيل الله } { اهدنا الصراط المستقيم } { قل كل يعمل على شاكلته } أي على طريقته { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } { ولتستبين سبيل المجرمين } { واتبع سبيل من أناب إلي } { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } { لنهدينهم سبلنا } التعبير بالشيء عن ضده تهكما { إنك لأنت الحليم الرشيد } { ذق إنك أنت العزيز الكريم } { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } { قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } التحميل والتحمل ويعبر بالتحميل عن التكليف وبالتحمل عن القبول والالتزام { مثل الذين حملوا التوراة } أي حملوا أحكام التوراة { ثم لم يحملوها } أي لم يلتزموها { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم }

المرض والشفاء ويعبر بالمرض عن سوء الاعتقاد وبالشفاء عن الاهتداء { في قلوبهم مرض } { قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور } الابتلاء والاختبار ويعبر به عن آثاره من العلم والمعرفة { يوم تبلى السرائر } { تبلو كل نفس ما أسلفت } أي تعلم كقوله { علمت نفس ما أحضرت } { ونبلو أخباركم } أي نعلمها ويعبر بالابتلاء والفتنة عن كل فعل تصور بصورتهما من المعاملة بالنعم والنقم { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } { وإن كنا لمبتلين } { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } وقوله { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } يحتمل الأمرين وكل بلاء حسن أبلانا

العثور ويعبر به عن الظن والعرفان { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } ويعبر بالربط والختم عن الصبر { وربطنا على قلوبهم } { لولا أن ربطنا على قلبها } { فإن يشأ الله يختم على قلبك } أي يصبرك ويعبر بالشهوة والهوى عن المهوى والمشتهى { زين للناس حب الشهوات } { من اتخذ إلهه هواه } { ونهى النفس عن الهوى } أي عن المهوى فإن الميل الطبيعي لا يمكن الإنتهاء عنه بل ينهى عن اتباعه وقد صرح بذلك في قوله { ولا تتبع الهوى }

الذوق إدراك المطعوم ويعبر به عن وجدان الآلام { فذوقوا العذاب } { فذوقوا ما كنتم تكنزون } أي جزاءه { فأذاقهم الله الخزي } { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } ويعبر بالكبير والعظيم والغليظ عن شدة العذاب { عذاب يوم كبير } { عذاب عظيم } { عذاب غليظ } ويعبر بالعريض عن الكثير { فذو دعاء عريض } ويعبر بالإرادة عن الأمر للزومها له غالبا { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون }

أي لأمرهم بعبادتي على قول بعضهم { والله يريد الآخرة } أي يريد سعي الأخرة بمعنى فأمرهم بسعي الآخرة فحذف السعي وعبر بالإرادة عن الأمر وقد يعبر بالإرادة عن المقاربة { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } أي قارب الانقضاض

ويعبر بالدخول والخروج عن تبدل الأوصاف والتنقل عنها إلى غيرها { يخرجهم من الظلمات إلى النور } { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } { يدخلون في دين الله أفواجا } ويعبر بالسماء عن المطر { يرسل السماء عليكم مدرارا } وبالحنف عن الانتقال من الجهل إلى المعرفة { حنيفا مسلما } أي عارفا بالله مائلا إليه بعد الجهل به ويعبر بعض اليد وتقليب الكف عن الندم { فأصبح يقلب كفيه } { ويوم يعض الظالم على يديه }

ويعبر بالمجالسة والمصاحبة عن آثارهما من الإحسان والرفق أنا جليس من ذكرني اللهم أصحبنا في سفرنا اللهم أنت الصاحب في السفر ربنا صاحبنا في سفرنا فأفضل علينا ويعبر بالسقوط عن ملابسة ما لا ينبغي { ألا في الفتنة سقطوا } ويتجوز ب على عن الوجوب لأن الواجب كشيء اعتلى فتقول على دين وصلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة وشهادة

وتستعمل من وعن في التعليل تجوزا لأن ابتداء صدور المعلول من علته وعن علته { مما خطيئاتهم أغرقوا } { وما تتلو منه من قرآن } أي لأجله { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } { وما ينطق عن الهوى } { يؤفك عنه من أفك } { رضي الله عنهم } متضمن معنى عفا وتجاوز فذلك عدى ب عن التي للمجاوزة ولما كان متعلق الأوصاف المتعلقة بمثابة المكان والمحل لتعلق المتعلق استعملت في ذلك أداة الظرفية وهي في ومن ذلك

قوله تعالى { وجاهدوا في الله حق جهاده } أي في طاعة الله جعلت الطاعة كالمحل للجهاد وكذلك قولك رغبت في زيد ورغبت في العلم كأنك جعلته محلا لرغبتك دون ما عداه وكذلك المودة في قوله { إلا المودة في القربى } جعل القربى محلا للمودة بمعنى أنها متعلق المودة ولذلك صح أن تستعمل في السببية في قوله { لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } للتعلق الذي بين السبب والمسبب وكذلك قوله { وهو الله في السماوات وفي الأرض } لما تعلقت قدرته وإرادته وعلمه وسمعه وبصره بهما وصارتا محلا لذلك التعلق صح التعبير ب في لما ذكرناه والباء تستعمل في الإلصاق المعنوي والحقيقي

فالمعنوي كالتعلق الذي بين السبب والمسبب فإن المسبب ملصق بسببه من جهة المعنى وكذلك قولك استعنت بالله لتعلق الإستعانة به وابتدأت بذكر الله وأنواع المجاز كثيرة في الحروف والظروف والاسماء والأفعال والتعبير عن الماضي بالمستقبل وعكسه وعن الخبر بالأمر وعكسه والنظر في كل نوع من هذه الأنواع على حياله وبيان العلاقة

التي بين محل التجوز ومحل الحقيقة على التفضيل مما يطول ذكره

الفصل العاشر
في كيفية استخراج الأحكام من أدلتها قد تقدم أن كل فعل مدح أو مدح فاعله لأجله أو وعد عليه بخبر عاجل أو آجل فهو مأمور به لكنه مردد بين الندب والإيجاب وكل فعل ذم أو ذم فاعله لأجله أو وعد عليه بشر عاجل أو

آجل فهو محرم وكل فعل ذم تركه أو ذم تاركه لأجل تركه أو وعد على تركه بشر عاجل أو آجل فهو واجب وقد يقع في الأدلة ما يدل على التكليف إجمالا كالتبشير والإنذار إذا لم يعلقا بفعل معين كقوله { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } وكقوله في القرآن { بشيرا ونذيرا } وكقوله { إن عذاب ربك لواقع } فالبشارة تدل على الأمر من غير تعيين مأمور به والنذارة تدل على النهي من غير تعيين منهي عنه ومن الأدلة ما يدل على الأمر بنوع من الفعل أو النهي عن نوع من الفعل ومنها ما تنتظم المأمورات بأسرها والمنهيات بأسرها ومنها ما يدل على الجميع وهذه الدلالات تارة تكون بالصيغة وتارة تكون باللزوم كما تقدم فمن ذلك قوله تعالى { أوفوا بالعقود } عام لجميع التكاليف المؤكدة على قول ولجميع عقود المعاملات على القول

ومنه قوله { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } عام للتعاون على كل بر وتقوى وعام للنهي عن التعاون على كل إثم وعدوان ومنه قوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام } عام لجميع النعم وقوله { قل أحل لكم الطيبات } عام في جميع المستلذات إلا ما استثنى ولا يجوز حمل الطيبات هنا على الحلال إذ لا جواب فيه فإنه لا يصح أن يقال يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الحلال

وقوله { بلغ ما أنزل إليك } عام في كل جملة وقوله { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } عام في اتباع جميع المنزل الممكن اتباعه وقوله { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } عام في جميع الإثم بترك كل واجب وارتكاب كل منهي محرم منه ومنه { قل إنما حرم ربي الفواحش } الآية وقوله { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية فهذه أمثلة ما يعم بجهة صيغته وأما ما يعم بدلالة اللزوم كقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } أي بر جزاءه وذلك عام في جميع الخيور والشرور وقوله { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } عام في كل عمل تعلق به التكليف وقوله { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت }

{ يوم تجد كل نفس ما عملت } الآية { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } { فينبئكم بما كنتم تعملون } { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } الآية { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { وكل شيء أحصيناه كتابا } { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } الآية { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } { ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } { والله بصير بما تعملون } { فإن الله كان بعباده بصيرا } { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } وأمثلة ذلك كثيرة وأما كيفية انتزاع الأحكام من أدلتها فمثل قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون } إلى قوله { أولئك هم الوارثون } فإنه يدل على أحد عشر حكما منها إباحتان إحداهما للزوجات والثانية لملك الأيمان

ومنها تحريم ما وراء الزوجات والمملوكات ومنها ثماني مأمورات الإيمان والخشوع وترك اللغو وفعل الزكاة وحفظ الفروج ورعاية العهود والأمانات والمحافظة على الصلوات فهذه كلها مأمورات فإن الله جل جلاله افتتحها بالمدح بالفلاح وختمها بالوعد بالفردوس ثم استثنى الزوجات والمملوكات من المدح بحفظ الفروج عنهن فخرجن من المدح بالتحفظ عن وطئهن فلما خرجن من حيز المدح جاز أن يكون وطئهن مباحا وأن لا يكون فأخرجه من حيز النهي إلى حيز الإباحة بقوله { فإنهم غير ملومين } ثم بين أن ما عداهن محرم بقوله { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وقد تدل اللفظة الواحدة على حكمين أحدهما مستفاد من الدلالة الصيغة والآخر مستفاد من دلالة اللزوم كقوله تعالى { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يدل على أمر الرسول بالتبشير وعلى أمر المخاطبين بالإيمان والعمل الصالح لتعلق البشارة بهما وقوله { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } يدل على أمر الرسول بإبلاغهم هذا القول وعلى تحريم العمل على مكانتهم فإن قوله { اعملوا } أمر تهديد ووعيد وكذلك قوله { قل أطيعوا الله }

أمر للرسول باقتضاء الطاعة بهذه الصيغة وأمر لهم بإيقاع الطاعة وقد تسمى مأمورات كثيرة باسم واحد كالصلوات والكفارات والديات فتكون أركانها وشرائطها وسننها كل واحد منها مأمور به فتشتمل كفارة الظهار على أعداد منها العتق ومنها صوم شهرين كاملين أو ناقصين أو أحدهما كامل والآخر ناقص وبتقدير كمالهما يتضمنان شيئين عبادة هي صومهما وتسعة وخمسين تتابعا بين صومهما وإطعام ستين مدا واقتضاء ذلك مائة وثمانين مأمورا وتشتمل كفارة اليمين على أربعة وعشرين مأمورا العتق وكسوة عشرة مساكين أو إطعامهم أو صوم ثلاثة أيام

وتشتمل كفارة التمتع على أحد عشر مأمورا الهدي وصوم عشرة أيام وتشتمل كفارة الحلق على عشر مأمورات الهدي وصيام ثلاثة أيام وإطعام ستة مساكين وأقصى ما تشتمل عليه آية كفارة القتل مائتان وخمسة وخمسون مأمورا في قتل المؤمن العتق والدية فذلك مائة مأمور ومأمور لأن الدية مائة بعير وقد تنقص المرأة عن ذلك نصفه ومنها في قتل المؤمن بين الكفار عتق رقبة وأقصى ما في قتل المعاهد عتق رقبة وثلاثة وثلاثون بعيرا وثلث بعير إن كان يهوديا أو نصرانيا وقد تنقص عن ذلك

إذا كان مجوسيا وأقصى صومها ستون يوما ومتابعتها تسعة وخمسون متابعة كما ذكرته في الظهار ويشتمل قوله { واذكروا الله في أيام معدودات } على خمسة

وأربعين مأمورا لأن الأصح أنه يكبر خلف خمس عشرة صلاة ثلاثا ثلاثا وذلك خمس وأربعون تكبيرة ويشتمل قوله تعالى { كتب عليكم الصيام } على ثلاثين مأمورا وإنما ذكرت هذه الأمثلة للتدريب في استخراج الأحكام من أدلتها وسواء كانت مجملة أو مبينة سواء كانت مفردة أو مكررة ومعظم أي القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جميلة جعلها الله نصائح لخلقه مقربات إليه مزلفات لديه رحمة لعباده فطوبى لمن تأدب بآداب القرآن وتخلق بأخلاقه الجامعة لخير الدنيا والآخرة وقد كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أي آداب القرآن وقال تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } وأول ما أنزل الله إليه الأمر بقراءة القرآن ومذمة الغنى والطغيان والتخويف بالرجوع إلى الله تعالى بقوله { إن إلى ربك الرجعى } ثم ختم كتابه بنصح جامع فقال تعالى { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } أي اتقوا عذاب يوم ترجعون فيه إلى جزاء الله وإنما يتقى

عذاب ذلك اليوم بفعل كل واجب وترك كل محرم { ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي جزاء ما كسبت وهذا عام في اكتساب الخير والشر { وهم لا يظلمون } أي لا ينقص من حسنات محسنهم ولا يزاد على سيئات مسيئهم أمر بالتقوى ثم رغب ورهب بالرجوع إليه توفيه أجور الخير والشر { كتاب أنزلناه إليك مبارك } أي كثير خيره { ليدبروا آياته } أي ليتفهموا آياته { وليتذكر أولوا الألباب } أي ليتعظ العقلاء بها إذا تدبروها فسبحان الله ما أقبح بالعبد أن يرسل إليه مولاه برسالة فيها تعريفه أسباب سخطه وأسباب مرضاته ثم لا يقف عليها ولا يلتفت إليها وقد قال بعض الأكابر إذا سمعت الله يقول { يا أيها الذين آمنوا } فأصغ إليها فإما خير يسوقه إليك أو شر يصرفه عنك { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى }

اللهم وفقنا لفهم كتابك والعمل بما فيه والتخلق بأخلاقه والوقوف على أسراره ومعانيه فإنه لا ينفع شيء إلا بقدرتك ولا يتم أمر إلا بإرادتك فأذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك اللهم سلوة بك عن كل شيء وإيثارا لك على كل شيء صلى الله عليه وسلم الله سبحانه الله سبحانه رضي الله عنهن رضي الله عنهم اللهم تمسكا بكتابك وتخلقا بآدابك ووقوفا ببابك وعكوفا على جنابك اللهم إقبالا عليك وإصغاء إليك وأخذا عنك وقبولا منك وغنيمة من كل بر وسلامة من كل وزر يا أرحم الراحمين تم الكتاب والحمد الله رب العالمين