كتاب : المنخول
المؤلف : الامام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي
وكذا إذا استند الحكم إلى حديث عام وقياس فقد لا يطرد القياس
ويطرد الحديث فلا يطلب العكس وإذا اتحدت العلة فلا بد من عكسها فإنه مناط
الحكم ولا مطمع في اعتقاد ثبوت الحكم دون مستنده
بخلاف وجود المحكم فإن اعتقاده مع عدم الفعل غير مستحيل فلذلك لم ينعكس
فكأنا نقول شرط العلة الانعكاس إلا إذا منع مانع وليكن كل معلل ملتزما له
لو تمكن فإن العكس من طباع العلة فإن كل علة أخالت حكما أخال عدمها عدم
الحكم ولهذا قال الأستاذ يكفيه الانعكاس في مسألة واحدة وشنع القاضي عليه
فقال المسألة الواحدة كسائر المسائل فلا يشترط العكس فيها ونحن نقول الردة
والعدة والحيض والإحرام إذا ازدحمت في إمرأة فالحكم معلل بالكل ولكن كل
واحدة في حكم المنعكس وإن لم يبن أثرها فإذا زالت الردة زال تحريمها وكذا
العدة فكأن التحريم متعدد بتعدد العلة
مسألة إذا زاد المعلل وصفا يستقل الحكم في الأصل دونه ولكن رام
به درء النقض فهو مطرح إذا لم يبن كونه علة في الأصل وكذلك لو ركب من
وصفين كان أحدهما في الأصل مستقلا ولا يستقل في الفرع إلا مع غيره كقوله
أمة كافرة فصارت كالمجوسية فهذا فاسد
لأن الرق ساقط في المجوسية بالاتفاق ليس يستقل علة بالإجماع حتى يخرج على
الجمع بين العلل فيكون كقوله مس فصار كما لو مس وبال فالمحرم في الأصل هو
التمجس وهو معدوم في الفرع قال القاضي لعل طريق إثباته أن يقال خصوص
التمجس على انفراده علة وعموم الكفر مع الرق علة أخرى فهو حكم معلل بعلتين
وهذا أيضا لا يكفي وإن عموم الكفر لا يزيد على نفس التمجس وخصوصه فيستحيل
أن يكون الشئ علة على استقلاله ثم ينتصب علة مع غيره وليس من عدم التأثير
ما إذا قال المعلل مشتد مسكر فيحرم كالخمر فقيل له الميتة تحرم وليس بمشتد
مسكر فإن هذا طلب العكس في قاعدة أخرى
وليس يلزم المعلل اتفاقا أن يضبط مدارك التحريم في جملة المحرمات النوع الخامس القلب وهو ينقسم إلى مصرح وإلى مبهم أما المصرح به فمثاله قولهم عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي في وظيفته بما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء فيقال في معارضته قولنا عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر بالربع وقد اختلفوا في قبوله فقال المحققون هو مردود فإنه لم تقلب عليه العلة في عين الحكم المنصوب له وعدل إلى حكم آخر ولا يتصور القلب إلا كذلك
وليس يعارضه فإن شرط المعارضة التعارض في نفس الحكم وليس من ضرورة عدم الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم ثبوت التقدير بالربع والمختار أن هذا باطل لأنهما طردان وقد فلا يجري هذا إلا في طردين أو في مخيل وطرد إذ الشئ الواحد لا يخيل الإثبات والنفي وكذا الشبه الواحد مع أصل واحد لا يخيلهما علي جميعا على الضرورة وأما المبهم فمثاله قلبنا عليهم قولهم في مسألة المكره على الطلاق مكلف فيقع طلاقه بأنه مكلف فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار وقيل هذا القلب أيضا فاسد فإنه يتلقى من الأصل الاستواء في النفي والاستواء في الأصل في الإثبات وهذا غير سديد لأن الاستواء قضية معقولة تتبادر إلى فهم الفقيه قبل البحث عن طرفي النفي والإثبات ولكنه باطل من حيث إن الاستواء ليس من نتيجة كونه مكلفا فلا يناسب التكليف الاستواء وإن كان يناسب وقوع أصل الطلاق نعم لو أورد فصل الإقرار ابتداء لكان سؤالا متجها ولم يكن من القلب في شئ
النوع السادس فساد الوضع وهو أن تخالف العلة أصلا تتقدم عليه من
نص كتاب أو سنة أو إجماع أو قاعدة كلية أو كان لا يخيل بأن تلقى تغليظا من
تخفيف
وهذا باطل لكونه طردا ولست أرى لفساد الوضع طريقا مضبوطا سوى إبانة
الإخلال بشرط من شرائط العلة أي شرط كان فيما يعود إلى الإخالة وتقدم
المرتبة وقياس المهر على الحد في السقوط ليس فاسد الوضع إن استقام معنى
جامع مخيل وإن كان الحد مبناه على الدرء بخلاف المهر فإن للحد مع ذلك
سقوطا في بعض الأحوال وللمهر حتى أيضا سقوط فيلتقيان في الإثبات والنفي
جميعا النوع السابع في المعارضة وهي اعتراض مقبول لا يجري إلا في الأدلة
المظنونة إذ القطيعات لا تتعارض ثم شرط المعلل أن يبطل المعارضة كما يبطل
العلل أو يرجح دليله على دليله وإنما تورد المعارضة على علة لو سلمت عنها
لأفادت الحكم وأما الفاسد فلا يعارض
وقال قائلون لا تقبل المعارضة من السائل فإنه سيطالب بإثبات علة
الأصل وينتدب له وهو تعدي لنصب السائلين وهذا فاسد فان السائل يمنع الدليل
إذا افتتحه ابتداء فأما ما يستفيد به إبطال كلام المسئول فيمكن منه
ويستحيل أن ينقطع السائل مع انقداح المعارضة وأما احتياجه إلى الإثبات لا
يضر كما إذا تمسك المستدل بظاهر فيؤولة تعالى
ويعضده بقياس بالإجماع ولا منع منه النوع الثامن الفرق وقد قيل أنه لا
يقبل من حيث تضمن الجمع بين أسئلة متفرقة إذ فيه منع معنى الأصل وإبداء
معنى آخر ومعارضته في الفرع بعكس ما أبداه في الأصل فليأت الفارق بواحد
منهما والمختار أنه مقبول وعليه الجمهور ثم اختلفوا في أنه سؤال واحد أم
أسئلة فقال القائلون هو أسئلة سوغ الجمع بينها لتجمع شتات الكلام وتوضح
فقه المسألة والمختار أنه سؤال واحد والنظر إلى مقصود الفرق
والغرض منه قطع الجمع إذ المسئول يزعم أن الفرع في معنى الأصل
بدليل اجتماعهما في وصف العلة فيبين السائل افتراقهما في أمر خاص ليقطع
جمعه ولذلك قلنا الفرق ينبغي أن يكون أخص من الجمع أو مثله فلو أبان الفرق
في معنى عام لم يكفه مثاله إذا قلنا من لا يثبت بشهادته النكاح لا ينعقد
بحضوره كالصبي فقالوا تقبل شهادته المعادة بخلاف الفاسق وكذلك إذا قلنا
أخطأ في اجتهاده في شرط من شرائط الصلاة
فيجب القضاء قياسا للقبلة على الوقت فقالوا أمر الوقت أضيق من أمر القبلة
فهذا وأمثاله لا يقدح ما لم يبين فرقا قادحا في الجمع ثم ينبغي أن يتمكن
من عكس المعنى في الفرع من غير زيادة فلو افتقر إليها كان معارضا ولم يكن
فارقا واختلفوا في أن طرفي الفرق هل يحتاج إلى أصل والمختار أنه لا يحتاج
لأن الاستدلال المرسل عندنا مقبول
القسم الثاني في الاعتراضات الفاسدة ولا مطمع في استيعابها ولا
ضبط لها ولكن مجموع ما يقصد ذكره مما تداولته الألسنة سبعة أنواع أحدها
إدعاء قصور العلة على محل النص والغرض ذكر أن العلة القاصرة صحيحة وعليه
دليلان أحدهما ما ذكره القاضي من أن من أبعد تصور مصلحة في محل نص الشارع
وإن كان مستوعبا استحث الشارع على إثبات الحكم فقد عاند ومن جوز ثم أنكر
جواز ورود التكليف بالبحث عنه فقد هذي فإنا مصرفون يكلفنا ربنا بكل ممكن
كما يشاء وهذا ممكن وإذا ساغ ذلك فالباحث لا يدري قصور العلة إلا بعد
استنباطها وإذا عثر عليها
فلا معاب عليه إن اعتقده منصوب الشارع في محل النص فهذا أمر لا يعرض فيه
خلاف نعم إن قيل لا فائدة له فلا جرم لم نربط به فائدة حتى يتناقض
الثاني ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وعبر عنه بثلاث صيغ أحدها أن قال القاصرة مستجمعة لكل الشرائط كالمتعدية ولم تفارقه إلا في اعتضاده بالنص ولذلك نريده تأكيدا لا ضعفا ثانيها أن من استنبط علة متعدية وحكم بصحته ثم ورد من الشارع نص عمم جميع مجاري العلة يبعد الحكم ببطلانه بسبب شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق علته ثالثها أن كل خائض في الاستنباط من نص إذا استنبط فحقه أن يعتقد عموم حكم النص وإن خص لفظه لأنه يظن أن العلة منصوب الشارع في جميع الصور وإذا لم يكن من ظن العموم بد فاستيقان فإن العموم كيف يبطل العلة وقد تمسك النفاة بأمرين أحدهما أن الصحابة كانوا لا يستنبطون إلا العلل المتعدية والثاني أنها علة لا فائدة لها فان الحكم مستقل بالنص وفائدة العلة إثبات حكم بها وهذا لا يثبت قط
قلنا فيما ذكرنها جواب عن هذا فإنا لم نربط به فائدة والمعلل لا يتبين القصور إلا بعد العثور ثم قيل ما فائدته سد مسلك التخصيص والتعليل نص في التعميم واللفظ معرض للخصوص وهذه فائدة ظاهرة وإذا استنبطنا التعدية في الربا استفدنا به منع التخصيص بالكثير الموزون واللفظ معرض له والفائدة الثانية نفي الحكم شرعا عند انتفائها تلقيا من العكس وقد ذكرنا أن العكس واجب عندنا في العلة إذا اتحدت وإن عدمها ينفي كما ثبت وجودها فإن قيل يكفي في عدم الحكم عدم تناول النص له قلنا ولكن ذلك ليس بحكم شرعي فهو كالتحريم المنفي لأجل أن الشرع لم يرد به قبل ورود الشرع وإذا علل فهو منفي بعلة شرعية وهي عكس العلة القاصرة وفي هذا جواب عن تحكمهم على الصحابة بأنهم لم يستنبطوا عمر القاصرة وليس الأمر كما قالوه وقد ظهرت فائدته وقال قائلون لا فائدة له ولكنها صحيحة وبنى عليها أنه لا يجب استنباطها وإذا عثر الفقيه عليها تبين أنه لم يجب عليه استنباط ذلك وقال آخرون يجب استنباطها لما فيه من الفائدة
والخلاف يعود إلى عبارة في الوجوب ونفيه ثانيها منع المعلل من
الاستدلال بفساد الفرع على فساد الأصل كقولهم إذا
قلنا نكاح لا يفيد الحل أو عدم إحاطة تمنع إلزام العقد صريحا إذ الإلزام
والحل ثاني الانعقاد فلا نتكلم فيه إلا بعد الفراغ عن الأصل وغلا غالون
فقالوا انقطع المسؤول لأنه اعترف بأصل العقد وهذا هوس فإن المذاهب يمتحن
مساقها فإذا تخبطت فروعها انعكس الفساد على أصولها وغاية المعلل تغليب ظن
وما لا يفيد مقصوده يغلب على الظن فساده نعم اختلفوا في أنه من فن الشبه
أو من فن المخيل واختار الإمام كونه مخيلا لأن العقد لا يراد إلا لمقصوده
فإذا تخلف مقصوده لم يبق للعقد معنى وقال القاضي هو شبه قوي ولعل ما ذكره
القاضي أقرب فإن منتهى المعلل تمسك بحكم من الأحكام وليس متمسكا بمصلحة
مناسبة للحكم مناسبة هجوم وآيته أنه لو طولب بعلة امتناع الإلزام والحل
لافتقر إلى إبداء علة فيه أو يقول اجتماعهما فيه يوهم الاجتماع في مخيل لم
يبق إلا أنه يورث غلبة الظن وحق الشبه أن يكون كذلك
وكذلك قولنا من صح طلاقه صح ظهاره مخيل ظاهر في إفادة غلبة الظن
ولكنه من الشبه القوي والخلاف فيه قريب المأخذ ثالثها مطالبة المعلل بطرد
علته في قاعدة تباعد ما فيه بطرد الكلام كما إذا علقنا وجوب العشر
بالاقتيات فطولبنا النبي بتعليق الربا به موافقة لمالك
وهذا فاسد وليس عند المعلل ابداء فرق وقد تباين المأخذان ولم يرد ذلك نقضا
ولا استقام للسائل جمع نعم على المفتي أن يتنبه لتباين المأخذين وأن وجوب
العشر يتلقى من مسيس الحاجات وهو مختص بالأقوات وتعليل الربا فيه متلقى من
قوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام رابعها كل فرق مستنده الاتفاق
في الأصل والاختلال في الفرع كقولهم
يكفر جاحد الحكم في الأصل وينقض قضاء القاضي فيه بخلاف الفرع
فإنا لا نلتزم اخراج المسألة عن حيز المجتهدات وهذا من نتيجته خامسها قلب
العلة معلولا كقولهم ليس الطلاق بأن يجعل علة للظهار بأولى من نقيضه وهذا
فاسد فإنه لا بعد في تلازم شبهين يدل كل واحد منهما على صاحبه فليكن كذلك
ولا يطرد هذا في الاشباه فأما المخيل فلا ينقلب معلولا للحكم أصلا سادسها
إدعاء تراخي الدليل عن المدلول في مسألة النية إذ قسنا على التميمم وهو
فاسد فيما قيل من ثلاثة أوجه
أحدها أن الأدلة الشرعية لا تزيد على الأدلة العقلية والأحكام دليل على
القديم وهو متراخي عنه وهذا الجواب فاسد فإن الحكم الشرعي لا يثبت دون
مستنده والعلم لا يستحيل تقدير ثبوته دون الفعل
الجواب الثاني أنا نتكلم في إثبات شرط النية الآن في زماننا وهو مسبوق بنية التيمم الجواب الثالث وهو المختار أن النية تثبت في هذه المسألة بأدلة سوى التيمم وهذا أحد أدلته فقد كانت النية ثابتة قبل التيمم بدليل آخر ثم ورد التيمم عاضدا له حتى لو قدر عدم ثبوت النية في الوضوء في الشرع لما كان التيمم دليلا على ثبوته ابتداء فإنه نسخ والنسخ لا يثبت بالقياس سابعها أن تقول اقتصرت على صورة المسألة فأين المسألة إن كانت هي العلة وأين العلة إن كانت هي المسألة وهذا فاسد فإن صورة المسألة إن أخالت حكمها فذاك وإلا فهو طرد كيف ولو اقتصر على صورة المسألة لا يجد أصلا يقيس عليه فلا بد من زيادة أو نقصان مثاله إذا سئل عن استدعاء العتق بغير عوض فيقول استدعاء عتق كما إذا كان بعوض فقد غير العبارة فإنه لو استدعى عتقا بغير عوض كما في صورة المسألة لما وجد أصلا يقيس عليه
وختم هذا الباب بذكر ضابط في الاعتراض الصحيح وهو أن كل اعتراض يبين الإخلال بشرط من شرائط العلة وشرط العلة أن تكون مخيلا ملتفتا على قواعد الشرع مطردا سليما عن معارضة ما يقاومه أو يتقدم عليه في المرتبة مفيدا لمقصود المعلل لئلا يقول السائل بموجبه هذا تمام الكتاب في القياس والله أعلم
كتاب الترجيح والكلام فيه بعد بيان حقيقته وإثبات أصله وبيان ما يجري فيه الترجيح يحصره بابان وحقيقته ترجيح أمارة على أمارة في مظان الظنون ونهايته إبداء مزيد وضوح في مأخذ الدليل وهذا في اللسان مشتق من رجحان الميزان وعزى القاضي إلى أبي الحسين البصري بالرمز إلى أنه أنكر الترجيح ويدل عليه أمران أحدهما علمنا بأن الصحابة كانوا يرجحون الأدلة ويقدمون بعض المصالح على بعض ويقدمون رواية أبي بكر الصديق على رواية معقل بن يسار وغيره ولا معنى للترجيح سواه
الثاني أن منكر الترجيح إن لم يقل بالقياس فيثبت عليه وإن قال به فكيف ينكر القياس والمسائل المظنونة يتعارض الظن فيها فلا معنى للقياس فيها سوى تغليب أحد الظنين على الآخر ولا معنى للترجيح إلا قول المرجح ظني أغلب ورأيي أثبت ولا انفكاك للقياس عنه إلا إذا دل قاطع على بطلان ظن الخصم وذلك مما يندر ولا مجال للترجيح في القطعيات لأنها واضحة والواضح لا يستوضح ونفس المذهب لا يرجح فإن الترجيح بيان مزيد وضوح في مأخذ الدليل فلا بد من دليل نعم يقدم مذهب مجتهد على مجتهد بمسالك نذكرها في كتاب الفتوى وأما العقائد قال الأستاذ لا يرجح بعضها على بعض وهذا إشارة منه إلى أنها معارف ولا ترجيح في المعارف والمختار: أن العقائد يرجح البعض بالبعض فإنها ليست علوما والثقة بها تختلف وسبيله أن يقول المعتقد انطبق اعتقادي على اعتقاد الصحابة والسلف الصالحين فإنهم لم يتعرضوا لكذا ولم ينفوا كذا وهم أجدر بتسديد الاعتقاد في قواعد الدين منا
باب الأول
من البابين الموعودين في ترجيح الألفاظ إذ مآخذ الشرع تنقسم إلى ألفاظ
ومعاني والألفاظ تنقسم إلى ألفاظ الكتاب والسنة وهي تنقسم إلى نصوص وظواهر
ورب ترجيح يطرد في ظاهر ولا يطرد في نص وكل ما يطرد في النص فيطرد في
الظاهر ومجموع ما نذكره عليهما يحصره ستة عشر نوعا أحدهما: أن يظن على
أحدهما مخايل التأخير فيقدم على المتقدم إذا لم يقطع بكون أحدهما ناسخا
والآخر منسوخا وذلك يبين بالزمان تارة كما روي أن قيس بن طلق روى في مس
الذكر عن الرسول عليه السلام أنه قال هل هو إلا بضعة منك وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك على عريش وروى أبو هريرة رضي الله عنه من مس ذكره فليتوضأ وهو متأخر في الإسلام أسلم بعد الهجرة بست سنين فالغالب أن حديثه متأخر وقد يظهر بالمكان فالمنقول بمكة يغلب على الظن تأخره وإن اتفقت له عودات إلى المدينة
وقد يبين بالحال كما روي أن النبي عليه السلام صلى بالناس في مرض
موته قاعدا وهم قيام فهو مقدم على حديث مطلق رواه أحمد بن حنبل حيث قال
وإذا قعد الإمام فصلوا قعودا أجمعين
والمختار أن هذا الترجيح إنما يجري إذا عجزنا في هذه المسألة عن مستند آخر
فأما إذا وجدنا مستندا آخر وتعارضت النصوص تساقطت فإنا نرد الحديث بأدنى
خيال فالحديث الآخر إن لم يقاومه يعارضه ويوهي التمسك به محالة ثانيها أن
يكون راوي أحدهما أوثق وهو ترجيح من مأخذ الدليل فإن الثقة مستند الأحاديث
ثالثها أن يكون في رواة احمدهما كثرة وسببه ظاهر
رابعها أن يعارض الثقة العدد فالثقة مقدمة وقدم آخرون العدد لأنه
أقرب من التواتر ونحن نعلم أن الصحابة كانوا يقدمون قول أبي بكر رضي الله
عنه على قول معقل بيسار ومعقل بن سنان وأمثالهم خامسها أن يعتضد أحدهما
بعمل بعض الصحابة وإن كنا نرى أن عمل الصحابة لا يقدم على الحديث خلافا
لمالك لأن المخالف محجوج به والعمل في مظنة التردد والمختار أنا إن قطعنا
بأن الحديث بلغهم فتركوه نترك الحديث ولا نسئ الظن
بهم وإن ترددنا عملنا بالحديث وإن غلب على الظن أنه بلغهم توقفنا والغالب
أن حديث المتبايعين لم يخف على أهل المدينة مع عموم البلوي به وحيث لا
يقدم على الحديث يرجح به أمارة
سادسها أن يعتضد أحدهما بعمل التابعي فهو كالصحابي عندنا لأن إساءة الظن به محال وخصص آخرون الترجيح بالصحابة ولا شك أن العمل ببعض مضمون الحديث كالعمل بكله حتى يرجح جملة الحديث به سابعها أن يعتضد أحدهما بظاهر الكتاب كقوله عليه السلام الحج والعمرة مفروضتان ولا يضرك بأيهما بدأت يعتضد بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ولا شك أن ما جمع الله يقدم على حديثهم حيث رووا أنه قال عليه السلام الحج جهاد والعمرة تطوع وأنكر القاضي هذا الترجيح وقال هو مستند لا من مأخذ الدليل فالحديثان يتعارضان ويبقى الظاهر متمسكا مستقلا
وهو المختار
لأن الحديث لا أقل من أن يهي بالمعارضة فيتمسك بالظاهر وهو قريب من النص
من حيث أنه أمر بهما والأمر للإيجاب ولا معنى لقولهم المعني بالإتمام
المضي فيه بعد الخوض وعند بطلان هذا التفسير ينتهض الأمر نصا وعلى الجملة
العمل بالظاهر أو بما يطابق الظاهر ثامنها أن يعتضد أحدهما بقياس الأصول
كما قدم الشافعي رواية خباب ابن الأرت في صلاة الخوف لما أن قلت فيه
الأفعال على رواية ابن عمر قال القاضي للشافعي إن كنت تكذب ابن عمر لحيده
عن القياس أو تتهمه فمحال وليس القياس مناسبا لمأخذ الدليل حتى يقدح فيه
وإن قلت الغالب من الرسول الجري على قياس الأصول فيعارضه أن الغالب أن
الناقل عن القياس يكون أثبت في الرواية من المستمر عليه ولهذا تقدم شهادة
الابراء على شهادة أصل الدين ثم قال القاضي كل دليل مستقل يرجح به حديث
نظر إن كان دونه فهو باطل لا ترجيح فيه فيرد لأنه لا يوهي أحد الحديثين
وإن كان فوقه فهو متمسك به لا بطريق الترجيح كنص الكتاب وإن كان
مثله فهو كحديث آخر يعضد به أحد الحديثين فيؤل الأمر إلى الترجيح بالعدد
فإن قيل فما قولكم في مسألة صلاة الخوف قلنا إذا صحت الروايتان حملناهما
على صلاتي الظهر والمغرب لكيلا
تتناقض وهو متمكن ثم تقول الأولى ما ترك فيه الفعل المستغنى عنه وإن فرض
ازدحام على صلاة واحدة فمقدار التوافق مقبول والباقي مطرح لا يتمسك به
تاسعها أن يتأكد أحدهما بالاحتياط وأنكر القاضي هذا الترجيح من حيث أن
التكذيب غير ممكن بسببه ولا يورث ذلك تهمة ولعل الناقل عن الاحتياط أثبت
كالمشهور بالسخاوة وإن إذا نقلت عنه حالة مخالفة لها لا نكذب الناقل فيه
ثم قال استحباب الاحتياط لا ينكر وإيجابه تحكم لا مستند له عاشرها فيما
قيل أن يتضمن أحدهما إثباتا والآخر نفيا فهو مقدم على النفي كقوله لا شفعة
للجار يؤخر عن قوله للجار الشفعة لو نقل وهذا هذيان
فإن كل واحد من الراويتين مثبت وإنما ينقدح هنا فيما إذا نقل
أحدهما فعلا والآخر نفاه وأمكن حمله على ذهوله فيفعل ذلك لأنه معرض
للغفلات كما والمثبت أبعد عنه حتى لو تكاذبا وقال النافي كنت أتحفظ وانتهى
فلم يفعل ولا ترجيح أصلا هذا ما يجري في النصوص وما يجري في الظواهر أنواع
أحدها
أن يتعارض عمومان يتطرق إلى كل واحد تأويل يعتضد بقياس وقياس أحد
التأويلين أوضح فهذا التأويل مقدم والعمل بالحديث الآخر واختلفوا في أن
هذا هل يكون ترجيحا بالقياس قال القاضي جوز الشافعي ترجيح النص والظاهر
بالقياس وأنا أجوز ترجيح الظاهر دون النص والمختار أن هذا تقديم غير مؤول
على حديث مؤول ولكن تبين التأويل بالقياس ثانيها أن يظهر في أحدهما قصد
العموم بأمارة من الأمارات كما ذكرنا في كتاب التأويل
ثالثها أن يرد أحدهما ابتداء دون الآخر على سبب فالمطلق مقدم لأن
ما تخيله الصائرون إلى أن الوارد على سبب يخصص به يصلح للترجيح وفيه خلاف
رابعها أن يتطرق إلى أحد العمومين تخصيص بالاتفاق فما حمل الصائرين إلى أن
الباقي مجمل أو مجاز يصلح للتجريح هو وفيه خلاف خامسها أن يكون في أحدهما
إيماء إلى التعليل فهو مقدم لأنه يبعد عن التخصيص وهو أحرى ما تثبت به
العلل إذ صيغة التعليل من أعم الصيغ سادسها
فيما قاله الشافعي أن يتمسك المتمسك بأحد الحديثين من جعل لفظه علة حكم
المسألة دون الخصم الآخر كما روي أن بريرة أعتقت تحت عبد يمكن أن يجعل علة
عندنا ونقل أنها أعتقت تحت حر ولا يمكن أن يجعل ذلك علة فإن الخيار لا
يختص بالحر بالإجماع وهذا ترجيح فاسد فإن مثاره انفراد الخصم بمذهبه ولا
يرجح الحديث بالمذاهب وختم الباب بما ذكره بعض الناس من أن العمومين قد
يتسلط كل واحد على تخصيص الآخر من غير دليل
وهذا كقوله تعالى اقتلوا المشركين فإنه يخصص قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد بأهل الكتاب وقوله تعالى حتى يعطوا الجزية لقوله تعالى اقتلوا المشركين بأهل الحرب من غير افتقار إلى دليل آخر وكذا قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله يخصصه بغير أهل الذمة قوله عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وبتخصص وسلم هذا الحديث بأهل الكتاب بالحديث الأول وهذا فاسد فإن التخصيص بأهل الكتاب إن ظهر فيه دليل فهو مستند التخصيص وإلا فهو تحكم وليس لأحد الخصمين أن يكتفي بعمومه الذي تمسك به دليلا على تخصيص عموم صاحبه إذا أنكر هو أصل التخصيص لأنه لا يسلم عن المعارضة بمثله
الباب الثاني في ترجيح بعض الأقيسة المتعارضة على بعض ومما لا بد من تقديمه على الخوض في ترجيح المقاييس فصل ذكره القاضي في ترتيب النظر في قواعد الأقيسة فقال النظر فيها ينقسم إلى ما لا يتفاوت في نفسه والمتفاوت وعني بالمتفاوت ما يتفاوت فيه نظر النظار وتتعارض فيه الخواطر قال والنظر الذي لا يتفاوت ينقسم إلى ما يقع في مرتبة البديهي كعلمنا أن المخنق والقاتل بالمثقل عامد للقتل ومن أضمر خلافه يسفه في عقله وإلى ما يقع في مرتبة النظري كعلمنا بوجوب القصاص عليه فإن من علم مقصود الشارع من القصاص في الحقن والعصمة استبان بأدنى نظر على القطع إيجاب القصاص ولا ينبغي أن يتمارى فيه وكذلك علمنا بأن العقوبة الرادعة عن الفواحش شرعت زجرا عنها وإذا تجمعت أسبابها من ارتكاب الفاحشة مع تمحض التحريم ومسيس الحاجة إلى
الزجر فلا بد منه كعلمنا بأن الشهود إذا شهدوا على الزنا فلا
يسقط الحد بقول المشهود عليه صدقوا كما قاله أبو حنيفة وكعلمنا عنه بأن
الحد لا يتعلق إلا بفاحشة ولكن الشارع تولى بيانه فإنا لا ندركه بأفهامنا
إن وقد خصصها بتغييب الحشفة واستثنى مقدماتها من معانقة وتقبيل وممازحة
منها
وعلمنا بأن أقل مراتب موجب العقوبة أن يتمحض تحريمه فالوطء بالشبهة لا
يوجب الحد وإشارته إلى الذي صادف امرأة على فراشه ظنها حليلته القديمة قال
فهذه جهة لا يتفاوت فيها نظر العقلاء ولا اكتراث بمخالفة أبي حنيفة فيها
فإني أقطع بخطئه في تسعة أعشار مذهبه الذي خالف فيه خصومه فإنه أتى فيها
من الزلل في قواعد أصولية يترقى القول فيها عن مظان الظنون كتقديم القياس
على الخبر ورجوعه إلى الاستحسان الذي لا مستند له وزعم أن الزيادة على
النص نسخ في مسائل ذكرناها وتمسكه بمسائل شاذة في خرم القواعد فليس الكلام
معه فيها في مظنة النظر في المظنونات والعشر الباقي يستوي فيه قدمه وقدم
خصومه ولعلهم يرجحون عليه فيه
فأما ما يتفاوت النظر فيه كإلحاق الأيدي بالأنفس في الاستيفاء
بحكم القصاص من حيث إن قطع الأطراف يتوقع منها السراية ففيه زاجر وذلك لا
يتحقق في النفس إلا أن هذا يعارضه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه من أن
الغرض من القصاص الزجر والأطراف معصومة عصمة النفوس فقضية المصلحة فيه
تنزيلها منزلته نعم لم يطرد الشافعي رضي الله عنه هذه المصلحة فيما إذا
قطع أحدهما من جانب والآخر من جانب من حيث لم ير استفتاح المصالح ابتداء
ورأى
هذه المصلحة ثابتة عند الاشتراك في النفس فألحق الطرف به عند تحقق
الاشتراك ومما يظهر التفاوت إيجاب الشافعي القصاص على الشهود ولم يصدر
منهم إلا كلمة ولو قال ذلك مما يتسبب به إلى القتل كالإكراه فيعارضه أن
التزوير من العدول مما لا يغلب والقصاص مبناه على الدرء وأبعد منه قوله
يجب الحد على المرأة بلعان الزوج مع أن اللعان حجة ضرورية وليست بينة يثبت
بها الزنا على الإطلاق ولو قال زنا المخدرات لا يطلع عليه إلا الأزواج فلا
بد من تمهيد طريق إثباته يعارضه أن الزوج قد يريبه من أمر المرأة شئ
فيغتاظ عليها فيسعى في دمها والعقوبات على الدرء مبناها قال وأبعد منه
إسقاطه الحد عن الزوج في حق المقذوف به وقد صرح به في قذفه ولا خفاء ببعده
ثم قال وقد شاع في الألسنة أن العقوبات مبناها على السقوط فلا بد
من درك معناها فليعلم أن العقوبة ثابت وجوبها ودرؤها والغرض من كل واحد
منهما الحقن والغرض من استيفاء القصاص حقن الدماء كي يكون ذلك وازعا
للفساق والغرض من الدرء حقن دم الجاني فإنه معصوم وحقن دمه ناجز والعصمة
المبتغاة من الاستيفاء متوقعة فإنا لا نرد المقتول إلى الأحياء ولكن يتوقى
وقوع مثله فإذا تعارضت أسباب الحقن والدرء غلب السقوط والمقصود منه الحقن
أيضا إلا أن المستفاد حقن ناجز فإذا اعتضد بمؤكد كان مراعاته أولى من عصمة
متوقعة فهذه مقدمة لم نجد بدا من ذكرها ليستمد الناظر منها في مسالك
الترجيح في القياس وليعلم أن القياس على مراتب وأقواها أن سميناها قياسا
إلحاق الشئ بما في معناه ولا ترجيح فيه فإنه مقطوع به وأثر الترجيح يعود
إلى النص المقطوع به
ودونه المخيل ويقل فيه التعارض وإن اتفق فالغالب وقوع الكلام في
تقديم مرتبة على مرتبة ويكثر التعارض في الأشباه وعندها يحتاج إلى الترجيح
ومعظم المسائل مع أبي حنيفة قطعي فيما يتعلق بالأصول وما فيها يعود إلى
تمسكنا بقاعدة وتمسكهم بقاعدة شاذة وذلك أيضا محكوم ببطلانه وحاصل ما يذكر
من فنون الترجيح أنواع أحدها أن يعارض قياس مستنبط من نص كتاب ما في معنى
لحديث آحاد قال قائلون إن سميناه قياسا رجحنا عليه فإن مستند هذا مقطوع
والمختار أنه لا يرجح لأن تسميته قياسا يرجع إلى لقب وهو مقطوع به
كالمنصوص وأخبار الآحاد تقدم على قياس مستنبط من القرآن ثانيها
أن يعارض قياس عام تشهد له القواعد قياسا هو أخص منه بالمسألة فالأخص مقدم
فيما قاله القاضي لأنا دفعنا إلى البحث عن هذه المسألة فالنظر إلى القواعد
اضراب عن مقصوده فلينظر إليه
ومثاله توجيه قولنا لا تتحمل العاقلة قيمة عبد لأن الجاني أولى بجنايته ويعتضد بسائر الغرامات ويعارضه قياس أخص منه وهو أن الغالب على العبد الذمية بدليل الكفارة والقصاص وضرب العقل سببه مسيس حاجة القن إلى معاطاة الأسلحة واتفاق هفوات وثقل الأروش على الجناة وهذا فاسد فإن ضرب العقل مستنثى من القياس وهذه الحكمة لا تعويل عليه والأصل أنه لا يضرب عليها إلا في محل القطع أو فيما هو مقطوع به وإنما المثل القريب قول أبي حنيفة رحمه الله لا يضرب القليل على العاقلة واعتضاده بهذا الأصل ونحن نحلق القليل بالكثير هو أخص إذ ثبت أن العقل يجري في الأجزاء والأروش وثبت بطلان معنى الإجحاف إذ المتوسط يعقل الغني ويتحمل عنه فصار القليل في معنى الكثير ويعتضد بما روى أنه عليه السلام ضرب العقل على العاقلة وهو
اسم جنس يتناول الكل كما يتناول اسم الحمام الفروخ وإن كانت
الحمامة لا تتناوله فهذا مقدم على قياس أبي حنيفة
ولكن شرط جريان الترجيح أن يسلم المستدل بالقياس الخاص لخصمه قياسا عاما
فإن نسبه إلى الإضراب عن القاعدة الثابتة في الشريعة فهو باطل وكذلك ان لم
يسلم المستدل بالقياس العام خصوص هذا القياس ثم قال القاضي هذا شبه قوي
مقدم على المخيل فكأنا نشبه القليل بالكثير وهذا كما تقول جراح العبد من
قيمته كجراح الحر من ديته تشبيها لإحدى النسبين بالأخرى وإن كان القياس
المخيل في المالية يقتضي اتباع النقصان ولهذا وجبت قيمته بالغة ما بلغت
وكما تشبه الزبيب بالتمر والارز بالبر ويتنبه للمقصود الأخص في المنصوص
وهو الطعم ليشبه به غيره فيعمل عمل العلة وإن لم يكن مخيلا فيقدم على مخيل
يعارضه فإن قيل القوت أخص قلنا قال القاضي الجمع بينهما ممكن فيفعل ذلك إذ
لا مانع ثالثها أن يكون للقياس العام إلتفات على خصوص الحكم وهو معتضد
بالقواعد فهو مقدم
كقياسهم المرض على الإحصار في جواز التحلل ولكن منعه أولى إن كان
تمسكا بعموم حكم الحج في اللزوم لأنه يجد أصلا من الضلال والنسيان وغيره
فليس إعراضا عن خصوص حكمه كما ذكرناه في إلحاق القليل بسائر الغرامات فإنه
إضراب عن خصوص هذه القاعدة رابعها
إذا انعكست إحدى العلتين فهو مقدم لأن ما حمل بعض الناس على المصير إلى
كونه شرطا يصلح للترجيح وقد بينا أن العكس من طباع العلة فانعكاسه إلا
يزيد وضوحا في جوهره ومنع القاضي الترجيح به وزعم أن العكس نفي حكم في
مسألة أخرى فيتوقف فيه إلى ورود الدليل ولا أثر للعكس ثم مزيد الإخالة
مقدم على العكس بالإجماع خامسها تقدم المتعدية على القاصرة بزعم الأستاذ
أبي منصور والقاضي لأنه أغزر فائدة ولأن الصحابة كانوا يتمسكون بالمتعدية
دون القاصرة إذ لا فائدة فيها
وقال الأستاذ أبو إسحاق القاصرة مقدمة لأنها معتضدة بالنص فيقال
له الحكم هو المعتضد دون العلة والمختار أنهما إن تواردا على حكم واحد
يجمع بينهما ولا ترجيح وإن تناقضا فلا يلتقيان نعم يكفي طرد المتعدية عكس
القاصرة ولا يقاوم العكس الطرد أصلا وإن فرض ازدحام على حكم مع تقدير
الاتفاق على اتحاد العلة فالمتعدية أولى لما ذكره القاضي سادسها أن يكون
فروع أحدهما أكثر من الآخر فيرجح به كما قال الأستاذ
أبو منصور وهو مزيف لأن تقديم المتعدية على القاصرة تلقيناه من مسلك
الصحابة ولم يظهر ذلك عند كثرة الفروع سابعها أن يتحد وصف إحدى العلتين
ويتعدد وصف الآخر فالمتحد وصفه
قالوا يرجح لأن فروعه أكثر والاجتهاد فيه أقصر فيبعد عن الخطأ
وهذا فاسد لأن كثرة الفروع لا تتلقى من الاتحاد فإن التعدية متحدة وقد
قصرت وقصر الاجتهاد وطوله خوف وترجي ولا يؤخذ الترجيح من هذا المأخذ
ثامنها أن ما كان فروعه أكثر يقدم عليه ما كان شواهده أكثر فيما قاله
الأستاذ أبو منصور كقولنا في تعليل وجوب الكفارة بالوطء في رمضان إيلاج
فرج في فرج ويشهد له اختصاص بالوطء بمن أتى في الحج وغيره به وهم يقولون
هتك حرمة الصوم بمقصود الجنس وقد كثر فروعه وهذا فاسد فإن قولنا إيلاج فرج
في فرج طرد لا تخييل ومعتمد الشافعي تشبيه الصوم بالحج في أن ما اشتمل على
مخطورات الوطء من جملتها كان الوطء مزيد تغليظ كالحج
وما ذكروه منقوض عليهم بمناقضات لهم في تلك المسألة
تاسعها أن ما كثر أصوله قالوا يرجح وشرطه ان لا تتحد الرابطة فإن اتحدت كقولنا كل ما جاز بيعه جاز رهنه وقسنا على الدار والفرس والعبد فليس هذا من كثرة الأصول نعم إن شهدت أصول متباينة بمسالك متغايرة فيرجح ولا خفاء بسببه فإنه علتان في معارضة علة واحدة عاشرها كثرة الشواهد عند عدم الجامع الفقهي مثاله قول أحمد يمسح على العمامة كالخف فنقول لا يمسح على ساترة كسائر الأعضاء وكثرة الشواهد مع اليأس عن المعنى يرجح به الحادي عشر تقدم ما يقتضي الاحتياط فيما وضعه على الاحتياط كالابضاع فيه والدماء فأما حل الصيود فلا فإن الأصل فيها الإباحة وإن كان الورع فيها الاحتياط
الثاني عشر تقديم العلة الناقلة على العلة المستصحبة كما يقدم
الراوي الناقل على
المستصحب وهذا فاسد فإنا نظن أن الناقل أثبت في الرواية من المستصحب ولا
نتهمه في العلة فلتقدم المستصحبة ثم يحتمل أن يقضي بالتعارض ويتمسك
بالاستصحاب استقلالا ويحتمل أن يقال هو ساقط في معارضته القياس فلا يصلح
إلا للترجيح الثالث عشر اعتضاد أحدهما بظاهر يترجح به أو يعمل به استقلالا
وفيه احتمال كما في الاستصحاب الرابع عشر النافية والمثبتة وقد اختلف
الناس فيهما على التناقض وعندنا أن لا ترجيح بهما وإنما ينقدح الترجيح
بالإثبات في الروايات الخامس عشر أن تنطبق صيغة التعليل على ظاهر القرآن
كقولنا لا تقبل شهادة الكافر لأنه فاسق ويشهد له قوله تعالى
أولئك هم الفاسقون وقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا وهذا الترجيح
فاسد لأنه يسمى فاسقا لخروجه من الدين يقال فسقت الرطبة ولكن خصص بالكافر
كما يخصص الملحد بالكافر والحنيف بالمسلم وكل واحد منهما بمعنى الميل
السادس عشر ان يعتضد أحدهما بمذهب واحد من الصحابة فيرجح لأن مذهبه إن لم
يجعل حجة على الاستقلال فيرجح به والمعتضد بمذهب زيد في الفرائض يرجح على
ما يعتضد بقول معاذ ابن جبل وإن قال عليه السلام أعرفكم بالحلال والحرام
معاذ لأن شهادته عليه السلام لزيد في الفرائض على الخصوص حيث قال عليه
السلام أفرضكم زيد
ويقدم أيضا على مذهب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإن قال فيهما اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر لأن ذلك يمكن حمله على الخلافة والسيرة المرضية وهذا في الشهادة أخص منه والله أعلم
كتاب الاجتهاد والكلام فيه في أربعة فصول الفصل الأول في أن كل
مجتهد في الاصول لا يصيب وأجمع العقلاء عليه سوى أبي الحسين العنبري حيث
صوب كل مجتهد في العقليات ولا يظن به طرد ذلك في قدم العالم ونفي النبوات
ولعله أراده في خلق الأفعال وخلق القرآن وأمثالهما إذ المسلم لا يكلف
الخوض فيه لعلمنا بأن العقول لا تحتمل كل غامض عقلي
والصحابة كانوا لا يأمرون الناس به فإذا خاض متبرعا فلا يأثم بما يعتقد
لأن عقله لا يحتمل سواه وهذا مع هذا القرب فاسد فإن اعتقاد الاصابة
المحققة على التناقض محال إذ من ضرورة أحدهما أن يكون جهلا وهو كاعتقاد
اللون الواحد سوادا وبياضا
وإن عنى به نفي التأثيم معللا بقصور عقل فليطرد في النصارى واليهود كيف والصحابة كانوا يشددون القول على كل مبتدع غير مكترث بقصور عقله ثم العقول إذا نقضت عن العقليات وألفت التقليدات تقاربتو أدركت المعقولات نعم لا يجب الخوض في دركها ويكفي التقليد عندنا ولكن إذا خاض فيه فهو مأمور بالاصابة
الفصل الثاني في المجتهدين في المظنونات وقد ذهب الشافعي
والاستاذ أبو اسحق وجماعة من الفقهاء إلى أن المصيب واحد وله أجران
وللمخطئ أجر واحد وغلا غالون وأثموا المخطئ وصار القاضي والشيخ أبو الحسن
في طبقة المتكلمين إلى أن كل واحد منهما مصيب والغلاة منهم اثبتووا صلى
التخيير ونفوا مطلوبا معينا وقالوا لا فائدة في اجتهاد ولا في تقليد معين
لتقدمه في المرتبة ولكنه يتخير إذ ما من حكم
إلى ويجوز أن يغلب على الظن والمتقصدون وقال أوجبوا الاجتهاد والعمل بما
يغلب على الظن وعزى القاضي مذهبه إلى الشافعي رضي الله عنه وقال لولاه
لكنت لا أعده من أحزاب الأصوليين
تمسك من صار إلى أن المصيب واحد بمسلكين أحدهما أن الحل يناقض الرحمة والسفك يضاد الحقن فيستحيل جمعهما وهو سفسطة من هذا الوجه ولكنهم يقولون ذلك لا يتناقض في حق شخصين كالميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره وكل مجتهد مصيب في حق نفسه وإن فرض في حق مقلد فيستفتي الأفضل وإن تساووا انعكس الاشكال عليهم أيضا المسلك الثاني أن التحريم لا بد له من مسلك في الظن ويستحيل تعارض المسلكين على التناقض يفضي أحدهما إلى التحريم والآخر إلى التحليل على التناقض
وهذا فاسد فإنهم ينفون مطلوبا معينا فضلا من إثبات مسلك يدل عليه
ولو فرضت مفتية تحت مفت قالوا على المرأة الامتناع إذا رأت التحريم وعلى
الزوج مد اليد وكل يأخذ باجتهاده ولا يستبعد هذا التناقض فإنه ينعكس على
من يقول المصيب واحد فإنه لا يعنيه
ولو وجب على كل واحد أن يعمل باجتهاده تمسك القاضي بأن قال يجب قطعا على
كل مجتهد العمل باجتهاده شرعا والوجوب بأمر الله وما وجب بإيجاب الله فهو
حق فهو المعني بكون كل واحد مصيبا للحق في حق نفسه وإن قيل لم ينه
الاجتهاد نهايته قلنا إذا غلب على ظنه ولم يبق له مضطرب في اعتقاده
فتكليفه امرا وراءه تكليف مالا يطاق فإنه أدى ما كلف ولم يكلف الا استفادة
أنه غلبة الظن وقد استفاده والمختار عندنا أن كل مجتهد مصيب في عمله قطعا
فإنه وجب بإيجاب الله ولا معنى للقضاء بإصابة كل واحد على معنى نفي مطلوب
معين في علم الله من تحريم أو تحليل
إذ لو قيل به لما تصور الطلب في حق كل مجتهد يقدم على اجتهاد إذ
يعتقد في علم الله حكما هو مطلوبه من كتاب أو سنة أو إجماع فإن لم يجد فما
هو إلا شبه بأصول الشريعة وإذا لم يتخيل ذلك لم يتصور طلبه وهو كالذي يطلب
زيدا في الدار ولا يتعين في خياله احد التقديرين على البدل ويتبين هذا
بمثال وهو أن المجتهد في القبلة ينبغي أن يعتقد تعين القبلة في احدى
الجهات وكونه مأمورا بطلبها بغلبة الظن ولو لم يتخيل ذلك كان كمن يطلب جهة
من أربع جهات ولا تميز لبعضها على بعض فلا يكون
له مطلوب معين ولا يتصور له طلب فعلى هذا نقول إذ فرضنا واقعة لو انتهى
الاجتهاد فيها نهايته انتهى إلى التحريم المحقق فانتهى المجتهد إلى
الكراهية مثلا وجب العمل به وله أجر واحد
ولو اتفق عثور على منتهى التحريم لكان مصيبا ما هو شوف الطالبين وهو غاية التحريم فقد تبين أنهما مصيبان في العمل واحدهما مخطئ في الوصول إلى ما هو شوف الطالبين لا بعينه وقد يقول القاضي ليس لله تعالى في الوقائع المظنونة حكم معين عام على جميع الخلائق إذ الحكم توجيه الخطاب ويستحيل توجيه الخطاب على التعيين مع انشعاب مسالك الظنون ولو كان معنيا لدلت عليه امارة ولو دلت الامارة لعلمت وانقلب مقطوعا به وهذا غير سديد فإن لله تعالى في كل واقعة حكما حق المجتهد أن يتشوف إليه وعليه امارات تورث غلبة الظن وللظنون في العقول مسالك كما للعلوم فهو كطالب القبلة بظنه ان اصاب جهة القبلة فله أجران وإن بنى على غلبة الظن ولم يصب فله أجر واحد
الفصل الثالث فيما هو مطلوب المجتهد إذا عينا مطلوبا قالوا والمطلوب هو الاشبه وعبر معبرون عن الاشبه بأنه ما يظهر للفقيه في مجاري ظنه وهذا لا ضبط له فإن ذلك قد يتعارض وقال آخرون هو ما لو ورد به نص لطائفة وهذا حكم على الغيب وان ذكره ابن سريح من اصحابنا وقال آخرون هو الاشبه بالاصلين الذين تردد الواقعة بينهما من نفي أو اثبات وهو شوف الطالب من ظفر به فقد اصاب ومن لا فقد أخطأ وان اصاب في العمل
الفصل الرابع فيما إذا اخطأ المجتهد نصا والمصوبة اضطربوا فمنهم
من طرد التصويب تعويلا على وجوب العمل عليه وفيه اصابة الحق ومنهم من خطأه
وغلا غالون حتى أثموه وقال القاضي لا يؤثم لأنه لم يتعمد ولكنه يحتمل ان
يقال أخطأ
من حيث ان المطلوب قد تعين ومنشأ التصويب نفي المطلوب والنص هو المطلوب
هنا ثم قال يمكن ان يقال هو مصيب لأنه وجب عليه العمل وقد أدى ما كلف وحكم
النص متعين في حق من عثر عليه والاحكام تختلف باختلاف الاحوال والاشخاص
كما في تحريم الميتة لم يبق إلا ان يقال اخطأ النص فأقول نعم ولكن هذا لفظ
لا خير فيه فإنه لم يجب عليه الوصول إليه إذ فيه تكليف وشطط بعد ان استفرغ
كنه مجهودة وهو وهو كالمتيمم يقال لم تتوضأ فيقال نعم ولكن لم يجب عليه ذلك
والمختار ان المجتهد مصيب في علمه مخطئ في التشوف المطلوب وكذا نقول إذا لم يكن نص فلا فرق عندنا ولكن إذا عثر على النص فقد نقول يجب تدارك الفائت لأن الخطأ صار متيقنا أما إذا لم يكن في المسألة نص فلا يستقين الخطا وهي مسألة فقهية إذ القضاء يجب بأمر مجدد عندنا نعم المجتهد في القبلة إذا تبين الخطأ والوقت باق هل تجب عليه الاعادة للشافعي رضي الله عنه فيه تردد ومثاره ان المقصود من المكلف استقبال عين القبلة مقصودا ام لا
فان قلنا انه مقصود فيمكن ان يقال يجب لان المقصود قد فات
والاجتهاد وسيلة لم يفض إلى المقصود فلا يغني ولعل الظاهر ان القبلة ليست
مقصودة في عينها فان تكليف المصلي ذلك في جهالاته وعماياته صلى الله عليه
وسلم محال ولهذا قضى بسقوط الإعادة في الأظهر واما العثور على النص فمقصود
الشارع قطعا وإنما فرضنا الكلام في الوقت لئلا يتورط في افتقار القضاء إلى
امر مجدد وعلى الجملة الفرق بين القبلة والنص عسير وختم الكتاب بالرد على
ابي حنيفة رحمه الله حيث قال كل مجتهد مصيب في اجتهاده فان قيد بالاجتهاد
واراد به انه مخطئ في علمه فهذا زلل لما ذكرناه وان اراد به انه اصاب ما
هو شوف الطالب فكذلك وان عني به انه ادى ما كلف فهو مساعد عليه والله اعلم
بالصواب
كتاب الفتوى وفيه بابان أحدهما في الاجتهاد واحكامه والثاني في
احكام المقلد الباب الاول في الاجتهاد وفيه اربعة فصول الفصل الاول في
صفات المجتهدين فليعلم اولا ان الفتوى ركن عظيم في الشريعة لا ينكره منكر
وعليه عول الصحابة بعد ان استأثر الله برسوله وتابعهم عليه التابعون إلى
زماننا هذا ولا يستقل به كل احد ولكن لا بد من اوصاف وشرائط ولنا في ضبطها
مسالك
المسلك الاول على الاجمال ان نقول المفتي هو المستقل بأحكام
الشرع نصا واستنباطا واشرنا بالنص إلى الكتاب والسنة وبالاستنباط إلى
الاقيسة والمعاني المسلك الثاني ان نفصل الشرائط فنقول لا بد من العقل
والبلوغ إذ الصبي لا يقبل قوله وروايته والرق لا يقدح وكذا الانوثة ولا بد
من الورع فلا يصدق الفاسق ولا يجوز التعويل على قوله ولا بد من علم اللغة
فإن مآخذ الشرع الفاظ عربية وينبغي ان يستقل بفهم كلام العرب ولا يكفيه
الرجوع إلى الكتب فإنها لا تدل إلا على معاني الالفاظ فأما العاني
المفهومة من سياقها وترتيبها لا تفهم إلا يستقل بها والتعمق في غرائب
اللغة لا يشترط ولا بد من علم النحو فمنه يثور معظم اشكالات القران
ولا بد من علم الاحاديث المتعلقة بالاحكام
ومعرفة الناسخ والمنسوخ وعلم التواريخ ليتبن المتقدم عن المتأخر والعلم بالسقيم والصحيح من الاحاديث وسير الصحابة ومذاهب الائمة لكيلا يخرق اجماعا ولا بد من اصول الفقه فلا استقلال للنظر دونه وفقه النفس لا بد منه وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب ولا بد من معرفة احكام الشرع
المسلك الثالث وهو المختار وهو الحاوي لجملة هذه التفاصيل ان يكون على صفة يسهل عليه درك احكام الشريعة بعد الورع والبلوغ ليقبل قوله ولا يتمكن منه إلا بجملة ما فصلناه نعم لا نؤاخذه بحفظ الاحكام فإن أئمة الاحاديث بوبوا احاديث الاحكام وميزوا الصحيح عن الفاسد والتعويل فيه على الكتب جائز كما ذكرناه في كتاب الأخبار فليراجع إذا مست الحاجة إليه
الفصل الثاني في كيفية سرد الاجتهاد ومراعاة تربيته
قال الشافعي رضي الله عنه إذا رفعت إليه واقعة فليعرضها على نصوص الكتاب
فان اعوزه فعلى الأخبار المتواترة فان اعوزة إذا فعلى الآحاد فان اعوزه لم
يخص في القياس بل يلتفت إلى ظاهر القرآن فان وجد ظاهرا نظر في المخصصات من
قياس وخبر فان لم يجد مخصصا حكم به وان لم يعثر على لفظ من كتاب ولا سنة
نظر إلى المذاهب فان وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع وان لم يجد اجماعا
خاض في القياس
ويلاحظ القواعد الكلية اولا ويقدمها على الجزئيات كما في القتل بالمثقل يقدم قاعدة الردع على مراعاة الاله فان عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع فان وجدها في معنى واحد الحق به وألا انحدر إلى قياس مخيل فان اعوزه تمسك بالشبه ولا يعول على طرد ان كان يؤمن بالله العزيز ويعرف مآخذ الشرع هذا تدريج النظر على ما قاله الشافعي رضي الله عنه ولقد أخر الإجماع عن الأخبار وذاك تأخير مرتبة لا تأخير عمل إذ العمل به مقدم ولكن الخبر يتقدم في المرتبة عليه فان مستنده قبول الإجماع
الفصل الثالث في ان رسول الله ص كان يجتهد قال قائلون كان لا يجتهد لقوله تعالى وما ينطق عن الهوى وقال آخرون كان عليه السلام يجتهد إذ لم يكن ينتظر الوحي في كل واقعة ترفع إلى مجلسه والمختار انا لا نظن به استبدادا بالاجتهاد ولا يبعد ان يوحي إليه ويسوغ له الاجتهاد فهذا حكم العقل جوازا واما وقوعا فالغالب على الظن انه كان لا يجتهد في القواعد وكان يجتهد في الفروع كما روي انه عليه السلام قال أرأيت لو تمضمضت فان قيل وهل اجتهد الصحابة في حال حياته قط
قلنا انقسم الناس فيه على تناقض ولعل الظاهر انهم كانوا لا يجتهدون بحضرته والقرب من منزله ومن كان يبعد منه بفرسخ وفراسخ كان يجتهد وحديث معاذ نص في الباب
الفصل الرابع في التخصيص على مشاهير المجتهدين
من الصحابة والتابعين وغيرهم ولا خفاء بامر الخلفاء الراشدين إذ لا يصلح
للامامة إلا مفتي وكذا كل من أفتى في زمانهم كالعبادلة وزيد بن ثابت
ومعاوية قلدة فقال الشافعي في مسألة واصحاب الشورى قيل انهم كانوا مفتين
لان عمر رضي الله عنه اجمل الأمر فيما بينهم فدل على صلاح كل واحد له قال
القاضي وهذا فيه نظر إذ ما من واحد إلا وشبب عمر فيه بشئ لما أن عرض عليه
فقال في طلحة صاحب ختروانة أي واستكبار وفي الزبير صاحب المد والصاع وفي
سعد إنه صاحب مقنب
وفي علي إنه صاحب دعابة وفي عثمان إنه كلف بأقاربه فلا يتلقى حكم
اجتهادهم من هذه المآخذ وأبو هريرة لم يكن مفتيا فيما قاله القاضي وكان من
الرواة والضابط عندنا فيه أن كل من علمنا قطعا أنه تصدى للفتوى في أعصارهم
ولم يمنع عنه فهو من المجتهدين ومن لم يتصد له قطعا فلا ومن ترددنا في ذلك
في حقه ترددنا في صفته وقد انقسمت الصحابة إلى متنسكين لا يعتنون بالعلم
وألى معتنين به فأصحاب العمل منهم لم يكن لهم مرتبة الفتوى والذين علموا
وأفتوا فهم المفتون ومطمع في عد أحادهم بعد ذكر
الضابط وهو الضابط أيضا في التابعين وللشافعي في الحسن البصري كلام
وأما مالك فكان من المجتهدين نعم له زلل في الاسترسال على المصالح وتقديم عمل علماء المدينة وله وجه كما ذكرناه من قبل وأما أبو حنيفة فلم يكن مجتهدا لأنه كان لا يعرف اللغة وعليه يدل قوله ولو رماه بأبو قبيس وكان لا يعرف الأحاديث ولهذا ضري بقبول الأحاديث الضعيفة ورد الصحيح منها ولم يكن فقيه النفس بل كان يتكايس لا في محله على مناقضة مآخذ الأصول ويتبين ذلك باستثمار ثنا مذاهبه فيما سنعقد فيه بابا في آخر الكتاب الله أعلم
الباب الثاني في أحكام التقليد وهو ثمانية فصول الفصل الأول في
حقيقة التقليد قال قائلون إنه قبول قول بلا حجة فعلى هذا قبول قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليس بتقليد فإنه حجة وكذا
قول الصحابي إن رأيناه حجة وقال آخرون هو قبول قول من لا يدري من أين يقول
فعلى هذا قبول قول الكل تقليد سوى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على
قولنا إنه لا يجتهد وقال القاضي لا معنى للتقليد ويجب على العامي قبول قول
المفتي وعلينا قبول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي إن
رأيناه حجة في حق من يجب قبوله
والمختار عندنا أن جملة أصحاب الملل لم يتحصلوا به من أعمالهم وعقائدهم إلا على تقليد خلاف ما قاله القاضي فمن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقلد إذ لا يدرك صدقه ضرورة وكيف يعلم صدقه ولا يعلم بقوله وجود مرسله نعم لو ترتب الناظر وافتتح أولا نظره في حدوث العالم وإثبات الصانع وانحدر إلى إثبات النبوات وتصديق النبي فهو عارف وليس بمقلد ويندر من يوفق له ومعظم الناس تلتزم الشرع من نفس الشرع فهي مقلدة الشرع ولكن يراعى أدب الشرع في الإطلاق فيسمى قوله عليه السلام حجة ويسمى اتباع المجتهد تقليدا وإن كنا نعلم حقيقة الحال على ما ذكرناه
الفصل الثاني في
أن الصحابي هل يجب تقليده وقد اختلفوا فيه فقال قائلون لا يجب لأنهم لا
يعصمون وهذا يبطل بالراوي وتمسكوا أيضا بأنهم كانوا يختلفون ولم يوجب
بعضهم على البعض الاتباع والتوافق وهذا ينقضه قول المفتي منا فإنه حجة في
حق العامي وإن لم يكن حجة في حق المفتي فلا يبعد تبعيض الأمر أيضا في حقهم
وتمسكوا بأنهم سوغوا الخلاف فإيجاب الاتباع رفع لما توافقوا عليه من جواز
الخلاف وتمسك الموجبون للتقليد بقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم وبقوله عليه السلام خير القرون قرني
وهو ظاهر محمول على السيرة بدليل قوله عليه السلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ولا يتعين اتباعهما من بين سائر الصحابة وقد قال بتعيينهما قائلون والمختار ما خالف القياس من مذاهبهم متبع لأنا لا نظن بهم التحكم فنعلم أنهم استندوا إلى نص وإن وافق القياس فلا
ويطرد ذلك في التابعي إذا لم يعرف له مستند باطل ولا يتبع مذهب مالك في خيار المتابعين لعلمنا بفساد مستنده ولا مذهب أبي حنيفة في شهود الزوايا وإن خالف القياس لعلمنا بأنه بناه على الاستحسان الفاسد ولم نتبع ابن مسعود في حطه قيمة العبد عن الحر ولا ابن عباس في تقدير أجره الآبق بأربعين لما ذكرناه في باب الاستحسان والله أعلم
الفصل الثالث في أن المجتهد هل يقلد المجتهد في القبلة وغيرها
وهو ممنوع عند الأستاذ والقاضي والشافعي تمسكان هذا من القاضي بأن قول
الرسول عليه السلام حجة لدلالة المعجزة على صدقه وقول العالم حجة على
المقلد لدليل قاطع ولا قاطع على جواز قبول العالم قول العالم وما لا قاطع
في قبوله فهو مقطوع ببطلانه وهذا أصل للقاضي ذكرناه في كتاب الأخبار
والقياس ونحن لا نرى ذلك والأستاذ تمسك بأن المجتهد يجب عليه مراعاة ترتيب
الأدلة فلا يقدم قياسا على نص والتقليد بالنسبة إلى الاجتهاد فرعه
فيقال له هذا تحكم في ترتيب ما لا دليل عليه
والمختار أن المسألة في مظنة الاجتهاد ولا قاطع على قبوله ورده وقد اتفقوا على جواز التقليد عند ضيق الوقت وعسر الوصول إلى الحكم بالاجتهاد والنظر
الفصل الرابع فيما يجب على المقلد أن يرعاه ليستبين كون المفتي مجتهدا والمختار يكفيه أن يتعرف عدالته بقول عدلين ويسمع عنه قوله إني مفتي لأن اعتبار تلقفه المشكلات من كل فن وامتحانه به تكليف شطط ويعلم أن أصحاب البوادي من عصر الصحابة كانوا لا يفعلون ذلك وإن ذكره القاضي في التقدير واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا كما قاله الأستاذ غير سديد لأن التواتر يفيد في المحسوسات وهذا ليس من فنه وقال القاضي مرة يكفيه أن يخبره عدلان بأنه مفتي والله أعلم
الفصل الخامس في وجوب تقليد الأفضل
وقد أوجبه جماعة لأنه أعلم وعلل آخرون بوجوب تقديم الأفضل في الإمامة وذلك
مسلم في الإمامة لأن مبناه على المصلحة وهو الأصلح حتى لو عارضته شوكة
واتفق عقده للمفضول وكان في منازعته خصام دائم يقضي بانعقاده ولا يجب
تقديم الأفضل في الفتوى لعلمنا بأن العبادلة الأربعة كانوا يراجعون في زمن
الخلفاء الراشدين
الفصل السادس في ذكر ما يجب على المقلد مراعاته بعد موت مقلده
وقد قال الفقهاء يقلده وإن مات لأن مذهبه لم يرتفع بموته وأجمع علماء
الأصول على أنه لا يفعل ذلك ولو اتبع الآن عامي مذهب أبي بكر معرضا عن
سائر المذاهب لا يجوز له ذلك فإن الصحابة كانوا لا يعتنون بنخل المسائل
وتهذيبها وإنما اعتنى به المتأخرون وكان أعظم شغل الأولين تقعيد القواعد
فلا يفي مذهبهم بجملة الوقائع فإن وجد مجتهد عاصره وجب عليه أن يقلده وإن
لم يجد قال قائلون يتبع آخر مجتهد مات
وهذا فاسد
فيتبع أعظمهم نخلا لجميع المسائل وأسدهم طريقا ثم يستبين مذهبه بقول ناقل ورع فقيه النفس متهد إلى نصوص صاحبه وليس يشترط أن يكون متعمقا في الأصول فإنه لو كان كذلك لكان مجتهدا ولكنه كالمجتهد في نصوص صاحبه كما أن صاحبه مجتهد في نصوص الشارع قال القاضي يجوز له أن يقيس على نصوص غيره فينقل من مذهبه كما يقاس على نص الشارع
الفصل السابع في أنه هل يجب تكرير مراجعة المفتي وقد أوجبه قوم
لاحتمال تغير الاجتهاد ومنعه الآخرون لأن احتماله كاحتمال النسخ في زمان
رسول الله صلى عليه وسلم وكانوا لا يكررون المراجعة والمختار أن المسافة
بينهما إن كانت شاسعة والواقعة كانت تكرر في كل يوم كالصلاة والكفارة فلا
يراجع قطعا لعلمه بأن المقلدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا
لا يفعلون ذلك وإن كانت الواقعة لا يكثر تكررها فالظاهر أيضا أنه لا يراجع
لأنا
نستدل بعدم مراجعتهم في تلك الصور مثله في هذه الصورة ثم يخرج على هذا
الاختلاف وجوب الإخبار على المفتي إذا تغير اجتهاده
الفصل الثامن في المسألة إذا ترددت بين مفتيين على التناقض ولم يمكن الجمع بين قوليهما مثل القصر في حق العاصي بسفره واجب عند أبي حنيفة والإتمام واجب عند الشافعي فيجب على المستفتي مراعاة الأفضل واتباعه وإنما لم نوجب عليه اتباع الأفضل حيث لم يظهر الخلاف لما عهد من الصحابة من مراجعة الكل ونعلم أنهم كانوا يقدمون قول أبي بكر رضي الله عنه على قول غيره عند التناقض ثم الأفقه مقدم على الأورع وإن تساويا من كل وجه قال قائلون يتخير وقال الآخرون يأخذ بالأشد وقال آخرون يأخذ بالأثقل عليه ويراجع نفسه فيه
والمختار لا يتبين إلا بتقديم مقدمتين إحداهما أن الشريعة هل
يجوز فتورها
وقد أجمعوا على تجويز ذلك في شريعة من قبلنا سوى الكعبي بناء على وجوب
مراعاة الأصلح على الله وهو ينازع في هذه القاعدة ثم لا يسلم عن دعوى
الصلاح في نقيض ما قاله والمختار أن شرعنا كشرع من قبلنا في هذا المعنى
وفرق فارقون ثم بأن هذه الشريعة خاتمة الشرائع ولو فترت لبقيت إلى يوم
القيامة وهذا فاسد إذ ليس في العقل ما يحيله والذين فترت عليهم الشرائع
وقد ماتوا قد قامت قيامتهم إذا لم يلحقهم تدارك نبي آخر
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي عليكم زمان يختلف رجلان
في فريضة فلا يجدان من يقسمها بينهما وقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون ظاهر معرض للتأويل ويمكن تخصيصه بالقرآن دون سائر أحكام
الشرع وهذا كلام في الجواز العقلي واما الوقوع فالغالب على الظن ان
القيامة ان قامت عن قرب فلا تفتر الشريعة وان امتدت إلى خمس مائة سنة مثلا
لأن الدواعي متوفرة على نقلها في الحال فلا تضعف إلا على تدريج ولو تطاول
الزمن فالغالب فتوره إذ الهمم إلى التراجع مصيرة
ثم إذا فترت ارتفع التكليف وهي كالاحكام قبل ورود الشرائع وزعم الاستاذ
أبو اسحق انهم يكلفون الرجوع إلى محاسن العقول وهذا لا يليق بمذهبنا فإنا
لا نقول بتحسين العقل وتقبيحه المقدمة الثانية في تقدير خلو واقعة عن حكم
الله مع بقاء الشريعة على نظامها وقد جوزه القاضي حتى كان يوجبه وقال
المآخذ محصورة والوقائع لا نهاية لها فلا تستوفيها مسالك محصورة وهذا قد
تكلمنا عليه في الاستدلال من كتاب القياس
والمختار عندنا احالة ذلك وقوعا في الشرع لا جوازا في العقل
لعلمنا بأن الصحابة على طول الاعصار ما انحجزوا عن واقعة ما اعتقدوا خلوها
عن حكم الله بل كانوا يهجمون عليها هجوم من لا يرى لها حصرا رجعنا إلى
المقصود فلا مبالاة بمذهب المخيرة لأن حاصله اباحة وتردد بين الحل والحرمة
والاباحة لا بد لها من مستند ولا دليل في الشرع على هذه الاباحة نعم ان
كان يتلقاه من تصويب المجتهدين فهذا يلزمه في بدء الأمر ولهذا ارتكبه
المصوبة واما التخيير بينهما فهو اباحة وتكليف الرجوع إلى الاغلظ أو تحكيم
العقل في الاثقل تحكم ايضا لا مستند له وربما يثقل عليه مالا يأمر الشرع
به ويأمر بنقيضه إذ الصلاة على
الحائض اثقل من تركها وكذا الصوم والمختار عندنا ان يتخذ هذه واقعة جديدة
فيراجعهما رسول فيقول بأيهما آخذ
وربما يومئآن ولا به إلى احدها ويفرض لهم في ذلك مستندات فإن كان في نجاسة فيستندون إلى أصل الطهارة أو إلى اصل الحقن والى نكاح مستمر في الإبضاع ولسنا نضبط مستندهم ولكن فائدة ذلك لا تخفى وان امره كل واحد باتباع عقده استفتى ثالثا إن وجده أفضل منهما وان كان مثلهما وفيه تصوير المسألة وطابق أحدهما فهل يقدم قول اثنين على قول واحد هذا ما بناه اصحابنا على أن مذهب أكثر الصحابة هل يقدم على مذهب أقلهم إذا رأيناه حجة والمختار أنه لا يبالي بالكثرة ولكنه يراجعهم فيقول هل أقدم قول اثنين منكم على قول واحد فإن رأوه فذاك وان تعارضت اقاويلهم فيه ايضا فهذا شخص خفي عليه حكم الشريعة كمن هو في جزيرة ولم يبلغه خبر الدعوة فلا شئ عليه فيه فإن قيل هلا تلقيتموه من خلو واقعة عن حكم الله قلنا لانا لا تجوز وقوع ذلك في الشرع كما بيناه
فإن قيل فما قولكم في الساقط من سطح على مصروع ان تحول عنه إلى غيره قتله وان مكث عليه قتله فماذا يفعل وقد قضيتم بأن لا حكم لله فيه قلنا حكم الله ان لا حكم فيه فهذا ايضا حكم وهو نفي الحكم هذا ما قاله الامام رحمه الله فيه ولم أفهمه بعد وقد كررته عليه مرارا ولو جاز ان يقال نفي الحكم حكم لجاز ذلك قبل ورود الشرائع وبعد فتورها وعلى الجملة جعل نفي الحكم حكما تناقض فإنه جمع بين النفي والاثبات ان كان لا يعني به تخيير المكلف بين الفعل وتركه وان عناه فهو اباحة محققة لا مستند له في الشرع
هذا تمام ما أردناه من ذكر كتاب الفتوى وختمه بباب في بيان سبب تقديم مذهب الشافعي رضي الله عنه على سائر المذاهب ولنا في اثبات الغرض منه بعد التنبيه على مقدمتين ثلاث مسالك المقدمة الاولى ان العوام والفقهاء وكل من لم يبلغ منصب المجتهدين لا غنى بهم عن
تقليد امام واتباع قدوة إذ تحكيم العقول القاصرة الذاهلة لم عن
مآخذ الشرع
محال
[...]
[...]
[...]
[...]
وتخير اطيب المذاهب وأسهل المطالب بالتقاط الاخف والاهون حدثنا من مذهب كل ذي مذهب محال لأمرين أحدهما ان ذلك قريب من التمني والتشهي وسيتسع ابن الخرق على الراقع فينسل قوله عن معظم مضايق الشرع بآحاد التوسعات التي اتفقت الائمة في آحاد القواعد عليها
والآخر ان اتباع الافضل متحتم وإذا اعتقد تقدم واحد تعين عليه
اتباعه وترك ما عداه وتخير المذاهب يجر لا محالة إلى اتباع الفاضل تارة
والمفضول اخرى ولا مبالاة بقول من أثبت الخيرة في الاحكام تلقيا من تصويب
المجتهدين
على ما ذكرنا فساده المقدمة الثانية ان من وجب عليه تقليد امام لم يتعين
عليه تقليد واحد من الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بل لا يسوغ له
ذلك إذ الوقائع شتى وهي لكثرتها لا ضبط لها والمنقول عن هذه الائمة مذهبا
وقائع محصورة لا تفي بجميع الوقائع وذلك يحوج المقلد إلى اتباع امام آخر
فيقلد مجتهدا باحثا ناحلا لاصول الشريعة منبها على فروعها واما الصحابة لم
يكثر بحثهم ولم يطل في الفروع نظرهم وليس هذا منا طعنا فيهم ولا تشبيبا
بالطعن فإنهم اشتغلوا بتقعيد له القواعد وضبط اركان الشريعة وتأسيس
كلياتها ولم يصوروا المسائل تقديرا ولم يبوبوا ذلك الابواب تطويلا وتكثيرا
ولكنهم كانوا يجيبون عن الوقائع مكتفين بها
ثم انقلبت الامور إذ تكررت العصور وتقاصرت الهمم وتبدلت السير
والشيم فافتقر الائمة إلى تقدير المسائل وتصوير الوقائع قبل وقوعها ليسهل
على الطالبين اخذها عن قرب من غير معاناة تعب هذه مقدمة الباب المسلك
الاول من المسالك الموعودة في تقديم مذهب الشافعي رضي الله عنه على مذهب
سائر الناحلين محمد من الائمة كأبي حنيفة ومالك ومن عداهم ان الشافعي رضي
الله عنه تأخر عنهم وتصرف في مذاهبهم بعد ان
نظموها ورتبوا صورها وهذبوها وأبو حنيفة نزف جمام ذهنه في تصوير المسائل
وتقعيد إلى المذاهب فكثر خبطه لذلك وكذلك يقع ابتداء الامور ولذلك استكنف
كان أبو يوسف ومحمد من اتباعه في ثلثي مذهبه لما رأوا فيه من كثرة الخبط
والتخليط والتورط في المناقضات وصرف الشافعي رضي الله عنه ذهنه إلى انتخاب
المذاهب وتقديم الاظهر
فالاظهر وأقدم عليه بقريحة وقادة وفطنة منقادة وعقل ثابت ورأي
صائب بعد الاستظهار بعلم الاصول والاستمداد من جملة اركان النظر في
المعقول والمنقول فيستبان على القطع انه ابعد عن الزلل والخطأ ممن اشتغل
بالتمهيد وتشوش الأمر عليه في روم التأسيس التقعيد أبو وعلى الجملة إذا
قدم مذهب ابي حنيفة على مذهب ابي بكر رضي الله عنه لتأخره وشدة اعتنائه
بالنخل فاعتبار التأخير في نسبة الشافعي رضي الله عنه إلى ابي حنيفة رحمه
الله ومن قبله أبين وأوضح فان قيل فلو تبين بعده ناحل فعينوا اتباعه إذ
جعلتم للتأخير اثرا ظاهرا قلنا هذا ما نعتقده ولا مداجاة في علم الاصول
عند استثمار مسالك العقول إلا انه بعد لم يتفق من يساويه في منصب الاجتهاد
أو يقرب منه فان قيل فما قولكم في ابن سريج ومن بعده كالقفال
وغيره من الائمة
قلنا هؤلاء كثرة تصرفاتهم في مذهب الشافعي رضي الله عنه استنباطا وتخريجا وقلت اختياراتهم ثم لم يستمدوا من علم الاصول وكان الشافعي رضي الله عنه أعرف الخليقة به فلا يقدم مذهبهم على مذهبه المسلك الثاني ان نقول انما يؤتى الناظر إذا فسد نظره لأحد أمرين أما اختلال اصل من الاصول أو لاساءة أو نظر في التفريغ ولا خلل في أصول مذهب الشافعي وقد كان أعرف الناس بعلم الاصول وهو أول من صنف في هذا العلم وقد حافظ على اصول الشريعة كلها فقبل الإجماع ولم يفعل كالنظام إذا انكره وقبل الأخبار الآحاد ولم يفعل كالروافض إذ ردوها وقبل القياس وخالف اصحاب الظواهر وهذه اصول مآخذ الشريعة ثم أحسن نظره في ترتيب الادلة فقدم النصوص على المقاييس وأخبار الآحاد عليها وقدم معظم
الظواهر التي ظهر فيها مقصد العموم وسلك فيها نهجا مستقيما
ومسلكا قويما اعترف له كل اصولي بالسبق والفضل ثم أحسن نظره في الفرع
وتنبه لامرين عظيمين أحدهما تقديم القواعد الكلية على الاقيسة الجزئية
ولذلك أوجب
القتل بالمثقل خيفة انتهاضه ذريعة إلى اهدار الدماء في نفيه ابطال قاعدة
القصاص والثاني ان انحجز عن القياس في مظان التعبدات وأثبت فنا من القياس
وهو الحاق ما في معناه له كالحاق الأمة بالعبد في حكم السراية وعليه بني
تعيين لفظة التكبير والمنع من العدول إلى ترجمة الفاتحة عند العجز لبطلان
خاصية الاعجاز ولم يفعل ذلك في التكبير عند العجز إذ لا اعجاز فيه وعين
لفظ التزويج والانكاح في النكاح لكثرة التعبدات والحق بهما ترجمتهما لكل
لسان لانها كانت في معناهما وانضم إلى حسن نظره ذكاء فهمه ونقاء قريحته
وما خص به من فطنته التي لا تجحد ولا يتمارى فيها حتى كان يحفظ القرآن في
اسبوع والموطأ في ثلاث ليال وسرد جامع محمد بن الحسن بين يدي هارون
الرشيد ولسنا للاطناب في نظريته ولا للتنبيه على حسن مذهبه في
آحاد المسائل ولكنا اومأنا إلى الكليات ليستبان به بعده عن الزلل فإن قيل
ادعيتم انه اجرى القياس في مظانه فما باله حسم القياس في ازالة النجاسة
واخراج القيم في الزكوات وهي من مظان المعقولات قلنا التفت في ازالة
النجاسة على سير الصحابة علما منه بأنهم قط على تفنن احوالهم ما استعملوا
مائعا في الازالة سوى الماء واستنادا منه إلى ان الماء القليل إذا لاقى
النجاسة نجس فهو خارج عن القياس من هذا الوجه ومسلكه في مسألة الابدال
ذكرناه في كتاب التأويل وهو ما يرتضيه كل محصل
ولسنا للخوص) في آحاد المسائل فذاك من الفقه ولسنا ندعي عصمة الشافعي
ولكنا نرجح مذهبه لأنه أبعد عن الزلل من غيره المسلك الثالث ان نستثمر عبد
مذاهب الائمة لنتبين تقدم الشافعي على القطع فأما مالك رحمه الله فقد
استرسل على المصالح استرسالا جره إلى قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها والى
القتل في التعزير
والضرب بمجرد التهم إلى غيره مما أومأنا إليه في أثناء الكتاب
ورأى أيضا تقديم عمل اهل المدينة على احاديث الرسول عليه السلام وقد نبهنا
عليه وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد قلب الشريعة ظهرا لبطن وشوش مسلكها
وغير نظامها فإنا نعلم ان جملة ما ينطوي عليه الشرع ينقسم إلى استحثاث على
مكارم الاخلاق وزجر عن الفواحش والكبائر واباحة تغني عن الجرائر وتعين على
امتثال الاوامر وهي بمجموعها تنقسم إلى تعبدات ومعاملات وعقوبات فلينظر
العاقل المنصف في مسلكه فيها
فأما العبادات فأركانها الصلاة والزكاة والصوم والحج ولا يخفى فساد مذهبه
في تفاصيل الصلاة والقول في تفاصيله يطول وثمرة خبطه بين فيما عاد إليه
اقل الصلاة عنده وإذا عرض اقل صلاته على كل عامي جلف كاع وامتنع عن اتباعه
فإن من انغمس في مستنقع نبيذ فخرج في جلد كلب مدبوغ ولم ينو
ويحرم بالصلاة مبدلا صيغة التكبير بترجمته تركيا أو هنديا ويقتصر من قراءة
القرآن على ترجمة قوله تعالى مدهامتان ثم يترك الركوع وينقر نقرتين ولا
قعود بينهما ولا يقرأ التشهد ثم يحدث عمدا في آخر صلاته بدل التسليم ولو
انفلتت منه بأنه سبقه الحدث يعيد الوضوء في اثناء صلاته ويحدث بعده عمدا
فإنه لم يكن قاصدا في حدثه الاول تحلل عن صلاته على الصحة والذي ينبغي ان
يقطع به كل ذي دين ان مثل هذه الصلاة لا يبعث الله لها نبيا وما بعث محمد
بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لدعاء الناس إليها وهي قطب الإسلام وعماد
الدين وقد زعم ان هذا القدر أقل الواجب فهي الصلاة التي بعث لها النبي وما
عداها آداب وسنن وأما الصوم فقد استأصل ركنه حيث رده إلى نصفه ولم يشترط
تقدم النية عليه واما الزكاة فقد قضي فيها بانها على التراخي فيجوز
التأخير وان كانت الحاجة ماسة وأعين المساكين ممتدة ثم قال لو مات قبل
أدائها تسقط بموته وكان قد جاز له التأخير
وهل هذا إلا ابطال غرض الشرع من مراعاة غرض المساكين
ثم عكس هذا في الحج الذي لا ترتبط به حاجة مسلم وزعم انه على الفور فهذا صنيعه في العبادات فأما العقوبات فقد أبطل مقاصدها وخرم اصولها وقواعدها فإن ما رام الشرع عصمته الدماء والفروج والاموال وقد هدم قاعدة القصاص بالقتل بالمثقل فمهد التخنيق والتغريق والقتل بأنواع المثقلات ذريعة إلى درء القصاص ثم زاد عليه حتى ناكر الحس والبديهة وقال لم يقصد قتله وهو شبه عمد وليت شعري كيف يجد العاقل من نفسه ان يعتقد مثل ذلك تقليدا لولا فرط الغباوة وشدة الخذلان واما الفروج فإنه مهد ذرائع اسقاط الحد بها مثل الاجارة ونكاح الامهات وزعم انها دارئة للحد ومن يبغي البغاء بمومسة عليه كيف يعجز عن استئجارها ومن عذيرنا ممن يفعل ذلك ثم يدقق نظره فيوجب الحد في مسألة شهود الزوايا زاعما أني تفطنت لدقيقة وهي انزحافهم أبي في زينة واحدة على الزوايا ثم قال لو شهد أربعة عدول عليه بالزنا وأقر مرة واحدة سقط الحد عنه وأوجب الحد في الوطء بالشبهة إذا صادف أجنبية على فراشه ظنها
حليلته القديمة وأقل مراتب موجبات العقوبات ما تمحض تحريمها والذاهل المخطئ لا يوصف فعله بالتحريم واما الاموال فإنه زعم ان الغصب فيها مع أدنى تغيير مملك فليغصب (الحنطة وليطحنها ما فيملكها وأخذ يتكابس لا فرقا بين غاصب المنديل يشقه طولا أو عرضا ودرأ حد السرقة في الاموال الرطبة وفيما ينضم إليها وان لم تكن رطبة حتى قال لو سرق اناء من ذهب وفيه رطوبة نقطة من الماء فلا حد عليه ومن لم يشهد عليه جسه على الضرورة ان الصحابة رضي الله عنهم لو رفعت إليهم هذه الواقعة لكانوا لا يدرأون الحد بسبب قطرة من الماء تفرض في الاناء فليأيس أن من حسه وعقله هذا صنيعه في العقوبات ثم دقق نظره منعكسا على الاحتياط زاعما أنه لو شهد على السارق بأنه سرق بقرة بيضاء وشهد آخر بأنه سرق بقرة سوداء قال اقطع به لاحتمال ان البقرة كانت مبرقشة على اللون من سواء وبياض في نصفيها فالناظر في محل البياض ظنها بيضاء بجملتها ثم أردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمد صلى الله عليه وسلم قطعا حيث
قال شهود الزور إذا شهدوا كاذبين على نكاح زوجة الغير وقضى به
القاضي مخطئا حلت الزوجة للمشهود له وان كان عالما بالتزوير وحرمت على
الاول بينه وبين الله هذا ترتيب مذهبه وانما ذكرنا هذا المسلك لان ما قبله
من المسالك
يعسر على العوام دركها وهذا مما يفهم كل غر غبي وكل بالغ وصبي فلولا شدة
الغباوة وقلة الدراية وتدرب القلوب على اتباع التقليد والمألوف لما اتبع
مثل هذا المتصرف في الشرع من سلم حسه فضلا من ان يستد نظره وعقله ومن هذا
اشتد المطعن والمغمز من سلف الأئمة فيه إذ اتهموه برومه خرم الشرع وهو
الذي ألحق به القاضي قوله في مسألة المثقل وقال من زعم ان القاتل لم يتعمد
القتل به وان لم يعلم نقيضه فليس من العقلاء وان علمه فقد رام خرم الدين
واما الشافعي رضي الله عنه فقد رد عليه في هذه القواعد واحسن ترتيب النظر
في الاصول على وجه لا ينكره إلا معاند ولعل الناظر في هذا الفصل يظننا
نتعصب للشافعي متغيظين الله على ابي حنيفة لتطويلنا قال النفس في تقرير
هذا الفصل وهيهات فلسنا فيه إلا منصفين ومقتصدين عن مقتصرين على اليسير من
الكثير وحق كل متمار من فيه ان ينصف ويراجع عقله وينقض شوائب
الألف والتقليد عن قلبه ويستوفق في الله تعالى في نظره ويتأمل هذه القواعد
تأمل من يجوز الخطأ على ابي حنيفة نازلا عن غلوائه في التعصب له ليتضح له
على قرب ما ادعيناه ان استد نظره ووقر الدين في صدره وعرف مذاق الشرع
وصدره وما اعتنى الشارع به في تفاصيل احواله هذا تمام القول في الكتاب وهو
تمام المنخول من تعليق الاصول بعد حذف الفضول وتحقيق كل مسألة بماهية
العقول مع الاقلاع عن التطويل والتزام ما فيه شفاء الغليل والاقتصار على
ما ذكره امام الحرمين رحمه الله في
يستد نظره وعقله ومن هذا اشتد المطعن والمغمز من سلف الأئمة فيه إذ اتهموه
برومه خرم الشرع وهو الذي ألحق به القاضي قوله في مسألة المثقل وقال من
زعم ان القاتل لم يتعمد القتل به وان لم يعلم نقيضه فليس من العقلاء وان
علمه فقد رام خرم الدين واما الشافعي رضي الله عنه فقد رد عليه في هذه
القواعد واحسن ترتيب النظر في الاصول على وجه لا ينكره إلا معاند ولعل
الناظر في هذا الفصل يظننا نتعصب للشافعي متغيظين الله على ابي حنيفة
لتطويلنا قال النفس في تقرير هذا الفصل وهيهات فلسنا فيه إلا منصفين
ومقتصدين عن مقتصرين على اليسير من
الكثير وحق كل متمار من فيه ان ينصف ويراجع عقله وينقض شوائب الألف والتقليد عن قلبه ويستوفق في الله تعالى في نظره ويتأمل هذه القواعد تأمل من يجوز الخطأ على ابي حنيفة نازلا عن غلوائه في التعصب له ليتضح له على قرب ما ادعيناه ان استد نظره ووقر الدين في صدره وعرف مذاق الشرع وصدره وما اعتنى الشارع به في تفاصيل احواله هذا تمام القول في الكتاب وهو تمام المنخول من تعليق الاصول بعد حذف الفضول وتحقيق كل مسألة بماهية العقول مع الاقلاع عن التطويل والتزام ما فيه شفاء الغليل والاقتصار على ما ذكره امام الحرمين رحمه الله في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل سوى تكلف في تهذيب كل كتاب بتقسيم فصول وتبويب ابواب روما لتسهيل المطالعة عند مسيس الحاجة إلى المراجعة والله أعلم بالصواب.