كتاب : الروض المربع شرح زاد المستنقع في اختصار المقنع
المؤلف : منصور بن يونس بن إدريس البهوتي
xفصل في الكفن
ويجب كفنه في ماله 1 لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: "كفنوه في ثوبيه" مقدما على دين ولو برهن وغيره من وصية وإرث لأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين فكذا الميت فيجب لحق الله تعالى وحق الميت ثوب لا يصف البشرة يستر جميعه من ملبوس مثله ما لم يوص بدونه والجديد أفضل فإن لم يكن له أي للميت مال ف كفنه ومؤنة تجهيزه على من تلزمه نفقته لأن ذلك يلزمه حال الحياة فكذا بعد الموت إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته ولو غنيا لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع وقد انقطع ذلك بالموت فإن عدم مال الميت ومن تلزمهم نفقته فمن بيت المال إن كان مسلما فإن لم يكن فعلى المسلمين العالمين بحاله قال الشيخ تقي الدين: من ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه.فإن أراد بعض الورثة أن ينفرد به لم يلزم بقية الورثة قبوله لكن ليس للبقية نبشه وسلبه من كفنه بعد دفنه وإذا مات إنسان مع جماعة في سفر كفنوه من ماله فإن لم يكن كفنوه ورجعوا على تركته أو من تلزمه نفقته إن نووا الرجوع.
ويسحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض من قطن لقول عائشة: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث أثواب بيض سحولية جدد يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا متفق عليه. ويقدم بتكفين من يقدم بغسل ونائبه كهو والأولى توليه بنفسه تجمر أي: تبخر بعد رشها بماء ورد أو غيره ليعلق ثم تبسط بعضها فوق بعض أوسعها وأحسنها أعلاها لأن عادة الحي جعل الظاهر أفخر ثيابه ويجعل الحنوط وهو أخلاط من طيب يعد للميت خاصة فيما بينها لا فوق العليا لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة ثم يوضع الميت عليها أي اللفائف مستلقيا لأنه أمكن لإدراجه فيها ويجعل منه أي من الحنوط في قطن بين أليتيه ليرد ما يخرج عند تحريكه ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان وهو السراويل بلا أكمام تجمع أليتيه ومثانته ويجعل الباقي من القطن المحنط على منافذ وجهه عينيه ومنخريه وأذنيه وفمه لأن في جعلها على المنافذ منعا من دخول الهوام و على مواضع سجوده ركبتيه ويديه وجبهته وأنفه وأطراف قدميه تشريفا لها وكذا مغابنه كطي ركبتيه وتحت إبطيه وسرته لأن ابن عمر كان يتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك وإن طيب الميت كله فحسن لأن أنسا طلي بالمسك وطلى ابن عمر ميتا بالمسك وكره داخل عينيه وأن يطيب بورس وزعفران وطليه بما يمسكه كصبر ما لم ينقل ثم يرد طرف اللفافة
ـــــــ
1- أي من ماله الذي يتركه.
العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ويرد طرفها الأخر من فوقه أي فوق الطرف الأيمن ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك أي كالأولى ويجعل أكثر الفاضل من كفنه على رأسه لشرفه ويعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر ثم يعقدها لئلا تنتشر وتحل في القبر لقول ابن مسعود: اذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد رواه الأثرم. وكره تخريق اللفائف لأنه إفساد لها وإن كفن في قميص ومئزر ولفاقة جاز لأنه صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات رواه البخاري وعن عمرو بن العاص أن الميت يؤزر ويقمص ويلف بالثالثة وهذا عادة الحي ويكون القميص بكمين ودخاريص لا بزر.
وتكفن المرأة والخنثى ندبا في خمسة أثواب بيض من قطن إزار وخمار وقميص ولفاقتين لما روى أحمد وأبو داود وفيه ضعف عن ليلى الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما أعطانا الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر وقال أحمد: الحقاء: الإزار والدرع: القميص فتؤزر بالمئزر ثم تلبس القميص ثم تخمر ثم تلف باللفافتين ويكفن صبي في ثوب ويباح في ثلاثة ما لم يرثه غير مكلف وصغيرة في قميص ولفافتين والواجب للميت مطلقا ثوب يستر جميعه لأن العورة المغلظة يجزئ في سترها ثوب واحد فكفن الميت أولى وكره بصوف وشعر ويحرم بجلود ويجوز في حرير لضرورة فقط فإن لم يجد إلا بعض ثوب ستر العورة كحال الحياة والباقي بحشيش أو ورق
وحرم دفن حلي وثياب غير الكفن لأنه إضاعة مال ولحي أخذ كفن ميت لحاجة حر أو برد بثمنه.
فصل في الصلاة على الميت
تسقط بمكلف1 وتسن جماعة وأن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة. والسنة أن يقوم الإمام عند صدره أي صدر ذكر وعند وسطها أي وسط أنثى والخنثى بين ذلك والأولى بها وصيه العدل فسيد برقيقه فالسلطان فنائبه الأمين فالحاكم فالأولى بغسل رجل فزوج بعد ذوي الأرحام ومن قدمه ولي بمنزلته لا من قدمه وصي. وإذا اجتمعت جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم وتقدم فأسن فأسبق2 ويقرع مع التساوي وجمعهم بصلاة أفضل ويجعل وسطـــــــ
1- متى قام بها صارت مستحبة للباقين ولم تعد فرض عين بل فرض كفاية.
2- أسبق: أي أسبقهم إسلاما فإن تساووا فأسبقهم هجرة.
أنثى حذاء صدر ذكر وخنثى بينهما.
ويكبر أربعا لتكبير النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أربعا متفق عليه. يقرأ في الأولى أي بعد التكبيرة الأولى وهي تكبيرة الإحرام بعد التعوذ والبسملة الفاتحة سرا ولو ليلا لما روى ابن ماجة عن أم شريك الأنصارية قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب ولا نستفتح1 لها ولا يقرأ سورة معها ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في أي بعد التكبيرة الثانية ك الصلاة في التشهد الأخير لما روى الشافعي عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للميت ثم يسلم.
ويدعو في الثالثة لما تقدم فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه عليهما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة لكن زاد فيه الموفق: وأنت على كل شيء قدير ولفظ السنة اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله -بضم الزاي وقد تسكن وهو القرى وأوسع مدخله بفتح الميم مكان الدخول وبضمها الإدخال واغسله بالماء والثلج والبرد 2 ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار رواه مسلم عن عوف بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك على جنازة حتى تمنى أن يكون ذلك الميت وفيه "وأبدله أهلا خيرا من أهله وأدخله الجنة" وزاد الموفق لفظ من الذنوب وافسح له في قبره ونور له فيه لأنه لائق بالمحل وإن كان الميت أنثى أنث الضمير وإن كان خنثى قال: هذا الميت ونحوه ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت.
وإن كان الميت صغيرا ذكرا أو أنثى أو بلغ مجنونا واستمر قال بعد من توفيته منا فتوفه عليهما اللهم اجعله ذخرا لوالديه وفرطا أي سابقا مهيئا لمصالح أبويه في الآخرة سواء مات في حياة أبويه أو بعدهما وأجرا وشفيعا مجابا اللهم ثقل به موازينهما وعظم به
ـــــــ
1- لانستفتح: لا نقرأ دعاء الإستفتاح.
2- الأرجح: أنها بماء الثلج والبرد
أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم ولا يستغفر له لأنه شافع غير مشفوع فيه ولا جرى عليه قلم وإذا لم يعرف إسلام والديه دعا لمواليه.
ويقف بعد الرابعة قليلا ولا يدعو ولا يتشهد ولا يسبح ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه روي الجوزجاني عن عطاء بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الجنازة تسليمة ويجوز تلقاء وجهه وثانية وسن وقوفه حتى ترتفع ويرفع يديه ندبا مع كل تكبيرة لما تقدم في صلاة العيدين.
وواجبها أي الواجب في صلاة الجنازة مما تقدم قيام في فرضها وتكبيرات أربع والفاتحة ويتحملها الإمام عن المأموم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة للميت والسلام ويشترط لها النية فينوي الصلاة على الميت ولا يضر جهله بالذكر وغيره فإن جهله نوى على من يصلي عليه الإمام وإن نوى أحد الموتى اعتبر تعيينه وإن نوى على هذا الرجل فبان امرأة أو بالعكس أجزأ لقوة التعيين قاله أبو المعالي وإسلام الميت وطهارته من الحدث والنجس مع القدرة وإلا صلى عليه والاستقبال والسترة كمكتوبة وحضور الميت بين يديه فلا تصح على جنازة محمولة ولا من وراء جدار ولا من وراء خشب كالتابوت المغطى بخشب فلا تصح الصلاة على الميت وهو فيه بخلاف آلة من غير ذلك فإنها لا تمنع الصحة.
ومن فاته شيء من التكبير قضاه ندبا على صفته لأن القضاء يحكي الأداء كسائر الصلوات والمقضي أول صلاته يأتي فيه بحسب ذلك وإن خشي رفعها تابع التكبير رفعت أم لا وإن سلم مع الإمام ولم يقضه صحت لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ما فاتك لا قضاء عليك" ومن فاتته الصلاة عليه أي على الميت صلى على القبر إلى شهر من دفنه لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وعن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر رواه الترمذي ورواته ثقات قال أحمد: أكثر ما سمعت هذا وتحرم بعده ما لم تكن زيادة يسيرة و يصلي على غائب عن البلد ولو دون مسافة قصر فتجوز صلاة الإمام والآحاد عليه بالنية إلى شهر لصلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي كما في المتفق عليه عن جابر وكذا غريق وأسير ونحوهما وان وجد بعض ميت لم يصل عليه فككله إلا الشعر والظفر والسن فيغسل ويكفن ويصلى عليه ثم إن وجد الباقي فكذلك ويدفن بجنبه ولا يصلى على مأكول ببطن آكل ولا مستحيل بإحراق ونحوه ولا على بعض حي مدة حياته
ولا يسن أن يصلي الإمام الأعظم ولا إمام كل قرية وهو واليها في القضاء على الغال وهو من كتم شيئا مما غنمه لما روى زيد بن خالد قال: توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه القوم فلما رأى ما بهم قال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين رواه الخمسة إلا الترمذي واحتج به أحمد ولا على قاتل نفسه عمدا لما روى جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه رواه مسلم والمشاقص جمع مشقص كمنبر: نصل عريض أو نصل طويل أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش ولا بأس بالصلاة عليه أي على الميت في المسجد إن أمن تلويثه لقول عائشة: صلى رسول الله على سهل بن بيضاء في المسجد رواه مسلم و صلي على أبي بكر وعمر فيه رواه سعيد وللمصلي قيراط وهو أمر معلوم عند الله تعالى وله بتمام دفنها آخر بشرط أن لا يفارقها من الصلاة حتى تدفن.
فصل في حمل الميت ودفنه
ويسقطان بكافر وغيره كتكفينه لعدم اعتبار النية. يسن التربيع في حمله لما روى سعيد وابن ماجة عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وان شاء فليدع إسناده ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه لكن كرهه الآجري وغيره إذا ازدحموا عليها فيسن أن يحمله أربعة والتربيع أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه الأيمن ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة ويباح أن يحمل كل واحدة على عاتقه بين العمودين لأنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد ابن معاذ بين العمودين وإن كان الميت طفلا فلا بأس بحمله على الأيدي ويستحب أن يكون على نعش فإن كانت امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة1 لأنه أستر لها ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها ويجعل فوق المكبة ثوب وكذا إن كان بالميت حدب ونحوه وكره تغطيته بغير أبيض ولا بأس بحمله على دابة لغرض صحيح كبعد قبره.ويسن الإسراع بها دون الخبب لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونه إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" متفق عليه. و يسن كون المشاة
ـــــــ
1- وهو غطاء مقوس من الخشب يجعل فوق التابوت.
أمامها قال ابن المنذر: ثبت أن ألنبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر و عمر كانوا يمشون أمام الجنازة و كون الركبان خلفها لما روى الترمذي وصححه عن المغيرة بن شعبة مرفوعا: "الراكب خلف الجنازة" وكره ركوب لغير حاجة وعود ويكره جلوس تابعها حتى توضع بالأرض للدفن إلا لمن بعد لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع" متفق عليه عن أبي سعيد. وكره قيام لها إن جاءت أو مرت به وهو جالس ورفع الصوت معها ولو بقراءة وأن تتبعها امرأة وحرم أن يتبعها مع منكر إن عجز عن إزالته وإلا وجبت.
ويسجى أي يغطى ندبا قبر امرأة وخنثى فقط ويكره لرجل بلا عذر لقول علي وقد مر بقوم دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء رواه سعيد.
واللحد أفضل من الشق لقول سعد: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم. واللحد: هو أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر مكانا يسع الميت وكونه مما يلي القبلة أفضل. والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه وهو مكروه بلا عذر كإدخاله خشبا وما مسته نار ودفن في تابوت وسن أن يوسع ويعمق قبر بلا حد ويكفي ما يمنع السباع والرائحة ومن مات في سفينة ولم يمكن دفنه ألقي في البحر سلا كإدخاله القبر بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه وتثقيله بشئ.
ويقول مدخله ندبا: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمره عليه الصلاة والسلام بذلك رواه أحمد عن ابن عمر ويضعه ندبا في لحده على شقه الأيمن لأنه يشبه النائم وهذه سنته ويقدم بدفن رجل من يقدم بغسله وبعد الأجانب محارمه من النساء ثم الأجنبيات وبدفن امرأة محارمها الرجال فزوج فأجانب. و يجب أن يكون الميت مستقبلا القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة: "قبلتكم أحياء وأمواتا" وينبغي أن يدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه وأن يسند من ورائه بتراب لئلا ينقلب ويجعل تحت رأسه لبنة ويشرج اللحد باللبن ويتعاهد خلاله بالمدر ونحوه ثم يطين فوق ذلك وحشو التراب عليه ثلاثا باليد ثم يهال وتلقينه والدعاء له بعد الدفن عند القبر ورشه بماء بعد وضع حصباء عليه ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر لأنه صلى الله عليه وسلم: رفع قبره عن الأرض قدر شبر رواه الساجي من حديث جابر ويكره فوق شبر1.
ـــــــ
1- ومن يرى مايفعلونه الآن بالقبور من بنائها بالرخام وجعلها طبقات وإحاطتها بأسيجة الحديد وزرع الزهور حولها كأنها متنزها يتعوذ بالله من فعلهم وإتباعهم في ذلك سنن الذين قبلهم وعادات الكفرة الذين يعظمون موتاهم لكأن هذا يرد عنهم العذاب وهو مهلكهم خصوصا الذين يعدون هذه الأماكن لأنفسهم قبل وفاتهم أو يوصون بها يريدون أن يتعاظموا بها على الناس. والأخطر من هذا هذه المؤسسات القيمة في بلادنا على المقابر قد جعلت لكل قطعة ثمنا لكأنها أسواق بيع وشراء ومن لايقدر على دفع الأثمان العالية ترمى جثته في مقابر جماعية أعاذنا الله منهم وأنالهم جزاء مايفعلونه إنه نعم المولى ونعم النصير.
ويكون القبر مسنما لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما لكن من دفن بدار حرب لتعذر نقله فالأولى تسويته بالأرض وإخفاؤه ويكره تجصيصه وتزويقه وتحليته وهو بدعة والبناء عليه لاصقة أو لا لقول جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يجنى عليه رواه مسلم. و يكره الكتابة والجلوس والوطء عليه 1 لما روى الترمذي وصححه من حديث جابر مرفوعا: نهى أن تجصص القبور2 وأن يكتب عليها وأن توطأ وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" . و يكره الاتكاء إليه لما روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمارة بن حزم متكئا على قبر فقال: لا تؤذه 3 ودفن بصحراء أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع سوى النبي صلى الله عليه وسلم واختار صاحباه الدفن عنده تشرفا وتبركا وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع ويكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور والمشي بالنعل فيها إلا خوف نجاسة أو شوك وتبسم وضحك أشد4 ويحرم إسراجها واتخاذ المساجد والتخلي5 عليها وبينها.
ويحرم فيه أي في قبر واحد دفن اثنين فأكثر معا أو واحد بعد آخر قبل بلى السابق لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبر وعلى هذا استمر فعل أصحابه ومن بعدهم وإن حفر فوجد عظام ميت دفنها وحفر في مكان آخر إلا لضرورة ككثرة الموتى وقلة من يدفنهم وخوف الفساد عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" رواه النسائي. ويقدم الأفضل للقبلة وتقدم ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد وكره الدفن عند طلوع الشمس وقيامها وغروبها6 ويجوز ليلا ويستحب جمع الأقارب في بقعة لتسهل زيارتهم قريبا من الشهداء والصالحين لينتفع بمجاورتهم في البقاع الشريفة ولو وصى أن يدفن في ملكه دفن مع المسلمين ومن سبق إلى مسبلة قدم
ـــــــ
1- الوطء عليه: الدوس عليه بالأقدام والسير فوق القبور وإنما يكون السير بجانبها.
2- والنهي عن تجصيصها يستتبع أن يكون النهي أشد عن بنائها بما يكلف الأموال الطائلة لتي كان الأفضل لو ينفقوها على فقراء المسلمين.
3- أي أن في ذلك إيذاء لصاحب القبر المدفون فيه.
4- لأن زيارة القبور إنما هي للعظة والعبرة.
5- التخلي: قضاء الحاجة من بول أو غائط.
6- وهي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
ثم يقرع وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنها مسلم وحدها إن أمكن وإلا فمعنا على جنبها الأيسر وظهرها إلى القبلة.
ولا تكره القراءة على القبر لما روى أنس مرفوعا قال: "من دخل المقابر فقرأ فيها يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعددهم حسنات" وصح عن ابن عمر أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها قاله في المبدع وأي قربة من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك فعلها مسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه ذكر المجد وغيره حتى لو أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم جاز ووصل إليه الثواب.
ويسن أن يصنع لأهل الميت طعام يبعث به إليهم ثلاثة أيام لقوله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم" رواه الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه. ويكره لهم أي لأهل الميت فعله أي فعل الطعام للناس لما روى أحمد عن جرير قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام1 بعد دفنه من النياحة2 وإسناده ثقات. ويكره الذبح عند القبور والأكل منه لخبر أنس: "لاعقر في الإسلام" رواه أحمد بإسناد صحيح وفي معناه الصدقة عند القبر فإنه محدث وفيه رياء3.
ـــــــ
1- أي صنع أهل الميت طعامهم لزوارهم.
2- أي من النياحة المنهي عنها أما الحزن دون إظهار التفجع فهذا لا نهي عنه لأن الإنسان لابد أن يتأثر بموت عزيز عليه.
3- الصدقة جائزة في كل مكان إلا أن النهي هنا ووصف هذه الصدقة بالرياء لأنها تعطي على رؤوس الأشهاد طلبا للتفاخر لا طلبا للثواب فلو كانت طلبا للثواب لأسرها أصحابها ولم يعلنوها.
فصل
تسن زيارة القبور وحكاه النووي إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" . رواه مسلم والترمذي وزاد: "فإنها تذكر الآخرة" . وسن أن يقف زائر أمامه قريبا منه كزيارته في حياته إلا للنساء فتكره لهن زيارتها غير قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما روى أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور1.ـــــــ
1- أي اللواتي يكثرن من زيارة القبور ولذا استعمل لفظ زوارات بدل زائرات وبعضهن عندنا قد اتخذتها عادة أي زيارة القبور فيخرجن كل يوم سبت أو بعد ظهر الخميس ليلة الجمعة فيشعلن البخور ويزرعن الزهور.
و يسن أن يقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم للأخبار الواردة بذلك وقوله: إن شاء الله بكم للاحقون استثناء للتبرك أو راجع للحوق لا للموت أو إلى البقاع ويسمع الميت الكلام ويعرف زائره يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس وفي الغنية: يعرفه كل وقت وهذا الوقت آكد وتباح زيارة قبر كافر1.
وتسن تعزية المسلم المصاب بالميت ولو صغيرا قبل الدفن وبعده لما روى ابن ماجة وإسناده ثقات عن عمرو بن حزم مرفوعا: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة" . ولا تعزية بعد ثلاث فيقال لمصاب بمسلم: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك وبكافر: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك و تحرم تعزية كافر وكره تكرارها2 ويرد معزى: استجاب الله دعاءك ورحمنا و إياك وإذا جاءته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظا. ويجوز البكاء على الميت لقول أنس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان وقال: "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه– أويرحم" متفق عليه. ويسن الصبر والرضى والاسترجاع فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ولا يلزم الرضى بمرض وفقر وعاهة ويحرم بفعل المعصية وكره لمصاب تغيير حاله وتعطيل معاشه لا جعل علامة عليه ليعرف فيعزى وهجره للزينة وحسن الثياب ثلاثة أيام.
ويحرم الندب أي تعداد محاسن الميت كقول: واسيداه وانقطاع ظهراه والنياحة وهي رفع الصوت بالندب وشق الثوب ولطم الخد ونحوه كصراخ ونتف شعر ونشره وتسويد وجه وخمشه3 لما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" . وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة4 والشاقة5. والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة.
ـــــــ
1- للعبرة والعظة وسؤال رب العالمين أن لا يورده مورده وأن يختم له بصالح الأعمال.
2- أما عادة إقامة الأسبوع والأربعين والذكرى السنوية فهذه كلها بدع تعلمها الناس بعد فتح مصر من الأقباط الذين ورثوها من الفراعنة إذ هي في صلب عقائدهم الوثنية أجارنا الله منها وهدى المسلمين لما فيه خيرهم.
3- الخمش: تجريح الوجه والجسم بالأظافر تفجعا.
4- الحالقة التي تحلق شعر رأسها عند موت عزيز.
5- الشاقة التي تشق ثيابها عند سماع خبر نوت أو مصيبة أو عند ندبها للميت.
كتاب الزكاة
مدخل
كتاب الزكاةلغة: النماء والزيادة يقال: زكا الزرع: إذا نما وزاد وتطلق على المدح والتطهير والصلاح وسمي المخرج زكاة لأنه يزيد في المخرج منه ويقيه الآفات وفي الشرع: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص تجب الزكاة في سائمة بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة1 ويأتي تفصيلها بشروط خمسة أحدها: حرية فلا تجب على عبد لأنه لا مال له ولا على مكاتب لأنه عبد وملكه غير تام وتجب على مبعض بقدر حريته2.و الثاني: إسلام فلا تجب على كافر أصلي أو مرتد فلا يقضيها إذا أسلم.
و الثالث: ملك نصاب ولو لصغير أو مجنون لعموم الأخبار وأقوال الصحابة فإن نقص عنه فلا زكاة إلا الركاز3.
و الرابع: استقراره أي تمام الملك في الجملة فلا زكاة في دين الكتابة لعدم استقراره لأنه يملك تعجيز نفسه.
و الخامس: مضي الحول 4 لقول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى
ـــــــ
1- من بضائع وأموال وسلع وتسمى كلها الأموال المنقولة أي التي يمكن نقلها.
2- أي يؤدي الزكاة عن جزء ماله بنفس النسبة التي تحرر فيها بعضه فإن كان قد أدى ربع مكاتبته أدى عن ربع ماله وإن كان قد أدى عن ثلث ملله وهكذا.
3- وفي الركاز الخمس دون تحديد لحد أدنى فيه.
4- أي أن يمر عام على امتلاكه لهذا المال وهذا في النقد وما يعادله من بضاعة.
يحول عليه الحول" . رواه ابن ماجة ورفقا بالمالك ليتكامل النماء فيواسي منه ويعفى فيه عن نصف يوم في غير المعشر أي الحبوب والثمار لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1 وكذا المعدن والركاز والعسل قياسا عليهما فإن استفاد مالا بإرث أو هبة ونحوهما فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول إلا نتاج السائمة وربح التجارة ولو لم يبلغ النتاج أو الربح نصابا فإن حولهما حول أصلهما فيجب ضمها إلى ما عنده وإن كان نصابا لقول عمر: اعتد عليهم بالسخلة2 ولا تأخذها منهم رواه مالك. ولقول علي: عد عليهم الصغار والكبار فلو ماتت واحدة من الأمات فنتجت سخلة انقطع بخلاف ما لو نتجت ثم ماتت وإلا يكن الأصل نصابا فـ حول الجميع من كماله نصابا فلو ملك خمسا وثلاثين شاة فنتجت شيئا فشيئا فحولها من حين تبلغ أربعين وكذا لو ملك ثمانية عشر مثقالا وربحت شيئا فشيئا فحولها منذ بلغت عشرين ولا يبني الوارث على حول الموروث ويضم المستفاد إلى نصاب بيده من جنسه أو في حكمه ويزكي كل واحد إذا تم حوله.
ومن كان له دين أو حق من مغصوب أو مسروق أو موروث مجهول ونحوه من صداق وغيره كثمن مبيع وقرض على مليء باذل أو غيره أدى زكاته إذا قبضه لما مضى روي عن علي لأنه يقدر على قبضه والانتفاع به قصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة أو لا ولو قبض دون نصاب زكاه وكذا لو كان بيده دون نصاب وباقيه دين أوغصب أو ضال والحوالة به أو الإبراء كالقبض ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب فالدين وإن لم يكن من جنس المال مانع من وجوب الزكاة في قدره ولو كان المال المزكى ظاهرا كالمواشى والحبوب والثمار وكفارة كدين وكذا نذر مطلق وزكاة ودين حج وغيره لأنه يجب قضاؤه أشبه دين الآدمي ولقوله صلى الله عليه وسلم: "دين الله أحق بالوفاء" ومتى برئ3 ابتدأ حولا.
وان ملك نصابا صغارا انعقد حوله حين ملكه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة: شاة" . لأنها تقع على الكبير والصغير لكن لو تغذت باللبن فقط لم تجب لعدم السوم4 وإن نقص النصاب في بعض الحول انقطع لعدم الشرط لكن يعفى في الأثمان وقيم العروض عن نقص يسير كحبة وحبتين لعدم انضباطه أو باعه ولو مع خيار بغير جنسه انقطع الحول أو أبدله بغير جنسه لا فرارا من الزكاة انقطع الحول
ـــــــ
1- سورة الأنعام من الآية "141".
2- صغيرة الضأن أو الماعز.
3- متى بريء وكان مالكا للنصاب.
4- السوم: خروج الأنعام إلى المرعى لأن الزكاة في السائمة.
أو أبدله بغير جنسه لا فرارا من الزكاة انقطع الحول لما تقدم ويستأنف حولا إلا في ذهب بفضة وبالعكس لأنهما كالجنس الواحد ويخرج مما معه عند الوجوب وإذا اشترى عرضا لتجارة بنقد أو باعه به بنى على حول الأول لأن الزكاة تجب في قيم العروض وهي من جنس النقد وإن قصد بذلك الفرار من الزكاة لم تسقط لأنه قصد به إسقاط حق غيره فلم يسقط كالمطلق في مرض الموت1 فإن ادعى عدم الفرار وثم قرينة عمل بها وإلا فقوله وإن أبدله ب نصاب من جنسه كأربعين شاة بمثلها أو أكثر بنى على حوله والزائد تبع للأصل في حوله كنتاج فلو أبدل مائة شاة بمائتين لزمه شاتان إذا حال حول المائة وإن أبدله بدون نصاب انقطع.
وتجب الزكاة في عين المال الذي لو دفع زكاته منه أجزأت كالذهب والفضة والبقر والغنم السائمة ونحوها لقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة: شاة وفيما سقت السماء العشر" . ونحو ذلك وفي للظرفية وتعلقها بالمال كتعلق أرش2 جناية برقبة الجاني فللمالك إخراجها من غيره والنماء بعد وجوبها له وإن أتلفه لزمه ما وجب فيه وله التصرف فيه ببيع وغيره فلذلك قال: ولها تعلق بالذمة أي ذمة المزكي لأنه المطالب بها ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء كسائر العبادات فإن الصوم يجب على المريض والحائض والصلاة تجب على المغمى عليه والنائم فتجب في الدين والمال الغائب ونحوه كما تقدم لكن لا يلزمه الإخراج قبل حصوله بيده ولا يعتبر في وجوبها أيضا بقاء المال فلا تسقط بتلفه فرط أو لم يفرط كدين الآدمي إلا إذا تلف زرع أو ثمر بجائحة قبل حصاد و جذاذ.
والزكاة إذا مات من وجبت عليه كالدين في التركة لقوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق بالوفاء" فإن وجبت وعليه دين برهن وضاق المال قدم وإلا تحاصا ويقدم نذر معين وأضحية معينة.
ـــــــ
1- وهذا طلاقه ساقط ومطلقته مستحقة لحقها في الميراث منه لأنه إنما طلقها ليحرمها حقها في الميراث وكذا الحال هنا فإنه يغير من نوع المال تهربا من أداء الزكاة فالزكاة مستحقة وعليه أداءها.
2- الإرش: التعويض والغرامة.
باب زكاة بهيمة الأنعام
مدخل
1- باب زكاة بهيمة الأنعاموهي الإبل والبقر والغنم وسميت بهيمة لأنها لا تتكلم.تجب الزكاة في إبل بخاتي1 أو عراب وبقر أهلية أو وحشية ومنها الجواميس
ـــــــ
1- البخاتي: الإبل الخراسانية.
وغنم ضأن أو معز أهلية أو وحشية إذا كانت لدر ونسل1 لا لعمل وكانت سائمة أي راعية للمباح الحول وكثره لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون" رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وفي حديث الصديق: وفي الغنم في سائمتها إلى آخره فلا تجب في معلوفة ولا إذا اشترى لها ما تأكله أو جمع لها من المباح ما تأكله.
فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض إجماعا وهي ما تم لها سنة سميت بذلك لأن أمها قد حملت والماخض الحامل وليس كون أمها ماخضا شرط وإنما ذكر تعريفا لها بغالب أحوالها. و يجب فيما دونها أي دون خمس وعشرين في كل خمس شاة بصفة الإبل إن لم تكن معيبة ففي خمس من الإبل كرام سمان شاة كريمة سمينة وإن كانت الإبل معيبة ففيها شاة صحيحة تنقص قيمتها بقدر نقص الإبل ولا يجزئ بعير ولا بقرة ولا نصفا شاتين وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه إجماعا في الكل.
وفي ست وثلاثين بنت لبون وهي ما تم لها سنتان لأن أمها قد وضعت غالبا فهي ذات لبن.
وفي ست وأربعين حقة ما تم لها ثلاث سنين لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وتركب.
وفي احدى وستين جذعة بالذال المعجمة ما تم لها أربع سنين لأنها تجذع إذا سقطت سنها وهذا أعلى سن يجب في الزكاة.
وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان إجماعا فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون لحديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عند آل عمر بن الخطاب رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون وفي مائة وخسمين ثلاث حقاق وفي مائة وستين أربع بنات لبون وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون وهكذا فإذا بلغت مائتين خير بين أربع حقاق وخمس بنات لبون ومن وجبت عليه بنت لبون مثلا وعدمها أو كانت
ـــــــ
1- لدرونسل: أي للاستفادة من درها أي مما تدره من لبن أو نسل كأن يأتي بذكور وحشية لتحسين نسل ما لديه.
معيبة فله أن يعدل إلى بنت مخاض يدفع جبرانا1 أو إلى حقة ويأخذه وهو شاتان أو عشرون درهما ويجزئ شاة وعثرة دراهم ويتعين على ولي محجور عليه إخراج أدون مجزيء ولا دخل لجبران في غير إبل.
ـــــــ
1- الجبران: تعويض يعادل قيمة الفرق بين المطلوب والموجود.
فصل في زكاة البقر
وهي مشتقة من بقرت الشىء: إذا شققته لأنها تبقر الأرض بالحراثة ويجب في ثلاثين من البقر أهلية كانت أو وحشية تبيع أو تبيعة لكل منهما سنة ولاشئ فيما دون الثلاثين لحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن و يجب في أربعين مسنة لها سنتان ولا يجزئ مسن ولا تبيعان وفي ستين تبيعان ثم يجب في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة فإذا بلغت ما يتفق فيه الفرضان كمائة وعشرين خير لحديث معاذ رواه أحمد ويجزئ الذكر هنا وهو التبيع في الثلاثين من البقر لورود النص فيه و يجزئ ابن لبون وحق وجذع مكان بنت مخاض عند عدمها و يجزئ الذكر إذا كان النصاب كله ذكورا سواء كان من إبل أو بقر أو غنم لأن الزكاة مواساة فلا يكلفها من غير ماله.فصل في زكاة الغنم
ويجب في أربعين من الغنم ضأنا كانت أو معزا أهلية كانت أو وحشية شاة جذع ضأن أو ثني معز ولا شيء فيما دون الأربعين وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان إجماعا وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة ففي خمسمائة خمس شياه وفي ستمائة ست شياه وهكذا ولا تؤخذ هرمة ولا معيبة لا يضحى بها إلا إن كان الكل كذلك ولا حامل ولا الربى التي تربي ولدها ولا طروقة الفحل ولا كريمة ولا أكولة إلا أن يشاء ربها وتؤخذ مريضة من مراض وصغيرة من صغار غنم لا إبل وبقر فلا يجزئ فصلان وعجاجيل وإن اجتمع صغار وكبار وصحاح ومعيبات وذكور وإناث أخذت أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين وإن كان النصاب نوعين كبخاتي وعراب وبقر وجواميس وضأن ومعز أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين.باب زكاة الحبوب والثمار
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 1. والزكاة تسمى: نفقة.تجب الزكاة في الحبوب كلها كالحنطة والشعير والأرز والدخن والباقلاء والعدس والحمص وسائر الحبوب ولو لم تكن قوتا كحب الرشاد والفجل والقرطم والأبازير كلها كالكسفرة والكمون وبزر الكتان والقثاء والخيار لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون العشر" رواه البخاري. وفي كل ثمر يكال ويدخر لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فدل على اعتبار التوسيق وما لا يدخر لا تكمل فيه النعمة لعدم النفع به مالا كتمر وزبيب و لوز وفستق وبندق ولا تجب في سائر الثمار ولا في الخضر والبقول والزهور ونحوها غير صعتر وأشنان وسماق وورق شجر يقصد كسدر وخطمي وآس فتجب فيها لأنها مكيلة مدخرة.
ويعتبر لوجوب الزكاة في جميع ذلك بلوغ نصاب قدره بعد تصفية حب من قشره
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "267".
وجفاف غيره خمسة أوسق لحديث أبي سعيد الخدري يرفعه: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" رواه الجماعة. والوسق: ستون صاعا وتقدم أنه خمسة أرطال وثلث عراقي فهي ألف وستمائة رطل عراقي وألف وأربعمائة وثمانية وعشرون رطلا وأربعة أسباع رطل مصري وثلاث مائة واثنان وأربعون رطلا وستة أسباع رطل دمشقي ومائتان وسبعة وخمسون رطلا وسبع رطل قدسي والوسق والمد والصاع: مكاييل نقلت إلى الوزن لتحفظ وتنقل وتعتبر بالبر الرزين فمن اتخذ مكيلا يسع صاعا منه عرف به ما بلغ حد الوجوب من غيره وتضم أنواع الجنس من ثمرة العام الواحد وزرعه بعضها إلى بعض ولو مما يحمل في السنة حملين في تكميل النصاب لعموم الخبر وكما لو بدأ صلاح إحداها قبل الأخرى سواء اتفق وقت إطلاعها وإدراكها أو اختلف تعدد البلاد أو لا لا جنس إلى آخر فلا يضم بر لشعير ولا تمر لزبيب في تكميل نصاب كالمواشي.
ويعتبر أيضا لوجوب الزكاة فيما تقدم أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة وهو بدو الصلاح فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده وكذا ما ملكه بعد بدو الصلاح بشراء أو إرث أو غيره ولا فيما يجتنيه من المباح كالبطم والزعبل بوزن جعفر وهو شعير الجبل وبزر قطون وحب نمام ولو نبت في أرضه لأنه لا يمسكه بملك الأرض فإن نبت بنفسه ما يزرعه الآدمي كمن سقط له حب حنطة في أرضه أو أرض مباحة ففيه الزكاة لأنه يملكه وقت الوجوب.
فصل
يجب عشر وهو واحد من عشرة فيما سقي بلا مؤنة 1 كالغيث والسيوح والبعلي الشارب بعروقه و يجب نصفه أي: نصف العشر معها أي: مع المؤنة كالدولاب تديره البقر والنواضح يستقى عليها لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "وما سقي بالنضح نصف العشر 2 " رواه البخاري و يجب ثلاثة أرباعه أي أرباع العشر بهما أي: فيما يشرب بلا مؤنة وبمؤنة نصفين قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه فإن تفاوتا 3 أي السقي بمؤنة وبغيرها فـ الاعتبار بأكثرهما نفعا ونموا لأن اعتبار عدد السقي وما يسقى به في
ـــــــ
1- المؤنة: المشقة والمقصود الزروع البعلية.
2- أي الزروع المروية وهذا لأنه تكبد فيها نفقة ومشقة.
3- اختلفت كميتها فكان أحدهما أكثر من الآخر.
كل وقت مشقة فاعتبر الأكثر كالسوم ومع الجهل بأكثرهما نفعا العشر ليخرج من عهدة الواجب بيقين وإذا كان له حائطان أحدهما يسقى بمؤنة والآخر بغيرها ضما في النصاب ولكل منهما حكم نفسه في سقيه بمؤنة أو غيرها ويصدق مالك فيما سقي به.
وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة لأنه يقصد للأكل والإقتيات كاليابس فلو باع الحب أو الثمرة أو تلفا بتعديه بعد لم تسقط وإن قطعهما أو باعهما قبله فلا زكاة إن لم يقصد الفرار منها ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر 1 ونحوه وهو موضع تشميسها وتيبيسها لأنه قبل ذلك في حكم ما لم تثبت اليد عليه فإن تلفت الحبوب أو الثمار قبله أي قبل جعلها في البيدر بغير تعد منه ولا تفريط سقطت لأنها لم تستقر فإن تلف البعض فإن كان قبل الوجوب زكى الباقي إن بلغ نصابا وإلا فلا وإن كان بعده زكى الباقي مطلقا حيث بلغ مع التالف نصابا ويلزم إخراج حب مصفى وثمر يابسا ويحرم شراء زكاته أو صدقته ولا يصح ويزكي كل نوع على حدته.
ويجب العشر أو نصفه على مستأجر الأرض دون مالكها كالمستعير2 لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3 ويجتمع العشر والخراج في أرض خراجية ولا زكاة في قدر الخراج إن لم يكن له مال آخر وإذا أخذ من ملكه أو موات كرؤوس الجبال من العسل مائة وستين رطلا عراقيا ففيه عشره قال الإمام: أذهب إلى أن في العسل زكاة العشر قد أخذ عمر منهم الزكاة ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر كالمن والزنجبيل4 ومن زكى ما ذكر من المعشرات مرة فلا زكاة فيه بعد لأنه غير مرصد لنماء
والمعدن إن كان ذهبا أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصابا وإن كان غيرهما ففيه ربع عشر قيمته إن بلغت نصابا بعد سبك وتصفية إن كان المخرج له من أهل وجوب الزكاة.
والركاز ما وجد من دفن الجاهلية بكسر الدال أي مدفونهم أو من تقدم من كفار عليه أو على بعضه علامة كفر فقط ففيه الخمس في قليله وكثيره ولو عرضا لقوله صلى الله عليه وسلم: "في الركاز الخمس" متفق عليه عن أبي هريرة ويصرف مصرف الفىء المطلق للمصالح
ـــــــ
1- البيدر: هو الأرض التي يجمع فيها السنابل كي تجف ثم تدرس لإخراج الحب من السنبل.
2- لأنه هو المستفيد من ثمر الأرض ولأن الزكاة هي هنا في الزروع الناتجة وليست في قيمة الأرض فإن كان لمالك الأرض جزءا من النتاج أجرا لأرضه أدى زكاة حصته وإن كانت مؤجرة يبلغ النصاب أدى زكاة هذا لمال.
3- سورة الأنعام من الآية "141".
4- الزنجبيل من نباتات الهند على الأرجح وغيرها من البلاد الحارة التي تنتج التوابل.
كلها وباقيه لواجده ولو أجيرا لغير طلبه وإن كان على شيء منه علامة للمسلمين فلقطة وكذا إن لم تكن علامة.
3-
باب زكاة النقدين
أي الذهب والفضة يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم إسلامي ربع العشر منهما لحديث ابن عمر وعائشة مرفوعا أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالا نصف مثقال رواه ابن ماجة وعن علي نحوه وحديث أنس مرفوعا: "في الرقة ربع العشر" متفق عليه. والاعتبار بالدرهم الإسلامي الذي وزنه ستة دوانق والعشرة من الدراهم سبعة مثاقيل فالدرهم نصف مثقال وخمسه وهو خمسون حبة وخمسا حبة شعير والعشرون مثقالا خمسة وعشرون دينارا وسبعا دينار وتسعه1 على التحديد بالذي زنته درهم وثمن درهم2.ويزكى مغشوش إذا بلغ خالصه نصابا وزنا ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب بالأجزاء فلو ملك عشرة مثاقيل ومائة درهم فكل منهما نصف نصاب ومجموعهما نصاب ويجزئ إخراج زكاة أحدهما من الآخر لأن مقاصدهما وزكاتهما متفقة فهما كنوعي جنس ولا فرق بين الحاضر والدين وتضم قيمة العروض أي عروض التجارة إلى كل منهما كمن له عشرة مثاقيل ومتاع قيمته عشرة أخرى أو له مائة درهم ومتاع قيمته مثلي ولو كان ذهب وفضة وعروض ضم الجميع في تكميل النصاب ويضم جيد كل جنس و مضروبه إلى رديئه وتبره ويخرج من كل نوع بحصته والأفضل من الأعلى ويجزىء إخراج ردئ عن أعلى مع الفضل.
ويباح للذكر من الفضة الخاتم لأنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق متفق عليه. والأفضل جعل فصه مما يلي كفه وله جعل فصه منه ومن غيره والأولى جعله في يساره ويكره بسبابة ووسطى ويكره أن يكتب عليه ذكر الله قرآنا أو غيره ولو اتخذ لنفسه عدة خواتيم لم
ـــــــ
1- وسبعا دينار وتسعة تساوي: 2/7+1/9=18+7/63=25/63 من الدينار.
2- وفي الأوراق النقدية المتداولة تؤدي زكاتها باعتبارها مالا يمكن به شراء الذهب والفضة وأي نوع آخر من الأموال المنقولة والنصاب فيها ما يساوي قيمة النصاب في الذهب والفضة وتقدير النصاب بالعملات المحلية أمر يحدده علماء كل بلد حسب الأسعار السائدة ندهم وقيمة العملة المتداولة.
تسقط الزكاة فيما خرج عن العادة إلا أن يتخذ ذلك ولده أو عبده و يباح له قبيعة السيف وهي ما يجعل على طرف القبضة قال أنس: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة رواه الأثرم.
و يباح له حلية المنطقة وهي ما يشد به الوسط وتسميها إلى العامة: الحياصة واتخذ الصحابة المناطق محلاة بالفضة ونحوه أي نحو ما ذكر كحلية الجوشن والخوذة والخف والرأن وحمائل سيف لأن ذلك يساوي المنطقة معنى فوجب أن يساويها حكما. قال الشيخ تقي الدين: وتركاش النشاب والكلاليب لأنه يسير تابع
ولا يباح غير ذلك كتحلية المراكب ولباس الخيل كاللجم وتحلية الدواة والمقلمة والكمران والمشط والمكحلة والميل والمرآة والقنديل1.
و يباح للذكر من الذهب قبيعة السيف لأن عمر كان له سيف فيه سبائك من ذهب وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب ذكرهما أحمد وقيدها باليسير مع أنه ذكر أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كان وزنها ثمانية مثاقيل فيحتمل أنها كانت ذهبا وفضة وقد رواه الترمذي كذلك وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه كرباط أسنان لأن عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن عليه فأمره النبي صلى اله عليه وسلم فاتخذ أنفا من ذهب رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم وروى الأثرم عن موسى بن طلحة وأبي حمزة الضبعي وأبي رافع ثابت البناني وإسماعيل بن زيد بن ثابت والمغيرة بن عبدالله أنهم شدوا أسنانهم بالذهب.
ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر كالطوق والخلخال والسوار والقرط وما في المخانق والمقالد والتاج وما أشبه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها" . ويباح لهما تحل بجوهر ونحوه. وكره تختمهما بحديد وصفر ونحاس ورصاص ولا زكاة في حليهما أي حلي الذكر والأنثى المباح المعد للاستعمال أو العارية لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الحلي زكاة" رواه الطبراني عن جابر وهو قول أنس وجابر وابن عمر وعائشة وأسماء أختها حتى ولو اتخذ الرجل حلي النساء لإعارتهن أو بالعكس إن لم يكن فرارا. وإن أعد الحلي للكراء أو النفقة أو كان محرما كسرج ولجام وآنية ففيه الزكاة إن بلغ نصابا وزنا لأنها إنما سقطت مما أعد للاستعمال بصرفه عن جهة النماء فيبقى ما عداه على مقتض الأصل فإن كان معدا للتجارة وجبت الزكاة في قيمته
ـــــــ
1- لأنها هنا زينة ضرورة لها أما في الأولى فوجودها مفيد.
كالعروض ومباح الصناعة إذا لم يكن للتجارة يعتبر في النصاب بوزنه وفي الإخراج بقيمته ويحرم أن يحلى مسجد أو يموه سقف أو حائط بنقد وتجب إزالته وزكاته بشرطه إلا إذا استهلك فلم يجتمع منه شيء.
باب زكاة العروض
العروض: جمع عرض -بإسكان الراء- وهو ما أعد لبيع وشراء لأجل ربح سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى أو لأنه يعرض ثم يزول.إذا ملكها أي العروض بفعله كالبيع والنكاح والخلع وقبول الهبة والوصية واسترداد المبيع بنية التجارة عند التملك واستصحاب حكمها فيما تعوض عن عرضها وبلغت قيمتها نصابا من أحد النقدين زكى قيمتها لأنها محل الوجوب لاعتبار النصاب بها ولا تجزئ الزكاة من العروض فإن ملكها بـ غير فعله كـ إرث أو ملكها ب فعله بغير نية التجارة ثم نواها أي التجارة بها لم تصر لها أي للتجارة لأنها خلاف الأصل في العروض فلا تصير لها بمجرد النية إلا حلي لبس إذا نواه لقنية ثم نواه للتجارة فيزكيه.
وتقوم العروض عند تمام الحول بالأحظ للفقراء 1 من عين أي ذهب أو ورق أي فضة فإن بلغت قيمتها نصابا بأحد النقدين دون الآخر اعتبر ما تبلغ به نصابا ولا يعتبر ما اشتريت به لا قدرا ولا جنسا روي عن عمر وكما لو كان عرضا وتقوم المغنية ساذجة والخصي بصفته ولا عبرة بقيمة آنية ذهب وفضة.
وإن اشترى عرضا بنصاب من أثمان أو عروض بني على حوله لأن وضع التجارة على التغليب والاستبدال بالعروض والأثمان فلو انقطع الحول لبطلت زكاة التجارة وإن اشتراه أو باعه بـ نصاب سائمة لم يبن على حوله لاختلافهما في النصاب والواجب إلا أن يشتري نصاب سائمة للتجارة بمثله للقنية لأن السوم سبب للزكاة قدم عليه زكاة التجارة لقوتها فبزوال المعارض يثبت حكم السوم لظهوره ومن ملك نصابا من السائمة لتجارة فعليه زكاة تجارة وإن لم تبلغ قيمتها نصاب تجارة فعليه زكاة السوم وإذا اشترى ما يصبغ به ويبقى كزعفران ونيل ونحوه فهو عرض تجارة يقوم عند حوله وكذا ما يشتريه دباغ ليدبغ به كعفص وما يدهن به كسمن وملح ولا شيء في آلات الصباغ وأمتعة التجار وقوارير
ـــــــ
1- أي بما فيه الحظ لهم أي ما فيه خيرهم ومصلحتهم.
العطار إلا أن يريد بيعها معها ولا زكاة في غير ما تقدم ولا في قيمة ما أعد للكراء من عقار و حيوان وظاهر كلام الأكثر ولو أكثر من شراء العقار فارا.
باب زكاة الفطر
مدخل
5- باب زكاة الفطرهو اسم من أفطر الصائم إفطارا وهذه يراد بها الصدقة عن البدن وإضافتها إلى الفطر من إضافة الشيء إلى سببه.تجب على كل مسلم من أهل البوادي وغيرهم وتجب في مال يتيم لقول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من بر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة متفق عليه ولفظه للبخاري فضل له أي عنده يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله لأن ذلك أهم فيجب تقديمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" . ولا يعتبر لوجوبها ملك نصاب وان فضل بعض صاع أخرجه لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" . و يعتبر كون ذلك كله بعد حوائجه الأصلية لنفسه أو لمن تلزمه مؤونة من مسكن وعبد ودابة وثياب بذلة ونحو ذلك لا يمنعها الدين لأنها ليست واجبة في المال إلا بطلبه أي طلب الدين فيقدمه إذا لأن الزكاة واجبة مواساة وقضاء الدين أهم.
الذين يخرج عنهم الزكاةفيخرج زكاة الفطر عن نفسه لما تقدم و عن مسلم يمونه من الزوجات والأقارب وخادم زوجته إن لزمته مؤونته وزوجة عبده وقريبه الذي يلزمه إعفافه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا الفطر عمن تمونون" ولا تلزمه فطرة من يمونه من الكفار لأنها طهرة للمخرج عنه والكافر لا يقبلها لأنه لا يطهره إلا الإسلام ولو عبدا ولا تلزمه فطرة أجير وظئر استأجرهما بطعامهما ولا من وجبت نفقته في بيت المال ولو في رث بمؤونة شخص جميع شهر رمضان أدى فطرته لعموم الحديث السابق بخلاف ما لو تبرع به بعض الشهر وإن عجز عن البعض وقدر على البعض بدأ بنفسه لأن نفقة نفسه مقدمة فكذا فطرتها فامرأته لوجوب نفقتها مطلقا و لآكديتها ولأنها معاوضة فرقيقه لوجوب نفقته مع الإعسار ولو مرهونا أو مغصوبا أو غائبا أو لتجارة فأمه لتقديمها في البر فأبيه لحديث من أبر يا رسول الله؟ فولده لوجوب نفقته في الجملة فأقرب في ميراث لأنه أولى من غيره فإن استوى اثنان فأكثر ولم يفضل إلا صاع أقرع والعبد بين شركاء عليهم صاع بحسب
ملكهم فيه كنفقته وكذا حر وجبت نفقته على اثنين فأكثر يوزع الصاع بينهم بحسب النفقة لأن الفطرة تابعة للنفقة.
ويستحب أن يخرج عن الجنين لفعل عثمان رضي الله عنه ولا تجب عليه لأنها لو تعلقت به قبل ظهوره لتعلقت الزكاة بأجنة السوائم ولا تجب لـ زوجة ناشزة 1 لأنه لا تجب عليه نفقتها وكذا من لم تجب نفقتها لصغر ونحوه لأنها كالأجنبية ولو حاملا ولا لأمة تسلمها ليلا فقط وتجب على سيدها. ومن لزمت غيره فطرته كالزوجة والنسيب المعسر فأخرج عن نفسه بغير إذنه أي إذن من تلزمه أجزأت لأنه المخاطب بها ابتداء والغير متحمل ومن أخرج عمن لا تلزمه فطرته بإذنه أجزأ وإلا فلا.
ووقت إخراجهاوتجب الفطرة بغروب الشمس ليلة عيد الفطر لإضافتها إلى الفطر والإضافة تقتضي الاختصاص والسببية. وأول زمن يقع فيه الفطر من جميع رمضان مغيب الشمس من ليلة الفطر فمن أسلم بعده أي بعد الغروب أو ملك عبدا بعد الغروب أو تزوج زوجة ودخل بها بعد الغروب أو ولد له بعد الغروب لم تلزمه فطرته في جميع ذلك لعدم وجود سبب الوجوب و إن وجدت هذه الأشياء قبله أي قبل الغروب تلزم الفطرة لمن ذكر لوجود السبب.
ويجوز إخراجها معجلة قبل العيد بيومين فقط لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان وقال في آخره: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين وعلم من قوله: فقط أنها لا تجزئ قبله لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" . ومتى قدمها بالزمن الكثير فات الإغناء المذكور و إخراجها يوم العيد قبل مضيه إلى الصلاة أفضل لحديث ابن عمر السابق أول الباب وتكره في باقيه أي باقي يوم العيد بعد الصلاة ويقضيها بعد يومه ويكون آثما بتأخيرها عنه لمخالفته أمره صلى الله عليه وسلم بقوله: "أغنوهم في هذا اليوم" لما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر ولمن وجبت عليه فطرة غيره إخراجها مع فطرته مكان نفسه.
ـــــــ
1- لأنها خارجة عن طاعة زوجها تاركة لداره قد قطعت بنشوزها حقه في الاستمتاع بها والزكاة الواجبة عليها إما أن تؤديها عن نفسها أو يؤديه وليها من أهلها لأن نفقتها لاتجب على زوجها.
فصل في مقدار زكاة الفطر
ويجب في الفطرة صاع : أربعة أمداد وتقدم في الغسل من بر أو شعير أو دقيقهما أو سويقهما أي سويق البر أو الشعير وهو ما يحمص ثم يطحن ويكون الدقيق والسويق بوزن حبة أو صاع من تمر أو زبيب أو أقط يعمل من اللبن المخيض لقول أبي سعيد الخدري: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط متفق عليه والأفضل تمر فزبيب فبر فأنفع فشعير فدقيقهما فسويقهما فأقط فإن عدم الخمسة المذكورة أجزأ كل حب يقتات وثمر يقتات كالذرة والدخن والأرز والعدس والتين اليابس.ولا يجزئ معيب كمسوس ومبول وقديم تغير طعمه وكذا مختلط بكثير مما لا يجزئ فإن قل زاد بغدر ما يكون المصفى صاعا لقلة مشقة تنقيته وكان ابن سيرين يحب أن ينقي الطعام وقال أحمد: وهو أحب إلي ولا يجزئ خبز لخروجه عن الكيل والادخار.
ويجوز أن يعطي الجماعة من أهل الزكاة ما يلزم الواحد وعكسه بأن يعطي لواحد ما على جماعة والأفضل أن لا ينقص معطى عن مد بر أو نصف صاع من غيره وإذا دفعها إلى مستحقها فأخرجها آخذ إلى دافعها أو جمعت الصدقة عند الإمام ففرقها على أهل السهمان فعادت إلى إنسان صدقته جاز ما لم يكن حيلة.
باب إخراج الزكاة
يجوز لمن وجبت عليه الزكاة الصدقة تطوعا قبل إخراجها.ويجب إخراج الزكاة على الفور مع إمكانه كنذر مطلق وكفارة لأن الأمر المطلق يقتضي الفورية وكما لو طالب بها الساعي ولأن حاجة الفقير ناجزة والتأخير يخل بالمقصود وربما أدى إلى الفوات إلا لضرر كخوف رجوع ساع أو على نفسه أو ماله ونحوه وله تأخيرها لأشد حاجة وقريب وجار ولتعذر إخراجها من المال لغيبة ونحوها فإن منعها أي الزكاة جحدا لوجوبها كفر عارف بالحكم وكذا جاهل عرف فعلم وأصر وكذا جاحد وجوبها ولو لم يمتنع من أدائها وأخذت الزكاة منه وقتل لردته بتكذيبه لله ورسوله بعد أن يستتاب ثلاثا وبخلا أي ومن منعها بخلا من غير جحد أخذت منه فقط قهرا كدين الآدمي
ولم يكفر وعزر إن علم تحريم ذلك وقوتل إن احتيج إليه ووضعها الإمام مواضعها ولا يكفر بقتاله للإمام ومن ادعى أداءها أو بقاء الحول أو نقص النصاب أو أن ما بيده لغيره ونحوه صدق بلا يمين.
وتجب الزكاة في مال صبي ومجنون لما تقدم فيخرجها وليهما في مالهما كصرف نفقة واجبة عليهما لأن ذلك حق تدخله النيابة ولذلك صح التوكيل فيه.
ولا يجوز إخراجها أي الزكاة إلا بنية من مكلف لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" والأولى قرن النية بدفع وله تقديمها بزمن يسير كصلاة فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة ونحو ذلك وإذا أخذت منه قهرا أجزأت ظاهرا وان تعذر وصول إلى المالك لحبس أو نحوه فأخذها الإمام أو نائبه أجزأت ظاهرا وباطنا والأفضل أن يفرقها بفسه ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها وله دفعها إلى الساعي ويسن إظهارها و أن يقول عند دفعها: هو أي: مؤديها وآخذها ما ورد فيقول دافعها: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما ويقول آخذها: أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا وإن وكل مسلما ثقة جاز وأجزأت نية موكل مع قرب وإلا نوى موكل عند دفع لوكيل ووكيل عند دفع لفقير ومن علم أهلية آخذ كره إعلامه بها ومع عدم عادته لا يجزئه الدفع له إلا إن أعلمه.
والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده ويجوز نقلها إلى دون مسافة قصر من بلد المال لأنه في حكم بلد واحد ولا يجوز نقلها مطلقا إلى ما تقصر فيه الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه لليمن: "أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" بخلاف نذر وكفارة ووصية مطلقة فإن فعل أي نقلها مسافة قصر أجزأت لأنه دفع الحق إلى مستحقه فبرىء من عهدته ويأثم إلا أن يكون المال في بلد أو مكان لا فقراء فيه فيفرقها في أقرب البلاد إليه لأنهم أولى وعليه مؤونة نقل ودفع وكيل ووزن فإن كان المالك في بلد وماله في بلد آخر أخرج زكاة المال في بلده أي بلد به المال كل الحول أو أكثره دون ما نقص عن ذلك لأن الأطماع إنما تتعلق به غالبا بمضي زمن الوجوب أو ما قاربه و أخرج فطرته في بلد هو فيه وإن لم يكن له به مال لأن الفطرة إنما تتعلق بالبدن كما تقدم ويجب على الإمام بعث السعاة قرب زمن الوجوب لقبض زكاة المال الظاهر كالسائمة والزرع والثمار لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء رضي الله عنهم بعده.
ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل لما روى أبو عبيد في الأموال بإسناده عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين ويعضده رواية مسلم: فهي علي ومثلها
وإنما يجوز تعجيلها إذا كمل النصاب لا عما يستفيده وإذا تم الحول والنصاب ناقص قدر ما عجله صح وأجزأه لأن المعجل كالموجود في ملكه فلو عجل عن مائتي شاة شاتين فنتجت عند الحول سخلة لزمته ثالثة وإن مات قابض معجلة أو استغنى قبل الحول أجزأت لا إن دفعها إلى من يعلم غناه فافتقر اعتبارا بحال الدفع ولا يستحب تعجيل الزكاة ولمن أخذ الساعي منه زيادة أن يعتد بها من قابلة قال الموفق: إن نوى التعجيل.
باب أهل الزكاة
مدخل
7- باب أهل الزكاةوهم ثمانية أصناف لا يجوز صرفها في غيرهم من بناء المساجد والقناطر وسد البثوق وتكفين الموتى ووقف المصاحف وغيرها من جهات الخير لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} 1 الآية.أحدهم الفقراء وهم أشد حاجة من المساكين لأن الله بدأ بهم وإنما يبدأ بالأهم فالأهم فهم من لا يجدون شيئا من الكفاية أو يجدون بعض الكفاية أي دون نصفها وإن تفرغ قادر على التكسب للعلم لا للعبادة وتعذر الجمع2 أعطي.
و الثاني: المساكين الذين يجدون أكثرها أي أكثر الكفاية أو نصفها فيعطى الصنفان تمام كفايتهما مع عائلتهما سنة ومن ملك ولو من أثمان ما لا يقوم بكفايته فليس بغني.
و الثالث: العاملون عليها وهم السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة من أربابها كـ جباتها وحفاظها وكتابها و قسامها وشرط كونه مكلفا مسلما أمينا كافيا من غير ذوي القربى ويعطى قدر أجرته منها ولو غنيا ويجوز كون حاملها وراعيها ممن منع منها.
الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم جمع مؤلف وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو كف شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو إسلام نظيره أو جبايتها ممن لا يعطيها أو دفع عن المسلمين ويعطى ما يحصل به التأليف عند الحاجة فقط فترك عمر عثمان وعلي إعطاءهم لعدم الحاجة إليه في خلافتهم لا لسقوط سهمهم فإن تعذر الصرف إليهم رد على بقية الأصناف.
ـــــــ
1- سورة التوبة من الآية "60".
2- أي تعذر عليه الجمع بين السعي إلى الرزق وطلب العلم أما التفرغ للعبادة فهو غير مندوب إليه بل قد نهى عنه عمر رضي الله عنه وضرب بالدرة الذين جعلوا المسجد مكان إقامتهم وتركوا السعي للرزق.
الخامس: الرقاب وهم المكاتبون فيعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه ولو مع قدرته على التكسب ولو قبل حلول نجم ويجوز أن يشتري منها رقبة لا تعتق عليه فيعتقها لقول ابن عباس و يجوز أن يفك منها الأسير المسلم لأن فيه فك رقبة من الأسر لا أن يعتق قنه أو مكاتبه عنها.
السادس: الغارم وهو نوعان أحدهما: غارم لإصلاح ذات البين أي الوصل بأن يقع بين جماعة عظيمة كقبيلتين أو أهل قريتين تشاجر في دماء وأموال ويحدث بسببها الشحناء والعداوة فيتوسط الرجل بالصلح بينهما ويلتزم في ذمته مالا عوضا عما بينهم ليطفىء النائرة فهذا قد أتى معروفا عظيما فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة لئلا يجحف ذلك بسادات القوم المصلحين أو يوهن عزائمهم فجاء الشرع بإباحة المسألة فيها وجعل لهم نصيبا من الصدقة ولو مع غنى إن لم يدفع من ماله النوع الثاني: ما أشير إليه بقوله: أو تدين لنفسه في شراء من كفار أو مباح أو محرم وتاب مع الفقر ويعطى وفاء دينه ولو لله ولا يجوز له صرفه في غيره ولو فقيرا وإن دفع إلى الغارم لفقره جاز أن يقضي منه دينه.
السابع: في سبيل الله وهم الغزاة المتطوعة أي الذين لا ديوان لهم أو لهم دون ما يكفيهم فيعطى ما يكفيه لغزوه ولو غنيا ويجوز أن يعطى منها لحج فرض فقير وعمرته لا أن يشتري منها فرشا يحبسها أو عقارا يقفه على الغزاة وإن لم يغز رد ما أخذه نقل عبد الله: إذا خرج في سبيل الله أكل من الصدقة.
الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به أي بسفره المباح أو المحرم إذا تاب دون المنشيء للسفر من بلده إلى غيرها لأنه ليس في سبيل لأن السبيل هي الطريق فسمي من لزمها ابن السبيل كما يقال: ولد الليل لمن يكثر خروجه فيه وابن الماء لطيره لملازمته له فيعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده ولو وجد مقرضا وإن قصد بلدا واحتاج قبل وصوله إليها أعطي ما يصل به إلى البلد الذي قصده وما يرجع به إلى بلده وإن فضل مع ابن سبيل أو غاز أو غارم أو مكاتب شيء رده وغيرهم يتصرف بما شاء لملكه له مستقرا ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم لأن كل واحد من عائلته مقصود دفع حاجته ويقلد من ادعى عيالا أو فقرا ولم يعرف بغنى.
ويجوز صرفها أي الزكاة إلى صنف واحد لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1 ولحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: "أعلمهم أن
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "271".
الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" متفق عليه فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنف واحد ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد ولو غريمه أو مكاتبه إن لم يكن حيلة لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وقال لقبيصة: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ويسن دفعها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم كخاله وخالته على قدر حاجتهم الأقرب فالأقرب لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة" .
فصل في الذين لا يجوز لهم الزكاة
ولا يجزئ أن ندفع إلى هاشمي أي من ينسب إلى هاشم بأن يكون من سلالته فدخل آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب وآل أبي لهب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" أخرجه مسلم لكن تجزئ إليه إن كان غازيا أو غارما لإصلاح ذات بين أو مؤلفا و لا إلى مطلبي لمشاركتهم لبني هاشم في الخمس اختاره القاضي وأصحابه وصححه ابن المنجا وجزم به في الوجيز وغيره والأصح تجزىء إليهم اختاره الخرقي والشيخان وجزم به في المنتهى و الإقناع لأن آية الأصناف وغيرها من العمومات تتناولهم ومشاركتهم لبني هاشم في الخمس ليس لمجرد قرابتهم بدليل أن بني نوفل وبني عبد شمس مثلهم ولم يعطوا شيئا من الخمس وإنما شاركوهم بالنصرة مع القرابة كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام" والنصرة لا تقتضي حرمان الزكاة و لا إلى مواليهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن موالي القوم منهم" رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه ولكن على الأصح تجزئ إلى موالي بني المطلب كإليهم ولكل أخذ صدقة تطوع ووصية أو نذر لفقر لا كفارة و لا إلى فقيرة تحت غني منفق ولا إلى فقير ينفق عليه من وجبت عليه نفقته من أقاربه لاستغنائه بذلك, ولا إلى فرعه أي ولده وإن سفل من ولد الابن أو ولد البنت و لا إلى أصله كأبيه وأمه وجده وجدته من قبلهما وإن علوا إلا أن يكونوا عمالا أو مؤلفين أو غزاة أو غارمين لذات بين ولا تجزئ أيضا إلى سائر من تلزمه نفقته ما لم يكن عاملا أو غازيا أو مؤلفا أو مكاتبا أو ابن سييل أو غارما لإصلاح ذات بين وتجزئ إلى من تبرع بنفقته بضمه إلى عياله أو تعذرت نفقته من زوج أو قريب بنحو غيبة أو امتناع ولا تجزئ إلى عبد كامل رق غير عامل أو مكاتب و لا إلى زوج فلا يجزئها دفع زكاتها إليه ولا بالعكس وتجزئ إلى ذوي أرحامه من غير عمودي النسب.وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل لأخذها فبان أهلا لم تجزئه لعدم جزمه بنية الزكاة حال دفعها لمن ظنه غير أهل لها أو بالعكس بأن دفعها لغير أهلها ظانا أنه أهلها لم تجزئه لأنه لا يخفى حاله غالبا وكدين الآدمي إلا إذا دفعها لغني ظنه فقيرا فتجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الجلدين وقال: "إن شيءتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب" .
صدقة التطوعو
صدقة التطوع
مستحبة حث الله عليها في كتابه العزيز في آيات كثيرة وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفىء غضب الرب وتدفع ميتة السوء" . رواه الترمذي وحسنه و هي في رمضان وكل زمان ومكان فاضل كالعشر والحرمين أفضل لقول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل الحديث متفق عليه و في أوقات الحاجة أفضل وكذا على ذي رحم لا سيما مع عداوة وجار لقوله تعالى: {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ, أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} 1 ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي رحم اثنتان: صدقة وصلة" .وتسن الصدقة بالفاضل عن كفايته و كفاية من يمونه لقوله صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى" متفق عليه ويأثم من تصدق بما ينقصها أي ينقص مؤونة تلزمه وكذا لو أضر بنفسه أو غريمه أو كفيله لقوله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" 2. ومن أراد الصدقة بماله كله وله عائلة لهم كفاية أو يكفيهم: بمكسبه فله ذلك لقصة الصديق وكذا لو كان وحده ويعلم من نفسه حسن التوكل والصبر على المسألة وإلا حرم.
ـــــــ
1- سورة البلد الآيتان "15-16".
2- أي من هو مسؤول عن تأمين القوت له.
كتاب الصيام
مدخل
كتاب الصيامالصيام لغة: مجرد الإمساك يقال للساكت: صائم لإمساكه عن الكلام ومنه: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} . وفي الشرع: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة قال ابن حجر في شرح الأربعين: في شعبان: أ هـ فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعا.رؤية هلال رمضانيجب صوم رمضان برؤية هلاله لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 ولقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" والمستحب قول شهر رمضان كما قال الله تعالى ولا يكره قول رمضان فإن لم ير الهلال مع صحو ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين وكره الصوم لأنه يوم الشك المنهي عنه وإن حال دونه أي دون هلال رمضان بأن كان في طلعه ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر بالتحريك أي غيرة وكذا دخان فظاهر المذهب يجب صومه أي صوم يوم تلك الليلة حكما ظنيا احتياطا بنية رمضان قال في الإنصاف: وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه وصنفوا فيه التصانيف وردوا حجج المخالف وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه أ هـ وهذا قول عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له" . قال نافع: كان عبدالله بن عمر إذا مضى من الشهر تسعة وعشرون يوما يبعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما, ومعنىـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "185".
"اقدروا له" أي ضيقوا بأن يجعل شعبان تسعا وعشرين وقد فسره ابن عمر بفعله وهو راويه وأعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره ويجزئ صوم ذلك اليوم إن ظهر منه وتصلى التراويح تلك الليلة ويجب إمساكه على من لم يبيت نيته لا عتق أو طلاق معلق برمضان وإن رؤى الهلال نهارا ولو قبل الزوال فهو لليلة المقبلة كما لو رؤي آخر النهار وروى البخاري في تاريخه مرفوعا: "من أشراط الساعة أن يروا الهلال يقولون: ابن ليلتين" .
و إذا رآه أهل بلد أي متى ثبتت رؤيته ببلد لزم الناس كلهم الصوم لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" وهو خطاب للأمة كافة فإن رآه جماعة ببلد ثم سافروا لبلد بعيد فلم ير الهلال به في آخر الشهر أفطروا.
ويصام وجوبا برؤية عدل مكلف ويكفي خبره بذلك لقول ابن عمر: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود ولو كان أنثى أو عبدا أو بدون لفظ الشهادة ولا يختص بحاكم فيلزم الصوم من سمع عدلا يخبر برؤيته تثبت بقية الأحكام ولا يقبل في شوال وسائر الشهور إلا ذكران بلفظ الشهادة ولو صاموا ثمانية وعشرين يوما ثم رأوه قضوا يوما فقط فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم ير الهلال لم يفطروا لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا" أو صاموا لأجل غيم ثلاثين يوما ولم يروا الهلال لم يفطروا لأن الصوم إنما كان احتياطا والأصل بقاء رمضان وعلم منه أنهم لو صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما ولم يروه أفطروا صحوا كان أو غيما لما تقدم ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله لزمه الصوم وجميع أحكام الشهر من طلاق وغيره معلق به لعلمه أنه من رمضان أو رأى وحده هلال شوال صام ولم يفطر قوله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس" رواه الترمذي وصححه وإن اشتبهت الأشهر على نحو مأسور تحرى و أجزأه إن لم يعلم أنه تقدمه ويقضي ما وافق عيدا أو أيام تشريق.
ويلزم الصوم في شهر رمضان لكل مسلم لا كافر ولو أسلم في أثنائه قضى الباقي فقط مكلف لا صغير ومجنون قادر لا مريض يعجز عنه للآية وعلى ولي صغير مطيق أمره به وضربه عليه ليعتاده وإذا قامت البينة في أثناء النهار برؤية الهلال تلك الليلة وجب الإمساك والقضاء لذلك اليوم الذي أفطره على كل من صار في أثنائه أهلا لوجوبه أي وجوب الصوم وإن لم يكن حال الفطر من أهل وجوبه وكذا حائض ونفساء طهرتا في أثناء النهار فيمسكان ويقضيان و كذا مسافر قدم مفطرا يمسك ويقضي
وكذا لو برئ مريض مفطرا أو بلغ صغير في أثنائه مفطرا أمسك وقضى فإن كانوا صائمين أجزأهم وإن علم مسافر أنه يقدم غدا لزمه الصوم لا صغير علم أنه يبلغ غدا لعدم تكليفه.
الأعذار المبيحة للفطرومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكينا ما يجزئ في كفارة مد بر أو نصف صاع من غيره لقول ابن عباس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} 1: ليست بمنسوخة هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم رواه البخاري والمريض الذي لا يرجى برؤه في حكم الكبير لكن إن كان الكبير أو المريض الذي لا يرجى برؤه مسافرا فلا فدية لفطره بعذر معتاد ولا قضاء له لعجزه عنه.
وسن الفطر لمريض يضره الصوم و لمسافر يقصر ولو بلا مشقة لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2 ويكره لهما الصوم ويجوز وطء لمن به مرض ينتفع به فيه ولا كفارة فيه أو به شبق ولم تندفع شهوته بدون الوطء ويخاف تشقق انثييه ولا كفارة ويقضي ما لم يتعذر لشبق فيطعم كالكبير وإن سافر ليفطر حرم وإن نوى حاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر إذا فارق بيوت قريته ونحوها لظاهر الآية والأخبار الصريحة والأفضل عدمه وإن أفطرت حامل أو أفطرت مرضع خوفا على أنفسهما فقط أو مع الولد قضتا أي قضتا الصوم فقط من غير فدية لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه و إن أفطرتا خوفا على ولديهما فقط قضتا عدد الأيام وأطعمتا وأي وجب على من يمون الولد أن يطعم عنهما لكل يوم مسكينا ما يجزئ في كفارة لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى و المرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا رواه أبو داود وروي عن ابن عمر: وتجزئ هذه الكفارة إلى مسكين واحد جملة ومتى قبل رضيع ثدي غيرها وقدر أن يستأجر له لم تفطر وظئر3 كأم ويجب الفطر على من احتاجه لإنقاذ معصوم من هلكة كغرق وليس لمن أبيح له الفطر برمضان صوم غيره فيه.
ومن نوى الصوم ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار ولم يفق جزءا منه لم يصح
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "184".
2- سورة البقرة من الآية "185".
3- الظئر: المرضعة.
صومه لأن الصوم الشرعي الإمساك مع النية فلا يضاف للمجنون ولا للمغمى عليه فإن أفاقا جزءا من النهار صح الصوم سواء كان من أول النهار أو آخره لا إن نام جميع النهار فلا يمنع صحة صومه لأن النوم عادة ولا يزول به الإحساس بالكلية ويلزم المغمى عليه القضاء أي قضاء الصوم الواجب زمن الإغماء لأن مدته لا تطول غالبا فلم يزل به التكليف فقط بخلاف المجنون فلا قضاء عليه لزوال تكليفه.
النية في الصيامويجب تعيين النية بأن يعتقد أنه يصوم من رمضان أو قضائه أو نذر أو كفارة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" من الليل لما روى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة مرفوعا: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام" وقال: إسناده كلهم ثقات. ولا فرق بين أول الليل ووسطه وآخره ولو أتى بعدها بمناف للصوم من نحو أكل ووطء لصوم كل يوم واجب لأن كل يوم عبادة مفردة لا يفسد صومه بفساد صوم غيره لا نية الفرضية أي لا يشترط أن ينوي كون الصوم فرضا لأن التعيين يجزئ عنه ومن قال: أنا صائم غدا إن شاء الله مترددا فسدت نيته لا متبركا1 كما لا يفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله غير متردد في الحال ويكفي في النية الأكل والشرب2 بنية الصوم.
ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده لقول معاذ وابن مسعود وحذيفة وحديث عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء؟" فقلنا: لا قال: "فإني إذا صائم" . رواه الجماعة إلا البخاري. وأمر بصوم يوم عاشوراء3 في أثنائه ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقتها ولو نوى إن كان غدا من رمضان فهو فرض لم يجزئه لعدم جزمه بالنية وإن قال ذلك ليلة الثلاثين من رمضان وقال: وإلا فأنا مفطر فبان من رمضان أجزأه لأنه بنى على أصل لم يثبت زواله ومن نوى الإفطار أفطر أي صار كمن لم ينو لقطعه النية وليس كمن أكل أو شرب فيصح أن ينويه نفلا بغير رمضان ومن قطع نية نذر أو كفارة ثم نواه نفلا أو قلب نيتهما إلى نفل صح كما لو انتقل من فرض صلاة إلى نفلها.
ـــــــ
1- أي إن قالها على سبيل التبرك فالنية قائمة لكن إن قالها وهو يعني أنه قد يفعل وقد لا يفعل كان مترددا ولم تنعقد النية بقوله هذا.
2- أي تناول طعام السحور.
3- عاشوراء: هو يوم العاشر من محرم.
باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة
مدخل
1- باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارةوما يتعلق بذلك من أكل أو شرب أو استعط 1 بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو دماغه أو احتقن أو اكتحل بما يصل أي بما يعلم وصوله إلى حلقه لرطوبته أو حدته من كحل أو صبر أو قطور أو ذرور أو إثمد كثير أو يسير مطيب فسد صومه لأن العين منفذ وإن لم يكن معتادا أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان غير إحليله فلو قطر فيه أو غيب فيه شيئا فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه أو استقاء أي استدعى القيئ فقاء فسد أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استقاء عمدا فليقض" حسنه الترمذي أو استمنى فأمنى أو أمذى أو باشر دون الفرج أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فأنزل منيا فسد صومه لا إن أمذى أو حجم أو احتجم وظهر دم عامدا ذاكرا في الكل لصومه فسد صومه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أحمد والترمذي قال ابن خزيمة: ثبتت الأخيار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف.لا إن كان ناسيا أو مكرها ولو بوجور مغمى عليه معالجة فلا يفسد صومه وأجزأه لقوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . ولحديث أبي هريرة مرفوعا: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" . متفق عليه أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار من طريق أو دقيق أو دخان لم يفطر لعدم إمكان التحرز من ذلك أشبه النائم أو فكر فأنزل لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" وقياسه على تكرار النظر غير مسلم لأنه دونه أو احتلم لم يفسد صومه لأن ذلك ليس بسبب من جهته وكذا لو ذرعه القيئ أي غلبه
أو أصبح في فيه طعام فلفظه أي طرحه لم يفسد صومه وكذا لو شق عليه أن يلفظه فبلعه مع ريقه من غير قصد لما تقدم وإن تميز عن ريقه وبلعه باختياره أفطر ولا يفطر إن لطخ باطن قدمه بشئ فوجد طعمه بحلقه, أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر يعني استنشق أو زاد على الثلاث في المضمضمة أو الاستنشاق أو بالغ فيهما فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه لعدم القصد وتكره المبالغة في المضمضمة والاستنشاق للصائم وتقدم وكرها له عبثا أو إسرافا أو لحر أو عطش كغوصه في ماء لغير غسل مشروع أو تبرد ولا يفسد صومه بما دخل حلقه من غير قصد.
ـــــــ
1- استعط: استعمل السعوط وهو ذرور يشمها المرء طلبا للعطاس لإراحة الصدر والجيوب الأنفية مما تجمع من مادة مخاطية والسعوط المستعمل حاليا هو تبغ مطحون.
ومن أكل أو شرب أو جامع شاكا في طلوع فجر ولم يتبين له طلوعه صح صومه ولا قضاء عليه ولو تردد لأن الأصل بقاء الليل لا إن أكل ونحوه شاكا في غروب الشمس من ذلك اليوم الذي هو صائم فيه ولم يتبين بعد ذلك أنها غربت فعليه قضاء الصوم الواجب لأن الأصل بقاء النهار أو أكل ونحوه معتقدا أنه ليل فبان نهارا أي فبان طلوع الفجر أو عدم غروب الشمس قضى لأنه لم يتم صومه وكذا يقضي إن أكل ونحوه يعتقد نهارا فبان ليلا ولم يجدد نية لواجب لا من أكل ظانا غروب شمس ولم يتبين له الخطأ.
فصل في الجماع في رمضان
ومن جامع في نهار رمضان ولو في يوم لزمه إمساكه أو رأى الهلال ليلته وردت شهادته فغيب حشفة ذكره الأصلي في قبل أصلى أو دبر و لو ناسيا أو جاهلا أو مكرها فعليه القضاء والكفارة أنزل أو لا ولو أولج خنثى مشكل ذكره في قبل خنثى مشكل أو قبل امرأة أو أولج رجل ذكره في قبل خنثى مشكل لم يفسد صوم واحد منهما إلا أن ينزل كالغسل وكذا إذا أنزل مجبوب أو امرأتان بمساحقة.وإن جامع دون الفرج ولو عمدا فأنزل منيا أو مذيا أو كانت المرأة المجامعة معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه فالقضاء ولا كفارة وإن طاوعت عامدة عالمة فالكفارة أيضا أو جامع من نوى الصوم في سفره المباح فيه القصر أو في مرض يبيح الفطر أفطر ولا كفارة لأنه صوم لا يلزم المضي فيه أشبه التطوع ولأنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعده.
وإن جامع في يومين متفرقين أو متواليين أو كرره أي كرر الوطء في يوم ولم يكفر للوطء الأول فكفارة واحدة في الثانية وهي ما إذا كرر الوطء في يوم قبل أن يكفر قال في المغني و الشرح: بغير خلاف وفي الأولى وهي ما إذا جامع في يومين اثنتان لأن كل يوم عبادة مفردة.
وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية لأنه وطء محرم وقد تكرر فتتكرر هي كالحج.
وكذلك من لزمه الامساك كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا إذا جامع فعليه الكفارة لهتكه حرمة الزمن ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط الكفارة عنه لاستقرارها كما لو لم يطرأ العذر.
ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان لأنه لم يرد به نص وغيره لا يساويه والنزع جماع والإنزال بالمساحقة كالجماع على ما في المنتهى وهي أي كفارة الوطء في نهار رمضان عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب الضارة بالعمل فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع الصوم فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو زبيب أو شعير أو أقط فإن لم يجد شيئا يطعمه للمساكين سقطت الكفارة لأن الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر ليطعمه للمساكين فأخبره بحاجته قال: "أطعمه لأهلك" ولم يأمره بكفارة أخرى ولم يذكر له بقاءها في ذمته بخلاف كفارة حج وظهار ويمين ونحوها ويسقط الجميع بتكفير غيره عنه بإذنه.
2-
باب ما يكره ويستحب في الصوم
وحكم القضاء أي قضاء الصوم يكره لصائم جمع ريقه فيبتلعه للخروج من خلاف من قال بفطره.ويحرم على الصائم بلع النخامة سواء كانت من جوفه أو صدره أو دماغه ويفطر بها فقط أي لا بالريق إن وصلت إلى فمه لأنها من غير الفم وكذلك إذا تنجس فمه بدم أو قيء ونحوه فبلعه وإن قل لإمكان التحرز منه وإن أخرج من فمه حصاة أو درهما أو خيطا ثم أعاده فإن كثر ما عليه أفطر وإلا فلا ولو أخرج لسانه ثم أعاده لم يفطر بما عليه ولو كثر لأنه لم ينفصل عن محله ويفطر بريق أخرجه إلى ما بين شفتيه ثم بلعه ويكره ذوق طعام بلا حاجة قال المجد: المنصوص عنه أنه لا بأس به لحاجة ومصلحة وحكاه هو والبخاري عن ابن عباس.
و يكره مضغ علك قوي وهو الذي كلما مضغه صلب وقوي لأنه يحلب البلغم ويجمع الريق ويورث العطش وإن وجد طعمهما أي طعم الطعام والعلك في حلقه أفطر لأنه أوصله إلى جوفه.
ويحرم مضغ العلك المتحلل مطلقا إجماعا قاله في المبدع إن بلع ريقه وإلا فلا هذا معنى ما ذكره في المقنع و المغني و الشرح لأن المحرم إدخال ذلك إلى جوفه ولم يوجد وقال في الإنصاف: والصحيح من المذهب أنه يحرم مضغ ذلك ولو لم يبتلع ريقه وجزم به الأكثر أ هـ وجزم به في الإقناع و المنتهى ويكره أن يدع بقايا الطعام بين أسنانه وشم ما لا يؤمن أن يجذبه نفس كسحيق مسك.
وتكره القبلة ودواعي الوطء لمن تحرك شهوته لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها شابا ورخص لشيخ1 رواه أبو داود من حديث أبي هريرة ورواه سعيد عن أبي هريرة وأبي الدرداء وكذا عن ابن عباس بإسناد صحيح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم لما كان مالكا لأربه وغير ذي الشهوة في معناه وتحرم إن ظن إنزالا.
ويجب مطلقا اجتناب كذب وغيبة ونميمة وشتم ونحوه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" . رواه أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا ولا يعمل عملا يجرح به صومه وسن له كثرة قراءة وذكر وصدقة وكف لسانه عما يكره وسن لمن شتم قوله جهرا إني صائم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم" و يسن تأخير سحور إن لم يخش طلوع فجر ثان لقول زيد بن ثابت: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت: كم كان بينهما ؟ قال: قدر خمسين آية متفق عليه وكره جماع مع شك في طلوع فجر لا سحور.
و سن تعجيل فطر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه والمراد إذا تحقق غروب الشمس2 وله الفطر بغلبة الظن وتحصل فضيلته بشرب وكمالها بأكل ويكون على رطب لحديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن فعلى تمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب فإن عدم الرطب فتمر فإن عدم فـ على ماء لما تقدم وقول ما ورد عند فطره ومنه: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت3 سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم.
ويستحب القضاء أي قضاء رمضان فورا متتابعا لأن القضاء يحكي الأداء وسواء أفطر بسبب محرم أو لا وإن لم يقض على الفور وجب العزم عليه ولا يجوز تأخير قضائه إلى رمضان آخر من غير عذر لقول عائشة: كان يكون علي الصوم من رمضان فما
ـــــــ
1- لأن الشاب سريع الاهتياج فيقوده ذلك إلى الجماع وحتى إلى الإنزال بغير جماع أما الشيخ فبطيء التأثر.
2- ويتحقق الغروب ببدء انتشار العتمة لجهة الشرق لأن جهة الغروب تستمر مضيئة لفترة بعد الغروب وإعتام جهة الغرب إعتاما كاملا هو دخول وقت العشاء.
3- ويستحب أن يقول بعد هذا: وبك آمنت وعليك توكلت ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله.
أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه. فلا يجوز التطوع قبله ولا يصح فإن فعل أي أخره بلا عذر حرم عليه وحينئذ فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم ما يجزئ في كفارة رواه سعيد بإسناد جيد عن ابن عباس والدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة وإن كان لعذر فلا شيء عليه وإن مات بعد أن أخره لعذر فلا شيء ولغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين كما تقدم ولو بعد رمضان آخر لأنه بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه والإطعام من رأس ماله أوصى به أو لا وإن مات وعليه صوم كفارة أطعم عنه كصوم متعة و لا يقضى عنه ما وجب بأصل الشرع من صلاة وصوم.
وإن مات وعليه صوم نذر أو حج نذر أو اعتكاف نذر أو صلاة نذر استحب لوليه قضاؤه لما في الصحيحين: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال: "نعم" ولأن النيابة تدخل في العبادة بحسب خفتها وهو أخف حكما من الواجب بأصل الشرع والولي هو الوارث فإن صام غيره جاز مطلقا لأنه تبرع وإن خلف تركة وجب الفعل فيفعله الولي أو يدفع إلى من يفعله عنه ويدفع في الصوم عن كل يوم طعام مسكين وهذا كله فيمن أمكنه صوم ما نذره فلم يصمه فلو أمكنه بعضه قضى ذلك البعض فقط والعمرة مرة في ذلك كالحج.
باب صوم التطوع
وفيه فضل عظيم لحديث: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فيقول الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" . وهذه الإضافة للتشريف التعظيم.يسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر والأفضل أن يجعلها أيام الليالي البيض لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه الترمذي وحسنه وسميت بيضا لابيضاض ليلها كله بالقمر و صوم الاثنين والخميس لقوله صلى الله عليه وسلم: "هما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" رواه أحمد والنسائي. و سن صوم ست من شوال لحديث: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر" أخرجه مسلم. ويستحب تتابعها وكونها عقب العيد لما فيه من المسارعة إلى الخير و يسن صوم شهر المحرم لحديث: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" رواه مسلم وآكده العاشر ثم التاسع لقوله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر" احتج به أحمد وقال: إن اشتبه
عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ليستيقن صومها وصوم عاشوراء كفارة سنة ويسن فيه التوسعة على العيال و صوم تسع ذي الحجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام" -يعني العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشئ" . رواه البخاري. و آكده يوم عرفة لغير حاج بها وهو كفارة سنتين لحديث: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" . وقال في صيام عاشوراء: "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه مسلم ويلي يوم عرفة في الآكدية يوم التروية وهو الثامن.
وأفضله أي أفضل صوم التطوع صوم يوم وفطر يوم لأمره صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو قال: "هو أفضل الصيام" متفق عليه. وشرطه أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل من الصيام كالقيام بحقوق الله تعالى وحقوق عباده اللازمة وإلا فتركه أفضل.
ويكره إفراد رجب بالصوم لأن فيه إحياء لشعار الجاهلية فإن أفطر منه أو صام معه غيره زالت الكراهة و كره إفراد يوم الجمعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم" متفق عليه. و إفراد يوم السبت لحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" رواه أحمد. وكره صوم يوم النيروز والمهرجان1 وكل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم و يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يكن غيم ولا نحوه لقول عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي وصححه والبخاري تعليقا ويكره الوصال وهو أن لا يفطر ببن اليومين أو الأيام ولا يكره إلى السحر وتركه أولى.
ويحرم صوم يومي العيدين إجماعا للنهي المتفق عليه ولو في فرض و يحرم صيام أيام التشريق لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله" رواه مسلم. إلا عن دم متعة أو قران فيصح صوم أيام التشريق لمن عدم الهدي لقول ابن عمر وعائشة: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي2 رواه البخاري.
ـــــــ
1- وهذان عيدان فارسيان مجوسيان أحدهما رأس السنة والآخر عيد الربيع وحال هذان حال عيد شم النسيم في مصر فهو عيد قبطي فرعوني الأصل وثني.
2- ولا يحوز صيام التطوع للمرأة المتزوجة إلا بموافقة زوجها لأن هذا يحرمه حقه الشرعي في الاستمتاع بها فإن كان غائبا عنها في سفر جاز.
ومن دخل في فرض موسع من صوم أو غيره حرم قطعه كالمضيق فيحرم خروجه من الفرض بلا عذر لأن الخروج من عهدة الواجب متعين ودخلت التوسعة في وقته رفقا ومظنة للحاجة فإذا شرع تعينت المصلحة في إتمامه ولا يلزم الإتمام في النفل من صوم وصلاة ووضوء وغيرها لقول عائشة: يا رسول الله أهدي لنا حيس -وهو التمر مع السمن- فقال: "أرنيه فلقد أصبحت صائما" فأكل, رواه مسلم وغيره وزاد النسائي بإسناد جيد: "إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها" وكره خروجه منه بلا عذر. ولا قضاء فاسده أي لا يلزمه قضاء ما فسد من النفل إلا الحج والعمرة فيجب إتمامهما لانعقاد الإحرام لازما فإن أفسدهما أو فسدا لزمه القضاء.
ليلة القدروترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه وفي الصحيحين: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" زاد أحمد: "وما تأخر" . وسميت بذلك لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة أو لعظم قدرها عند الله أو لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وهي أفضل الليالي وهي باقية لم ترفع للأخبار وأوتاره آكد لقوله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو خمس بقين أو سبع بقين أو تسع بقين" وليلة سبع وعشرين أبلغ أي أرجى لها لقول ابن عباس وأبي بن كعب وغيرهما وحكمة إخفائها ليجتهدوا في طلبها ويدعو فيها لأن الدعاء مستجاب فيها بما ورد عن عائشة قالت: يا رسول الله: إن وافقتها فبم أدعو؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه أحمد وابن ماجة وللترمذي معناه وصححه ومعنى العفو: الترك. وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا: "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة" فالشر الماضي يزول بالعفو والحاضر بالعافية والمستقبل بالمعافاة لتضمنها دوام العافية.
باب الاعتكاف
هو لغة: لزوم الشئ ومنه {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} واصطلاحا: لزوم مسجد أي لزوم مسلم عاقل ولو مميز لا غسل عليه مسجدا ولو ساعة لطاعة الله تعالى ويسمى جوازا ولا يبطل بإغماء وهو مسنون كل وقت إجماعا لفعله صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه واعتكف أزواجه بعده ومعه وهو في رمضان آكد لفعله صلى الله عليه وسلم وآكده في عشره الأخير.ويصح الاعتكاف بلا صوم لقول عمر: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن
أعتكف ليلة بالمسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" رواه البخاري ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل ويلزمان أي الاعتكاف والصوم بالنذر فمن نذر أن يعتكف صائما أو بصوم أو يصوم معتكفا أو باعتكاف لزمه الجمع وكذا لو نذر أن يصلي معتكفا ونحوه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" رواه البخاري وكذا لو نذر صلاة بسورة معينة ولا يجوز لزوجة اعتكاف بلا إذن زوجها ولا لقن بلا إذن سيده ولهما تحليلهما من تطوع مطلقا ومن نذر بلا إذن.
ولا يصح الاعتكاف إلا بنية لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" ولا يصح إلا في مسجد لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 1 يجمع فيه أي تقام فيه الجماعة لأن الاعتكاف في غيره يفضي إما إلى ترك الجماعة أو تكرر الخروج إليها كثيرا مع إمكان التحرز منه وهو مناف للاعتكاف إلا من لا تلزمه الجماعة كـ المرأة والمعذور والعبد ف يصح اعتكافهم في كل مسجد للآية وكذا من اعتكف من الشروق إلى الزوال مثلا سوى مسجد بيتها وهو الموضع الذي تتخذه لصلاتها في بيتها لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكما لجواز لبثها فيه حائضا وجنبا ومن المسجد ظهره ورحبته المحوطة ومنارته التي هي أو بابها فيه وما زيد فيه المسجد الجامع أفضل لرجل تخلل اعتكافه جمعة.
ومن نذره أي الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة : مسجد مكة والمدينة والأقصى وأفضلها المسجد الحرام فمسجد المدينة فالأقصى لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" رواه لجماعة إلا أبا داود لم يلزمه جواب من أي لم يلزمه الاعتكاف أو الصلاة فيه أي في المسجد الذي عينه إن لم يكن من الثلاثة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" فلو تعين غيرها بتعيينه لزمه المضي إليه واحتاج لشد الرحل إليه لكن إن نذر الاعتكاف في جامع لم تجزئه في مسجد لا تقام فيه الجمعة, وإن عين لاعتكافه أو صلاته الأفضل كالمسجد الحرام لم يجز اعتكافه أو صلاته فيما دونه كمسجد المدينة أو الأقصى وعكسه بعكسه فمن نذر اعتكافا أو صلاة بمسجد المدينة أو الأقصى أجزأه بالمسجد الحرام لما روى أحمد وأبو داود عن جابر أن رجلا قال يوم الفتح: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس فقال: "صل هاهنا" فسأله فقال: "صل ها هنا" فسأله فقال: "شأنك إذا" .
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "187".
ومن نذر اعتكافا زمنا معينا كعشر ذي الحجة دخل معتكفه قبل ليلته الأولى فيدخل قبيل الغروب من اليوم الذي قبله وخرج من معتكفه بعد آخره أي بعد غروب الشمس آخر يوم منه وإن نذر يوما دخل قبل فجره وتأخر حتى تغرب شمسه وإن نذر زمنا معينا تابعه ولو أطلق وعددا فله تفريقه ولا تدخل ليلة يوم نذره كيوم أجلة نذرها.
ولا يخرج المعتكف من معتكفه إلا لما لا بد له منه كإتيانه بمأكل ومشرب لعدم من يأتيه بهما وكقىء بغتة وبول وغائط وطهارة واجبة وغسل متنجس يحتاجه وإلى جمعة وشهادة لزمتاه والأولى أن لا يبكر لجمعة ولا يطيل الجلوس بعدها وله المشي على عادته وقصد بيته لحاجته إن لم يجد مكانا يليق به بلا ضرر ولا منة وغسل يده بمسجد في إناء من وسخ ونحوه لا بول وفصد وحجامة بإناء فيه أو في هوائه ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة حيث وجب عليه الاعتكاف متتابعا ما لم يتعين عليه ذلك لعدم من يقوم به إلا أن يشترطه أي يشترط في ابتداء اعتكافه الخروج إلى عيادة مريض أو شهود جنازة وكذا كل قربة لم تتعين عليه وما له منه بد كعشاء ومبيت ببيته لا الخروج للتجارة ولا التكسب بالصنعة في المسجد ولا الخروج لما شاء وإن قال: متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت فله شرطه وإذا زال العذر وجب الرجوع إلى اعتكاف واجب.
وإن وطئ المعتكف في فرج أو أنزل بمباشرة دونه فسد اعتكافه ويكفر كفارة يمين إن كان الاعتكاف منذورا لإفساد نذره لا لوطئه ويبطل أيضا اعتكافه بخروجه لما له منه بد ولو قل. ويستحب اشتغاله بالقرب 1 من صلاة وقراءة وذكر ونحوهما واجتناب ما لا يعنيه -بفتح الياء- أي يهمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ولا بأس أن تزوره زوجته في المسجد وتتحدث معه وتصلح رأسه أو غيره ما لم يلتذ بشئ منها وله أن يتحدث مع من يأتيه ما لم يكثر ويكره الصمت إلى الليل وإن نذره لم يف به وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه لاسيما إن كان صائما ولا يجوز البيع والشراء فيه للمعتكف وغيره ولا يصح.
ـــــــ
1- القرب والقربات ما يقرب العبد إلى ربه وهي جمع قربة.
كتاب المناسك
مدخل
6- كتاب المناسكجمع منسك - بفتح السين وكسرها -وهو التعبد. يقال: تنسك: تعبد وغلب إطلاقها على متعبدات الحج والمنسك في الأصل من النسيكة وهي الذبيحة.الحج بفتح الحاء في الأشهر عكس شهر ذي الحجة فرض سنة تسع من الهجرة وهو لغة: القصد وشرعا: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص.
والعمرة لغة: الزيارة وشرعا: زيارة البيت على وجه مخصوص وهما واجبان لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1 ولحديث عائشة: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" رواه أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح. وإذا ثبت ذلك في النساء فالرجال أولى إذا تقرر ذلك فيجبان على المسلم الحر المكلف القادر أي المستطيع في عمره مرة واحدة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة فمن زاد فهو متطوع" رواه أحمد وغيره فالإسلام والعقل شرطان للوجوب والصحة والبلوغ وكمال الحرية شرطان للوجوب والإجزاء دون الصحة والاستطاعة شرط للوجوب دون الإجزاء فمن كملت له الشروط وجب عليه السعي على الفور ويأثم إن أخره بلا عذر لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له" رواه أحمد.
فإن زال الرق بأن عتق العبد محرما و زال الجنون بأن أفاق المجنون وأحرم إن لم يكن محرما و زال الصبا بأن بلغ الصغير وهو محرم في الحج وهو بعرفة قبل الدفع منها أو بعده إن عاد فوقف في وقته ولم يكن سعى بعد طواف القدوم وفي أي وقت وجد ذلك في إحرام العمرة قبل طوافها صح أي الحج والعمرة فيما ذكر فرضا فتجزئه عن
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "196".
حجة الإسلام وعمرته ويعتد بإحرام ووقوف موجودين إذا وما قبله تطوع لم ينقلب فرضا فإن كان الصغير أو القن سعى بعد طواف القدوم قبل الوقوف لم يجزئه الحج ولو أعاد السعي لأنه لا يشرع مجاوزة عدده ولا تكراره بخلاف الوقوف فإنه لا قدر له محدود وتشرع استدامته وكذا إن بلغ أو عتق في أثناء طواف العمرة لم يجزئه ولو أعاده.
و يصح فعلهما أي الحج والعمرة من الصبي نفلا لحديث ابن عباس أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" رواه مسلم ويحرم الولي في مال عمن لم يميز ولو محرما أو لم يحج ويحرم مميز بإذنه ويفعل ولي ما يعجزهما لكن يبدأ الولي في رمي بنفسه ولا يعتد برمي حلال1 و يطاف به لعجز راكبا أو محمولا و يصحان من العبد نفلا لعدم المانع ويلزمانه بنذره ولا يحرم به ولا زوجة إلا بإذن سيد وزوج فان عقداه فلهما تحليلهما ولا يمنعها من حج فرض كملت شروطه ولكل من أبوي حر بالغ منعه من إحرام بنفل كنفل جهاد ولا يحللانه إن أحرم.
والقادر المراد فيما سبق من أمكنه الركوب ووجد زادا وراحلة بآلتهما صالحين لمثله لما روى الدارقطني بإسناده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 2 قال: قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" وكذا لو وجد ما يحصل به ذلك بعد قضاء الواجبات من الديون حالة3 أو مؤجلة والزكوات والكفارات والنذور و بعد النفقات الشرعية له ولعياله على الدوام من عقار أو بضاعة أو صناعة و بعد الحوائج الأصلية من كتب ومسكن وخادم ولباس مثله وغطاء و وطاء ونحوها ولا يصير مستطيعا ببذل غيره له ويعتبر أمن طريق بلا خفارة يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد وسعة وقت يمكن السير فيه على العادة.
وإن أعجزه عن السعي كبر أو مرض لا يرجى برؤه أو ثقل لا يقدر معه ركوبا إلا بمشقة شديدة أو كان نظو الخلقة لا يقدر يثبت على راحلة إلا بمشقة غير محتملة لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه 4 فورا من حيث وجبا أي من بلده لقول ابن عباس: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله تعالى في الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال: "حجي عنه" متفق عليه. ويجزئ الحج
ـــــــ
1- أي رمي غير محرم بالحج.
2- حالة: مستحقة قد حل أوان سدادها.
3- سورة آل عمران من الآية "97".
4- أي يوكل أو يستأجر من الحج أو يعتمر عنه.
والعمرة عنه أي عن المنوب عنه إذا وإن عوفي بعد الإحرام قبل فراغ نائبه من النسك أو بعده لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته ويسقطان عمن لم يجد نائبا ومن لم يحج عن نفسه لم يحج عن غيره. ويصح أن يستنيب قادر غيره في نفل حج وبعضه والنائب أمين فيما يعطاه ليحج منه ويحتسب له نفقة رجوعه وخادمه إن لم يخدم مثله نفسه.
ويشترط لوجوبه أي الحج والعمرة على المرأة وجود محرمها لحديث ابن عباس: "لا تسافر امرأة إلا مع محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" رواه أحمد بإسناد صحيح ولا فرق بين الشابة والعجوز وقصير السفر و طويله وهو أي محرم السفر زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب كأخ مسلم مكلف أو سبب مباح كأخ من رضاع كذلك وخرج من تحرم عليه بسبب محرم كأم المزني بها وبنتها وكذا أم الموطوءة بشبة وبنتها والملاعن ليس محرما للملاعنة لأن تحريمها عليه أبدا عقوبة وتغليظ عليه لا لحرمتها ونفقة المحرم عليها فيشترط لها ملك زاد وراحلة لهما ولا يلزمه مع بذلها ذلك سفر معها ومن أيست منه استنابت وإن حجت بدونه حرم وأجزأ.
وإن مات من لزماه أي الحج والعمرة أخرجا من تركته من رأس المال أوصى به أو لا ويحج النائب من حيث وجبا على الميت لأن القضاء يكون بصفة الأداء وذلك لما روى البخاري عن ابن عباس أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا لله فالله أحق بالوفاء" . ويسقط بحج أجنبي عنه لا عن حي بلا إذنه وإن ضاق ماله حج به من حيث بلغ وإن مات في الطريق حج عنه من حيث مات.
1-
باب المواقيت
الميقات لغة: الحد واصطلاحا: موضع العبادة وزمنها.وميقات أهل المدينة ذو الحليفة -بضم الحاء المهملة وفتح اللام- بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة وهي أبعد المواقيت من مكة بينها وبين مكة عشرة أيام. و ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة -بضم الجيم وسكون الحاء المهملة- قرب رابغ وبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل. و ميقات أهل اليمن يلملم بينه وبين مكة ليلتان. و ميقات أهل نجد والطائف قرن -بسكون الراء- ويقال: قرن المنازل وقرن الثعالب على يوم وليلة من مكة. و ميقات أهل المشرق أي العراق وخراسان ونحوهما ذات عرق منزل
معروف سمي بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير وبينه وبين مكة نحو مرحلتين. وهي أي هذه المواقيت لأهلها المذكورين ولمن مر عليها من غيرهم أي من غير أهلها ومن منزله دون هذه المواقيت يحرم منه لحج وعمرة ومن حج من أهل مكة فـ إنه يحرم منها لقول ابن عباس: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها متفق عليه. و من لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه لقول عمر: انظروا إلى حذوها من قديد رواه البخاري. و يسن أن يحتاط فإن لم يحاذ ميقاتا أحرم عن مكة بمرحلتين وعمرته أي عمرة من كان بمكة يحرم لها من الحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن ابن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم متفق عليه.
ولا يحل لحر مسلم مكلف أراد مكة أو النسك تجاوز الميقات بلا إحرام إلا لقتال مباح أو خوف أو حاجة تتكرر كحطاب ونحوه فإن تجاوزه لغير ذلك لزمه أن يرجع ليحرم منه إن لم يخف فوت حج أو على نفسه وإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن تجاوزه غير مكلف ثم كلف أحرم من موضعه وكره إحرام قبل ميقات وبحج قبل أشهره وينعقد.
وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة منها يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر.
2-
باب الإحرام
الإحرام لغة: نية الدخول في التحريم لأنه يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحا له قبل الإحرام من النكاح والطيب ونحوهما وشرعا: نية النسك أي نية الدخول فيه لا نية أن يحج أو يعتمر.سن لمريده أي مريد الدخول في النسك من ذكر وأنثى غسل ولو حائضا ونفساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل رواه مسلم و أمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض أو تيمم لعدم أي: عدم الماء أو تعذر استعماله لنحو مراض و سن له أيضا تنظف بأخذ شعر وظفر وقطع رائحة كريهة لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه و سن له أيضا تطيب في بدنه بمسك أو بخور أو ماء ورد ونحوها لقول عائشة: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف
بالبيت وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك1 في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم متفق عليه. وكره أن يتطيب في ثوبه وله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه فليس له أن يلبسه قبل غسل الطيب منه ومتى تعمد مس ما على بدنه من الطيب أو نحاه عن موضعه ثم رده إليه أو نقله إلى موضع آخر فدى2 لا إن سال بعرق أو شمس. و سن له أيضا تجرد من مخيط وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل لأنه صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله رواه الترمذي و سن له أيضا أن يحرم في إزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" رواه أحمد والمراد بالنعلين: التاموسة. ولا يجوز له لبس السرموزة والجمجم قاله في الفروع. و سن إحرام عقب ركعتين نفلا أو عقب فريضة لأنه صلى الله عليه وسلم أهل دبر صلاة رواه النسائي.
ونيته شرط فلا يصير محرما بمجرد التجرد أو التلبية من غير نية الدخول في النسك لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" .
ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا أي أن يعين ما يحرم به ويلفظ به وأن يقول: فيسره لي وتقبله مني وأن يشترط فيقول: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير حين قالت له: إني أريد الحج وأجدني وجعة فقال: "حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني" متفق عليه زاد النسائي في رواية - إسنادها جيد -: "فإن لك على ربك ما استثنيت" فمتى حبس بمرض أو عدو أو ضل الطريق حل ولا شيء عليه ولو شرط أن يحل متى شاء أو إن أفسده لم يقضه لم يصح الشرط, ولا يبطل الإحرام بجنون أو إغماء أو سكر كموت ولا ينعقد مع وجود أحدها.
والإنساك: تمتع وإفراد وقران وأفضل الإنساك التمتع فالإفراد فالقران قال أحمد: لا أشك أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا والمتعة أحب إلي أ هـ وقال: لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه لسوقه الهدي وتأسف بقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم"
وصفته أي التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه من مكة أو قربها أو بعيد منها.
ـــــــ
1- الوبيص: الإلتماع والمسك جامد وليس بسائل ليكون له وبيص فالأرجح أنهم كانوا يذيبون المسك في الماء والزيت للتطيب به.
2- فدي: أي كان عليه الفدية عن فعله هذا.
والإفراد أن يحرم بحج ثم بعمرة بعد فراغه منه والقران أن يحرم بهما معا أو بها ثم يدخله عليها قبل شروع في طوافها ومن أحرم به ثم أدخلها عليه لم يصح إحرامه بها.
و يجب على الأفقي وهو من كان على مسافة قصر فأكثر من الحرم إن أحرم متمتعا أو قارنا دم نسك لا جبران بخلاف أهل الحرم ومن منه دون المسافة فلا شيء عليه لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 1 ويشترط أن يحرم بها من ميقات أو مسافة قصر فأكثر من مكة وأن لا يسافر بينهما فإن سافر مسافة قصر فأحرم فلا دم عليه وسن لمفرد وقارن فسخ نيتهما بحج وينويان بإحرامهما ذلك عمرة مفردة لحديث الصحيحين السابق فإذا حلا أحرما به ليصيرا متمتعين ما لم يسوقا هديا أو يقفا بعرفة وإن ساقه متمتع لم يكن له أن يحل فيحرم بحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل حلق فإذا ذبحه يوم النحر حل منهما.
وإن حاضت المرأة المتمتعة قبل طواف العمرة فخشيت فوات الحج أحرمت به وجوبا وصارت قارنة لما روى مسلم أن عائشة كانت متمتعة فحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج" وكذا لو خشيت غيرها ومن أحرم وأطلق صح وصرفه لما شاء وبمثل ما أحرم فلان انعقد بمثله وإن جهل جعله عمرة لأنها اليقين ويصح أحرمت يوما أو بنصف نسك لا إن أحرم فلان فأنا محرم لعدم جزمه.
وإذا استوى على راحلته قال قطع به جماعة والأصح قبل إحرامه: لبيك اللهم لبيك أي: أنا مقيم على طاعتك وإجابة أمرك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك روي ذلك عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه. وسن أن يذكر نسكه فيها وأن يبدأ القارن بذكر عمرته وإكثار التلبية وتتأكد إذا علا نشزا أو هبط واديا أو صلى مكتوبة أو أقبل ليل أو نهار أو التقت الرفاق أو سمع ملبيا أو فعل محظورا ناسيا أو ركب دابته أو نزل عنها أو رأى البيت يصوت بها الرجل أي يجهر بالتلبية لخبر السائب بن خلاد مرفوعا: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" صححه الترمذي وإنما يسن الجهر بالتلبية في غير مساجد الحل وأمصاره وفي غير طواف القدوم والسعي بعده وتشرع بالعربية لقادر وإلا فبلغته ويسن بعدها دعاء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتخفيها المرأة بقدر ما تسمع رفيقتها ويكره جهرها فوق ذلك مخافة الفتنة ولا تكره التلبية لحلال.
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "196".
3-
باب محظورات الإحرام
أي: المحرمات بسببه وهي أي محظوراته تسعة أحدها حلق الشعر من جميع بدنه بلا عذر يعني: إزالته بحلق أو نتف أو قلع لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 1.و الثاني- تقليم الأظفار أو قصه من يد أو رجل بلا عذر فإن خرج بعينه شعر أو كسر ظفره فأزالهما أو زالا مع غيرهما فلا فدية وإن حصل الأذى بقرح أو قمل ونحوه فأزال شعره لذلك فدى ومن حلق رأسه بإذنه أو سكت ولم ينهه فدى ويباح للمحرم غسل شعره بسدر ونحوه فمن حلق شعرة واحدة أو بعضها فعليه طعام مسكين وشعرتين أو بعض شعرتين فطعام مسكينين وثلاث شعرات فعليه دم أو قلم ظفرا فطعام مسكين أو ظفرين فطعاما مسكينين أو ثلاثة فعليه دم أي شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام وإن خلل شعره وشك في سقوط شيء به استحبت.
الثالث- تغطية رأس الذكر إجماعا وأشار إليه بقوله: ومن غطى رأسه بملاصق فدى سواء كان معتادا كعمامة وبرنس أم لا كقرطاس وطين ونورة وحناء أو عصبه بسير أو استظل في محمل راكبا أو لا ولو لم يلاصقه و يحرم ذلك بلا عذر لا إن حمل عليه أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت.
الرابع- لبسه المخيط وإليه الإشارة بقوله: وإن لبس ذكر مخيطا فدى ولا يعقد عليه رداء ولا غيره إلا إزاره ومنطقة و هميانا فيهما نفقة مع حاجة لعقد وإن لم يجد نعلين لبس خفين أو لم يجد إزارا لبس سراويل إلى أن يجد ولا فدية.
الخامس- الطيب وقد ذكره بقوله: وإن طيب محرم بدنه أو ثوبه أو شيئا منهما أو استعمله في أكل أو شرب أو ادهن أو اكتحل أو استعط بطيب أو شم قصدا طيبا أو تبخر بعود ونحوه أو شمه قصدا ولو بخور الكعبة أثم و فدى و من الطيب مسك وكافور وعنبر وزعفران وورس وورد وبنفسج ولينوفر وياسمين وبان وماء ورد وإن شمها بلا قصد أو مس ما لا يعلق كقص كافورة أو شم فواكه أو عودا أو شيحا أو ريحانا فارسيا أو نماما أو ادهن بدهن غير مطيب فلا فدية.
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "196".
السادس- قتل صيد البر واصطياده وقد أشار إليه بقوله: وإن قتل صيدا مأكولا بريا أصلا كحمام وبط ولو استأنس بخلاف إبل وبقر أهلية ولو توحشت ولو تولدت منه أي من الصيد المذكور ومن غيره كالمتولد بين المأكول وغيره أو بين الوحشي وغيره تغليبا للحظر أو تلف الصيد المذكور في يده بمباشرة أو سبب كإشارة ودلالة وإعانة ولو بمناولة آلة أو جناية دابة هو متصرف فيها فعليه جزاؤه وإن دل ونحوه محرم محرما فالجزاء بينهما و يحرم على المحرم أكله مما صاده أو كان له أثر في صيده أو ذبح أو صيد لأجله وما حرم عليه لنحو دلالة أو صيد له لا يحرم على محرم غيره ويضمن بيض صيد ولبنه إذا حلبه بقيمته ولا يمتلك المحرم ابتداء صيدا بغير إرث وإن أحرم وبملكه صيد لم يزل ولا يده الحكمية بل تزال يده المشاهدة بإرساله ولا يحرم بإحرام أو حرم حيوان إنسي كدجاج وبهيمة الأنعام لأنه ليس بصيد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البدن في إحرامه بالحرم ولا يحرم صيد البحر إن لم يكن بالحرم لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} 1 وطير الماء بري ولا يحرم بحرم ولا إحرام قتل محرم الأكل كالأسد والنمر والكلب إلا المتولد كما تقدم ولا يحرم قتل الصيد الصائل دفعا عن نفسه أو ماله سواء خشي التلف أو الضرر بجرحه أو لا لأنه التحق بالمؤذيات فصار كالكلب العقور و يسن مطلقا قتل كل مؤذ غير آدمي ويحرم بإحرام قتل قمل وصئبانه ولو برميه ولا جزاء فيه لا براغيث وقراد ونحوهما ويضمن جراد بقيمته ولمحرم احتاج لفعل محظور فعله ويفدي وكذا لو اضطر إلى أكل صيد فله ذبحه وأكله كمن بالحرم ولا يباح إلا لمن له أكل الميتة.
السابع - عقد النكاح وقد ذكره بقوله: ويحرم عقد النكاح فلو تزوج المحرم أو زوج محرمة أو كان وليا أو وكيلا في النكاح حرم ولا يصح لما روى مسلم عن عثمان مرفوعا: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" . ولا فدية في عقد النكاح كشراء الصيد ولا فرق بين الإحرام الصحيح والفاسد. و يكره للمحرم أن يخطب امرأة كخطبة عقده وحضوره وشهادته فيه وتصح الرجعة أي لو راجع المحرم امرأته صحت بلا كراهة لأنه إمساك وكذا شراء أمة للوطء.
الثامن- الوطء وإليه الإشارة بقوله: وإن جامع المحرم بأن غيب الحشفة في قبل أو دبر من آدمي أو غيره حرم لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} 2 قال ابن عباس: هو الجماع. وإن كان الوطء قبل التحلل الأول فسد نسكهما ولو بعد الوقوف بعرفة ولا فرق بين العامد والساهي لقضاء بعض الصحابة رضي الله عنهم بفساد الحج ولم
ـــــــ
1- سورة المائدة من الآية "96".
2- سورة البقرة من الآية "197".
يستفصل ويمضيان فيه أي يجب على الواطئ والموطوءة المضي في النسك الفاسد ولا يخرجان منه بالوطء روي عن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس فحكمه كالإحرام الصحيح لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1. ويقضيانه وجوبا ثاني عام روي عن ابن عباس وابن عمر وغير المكلف يقضي بعد تكليفه وحجة الإسلام فورا من حيث أحرم أو لا إن كان قبل ميقات وإلا فمنه وسن تفرقهما في قضاء من موضع وطء إلى أن يحلا والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد النسك وعليه شاة ولا فدية على مكرهة ونفقة حجة قضائها عليه لأنه المفسد لنسكها.
التاسع- المباشرة دون الفرج وذكرها بقوله: وتحرم المباشرة أي: مباشرة الرجل المرأة فإن فعل أي باشرها فأنزل لم يفسد حجه كما لو لم ينزل ولا يصح قياسها على الوطء لأنه يجب به الحد دونها وعليه بدنة إن أنزل بمباشرة أو قبلة أو تكرار نظر أو لمس لشهوة أو أمنى باستمناء قياسا على الوطء وإن لم ينزل فشاة كفدية أذى وخطأ في ذلك كعمد وامرأة مع شهوة كرجل في ذلك لكن يحرم بعد أن يخرج من الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم لطواف الفرض أي ليطوف طواف الزيارة محرما وظاهر كلامه أن هذا في المباشر دون الفرج إذا أنزل وهو غير متجه لأنه لم يفسد إحرامه حتى يحتاج لتجديده فالمباشرة كسائر المحرمات غير الوطء هذا مقتضى كلامه في الإقناع كـ المنتهى و المقنع و التنقيح و الإنصاف و المبدع وغيرها وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن وطىء بعد التحلل الأول إلا أن يكون على وجه الاحتياط مراعاة للقول بالإفساد.
وإحرام المرأة فيما تقدم كالرجل إلا في اللباس أي لباس المخيط فلا يحرم عليها ولا تغطية الرأس وتجتنب البرقع والقفازين لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" رواه البخاري وغيره والقفازان: شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من الحر كما يعمل للبزاة ويفدي الرجل والمرأة بلبسهما, و تجتنب أيضا تغطية وجهها لقوله صلى الله عليه وسلم: "إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها" فتضع الثوب فوق رأسها وتسدله على وجهها لمرور الرجال قريبا منها ويباح لها التحلي بالخلخال والسوار والدملج ونحوها ويسن لها خضاب عند إحرام وكره بعده وكره لهما اكتحال بإثمد لزينة ولها لبس معصفر وكحلي وقطع رائحة كريهة بغير طيب واتجار وعمل صنعة ما لم يشغلا عن واجب أو مستحب وله لبس خاتم ويجتنبان الرفث والفسوق والجدال وتسن قلة الكلام إلا فيما ينفع.
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "196".
باب الفدية
مدخل
4- باب الفديةأي أقسامها وقدر ما يجب والمستحق لأخذها يخير بفدية أي في فدية حلق فوق شعرتين وتقليم فوق ظفرين وتغطية رأس وطيب ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة لقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "لعلك آذاك هوام رأسك؟" قال: نعم يا رسول الله فقال: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة" متفق عليه. و أو للتخيير وألحق الباقي بالحلق. و يخير بجزاء صيد بين ذبح مثل إن كان له مثل من النعم أو تقويمه أي المثل بمحل التلف أو قربه بدراهم يشترى بها طعاما يجزئ في فطرة أو يخرج بعدله من طعامه فيطعم لكل مسكين مدا إن كان الطعام برا وإلا فمدين أو يصوم عن كل مد من البر يوما لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1 الآية وإن بقي دون مد صام يوما و يخير بما لا مثل له بعد أن يقومه بدراهم لتعذر المثل ويشتري بها طعاما كما مر بين إطعام كما مر وصيام على ما تقدم.وأما دم متعة وقران فيجب الهدي بشرطه السابق لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 2 و القارن بالقياس على المتمتع فإن عدمه أي عدم الهدي أو عدم ثمنه ولو وجد من يقرضه فصيام ثلاثة أيام في الحج و الأفضل كون أخرها يوم عرفة وإن أخرها عن أيام منى صامها بعد وعليه دم مطلقا و صيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3 وله صومها بعد أيام منى وفراغه من أفعال الحج ولا يجب تتابع ولا تفريق في الثلاثة ولا السبعة.
والمحصر يذبح هديا بنية التحلل لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 4 وإذا لم يجد هديا صام عشرة أيام بنية التحلل ثم حل قياسا على المتمتع. ويجب بوطء في فرج في الحج قبل التحلل الأول بدنة وبعده شاة فان لم يجد البدنة صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع لقضاء الصحابة و يجب بوطء في العمرة شاة وتقدم حكم المباشرة وإن طاوعته زوجة لزمها أي ما ذكر من الفدية في الحج
ـــــــ
1- سورة المائدة من الآية "95".
2- سورة البقرة من الآية "196".
3- سورة البقرة من الآية "196".
4- سورة البقرة من الآية "196".
والشاة في العمرة والمكرهة لا فدية عليها وتقدم حكم المباشرة دون الفرج ولا شيء على من فكر فأنزل والدم الواجب لفوات أو ترك واجب كمتعة.
فصل في تكرار المحظور الواحد
ومن كرر محظورا من جنس واحد بأن حلق أو قلم أو لبس مخيطا أو تطيب بطيب أو وطئ ثم أعاده ولم يفد لما سبق فدى مرة سواء فعله متتابعا أو متفرقا لأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات وإن كفر عن السابق ثم أعاده لزمته الفدية ثانيا بخلاف صيد ففيه بعدده ولو في دفعة لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1. ومن فعل محظورا من أجناس بأن حلق وقلم أظافره ولبس المخيط فدى لكل مرة أي لكل جنس فديته الواجبة فيه سواء رفض إحرامه أو لا إذ التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: كمال أفعاله أو التحلل عند الحصر أو بالعذر إذا شرطه في ابتدائه وما عدا هذه لا يتحلل به ولو نوى التحلل لم يحل ولا يفسد إحرامه برفضه بل هو باق يلزمه أحكامه وليس عليه لرفض الإحرام شيء لأنه مجرد نية.كيفية التصرف بالفديةويسقط بنسيان أو جهل أو إكراه فدية لبس وطيب وتغطية رأس لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . ومتى زال عذره أزاله في الحال دون فدية وطء وصيد وتقليم وحلاق فتجب مطلقا لأن ذلك إتلاف فاستوى عمده وسهوه كمال الآدمي. فإن استدام لبس مخيط بعد أن أحرم فيه ولو لحظة فوق المعتاد من خلعه فدى ولا يشقه وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام كجزاء صيد ودم متعة وقران ومنذور وما وجب لترك واجب أو فعل محظور في الحرم فإنه يلزمه ذبحه بالحرم قال أحمد: مكة ومنى واحد والأفضل نحر ما بحج بمنى وما بعمرة بالمروة ويلزمه تفرقة لحمه أو إطلاقه لمساكين الحرم لأن القصد التوسعة عليهم وهم المقيم به والمجتاز من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة وإن سلمه لهم حيا فذبحوه أجزأ وإلا رده وذبحه وفدية الأذى أي الحلق واللبس ونحوهما كطيب وتغطية رأس وكل محظور فعله خارج الحرم ودم الاحصار حيث وجد سببه من حل أو حرم لأنه صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه بالحديبية وهي من الحل ويجزئ بالحرم أيضا.
ـــــــ
1- سورة المائدة من الآية "95".
ويجزئ الصوم والحلق بكل مكان لأنه لا يتعدى نفعه لأحد فلا فائدة لتخصيصه والدم المطلق شاة كأضحية شاة جذع ضأن أو ثني معز أو سبع بدنة أو بقرة فإن ذبحها فأفضل وتجب كلها وتجزئ عنها أي عن البدنة بقرة ولو في جزاء صيد كعكسه وعن سبع شياه بدنة واحدة أو بقرة مطلقا.
5-
باب جزاء الصيد
أي مثله في الجملة إن كان وإلا فقيمته فيجب المثل من النعم فيما له مثل لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1 وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشا ويرجع فيما قضت به الصحابة إلى ما قضوا به فلا يحتاج أن يحكم عليه مرة أخرى لأنهم أعرف وقولهم أقرب إلى الصواب ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" . ومنه في النعامة بدنة روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية لأنها تشبهها. و في حمار الوحش بقرة روي عن عمر و في بقرته أي الواحدة من بقر الوحش بقرة روي عن ابن مسعود و في الأيل على وزن قنب وخلب وسيد بقرة روي عن ابن عباس و في الثيتل بقرة قال الجوهري: الثيتل: الوعل المسن و في الوعل بقرة يروى عن ابن عمر أنه قال: في الأروى بقرة قال في الصحاح: الوعل هي الأروى وفي القاموس: الوعل -بفتح الواو مع فتح العين وكسرها وسكونها-: تيس الجبل و في الضبع كبش قال الإمام: حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش و في الغزالة عنز روى جابر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الظبي شاة" و في الوبر وهو دويبة كحلاء دون السنور لا ذنب لها جدي. و في الضب جدي قضى به عمر و زيد والجدي الذكر من أولاد المعز له ستة أشهر و في اليربوع جفرة لها أربعة أشهر روي عن عمر وابن مسعود و في الأرنب عناق روي عن عمر والعناق الأنثى من أولاد المعز أصغر من الجفرة و في الحمامة شاة حكم به عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ونافع بن عبد الحارث في حمام الحرم وقيس عليه حمام الإحرام والحمام كل ما عب الماء وهدر فيدخل فيه الفواخت والوراشين والقطا والقمري والدبسي .وما لم تقض فيه الصحابة يرجع فيه إلى قول عدلينـــــــ
1- سورة المائدة من الآية "95".
خبيرين وما لا مثل له كباقي الطير ولو أكبر من الحمام فيه القيمة وعلى جماعة اشتركوا في قتل صيد جزاء واحد.
6-
باب حكم صيد الحرم
أي حرم مكة يحرم صيده على المحرم والحلال إجماعا لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" . وحكم صيده كصيد المحرم فيه الجزاء حتى على الصغير والكافر ولكن بحريه لا جزاء فيه ولا يملكه ابتداء بغير إرث ولا يلزم المحرم جزاءان ويحرم قطع شجرة أي شجر الحرم وحشيشه الأخضرين اللذين لم يزرعهما آدمي لحديث: "ولا يعضد شجرها ولا يحش حشيشها" وفي رواية: "ولا يختلي شوكها" ويجوز قطع اليابس والثمرة وما زرعه الآدمي و الكمأة والفقع وكذا الأذخر كما أشار إليه بقوله: "إلا الإذخر" قال في القاموس: حشيش طيب الريح لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" و يباح انتفاع بما زال أو انكسر بغير فعل آدمي ولو لم يبن و تضمن شجرة صغيرة عرفا بشاة وما فوقها ببقرة روي عن ابن عباس ويفعل فيها كجزاء صيد و يضمن حشيش وورق بقيمته وغصن بما نقص فإن استخلف شيء منها سقط ضمانه كرد شجرة فتنبت لكن يضمن نقصها وكره إخراج تراب الحرم وحجارته إلى الحل لا ماء زمزم ويحرم إخراج تراب المساجد وطيبها للتبرك وغيره.ويحرم صيد حرم المدينة لحديث علي: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصح أن تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" رواه أبو داود ولا جزاء فيه أي فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها قال أحمد في رواية بكر بن محمد: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه حكموا فيه بجزاء. ويباح الحشيش من حرم المدينة للعلف لما تقدم و يباح اتخاذ آلة الحرث ونحوه كالمساند وآلة الرحل من شجر حرم المدينة لما روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا فقال: "القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء" والمسند: عود البكرة ومن أدخلها صيدا فله إمساكه وذبحه.
وحرمها يريد في بريد وهو ما بين عير جبل مشهور بها الى ثور جبل صغير لونه إلى الحمرة فيه تدوير ليس بالمستطيل خلف أحد من جهة الشمال وما بين عير إلى ثور هو
ما بين لابتيها واللابة الحرة وهي أرض تركبها حجارة سود وتستحب المجاورة بمكة وهي أفضل من المدينة قال في الفنون: الكعبة أفضل من مجرد الحجرة فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا الجنة لأن بالحجرة جسدا لو وزن به لرجح أ هـ و تضاعف الحسنة والسيئة بمكان وزمان فاضل.
7-
باب ذكر دخول مكة وما يتعلق به من الطواف والسعي
يسن دخول مكة من أعلاها والخروج من أسفلها1 و يسن دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة لما روى مسلم وغيره عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ثم دخل ويسن أن يقول عند دخوله: بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله اللهم افتح لي أبواب فضلك ذكره في أسباب الهداية فإذا رأى البيت رفع يديه لفعله صلى الله عليه وسلم رواه الشافعي عن ابن جريج وقال ما ورد ومنه: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا وزد من عظمه وشرفه ممن حجه و اعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله والحمد لله الذي بلغني بيته ورآني أهلا لذلك الحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت يرفع بذلك صوته.ثم يطوف مضطبعا في كل أسبوعه استحبابا إن لم يكن حامل معذور بردائه و الاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر وإذا فرغ من الطواف أزال الاضطباع يبتدئ المعتمر بطواف العمرة لأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستحبت البدأة به و لفعله صلى الله عليه وسلم و يطوف القارن والمفرد للقدوم وهو الورود.
فيحاذي الحجر الأسود بكله أي بكل بدنه فيكون مبدأ طوافه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ به ويستلمه أي يمسح الحجر بيده اليمنى وفي الحديث أنه نزل من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم رواه الترمذي وصححه ويقبله لما ورى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1- ويستحب أن يدخل المحرم مكة نهارا.
استقبل الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي فقال: "يا عمر ها هنا تسكب العبرات" رواه ابن ماجة نقل الأثرم ويسجد عليه وفعله ابن عمر وابن عباس فإن شق استلامه وتقبيله لم يزاحم واستلمه بيده و قبل يده لما روى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده فإن شق استلمه بشئ وقبله روي عن ابن عباس فإن شق اللمس أشار إليه أي إلى الحجر بيده أو بشئ ولا يقبله لما روى البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير فلما أتى الحجر أشار إليه بشئ في يده وكبر ويقول مستقبل الحجر بوجهه كلما استلمه ما ورد ومنه: "بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك و إتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم" لحديث عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك عند استلامه.
ويجعل البيت عن يساره لأنه صلى الله عليه وسلم طاف كذلك وقال: "خذوا عني مناسككم" .
ويطوف سبعا يرمل الأفقي أي المحرم من بعيد من مكة في هذا الطواف فقط إن طاف ماشيا فيسرع المشي ويقارب الخطا ثلاثا أي في ثلاثة أشواط ثم بعد أن يرمل الثلاثة أشواط يمشي أربعا من غير رمل لفعله صلى الله عليه وسلم ولا يسن رمل لحامل معذور ونساء ومحرم من مكة أوقربها ولا يقضي الرمل إن فات في الثلاثة الأول والرمل أولى من الدنو من البيت ولا يسن رمل ولا اضطباع في غير هذا الطواف.
و يسن أن يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة عند محاذاتهما لقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في طوافه قال نافع: كان ابن عمر يفعله رواه أبو داود فإن شق استلامهما أشار إليهما لا الشامي وهو أول ركن يمر به ولا الغربي وهو ما يليه ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وفي بقية طوافه: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وتسن القراءة فيه.
ومن ترك شيئا من الطواف ولو يسيرا من شوط من السبعة لم يصح لأنه صلى الله عليه وسلم طاف كاملا وقال: "خذوا عني مناسككم" أو لم ينوه أي ينوي الطواف لم يصح لأنه عبادة أشبه الصلاة ولحديث: "إنما الأعمال بالنيات" أو لم ينو نسكه بأن أحرم مطلقا طاف قبل أن يصرف إحرامه لنسك معين لم يصح طوافه أو طاف على الشاذروان بفتح الذال وهو ما فضل عن جدار الكعبة لم يصح طوافه لأنه من البيت فإذا لم يطف به لم يطف بالبيت جميعه أو طاف على جدارالحجر بكسر الحاء المهملةلم يصح طوافه لأنه صلى الله عليه وسلم طاف
من وراء الحجر والشاذروان وقال: "خذوا غي مناسككم" أو طاف وهو عريان أو نجس أو محدث لم يصح طوافه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه" رواه الترمذي والأثرم عن ابن عباس. ويسن فعل باقي المناسك كلها على طهارة وإن طاف المحرم لابس مخيط صح وفدى ثم إذا تم طوافه يصلي ركعتين نفلا يقرأ فيهما بـ قل يا أيها الكافرون و الإخلاص بعد الفاتحة وتجزى مكتوبة عنهما وحيث ركعهما جاز والأفضل كونهما خلف المقام لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} .
فصل
ثم بعد الصلاة يعود و يستلم الحجر لفعله صلى الله عليه وسلم ويسن الإكثار من الطواف كل وقت ويخرج إلى الصفا من بابه أي باب الصفا ليسعى فيرقاه أي الصفا حتى يرى البيت فيستقبله ويكبر ثلاثا ويقول ما ورد ثلاثا ومنه: الحمد لله على ما هدانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ويدعو بما أحب ولا يلبي ثم ينزل من الصفا ماشيا إلى أن يبقى بينه وبين العلم الأول وهو الميل الأخضر في ركن المسجد نحو ستة أذرع ثم يسعى ماشيا سعيا شديدا إلى العلم الآخر وهو الميل الأخضر بفناء المسجد حذاء دار العباس ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا ثم ينزل من المروة فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه الى الصفا يفعل ذلك أي ما ذكر من المشي والسعي سيعا ذهابه سعية ورجوعه سعية يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة و يجب استيعاب ما بينهما في كل مرة فيلصق عقبه بأصلهما إن لم يرقهما فإن ترك مما بينهما شيئا ولو دون ذراع لم يصح سعيه.
فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول فلا يحتسبه ويكثر من الدعاء والذكر في سعيه قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم. ويشترط له نية وموالاة وكونه بعد طواف نسك ولو مسنونا.
و تسن فيه الطهارة من الحدث والنجس والستارة أي ستر العورة فلو سعى محدثا أو نجسا أو عريانا أجزأه. و تسن الموالاة بينه وبين الطواف والمرأة لا ترقى الصفا ولا المروة ولا تسعى سعيا شديدا وتسن مبادرة معتمر بذلك.
ثم إن كان متمتعا لا هدي معه قصر من شعره ولو لبده ولا يحلقه ندبا ليوفره للحج
وتحلل لأنه تمت عمرته وإلا بأن كان مع المتمتع هدي لم يقصر و حل إذا حج فيدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا والمعتمر غير المتمتع يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن في أشهر الحج أو غيرها والمتمتع والمعتمر إذا شرع في الطواف قطع التلبية لقول ابن عباس يرفعه: كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولا بأس بها في طواف القدوم سرا.
باب صفة الحج والعمرة
مدخل
8- باب صفة الحج والعمرةيسن للمحلين بمكة وقربها حتى متمتع حل من عمرته الإحرام بالحج يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه الماء لما بعده قبل الزوال فيصلي بمنى الظهر مع الإمام ويسن أن يحرم منها أي من مكة والأفضل من تحت الميزاب ويجزئ إحرامه من بقية الحرم ومن خارجه ولا دم عليه والمتمتع إذا عدم الهدي وأراد الصوم سن له أن يحرم يوم السابع ليصوم الثلاثة محرما ويبيت بمنى ويصلي مع الإمام استحبابا فإذا طلعت الشمس من يوم عرفة سار من منى إلى عرفة فأقام بنمرة إلى الزوال يخطب بها الإمام أو نائبه خطبة قصيرة مفتتحة بالتكبير يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة وكلها أي كل عرفة موقف إلا بطن عرنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة" رواه ابن ماجة.وسن أن يجمع بعرفة من له الجمع بين الظهر والعصر تقديما و أن يقف راكبا مستقبل القبلة عند الصخرات وجبل الرحمة لقول جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ولا يشرع صعود جبل الرحمة ويقال له: جبل الدعاء ويكثر الدعاء بما ورد كقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا ويسر لي أمري ويكثر الاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والافتقار ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة.
ومن وقف أي حصل بعرفة ولو لحظة أو نائما أو مارا أو جاهلا أنها عرفة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر وهو أهل له أي للحج بأن يكون محرما بالحج ليس سكرانا ولا مجنونا ولا مغمى عليه صح حجه لأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف وإلا يقف
بعرفة أو وقف في غير زمنه أو لم يكن أهلا للحج فلا يصح حجه لفوات الوقوف المعتد به ومن وقف بعرفة نهارا ودفع منها قبل الغروب ولم يعد إليها قبله أي قبل الغروب ويستمر بها إليه فعليه دم أي شاة لأنه ترك واجبا فإن عاد إليها واستمر للغروب أو عاد قبل الفجر فلا دم عليه لأنه أتى بالواجب وهو الوقوف بالليل والنهار ومن وقف ليلا فقط فلا دم عليه قال في شرح المقنع: لا نعلم فيه خلافا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج" .
ثم يدفع بعد الغروب مع الإمام أو نائبه على طريق المأزمين إلى مزدلفة وهي ما بين المأزمين ووادي محسر ويسن كون دفعه بسكينة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس السكينة السكينة" ويسرع في الفجوة لقول أسامة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص أي أسرع لأن العنق انبساط السير والنص فوق العنق ويجمع بها أي بمزدلفة بين العشاءين أي يسن لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل إلى مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء من يجوز له الجمع قبل حط رحله وإن صلى المغرب بالطريق ترك السنة وأجزأه ويبيت بها وجوبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها وقال: "خذوا عني مناسككم" وله الدفع من مزدلفة قبل الإمام بعد نصف الليل لقول ابن عباس: كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى متفق عليه و الدفع قبله أي قبل نصف الليل فيه دم على غير سقاة ورعاة سواء كان عالما بالحكم أو جاهلا عامدا أو ناسيا كوصوله إليها أي إلى مزدلفة بعد الفجر فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا لا إن وصل إليها قبله أي قبل الفجر فلا دم عليه وكذا إن دفع مزدلفة قبل نصف الليل وعاد إليها قبل الفجر لا دم عليه.
فاذا أصبح بها صلى الصبح بغلس ثم أتى المشعر الحرام وهو جبل صغير بالمزدلفة سمي بذلك لأنه من علامات الحج فيرقاه أو يقف عنده ويحمد الله يكبره ويهلله ويقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} 1 الآيتين2 ويدعو حتى يسفر لأن في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفا عند المشعر الحرام حتى أسفر جدا فإذا أسفر سار قبل طلوع الشمس بسكينة.
فإذا بلغ محسرا وهو واد بين مزدلفة ومنى سمي بذلك لأنه يحسر سالكه أسرع قدر رمية حجر إن كان ماشيا وإلا حرك دابته لأنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بطن محسر حرك قليلا كما
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "198".
2- المقصود الآيتان "198-199" من سورة البقرة.
ذكره جابر وأخذ الحصا أي حصا الجمار من حيث شاء وكان ابن عمر يأخذ الحصا من جمع وفعله سعيد بن جبير وقال: كانوا يتزودون الحصا من جمع والرمي تحية منى فلا يبدأ قبله بشئ وعدده أي عدد حصا الجمار سبعون حصاة كل واحدة بين الحمص والبندق كحصا الحذف فلا تجزئ صغيرة جدا ولا كبيرة ولا يسن غسله.
فاذا وصل إلى منى وهي من وادى محسر إلى جمرة العقبة بدأ بجمرة العقبة فـ رماها بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد واحدة فلو رمى دفعة لم يجزئه إلا عن واحدة ولا يجزئ الوضع برفع يده اليمنى حال الرمي حتى يرى بياض إبطه لأنه أعون على الرمي ويكبر مع كل حصاة ويقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا. ولا يجزى الرمي بغيرها أي غير الحصا كجوهر وذهب ومعادن ولا يجزئ الرمي بها ثانيا لأنها استعملت في عبادة فلا تستعمل ثانيا كماء الوضوء ولا يقف عند جمرة العقبة بعد رميها لضيق المكان وندب أن يستبطن الوادي1 وأن يستقبل القبلة وأن يرمي على جانبه الأيمن وإن وقعت الحصاة خارج المرمى ثم تدحرجت فيه أجزأت ويقطع التلبية قبلها لقول الفضل بن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة لما أخرجاه في الصحيحين ويرمي ندبا بعد طلوع الشمس لقول جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده أخرجه مسلم ويجزئ رميها بعد نصف الليل من ليلة النحر لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت فإن غربت شمس يوم الأضحى قبل رميه رمى من غد بعد الزوال.
ثم ينحر هديا إن كان معه واجبا كان أو تطوعا فإن لم يكن معه هدي وعليه واجب اشتراه وإن لم يكن عليه واجب سن له أن يتطوع به وإذا نحر الهدي فرقه على مساكين الحرم.
ويحلق ويسن أن يستقبل القبلة ويبدأ بشقه الأيمن أو يقصر من جميع شعره لا من كل شعرة بعينها ومن لبد رأسه أو ضفره أو عقصه فكغيره وبأي شيء قصر الشعر أجزأه وكذا إن نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته لكن السنة الحلق أو التقصير وتقصر منه المرأة أي من شعرها قدر أنملة 2 فأقل لحديث ابن عباس يرفعه: "ليس على النساء حلق
ـــــــ
1- يستبطن الوادي: أي يسير في بطن الوادي فلا يصعد على حافته ولا يطلع إلى أعلاه.
2- أي مقدار سلامية واحدة من سلاميات الإصبع.
إنما على النساء التقصير" . رواه أبو داود فتقصر من كل قرن قدر أنملة أو أقل وكذا العبد ولا يحلق إلا بإذن سيده وسن لمن حلق أو قصر أخذ ظفر وشارب وعانة وإبط.
ثم إذا رمى وحلق أو قصر قد حل له كل شيء كان محظورا بالإحرام إلا النساء وطئا ومباشرة وقبلة ولمسا لشهوة وعقد نكاح لما روى سعيد عن عائشة مرفوعا: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء" .
والحلق والتقصير ممن لم يحلق نسك في تركهما دم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقصر ثم ليتحلل" ولا يلزم بتأخيره أي الحلق أو التقصير عن أيام منى دم ولا بتقديمه على الرمي والنحر ولا إن نحر أو طاف قبل رميه ولو عالما لما روى سعيد عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج" ويحصل التحلل الأول باثنين من حلق ورمي وطواف بما يفي مع سعي. ثم يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي.
فصل
ثم يفيض إلى مكة ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة ويقال: طواف الإفاضة فيعينه بالنية وهو ركن لا يتم حج إلا به فظاهره أنهما لا يطوفان للقدوم ولو لم يكونا دخلا مكة قبل وكذا المتمتع يطوف للزيارة فقط كمن دخل المسجد وأقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد واختاره الموفق والشيخ تقي الدين وابن رجب ونص الإمام واختاره الأكثر أن القارن والمفرد إن لم يكونا دخلاها قبل يطوفان للقدوم برمل ثم للزيارة وأن المتمتع يطوف للقدوم ثم للزيارة بلا رمل.
وأول وقته أي وقت طواف الزيارة بعد نصف ليلة النحر لمن وقف قبل ذلك بعرفات وإلا فبعد الوقوف ويسن فعله في يومه لقول ابن عمر: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر تفق عليه ويستحب أن يدخل البيت فيكبر في نواحيه ويصلي فيه ركعتين بين العمودين تلقاء وجهه ويدعو الله عز وجل وله تأخيره أي تأخير الطواف عن أيام منى لأن آخر وقته غير محدود كالسعي.
ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا لأن سعيه أولا كان للعمرة فيجب أن يسعى للحج أو كان غيره أي غير متمتع بأن كان قارنا أو مفردا ولم يكن سعى مع طواف القدوم فإن كان سعى بعده لم يعده لأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك غير الطواف لأنه صلاة ثم قد حل له كل شيء حتى النساء وهذا هو التحلل الثاني ثم
يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع 1 منه ويرش على بدنه وثوبه ويستقبل القبلة ويتنفس ثلاثا ويدعو بما ورد فيقول: بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاءا من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك.
ثم يرجع من مكة بعد الطواف والسعي ف يصلي ظهر يوم النحر بمنى و يبيت بمنى ثلاث ليال إن لم يتعجل وليلتين إن تعجل في يومين ويرمي الجمرات بمنى أيام التشريق فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف سبع حصيات متعاقبات يفعل كما تقدم في جمرة العقبة ويجعلها أي الجمرة عن يساره ويتأخر قليلا بحيث لا يصيبه الحصا ويدعو طويلا رافعا يديه ثم يرمي الوسطى مثلها بسبع حصيات ويتأخر قليلا ويدعو طويلا لكن يجعلها عن يمينه ثم يرمي جمرة العقبة بسبع كذلك ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها يفعل هذا الرمي للجمار الثلاث على الترتيب والكيفية المذكورين في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال فلا يجزئ قبله ولا ليلا لغير سقاة ورعاة والأفضل الرمي قبل صلاة الظهر ويكون مستقبل القبلة في الكل مرتبا أي يجب ترتيب الجمرات الثلاث على ما تقدم.
فإن رماه كله أي رمى حصا الجمار السبعين كله في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأه الرمي أداء لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي ويرتبه بنيته فيرمي لليوم الأول بنية ثم للثاني مرتبا وهلم جرا كالفوائت من الصلاة فإن أخره أي الرمي عنه أي عن ثالث أيام التشريق فعليه دم أو لم يبت بها أي بمنى فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا ولا مبيت على سقاة ورعاة ويخطب الإمام ثاني أيام التشريق خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير والتوديع ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب ولا إثم عليه وسقط عنه رمي اليوم الثالث ويدفن حصاه وإلا يخرج قبل الغروب لزمه المبيت والرمي من الغد بعد الزوال قال ابن المنذر: وثبت عن عمر أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس.
ـــــــ
1- يشرب حتى يرتوي.
طواف الوداعفإذا أراد الخروج من مكة بعد عوده إليها لم يخرج حتى يطوف للوداع إذا فرغ من جميع أموره لقول ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت طوافا إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه. ويسمى طواف الصدر فإن أقام بعد
طواف الوداع
أو اتجر بعده أعاده إذا عزم على الخروج وفرغ من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وإخوانه وإن تركه أي طواف الوداع غير حائض رجع إليه بلا إحرام إن لم يبعد عن مكة ويحرم بعمرة إن بعد عن مكة فيطوف ويسعى للعمرة ثم للوداع فإن شق الرجوع على من بعد عن مكة دون مسافة قصر أو بعد عنها مسافة قصر فأكثر فعليه دم ولا يلزمه الرجوع إذا أو لم يرجع إلى الوداع فعليه دم لتركه نسكا واجبا وإن أخر طواف الزيارة ونصه: أو القدوم فطافه عند الخروج أجزأ عن طواف الوداع لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولا وداع على حائض ونفساء إلا أن تطهر قبل مفارقة البنيان.
ويقف غير الحائض والنفساء بعد الوداع في الملتزم وهو أربعة أذرع بين الركن أي الذي به الحجر الأسود والباب ويلصق به وجهه وصدره وذراعيه وكفيه مبسوطتين داعيا بما ورد ومنه: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري وهذا أوان انصرافي إن أنت أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فاصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقي طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير يدعو بما أحب ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي الحطيم أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو ثم يشرب من ماء زمزم ويستلم الحجر ويقبله ثم يخرج وتقف الحائض والنفساء ببابه أي باب المسجد وتدعو بالدعاء الذي سبق.
زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلمويستحب زيارة قبر الني صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما لحديث: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي" رواه الدارقطني فيسلم عليه مستقبلا له ثم يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو بما أحب ويحرم الطواف بها ويكره التمسح بالحجرة ورفع الصوت عندها واذا أدار وجهه إلى بلده قال: لا إله إلا الله آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
صفة العمرةوصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات إذا كان مارا أو من أدنى الحل كالتنعيم من مكي ونحوه ممن بالحرم و لا يجوز أن يحرم بها من الحرم لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم
وينعقد وعليه دم فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر حل لإتيانه بأفعالها وتباح العمرة كل وقت فلا تكره بأشهر الحج ولا يوم النحر أو عرفة ويكره الإكثار والموالاة بينها باتفاق السلف قاله في المبدع ويستحب تكرارها في رمضان لأنها تعدل حجة وتجزىء العمرة كل وقت من التنعيم وعمرة القارن عن عمرة الفرض التي هي عمرة الإسلام.
وأركان الحج أربعة: الإحرام الذي هو نية الدخول في النسك لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" والوقوف بعرفة لحديث: "الحج عرفة" وطواف الزيارة لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1 والسعي لحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" رواه أحمد.
وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات المعتبر له وقد تقدم والوقوف بعرفة إلى الغروب على من وقف نهارا والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ليالي أيام التشريق على ما مر و المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل لمن أدركها قبله على غير السقاة والرعاة والرمي مرتبا والحلاق أو التقصير والوداع والباقي من أفعال الحج وأقواله السابقة سنن كطواف القدوم والمبيت بمنى ليلة عرفة والاضطباع والرمل في موضعهما وتقبيل الحجر والأذكار والأدعية وصعود الصفا والمروة.
وأركان العمرة ثلاثة: إحرام وطواف وسعي كالحج.
وواجباتها: الحلاق أو التقصير والإحرام من ميقاتها لما تقدم. فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه حجا كان أو عمرة كالصلاة لا تنعقد إلا بالنية ومن ترك ركنا غيره أي غير الإحرام أو نيته حيث اعتبرت لم يتم نسكه أي لم يصح إلا به أي بذلك الركن المتروك هو أو نيته المعتبرة وتقدم أن الوقوف بعرفة يجزئ حتى من نائم وجاهل أنها عرفة ومن ترك واجبا ولو سهوا فعليه دم فان عدمه فكصوم المتعة أو سنة أي ومن ترك سنة فلا شيء عليه قال في الفصول وغيره: ولم يشرع الدم عنها لأن جبران الصلاة أدخل فيتعدى إلى صلاته من صلاة غيره. كما لو سها الإمام فإنه يتعدى إلى صلاة المأموم.
ـــــــ
1- سورة الحج من الآية "29".
9-
باب الفوات والإحصار
الفوات: كالفوت مصدر فات: إذا سبق فلم يدرك. والإحصار مصدر أحصره مرضا كان أو عدوا ويقال: حصره أيضا.ومن فاته الوقوف بأن طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فاته الحج لقول جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع قال أبو الزبير: فقلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم رواه الأثرم وتحلل بعمرة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر إن لم يختر البقاء على إحرامه ليحج من قابل ويقضي الحج الفائت ويهدى هديا يذبحه في قضائه إن لم يكن اشترط في ابتداء إحرامه لقول عمر لأبي أيوب لما فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإن أدركت الحج قابلا فحج وأهد ما استيسر من الهدي رواه الشافعي والقارن وغيره سواء ومن اشترط بأن قال في ابتداء إحرامه: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فلا هدي عليه ولا قضاء إلا أن يكون الحج واجبا فيؤديه وإن أخطأ الناس فوقفوا في الثامن أو العاشر أجزأهم وإن أخطأ بعضهم فاته الحج.
ومن أحرم فـ صده عن البيت ولم يكن له طريق إلى الحج أهدى أي نحر هديا في موضعه ثم حل لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 1 سواء كان في حج أو عمرة أو قارنا وسواء كان الحصر عاما في جميع الحاج أو خاصا بواحد كمن حبس بغير حق فإن فقده أي الهدي صام عشرة أيام بنية التحلل ثم حل ولا إطعام في الإحصار وظاهر كلامه كالخرقي وغيره عدم وجوب الحلق أو التقصير وقدمه في المحرر و شرح ابن رزين.
وإن صد عن عرفة دون البيت تحلل بعمرة ولا شيء عليه لأن قلب الحج عمرة جائز بلا حصر فمعه أولى وإن حصر عن طواف الإفاضة فقط لم يتحلل حتى يطوف وإن حصر عن واجب لم يتحلل وعليه دم.
وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة أو ضل الطريق بقي محرما حتى يقدر على البيت لأنه لا يستفيد بالإحلال التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو فإن قدر على البيت بعد فوات الحج تحلل بعمرة ولا ينحر هديا معه إلا بالحرم هذا إن لم يكن اشترط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني وإلا فله التحلل مجانا في الجميع.
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "196".
باب الهدي والأضحية والعقيقة
مدخل
10- باب الهدي والأضحية والعقيقةالهدي: ما يهدى للحرم من نعم وغيرها سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله سبحانه وتعالى والأضحية بضم الهمزة وكسرها واحدة الأضاحي ويقال: ضحية وأجمعالمسلمون على مشروعيتهما.
أفضلها إبل ثم بقر إن أخرج كاملا لكثرة الثمن ونفع الفقراء ثم غنم وأفضل كل جنس أسمن فأغلى ثمنا لقوله تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} 1 فأشهب وهو الأملح أي الأبيض أو ما بياضه أكثر من سواده فأصفر فأسود. ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن ما له ستة أشهر كما يأتي وثني سواه أي سوى الضأن من إبل وبقر ومعز فلا بل أي السن المعتبر لإجزاء إبل خمس سنين ولبقر سنتان ولمعز سنة ولضأن نصفها أي نصف سنة لحديث: "الجذع من أضحيته" رواه ابن ماجة.
وتجزىء الشاة عن واحد وأهل بيته وعياله لحديث أبي أيوب كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون قال في شرح المقنع: حديث صحيح و تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة لقول جابر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منهما رواه مسلم وشاة أفضل من سبع بدنة أو بقرة ولا تجزىء العوراء بينة العور بأن انخسفت عينها في الهدي ولا في الأضحية ولا العمياء و لا العجفاء الهزيلة التي لا مخ فيها و لا العرجاء التي لا تطيق مشيا مع صحيحة و لا الهتماء التي ذهبت ثناياها من أصلها2 و لا الجداء أي ما شاب ونشف ضرعها3 و لا المريضة بينة المرض4 لحديث البراء بن عازب: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والعجفاء التي لا تنقي" رواه أبو داود والنسائي و لا العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها بل تجزئ البتراء التي لا ذنب لها خلقة أو مقطوعا والصمعاء وهي صغيرة الأذن والجماء التي لم يخلق لها قرن وخصي غير مجبوب بأن قطع خصيتاه فقط و يجزئ مع الكراهة ما بأذنه أو قرنه خرق أو شق أو قطع أقل من النصف أو النصف فقط على ما نص على في رواية حنبل وغيره قال في شرح المنتهى: وهذا هو المذهب.
والسنة نحر الابل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه كما رواه أبو داود عن عبدالرحمن بن
ـــــــ
1- سورة الحج من الآية "32".
2- لأنها هرمة ولا تصح الأضحية بهرمة فهذه لا يستساغ لحمها فإن وزع لحمها على فقراء مكة أو غيرهم لم يستفيدوا منه.
3- لأن مرضها قد يحمل الضرر لمن يأكله.
4- ظلعها: عرجها ف سيرها.
سابط و السنة أن يذبح غيرها أي غير الإبل على جنبها الأيمن موجهة إلى القبلة ويجوز عكسها أي ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح لأنه لم يتجاوز محل الذبح ولحديث: "ما أنهر الدم1 وذكر اسم الله عليه فكل" . ويقول حين يحرك يده بالنحر أو الذبح: بسم الله وجوبا والله أكبر استحبابا اللهم هذا منك ولك ولا بأس بقوله: اللهم تقبل من فلان ويذبح واجبا قبل نفل ويتولاها أي الأضحية صاحبها إن قدر أو يوكل مسلما ويشهدها أي يحضر ذبحها إن وكل فيه وإن استناب ذميا في ذبحها أجزأت مع الكراهة.
ووقت الذبح لأضحية وهدي نذر أو تطوع أو متعة أو قران بعد صلاة العيد بالبلد فإن تعددت فيه فبأسبق صلاة فإن فاتت الصلاة بالزوال ذبح وإن كان بمحل لا يصلى فيه العيد فالوقت بعد قدره أي قدر زمن صلاة العيد ويستمر وقت الذبح إلى آخر يومين بعده أي بعد يوم العيد قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبح في اليوم الأول عقب الصلاة والخطبة وذبح الإمام أفضل ثم ما يليه.
ويكره الذبح في ليلتيهما أي ليلتي اليومين بعد يوم العيد خروجا من خلاف من قال بعدم الإجزاء فيهما فإن فات وقت الذبح قضى واجبه وفعل به كالأداء وسقط التطوع لفوات وقته ووقت ذبح واجب بفعل محظور من حينه فإن أراد فعله لعذر فله ذبحه قبله وكذا ما وجب لترك واجب وقته من حينه.
فصل
ويتعينان أي الهدي والأضحية بقوله: هذا هدي أو أضحية أو لله لأنه لفظ يقتضي الإيجاب فترتب عليه مقتضاه وكذا يتعين بإشعاره أو بتقليده بنيته لا بالنية حال الشراء أو السوق كإخراجه مالا للصدقة به
وإذا تعينت هديا أو أضحية لم يجز بيعها ولا هبتها لتعلق حق الله تعالى بها كالمنذور عتقه عتق تبرر إلا أن يبدلها بخير منها فيجوز وكذا لو نقل الملك فيها وشراء خيرا منها جاز نصا واختاره الأكثر لأن المقصود نفع الفقراء وهو حاصل بالبدل ويركب لحاجة فقط بلا ضرر.
ويجز صوفها ونحوه كشعرها ووبرها إن كان جزه أنفع لها ويتصدق به وإن كان بقاؤه أنفع لها لم يجز جزه ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ولا يعطى جازرها 2
ـــــــ
1- ما أنهر الدم: ما أساله.
2- جازرها: أي القصاب لأنه لو أعطي جزءا منها لكانت غير تامة بل نقص منها الجزء الذي أخذه القصاب ولذا يعطى أجره مالا أو من غيرها مما ذبح للأكل.
أجرته منها لأنه معاوضة ويجوز أن يهدي له أو يتصدق عليه منها.
ولايبيع جلدها ولا شيئا منها سواء كانت واجبة أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح بل ينتفع به أي بجلدها أو يتصدق به استحبابا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي وتصدقوا واستمتعوا بجلودها" وكذا حكم جلها. وإن تعيبت بعد تعينها ذبحها وأجزأته وإن تلفت أو عابت بفعله أو تفريطه لزمه البدل كسائر الأمانات إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين كفدية ومنذور في الذمة عين عنه صحيحا فتعيب وجب عليه نظيره مطلقا وكذا لو سرق أو ضل ونحوه وليس له استرجاع معيب وضال ونحوه وجده.
والأضحية سنة مؤكدة على المسلم وتجب بنذر وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها كالهدي والعقيقة لحديث: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة الدم" .
وسن أن يأكل من الأضحية ويهدي ويتصدق أثلاثا فيأكل هو وأهل بيته الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث حتى من الواجة وما ذبح ليتيم ومكاتب لا هدية ولا صدقة منه وهدي التطوع والمتعة والقران كالأضحية والواجب بنذر أو تعيين لا يأكل منه وإن أكلها أي الأضحية إلا أوقية تصدق بها جاز لأن الأمر بالأكل والإطعام مطلق وإلا يتصدق منها بأوقية بأن أكلها كلها ضمنها أي الأوقية بمثلها لحما لأنه حق يجب عليه أداؤه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة.
ويحرم على من يضحي أو يضحى عنه أن يأخذ في العشر الأول من ذي الحجة من شعره أو ظفره أو بشرته شيئا إلى الذبح لحديث مسلم عن أم سلمة مرفوعا: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي" وسن حلق بعده.
فصل العقيقة عن المولود
: 1تسن العقيقة أي الذبيحة عن المولود في حق أب ولو معسرا ويقترض قال أحمد: العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عق عن الحسن والحسين وفعله أصحابه عن الغلام شاتان متقاربتان سنا وشبها فإن عدم فواحدة وعن الجارية شاة لحديث أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" .
ـــــــ
1- العقيقة ذبيحة عن المولود تضحى في اليوم السابع لمولده ويقص شعره ويسمى.
تذبح يوم سابعه أي سابع المولود ويحلق فيه رأس ذكر ويتصدق بوزنه ورقا1 ويسمى فيه ويسن تحسين الاسم ويحرم بنحو عبد الكعبة وعبد النبي ويكره بنحو حرب ويسار وأحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن فإن فات الذبح يوم السابع ففي أربعة عشر فان فات ففي احدى وعشرين من ولادته يروى عن عائشة ولا تعتبر الأسابيع بعد ذلك فيعق في أي يوم أراد.
تنزع جدولا جمع جدل بالدال المهملة أي أعضاء ولا يكسر عظمها تفاؤلا بالسلامة كذلك قالت عائشة رضي الله عنها وطبخها أفضل ويكون منه بحلو.
وحكمها أي حكم العقيقة فيما يجزئ ويستحب ويكره والأكل والهدية والصدقة كالأضحية لكن يباع جلد ورأس وسواقط ويتصدق بثمنه إلا أنه لا يجزئ فيها أي في العقيقة شرك في دم فلا تجزئ بدنة ولا بقرة إلا كاملة قال في النهاية: وأفضله شاة.
ولا تسن الفرعة بفتح الفاء والراء نحر أول ولد الناقة ولا تسن العتيرة أيضا وهي ذبيحة رجب لحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا فرع ولا عتيرة" متفق عليه ولا يكرهان والمراد بالخبر نفي كونهما سنة.
ـــــــ
1- يتصدق بوزن شعره فضة أي دراهم من العملة الورقية في أيامنا وفي أيامنا يتركون الولد يمسك من الأوراق النقدية ما يقدر على إمساكه ثم يتصدقون بهذا المال.
كتاب الجهاد
مدخل
مدخل
كتاب الجهادمصدر جاهد أي: بالغ في قتال عدوه وشرعا: قتال الكفار.وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس وإلا أثم الكل ويسن بتأكد مع قيام من يكفي به وهو أفضل متطوع به ثم النفقة فيه. ويجب الجهاد إذا حضره أي حضر صف القتال أو حصر بلده عدو أو احتيج إليه أو استنفره الامام حيث لا عذر له لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} 1 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} 2 وإذا نودي: الصلاة جامعة لحادثة يشاور فيها لم يتأخر أحد بلا عذر.
وتمام الرباط أربعون يوما لقوله صلى الله عليه وسلم: "تمام الرباط أربعون يوما" رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب والرباط: لزوم ثغر لجهاد تقوية للمسلمين وأقله ساعة وأفضله بأشد الثغور خوفا وكره نقل أهله إلى مخوف3 وإذا كان أبواه مسلمين حرين أو أحدهما كذلك لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" صححه الترمذي ولا يعتبر إذنهما لواجب ولا إذن جد وجدة وكذا لا يتطوع به مدين آدمي لا وفاء له إلا مع إذن أو رهن محرز أو كفيل ملئ.
ويتفقد الإمام وجوبا جيشه عند المسير ويمنع من لا يصلح لحرب من رجال وخيل كـ المخذل الذي يفند الناس عن القتال ويزهدهم فيه والمرجف كالذي يقول: هلكت سرية المسلمين وما لهم مدد أو طاقة. وكذا من يكاتب بأخبارنا أو يرمي بيننا بفتن. ويعرف الأمير عليهم العرفاء ويعقد لهم الألوية والرايات ويتخير لهم المنازل ويحفظ مكامنها
ـــــــ
1- سورة الأنفال من الآية "45".
2- سورة التوبة من الآية "38".
3- أي إلى مكان فيه خطر على حياتهم من حيوان أو عدو أو ما شابه ذلك من أخطار.
ويبعث العيون ليتعرف حال العدو وله أن ينفل أي يعطي زيادة على السهم في بدايته أي عند دخوله أرض العدو ويبعث سرية تغير ويجعل لها الربع فأقل بعد الخمس وفي الرجعة أي إذا رجع من أرض العدو بعث سرية ويجعل لها الثلث فأقل بعده أي بعد الخمس ويقسم الباقي في الجيش كله لحديث حبيب بن مسلمة شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة رواه أبو داود ويلزم الجيش طاعته والنصح والصبر معه لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 1 ولا يجوز التعلف والاحتطاب و الغزو إلا بإذنه إلا أن يفاجئهم عدو يخافون كلبه بفتح اللام أي شره وأذاه لأن المصلحة تتعين في قتاله إذا ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق ولو قتل بلا قصد صبي ونحوه ولا يجوز قتل صبي ولا امرأة وخنثى وراهب وشيخ فان وزمن وأعمى لا رأي لهم ولم يقاتلوا أو يحرضوا ويكونون أرقاء بسبي والمسبي غير بالغ منفردا أو مع أحد أبويه مسلم وإن أسلم أو مات أحد أبوي غير بالغ بدارنا فمسلم وكغير البالغ من بلغ مجنونا.
وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب ويجوز قسمتها فيها لثبوت أيدينا عليها وزوال ملك الكفار عنها والغنيمة: ما أخذ من مال حربي قهرا بقتال وما ألحق به مشتقة من الغنم وهو الربح وهي لمن شهد الوقعة أي الحرب من أهل القتال بقصده قاتل أو لم يقاتل حتى تجار العسكر وأجرائهم المستعدين للقتال لقول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة" فيخرج الإمام أو نائبه الخمس بعد دفع سلب لقاتل وأجرة جمع وحفظ وحمل وجعل من دل على مصلحة ويجعله خمسة أسهم منها: سهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مصرفه كفئ وسهم لبني هاشم وبني المطلب حيث كانوا غنيهم وفقيرهم وسهم لفقراء اليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل يعم من بجميع البلاد حسب الطاقة ثم يقسم باقي الغنيمة وهو أربعة أخماسها بعد إعطاء النفل والرضخ لنحو قن ومميز على ما يراه للراجل سهم ولو كافرا وللفارس ثلاثة سهم له وسهمان لفرسه إن كان عربيا لأنه صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه وسهم له متفق عليه عن ابن عمر وللفارس على فرس غير عربي سهمان فقط ولا يسهم لأكثر من فرسين إذا كان مع رجل خيل ولا شيء لغيرها من البهائم لعدم وروده عنه صلى الله عليه وسلم ويشارك الجيش سراياه التي بعثت منه من دار الحرب فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم قال ابن المنذر روينا أن
ـــــــ
1- سورة النساء من الآية "59".
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وترد سراياهم على قعدهم" وإن بعث الإمام من دار الإسلام جيشين أو سريتين انفردت كل واحدة بما غنمت.
والغال من الغنيمة 1 وهو من كتم ما غنمه أو بعضه لا يحرم سهمه و يحرق وجوبا ر حله كله ما لم يخرج عن ملكه إلا السلاح والمصحف وما فيه روح وآلته ونفقته وكتب علم وثيابه التي عليه وما لا تأكله النار فله قال يزيد بن يزيد بن جابر: السنة في الذي يغل أن يحرق رحله رواه سعيد في سننه.
وإذا غنموا أي المسلمون أرضا بأن فتحوها عنوة بالسيف فأجلوا عنها أهلها خير الإمام بين قسمها بين الغانمين ووقفها على المسلمين بلفظ من ألفاظ الوقف ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي بيده من مسلم وذمي يكون أجرة لها في كل عام كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتحه من أرض الشام والعراق ومصر وكذا الأرض التي جلوا عنها خوفا منا أو صالحناهم على أنها لنا ونقرها معهم بالخراج بخلاف ما صولحوا على أنها لهم ولنا الخراج عنها فهو كجزية تسقط بإسلامهم.
والمرجع في مقدار الخراج والجزية حين وضعهما إلى اجتهاد الإمام الواضع لهما فيضعه بحسب اجتهاده لأنه أجرة يختلف باختلاف الأزمنة فلا يلزم الرجوع إلى ما وضعه عمر رضي الله عنه وما وضعه هو أو غيره من الأئمة ليس لأحد تغييره ما لم يتغير السبب كما في الأحكام السلطانية لأن تقديره ذلك حكم والخراج على أرض لها ماء تسقى به ولو لم تزرع لا على مساكن.
ومن عجز عن عمارة أرضه الخراجية أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها بإجارة أو غيرها لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم ويجري فيها الميراث فتنتقل إلى وارث من كانت بيده إلى الوجه الذي كانت عليه في يد مورثه فإن آثر بها أحدا صار الثاني أحق بها كالمستأجرة ولا خراج على مزارع مكة والحرم.
وما أخذ بحق غير قتال من مال مشرك أي كافر بغير قتال كجزية وخراج وعشر تجارة من حربي أو نصفه من ذمي اتجر إلينا وما تركوه فزعا منا أو تخلف عن ميت لا وارث له وخمس خمس الغنيمة فـ هو فيء سمي بذلك لأنه رجع من المشركين إلى المسلمين وأصل الفيء الرجوع يصرف في مصالح المسلمين ولا يختص بالمقاتلة ويبدأ بالأهم
ـــــــ
1- الغال من الغنيمة: الذي يستأثر منها لنفسه فلا يدخل في المقاسم أو يسرق شيئا من المغانم وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرق متاعه ويضرب ويمنع سهمه من الغنائم.
فالأهم من سد بثق وتعزيل نهر وعمل قنطرة ورزق نحو قضاة ويقسم فاضل بين أحرار المسلمين غنيهم وفقيرهم.
فصل الأمان والهدنة
ويصح الأمان من مسلم عاقل مختار غير سكران ولو قنا1 أو أنثى بلا ضرر في عشر سنين فأقل منجزا ومعلقا من إمام لجميع المشركين ومن أمير لأهل بلدة جعل بإزائهم ومن كل أحد لقافلة وحصن صغيرين عرفا ويحرم به قتل ورق وأسر ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الإسلام لزم إجابته ثم يرد إلى مأمنه.والهدنة: عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة ولو طالت بقدر الحاجة وهي لازمة يجوز عقدها لمصلحة حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين ولو بمال منا ضرورة.
ويجوز شرط رد رجل جاء منهم مسلما للحاجة وأمره سرا بقتالهم والفرار منهم ولو هرب قن فأسلم لم يرد وهو حر ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال وقود وحد ويجوز قتل رهائنهم إن قتلوا رهائننا وإن خيف نقض عهدهم أعلمهم أنه لم يبق بينه وبينهم عهد قبل الإغارة عليهم.
ـــــــ
1- القن: رقيق الأرض يباع معها وقد يطلق اللفظ على العبد إطلاقا إنما الأصل فيه ما ذكرنا.
باب عقد الذمة وأحكامها
مدخل
1- باب عقد الذمة وأحكامهاالذمة لغة: العهد والضمان والأمان ومعنى عقد الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة والأصل فيها قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1.لا يعقد أي لا يصح عقد الذمة لغير المجوس لأنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصارت لهم بذلك شبهة ولأنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر رواه البخاري عن عبدالرحمن بن عوف وأهل الكتابين اليهود والنصارى على اختلاف طوائفهم ومن تبعهم فتدين لهم بأحد الدينين كالسامرة والفرنج والصابئين لعموم قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
ـــــــ
1- سورة التوبة "29".
فصل في أحكام أهل الذمة
ويلزم الإمام أخذهم أي أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه كالزنا دون ما يعتقدون حله كالخمر لأن عقد الذمة لا يصح إلا بالتزام أحكام الإسلام كما تقدم وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما1.ويلزمهم التميز عن المسلمين بالقبور بأن لا يدفنوا في مقابرنا والحلي بحذف مقدم رؤوسهم لا كعادة الأشراف ونحو شد زنار ولدخول حمامنا بجلجل2 أو نحو خاتم رصاص برقابهم3 ولهم ركوب غير الخيل كالحمير بغير سرج فيركبون بإكاف وهو البرذعة لما روى الخلال أن عمر أمر بجز نواصي أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض4.
ـــــــ
1- بعد أن أثبت لهم أن حكم الله في التوراة أيضا هو الرجم للزاني.
2- الجلجل هو الجرس الصغير.
3- وذلك ليفرق الناس بينهم وبين المسلمين فإن شربوا خمرا أو أتوا عملا فاضحا لم ينسب عملهم للمسلمين.
4- لأن في التدريب على ركوب الخيل استعداد للقتال وهم قوم يخشى خروجهم على المسلمين لأنهم من الأعداء وإن انتهت عداوتهم مؤقتا بالصلح فمتى سنحت لهم فرصة الخروج على المسلمين خرجوا كما رأينا من فعل نصارى لبنان وتعاونهم مع الروم في إثارة القلاقل في عهد الدولة العباسية وتعاونهم مع الصليبيين في عصر الدويلات.
ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا بدأتهم بالسلام أو بـ كيف أصبحت أو أمسيت أو حالك ولا تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم وشهادة أعيادهم لحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ويمنعون من إحداث كنائس وبيع 1 ومجتمع لصلاة في دارنا و من بناء ما انهدم منها ولو ظلما لما روى كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها" و يمنعون أيضا من تعلية بنيان على مسلم ولو رضي لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى" وسواء لاصقه أو لا إذا كان يعد له جارا له فإن علا وجب نقضه و لا يمنعون من مساواته أي البنيان له أي لبناء المسلم لأن ذلك لا يفضي إلى العلو وما ملكوه عاليا من مسلم لا ينقض ولا يعاد عاليا لو انهدم. و يمنعون أيضا من إظهار خمر وخنزير فإن فعلوا أتلفناهما و من إظهار ناقوس وجهر بكتابهم ورفع صوت على ميت ومن قراءة قرآن ومن إظهار أكل وشرب بنهار رمضان وان صولحوا في بلادهم على جزية أو خراج لم يمنعوا شيئا من ذلك وليس لكافر دخول مسجد ولو أذن له مسلم وإن تحاكموا إلينا فلنا الحكم والترك لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2 و إن اتجر إلينا حربي أخذ منه العشر وذمي نصف العشر لفعل عمر رضي الله عنه مرة في السنة فقط ولا تعشر أموال المسلمين.
وإن تهود نصراني أو عكسه بأن تنصر يهودي لم يقر لأنه انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه أشبه المرتد ولم يقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول فان أباهما هدد وحبس وضرب قيل للإمام: أنقتله ؟ قال: لا.
ـــــــ
1- لأن هذا قد يساعد على نشر دينهم بين ظهراني المسلمين وهذا قد يشجع بعض ضعفاء العقول على متابعتهم لدينهم وخروجهم عن الإسلام وفي هذا إثارة للفساد في صفوف المسلمين.
2- سورة المائدة من الآية "42".
فصل فيما ينقض العهد
فان أبى الذمي بذل الجزية أو الصغار أو التزام حكم الإسلام أو قاتلنا أو تعدى على مسلم بقتل أو زنا بمسلمة وقياسه اللواط أو تعدى بـ قطع طريق أو تجسيس أو ايواء جاسوس أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه أو دينه بسوء انتقض عهده لأن هذا ضرر يعم المسلمين وكذا لو لحق بدار حرب لا إن أظهر منكرا أو قذف مسلما وينقض بما تقدم عهده دون عهد نسائه وأولاده فلا ينتقض عهدهم تبعا له لأن النقض وجد منه فاختص به وحل دمه ولو قال: تبت فيخير فيه الإمام كأسير حربي بين قتل ورق ومن وفداء بمال أو أسير مسلم و حل ماله لأنه لا حرمة له في نفسه بل هو تابع لمالكه فيكون فيئا وان أسلم حرم قتله.كتاب البيع
شروط البيع
كتاب البيعجائز بالإجماع لقوله تعالى: {وأحل الله البيع} 1.وهو في اللغة: أخذ شيء وإعطاء شيء قاله ابن هبيرة مأخوذ من الباع لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء. وشرعا: مبادلة مال ولو في الذمة بقول أو معاطاة والمال: عين مباحة النفع بلا حاجة أو منفعة مباحة مطلقا كممر في دار أو غيرها بمثل أحدهما متعلق بمبادلة أي بمال أو منفعة مباحة فتناول تسع صور: عين بعين أو دين أو منفعة ودين بعين أو دين بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق أو بمنفعة منفعة بعين أو دين أو منفعة وقوله: على التأبيد يخرج الإجارة غير ربا وقرض فلا يسميان بيعا وان وجدت فيهما المبادلة لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2 والمقصود الأعظم في القرض الإرفاق وإن قصد فيه التملك أيضا.
وينعقد البيع بإيجاب وقبول بفتح القاف وحكي ضمها بعده أي بعد الإيجاب فيقول البائع: بعتك أو ملكتك أو نحوه بكذا ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت ونحوه و يصح القبول أيضا قبله أي قبل الإيجاب بلفظ أمر أو ماض مجرد عن استفهام ونحوه لأن المعنى حاصل به ويصح القبول متراخيا عنه أي عن الإيجاب ما داما في مجلسه لأن حالة المجلس كحالة العقد فإن تشاغلا بما يقطعه عرفا أو انقضى المجلس قبل القبول بطل لأنهما صارا معرضين عن البيع وإن خالف القبول الإيجاب لم ينعقد وهي أي الصورة المذكورة أي الإيجاب والقبول الصيغة القولية للبيع و ينعقد أيضا بمعاطاة وهي الصيغة الفعلية مثل أن يقول: أعطني بهذا خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول البائع: خذ هذا بدرهم فيأخذه المشتري أو وضع ثمنه عادة وأخذه عقبه فتقوم المعطاة مقام
ـــــــ
1- سورة البقرة من الآية "275".
2- سورة النساء من الآية "6".
الإيجاب والقبول للدلالة على الرضى لعدم التعبد فيه وكذا حكم الهبة والهدية والصدقة ولا بأس بذوق المبيع حال الشراء.
ويشترط للبيع سبعة شروطأحدها التراضي منهما أي من المتعاقدين فلا يصح البيع من مكره بلا حق لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" رواه ابن حبان فإن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه صح لأنه حمل عليه بحق وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء منه وصح.
و الشرط الثاني أن يكون العاقد وهو البائع والمشتري جائز التصرف أي حرا مكلفا رشيدا فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي فإن أذن صح لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى} 1 أي اختبروهم وإنما يتحقق بتفويض البيع والشراء إليه ويحرم الإذن بلا مصلحة وينفذ تصرفهما في الشىء اليسير بلا إذن وتصرف العبد بإذن سيده2.
و الشرط الثالث أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة بخلاف الكلب لأنه إنما يقتنى لصيد أو حرث أو ماشية وبخلاف جلد ميتة ولو مدبوغا لأنه إنما يباح في يابس والعين هنا مقابل المنفعة فتتناول ما في الذمة كالبغل والحمار لأن الناس يتبايعون ذلك في كل عصر من غير نكير و كـ دود القز لأنه حيوان طاهر يقتنى لما يخرج منه3 و كـ بزرة لأنه ينتفع به في المال و كـ الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد كالفهد والصقر لأنه يباح نفعها واقتناؤها مطلقا إلا الكلب فلا يصح بيعه لقول ابن مسعود: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب متفق عليه ولا بيع آلة لهو وخمر ولو كانا ذميين والحشرات لا يصح بيعها لأنه لا نفع فيها إلا علقا لمص الدم وديدانا لصيد السمك وما يصاد عليه كبومة شباشا والمصحف لا يصح بيعه ذكر في المبدع أن الأشهر لا يجوز بيعه قال أحمد: لا نعلم في بيع المصحف رخصة قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعها ولأن تعظيمه واجب وفي بيعه ابتذال له ولا يكره إبداله وشراؤه استنقاذا وفي كلام بعضهم يعني من كافر ومقتضاه أنه إن كان البائع
ـــــــ
1- النساء من الآية "6".
2- فإن لم يكن سيده قد أذن له فبيعه وشراؤه باطل ونكاحه أيضا بغير إذن مولاه باطل لأن الشرط في البيع والشراء والنكاح أن يكون الشخص مالكا لحق التصرف في السلعة التي يبيعها وللمال الذي يشتري به وفي حالة العبودية فإن العبد لا يملك هذا الحق إن لم يأذن له سيده وفي النكاح لا يملك الولاية على نفسه.
3- وهو الحرير.
مسلما حرم الشراء منه لعدم دعاء الحاجة إليه بخلاف الكافر ومفهوم التنقيح و المنتهى يصح بيعه لمسلم. والميتة لا يصح بيعها لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم بيع الميتة والخمر والأصنام" متفق عليه ويستثنى منها السمك1 والجراد و لا السرجين النجس لأنه كالميتة وظاهره أنه يصح بيع الطاهر منه قاله في المبدع و لا الأدهان النجسة ولا المتنجسة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه" وللأمر بإراقته ويجوز الاستصباح بها أي بالمتنجسة على وجه لا تتعدى نجاسته كالانتفاع بجلد الميتة المدبوغ في غير مسجد لأنه يؤدي إلى تنجيسه ولا يجوز الاستصباح بنجس العين ولا يجوز بيع سم قاتل.
و الشرط الرابع أن يكون العقد من مالك للمعقود عليه أو من يقوم مقامه كالوكيل والوالي لقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" رواه ابن ماجة والترمذي و صححه وخص منه المأذون فيه لقيامه مقام المالك فإن باع ملك غيره بغير إذنه لم يصح ولو مع حضوره وسكوته ولو أجازه المالك ما لم يحكم به من يراه أو اشترى بعين ماله أي مال غيره شيئا بلا إذنه لم يصح ولو أجيز لفوات شرطه وإن اشترى له أي لغيره في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح العقد لأنه متصرف في ذمته وهي قابلة للتصرف ويصير ملكا لمن الشراء له من حين العقد بالإجازة لأنه اشترى لأجله ونزل المشتري نفسه منزلة الوكيل فملكه من اشتري له كما لو أذن ولزم العقد الم شترى بعدمها أي عدم الإجازة لأنه لم يأذن فيه فتعين كونه للمشتري ملكا كما لو لم ينو غيره وإن سمى في العقد من اشترى له لم يصح وإن باع ما يظنه لغيره فبان وارثا أو وكيلا صح ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين وأما المساكن فيصح بيعها لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة قي زمن عمر وبنوها مساكن وتبايعوها من غير نكير ولو كانت آلتها من أرض العنوة أو كانت موجودة حال الفتح وكأرض العنوة في ذلك ما جلوا عنه فزعا منا وما صولحوا على أنه لنا ونقره معهم بالخراج بخلاف ما صولحوا على أنها لهم كالحيرة وألسيس وبانقياء و أرض بني صلوبا من أراضي العراق فيصح بيعها كالتي أسلم أهلها عليها كالمدينة بل يصح أن تؤجر أرض العنوة ونحوها لأنها مؤجرة في أيدي أربابها بالخراج المضروب عليها في كل عام وإجارة المؤجرة جائزة.
ـــــــ
1- لقوله صلى الله عليه وسلم عن البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" .
ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجاراتها لما روى سعيد بن منصور عن مجاهد مرفوعا: "رباع مكة حرام بيعها حرام إجارتها" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "مكة لا تباع رباعها ولا تكرى بيوتها" رواه الأثرم فإن سكن بأجرة لم يأثم بدفعها جزم به في المغني وغيره.
ولا يصح بيع نقع البئر وماء العيون لأن ماءها لا يملك لحديث: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار" رواه أبو داود وابن ماجة بل رب الأرض أحق به من غيره لأنه صار في ملكه ولا يصح بيع ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك لما تقدم وكذا معادن جارية كنفط وملح وكذا لو عشش في أرضه طير لأنه لم يملكه به فلم يجز بيعه ويملكه آخذه لأنه من المباح لكن لا يجوز دخول ملك غيره بغير إذنه وحرم منع مستأذن بلا ضرر.
و الشرط الخامس أن يكون المعقود عليه مقدورا على تسليمه لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم فلم يصح بيعه فلا يصح بيع آبق علم خبره أو لا لما رواه أحمد عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق و لا بيع شارد و لا طير في هواء ولو ألف الرجوع إلا أن يكون بمغلق ولو طال زمن أخذه و لا بيع سمك في ماء لأنه غرر ما لم يكن مرئيا بمحوز يسهل أخذه منه لأنه معلوم يمكن تسليمه, ولا يصح بيع مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه من غاصبه لأنه لا يقدر على تسليمه فإن باعه من غاصبه أو قادر على أخذه صح لعدم الغرر فإن عجز بعد فله الفسخ.
و الشرط السادس أن يكون المبيع معلوما عند المتعاقدين لأن جهالة المبيع غرر ومعرفة المبيع إما برؤية له أو لبعضه الدال عليه مقارنة أو متقدمة بزمن لا يتغير فيه المبيع ظاهرا ويلحق بذلك ما عرف بلمسه أو شمه أو ذوقه أو صفة تكفي في السلم فتقوم مقام الرؤية في بيع ما يجوز السلم فيه خاصة ولا يصح بيع الأنموذج بان يريه صاعا مثلا ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه ويصح بيع الأعمى وشراؤه بالوصف واللمس والشم والذوق فيما يعرف به كتوكيله فان اشترى ما لم يره بلا وصف أو راه وجهله بأن لم يعلم ما هو أو وصف له بما لا يكفي سلما لم يصح البيع لعدم العلم بالمبيع ولا يباع حمل في بطن ولبن في ضرع منفردين للجهالة فإن باع ذات لبن أو حمل دخلا تبعا.
ولا يباع مسك في فأرته 1 أي الوعاء الذي يكون فيه للجهالة ولا نوى في تمر للجهالة و لا صوف على ظهر لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه في حديث ابن عباس ولأنه متصل
ـــــــ
1- لأنه بيع غرر قد يوجد وقد لا يوجد.
بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه و لا بيع فجل ونحوه مما المقصود منه مستتر بالأرض قبل قلعه للجهالة.
ولا يصح بيع الملامسة بأن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا و لا المنابذة كأن يقول: أي ثوب نبذته إلي أي طرحته فهو عليك بكذا لقول أبي هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة متفق عليه وكذا بيع الحصاة كارمها فعلى أي ثوب وقعت فلك بكذا ونحوه ولا بيع عبد غير معين من عبيد ونحوه كشاة من قطيع وشجرة من بستان للجهالة ولو تساوت القيم.
ولا يصح استثناؤه إلا معينا فلا يصح بعتك هؤلاء العبيد إلا واحدا للجهالة ويصح إلا هذا ونحوه لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم قال الترمذي: حديث صحيح وان استثنى بائع من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه صح لفعله صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة إلى المدينة رواه أبو الخطاب فإن امتنع المشتري من ذبحه لم يجبر بلا شرط ولزمته قيمته على التقريب وللمشتري الفسخ بعيب يختص هذا المستثنى وعكسه أي عكس استثناء الأطراف في الحكم استثناء الشحم والحمل ونحوه مما لا يصح إفراده بالبيع فيبطل البيع باستثنائه وكذا لو استثنى منه رطلا من لحم أو نحوه.
ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ وبيض لدعاء الحاجة لذلك ولكونه مصلحة لفساده بإزالته و يصح بيع الباقلاء ونحوه كالحمص والجوز واللوز في قشره يعني ولوتعدد قشره لأنه مفرد مضاف فيعم وعبارة الأصحاب في قشريه لأنه مستور بحائل من أصل الخلقة أشبه الرمان و يصح بيع الحب المشتد في سنبله لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الاشتداد غاية للبيع وما بعد الغاية يخالف ما قبلها فوجب زوال المنع.
و الشرط السابع: أن يكون الثمن معلوما للمتعاقدين أيضا كما تقدم لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالمبيع فان باعه برقمه أي ثمنه المكتوب عليه وهما يجهلانه أو أحدهما لم يصح للجهالة أو باعه بألف درهم ذهبا وفضة لم يصح لأن مقدار كل جنس منهما مجهول أو باعه بما ينقطع به السعر أي بما يقف عليه من غير زيادة لم يصح للجهالة أو باعه بما باع به زيد وجهلاه أو جهله أحدهما لم يصح البيع للجهل بالثمن وكذا لو باعه كما يبيع الناس أو بدينار أو درهم مطلق وثم نقود متساوية رواجا وإن لم يكن إلا واحدا وغلب صح وصرف إليه ويكفي علم الثمن بالمشاهدة كصبرة من دراهم أو فلوس ووزن صنجة وملء كيل مجهولين. وإن باع ثوبا أو صبرة وهي الكومة المجموعة
من الطعام أو باع قطيعا كل ذراع من الثوب بكذا أو كل قفيز من الصبرة بكذا أو كل شاة من القطيع بدرهم صح البيع ولو لم يعلما قدر الثوب والصبرة والقطيع لأن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهي الكيل والعد والذرع.
تفريق الصفقةوإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح لأن من للتبعيض و كل للعدد فيكون مجهولا بخلاف ما سبق لأن المبيع الكل لا البعض فانتفت الجهالة وكذا لو باعه من الثوب كل ذراع بكذا أو من القطيع كل شاة بكذا لم يصح لما ذكر أو باعه بمائة درهم إلا دينارا لم يصح وعكسه بأن باع بدينار أو دنانير إلا درهما لم يصح لأن قيمة المستثنى مجهولة فيلزم الجهل بالثمن إذ استثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولا أو باع معلوما ومجهولا يتعذر علمه كهذه الفرس وما في بطن أخرى ول م يقل: كل منهما بكذا لم يصح البيع لأن الثمن يوزع على المبيع بالقيمة والمجهول لا يمكن تقويمه فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم وكذا لو باعه بمائة ورطل خمر وإن قال كل منهما: بكذا صح في المعلوم بثمنه للعلم به فان لم يتعذر علم مجهول أبيع مع معلوم صح في المعلوم بقسطه من الثمن لعدم الجهالة وهذه مسائل تفريق الصفقة الثلاث.
والثانية أشار إليها بقوله: ولو باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد مشترك بينهما أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين متساويين لهما صح البيع في نصيبه بقسطه من الثمن لفقد الجهالة في الثمن لانقسامه على الأجزاء ولم يصح في نصيب شريكه لعدم إذنه.
والثالثة ذكرها بقوله: وان باع عبده وعبد غيره بغير إذنه أو باع عبدا وحرا أو باع خلا وخمرا صفقة واحدة بثمن واحد صح البيع في عبده بقسطه وفي الخل بقسطه من الثمن لأن كل واحد منهما له حكم يخصه فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما ويقدر خمر خلا وحر عبدا ليتقسط الثمن ولمشتر الخيار إن جهل الحال بين إمساك ما يصح فيه البيع بقسطه من الثمن وبين رد المبيع لتبعيض الصفقة عليه وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه أو باع عبديه لاثنين أو اشترى عبدين من اثنين أو وكيلهما بثمن واحد صح وقسط الثمن على قيمتيهما وكبيع إجارة ورهن وصلح ونحوها.
فصل
ولا يصح البيع ولا الشراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني أي الذي عند المنبر عقب جلوس الإمام على المنبر لأنه الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختص به
الحكم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1 والنهي يقتضي الفساد وكذا قبل النداء لمن منزله بعيد في وقت وجوب السعي عليه وتحرم المساومة والمناداة إذن لأنهما وسيلة للبيع المحرم وكذا لو تضايق وقت مكتوبة.
ويصح بعد النداء المذكور البيع لحاجة كمضطر إلى طعام أو سترة ونحوهما إذا وجد ذلك يباع ويصح أيضا النكاح وسائر العقود كالقرض والرهن والضمان والإجارة وإمضاء بيع خيار لأن ذلك يقل وقوعه فلا تكون إباحته ذريعة إلى فوات الجمعة أو بعضها بخلاف البيع.
ولا يصح بيع عصير ونحوه ممن يتخذه خمرا لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2 ولا بيع سلاح في فتنة بين المسلمين لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه قاله أحمد قال: وقد يقتل به ولا يقتل به وكذا بيعه لأهل حرب أو قطاع طريق لأنه إعانة على معصية ولا بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليهما المسكر ولا قدح لمن يشرب به ولا جوز وبيض لقمار ونحو ذلك ولا بيع عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه لأنه نوع من استدامة ملكه عليه لما فيه من الصغار فمنع من ابتدائه فإن كان يعتق عليه بالشراء صح لأنه وسيلة إلى حريته.
وان أسلم قن في يده أي يد كافر أو عند مشتريه منه ثم رده لنحو عيب أ جبر على إزالة ملكه عنه بنحو بيع أو هبة أو عتق لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 3 ولا تكفي مكاتبته لأنها لا تزيل ملك سيده عنه ولا بيعه بخيار لعدم انقطاع علقه عنه وإن جمع في عقد بين بيع وكتابة بأن باع عبده شيئا وكاتبه بعوض واحد صفقة واحدة أو جمع بين بيع وصرف أو إجارة أو خلع أو نكاح بعوض واحد صح البيع وما جمع إليه في غير المكاتبة فيبطل البيع لأنه باع ماله لماله وتصح هي لأن بطلان وجد في البيع فاختص به ويقسط العوض عليهما أي على المبيع وما جمع إليه بالقيم.
ويحرم بيعه على بيع أخيه المسلم كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك
ـــــــ
1- سورة الجمعة من الآية "9".
2- سورة المائدة من الآية "2".
3- سورة النساء من الآية "141".
مثلها بتسعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" 1 " و" يحرم أيضا "شراؤه على شرائه كان يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة" لأنه في معنى البيع عليه المنهي عنه ومحل ذلك إذا وقع في زمن الخيارين "ليفسخ" المقول له العقد " ويعقد معه" وكذا سومه على سومه بعد الرضى صريحا لا بعد رد. "ويبطل العقد فيهما" أي في البيع على بيعه والشراء على شرائه ويصح في السوم على سومه والإجارة كالبيع في ذلك ويحرم بيع حاضر لباد ويبطل إن قدم ليبيع سلعته بسعر يومها جاهلا بسعرها وقصده الحاضر وبالناس حاجة إليها.
"ومن باع ربويا بنسيئة" أي مؤجل وكذا حال لم يقبض "واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئه" كثمن بر اعتاض عنه برا أو غيره من المكيلات لم يجز لأنه ذريعة لبيع الربوي بالربوي نسيئة وإن اشترى من المشتري طعاما بدراهم وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء لم يسلم إليه لكن قاصه جاز "أو اشترى شيئا" ولو غير ربوي "نقدا بدون ما باع به نسيئة" أو حالا لم يقبض "لا بالعكس لم يجز" لأنه ذريعة إلى الربا ليبيع ألفا بخمسمائة وتسمى: مسألة العينة وقوله لا بالعكس يعني: لا إن اشتراها بأكثر مما باعه به فإنه جائز كما لو اشتراه بمثله وأما عكس مسألة العينة بأن باع سلعة بنقد ثم اشتراه بأكثر منه نسيئة فنقل أبو داود: يجوز بلا حيلة ونقل حرب: أنها مثل مسألة العينة وجزم به المصنف في الإقناع وصاحب المنتهى وقدمه في المبدع وغيره قال في شرح المنتهى: وهو المذهب لأنه يتخذ وسيلة للربا كمسألة العينة وكذا العقد الأول فيهما حيث كان وسيلة إلى الثاني فيحرم ولا يصح وإن اشتراه أي اشترى المبيع في مسألة العينة أو عكسها "بغير جنسه" بأن باعه بذهب ثم اشتراه بفضة أو بالعكس أو اشتراه "بعد قبض ثمنه أو بعد تغير صفته" بأن هزل العبد أو نسي صنعة "أو" تخرق الثوب "أو اشتراه من غير مشتريه" بأن باعه مشتريه أو وهبه ونحوه ثم اشتراه بائعه ممن صار إليه جاز "أو اشتراه أبوه" أي أبو بائعه "أو ابنه" أو مكاتبه أو زوجته "جاز" الشراء ما لم يكن حيلة على التوصل إلى فعل مسألة العينة ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس وتسمى: مسالة التورق ويحرم التسعير والاحتكار في قوت آدمي ويجبر على بيعه كما يبيع الناس ولا يكره إدخار قوت أهله ودوابه ويسن الإشهاد على البيع2.
ـــــــ
1 لأن في ذلك منافسة غير مشروعة تقود إلى العداوة والبغضاء والأفضل الابتعاد عن مسببات العداوة والبغضاء بين المسلمين.
2 كي لا ينكر أحدهما إن رأى ما هو أفضل له من بعد ذلك.
1-
باب الشروط في البيع
والشرط هنا: إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة ومحل المعتبر منها صلب العقد وهي ضربانذكر الأول منها بقوله: "منها صحيح" وهو ما وافق مقتضى العقد وهو ثلاثة أنواع.أحدهما - شرط مقتضى البيع كالتقابض وحلول الثمن فلا يؤثر فيه لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد فلذلك اختصه المصنف.
الثاني - شرط ما كان من مصلحة العقد " كالرهن المعين" أو الضامن المعين "و" كـ " تأجيل ثمن" أو بعضه إلى مدة معلومة و كشرط صفة في المبيع كـ "كون العبد كاتبا أو خصيا أو مسلما" أو خياطا مثلا "والأمة بكرا" أو تحيض والدابة هملاجة والفهد أو نحوه صيودا فيصح فإن وفى بالشرط وإلا فلصاحبه الفسخ أو أرش فقد الصفة وإن تعذر رد تعين أرش وإنا شرط صفة فبان أعلى منهما فلا خيار.
"و" الثالث - شرط بائع نفعا معلوما في مبيع غير وطء ودواعيه "نحو أن يشترط البائع سكنى الدار" أو نحوها "شهرا وحملان البعير" أو نحوه المبيع إلى "موضع معين" لما روى جابر أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة متفق عليه. واحتج في التعليق والانتصار وغيرهما بشراء عثمان من صهيب أرضا وشرط وقفها عليه وعلى عقبه ذكره في المبدع ومقتضاه صحة الشرط المذكور ولبائع إجارة وإعارة ما استثنى وإن تعذر انتفاعه بسبب مشتر فعليه أجرة المثل له " أو شرط المشتري على البائع" نفعا معلوما في مبيع "كحمل الحطب" المبيع إلى موضع معلوم "أو تكسيره أو خياطة الثوب" المبيع "أو تفصيله" إذا بين نوع الخياطة أو التفصيل واحتج أحمد لذلك بما روي أن محمد بن سلمة اشترى من نبطي جرزة حطب وشارطه على حملها ولأنه بيع وإجارة فالبائع كالأجير وإن تراضيا على أخذ أجرته ولو بلا عذر جاز. "وإن جمع بين شرطين" من غير النوعين الأولين كحمل حطب وتكسيره وخياطة ثوب وتفصيله "بطل البيع" لما روى أبو داود والترمذي عن عبدالله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والضرب الثاني من الشروط أشار إليه بقوله: "ومنها فاسد" وهو ما ينافي مقتضى العقد وهو ثلاثة أنواع.
أحدها : "يبطل العقد" من أصله "كاشتراط أحدهما على الأخر عقدا آخر كسلف" أي
سلم " وقرض وبيع وإجارة وصرف" للثمن أو غيره وشركة وهو بيعتان في بيعة المنهي عنه قاله أحمد.
الثاني : ما يصح معه البيع وقد ذكره بقوله: "وإن شرط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو" شرط أن "لا يبيع" المبيع "ولا يهبه ولا يعتقه أو" شرط " إن عتق فالولاء له" أي للبائع " أو" شرط البائع على المشتري "أن يفعل ذلك" أي أن يبيع المبيع أو يهبه ونحوه " بطل الشرط وحده" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" متفق عليه والبيع صحيح لأنه صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة أبطل الشرط ولم يبطل العقد "لا إذا شرط" البائع "العتق" على المشتري فيصح الشرط أيضا ويجبر المشتري على العتق إن أباه والولاء له فإن أصر أعتقه حاكم وكذا شرط رهن فاسد كخمر ومجهول وخيار أو أجل مجهولين ونحو ذلك فيصح البيع ويفسد الشرط "أو" إن قال البائع: "بعتك" كذا بكذا "على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث" ليال مثلا أو على أن ترهنه بثمنه "وإلا" تفعل ذلك "فلا بيع بيننا" وقبل المشتري "صح" البيع والتعليق كما لو شرط الخيار وينفسخ إن لم يفعل.
"و" الثالث : ما لا ينعقد معه بيع نحو "بعتك إن جئتني بكذا أو" إن "رضي زيد" بكذا وكذا تعليق القبول "أو يقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك" في محله "وإلا فالرهن لك لا يصح البيع" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن من صاحبه" رواه الأثرم وفسره أحمد بذلك وكذا كل بيع علق على شرط مستقبل غير إن شاء الله وغير بيع العربون بأن يدفع بعد العقد شيئا ويقول: إن أخذت المبيع أتممت الثمن وإلا فهو لك فيصح لفعل عمر رضي الله عنه والمدفوع للبائع إن لم يتم البيع والإجارة مثله.
"وإن باعه" شيئا "وشرط" في البيع "البراءة من كل عيب مجهول" أو من عيب كذا إن كان "لم يبرأ" البائع فإن وجد المشتري بالمبيع عيبا فله الخيار لأنه إنما يثبت بعد البيع فلا يسقط بإسقاطه قبله وإن سمي العيب أو أبرأه بعد العقد برئ. "وإن باعه دارا" أو نحوها مما يذرع "على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر" من عشرة "أو أقل" منها "صح" البيع والزيادة للبائع والنقص عليه "ولمن جهله" أي الحال من زيادة أو نقص "وفات غرضه الخيار" فلكل منهما الفسخ ما لم يعط البائع الزيادة للمشتري مجانا في المسألة الأولى أو يرضى المشتري بأخذه بكل الثمن في الثانية لعدم فوات الغرض وإن تراضيا على المعاوضة عن الزيادة أو النقص جاز ولا يجبر أحدهما على ذلك وإن كان المبيع نحو صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أقل أو أكثر صح البيع ولا خيار والزيادة للبائع والنقص عليه.
2-
باب الخيار وقبض المبيع والإقالة
الخيار اسم مصدر اختار أي طلب خير الأمرين من الإمضاء والفسخ."وهو" ثمانية "أقسام: الأول: خيار المجلس" بكسر اللام: موضع الجلوس والمراد هنا: مكان التبايع "يثبت" خيار المجلس "في البيع1 لحديث ابن عمر يرفعه: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" متفق عليه لكن يستثنى من البيع الكتابة وتولي طرفي العقد وشراء من يعتق عليه أو اعترف بحريته قبل الشراء "و" كالبيع "الصلح بمعناه" كما لو أقر بدين أو عين ثم صالحه عنه بعوض وقسمة التراضي والهبة على عوض لأنها نوع من البيع
و كبيع أيضا اجارة لأنها عقد معاوضة أشبهت البيع و كذا "الصرف والسلم" لتناول البيع لهما دون سائر العقود كالمساقاة والحوا لة والوقف والرهن والضمان.
"ولكل من المتبايعين" ومن في معناهما ممن تقدم "الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما" من مكان التبايع فإن كانا في مكان واسع كصحراء فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات "وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فبأن يفارقه من بيت إلى بيت" أو إلى نحو صفة وإن كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد افترقا وإن كانا في سفينة كبيرة فبصعود أحدهما أعلاها إن كانا أسفل أو بالعكس وان كانت صغيرة فبخروج أحدهما منها ولو حجز بينهما بحاجز كحائط أو ناما لم يعد تفرقا لبقائهما بأبدانهما بمحل العقد ولو طالت المدة "وإن نفياه" أي الخيار بأن تبايعا على أن لا خيار بينهما لزم بمجرد العقد "أو أسقطاه" أي الخيار بعد العقد "سقط" لأن الخيار حق للعاقد فسقط بإسقاطه "وإن أسقطه" أحدهما أي أحد المتبايعين أو قال لصاحبه: اختر سقط خياره "وبقي خيار الأخر" لأنه لم يحصل منه إسقاط لخياره بخلاف صاحبه وتحرم الفرقة خشية الفسخ وينقطع الخيار بموت أحدهما لا بجنونه "وإذا مضت مدته" بأن تفرقا كما تقدم "لزم البيع" بلا خلاف.
القسم "الثاني" من أقسام الخيار: خيار الشرط بـ "أن يشترطاه" أي يشترط المتعاقدان الخيار في صلب العقد أو بعده في مدة خيار المجلس أو الشرط "مدة معلومة ولو طويلة"
ـــــــ
1 وقد قال صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" فإن تفرقا انقضى الخيار وثبت البيع إلا أن اشترط أحدهما الخيار إلى أجل معين ووافق الآخر على هذا الشرط فهما على شروطهما والأفضل أن يشهدا على ذلك فإن لم يشهدا كان القول قول البائع فإن رفض المشتري قول البائع ألغيت الصفقة كلها.
لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطه" ولا يصح اشتراطه بعد لزوم العقد ولا إلى أجل مجهول ولا في عقد حيلة ليربح في قرض فيحرم ولا يصح البيع.
"وابتداؤها" أي ابتداء مدة الخيار "من العقد" إن شرط في العقد وإلا فمن حين اشترط "وإذا مضت مدته" أي مدة الخيار ولم يفسخ لزم البيع "أو قطعاه" أي قطع المتعاقدان الخيار " بطل" ولزم البيع كما لو لم يشترطاه.
"ويثبت" خيار الشرط "في البيع والصلح" والقسمة والهبة "وما بمعناه" أي بمعنى البيع كالصلح بعوض عن عين أو دين مقر به وقسمة التراضي وهبة الثواب لأنها أنواع من البيع "و" في "الإجارة في الذمة" كخياطة ثوب أو في إجارة "على مدة لا تلي العقد" كسنة ثلاث في سنة اثنين إذا شرط مدة تنقضي قبل دخول سنة ثلاث فإن وليت المدة العقد كشهر من الآن لم يصح شرط الخيار لئلا يؤدي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها أو استيفائها في مدة الخيار وكلاهما غير جائز ولا يثبت خيار الشرط في غير ما ذكر كصرف وسلم وضمان وكفالة ويصح شرطه للمتعاقدين ولو وكيلين "وان شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح" الشرط وثبت له الخيار وحده لأن الحق لهما فكيفما تراضيا به جاز و إن شرطاه "إلى الغد أو الليل صح و يسقط بأوله" أي أول الغد أو الليل لأن إلى لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها وإلى صلاة يسقط بدخول وقتها "و" يجوز "لمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة" صاحبه الأخر و مع "سخطه" كالطلاق "والملك" في البيع "مدة الخيارين" أي خيار الشرط وخيار المجلس "للمشتري" سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع" رواه مسلم فجعل المال للمبتاع باشتراطه وهو عام في كل بيع فشمل بيع الخيار "وله" أي للمشتري "نماؤه" أي نماء المبيع "المنفصل" كالثمرة "وكسبه" في مدة الخيارين ولو فسخاه بعد لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه لحديث: "الخراج بالضمان" صححه الترمذي وأما النماء المتصل كالسمن فإنه يتبع العين مع الفسخ لتعذر انفصاله.
"ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع و" لا في "عوضه المعين فيها" أي في مدة الخيارين "بغير إذن الآخر" فلا يتصرف المشتري في المبيع بغير إذن البائع إلا معه كأن آجره له ولا يتصرف البائع في الثمن المعين زمن الخيارين الا بإذن المشتري أو معه كأن استأجر منه به عينا هذا إن كان التصرف "بغير تجربة المبيع" فإن تصرف بها لتجربته كركوب دابة لينظر سيرها وحلب دابة ليعلم قدر لبنها لم يبطل خياره لأن ذلك هو المقصود من الخيار كاستخدام الرقيق ليختبره "إلا عتق المشتري" لمبيع زمن الخيار فينفذ مع الحرمة ويسقط
خيار البائع حينئذ "وتصرف المشتري" في المبيع بشرط الخيار له في زمنه بنحو وقف أو بيع أو هبة أو لمس لشهوة "فسخ لخياره" وإمضاء للبيع لأنه دليل الرضى به بخلاف تجربة المبيع واستخدامه وتصرف البائع في المبيع إذا كان الخيار له وحده ليس فسخا للبيع ويبطل خيارهما مطلقا بتلف مبيع بعد قبض وبإتلاف مشتر إياه مطلقا سواء كان لهما أو لأحدهما أي "ومن مات منهما" أي من البائع والمشتري بشرط الخيار بطل خياره فلا يورث إن لم يكن طالب به قبل موته كالشفعة وحد القذف1.
"الثالث" من أقسام الخيار: خيار الغبن "إذا غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة" لأنه لم يرد الشرع بتحديده فرجع فيه إلى العرف وله ثلاث صور إحداها: تلقي الركبان لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار" رواه مسلم. "و" الثانية المشار إليها بقوله: "بزيادة الناجش" 2 الذي لا يريد شراء ولو بلا مواطأة ومنه أعطيت كذا وهو كاذب لتغريره المشتري.
الثالثة ذكرها بقوله: "والمسترسل" وهو من جهل القيمة ولا يحسن يماكس من استرسل إذا اطمأن واستأنس فإذا غبن ثبت له الخيار ولا أرش مع إمساك والغبن محرم وخياره على التراخي.
"الرابع" من أقسام الخيار: "خيار التدليس" من الدلسة وهي الظلمة فيثبت بما يزيد به الثمن "كتسويد شعر الجارية وتجعيده" أي جعله جعدا وهو ضد السبط "وجمع ماء الرحى" أي الماء الذي تدور به الرحى "وإرساله عند عرضها" للبيع لأنه إذا أرسله بعد حبسه اشتد دوران الرحى حين ذلك فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في الثمن فإذا تبين له التدليس ثبت له الخيار وكذا تصرية اللبن3 في ضرع بهيمة الأنعام لحديث أبي هريرة يرفعه: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك
ـــــــ
1 وهذان لا يسقطان بالموت بل يرثهما الورثة مع ما ورثاه من مال الميت.
2 والنجش هو المزايدة على سعر السلعة لرفع ثمنها على المشتري الآخر بدون أن يكون لدى الناجش نية الشراء وقد يتفق مع البائع على ذلك وقد يفعله دون اتفاق بينهما على ذلك لاستجلاب النفع لصديق أو قريب من غريب.
3 وتصرية اللبن هو ترك النعجة أو الماعز أو البقرة أو الناقة دون حلب أياما عديدة كي يجتمع اللبن في ضرعها فيطن المشتري أن هذا اللبن كله نتاج يوم واحد وأن هذه عادتها فهذا المشتري متى اطلع على لحقيقة كان بالخيار فله أن يستقيل من البيع ويرد المبتاع من الأنعام للبائع ويستعيد الثمن ويؤدي له شيئا مقابل ما استفاده من اللبن.
وإن شاء ردها وصاعا من تمر" متفق عليه. وخيار التدليس على التراخي إلا المصراة فيخير ثلاثة أيام منذ علم بين إمساك بلا أرش ورد مع صاع تمر سليم إن حلبها فإن عدم التمر فقيمته ويقبل رد اللبن بحاله.
"الخامس" من أقسام الخيار: "خيار العيب" وما بمعناه "وهو" أي العيب "ما ينقص قيمة المبيع" عادة فما عده التجار في عرفهم منقصا أنيط الحكم به وما لا فلا والعيب كمرضه على جميع حالاته في جميع الحيوانات "وفقد عضو" كأصبع "وسن أو زيادتهما وزنا الرقيق" إذا بلغ عشرا من عبد أو أمة وسرقته وشربه مسكرا "وإباقه وبوله في الفراش" وكونه أعسر لا يعمل بيمينه عملها المعتاد وعدم ختان ذكر كبير وعثرة مركوب وحرنه ونحوه وبخر وحال وخرس وطرش وكلف وقرع وحمل أمة وطول مدة نقل ما في دار مبيعة عرفا وكونها ينزلها الجند
لا سقوط آيات يسيرة بمصحف ونحوه ولا حمى ولا صداع يسيرين ولا ثيوبة أو كفر أو عدم حيض ولا معرفة غناء "فإذا علم المشتري العيب بعد العقد أمسكه بإرشه" إن شاء لأن المتبايعين تراضيا على أن العوض في مقابلة المبيع فكل جزء منه يقابله جزء من الثمن ومع العيب فات جزء من المبيع فله الرجوع ببدله "وهو" الأرش وهو أي الأرش "قسط ما بين قيمة الصحة والعيب" فيقوم المبيع صحيحا ثم معيبا ويؤخذ قسط ما بينهما من الثمن فإن قوم صحيحا بعشرة ومعيبا بثمانية رجع بخمس الثمن قليلا كان أو كثيرا وإن أفضى أخذ الأرش إلى ربا كشراء حلي فضة بزنته دراهم أمسك مجانا إن شاء "أو رده وأخذ الثمن" المدفوع للبائع وكذا لو أبرأ المشتري من الثمن أو وهب له ثم فسخ البيع لعيب أو غيره رجع بالثمن على البائع وان علم المشتري قبل العقد بعيب المبيع أو حدث العيب بعد العقد فلا خيار له إلا في مكيل ونحوه تعيب قبل قبضه.
"وان تلف المبيع" المعيب "أو عتق العبد" أو لم يعلم عيبه حتى أصبغ الثوب أو نسج أو وهب المبيع أو باعه أو بعضه "تعين الأرش" لتعذر الرد وعدم وجود الرضى به ناقصا وإن دلس البائع بأن علم العيب وكتمه عن المشتري فمات المبيع أو أبق ذهب على البائع لأنه غره ورد للمشتري ما أخذه "وان اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز هند وبيض نعام فكسره فوجده فاسدا فأمسكه فله أرشه وان رده رد أرش كسره" الذي تبقى له معه قيمة وأخذ ثمنه لأن عقد البيع يقتضي السلامة ويتعين أرش مع كسر لا تبقى معه قيمة وإن كان المبيع "كبيض دجاج" فكسره فوجده فاسدا "رجع بكل الثمن" لأنا تبينا فساد العقد من أصله لكونه وقع على ما لا نفع فيه وليس عليه رد فاسد ذلك إلى بائعه لعدم الفائدة فيه "وخيار عيب متراخ" لأنه لدفع ضرر متحقق فلم يبطل بالتأخير "ما لم يوجد دليل الرضى" كتصرف فيه بإجارة أو إعارة أو نحوهما عالما بعيبه واستعماله لغير تجربة.
"ولا يفتقر" الفسخ للعيب "إلى حكم ولا رضى ولا حضور صاحبه" أي البائع كالطلاق ولمشتر مع غيره معيبا أو بشرط خيار الفسخ في نصيبه ولو رضي الآخر والمبيع بعد فسخ أمانة بيد مشتر "وإن اختلفا" أي البائع والمشتري في معيب "عند من حدث العيب" مع الاحتمال "فقول مشتر مع يمينه" إن لم يخرج عن يده لأن الأمل عدم القبض في الجزء الفائت فكان القول قول من ينفيه فيحلف أنه اشتراه و به العيب أو أنه ما حدث عنده ويرده
"وان لم يحتمل الأقوال أحدهما" كالإصبع الزائدة والجرح الطري الذي لا يحتمل أن يكون قبل العقد "قبل قول المشتري" في المثال الأول والبائع في المثال الثاني "بلا يمين" لعدم الحاجة إليه ويقبل قول البائع أن المبيع المعيب ليس المردود إلا في خيار شرط فقول مشتر وقول قابض في ثابت في ذمة من ثمن وقرض وسلم ونحوه إن لم يخرج عن يده وقول مشتر في عيب ثمن معين بعقد ومن اشترى متاعا فوجده خيرا مما اشترى فعليه رده إلى بائعه.
"السادس" من أقسام الخيار: "خيار في البيع بتخيير الثمن متى بان" الثمن "أقل أو كثر" مما أخبر به "ويثبت" في أنواعه الأربعة: "في التولية" وهي بيع برأس المال1 "و" في "الشركة" وهي بيع بعضه بقسطه من الثمن وأشركتك ينصرف إلى نصفه "و" في "المرابحة" وهي بيعه بثمنه وربح معلوم2 وإن قال: على أن أربح في كل عشرة درهما كره "و" في " المواضعة" وهي بيعه برأس ماله وخسران معلوم "ولا بد في جميعها" أي الصور الأربعة " من معرفة المشتري" والبائع "رأس المال" لأن ذلك شرط لصحة البيع فإن فات لم يصح وما ذكره من ثبوت الخيار في الصور الأربع تبع فيه المقنع وهو رواية والمذهب أنه متى بان رأس المال أقل حط الزائد ويحط قسطه في مرابحة وينقصه في مواضعة ولا خيار للمشتري ولا تقبل دعوى بائع غلطا في رأس المال بلا بينة.
"وإن اشترى" السلعة "بثمن مؤجل أو" اشترى "ممن لا تقبل شهادته" له كأبيه وابنه وزوجته أو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه حيلة أو محاباة أو لرغبة تحضه أو موسم فات "أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن" الذي اشتراها به "ولم يبين ذلك" للمشتري "في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد" كالتدليس والمذهب فيما إذا بان الثمن مؤجلا أنه يؤجل على المشتري ولا خيار لزوال الضرر كما في الإقناع و المنتهى
"وما يزاد في ثمن
ـــــــ
1 أي دون ربح.
2 أي يظهر البائع للمشتري القيمة الأصلية التي اشتراه بها ويطلب على ذلك ربحا معينا يحدده أو نسبة معينة كـ 10% ربحا على رأس المال.
أو يحط منه" أي من الثمن "في مدة خيار" مجلس أو شرط "أو يؤخذ أرش العيب أو الجناية عليه" أي على المبيع ولو بعد لزوم البيع "يلحق برأس ماله و" يجب أن "يخبر به" كأصله وكذا ما يزاد في مبيع أو أجل أو خيار أو ينقص منه في مدة خيار فيلحق بعقد وإن كان ذلك أي ما ذكر من زيادة أو حط بعد "لزوم البيع" بفوات الخيارين "لم يلحق به" أي بالعقد فلا يلزم أن يخبر به ويخبر بأرش العيب والجناية عليه مطلقا لأنه بدل جزء من المبيع لا إن جنى المبيع ففداه المشتري لأنه لم يزد به المبيع ذاتا ولا قيمة "وإن أخبر بالحال" بأن يقول: اشتريته بكذا وزدته أو نقصته كذا ونحوه فحسن لأنه أبلغ في الصدق ولا يلزم الإخبار بأخذ نماء واستخدام ووطء إن لم ينقصه وإن اشترى شيئا بعشرة مثلا وعمل فيه صنعة أو دفع أجرة كيله أو مخزنه أخبر بالحال ولا يجوز أن يجمع ذلك ويقول: تحصل علي بكذا وما باعه اثنان مرابحة فثمنه بحسب ملكيهما لا على رأس ماليهما.
"السابع" من أقسام الخيار: "خيار" يثبت "لاختلاف المتبايعين" في الجملة "فإذا اختلفا" هما أو ورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر في قدر الثمن بأن قال بائع: بعتكه بمائة وقال مشتر: بثمانين ولا بينة لهما أو تعارضت بينتاهما تحالفا ولو كانت السلعة تالفة "فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا ثم يحلف المشترى ما اشتريته بكذا وإنما اشريته بكذا" وإنما بدأ بالنفي لأنه الأصل في اليمين "ولكل" من المتبايعين بعد التحالف "الفسخ إن لم يرض أحدهما بقول الأخر" وكذا إجارة وإن رضي أحدهما بقول ا لآخر أو حلف أحدهما ونكل الآخر أقر العقد "فإن كانت السلعة" التي فسخ البيع فيها بعد التحالف "تالفة رجعا الى قيمة مثلها" ويقبل قول المشتري فيها لأنه غارم وفي قدر المبيع "فإن اختلفا في صفته" أي صفة السلعة التالفة بأن قال البائع: كان العبد كاتبا وأنكره المشتري "فقول مشتر" لأنه غارم وإذا تحالفا في الإجارة وفسخت بعد فراغ المدة فأجرة المثل وفي أثنائها بالقسط
"وإذا فسخ العقد" بعد التحالف "انفسخ ظاهرا وباطنا" في حق كل منهما كالرد بالعيب
"وإن اختلفا في أجل" بأن يقول المشتري: اشتريته بكذا مؤجلة وأنكره البائع "أو" اختلفا في شرط صحيح أو فاسد كرهن أو ضمين أو قدرهما "فقول من ينفيه" يمينه لأن الأصل عدمه "وإن اختلفا في عين المبيع" كبعتني هذا العبد قال: بل هذه الجارية " تحالفا وبطل" أي فسخ "البيع" كما لو اختلفا في الثمن وعنه القول قول بائع بيمينه لأنه كالغارم وهي المذهب وجزم بها في الإقناع و المنتهى وغيرهما وكذا لو اختلفا في قدر المبيع وإن سميا نقدا واختلفا في صفته أخذ نقد البلد ثم غالبه رواجا ثم الوسط إن استوت "وان أبى
كل منهما تسليم ما بيده" من المبيع والثمن "حتى يقبض العوض بأن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أستلم المبيع". "والثمن عين" أي معين "نصب عدل" أي نصبه الحاكم "يقبض منهما" المبيع والثمن "ويسلم المبيع" للمشتري "ثم الثمن" للبائع لجريان عادة الناس بذلك.
"وإن كان" الثمن دينا "حالا أجبر بائع" على تسليم المبيع لتعلق حق المشتري بعينه "ثم" أجبر "مشتر إن كان الثمن في المجلس" لوجوب دفعه عليه فورا لتمكنه منه وإن كان دينا غائبا في البلد أو فيما دون مسافة القصر1 "حجر عليه" أي على المشتري "في المبيع وبقية ماله حتى يحضره" خوفا من أي تصرف في ماله تصرفا يضر بالبائع وإن كان المال غائبا بعيدا مسافة القصر أو غيبه بمسافة القصر عنها أي عن البلد "والمشترى معسر" - يعني - و ظهر أن المشتري معسر "فللبائع الفسخ" لتعذر الثمن عليه كما لو كان المشتري مفلسا وكذا مؤجر بنقد حال "ويثبت الخيار للخلف في الصفة" إذا باعه شيئا موصوفا "ولتغير ما تقدمت رؤيته" العقد وبذلك تمت أقسام الخيار ثمانية.
فصل في التصرف في المبيع قبل قبضه وما يحصل به قبضه
"ومن اشترى مكيلا ونحوه" وهو الموزون والمعدود والمذروع2 " صح" البيع "ولزم بالعقد" حيث لا خيار "ولم يصح تصرفه فيه" ببيع أو هبة أو إجارة أو رهن أو حوالة "حتى يقبضه" 3 لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه" متفق عليه. ويصح عتقه وجعله مهرا وعوض خلع ووصيته به وإن اشترى المكيل ونحوه جزافا صح التصرف فيه قبل قبضه لقول ابن عمر رضي الله عنهما: مضت السنة ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشتري.
"وإن تلف" المبيع بكيل ونحوه أو بعضه "قبل قبضه فمن ضمان البائع" 4 وكذا لو تعيب قبل قبضه "وإن تلف" المبيع المذكور "بآفة سماوية" لا صنع لآدمي فيها بطل أي انفسخ "البيع" وإن بقي البعض خير المشتري في أخذه بقسطه من الثمن5. "و إن أتلفه
ـــــــ
1 أي أقل من المسافة التي قصر لها الصلاة.
2 المذروع: الذي يقاس بالذارع ويختلف قياس الذراع من بلد لآخر.
3 أي حتى يصير في حوزته.
4 لأنه مازال في عهدته وعلى مسؤوليته.
5 أي إن بقي نصفه خير بشرائه بنصف الثمن وإن بقي ربعه فبربع الثمن وهكذا...
أي المبيع بكيل أو نحوه "آدمي" سواء كان هو البائع أو أجنبيا " خير مشتر بين فسخ" البيع ويرجع على بائع بما أخذ من ثمنه و بين "إمضاء ومطالبة متلفه ببدله" أي بمثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما وإن تلف بفعل مشتر فلا خيار له لأن إتلافه كقبضه "وما عداه" أي عدا ما اشترى بكيل أو وزن أو عد أو ذرع كالعبد والدار "يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه" لقول ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير وبالعكس فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا باس أن تؤخذ بسعر يومها ما لم يتفرقا وبينهما شيء" رواه الخمسة إلا المبيع بصفة أو رؤية متقدمة فلا يصح التصرف فيه قبل قبضه لان تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه أي ضمان المشتري لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" وهذا المبيع للمشتري فضمانه عليه وهذا ما لم يمنعه بائع من قبضه فإن منعه حتى تلف ضمنه ضمان غصب والثمر على الشجر والمبيع بصفة أو رؤية سابقة من ضمان بائع ومن تعين ملكه في موروث أو وصية أو غنيمة فله التصرف فيه قبل قبضه.
"ويحصل قبض ما بيع بكيل" بالكيل "أو" أبيع بـ "وزن" بالوزن "أو" أبيع بـ "عد" بالعد "أو" أبيع بـ "ذرع بذلك" الذرع لحديث عثمان يرفعه: "إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل" رواه الإمام. وشرطه حضور مستحق أو نائبه ويصح استنابة من عليه الحق للمستحق ومؤنة كيال ووزان وعداد ونحوه على باذل ولا يضمن ناقد حاذق أمين خطأ و يحصل "القبض في صبرة وما ينقل" كثياب وحيوان "بمنقله، و" يحصل القبض في ما يتناول كالجواهر والأثمان "بتناوله" إذ العرف فيه ذلك "وغيره" أي غير ما ذكر كالعقار والثمرة على الشجر قبضه "بتخليته" بلا حائل بأن يفتح له باب الدار ويسلمه مفتاحها ونحوه وإن كان فيها متاع للبائع قاله الزركشي ويعتبر لجواز قبض مشاع ينقل إذن شريكه.
"والإقالة" 1 مستحبة لما روى ابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعا: "من أقال مسلما أقال الله عز وجل عثرته يوم القيامة" . وهي "فسخ" لأنها عبارة عن الرفع والإزالة يقال: أقالك الله عثرتك أي أزالها فكانت فسخا للبيع لا بيعا "فتجوز قبل قبض المبيع" ولو نحو مكيل ولا تجوز إلا "بمثل الثمن" الأول قدرا ونوعا لأن العقد إذا ارتفع رجع كل منهما بما كان له وتجوز بعد نداء الجمعة ولا يلزم إعادة كيل أو وزن وتصح من مضارب وشريك وبلفظ صلح وبيع و معاطاة ولا يحنث بها من حلف لا يبيع "ولا خيار فيها" أي لا يثبت في الإقالة خيار مجلس ولا خيار شرط أو نحوه "ولا شفعة" فيها لأنها ليست بيعا ولا تصح مع تلف مثمن أو
ـــــــ
1 الإقالة فسخ البيع.
موت عاقد ولا بزيادة على ثمن أو نقصه أو غير جنسه ومؤونة رد مبيع تقايلاه على بائع.
3-
باب الربا والصرف
الربا مقصور وهو لغة: الزيادة لقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 1 أي علت وشرعا: زيادة في شيء مخصوص والإجماع على تحريمه لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} 2 والصرف: بيع نقد بنقد قيل: سمي به لصريفهما وهو تصويتهما في الميزان قيل: لانصرافهما عن مقتضى البياعات من عدم جواز التفرق قبل القبض ونحوه والربا نوعان: ربا فضل وربا نسيئة3.ربا الفضل
"يحرم ربا الفضل" في كل "مكيل" بيع بجنسه مطعوما كان كالبر أو غيره كلأشنان "و" في كل "موزون بيع بجنسه" مطعوما كان كالسكر أو لا كالكتان لحديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد" رواه أحمد ومسلم ولا ربا في ماء ولا فيما لا يوزن عرفا لصناعته كفلوس غير ذهب وفضة ولا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كبيض وجوز4.
"ويجب فيه" أي يشترط في بيع مكيل أو موزون بجنسه مع التماثل "الحلول القبض" من الجانبين بالمجلس لقوله صلى الله عليه وسلم فيما سبق: "يدا بيد" " ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا" فلا يباع بجنسه وزنا ولو تمرة بتمرة. ولا يباع موزون بجنسه إلا وزنا فلا يصح كيلا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن": [والفضة بالفضة وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيل
ـــــــ
1 سورة الحج من الآية "5".
2 سورة البقرة من الآية "275".
3 وهما محرمان كلاهما وربا الفضل هو أن يعطي الأول للثاني كمية من المال أو السلع مما يكال ويوزن على أن يؤديها الثاني إليه بعد أجل بزيادة معينة متفق عليها فإذا لم يقدر على ذلك أدى إليه الزيادة فقط ثم هما على شرط هما لمدة أخرى يؤدي فيها الأصل وفوقه زيادة جديدة أو يؤجله بزيادة جديدة فوق الزيادة القديمة.
وربا النسيئة هو البيع المؤجل الدفع بسعر يزيد عن سعر البيع المعجل الدفع والفرق بينهما هو ربا المال المؤجل.
4 إذ قد يسدد الدين بما هو أفضل منه إذ يختلف حجم البيض و الجوز والربا هنا لا يكون بفرق النوع إنما بفرق العدد.
والشعير بالشعير كيلا بكيل" رواه الأثرم من حديث عبادة بن الصامت ولأن ما خولف معياره الشرعي لا يتحقق فيه التماثل والجهل به كالعلم بالتفاضل ولو كيل المكيل أو وزن الموزون فكانا سواء صح "ولا" يباع "بعضه" أي بعض المكيل والموزون " ببعض" من جنسه جزافا لما تقدم ما لم يعلما تساويهما في المعيار الشرعي فلو باعه صبرة بأخرى وعلما كيلهما وتساويهما أو تبايعاهما مثلا بمثل وكيلتا فكانتا سواء صح وكذا زبرة حديد1 بأخرى من جنسها "فان اختلف الجنس" كبر بشعير وحديد بنحاس "جازت الثلاثة" أي الكيل والوزن والجزاف لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" رواه مسلم وأبو داود.
"والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا" فالجنس: هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها والنوع: هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها وقد يكون النوع جنسا وبالعكس والمراد هنا الجنس الأخص والنوع الأخص فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهو جنس وقد مثله بقوله: " كبر ونحوه" من شعير وتمر وملح "وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والأخباز والأدهان أجناس" لأن الفرع يتبع الأصل فلما كانت أصول هذه أجناسا وجب أن تكون هذه أجناسا فدقيق الحنطة جنس ودقيق الذرة جنس وكذا البواقي "واللحم أجناس باختلاف أصوله" لأنه فرع أصول هي أجناس فكان أجناسا كالأخباز والضان والمعز جنس واحد ولحم البقر والجواميس جنس ولحم الإبل جنس واحد وهكذا "وكذا اللبن" أجناس باختلاف أصوله لما تقدم "واللحم والشحم والكبد" والقلب والألية والطحال والرئة والأكارع "أجناس" لأنها مختلفة في الاسم والخلقة فيجوز بيع جنس منها بآخر متفاضلا.
"ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه" لما روى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. "ويصح" بيع اللحم بحيوان من "غير جنسه" كلحم ضأن ببقرة لأنه ليس أصله ولا جنسه فجاز كما لو بيع بغير مأكول.
"ولا يجوز بيع حب" كبر "بدقيقه ولا سويقه" لتعذر التساوي لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن والنار قد أخذت من السويق وإن بيع الحب بدقيق أو سويق من غير جنسه صح لعدم اعتبار التساوي إذا "و" لا بيع "نيئه بمطبوخه" كالحنطة بالهريسة أو الخبز أو النشاء لأن النار تعقد أجزاء المطبوخ فلا يحصل التساوي و لا بيع "أصله بعصيره" كزيتون بزيت وسمسم بشيرج وعنب بعصيره و لا بيع "خالصه بمشوبه" كحنطة فيها شعير بخالصة ولبن
ـــــــ
1 زبرة الحديد: قضيب الحديد أو القطعة منه.
مشوب بخالص لانتفاء التساوي المشترط إلا أن يكون الخلط يسيرا وكذا بيع اللبن بالكشك ولا بيع الهريسة والحريرة والفالوذج والسنبوسك بعضه ببعض ولا بيع نوع منها بنوع آخر "و" لا بيع "رطبه بيابسه" كبيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب لما روى مالك وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر قال: "أينقص الرطب إذا يبس" ؟ قالوا: نعم فنهى عن ذلك.
"ويجوز بيع دقيقه" أي دقيق الربوي "بدقيقه إذا استويا في النعومة" لأنهما تساويا حال العقد على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان و يجوز بيع "مطبوخه بمطبوخه" كسمن بقري بسمن بقري مثلا بمثل و يجوز بيع "خبزه بخبزه إذا استويا في النشاف" فإن كان أحدهما أكثر رطوبة من الآخر لم يحصل التساوي المشترط ويعتبر التماثل في الخبز بالوزن كالنشاف لأنه يقدر به عادة ولا يمكن كيله لكن إن يبس ودق وصار فتيتا بيع بمثله كيلا و يباع "عصيره بعصيره" كماء عنب بماء عنب "ورطبه برطبه" كالرطب والعنب بمثله لتساويهما ولا يصح بيع المحاقلة وهي: بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه ويصح بغير جنسه ولا بيع المزابنة وهي: بيع الرطب على النخل بالتمر إلا في العرايا بان يبيعه خرصا بمثل ما يؤول إليه إذا جف كيلا فيما دون خمسة أوسق لمحتاج لرطب ولا ثمن معه بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق ففي نخل بتخلية وفي تمر بكيل ولا يصح في بقية الثمار.
"ولا يباع ربوي بجنسه ومعه" أي أحد العوضين "أو معهما من غير جنسه" كمد عجوة ودرهم بدرهمين أو بمد عجوة أو بمد ودرهم لما روى أبو داود عن فضالة بن عبيد قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تميز بينهما" قال: فرده حتى ميز بينهما فإن كان ما مع الربوي يسيرا لا يقصد كخبز فيه ملح بمثله فوجوده كعدمه1.
"ولا" يباع "تمر بلا نوى بما" أي بتمر "فيه نوى" لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه وكذا لو نزع النوى ثم باع التمر والنوى بتمر ونوى "ويباع النوى بتمر فيه نوى و" يباع " لبن و يباع "صوف بشاة ذات لبن وصوف" لأن النوى في التمر واللبن والصوف في الشاة غير مقصود كدار مموه سقفها بذهب بذهب وكذا درهم فيه نحاس بمثله أو بنحاس ونخلة عليها ثمرة بمثلها أو بتمر ويصح بيع نوعي جنس بنوعيه أو نوعه كحنطة حمراء وسوداء ببيضاء وتمر معقلي وبرني بإبراهيمي وصيحاني2.
ـــــــ
1 لأن الملح الزائد هنا في النوع الثاني من الخبز لا يمكن استخلاصه منه والاستفادة منه منفردا.
2 وهذه أنواع من التمر الجيد وأنواع من التمر على ما أخبرنا أحد العارفين به العاملين في حقله يزيد على الثلاثماية نوع أفضلها البرجي والمكيوي والبرني وأدناها الدقل والأشرس.
ومرد أي مرجع الكيل لعرف المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و مرجع الوزن لعرف مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما روى عبد الملك بن عمير عن النبى صلى الله عليه وسلم: "المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة" ."وما لا عرف له هناك" أي بالمدينة ومكة " اعتبر عرفه في موضعه" لأن ما لا عرف له في الشرع يرجع فيه إلى العرف كالقبض والحرز فإن اختلفت البلاد اعتبر الغالب فإن لم يكن رد إلى أقرب ما يشبهه بالحجاز وكل مائع مكيل ويجوز التعامل بكيل لم يعهد.
فصل: في ربا النسيئة
"ويحرم ربا النسيئة" من النساء بالمد وهو التأخير " في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل" وهي الكيل أو الوزن "ليس أحدهما" أي أحد الجنسين نقدا فإن كان أحدهما نقدا كحديد بذهب أو فضة جاز النساء1 وإلا لا نسد باب السلم2 في الموزونات غالبا إلا صرف فلوس نافقة بنقد فيشترط فيه الحلول والقبض واختار ابن عقيل وغيره: لا وتبعه في الإقناع كالمكيلين والموزونين ولو من جنسين فإذا بيع بر بشعير أو حديد بنحاس اعتبر الحلول و التقابض قبل التفرق "وان تفرقا قبل القبض بطل" العقد لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شيءتم يدا يد" والمراد به القبض "وإن باع مكيلا بموزون" أو عكسه "جاز التفرق قبل القبض" و جاز "النساء" لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل أشبه الثياب بالحيوان "وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء" لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة رواه أحمد والدارقطني وصححه وإذا جاز في الجنس الواحد ففي الجنسين أولى.
"ولا يجوز بيع الدين بالدين" حكاه ابن المنذر إجماعا لحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ3 وهو بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه وكذا بحال لم يقبض قبل التفرق وجعله رأس مال سلم.
ـــــــ
1 النساء: تأجيل الدفع.
2 السلف: التسليف أي إعطاء السلفة من أصل القيمة.
3 وهذا بيع غائب بغائب قد يحصل أحدهما ولا يحصل الآخر.
فصل
"ومتى افترق المتصارفان" 1 بأبدانهما كما تقدم في خيار المجلس " قبل قبض الكل" أي كل العوض المعقود عليه في الجانبين أو قبل قبض البعض منه "بطل العقد فيما لم يقبض" سواء كان الكل أو البعض لأن القبض شرط لصحة العقد لقوله صلى الله عليه وسلم: "وبيعوا الذهب بالفضة كيف شيءتم يدا بيد" ولا يضر طول المجلس مع تلازمهما ولو مشيا إلى منزل أحدهما مصطحبين صح وقبض الوكيل قبل مفارقة موكله المجلس كقبض موكله ولو مات أحدهما قبل القبض فسد العقد.
"والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد" لأنها عوض مشار إليه في العقد فوجب أن تتعين كسائر الأعواض "فلا تبدل" بل يلزم تسليمها إذا طولب بها لوقوع العقد على عينها " وان وجدها مغصوبة بطل" العقد كالمبيع إذا ظهر مستحقا وإن تلفت قبل القبض فمن مال بائع إن لم تحتج لوزن أو عد "و" إن وجدها "معيبة من جنسها" كالوضوح في الذهب والسواد في الفضة أمسك بلا أرش إن تعاقدا على مثلين كدرهم فضة بمثله وإلا فله أخذه في المجلس وكذا بعده من غير الجنس أو رد العقد للعيب وإن وجدها معيبة من غير جنسها كما لو وجد الدراهم نحاسا بطل العقد لأنه باعه غير ما سمى له.
"ويحرم الربا بين المسلم والحربي" بأن يأخذ المسلم زيادة من الحربي لعموم ما تقدم فيه من الأدلة "و" يحرم الربا "بين المسلمين مطلقا بدار إسلام أو حرب" لما تقدم إلا بين سيد ورقيقه وإذا كان له على آخر دنانير فقضاه دراهم شيئا فشيئا فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدنانير صح وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز لأنه بيع دين بدين وإن قبض أحدهما من الآخر ماله عليه ثم صارفه بعين وذمة صح.
ـــــــ
1 المتصارفان: بائعا الأثمان أي الذي يصرف الدنانير بدراهم أو الدراهم بدنانير أو بائع الذهب بالذهب والفضة بالفضة.
باب بيع الأصول والثمار
بيع الأصول
4- باب بيع الأصول والثمارالأصول جمع أصل وهو ما يتفرع عنه غيره والمراد هنا: الدور والأرض والشجر والثمار: جمع ثمر كجبل وجبال وواحد الثمر ثمرة.
"إذا باع دارا" أو وهبها أو رهنها أو وقفها أو أقر أو وصى بها " شمل" العقد " أرضها"
أي إذا كانت الأرض يصح بيعها فإن لم يجز كسواد العراق فلا "و" شمل "بناءها وسقفها" لأنهما داخلان في مسمى الدار "و" شمل "الباب المنصوب" وحلقته "والسلم والرف المسمرين والخابية المدفونة" والرحى المنصوبة لأنه متصل بها لمصلحتها أشبه الحيطان وكذا المعدن الجامد وما فيها من شجر وعرش دون ما هو مودع فيها من كنز وهو المال المدفون "وحجر" مدفون " ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح" ومعدن جار وماء نبع وحجر رحى فوقاني لأنه غير متصل بها واللفظ لا يتناوله ولو كانت الصيغة المتلفظ بها الطاحونة أو المعصرة دخل الفوقاني كالتحتاني.
"وإن باع أرضا" أو وهبها أو وقفها أو رهنها أو أقر أو وصى بها "ولو لم يقل بحقوقها شمل" العقد "غرسها وبناءها" لأنهما من حقوقها وكذا - إن باع ونحوه - بستانا لأنه اسم للأرض والشجر والحائط "وإن كان فيها زرع "لا يحصد إلا مرة كبر وشعير فلبائع ونحوه مبقى إلى أول وقت أخذه بلا أجرة ما لم يشترطه مشتر
"وان كان" الزرع "يجز" مرارا كرطبة وبقول "أو يلقط مرارا" كقثاء وباذنجان وكذا نحو ورد فأصوله للمشتري لأنها تراد للبقاء فهي كالشجر "والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع" وكذا زهر تفتح لأنه كالثمر المؤبر وعلى البائع قطعها في الحال "وان اشترط المشتري ذلك صح" والشرط وكان له الثمر المؤبر إذا اشترطه مشتري الشجر ويثبت الخيار لمشتر ظن دخول ما ليس له من زرع وثمر كما كما لو جهل وجودهما ولا يشمل بيع قرية مزارعها بلا نص أو قرينة.
فصل في بيع الفاكهة والثمار
"ومن باع" أو وهب أو رهن نخلا "تشقق طلعه" ولو لم يؤبر1 "ف" الثمر "لبائع مبقى إلى الجذاذ إلا أن يشترطه مشتر" ونحوه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع" متفق عليه. والتأبير: التلقيح وإنما نعى عليه والحكم منوط بالتشقق لملازمته له غالبا وكذا لو صالح بالنخل أو جعله أجرة أو صداقا آو عوض خلع بخلاف وقف ووصية فإن الثمرة تدخل فيهما أبرت أو لم تؤبر كفسخ لعيب ونحوه وكذلك أي كالنخل شجر العنب والتوت وغيره كجميز من كل شجر لا قشر على ثمرته فإذا بيع ونحوه بعد ظهور الثمرة كانت للبائع ونحوه "و" كذا " ما ظهر من نورهـــــــ
1 التأبير: تلقيح النخلة الأنثى بطلع النخلة الذكر لأنها بغير لا تحمل ثمرا يؤكل بل يكون ثمرها صغيرا مزا غير صالح للأكل ولا للتمر.
كالمشمش والتفاح وما خرج من أكمامه" جمع كم وهو الغلاف "كالورد" والبنفسج "والقطن" الذي يحمل في كل سنة لأن ذلك كله بمثابة تشقق الطلع "وما قبل ذلك" أي قبل التشقق في الطلع والظهور في نحو العنب والتوت والمشمش والخروج من الأكمام في نحو الورد والقطن والورق فلمشتر ونحوه لمفهوم الحديث السابق في النخل وما عداه فبالقياس عليه وان تشقق أو ظهر بعض ثمره ولو من نوع واحد فهو لبائع وغيره لمشتر إلا في شجرة فالكل لبائع ونحوه ولكل السقي لمصلحة ولو تضرر الآخر.
ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع" متفق عليه والنهي يقتضي الفساد ولا يباع " زرع قبل اشتداد حبه" لما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع وا لمشتري . ولا تباع " رطبة وبقل ولا قثاء ونحوه وباذنجان دون الأصل" أي منفردة عن أصولها لأن ما في الأرض مستور مغيب وما يحدث منه معدوم فلم يجز بيعه كالذي يحدث من الثمرة فإن بيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله أو الزرع الأخضر بأرضه أو بيعا لمالك أصلهما أو بيع قثاء ونحوه مع أصله صح البيع لأن الثمر إذا بيع مع الشجر والزرع إذا بيع مع الأرض دخلا تبعا في البيع فلم يضر احتمال الغرر وإذا بيعا لمالك الأصل فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال "إلا" إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها أو الزرع قبل اشتداد حبه "بشرط القطع في الحال" فيصح إن انتفع بهما لأن المنع من البيع لخوف التلف وحدوث العاهة وهذا مامون فيما يقطع أو إلا إذا باع الرطبة والبقول "جزة" موجودة فـ "جزة" فيصح لأنه معلوم لا جهالة فيه ولا غرر "أو" إلا إذا باع القثاء ونحوها "لقطة" موجودة لما تقدم وما لم يخلق لم يجز بيعه "والحصاد" لزرع والجذاذ لثمر "واللقاط" لقثاء ونحوها "على المشترى" لأنه نقل لملكه وتفريغ لملك البائع عنه فهو كنقل الطعام.
"وإن باعه" أي الثمر قبل بدو صلاحه أو الزرع قبل اشتداد حبه أو القثاء ونحوه "مطلقا" أي من غير ذكر قطع ولا تبقية لم يصح البيع لما تقدم أو باعه ذلك "بشرط البقاء" لم يصح البيع لما تقدم "أو اشترى ثمرا لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا" صلاحه بطل البيع بزيادته لئلا يجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها وكذا زرع أخضر بيع بشرط القطع ثم ترك حتى اشتد حبه أو اشترى جزة ظاهرة من بقل أو رطبة "أو" اشترى "لقطة" ظاهرة من قثاء ونحوها ثم تركهما "فنمتا" بطل البيع لئلا يتخذ حيلة على بيع الرطبة ونحوها والقثاء ونحوها بغير شرط القطع "أو اشترى ما بدا صلاحه" من ثمر "وحصل" معه "آخر واشتبها" بطل البيع قدمه في المقنع وغيره
والصحيح أن البيع صحيح وإن علم قدر الثمرة الحادثة دفع للبائع والباقي للمشتري وإلا اصطلحا ولا يبطل البيع لأن المبيع اختلط بغيره ولم يتعذر تسليمه والفرق بين هذه والتي قبلها اتخاذه حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها كما تقدم. " أو" اشترى رطبا "عرية" وتقدمت صورتها في ا لربا فتركها فأتمرت أي صارت تمرا "بطل" البيع لأنه إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب فإذا أتمر تبينا عدم الحاجة سواء كان الترك لعذر أو لا والكل أي الثمرة وما حدث معها على ما سبق للبائع لفساد البيع.
"وإذا بدا" أي ظهر "ما له صلاح في الثمرة واشتد الحب جاز بيعه" أي بيع ما ذكر من الثمرة والحب "مطلقا" أي من غير شرط و جاز بيعه "بشرط التبقية" أي تبقية الثمر إلى الجذاذ والزرع إلى الحصاد لأمن العاهة ببدو الصلاح و"للمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ" وله قطعه في الحال وله بيعه قبل جذه "ويلزم البائع سقيه" بسقي الشجر الذي هو عليها إن احتاج إلى ذلك أي إلى السقي وكذا لو لم تحتج إليه لأنه يجب عليه تسليمه كاملا فلزمه سقيه "وإن تضرر الأصل" بالسقي ويجبر إن أبى بخلاف ما إذا باع الأصل وعليه ثمر للبائع فإنه لا يلزم المشتري سقيها لأن البائع لم يملكها من جهته.
"وإن تلفت" ثمرة بيعت بعد بدو صلاحها دون أصلها قبل أوان جذاذها "بآفة سماوية" وهي ما لا صنع لآدمي فيها كالريح والحر والعطش "رجع" ولو بعد القبض "على البائع" لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح" رواه مسلم ولأن التخلية في ذلك ليست بقبض تام وإن كان التالف يسيرا لا ينضبط فات على المشتري "وإن أتلفه" أي الثمر المبيع على ما تقدم "آدمي" ولو البائع "خير مشتر بين الفسخ" ومطالبة البائع بما دفع من الثمن والإمضاء أي البقاء على البيع "ومطالبة المتلف" بالبدل وصلاح بعض ثمرة "الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان" لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق.
"وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر" لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو قيل لأنس: وما زهوها ؟ قال: تحمار وتصفار، " وفي العنب أن يتموه حلوا" لقول أنس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود رواه أحمد ورواته ثقات قاله في المبدع "وفي بقية الثمرات" كالتفاح والبطيخ أن يبدو نيه النضج ويطيب أكله لأنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب متفق عليه والصلاح في نحو قثاء أن يؤكل عادة وفي حب أن يشتد أو يبيض.
"ومن باع عبدا" أو أمة "له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري" لحديث ابن عمر مرفوعا: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" رواه مسلم "فإن كان
قصده" أي المشتري " المال" الذي مع العبد " اشترط علمه" أي العلم بالمال " وسائر شروط البيع" لأنه بيع مقصود أشبه ما لو ضم إليه عينا أخرى " وإلا" يكن قصده المال " فلا" يشترط له شروط البيع وصح شرطه ولو كان مجهولا لأنه دخل تبعا أشبه أساسات الحيطان وسواء كان مثل الثمن أو فوقه أو دونه وإذا شرط مال العبد ثم رده بإقالة أو غيرها رده معه "وثياب الجمال" التي على العبد المبيع " للبائع" لأنها زيادة على العادة ولا يتعلق بها حاجة العبد و ثياب لبس "العادة للمشترى" لجريان العادة ببيعها معه ويشمل بيع دابة كفرس لجاما ومقودا ونعلا.
5-
باب السلم
1هو لغة أهل الحجاز والسلف لغة أهل العراق وسمي سلما لتسليم رأس المال في المجلس وسلفا لتقديمه " وهو" شرعا " عقد على موصوف" ينضبط بالصفة " في الذمة" فلا يصح في عين كهذه الدار " مؤجل" بأجل معلوم بثمن مقبوض بمجلس العقد وهو جائز بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه.
"ويصح" السلم " بألفاظ البيع" لأنه بيع حقيقة و بلفظ "السلم والسلف" لأنهما حقيقة فيه إذ هما اسم للبيع الذي عجل ثمنه وأجل مثمنه "بشروط سبعة" زائدة على شروط البيع والجار متعلق بـ يصح"أحدها: انضباط صفاته" التي يختلف الثمن باختلافها اختلافا كثيرا ظاهرا لأن ما لا يمكن ضبط صفاته يختلف كثيرا فيفضي إلى المنازعة والمشاقة " بمكيل" أي كمكيل من حبوب و ثمار و خل و دهن و لبن ونحوها " وموزون" من قطن و حرير وصوف ونحاس و زئبق وشب وكبريت وشحم ولحم نيء ولو مع عظمه إن عين موضع قطع " ومذروع" من ثياب وخيوط " وأما المعدود المختلف كالفواكه" المعدودة كرمان فلا يصح السلم فيه لاختلافه بالصغر والكبر و كـ البقول لأنها تختلف ولا يمكن تقديرها بالحزم و كـ " الجلود" لأنها تختلف ولا يمكن ذرعها لاختلاف الأطراف و كـ " الرؤوس" والأكارع لأن أكثر ذلك
ـــــــ
1 والسلم أو السلف: هو أن يعطي صاحب المال بعض المال لصاحب الأرض أو الشجر سلفا قبل الموسم يساعده بذلك على خمة الأرض والزرع والنفقة على نفسه وعياله على أن يبيعه ما تنتج أرضه أو أشجاره متفق عليه عند التسليف.
العظام والمشافر " و" كـ " الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس" لاختلافها " و" كـ " الجواهر" واللؤلؤ والعقيق ونحوه لأنها تختلف اختلافا متباينا بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة الضوء والصفاء و كـ " الحامل من الحيوان" كأمة حامل لأن الصفة لا تأتي على ذلك والولد مجهول غير محقق وكذا لو أسلم في أمة وولدها لندرة جمعهما الصفة "وكل مغشوش" لأن غشه يمنع العلم بالقدر المقصود منه فإن كانت الأثمان خالصة صح السلم فيها ويكون رأس المال غيرها ويصح السلم في فلوس ويكون رأس المال عرضا " و ما يجمع أخلاطا" مقصودة "غير متميزة كالغالية" والند " والمعاجين" التي يتداوى بها "فلا يصح السلم" فيه لعدم انضباطه.
"ويصح" السلم "في الحيوان" ولو آدميا لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا رواه مسلم. و يصح أيضا في "الثياب المنسوجة من نوعين" كالكتان والقطن ونحوهما لأن ضبطهما ممكن وكذا نشاب ونبل مريشان وخفاف ورماح و يصح أيضا في "ما خلطه" بكسر الخاء "غير مقصود كالجبن" فيه المنفحة "وخل التمر" فيه الماء "والسكنجبين" فيه الخل " ونحوها" كالشيرج والخبز والعجين.
الشرط " الثاني: ذكر الجنس والنوع" أي جنس المسلم فيه ونوعه "وكل وصف يختلف به" أي بسببه " الثمن" اختلافا " ظاهرا" كلونه وقدره وبلده "وحداثته وقدمه" ولا يجب استقصاء كل الصفات لأنه يتعذر ولا ما لا يختلف به الثمن لعدم الاحتياج إليه. " ولا يصح شرط" المتعاقدين "الأردأ أو الأجود" لأنه لا ينحصر إذ ما من ردئ أو جيد إلا ويحتمل وجود أردأ أو أجود منه بل يصح شرط جيد ورديء ويجزئ ما صدق عليه أنه جيد أو رديء فينزل الوصف على أقل درجة "فإن جاء" المسلم إليه "بما شرط" للمسلم لزمه أخذه أو جاءه بـ أجود منه أي من المسلم فيه "من نوعه ولو قبل محله" أي حلوله "ولا ضرر قي قبضه لزمه أخذه" لأنه جاءه بما تناوله العقد وزيادة تنفعه وإن جاءه بدون ما وصف أو بغير نوعه من جنسه فله أخذه ولا يلزمه وإن جاءه بجنس آخر لم يجز قبوله وإن قبض المسلم فيه فوجد به عيبا فله رده وإمساكه مع الأرش.
الشرط "الثالث: ذكر قدره" أي قدر المسلم فيه " بكيل" معهود فيما يكال " أو بوزن" معهود فيما يوزن لحديث: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه " أو ذرع يعلم" عند العامة لأنه إذا كان مجهولا تعذر الاستيفاء به عند التلف فيفوت العلم بالمسلم فيه فإن شرطا مكيالا غير معلوم بعينه أو صنجة غير معلومة بعينها لم يصح وإن كان معلوما صح السلم دون التعيين "وان أسلم في المكيل" كالبر
والشيرج1 " وزنا أو في الموزون" كالحديد "كيلا لم يصح" السلم لأنه قدره بغير ما هو مقدر به فلم يجز كما لو أسلم في المذروع وزنا و لا يصح في فواكه معدودة كرمان وسفرجل ولو وزنا.
الشرط "الرابع: ذكر أجل معلوم" للحديث السابق ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه ويعتبر أن يكون الأجل "له وقع في الثمن" عادة كشهر فلا يصح السلم إن أسلم حالا لما سبق ولا إن أسلم إلى أجل مجهول كـ "إلى الحصاد والجذاذ" وقدوم الحاج لأنه يختلف فلم يكن معلوما ولا يصح السلم إلى أجل قريب كـ "يوم" ونحوه لأنه لا وقع له في الثمن إلا أن يسلم " في شيء يأخذه منه كل يوم" أجزاء معلومة " كخبز ولحم ونحوهما" من كل ما يصح السلم فيه إذ الحاجة داعية إلى ذلك فإن قبض البعض وتعذر الباقي رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل الباقي فضلا على المقبوض لتماثل أجزائه بل يقسط الثمن عليهما بالسوية.
الشرط " الخامس: أن يوجد" المسلم فيه غالبا في محله بكسر الحاء أي وقت حلوله لوجوب تسليمه إذا فإن كان لا يوجد فيه أو يوجد نادرا كالسلم في العنب والرطب إلى الشتاء لم يصح و يعتبر أيضا وجود المسلم فيه في "مكان الوفاء" غالبا فلا يصح إن أسلم في ثمرة بستان صغير معين أو قرية صغيرة أو في نتاج من فحل بغي فلان أو غنمه أو مثل هذا الثوب لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه و لا يعتبر وجود المسلم فيه "وقت العقد" لأنه ليس وقت وجود التسليم "فان أسلم إلى محل يوجد فيه غالبا فـ "تعذر" المسلم فيه بأن لم تحمل الثمار تلك السنة أو تعذر " بعضه فله" أي لرب السلم2 " الصبر" إلى أن يوجد فيطالب به " أو فسخ" العقد في " الكل" إن تعذر الكل " أو" في " البعض" المتعذر "ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه" أي عوض الثمن التالف لأن العقد إذا زال وجب رد الثمن ويجب رد عينه إن كان باقيا أو عوضه إن كان تالفا أي مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما هذا إن كان فسخ في الكل فإن فسخ في البعض فبقسطه.
الشرط "السادس: أن يقبض الثمن تاما" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فليسلف..." الحديث أي فليعط قال الشافعي: لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه ويشترط أن يكون رأس مال السلم "معلوما قدره ووصفه" كالمسلم فيه فلا يصح بصبرة لا يعلمان قدرها ولا بجوهر ونحوه مما لا ينضبط بالصفة
ـــــــ
1 الشيرج أو السيرج هو زيت السمسم وقد تطلق على السمسم نفسه.
2 رب السلم: صاحب المال المسلم إلى صاحب السلعة.
ويكون القبض " قبل التفرق" من المجلس وكل ما لين1 حرم النساء فيهما لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر لأن السلم من شرطه التأجيل "وإن قبض البعض" من الثمن في المجلس " ثم افترقا" قبل قبض الباقي "بطل فيما عداه" أي عدا المقبوض وصح في المقبوض ولو جعل دينا سلما لم يصح وأمانة أو عينا مغصوبة أو عارية يصح لأنه في معنى القبض "وإن أسلم" ثمنا واحدا "في جنس" كبر "إلى أجلين" كرجب وشعبان مثلا "أو عكسه" بأن أسلم في جنسين كبر وشعير إلى أجل كرجب مثلا " صح" السلم "إن بين" قدر "كل جنس وثمنه" في المسألة الثانية بأن يقول: أسلمتك دينارين أحدهما في إردب قمح صفته كذا وأجله كذا والثاني في إردبين شعيرا صفته كذا والأجل كذا و صح أيضا إن بين قسط كل أجل في المسألة الأولى بأن يقول: أسلمتك دينارين أحدهما في إردب قمح إلى رجب والآخر في إردب وربع مثلا إلى شعبان فإن لم يبين ما ذكر فيهما لم يصح لأن مقابل كل من الجنسين أو الأجلين مجهول.
الشرط " السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح" السلم " في عين" كدار وشجرة لأنها ربما تلفت قبل أوان تسليمها.
"و" لا يشترط ذكر مكان الوفاء لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكره بل " يجب الوفاء موضع العقد" لأن العقد يقتضي التسليم في مكانه وله أخذه في غيره إن رضيا ولو قال: خذه وأجرة حمله إلى موضع الوفاء لم يجز
"ويصح شرطه" أي الوفاء " في غيره" أي غير مكان العقد لأنه بيع فصح شرط الإيفاء في غير مكانه كبيوع الأعيان وإن شرطا الوفاء في موضع العقد كان تأكيدا "وإن عقد" السلم "ببر" ية " أو بحر2 شرطاه"3 أي مكان الوفاء لزوما وإلا فسد السلم لتعذر الوفاء موضع العقد وليس بعض الأماكن سواه أولى من بعض فاشترط تعيينه بالقول كالكيل ويقبل قول المسلم إليه في تعيينه مع يمينه "ولا يصح بيع المسلم فيه" لمن هو عليه أو غيره "قبل قبضه" لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه ولا تصح أيضا " هبته" لغير من هو عليه لعدم القدرة على تسليمه "ولا الحوالة به" لأنها لا تصح إلا على دين مستقر والسلم عرضة للفسخ " ولا" الحوالة " عليه" أي على المسلم فيه أو رأس ماله بعد فسخ " ولا أخذ
ـــــــ
1 مالين مثنى مال.
2 بر: هو اسم الأرض إطلاقا وجعلها برية من الشارح يعني في مكان لا عمارة فيه أي خراج المدن والقرى أو بحر أي عند شاطئ بحر أو في نهر معين على بعد كذا من الشاطئ وهكذا..
3 شرطاه: أي جعلا شرطا له أي أن أسلم في برية فالأداء يكون فيها وإن أسلم في بحر فالأداء يكون فيه فإن كان ذلك مما يتعسر أو لا يمكن فسد السلم.
عوضه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره" وسواء فيما ذكر إذا كان المسلم فيه موجودا أو معدوما والعوض مثله في القيمة أو أقل أو أكثر وتصح الإقالة في السلم.
"ولا يصح" أخذ " الرهن والكفيل به" أي بدين السلم رويت كراهيته عن علي وابن عباس وابن عمر إذ وضع الرهن للاستيفاء من ثمنه عند تعذر الاستيفاء من الغريم ولا يمكن استيفاء المسلم فيه من عين الرهن ولا من ذمة الضامن حذرا من أن يصرفه إلى غيره ويصح بيع دين مستقر كقرض أو ثمن مبيع لمن هو عليه بشرط قبض عوضه في المجلس وتصح هبة كل دين لمن هو عليه ولا يجوز لغيره وتصح استنابة من عليه الحق للمستحق.
6-
باب القرض
بفتح القاف وحكي كسرها ومعناه لغة: القطع. واصطلاحا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله وهو جائز بالإجماع.وهو مندوب لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: "ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة" . وهو مباح للمقترض وليس من المسألة المكروهة لفعله صلى الله عليه وسلم.
"وما يصح بيعه" من نقد أو عرض " صح قرضه" مكيلا كان أو موزونا أو غيرهما لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا "إلا بني آدم" فلا يصح قرضهم لأنه لم ينقل ولا هو من المرافق ويفضي إلى أن يقترض جارية يطأها ثم يردها. ويشترط معرفة قدر القرض ووصفه وأن يكون المقترض ممن يصح تبرعه ويصح بلفظه وبلفظ السلف وكل ما أدى معناهما وإن قال: ملكتك ولا قرينة على رد بدله فهبة " ويملك" القرض " بقبضه" كالهبة ويتم بالقبول وله الشراء به من مقرضه " فلا يلزم رد عينه" للزومه بالقبض "بل يثبت بدله في ذمته" أي ذمة المقترض حالا ولو أجله المقرض لأنه عقد منع فيه من التفاضل فمنع الأجل فيه كالصرف قال الإمام: القرض حال وينبغي أن يفي بوعده فإن رده المقترض أي رد القرض بعينه " لزم" المقرض " قبوله" إن كان مثليا لأنه رده على صفة حقه سواء تغير سعره أو لا حيث لم يتعيب وإن كان متقوما لم يلزم المقرض قبوله وله الطلب بالقيمة وإن كانت الدراهم التي وقع القرض عليها " مكسرة أو" كان القرض "فلوسا فمنع السلطان المعاملة بها" أي بالدراهم المكسرة أو الفلوس فله أي للمقرض " القيمة وقت القرض" لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها وسواء كانت باقية أو استهلكها وتكون القيمة من غير جنس الدراهم وكذلك المغشوشة إذا حرمها السلطان " ويرد" المقترض " المثل" أي مثل ما اقترضه " في المثليات"
لأن المثل أقرب شبها من القيمة فيجب رد مثل فلوس غلت أو رخصت أو كسدت " و" يرد "القيمة في غيرها" من المتقومات وتكون القيمة في جوهر ونحوه يوم قبضه وما يصح سلم فيه يوم قرضه فان أعوز أي تعذر "المثل فالقيمة إذا" أي وقت إعوازه لأنها حينئذ تثبت في الذمة.
"ويحرم" اشتراط "كل شرط جر نفعا" كأن يسكنه داره أو يقضيه خيرا منه لأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه " وإن بدأ به" أي بما فيه نفع كسكنى داره " بلا شرط" ولا مواطأة بعد الوفاء جاز لا قبله "أو أعطاه أجود" بلا شرط جاز لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا فرد خيرا منه وقال: "خيركم أحسنكم قضاء" متفق عليه " أو" أعطاه " هدية بعد الوفاء جاز" لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضا في القرض ولا وسيلة إليه " و إن تبرع" المقترض " لمقرضه قبل وفاته بشئ لم تجز عادته به" قبل القرض " لم يجز إلا أن ينوي" المقرض مكافأته على ذلك الشئ "أو احتسابه من دينه" فيجوز له قبوله لحديث أنس مرفوعا قال: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" رواه ابن ماجة وفي سنده جهالة.
"وإن أقرضه أثمانا فطالبه بها ببلد آخر لزمته" الأثمان أي مثلها لأنه أمكنه قضاء الحق من غير ضرر فلزمه ولأن القيمة لا تختلف فانتفى الضرر "و" تجب " فيما لحمله مؤنة قيمته" ببلد القرض لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه ولا يلزمه المثل في البلد الآخر لأنه لا يلزمه حمله إليه إن لم تكن قيمته " ببلد الفرض أنقص" صوابه أكثر فإن كان القيمة ببلده القرض أكثر لزمه مثل المثلي لعدم الضرر إذا ولا يجبر رب الدين على أخذ قرضه ببلد آخر إلا فيما لا مؤنة لحمله مع أمن البلد والطريق وإذا قال: اقترض لي مائة ولك عشرة صح لأنها في مقابلة ما بذله من جاهه ولو قال: اضمني فيها ولك ذلك لم يحسن.
باب الرهن
مدخل
7- باب الرهنهو لغة: الثبوت والدوام يقال: ماء راهن أي راكد ونعمة راهنة أي دائمة.
وشرعا: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها وهو جائز بالإجماع ولا يصح بدون إيجاب وقبول أو ما يدل عليهما ويعتبر معرفة قدره وجنسه وصفته وكون راهن جائز التصرف مالكا للمرهون أو مأذونا له فيه1.
ـــــــ
1 أي يملك حق التصرف فيه حق ملك أو كالملك كالعبد يأذن مولاه وهذا يعني أن من ارتهن شيئا فكان لديه لا يحق له أن يرهنه لآخر لأن حقه فيه وهو حق حيازة ضمانا لماله ولا حق له ببيعه ولا رهنه لأنه مسؤول عن تأويته في أي وقت لمالكه الأصلي متى أدى إليه ماله.
"ويصح" الرهن " في كل عين يجوز بيعها" لأن القصد منه الاستيثاق بالديون ليتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن عند تعذره من الراهن وهذا متحقق في كل عين يجوز بيعها "حتى المكاتب" لأنه يجوز بيعه ويمكن من الكسب وما يؤديه من النجوم رهن معه وإن عجز ثبت الرهن فيه وفي كسبه وإن عتق بقي ما أداه رهنا ولا يصح شرط منعه من التصرف والمعلق عتقه بصفة إن كانت توجد قبل حلول الدين لم يصح رهنه وإلا صح. ويصح الرهن "مع الحق" بأن يقول: بعتك هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها عبدك هذا فيقول: اشتريت منك ورهنته لأن الحاجة داعية إلى جوازه إذا " و" يصح " بعده" أي بعد الحق بالإجماع ولا يجوز قبله لأنه وثيقة بحق فلم يجز قبل ثبوته ولأنه تابع للحق فلا يسبقه ويعتبر أن يكون "بدين ثابت" أو مآله إليه حتى على عين مضمونة كعارية ومقبوض بعقد فاسد ونفع إجارة في ذمة لا على دين كتابة أو دية على عاقلة قبل الحلول ولا بعهدة مبيع وثمن وأجرة معينين ونفع نحو دار معينة.
"ويلزم" الرهن بالقبض " في حق الراهن فقط" لأن الحظ فيه لغيره فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن " و يصح رهن المشاع" لأنه يجوز بيعه في محل الحق ثم إن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز وإن اختلفا جعله حاكم بيد أمين أمانة أو بأجرة "ويجوز رهن المبيع" قبل قبضه " غير المكيل والموزون" و المذروع والمعدود " على ثمنه وغيره" عند بائعه وغيره لأنه يصح بيعه بخلاف المكيل ونحوه لأنه لا يصح بيعه قبل قبضه فكذلك رهنه.
"وما لا يجوز بيعه" كالوقف وأم الولد " لا يصح رهنه" لعدم حصول مقصود الرهن منه إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع فيصح رهنهما مع أنه لا يصح بيعهما بدونه لأن النهي عن البيع لعدم الأمن من العاهة ولهذا أمر بوضع الجوائح وبتقدير تلفها لا يفوت حق المرتهن من الدين لتعلقه بذمة الراهن ويصح رهن الجارية دون ولدها وعكسه ويباعان ويختص المرتهن بما قابل الرهن من الثمن " ولا يلزم الرهن" في حق الراهن " إلا بالقبض" كقبض المبيع لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 ولا فرق بين المكيل وغيره وسواء كان القبض من المرتهن أو من اتفقا عليه والرهن قبل القبض صحيح وليس بلازم فللراهن فسخه والتصرف فيه فإن تصرف فيه بنحو بيع أو عتق بطل وبنحو إجارة أو تدبير لا يبطل لأنه لا يمنع من البيع.
ـــــــ
1 سورة البقرة من الآية "283".
"واستدامته" أي القبض " شرط" في اللزوم للآية وكالابتداء " فإن أخرجه" المرتهن " إلى الراهن باختياره" ولو كان نيابة عنه " زال لزومه" لزوال استدامة القبض وبقي العقد أنه لم يوجد فيه قبض ولو آجره أو أعاره لمرتهن أو غيره بإذنه فلزومه باق. فإن رده أي رد الراهن الرهن " إليه" أي إلى المرتهن " عاد لزومه إليه" لأنه أقبضه باختياره فلزم كالابتداء ولا يحتاج إلى تجديد عقد لبقائه ولو استعار شيئا ليرهنه جاز ولربه الرجوع قبل إقباضه لا بعده لكن له مطالبة الراهن بفكاكه مطلقا ومتى حل الحق ولم يقضه فللمرتهن بيعه واستيفاء دينه منه ويرجع المعير بقيمته أو مثله إن تلف ضمنه الراهن وهو المستعير ولو لم يفرط المرتهن.
"ولا ينفذ تصرف واحد منهما" أي من الراهن والمرتهن " فيه" أي في الرهن المقبوض "بغير إذن الأخر" لأنه يفوت على الآخر حقه فإن لم يتفقا على المنافع لم يجز الانتفاع وكانت معطلة وإن اتفقا على الإجارة أو الإعارة جاز ولا يمنع المرتهن الراهن من سقي شجر وتلقيح ومداواة وفصد و إنزاء فحل على مرهونة بل من قطع سلعة خطرة إلا عتق الراهن المرهون "فإنه يصح مع الإثم" لأنه مبني على السراية والتغليب " وتؤخذ قيمته" حال الإعتاق من الراهن لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة وتكون " رهنا مكانه" لأنها بدل عنه وكذا لو قتله أو أحبل الأمة بلا إذن المرتهن أو أقر بالعتق وكذبه.
"ونماء الرهن" المتصل والمنفصل كالسمن وتعلم الصنعة الولد والثمرة والصوف " وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به" أي بالرهن فيكون رهنا معه ويباع معه لوفاء الدين إذا بيع " ومؤنته" أي الرهن " على الراهن" لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" رواه الشافعي والدارقطني وقال: إسناده حسن متصل. " و" على الراهن أيضا كفنه و مؤنة تجهيزه بالمعروف لأن ذلك تابع لمؤنته و عليه أيضا " أجرة مخزنه" إن كان مخزونا وأجرة حفظه " وهو أمانة في يد المرتهن" للخبر السابق ولو قبل عقد الرهن كبعد الوفاء " وإن تلف من غير تعد" ولا تفريط منه أي من المرتهن "فلا شيء" عليه قاله علي رضي الله عنه لأنه أمانة في يده كالوديعة فإن تعدى أو فرط ضمن.
"ولا يسقط بهلاكه" أي الرهن "شيء من دينه" لأنه كان ثابتا في ذمة الراهن قبل التلف ولم يوجد ما يسقطه فبقي بحاله وكما لو دفع إليه عبدا ليبيعه ويستوفي حقه من ثمنه " وإن تلف بعضه" أي الرهن "فباقيه رهن بجميع الدين" لأن الدين كله متعلق بجميع أجزاء الرهن "و لاينفك بعضه مع بقاء بعض الدين" لما سبق سواء كان مما تمكن قسمته أو لا
ويقبل قول المرتهن في التلف وإن ادعاه بحادث ظاهر كلف بينة بالحادث وقبل قوله في التلف وعدم التفريط ونحوه.
"وتجوز الزيادة فيه" أي في الرهن بأن رهنه عبدا بمائة ثم رهنه عليها ثوبا لأنه زيادة استيثاق دون الزيادة في " دينه" فإذا رهنه عبدا بمائة لم يصح جعله رهنا بخمسين مع المائة ولو كان يساوي ذلك لأن الرهن أشغل بالمائة الأولى والمشغول لا يشغل.
"وإن رهن" واحد " عند اثنين شيئا" على دين لهما " فوفى أحدهما" انفك في نصيبه لأن عقد الواحد مع اثنين بمنزلة عقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفردا وإن طلب المقاسمة أجيب إليها إن كان الرهن مكيلا و موزونا " أو رهناه شيئا استوفى من أحدهما انفك في نصيبه" لأن الراهن متعدد فلو رهن اثنان عبدا لهما شد اثنين بألف فهذه أربعة عقود ويصير كل ربع منه رهنا بمائتين وخمسين ومتى قضى بعض دينه أو أبرئ منه و ببعضه رهن أو كفيل فعما نواه فإن أطلق صرفه إلى أيهما شاء " ومتى حل الدين" لزم الراهن الإيفاء كالدين الذي لا رهن به.
"و" إن " امتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل" الذي تحت يده الرهن "في بيعه باعه" لأنه مأذون له فيه فلا يحتاج لتجديد إذن من الراهن وإن كان البائع العدل اعتبر إذن المرتهن أيضا "ووفاء الدين" لأنه المقصود بالبيع وإن فضل من ثمنه شيء فلمالكه وإن بقي منه شيء فعلى الراهن " وإلا" يأذن في البيع ولم يوف "أجبره الحكم على وفائه أو بيع الرهن" لأن هذا شأن الحاكم فإن امتنع حبسه أو عزره حتى يفعل "فإن لم يفعل" أي أصر على الامتناع أو كان غائبا أو تغيب "باعه الحكم ووفى دينه" لأنه حق تعين عليه فقام الحاكم مقامه فيه وليس للمرتهن بيعه إلا بإذن ربه أو الحاكم.
فصل في شروط الراهن
"و يكون" الرهن " عند من اتفقا عليه أمانة" فإذا اتفقا أن يكون تحت يد جائز التصرف1 صح وقام قبضه مقام قبض المرتهن ولا يجوز تحت يد صبي أو عبد بغير إذن سيده أو مكاتب بغير جعل إلا بإذن سيده وإن شرط جعله بيد اثنين لم ينفرد أحدهما بحفظه وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا ولا للحاكم نقله عن يد العدل إلا أن تتغيرـــــــ
1 أي بيد شخص ثالث يكون الرهن عنده أمانة.
حاله وللوكيل رده عليهما لا على أحدهما "وإن أذنا له في البيع" أي بيع الرهن "لم يبع إلا بنقد البلد" لأن الحظ فيه لرواجه فإن تعدد باع بجنس الدين فإن عدم فبما ظنه أصلح فإن تساوت عينه حاكم وإن عينا نقدا تعين ولم تجز مخالفتهما فإن اختلفا لم يقبل قول واحد منهما ويرفع الأمر للحاكم ويأمر ببيعه بنقد البلد سواء كان من جنس الحق أو لم يكن وافق قول أحدهما أو لا.
"وإن" باع بإذنهما و " قبض الثمن فتلف في يده" من غير تفريط " فمن ضمان الراهن" لأن الثمن في يد العدل أمانة فهو كالوكيل وإن ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن "فأنكره ولا بينة" للعدل بدفعه للمرتهن "ولم يكن" الدفع " بحضور الراهن" ضمن العدل لأنه فرط حيث لم يشهد ولأنه إنما أذن له في قضاء مبرئ ولم يحصل فيرجع المرتهن على راهنه ثم هو على العدل وإن كان القضاء ببينة لم يضمن لعدم تفريطه سواء كانت البينة قائمة أو معدومة كما لو كان بحضرة الراهن لأنه لا يعد مفرطا " كوكيل" في قضاء الدين فحكمه حكم العدل فيما تقدم لأنه في معناه.
"وإن شرط أن لا يبيعه" المرتهن " إذا حل الدين" ففاسد لأنه شرط ينافي مقتضى العقد كشرطه أن لا يستوفي الدين من ثمنه أو لا يباع ما خيف تلفه " أو" شرط "إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له" أي للمرتهن بدينه لم يصح الشرط وحده لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" رواه الأثرم وفسره الإمام بذلك
و يصح الرهن للخبر "ويقبل قول راهن في قدر الدين" بأن قال المرتهن: هو رهن بألف وقال الراهن: بل بمائة فقط و يقبل قوله أيضا في قدر "الرهن" فإذا قال المرتهن: رهنتني هذا العبد والأمة وقال الراهن: بل العبد وحده فقوله لأنه منكر "و" يقبل قوله أيضا في "رده" بأن قال المرتهن: رددته إليك وأنكر الراهن فقوله لأن الأصل معه والمرتهن قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر "و" يقبل قوله أيضا " في كونه عصيرا لا خمرا" في عقد شرط فيه بأن قال: بعتك كذا بكذا على أن ترهنني هذا العصير وقبل على ذلك وأقبضه له ثم قال المرتهن: كان خمرا فلي فسخ البيع وقال الراهن: بل كان عصيرا فلا فسخ فقوله لأن الأصل السلامة.
"وإن أقر" الراهن " أنه" أي أن الرهن "ملك غيره" قبل على نفسه دون المرتهن فيلزمه رده للمقر له إذا انفك الرهن "أو أقر" الراهن " أنه" أي أن الرهن " جنى قبل" إقرار الراهن "على نفسه" لا على المرتهن إن كذبه لأنه متهم في حقه وقول الغير على غيره غير مقبول "وحكم بإقراره بعد فكه" أي فك الرهن بوفاء الدين أو الإبراء منه "إلا أن يصدقه المرتهن" فيبطل الرهن لوجود المقتضى السالم عن المعارض ويسلم للمقر له به.
فصل في الانتفاع بالمرهون
"وللمرتهن أن يركب" من الرهن "ما يركب و أن يحلب ما يحلب بقدر نفقته" متحريا للعدل بلا إذن راهن لقوله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" رواه البخاري. و تسترضع الأمة بقدر نفقتها وما عدا ذلك من الرهن لا ينتفع به إلا بإذن مالكه1."وإن أنفق على" الحيوان "الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه" أي إمكان استئذانه "لم يرجع" على الراهن ولو نوى الرجوع لأنه متبرع أو مفرط حيث لم يستأذن المالك مع قدرته عليه "وإن تعذر" استئذانه وأنفق بنية الرجوع " رجع" على الراهن "ولو لم يستأذن الحاكم" لاحتياجه لحراسة حقه "وكذا وديعة وعارية ودواب مستأجرة هرب ربها" فله الرجوع إذا أنفق على ذلك بنية الرجوع عند تعذر إذن مالكها بالأقل مما أنفق أو نفقة المثل "ولو خرب الرهن" إن كان دارا " فعمره" المرتهن "بلا إذن" الراهن "رجع بآلته فقط" لأنها ملكه لا بما يحفظ به مالية الدار وأجرة المعمرين لأن العمارة ليست واجبة على الراهن فلم يكن لغيره أن ينوب عنه فيها بخلاف نفقة الحيوان لحرمته في نفسه وإن جنى الرهن ووجب مال خير سيده بين فدائه وبيعه وتسليمه إلى ولي الجناية فيملكه فإن فداه فهو رهن بحاله وإن باعه أو سلمه في الجناية بطل الرهن وإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره و باقيه رهن وإن جني عليه فالخصم سيده فإن أخذ الأرش كان رهنا وإن اقتص فعليه قيمة أقل العبدين الجاني والمجني عليه قيمة تكون رهنا مكانه.
ـــــــ
1 أي إن كان الاستعمال مما فيه خطر على المرتهن فلا يجوز إلا بإذن مالكه لأنه قد يكون في ذلك ذهاب للعين المرهونة وهو لا يملك حق التصرف الكامل فيها.
باب الضمان
مدخل
باب الضمان
مأخوذ من الضمن فذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه. ومعناه شرعا: التزام ما وجب على غيره مع بقائه وما قد يجب ويصح بلفظ سمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وتحملت دينك أو ضمنته أو هو عندي نحو ذلك وبإشارة مفهومة من أخرس1.ـــــــ
1 أي يفهم منها عادة ما يعني قوله ذلك.
"ولا يصح" الضمان "إلا من جائز التصرف" لأنه إيجاب مال فلا يصح من صغير ولا سفيه ويصح من مفلس لأنه تصرف في ذمته ومن قن ومكاتب بإذن سيدهما ويؤخذ مما بيد مكاتب ومما ضمنه قن من يده.
"ولرب الحق مطالبة من شاء منهما" أي من المضمون والضامن "في الحياة والموت" لأن الحق ثابت في ذمتهما فملك مطالبة من شاء منهما لحديث: "الزعيم غارم" رواه أبو داود والترمذي وحسنه " فإن برئت ذمة المضمون عنه" من الدين المضمون بإبراء أو قضاء أو حوالة ونحوها " برئت ذمة الضامن" لأنه تبع له لا عكسه فلا يبرأ المضمون ببراءة الضامن لأن الأصل لا يبرأ ببراءة التبع وإذا تعدد الضامن لم يبرأ أحدهم بإبراء الآخر ويبرؤون بإبراء المضمون عنه "ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا" معرفته للمضمون " له" لأنه لا يعتبر رضاهما فكذا معرفتهما بل يعتبر رضى الضامن لأن الضمان تبرع بالتزام الحق فاعتبر له الرضى كالتبرع بالأعيان.
"و يصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم" لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 1 وهو غير معلوم لأنه يختلف " و" يصح أيضا ضمان ما يؤول إلى الوجوب كـ "العواري والمغصوب والمقبوض بسوم" إن ساومه وقطع ثمنه أو ساومه فقط ليريه أهله إن رضوه وإلا رده وإن أخذه ليريه أهله بلا مساومة ولا قطع ثمن فغير مضمون.
"و" يصح ضمان " عهدة مبيع" بأن يضمن الثمن إن استحق المبيع أو رد بعيب أو الأرش إن خرج معيبا أو يضمن الثمن للبائع قبل تسليمه أو إن ظهر به عيب أو استحق فيصح لدعاء الحاجة إليه. وألفاظ ضمان العهدة: ضمنت عهدته أو دركه ونحوها ويصح أيضا ضمان ما يجب بأن يضمن ما يلزمه من دين أو ما يداينه زيد لعمرو ونحوه وللضامن إبطاله قبل وجوبه "لا ضمان الأمانات كوديعة" ومال شركة وعين مؤجرة لأنها في الأمانات غير مضمونة على صاحب اليد فكذا ضامنه " بل" يصح ضمان "التعدى فيها" أي في الأمانات لأنها حينئذ تكون مضمونة على من هي بيده كالمغصوب وإن قضى الضامن الدين بنية الرجوع رجع وإلا فلا وكذا كفيل وكل مؤد عن غيره دينا واجبا غير نحو زكاة.
ـــــــ
1 سورة يوسف من الآية "72".