كتاب : فهم القرآن ومعانيه
المؤلف : الحارث بن أسد بن عبد الله المحاسبي

المقدمة
أ في تنزيه الله
تتضمن الرد على الجهمية والمعتزلة والمشبهة والحشوية فهو يقول الحمد لله الذي ما سبقه شيء فيكون محدثا مخلوقا ولا بقي إلى أجل فيكون فانيا موروثا فات المقدار وعلا عن توهم الأذهان تاهت الألباب عن تكييفه وتحيرت العقول عن إدراكه فلا تشبيه ولا تجسيم وإنما هو تنزيه مطلق يتفق وجلال الألوهية
ويصل إلى خلق الإنسان فيذكر أنه سبحانه خلقه لغير وحشة في انفراد أزليته ولا استعانة به على ما يريده من تدبيره فلا قيمة لما يرويه الحشوية وينسبونه إلى الرسول كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني
ويفضي به القول إلى آراء الجهمية في تنزيه الله والمعتزلة في الذات والصفات فيرد عليهم في سياق المقدمة فهو سبحانه علم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك لتفرده بعلم الغيوب فلا حاجة للقول بصفات حادثة ولا حاجة لنفي الصفات بحجة التنزيه ما دام العلم واحدا في كل حال والمتغير تعلقه أي المعلوم إذ أن العلم هو انكشاف المعلوم على ما هو عليه
ب في العقل
ولقد استخص الله آدم وذريته فأخذ منهم الميثاق بما فطرهم عليه من العقول الرضية والألباب والفهم ليدبروا بها شواهد التدبير وأحكام التقدير ولن يستطيع الإنسان أن يقدر نعمة الله في هبته العقل له حق قدرها إلا إذا عرف أن العقول معادن الحكمة ومقتبس الآراء ومستنبط الفهم ومعقل العلم ونور الأبصار إليها يأوي كل محصول
ولأنه تفرد بعلم الغيب سبحانه فإنه لا يعرف صفاته ومراضيه ومساخطه إلا هو لذا فقد أرسل الرسل فكلمهم تكليما لا بأداة أو آلة بل بذاته فخاطبوا العقل البشري بأمر الله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ففضل العقل في أنه الأداة التي تتلقى عن الرسل شرع الله وهذه هي وظيفة العقل أن يعقل الشرع لا أن يشرع ويبتدع من عنده فلم يكن ممكنا أن نعبد الله حق العبادة بغير رسالة وباسم العقل لأن العقل متلق وليس صانعا
القسم الأول
لما كان القرآن بهذه المثابة من الأهمية إذ أنه المهيمن على العقل فلا بد من تعريف به وبحامله وهو ما فعله المحاسبي في هذا الفصل وقد قسمه إلى عدة فقرات
أ فضائل القرآن
فقد أمرهم بالمكارم ونهاهم عن الآثام والمحارم ووعدهم فيه جزيل الثواب وضرب لهم فيه الأمثال وفصل لهم فيه المعاني الدالة على سبيل النجاة وأبان فيه المشكلات وأوضح لهم فيه الشواهد فهو بركة لقوله

تعالى كتاب أنزلناه إليك مبارك ليعلموا بذلك أنه يدلهم على النجاة وينالون باتباعه الزلفى والكرامة وهو أحسن الحديث تصديقا لقوله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم فأخبرهم أنه لا حديث يشبهه في حسنه وأخبر أنه متشابه غير مختلف فيه وسماه بأحسن الأسماء فقال كتاب عزيز
وقال أن ما قبله من الكتب مصدق له وشاهد وأخبر أنه محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو نور الليل المظلم وضياء النهار ويجب العمل به على ما كان من جهد وفاقة

ب فضائل القراء
أما الذين يتلون القرآن ويتدبرونه فهم أولياء الله الذين نعتهم بقوله تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله عز و جل وقد ضمن الله لهؤلاء أن من اتبع منهم ما في كتابه من الهدى الإجارة من الضلالة في الدنيا والسعادة في الآخرة والنجاة من الشقاء قال الله عز و جل فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى
ثم روى أحاديث كثيرة في فضل حاملي القرآن وقراءته فلو ذاب أهل السموات والأرض حين يسمعون كلام الله عز و جل أو ماتوا خمودا أجمعون لكان ذلك حق لهم ولما كان ذلك كثيرا إذ تكلم الله عز و جل به تكليما من نفسه من فوق عرشه من فوق سبع سمواته وإذا كان كلام العالم أولى بالاستماع من كلام الجاهل وكلام الوالدة الرؤوم أحق بالاستماع من كلام غيرها والله أعلم العلماء وأرحم الرحماء فكلامه أولى كلام بالاستماع والتدبر والفهم فإذا اجتمع هم القراء وحضر زكت أذهانهم وإذا زكت قويت على طلب الفهم واستبانت اليقين وصفت للذكر
القسم الثاني
في فقه القرآن
ينبغي لتالي القرآن أن يعرف ناسخه ومنسوخه محكمه ومتشابهه وعامه وخاصه ومقدمه ومؤخره وموصوله ومفصوله وغريبه وما لا يعرف معناه إلا باللغة أو بالسنة أو بالإجماع قال ابن عباس أنزل القرآن على أربعة أوجه حلال وحرام ولا يسع جهله وتفسير يعلمه العلماء وعربية تعرفها العرب وتأويل لا يعلمه إلا الله
القسم الثالث
ما يجوز فيه النسخ وما لا يجوز فيه ذلك
بعد أن ذكر أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ورأى أن على قارئ القرآن المتدبر له معرفة ذلك قال إن في القرآن معنيين لا يجوز فيهما النسخ ومن دان بأنه يجوز فيهما النسخ فقد كفر
1 -
صفات الله وأسماؤه
فلا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله جل شأنه ولا صفاته ولا أسماؤه يجوز أن ينسخ جل وعز وصف نفسه بصفاته الكاملة فمن أجاز النسخ فيها أجاز أن يبدل أسماءه الحسنى فيبدلها قبيحة وصفاته العليا فتكون دنية ناقصة سفلى ومدحه الظاهر فتكون مذمومة دنية جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا
2 - وأخباره تعالى عما كان ويكون
لأنه بذلك يكون منصرفا من الصدق إلى الكذب ومن الحق إلى الهزل

واللعب وإنما ينسخ أخباره الكذاب أو المخبر بالظن والمحاسبي ينطلق من المقدمة السابقة ليهاجم طوائف من الشيعة والمعتزلة والحشوية
وقد سبق أن أوضحنا أن القرن الأول من عصور الدولة العباسية ساده صراع عنيف بين المعتزلة والشيعة من جانب والمحدثين من جانب آخر وتطرف كل من الفريقين في موقفه فكان كتاب المحاسبي هذا لإعادة الأمر إلى نصابه بعيدا عن الغالين والمقصرين المفرطين والمفرطين وقد رأى المحاسبي أن القول بالنسخ في الأخبار والأخذ بالمتشابه في صفات الله يؤدي إلى نتائج ليست من الإسلام في شيء

البدوات وحدوث الارادات
إن النسخ في الأخبار يوجب بالخبر الثاني الكذب في الخبر الأول كما يلزم منه البداء والبداء من الجهل وذو البدوات جاهل بما يكون فيما يستقبل والله سبحانه وتعالى يقول لا تبديل لكلماته وقد أول بعض من يدعي السنة وبعض أهل البدع ذلك على الحدوث فأما من ادعى السنة فأراد إثبات القدر فقال إرادة الله عز و جل أحدث من تقديره فتقديره سابق لإرادته
وأما أهل البدع فزعموا أن إرادة الله عز و جل بها كون المخلوق فزعمت أن الخلق غير المخلوق وأن الخلق هو الإرادة
ويرد عليهم المحاسبي ردا هو رد الأشاعرة والغزالي فيما بعد أن العلم هو انكشاف المعلوم على ما هو عليه ماضيا وحاضرا ومستقبلا والإرادة تخصيص لزمان وقوع الفعل وأما قوله إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وقوله إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها فإنه لم يزل يريد قبل أن يحدث الشيء أن يحدثه في وقت إحداثه فلم يزل يريد إحداثه في الوقت المؤخر فإذا جاء الوقت فهو أيضا يريد أن يحدثه فيه فبإرادته أحدثه في ذلك الوقت الذي فيه أحدثه فإرادته عز و جل دائمة لأنه مريد قبل

الوقت وفي الوقت الذي أحدثه فيه فأراد بقوله عز و جل إذا أردناه إذا جاء الوقت الذي هو فيه وهو له قبل في الوقت مريد فأوقع إذا على الإرادة وإنما أراد الوقت وهو مريد له أيضا في الوقت وإذا أردنا أن نهلك قرية يعني الوقت الذي أردناه من قبل إذا جاء الوقت أهلكناه فيه لا على البدء منه بإرادة أخرى

السمع والبصر
وكذا السمع والبصر معناهما انكشاف المسموع والمبصر على ما هما عليه لا بآلة والمراد من مثل قوله تعالى إنا معكم مستمعون أن المسموع والمبصر لم يخف على أن أدركه سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله عز و جل ومن ذهب إلى أنه يحدث له استماع مع حدوث المسموع وإبصار مع حدوث المبصر فقد ادعى على الله عز و جل ما لم يقل
العلو
والحارث سلفي في مسألة العلو والعرشية فهو يقول أنه تعالى على عرشه بائن عن خلقه ويرد على أولئك الذي يقولون أنه تعالى في كل مكان بذاته وهم الجهمية وأهل الحلول من المتصوفة وقد عاصر الحارث المنزهة المخطئين كما عاصر جماعة من الحلولية منهم أبو حمزة الصوفي الذي كان له وقائع معه أما ما ورد في القرآن من مثل قوله تعالى معهم أينما كانوا وهو الذي في السماء إله وغيرها فذلك موجود في اللغة إذ يقول

القائل من بخراسان فيقال ابن طاهر وإنما هو في موضع فجائز أن يقال أمير في خراسان فيكون أميرا في بلخ وسمرقند وكل مدنها هذا وإنما هو في موضع واحد يخفى عليه ما وراء بيته ولو كان على ظاهر اللفظ ما جاز أن يقال أمير في البلد الذي هو فيه ولا في بيته كله وإنما هو في موضع منه لو كان معنى هذا الكون فكيف العالي فوق كل شيء ولا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره فهو إله أهل السماء وإله الأرض

الحشوية والنسخ في الأخبار
وافق الحشوية بعض الروافض في القول بنسخ الأخبار دون أن يقصدوا إلى ذلك فقال الكلبي أنه لما نزلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم نسخها بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ومعنى ذلك أن لو لم يكن نسخها أن الله عز و جل قال إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنه أراد به أن يعذب عزيرا والملائكة والمسيح فأوجب عليهم العذاب ثم نسخ ذلك بعد ما أوجبه كما أوجب قيام الليل ثم نسخه ومعاذ الله أن يكون الله عز و جل أراد وأحب تعذيب أوليائه من الملائكة ولا المسيح ولا عزير وقد تقدمت فيهم أخبار من الله عز و جل بالولاية قبل أن ينزل آية العذاب فلما نزلت أية العذاب لم يرد بها من تقدم منه القول بولايتهم وإنما أراد من عبدوا سوى أوليائه وكان خبرا خاصا لا عاما
ثم ذكر أمثلة أخرى من الأخبار التي ظاهرها العموم وهي خاصة في طائفة معينة أو واقعة معينة
أين يجوز النسخ
فالناسخ والمنسوخ لا يجوز أن يكونا إلا في الأحكام في الأمر والنهي والحدود والعقوبات في أحكام الدنيا

ولا يعني ذلك البداء أو التناقض ولكنه أمر بأمر وحكم بحكم وهو يريد أن يوجبه إلى وقت ويريد أن يأمر بتركه بعد ذلك الوقت فلم يزل مريدا للفعل الأول إلى الوقت الذي أراد نسخه وإيجاد بدله ولا ينسخ أمره ولكن ينسخ المأمور به بمأمور آخر وذلك موجود بين العباد على تقدم الإرادة منهم فيما أمروا به أولا ثم نهوا عنه وأمروا بغيره من غير بدو ولا جهل وذلك كأن يأمر الرجل غلامه ليعمل في أرضه وهو يريد أن يعمل فيها وقت الزراعة ثم يصرفه بعد ذلك إلى خدمته في منزله وكلاهما قد تقدمت به الإرادة منه
ثم ذكر أن المعتزلة رغم ضلالهم وافقوا أهل السنة في امتناع نسخ الأخبار وجواز نسخ الأحكام لكنهم أفضوا من هذه المقدمة السليمة إلى نتيجة فاسدة هي

القول بخلق القرآن
ولهم على ذلك حجتان
أن كلام الله مخلوق لأنه ينسخ كلامه بكلامه فيما أمر به ونهى عنه ولو لم يكن مخلوقا ما جاز عليه النسخ ولا التبديل
وقد رد عليهم الحارث بأن هذا التفسير منهم للنسخ تمحل وجهل بالمعنى الحقيقي إذ أن الله لم ينسخ كلامه وإنما نسخ مأمورا به بمأمور به فأبدل أحدهما مكان الآخر وكلاهما كلامه وإنما ينسخ كلامه الأول بكلام منه ثان الكاذب الراجع عما قال فأما إذا كانا جميعا منه حق وصدق فلا نسخ إلا في المأمور والله سبحانه يقول لا مبدل لكلماته ويقول يريدون أن يبدلوا كلام الله فدل الله عز و جل بذلك أن في تبدل كلام الله إيجاب الكذب والله عز و جل لا يبدل كلامه ولا ينسخ قوله وإنما ينسخ فرضه بفرض آخر

ب ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فقالوا ما جاز فيه أن يكون بعضه خيرا من بعض فهو مخلوق لأنه إذا كان شيء هو خير من شيء فقد فضله والآخر منقوص وقال أو مثلها وما كان له فهو مخلوق لأن المثل يشتبه بمثله وما جاز أن يأتي به الله عز و جل فيحدثه فهو مخلوق وكل مخلوق فمثله مخلوق لأن حكم المثل حكم مثله وجهلوا التأويل إنما قوله جل وعز نأت بخير منها بخير مأمور به خير منها لا يعني خيرا من التوحيد وإنما يعني له فيها خير كما يقال الدراهم خير من المال لا يريد أفضل من المال وإنما يعني له فيها خير أي يريد الدراهم من المال خير ومن زعم أن كلامه عز و جل في واقرأوا ما تيسر منه خير من قوله يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا كان كافرا بالله عز و جل إذ ازدرى كلام الله وزعم أنه منقوص دني

القسم الرابع مع المعتزلة دفاع والتزامات
دعوى المعتزلة
وقد ادعى علينا بعض أهل البدع من المعتزلة أنا نزعم أن الله عز و جل ينسخ أخباره وصفاته فقالوا أن الله عز و جل أخبر أنه يعذب القاتل والزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم ظلما ولم يستثن منهم أحدا فزعمتم أنه جائز أن يغفر الله لبعض أهل الكبائر وأنه لا يغفر لبعضهم
ويصل الأمر إلى الصفات فيقول المعتزلة زعمتم أن الله جل وعز امتدح بأن الأبصار لا تدركه ثم زعمتم أن هذه المدحة تبدل في الآخرة فتراه العيون وهذا نسخ المدح لأنه امتدح بأن الأبصار لا تدركه ولم يستثن فزعمتم أنه تدركه في الآخرة نظرا

ولو جاز أن يغفر الله لأهل الكبائر لجاز أن يغفر للكفار لأنه كذلك قال إني أعذبهم
ويرد الإمام المحاسبي عليهم بأنهم أبعدوا في القياس وإنما أتوا من قبل الجهل بخطاب الله وتأويله وغفلتهم عن علوم القرآن فأخبار الله ومدحه لا تنسخ لكن من الأخبار عاما وخاصا وان اتفق ظاهر تلاوتها في العموم فهو مختلف في معاني العموم والخصوص

في الوعد والوعيد
فأما ما ادعوا علينا في الوعيد فهذه دعوى باطل إذ أن الله جل عز أوجب لأهل الكبائر العذاب وهو يريد أن ذلك عليهم وأنهم له مستحقون ولم يرد أن يعذبهم أجمعين فإن أراد أن يعذب بعض من استوجب فيعذبه بعدله ويعفو عن بعض من وجب عليه بفضله وقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأيسنا من عفوه عن المشركين ورجونا عفوه عن بعض أصحاب الكبائر دونما تعيين
ورأى المحاسبي بعد هذا أن المعتزلة يمكن أن يلجأوا إلى ظواهر الآيات مع أنهم هم متطرفة المؤولة فتتبعهم في ذلك وسد عليهم الطريق بحجج من كلامهم نفسه وألزمهم عدة الزامات
الزام المعتزلة
يوجب المعتزلة على الله عقاب الكفار وأصحاب المعاصي كما يوجبون المغفرة لأصحاب الصغائر غير المصرين وهذا الإيجاب يرى فيه المحاسبي خروجا على الكتاب والسنة وإجماع الأمة ويرتب عليه عدة نتائج
أ امتناع الخوف والرجاء
إذ أن مرتكب الكبيرة مستيقن أنه في النار ومجتنبها مستيقن أنه

في الجنة إذا خاف أحدهما أو رجا يكون شاكا في وعد الله ووعيده فيكفر والموحدون لا يخلو أحد منهم من أن يكون مجتنبا للكبائر أو مصرا على بعض الكبائر أو دون ذلك أو كلاهما فحرام عليهم على قولكم الخوف والرجاء لأنه لا يخلو أحد منهم من أن يكون من إحدى المنزلتين وهذا الخروج من الكتاب والسنة وإجماع الأولين والآخرين

ب امتناع العفو
وكذلك العفو في الآخرة لا يجوز أن يكون من الله جل ذكره على مذهبكم لأنه لا يلقى الله إلا صاحب كبيرة قد أوجب في الدنيا ألا يعفو عنه وذلك عندكم إن اعتقده لأن الله جل ذكره قد آيسه من ذلك أو صاحب صغيرة غير مصر على كبيرة يعد مجتنبا للكبائر كلها فقد عفى الله عنه في الدنيا وقد مات يوم مات وهو مغفور له من أهل الجنة فلا يحتاج إلى العفو والصفح وهذا الخروج من الكتاب والسنة وإجماع القرون من الأولين والأخرين إمتناع شفاعة النبي
لأن صاحب الكبيرة معذب لا محالة فلا يستطيع الرسول صلى الله عليه و سلم أن يشفع له ولا تغني عنه شفاعته شيئا والمجتنب للكبائر مثاب لا محالة فلا حاجة به إلى الشفاعة وهذا رد للآراء المستفيضة عن النبي صلى الله عليه و سلم والأمة كلها جاهلها وعالمها كلهم يرجون شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم
القسم الخامس
في ذكر الناسخ والمنسوخ من الأحكام
بعدما خاض المحاسبي معركة مع المشبهة والمعتزلة والروافض حول

-

كتاب فهم القرآن ومعانيه

فهم القرآن
لأبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي

في تنزيه الله
عونك اللهم
الحمد لله الذي ما سبقه شيء فيكون محدثا مخلوقا ولا بقي إلى أجل فيكون فانيا موروثا
الأول القديم الدايم الكريم فات المقدار وعلا عن توهم الأذهان
تاهت الألباب عن تكييفه وتحيرت العقول عن إدراكه تفرد بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون

خلق الخلق لغير وحشة في انفراد أزليته ولا استعانة بهم على ما يريد من تدبيره
لكن أراد أن ينشر رحمته ويمن بفضله ويستخلص من يشاء من بريته فابتدأ آثار القدرة وأحكم الصنع وأتقن التدبير وابتدأ بالطول وبعد بالمن فعم به عباده عدلا وأوسعهم فضلا فله الحمد والثناء شكرا
لم يخلق خلقه عبثا ولا تركهم سدى ولكن أراد أن يتعرف إلى عباده بآياته البينة ودلايله الواضحة ليؤدوا واجب حقه ويجتنبوا مساخطه لغير حاجة إلى طاعتهم ولكن ليستحق الثواب من أناب وأجاب ويستحق العقاب من جحد وارتاب
فاستخص آدم وذريته فأخذ منهم الميثاق بما فطرهم عليه من العقول الرضية والألباب والفهم ليدبروا بها شواهد التدبير وأحكام التقدير فألزمهم بذلك حجة من عقولهم بما شاهدوا من إنشائه وإتقان صنعه في أنفسهم وفي جميع خلقه ثم أكد الحجة عليهم بإرسال الرسل إليهم فنبههم على النظر بما

شاهدوا من الآيات الظاهرة والدلايل البينة لم يظهر لهم سبحانه بنفسه فيبدي لهم عظمته ويخاطبهم دون رسله
ولم تكن الرسل لتعرف صفاته ولا ما يحب ويكره فيعلموا غيبه كما علم غيوبهم فيكونوا أربابا مثله جل وعلا عن ذلك وتعالى ولم يكونوا ليعرفوا صفاته ولا ما في نفسه مما يحب ويكره وما يريد أن يكرم به من أطاعه ولا ما يهين به من عصاه أبدا
ثم تكلم بذلك تكليما بذاته فأكد عليهم الحجة بكلامه واختار إرسال الأنبياء من عباده فأرسلهم بكلامه ووصف لهم صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى وما يرضى به من المقال والفعال وما يسخطه من الأعمال وما أعد لمن أطاعه من الثواب الجزيل والعيش السليم والنعيم المقيم وما أعد لأعدائه من أليم العذاب وشديد العقاب في اليوم الذي يعرض فيه عباده ويحاسب خلقه بأهواله وزلازله فأرسل بذلك الأمناء من رسله فقطع بهم العذر وأزاح بهم العلل وقال جل من قائل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال

أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ثم أخبر عباده أنه وجه إليهم النذر بكلامه وقوله فقال ومن أصدق من الله قيلا
وقال لا مبدل لكلماته

في العقل
وأنه خاطبهم به من قبل ألبابهم فقال إنما يتذكر أولوا الألباب
وقال لقوم يعقلون و لقوم يتفكرون لأنه جعل العقول معادن الحكمة ومقتبس الآراء ومستنبط الفهم ومعقل العلم ونور الأبصار إليها يأوي كل محصول وبها يستدل على ما أخبر به من علم الغيوب فبها يقدرون الأعمال قبل كونها ويعرفون عواقبها قبل وجودها وعنها تصدر الجوارح بالفعال بأمرها فتسارع إلى طاعتها أو تزجرها

فتمسك عن مكروهها
فاستخلص من عباده خالصة من خلقه فهمت عنه قوله بعقولها فاتسع لها ما خفي عن الأبصار
فآمنت به وبما غيبته حجب غيوبه من لدن عرشه إلى منتهى علمه ثم عارضها هاجس الشك فأبته وذلك بلطف البصير وما وصفه لها وبفضله عليها
فكان عندها ما أخبر به عما غاب مما كان ومما هو كائن كرأي العين فكانت بذلك مصدقة غير مكذبة ولا مرتابة
ثم استخص من الخالصة الأولى خاصة ثانية من المقرين والمعترفين له بربوبيته المصدقين بقوله فعظموا قدره فأجلوه وهابوه واستحيوا منه وخافوه وحذروا نقمته وبأسه فتطهروا من كل دنس وبذلوا له المجهود من قلوبهم وأبدانهم ووصفوه بصفاته الكاملة ونزهوه من كل ما لا يليق وأفردوه في كل معنى ولم يساووه بشيء من خلقه
فأفردوه بالمخافة والرهبة والآمال والرغبة والثقة به وحسن التوكل عليه فأعتقوا من خدمة الدنيا أبدانهم

وأفردوا مولاهم بالمعاملة بإخلاص النية له بطلب مرضاته واجتناب مساخطه وأيقنوا بما وعد وتوعد به فكان عندهم كرأي العين فخشعوا لذلك واستكانوا فدأبوا واجتهدوا فاشتغلوا به وانقطعوا عن العباد إليه بهمومهم ولم يكن فيهم فضل لغيره ولا تزين لسواه فسلكوا سبيل الرشاد بالبصائر النافذة على منهاج الكتاب والسنة وعلما بما أمر به ونهى عنه وندب إليه وحض عليه من مكارم الأخلاق وحسن الآداب فبانوا من عوام المسلمين بالفضل والطهارة فكانوا أئمة الهدى وأعلام المتقين ومصابيح العلم ومفزع كل ملهوف في الدين وطالب لسبيل النجاة
فأحل عليهم عظيم رضوانه وأعد لهم جزيل ثوابه وأجر أعمالهم وأعمال المقتدين بهم وكان لهم كأجور أعمال المتبعين لهم مع أجور أعمالهم ولم ولم يعطهم الله عز و جل اليقين به وبما قال عن رؤية منهم لربهم ولا معاينة منهم لما وعد وتوعد ولكن عن الفهم بما قال جل وعز في كتابه بالتذكير والتفكير والتثبيت والتدبير
فرددوا النظر وأجالوا الفكر وكرروا الذكر

وتدبروا العواقب وطلبوا معاني الدلائل فطالعوا الغيوب وشاهدوا بقلوبهم الآخرة فصاروا في الدنيا بأبدانهم وفي الآخرة بأرواحهم وأجسامهم فيها كعواد وعقولهم معلقة بالملكوت وذلك بغير ابتداء منهم اجتنبوه ولا نالوه ولكن بتفضل الله جل وعز عليهم وتعبده إياهم
فأقامنا الله وإياك مقامهم وأسلكنا وإياك سبيلهم حتى يلحقنا بمنازلهم ويرافق بيننا وبينهم في جواره فإنهم أعقل خلق الله جل وعز عنه لما فهموا من كلامه وتدبروا معاني قوله وبذلك أمنهم ورضي عنهم وأثنى عليهم ورفع به قدرهم لأنهم فهموا منه ما أخبرهم عنه بكلامه الذي أنزله في كتابه إذ يقول جل وعز يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
فلما عقلوا ذلك عن ربهم ابتغوا منه الشفاء والهدى والرحمة فداووا به قساوة قلوبهم وغسلوا به درن ذنوبهم ووضعوا دواءه على أدواء قلوبهم ونفوا به سوء النيات من ضمائرهم وأزالوا به وحر صدورهم ونظروا ببصائرهم إلى ما يشبه الشبهات

من سوء الدلايل ومكايد الشيطان وزخرف المبطلين وكشفوا بمنار دلايله ما وارته الظلمات وغطته الشهوات من خفيات الغيوب ومعالم الطريق المضروب على المحاج الواضحات والبرهان النير فنظروا بنور هداية كلام الرب جل ذكره وواضح دلايله إلى ما خفي عن الغافلين المؤثرين لأهوائهم على استيضاح كتاب ربهم جل مولانا وتعالى فهتكوا بنوره حجاب كل ظلمة وكشفوا بتبيانه غطاء كل ضلالة وبدعة لأنه الدليل الواضح والصراط المستقيم الذي جعله الله للناس إماما ورضي به بينهم حاكما فأماتوا عنده كل شهوة وانبعثوا بتأمله إلى كل رغبة وحنوا بتشويقه إلى جوار المولى الكريم وصبروا لأحكامه في كل عسر ويسر وتأدبوا بأدبه في كل أقوالهم وتزينوا بأخلاقه في كل أمورهم فصاروا للقيام به وللمتعبدين أعلاما يرجع الحائرون عن الحق إلى سبيلهم ويتأدبون بمكارم أخلاقهم ويتزينون بزينة هديهم ويستضيئون بنور هدايتهم 85 ويدينون بما ألزموا من برهان حجته فارغب إلى الله عز و جل في طلب آثارهم وسلوك طريقهم

القسم الأول
فضائل القرآن
فإن العاقل عن الله عز و جل بدلائل الكتاب مستبصر وبحبله من كل هلكة معتصم ولربه بتلاوته في الخلوات مناج لأنه بنجاة نفسه مهتم ففزع إلى فهم كلام الرب جل وعز ليحيي به قلبه وينجو به من عقابه في يوم يندم فيه الغافلون وينحسر فيه المبطلون فكفى بكتاب الله عز و جل عن غيب الآخرة مخبرا وببصائره للعوام موضحا لأن من فهم عن الله عز و جل ذاق طعم حلاوته وخالط فهمه لذة مناجاته إذ عرف من تحاوره فعقل عن الله عز و جل ما به خاطبه فاتخذه معاذا فسكن إلى الله جل وعز وأنس به من كل وحشة فلم يؤثر شيئا عليه فكان للمتقين الماضين قبله في الدنيا خلفا وللآخرين المريدين من بعده سلفا فتدبر القرآن أيام حياته فصار الله جل وعز به مستفيدا لأنه الدليل الهادي للعباد قبل نزول المحل وحادي المشتاقين إلى جوار الكريم

فبه نطق الحكماء وبه أنس المنفردون إلى إدمان الفكر في معانيه
لا يضل السالك باتباع دلايله لأنه النور الذي استضاء به الموقنون والغاية التي يتسابق إليها المتسابقون والمنهج الذي لا يصل السالك إلا باتباع دلايله ولا يعلم له طريق النجاة إلا مع الاستضاءة بنوره ولا يصاب الحق إلا في محكم آياته
شفيع في القيامة لمن تقرب إلى الله جل وعز برعايته وحفظ حدوده وصبر لله جل وعز على أحكامه وهو الماحل لمن لم يكن في قلبه منه إلا حفظ حروفه وفي جوارحه منه إلا تلاوته
هو القول الذي فصلت آياته والفرقان الذي يميز بين الحق والأباطيل بشواهد بيناته
حكمة بالغة منزلة من حكيم الحكماء وعليم العلماء أنزله الله تعالى دواء للقلوب شافيا ولمن حرم حرامه وأحل حلاله عن النار عادلا ولمن حذر مخاوفه في مقيل الجنان نازلا
فأهل العلم بكلام ربهم عز و جل هم أهل الصفاء من

الأدناس وأهل الخاصة من الله جل وعز الذين أشعروا فهمه قلوبهم وتدبروا آياته عند تلاوته بألبابهم فتزودوا لبعد سفرهم إلى معادهم وفهموا منه شدة إجهادهم يوم القيامة ففزعوا وذكروا به السؤال من الله عز و جل فاستعدوا للجواب عما عملوا فتابوا إلى الله جل وعز عن كل ذنب وتطهروا له من كل دنس وأخلصوا له النيات في أعمالهم ليجيبوه عما سلف من ذنوبهم بالتوبة وعن إرادتهم في طاعته بصدق النية فاستعدوا بالقرآن للعرض والسؤال منقادين له بذلتهم وخاشعين له باستكانتهم لأنهم وقروه لإجلال المتكلم به غير مغيبين عن تلاوته لطلب حقائق معانيه ولا مستهينين بحرماته فانتعشوا به من كل صرعة وجبر الله لهم به من كل مصيبة
فما زال ذلك دأب العاقلين عن ربهم عزل وجل لأنه ربيع قلوب الموقنين وراحة الراجين ومستراح المحزونين لا ينقص نوره لدوام تلاوته ولا يدرك غور فهمه ولا يبلغ له غاية نهاية تاليه أبدا لأنه كلام الله جل ثناؤه الذي تعلق

المتقون بعروته والملجأ الذي أوى الراهبون إلى كنف رحمته
قلت كيف لي بفهم ما قال الله جل وعز في كتابه لعلي أدرك منازلهم أو أقارب مقامهم
قال بأن يعظم عندك قدر ما تنال بفهمه من النجاة وما في الإعراض عن فهمه من الهلكة لأن الله جل وعز أنزل في كتابه كلامه مع الروح الأمين إلى محمد المصطفى برسالته والمنتخب لإنذار عباده صلى الله عليه و سلم فوصف تعالى نفسه بأحسن الصفات ودل خلقه ونبههم فيه لمعرفته بما وضع في سماواته وأرضه من آثار صنعته ونفاذ قدرته وذكرهم فيه أياديه عندهم وكثرة نعمه وتعهده إياهم من ابتداء خلقهم وحسن تقديرهم وإجراء أرزاقهم ودفاع البلايا عنهم والآفات المهلكة لهم وحسن ستره عليهم وإقالتهم والعفو عما 86 استوجبوا من تعجيل العقوبات ونزول النقم بهم
فأمرهم فيه بالمكارم ونهاهم عن الآثام والمحارم ووعدهم فيه جزيل الثواب وضرب لهم فيه الأمثال وفصل لهم فيه المعاني الدالة على سبيل النجاة وأبان فيه المشكلات وأوضح

لهم فيه الشواهد على علم الغيوب وجعل فيه حياة قلوبهم وعزهم وشرفهم والغنى به عن جميع العباد
ثم أخبرهم أنه أنزل كتابه ليدبروا آياته بعقولهم ويتذكروا ما قال بألبابهم وقال كتاب أنزلناه إليك مبارك فسماه بالبركة ليعلموا بذلك أنه يدلهم على النجاة وينالون باتباعه الزلفى والكرامة ثم قال ليدبروا آياته فأخبر أنه أنزله للتذكر والتفكر فيه وخص بالتفكير والتذكر أهل العقول أولي الألباب
قال حدثنا سنيد بن داود قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال أخبرني معمر بن يحيى بن المختار عن الحسن

أنه تلا هذه الآية كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب فقال وما تدبر آياته إلا اتباعه بعقله أما والله ما هذا بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى أن أحدهم ليقول إني لأقرأ القرآن فما أسقط منه حرفا وقد والله أسقطه كله فما يرى له القرآن في خلق ولا عمل
ثم أخبرهم أن اتباع ما فيه سلوك للصراط المستقيم والنور المبين والعصمة لمن تمسك به من كل هلكة وشفاء لما في الصدور
قال الرب جل ثناؤه قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم فضمن الله عز و جل لمتبعة الهدي لطريق السلامة والسلوك للطريق المستقيم ووصف المتبعين له كيف قلوبهم وما ورثهم من خشيته فقال جل وعز الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم فأخبرهم أنه لا حديث يشبهه في حسنه وأخبر أنه متشابه غير مختلف فيه

ثم أخبر أن فيه التكرار عن معاني ما قال إن تنحت قلوبهم عند تلاوة ما في سوره عن فهم معانيه تكرر في سورة أخرى ففهموه فقال مثاني
حدثنا سنيد قال حدثنا سفين عن معمر عن قتادة في قول الله جل وعز الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها في حلاله وحرامه لا يختلف شيء منه تشبه الآية الآية والحرف الحرف
حدثنا إسماعيل عن أبي رجاء عن الحسن كتابا

متشابها مثاني قال ثنى الله فيه القضاء تكون السورة فيها الآية وفي السورة الأخرى آية مثلها
قال أبو رجاء وسئل عنها عكرمة فقال ثنى الله فيه القضاء
قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله متشابها قال يصدق بعضه بعضا قال القرآن كله مثاني أبو سعيد
فتثنية القرآن تعود للشيء قد قاله
قال حدثنا سفين عن معمر عن قتادة مثاني قال قد ثناه الله تعالى

قال حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن أبي مالك قال القرآن كله مثاني
قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم قال إذا سمعوا ذكر النار والوعيد اقشعروا ثم تلين جلودهم إذا سمعوا ذكر الجنة
قال حدثنا أبو سفيان عن معمر قال تلا قتادة تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية فقال هذا نعت أولياء الله
نعتهم بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله عز و جل هذه صفة الذين آمنوا وكيف حزنهم ورجاؤهم

ووصف الذين أوتوا العلم علم كتابه من قبل أن ينزل القرآن فقال جل وعز إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا 87 وقال عز و جل خروا سجدا وبكيا
يخبر تبارك وتعالى أن وجل الذين أوتوا العلم من قبلنا ومخافتهم كانت عن فهم آياته في كتابه وتدبر قوله وقد ضمن جل وعز لأمة محمد صلى الله عليه و سلم أن لمن اتبع منهم ما في كتابه من الهدى الإجارة من الضلالة في الدنيا والسعادة في الآخرة والنجاة من الشقاء وقال جل وعز فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى
قال حدثنا أبو النضر قال حدثنا عيسى بن المسيب

البجلي قاضي خالد قال حدثنا خالد بن عبد الله عن إبراهيم النخعي قال قال ابن عباس أجير صاحب القرآن من الضلالة في الدنيا والشقاء يوم الحساب ثم تلا فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى
وعظمت العلماء بالله عز و جل ما أنزل في كتابه لتعظيمه له إذ سمعوه يقول تبارك وتعالى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى
قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا شيبان عن

قتادة في قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى الآية
قال ذكر لنا أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه و سلم إن سرك أن نتابعك فسير لنا جبال تهامة ووسع لنا في حرمنا نتخذ قطايع وبساتين وأحي لنا فلانا وفلانا أناسا ماتوا في الجاهلية فإن تابعوك وآمنوا بك تابعناك وآمنا بك فأنزل الله عز و جل هذه الآية فلو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم هذا وكلم به الموتى وسماه برهانا ونورا ورحمة وموعظة وبيانا وحقا ومجيدا وبصائر وهدى وفرقانا وشفاء لما في الصدور
فعظمه عند المؤمنين ليعظموا قدره ويفهموه لينالوا به شفاء قلوبهم
وقال جل وعز لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون وأخبر جل وعز بعظيم قدره وضرب الجبل مثلا لقلوب المستمعين له ليعقلوا فيتدبروا آياته

ويتفكروا في عجائبه فضرب هذا المثل فدل به أن من لم يفهم عنه ما أنزل في كتابه أن قلبه أقسى من الحجر الأصم وأن ما فيه تتصدع الجبال لو فهمته خشية للمتكلم به يعظم بذلك قدره وقدرنا فيه ويبين لنا أن القلوب تخشع لفهمه وتخاف الله وجل وعز لعقلها ما أخبر به وأخبرنا أن الجبال الرواسي لو أنزل عليها كلامه لتصدعت خاشعة لتعظيمه
وأخبرنا أنه أحسن من كل حديث ومن كل قصص وقال نحن نقص عليك أحسن القصص
ثم أخبرنا جل وعز أنه قد انتهى في الحكمة فقال حكمة بالغة فما تغني النذر
وأخبر أنه لا مبدل لكلماته وأخبر أنه لا يفنى ولا ينفد فقال جل وعز قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي
وسمى الله عز و جل نفسه فقال علي حكيم

وسمى كلامه فقال وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
حدثنا سنيد قال حدثنا سفيان عن معمر عن قتادة قال فإن اسخففتم به فإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم
وسماه بأحسن الأسماء وأعلاها إنما سمى به نفسه فقال كتاب عزيز
ثم أخبر أن ما قبله من الكتب مصدق له وشاهد له وأنه لا يأتي من عنده كتاب أبدا يبدل حكمه ولا ينسخ أمره ونهيه فقال عز و جل من قائل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فأخبر أنه منعه من الخلائق أن ينتقصوا منه أو يزيدوا فيه أو يحرفوه كما حرفت الكتب من قبله
حدثنا سنيد قال حدثنا سفين عن معمر عن قتادة في قوله إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا

يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قال الشيطان لا يستطيع أن يبدل منه حقا ولا يحق به باطلا
قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال الباطل الشيطان
قال ابن جريج لا يأتيه الباطل من بين يديه قال ليس فيما قصصنا 88 على محمد صلى الله عليه و سلم فيما كان قبله باطل ولا من خلفه مما قصصنا عليه مما هو كائن بعده من الدنيا والآخرة
قال حدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبي مختار الطائي عن ابن أخي الحارث عن الحارث قال دخلت المسجد

فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليا رضي الله عنه فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس قد وقعوا في الأحاديث قال وقد فعلوها قلت نعم
قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إنها ستكون فتنة قلت وما المخرج يا رسول الله قال كتاب الله عز و جل فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس فيه الألسن ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق عن رد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعى دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم قال خذها إليك يا أعور
قال وإنما احتاج التالي له إلى الأحاديث عن قول العلماء

الحكماء بالحكمة والموعظة الحسنة حين ضيع منهم كتابه وطلب معانيه ولولا ذلك لكان كأحد العلماء الذين يقولون بالحكمة ويتعظون بالتقوى لأن فيه معاني التعظيم وما ينال به اليقين ويستدل به على كل خلق كريم
قال حدثنا خلف بن هشام البزار قال إسماعيل بن عياش عن حجاج عن مروان الكلاعي وعقيل بن مدرك السلمي يرفعانه إلى أبي سعيد الخدري أن رجلا أتاه فقال يا أبا سعيد أوصني فقال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبلك فقال أوصيك بتقوى الله عز و جل فإنها رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض وعليك بالصمت إلا في حق فإنك تغلب الشيطان

قال وحدثنا يزيد بن هرون قال أخبرنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن معتب عن كعب قال عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالرحمن عز و جل
قال وحدثنا يزيد بن هرون قال أخبرنا زياد قال حدثنا الحسن قال لما أحس جندب بقدوم طلحة والزبير وخاف القتال فخرج يريد الحجاز فتبعه قوم أو قال ناس فجعلوا يقولون أوصنا فقال إقرأوا القرآن فإنه نور

الليل المظلم وضياء النهار فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة
قال وحدثنا إسحاق بن عيسى قال حدثنا محمد بن طلحة عن معن بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كل مؤدب يجب أن يؤدي أدبه وإن أدب الله القرآن
وحدثنا خلف بن هشام قال حدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة في قوله ومن يؤت الحكمة قال القرآن

قال وسمعت الكلبي يقول هي النبوة قال فذكرت ذلك لدواد بن أبي هند فقال إن النبوة لحسن ولكنه القرآن

فضائل القراء
قال وحدثنا خلف بن هشام قال حدثنا عبد الوهاب عن بشر عن القثم مولى خالد بن يزيد بن معاوية قال أخبرني أبو أمامة الحمصي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها
قال وحدثنا خلف بن هشام قال حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أخذ ثلث

القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة ومن أخذ القرآن وعمل به فقد أخذ النبوة كلها
قال وحدثنا عمر بن طلحة قال حدثنا أسباط بن نصر قال حدثنا سماك عن ملحان بن المخارق التيمي قال مر عمار بن ياسر علينا ونحن في حلقة فقمنا إليه فجلسنا حوله فقلنا حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنك صاحبه ولو فارقتنا 89 لم نجد مثلك قال عليكم القرآن فإن فيه كنز الأولين والآخرين
قال حدثنا يزيد بن هرون قال أخبرنا شعبة عن أبي

إسحق عن عمرو بن مرة عن عبد الله قال من أحب العلم فليثور القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين
قال وحدثنا حجين بن المثنى قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عمرو عن عبد الله أنه كان يقرأ القرآن فيمر بالآية فيقول للرجل خذها فوالله لهي خير مما على الأرض من شيء فيرى الرجل إنما يعني تلك الآية حتى يفعله بالقوم كلهم ثم قال جعل الله جل وعز قارئ القرآن مع السفرة
قال حدثنا أبو النضر قال حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت زرارة بن أوفى يحدث عن سعد بن هشام

الأنصاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الذي يقرأ القرآن وهو له حافظ مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرؤه وليس بحافظ له وهو يتعاهده فله أجران
قال ثم جعل تبارك وتعالى قارئه في أعلا درجات الجنات ومن قرأ منه شيئا ارتقى في درج الجنات على عدد ما أخذ من آياته
قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفين عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال منزلتك عند آخر آية تقرؤها
قال وحدثنا أبو النضر قال حدثنا أبو خيثمة قال

حدثنا موسى الفراء عن أبي عنبس عن عمران بن حطان قال سألت أم الدرداء فقلت حدثينا عن فضل القرآن فقالت إن درج الجنة على عدد آي القرآن وإنه يقال لصاحب القرآن إقرأ وارقه
قال وحدثنا يزيد بن هارون قال أخبر إسماعيل بن أبي خالد عن أبي قال حدثت أن ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة
رجل وعى كتاب الله جل وعز فأم به قوما وهم به راضون
ورجل يؤذن بالصلوات في كل يوم خمس مرات في الليل

والنهار يبتغي بذلك وجه الله عز و جل والدار الآخرة
وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن عبادة ربه
قال وحدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا شيبان عن قتادة في قوله آلر تلك آيات الكتاب المبين قال أي والله مبين بركته ورشده وقوله ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون قال إن المؤمن ليشكر نعمة الله عليه وعلى غيره قال وذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول يا رب شاكر نعمة غيره
قال وحدثنا سيار عن قتادة في قوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب إلى قوله ولكن تصديق الذي بين يديه
قال القرآن مصدق الكتب التي قبله ويشهد عليها قوله وتفصيل كل شيء قال فصل الله حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته

قال وحدثنا أبو النضر قال حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن الأحوص قال كان عبد الله يقول تعلموا القرآن واتلوه تؤجروا بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف
قال وحدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد قوله النبأ العظيم قال القرآن
قال وحدثنا عثمان بن محمد قال حدثنا عقيل بن جابر

عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل قال حدثنا خباب ابن الأرت وخرجت معه من المسجد فقال لي إن استطعت أن تقرب إلى الله عز و جل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه
قال وفضل الله جل وعز أهل التلاوة للقرآن بتلاوته وأخبر أنهم يقومون بأمره فقال إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور يخبرهم أن تجارتهم في الآخرة هي الرابحة وأنها لا تكسد عنده حتى يوفيهم أجورهم من الجنة
قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا شعبة

عن يزيد الر تلك قال قال مطرف بن الشخير هذه آية القرآن إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور إلى قوله غفور شكور
قال وحدثنا القثم بن القثم قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد قال سمعت سعد بن عبيدة يقول إن أبا عبد الرحمن السلمي حدثه عن عثمان بن عفان رضي الله

عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه قال أبو عبد الرحمن فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا
قال وحدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة ابن سليمان عن الأعمش قال قال عبد الله من قرأ القرآن فهو غنى
قال وحدثنا أبو النضر قال حدثنا الهيثم بن جماز عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعبد الناس أكثرهم تلاوة للقرآن وإن أفضل العبادة الدعاء
قال أبو النضر عن شعبة عن سليمان التيمي قال سمعت أبا عمر قال قال سليمان لو أن رجلا بات يتلو كتاب الله وبات آخر يحمل على القباب البيض لرأيت الذي بات يتلو أعلاهما أجرا
قال وحدثنا أبو النضر قال حدثنا صالح الناجي عن قتادة عن زرارة بن أوفى قال قام رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله عز و جل قال الحال المرتحل قال صاحب القرآن أن يضرب من أوله إلى آخره ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل
قال ثم أكد الحجة على من تلا كتابه وحفظه وألزمهم

من الفروض ما لم يلزم غيرهم فقال ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
فأخبر جل وعز أن كل من أتاه الله الكتاب والحكمة من النبيين أنه أمره أن يبلغ قوله أن الله جل وعز أمرهم أن يكونوا حكماء علماء فقهاء بما علموا من الكتاب وبما كانوا يدرسون
وقال عز من قائل إنا أنزلنا التورية التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فأوجب عليهم الحكم بما استحفظوا من كتاب الله وشهدوا أنه الحق ثم أوجب عليهم أن لا يخشوا عباده في القيام به فيهم فقال فلا تخشوا الناس واخشون ثم قال إن كنتم مؤمنين قد صدقتم بي وبكتابي

القسم الثاني
في فقه القرآن
قلت قد علمت أن في فهمه النجاة وفي الإغفال عنه الهلكة فلو ذاب أهل السموات وأهل الأرض حين يسمعون كلام الله عز و جل أو ماتوا خمودا أجمعون لكان ذلك حق لهم ولما كان ذلك كثيرا إذ تكلم الله عز و جل به تكليما من نفسه من فوق عرشه من فوق سبع سمواته فإذا عظم في صدرك تعظيم المتكلم به لم يكن عندك شيء أرفع ولا أشرف ولا أنفع ولا ألذ ولا أحلى من استماع كلام الله جل وعز وفهم معاني قوله تعظيما وحبا له وإجلالا إذ كان تعالى قائله فحب القول على قدر حب قائله
وكذلك نجده في فطرنا فيما بيننا وبين الخلق
نحب قول الأخ والقرابة والعالم والشريف على قدر محبتنا له ونجل قوله ونعظم ونردد ذكره ونتفهم معانيه على قدر حبنا له وإجلالنا له

فكلام العالم عندنا أحلى وألذ وأرفع وأجل من كلام الجاهل وكلام الشريف من كلام الوضيع وكلام من أحسن إلينا لا كمن لا إحسان له إلينا وكلام الناصح المتحنن أحسن من كلام من لا ينصحنا ولا يتحنن علينا حتى إن كلام الوالدة نجد له من اللذة والحلاوة ما لا نجد من كلام غيرها لمعرفتنا برحمتها ونصحها وتحننها علينا
فلا أحد أعظم من الله عز و جل عندنا قدرا ولا أشرف بل لا شرف ولا قدر لمن لم يجعل الله عز و جل له الشرف والقدر ولا أحد أعلم من الله جل وعز 91 ولا أحد أقرب لنا ولا أرحم ولا أعظم تحننا من الله تعالى بل لم يرحمنا راحم ولم ينصحنا ناصح ولم يتحنن علينا متحنن إلا بما استودع لنا في قلبه وسخره لنا بالرحمة والنصح
ألم تسمع قول عبد الله من أراد أن يعلم أنه يحب الله عز و جل فلينظر هل يحب القرآن
وحدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق

عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال من سره أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله
حدثنا حجين بن المثنى قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن فمن كان يحب الله ورسوله فمن كان كذلك محبا له يحبه الله
والله أحب إليه من نفسه ومن كل شيء كان
تلاوة القرآن وتفهمه ألذ الأشياء عنده وأنفعها لقلبه ولم يمل من تلاوته ولم يقنع بتلاوته دون أن يطلب الفهم لمعاني ما أراد الله عز و جل من تعظيمه وتبجيله ومحبته وأمره ونهيه وإرشاده وآدابه ووعده ووعيده ويعلم أنه لا ينال منافع آخرته ولا الفوز فيها والنجاة من هلكتها إلا بالعلم الدال على كل نجاة والمنجي له من كل هلكة ولا نجاة له في آخرته ولا اعتصام له في انتهائه عما يستوجب به عذاب ربه إلا بالعلم الدال على ذلك

فإذا علم ذلك رغب في العلم ليحركه لطلب الفوز من عذاب الله تعالى ومن سبيل كل هلكة ويدل على سبيل محجة النجاة عن بيان وبصيرة ويجانب طرق الردى بعد إيضاح واستبانة لها
فإذا رغب في ذلك نظر بعقل صحيح أن العلم أرفع للمقدار وأنفع للقلوب وأفتحه لأبصارها
فعلم أن العلم على قدر العالم فأي العلماء أعلم كان طلب علمه أحب إليه من طلب علم من هو دونه في العلم
ألا ترى أن الاستماع من الرسل عليهم السلام والتفهم عنهم أولى وأرفع عند الناس لعظيم قدرهم لأنهم عن الله عز و جل أخذوا علمهم وأنهم معصومون من الخطأ من الله جل وعز في دينه فقد لزم قلوب المؤمنين الأمان من الخطأ فيما أخذوا عنهم من العلم وكذلك اتباع الرسل أرفع في العلم ممن دونهم من التابعين
فاعرف ذلك ثم اعرف القرآن كلام من هو وهل أحد

أعلم من قائله والمتكلم به ولا يصيب أحد علما إلا من قائله وهو الله رب العالمين جل ثناؤه وتقدست أسماؤه
فإذا كان الله جل ثناؤه عندك أعلم العلماء بل لا علم لأحد إلا من علمه ألم تسمعه تعالى يقول وفوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى الله جل وعز
وقد قال عبد الله من أحب العلم فليقرأ القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين
فإذا كان ذلك عندك لم تؤثر على كلام الرب سبحانه علما من العلوم ولم تجد له حلاوة ولا شاهدا لتلاوته وفهمه فيكون فهمه عندك ألذ الأشياء وأحلاها حبا لقائله وتعظيما وإجلالا للمتكلم به لأنه كلام القديم الأول والعظيم الأجل والكريم الأعلى أنزله على عباده ليعرفهم به نفسه ويذكرهم به أياديه وينبههم به من رقدات الغافلين ويحيي قلوبهم وينور به أبصارهم ويشفي به الصدور ويزيل جهلها وينفي شكوكها

ويغسل به دنسها وزيفها ويوضح به سبيل الهدى ويكشف به العمى والشبهات ويزيل نوازع الشيطان ووساوس الصدور ويغني به من فهمه ويقربه من عقله وينعم به من كرر تلاوته ويرضى به عمن اتبعه
هو طريق الله المستقيم الذي من سلك ما دله عليه أوقفه على الرغائب وسلمه من جميع المهالك وأورده رياض جوار الرب جل وعز وخفف عنه أهوال يوم العرض والنشور وعلا في درجات جوار الرب جل ذكره منزله وقربه من القبول يوم الزلفة لديه 92
هو حبل الله المتين الذي لا انقطاع له من تمسك به نجا ومن لها عنه عطب ومن ابتغى في غيره ضل ومن فهمه نطق بالحكم وجرى لسانه بحسن الموعظة وكان من العلماء بالله جل وعز
ومن عقل عن الله جل ذكره ما قال فقد استغنى به عن كل شيء وعز به من كل ذل لا يتغير ولا ينقص حلاوته ولا تخلق جدته في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته لأن قائله دائم لا تتغير ولا يحدث به الحوادث

وكذلك كلامه لا يتغير في قلوب المؤمنين التالين على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته
وكل كلام من نبي أو صديق أو خطيب بليغ أو قائل شعر فالقلب يمل من كثرة تلاوة له وذلك موجود في الفطرة لا يختلف فيه أولوا الألباب
ولو كان الله جل ذكره وعز أنزله بلسان لا نفهمه ولا نعرف معانيه إذا تلي إلا أنا نعلم أنه كلام الإله جل وعز الذي ليس كمثله شيء ثم ذبنا وذاب أهل السماء والأرض لحق لنا ولهم ذلك
بل لو ذكر الخلايق أن لله جل وعز كلاما تكلم به ولم يسمعوه ثم صعقوا أجمعون هيبة وتعظيما له لعظيم قدر المتكلم به لكان ذلك حقيقا ولما كان كثيرا
وكذلك إذا تلى التالي بالعربية ونحن نسمع الصوت ولا نفهم معاني ما يتلوه إلا أنا نعلم أنه يتلو كلام ربنا جل ربنا وتعالى لما كان عجيبا لو متنا أجمعون إجلالا وتعظيما له

لعظم قدر المتكلم به سبحانه الذي لا يعدل قدره شيء وذلك موجود عندنا في فطرنا أنا نسمع الكلام ممن نحب من الخلق ومن نعظم قدره فنسمع صوته ولا نفهم ما يقول فترتاح لذلك قلوبنا ويعظم ويجل في صدورنا فكيف بكلام ربنا جل ثناؤه وتعالى
الأول بغير بدء ولا مسبوق وكيف وقد تكلم به بنفسه من فوق عرشه وأنزله مع الأمين من ملايكته إلى أمين أهل الأرض لئلا يرتاب أن يكون زيد فيه ما لم يقل أو نقص منه حرف واحد
يتلى علينا بلسان عربي مبين يصف لنا به نفسه فلو كان ما أنزل من كلامه لم يصف لنا به نفسه ولا ذكر لنا به نعمه ولا أمرنا فيه بأمره ولا نهانا فيه عما يكرهه ولا أدبنا فيه بأدبه ولا توعدنا فيه بعذاب ولا وعدنا فيه ثوابا إلا حديثا على ما يحدث الرجل أخاه به وصغى بأذن المستمع له ليس فيه عهد ولا عقد ولا سعة في دين ولا دنيا إلا أنه يحدثه بما علم ويخبره بما رأى وسمع فإذا كان للذي يحدثك عندك قدر أصغيت إلى حديثه باستماع ما يقول وتفهم معاني ما يصف ولو

كان يحكيه لك عنه حاكي لفعلت ذلك حبا منك لقائله وتعظيما للمتكلم به ولو أطلعه الله عز و جل على قلبك وأنت متشاغل عنه لا تفهم عنه قوله لمقتك وعلم أنك تسهو عن حديثه ولم تعبأ بفهم قوله لقلة قدره وقدر حديثه عندك
ولو كان له عندك قدر لاستمعت لحديثه ولم تله عن تفهمه وإنما لهوت عن حديث من حدثك من الخلق أنه غاب عنهم علم ضميرك ولو كان لهم باديا ما فيه لأحضرت عقلك إليهم وإلى حديثهم ولم ترض لهم بالاستماع لحديثهم دون الفهم له ولا بالفهم له دون تحببهم على قدر حديثهم لتعلمهم أنك قد فهمت عنهم ولم ترض لهم بالجواب دون أن توافقهم فتعظم ما عظموا وتستحسن ما استحسنوا وتستقبح ما استقبحوا هذا وأكثر حديثهم لغو ولهو وليس فيه منفعة ولا دنيا ولا حق لهم يؤكدوه عليك بقولهم ولا يرضون عنك بفهمه ولا تحب لهم أن يسخطوا عليك إن لم تكن تفهمه وتقوم به
فكيف بالرب الكريم الذي سهل لك مناجاته وأقبل عليك ولم يتكلم به لغوا ولا قاله لهوا ولا عبثا ولا خاطب

به سهوا ولا تفكها ولا استراحة إليك تعالى الله جل وعز عن ذلك علوا كبيرا
وإنما تكلم 93 به مخاطبة قصدا وإرادة وتوكيدا للحجة عليك وعلى خلقه إعذارا إليهم وإنذارا
فكف يرضى عنك دون أن تسمعه وتحضر عقلك وتفهم معاني قوله وأن لا تتشاغل بشيء من الأشياء دون أن تستقصي منهم معانيه
وكيف يرضى بذلك وإنما كلمنا بعزائم العهود وأوكد المواثيق وحقائق الأمر والنهي ولا يرضى منهم باستماعهم مواعظه دون فهمها ولا بفهمها دون العزم على القيام بحقوقه فيها ولا بالعزم على القيام بحقه فيها دون الصبر على القيام بحقوقه في أوقات وجوبها بغير تسويف ولا تأخير لأنه كلام أقبل علينا به بجلاله وكبريائه مخاطبا لنا به فعرفنا به أنه لا إله غيره ويأمرنا بما يرضى به ويقربنا منه ويوجب لنا جواره والقرب منه والنظر إليه ويوجب لنا به إن ركبنا ما يسخطه عذابه الأليم في خلود الأبد الذي لا انقطاع له ولا زوال ولا راحة

وندبنا فيه إلى الأخلاق الكريمة والمنازل الشريفة وأخذ علينا الميثاق المؤكد فكيف يرضى بتلاوته والقلب مشغول بالدنيا وقد طبعنا طبعا لا نعرف ما نتلو دون أن نصغي إليه بأسماعنا ولا نفهمه وإن أصغينا إليه حتى نحضر له عقولنا إلا بقطعها عن النظر في كل شيء سواه ولا نفهم قوله دون أن نعظم ما قال في قلوبنا ونعظم قدر رضاه وسخطه ولا يعظم ذلك عندنا مع طول موالاتنا بالدنيا والاشتغال بذكرها وذكر أهلها إلا بتكرار التلاق والدوام على تقصي العقل تقصي ذلك والتيقظ له حتى نفهم ما قال فينتبه العقل من غفلته ويشاهد علم الغيوب ببصره ويتوهم عظيم الجزاء الثواب والعقاب برؤية بصره
فعند ذلك يعقل التالي عن ربه عز و جل فيقول ما قال عنك كرائي عينه وما أقبل عبد على الله جل وعز إلا أقبل الله عليه وأسرع إليه الإجابة فكذلك إذا أقبل على الله تعالى وذكره بطلب الفهم أسرع إليه بالإفهام له وكذلك ضمن للمقبلين إليه بعقولهم لفهم كلامه عنه فقال عز و جل إن في ذلك لذكرى

لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
وقال مجاهد شهيد شاهد القلب ليس بغايب فعندها شاهد قلبه الغيب كرائي العين
وفهم كتاب الله يورثه النفس الثابت في القلب فإذا ثبت فكأنه يعاين ربه جل وعز ووعده ووعيده ومما يبين ذلك ما روي عن أبي بن كعب حين سمع رجلا يقرأ فأتى به النبي صلى الله عليه و سلم فاستقرأه فقال أحسنت قال وضرب صدري وقال اللهم أذهب عنه الشك فارفضضت عرقا وامتلأ جوفي خوفا
فإذا ثبت للنفس كان كالعيسان
كان العبد في الدنيا ببدنه وقلبه معلق بالله جل وعز وبغيب معاده
فاتق الله ولا تجعل كلامه منك بظهر وقلة اكتراث منك بفهم ما قال وذلك عليه فإنه يجل من أجل كلامه ويهون عنده من لم يعظم كلامه
فمن أجل كلامه آثره على كل كلام ومخاطبة وعلى كل

علم ليفهمه عنه ويقوم بحقه بمعرفة وفهم
ولو عقل عن الله جل وعز فهم آية واحدة كما كفته أيام الحياة في القيام بحق الله فيها فكيف بما قال في كتابه من الدلائل والشواهد والأمثال والوصف له ولما في المعاد من الثواب والعقاب ويبين لك ذلك ما حدثناه يزيد بن هارون قال أخبرنا جرير بن حازم قال أخبرنا الحسن عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم وقرأ عليه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فقال حسبي لا أبالي ألا أسمع غيرها فهذا رجل لم يهاجر ولم يلزم النبي صلى الله عليه و سلم
أعرابي لم يبتن في الإسلام ولم يقرأ القرآن قبل ذلك أقرأه النبي صلى الله عليه و سلم آية فاكتفى بها 94 وورثته الحياء من الله جل وعز فكيف بمن ولد في الإسلام وعلمه الله عز و جل كتابه وسمع تفسيره وكتب الآثار عن نبيه صلى الله عليه و سلم وأوليائه الصالحين لا يفهم كتاب الله جل وعز يتلوه من أوله إلى آخره وذاك لأنه تلاه دارسا والقلب مشغول بغير فهمه ولا طلب معانيه وذلك لقلة تعظيمه لقائله وإغفاله الرحمة لنفسه وقد

ضمن من لا يخفى ضمانه ووعد من لا يخلف وعده جل ربنا أن ما أنزل من كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فما أحق من أغفل عن فهم كتابه أن يستحي من ربه عز و جل ويأسف على ما مضى من عمره ومرض قلبه وهو لا يزداد إلا سقما ومرضا وذلك لقلة مبالاته بدائه ترك طلب شفائه بما قال مولاه وتدبر ما تكلم به خالقه وقد رآه مولاه وهو يعني بفهم كتاب مخلوق وحديثه وليس في كتابه وحديثه إياه خلود الأبد في النعيم ولا النجاة من عذاب لا ينقطع بل لعل ما فيه ما الاشتغال به ضرر عليه ومسخطة لربه عز و جل ولعل فيه ما الاستغناء بغيره أولى أو لعل فيه حاجة لا قدر لها أو خبر بحيث أن يعلمه من أخبار الناس أو حاجة بكلفة لا يأمل لها مكافأة ولا يحثه على القيام بها إلا خوف عذله ولائمته
وكيف يكون المولى تبارك وتعالى وقد علم منا أنا قليل تعظيمنا له ونحن لا نعبأ بفهم كلامه وتدبر قوله فيما خاطب به كما نعبأ بفهم كتب عبيده وحديثهم الذين لا يملكون لنا ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا تبارك من

يملك ذلك كله وذلك أنه قدر رآنا يأتي أحدنا كتاب من القرابة أو الأخ أو العامل أو الجار فلا يتمالك أن يقرأه ويقرؤه مرارا من حبه لصاحبه ولا يرضى بقراءة حروفه دون الفهم بما كتب به إليه بإحضار عقل وفقه للحروف ليفهم ما أراد وما الذي به أمر ونهى وما أوصى فإن أشكل عليه استخراج بعض حروفه استعان بغيره على قراءته ليستخرج له ما لم يستخرجه ليعرف بذلك ما معنى الذي كتب به وما الذي أراد وما الذي يكن خوفا أن يفوته فيه معنى منفعة أو علم مضرة ليحذرها
وربما كتب إليه من لا يأمل ذلك منه يكتب بحاجة يطلبها أو شيء أراد أن يعلمه فما يترك أن يستقصي فهم كتابه ليفقه الحروف مع فهم القلب معنى الذي أراد وكتب يبعثنا على تأمل كتابه محبة منا إليه لخبر ورجاء منا لخبره أو جزعا منا لخوف فوت منفعة ننالها منه آجلا أو قرب جواره أو تفهما لسؤالنا حاجة أو أمل مكافأته أوجبت محمدته أو خوفا أن يفوتنا ما يريده فيلومنا في تقصيرنا أو حياء منه أن نقدم عليه فيسألنا عن بعض ما كتبه فلا تقوى قلوبنا ونستحي أن نجيبه بأنا لم نقرأ كتابه أو أنا قرأناه ولم نفهم ما كتب به لأنه

يرى أن ذلك تهاون منا به وقلة عناية منا بالمرة فغدا نقدم على الله جل وعز فنلقاه ويسائلنا عن كتابه الذي أنزل إلينا مخاطبا لنا به وكيف فهمنا عنه وكيف عملنا به وهل أجللناه ورهبناه وهل قمنا بحقه الذي أمرنا به وجانبنا ما نهانا عنه مع ما يفوتنا من جواره وما نستوجب من عقابه
ألم تسمع مسائله الجن والإنس جميعا يوم القيامة بما أقام عليهم به الحجة في الدنيا من تلاوة آياته عليهم من رسله وأنه قطع بذلك عذرهم وأدحض به حجتهم فقال يوم العرض يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا
وقال عز و جل ألم تكن آياتي تتلى عليكم
وقال تعالى ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله 95 يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه إلى قوله أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية

فلما جاءهم تأويل ما قال عز و جل من الذي توعد به نادوا بالندامة على نسيانهم ما جاءتهم به رسلهم من كلام ربهم عز و جل وتركهم فهمه ونادوا بالشفاعة أو بردهم إلى الدنيا فيعقلوا عنه كلامه ويقوموا بحقه
قلت فهل أستعين على فهم معاني ما أتلو أو يتلى علي
قال بإحضار عقلك فبذلك تفهم وتذكر ألم تسمعه عز و جل يقول إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
قال مجاهد أو ألقى السمع لا يحدث نفسه بغير ما يسمع وهو شهيد قال شاهد القلب
قلت فكيف أحضر عقلي حتى يكون شاهدا لا يغيب عن فهم كلام ربي جل وتعالى
قال بأن تجمع فهمك حتى لا يكون فهمك متفرقا في شيء غير طلب الفهم لكلام مولاك

قلت وكيف أجمع همي حتى لا يتفرق في شيء سوى ذلك
قال تمنع عقلك من النظر في شيء سوى طلب فهم كتاب ربك جل وتعالى
قلت وكيف أجمع عقلي
قال بأن لا تشغل جوارحك بما لا يشتغل به عقلك وأن تستعمل كل جارحة بما يعينك على الفهم كنظرك في مصحف واستماعك إلى تلاوتك أو تلاوة غيرك وتمنع عقلك من فكر وذكر يقوى طلب فهم كلام مولاك لأنك إذا لم تشغل جوارحك بشيء غير ذلك ومنع عقلك عن النظر والفكر في غير ذلك اجتمع همك وحضر وإذا حضر عقلك زكا ذهنك وإذا زكا ذهنك قويت على طلب الفهم واستبان فيه اليقين وصفا فيه الذكر وقوي فيه الفكر وبذلك مدح المستمعين لتلاوة كتابه بالفهم فقال عز و جل فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قالوا صه أفلا نسمع الله عز و جل مدحهم بأن سكتوا عن الكلام لئلا يشتغلوا عن

فهم ما يتلو نبيه عليه السلام عليهم وهذا ولم يعلموا ما فيه وما هو فلما قضى وفهموا عن الله عز و جل ما تلا عليهم نبيه عليه السلام ولوا إلى قومهم منذرين تحدثوا وفهموا من الله عز و جل ما سمعوا فقالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم وينجيكم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء وقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به الآيات
لقد نطقوا بالحكم عن فهم بين وعن عقول ذكية في استماع آيات في مقام واحد فدعوا إلى إجابة الله عز و جل وأملوا المغفرة والنجاة من العذاب الأليم وأخبروا أنه من أعرض عما تلا نبيه من كلام ربه عز و جل لا يعرف الله وأن مصيره إليه
هذا الأدب والفهم من استماع آيات في مقام واحد في أقل من ساعة فكيف بمن وعى القرآن كله من صغره ويكرر

تلاوته من صباه إلى كبره وعمر السنين الكثيرة ويكرر تلاوته لم يعقل عن ربه ولم يفهم كلام مولاه فيقوم بحقه وكان أول ما تداعوا الأدب لاستماع ما تلى نبيه عليه السلام بتناهيهم عن الاشتغال بالمحادثة عن كلام ربهم ولقد ذم مولانا عز و جل المتشاغلين عند استماعهم بالمحادثة فقال تعالى نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى
فاحرص أن لا يكون فيك خلق ذم الله عز و جل به كافرا وإن كنت مؤمنا فإن من كمال الإيمان مخالفة أهل الكفر بالقول والفعل فيما نهى الله عز و جل عنه ولقد وعد ربنا عز و جل الرحمة وأمرنا أن نطلبها منه بالاستماع والإنصات لفهم كلامه فقال وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون يعني لكي ترحموا فجعل الاستماع بترك الكلام لتفهم كلامه يوجب 96 الرحمة قبل العمل بما يسمع وقال عز و جل فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون

أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب
فمدحهم بالهدى ووصفهم باللب وأثنى عليهم في آي من القرآن فإذا أحضرت عقلك بجمع همك بنية صادقة مع أمل ورجاء أن تنال ما قال وتسارع إلى محابه وتجتنب مساخطه وتريده وحده ولا تريد أن تفهم منه ما تتصنع به عند العباد فإذا نظر الله عز و جل إليك وأنت كذلك وعلم ذلك من ضميرك أقبل بلطفه وولي تقويم عقلك بفهم كلامه وما فيه من علم الغيوب ومكنون الوعيد فحينئذ تكون للقرآن مفهما فتستنطق منه علم ما عميت عليك فيه الحجة فيوضح الله لك به البرهان ويمدك بالفوائد ويجلي عنك ظلم الشبه ويدلك على محجة المهتدين ويذيقك الحلاوة التي أذاقها أهل التقوى لأن كلامه ربيع قلوب الأبرار ويثقل فهمه على من تعطل قلبه وهو الذي هتك حجب قلوب الفهمين فأهاج منهم الفؤاد والزفرات أسفا على ما فات من أعمارهم وما أحصى

الله عليهم من ذنوبهم وأشخص أبصار قلوبهم إلى ملكوت جواره فطال حنينهم واشتياقهم إلى الخلود في دار الأمل في جوار رب العالمين مع خوف الحرمان لما سلف من جرائمهم
فإن طلبت الفهم بالصدق أقبل عليك بالمعونة تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون لا يثقل فهم كلامه إلا على من تعطل قلبه ألا يسمع وربنا جل وعز يقول ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسعهم لتولوا وهم معرضون
فأخبر أنه لو علم فيهم خيرا لأفهمهم لأنهم لم يكونوا صما وكانوا يسمعون قراءة النبي صلى الله عليه و سلم ولكن ضيعوا الفهم ألا تسمعه يقول لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون

ألا تسمعه يقول ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون لا يعني أنهم كانوا صما ولكن لا يفقهون ما يسمعون بآذانهم ألا تسمعه يقول وتراهم ينظرون إليك فأثبت النظر منهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال وهم لا يبصرون
يقول لا يعقلون دلائل الله عز و جل في نبوته عليه السلام فإن علم من التالي لكتابه صدق ضمير وعناية حتى يجمع همه للفهم أفهمه ألا تسمعه يقول إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم
فإذا أقبلت على الله تعالى بصدق نية ورغبة لفهم كتابه باجتماع هم متوكلا عليه أنه هو الذي يفتح لك الفهم لا على نفسك فيما تطلب ولا بما لزم قلبك من الذكر لم يخيبك من الفهم والعقل عنه إن شاء الله

القسم الثالث
في المحكم والمتشابه
قلت ما الذي ينبغي لي أن أعرفه قبل طلب الفهم لكتاب الله عز و جل لأن لا أغلط فأعتقد ما لا يرضي الله جل ثناؤه من المعاني أو أنفي ما يرضيه من المعاني فاخطر عليه فابتدع بدعة أو أوجب فرضا قد أسقط بالنسخ بعد وجوبه أو يشتبه علي تلاوته فيجد العدو موضع تزين للشك فيما اشتبه علي وأقدم ما أخره أو أؤخر ما قدمه أو أعم خبرا أو فرضا أو وعيدا خاصا فأظنه عاما أو أخص خبرا أو وعيدا أو أمرا عاما فأجعله خاصا أو أبدل محكما متشابها أو متشابها محكما
قال أن تعلم أن القرآن منه ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وله وجوه
فمنه متشابه في التلاوة من غير أن ينسخ بعضه بعضا ومنه متشابه لاختلاف أوقاته في الواجب وفي

الكائن مما أخبر الله أنه كائن ومنه متشابه والمعاني مختلفة ومنه مقدم ومؤخر ومنه خاص وعام ومنه 97 موصول ومفصول ومنه غريب اللغة ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالسنة أو بالإجماع ومنه ما لا يعرف معناه إلا بعد تلاوة ما يأتي في سورته وأمثال وغير ذلك
حدثنا القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة القرشي عن ابن عباس في قوله جل وعز هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ولا يعمل به

حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر بقاص يقص فقال هل تعلم الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت
وحدثتا القاسم ابن سلام قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة القرشي عن ابن عباس في قوله جل وعز ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فقال المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله

وحرامه وأمثاله فأما قوله وما يعلم تأويله إلا الله يعني يوم القيامة لا يعلمها إلا الله
قال أبو عبد الله وروي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال لكل آية من كتاب الله ظهر وبطن وحد ومطلع
قال أبو عبد الله أما ظاهرها فتلاوتها وأما باطنها فتأويلها وأما حدها فمنتهى فهمها
وعند هذه الخلة فرق الله بين الصادقين والكاذبين ممن تلاها أو من عرف تفسيرها ولم يبلغ منتهى فهمها أو صادق بلغ منتهى فهمها لأن أقل الصدق من المؤمن المريد بعد الإيمان بالآية أن يفهمها عن ربه وأن يعمل بها
وإنما قصر بالناس عن فهمها قلة تعظيمهم لقائلها وأما مطلعها فمجاوزة حدها بالغلو والتعمق والفجور والمعاصي من ذلك قول الله جل وعز تلك حدود الله فلا تعتدوها

وقال غيره وروي عن ابن عباس قال أنزل القرآن على أربعة أوجه حلال وحرام ولا يسع جهله وتفسير يعلمه العلماء وعربية تعرفها العرب وتأويل لا يعلمه إلا الله يقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا
وكان ابن عباس يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به
وقال عبيدة السلماني من أين يعلمون تأويله وإنما انتهى علم الراسخين إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا
وقال قتادة المحكم ما يعمل به والمتشابه المنسوخ الذي لا يعمل به
قال الكلبي هو ألم وألمر وألمص وأشباه ذلك

وقال ابن عباس هو التقديم والتأخير والمقطوع والموصول والخاص والعام
وقال مجاهد هن أم الكتاب يعني ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك منه المتشابه
وسئل مالك بن أنس عن قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله الآية أيعلم تأويله الراسخون في العلم قال لا وإنما معنى ذلك أن قال وما يعلم تأويله إلا الله ثم أخبر فقال والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وليس يعلمون تأويله والآية التي بعدها أشد عندي قوله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا هنا قال مالك الراسخون في العلم هم العاملون علموا المتبعين له

قال أبو عبيدة وأخر متشابهات يشبه بعضه بعضا
وذكر عن مجاهد أنه قال يعلمونه ويقولون آمنا به
وقال بعض أهل اللغة وإنما معناه كأنه قال والراسخون في العلم قائلون آمنا به

القسم الرابع
باب ما لا يجوز فيه النسخ وما يجوز ذلك فيه
صفات الله وأسماؤه
اعلم أن النسخ لا يجوز في معنيين ومن دان بأنه يجوز فيهما النسخ فقد كفر لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله جل ثناؤه ولا صفاته ولا أسماؤه يجوز أن ينسخ جل وعز وصف نفسه بصفاته الكاملة وامتدح نفسه بمدحه الطاهرة 98 وبأسمائه الحسنى فمن أجاز النسخ فيها أجاز أن يبدل أسماءه الحسنى فيبدلها قبيحة سوآى وصفاته وصفاته الكاملة العلية فتكون دنية ناقصة سفلى ومدحه الطاهرة فتكون مذمومة دنية جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا
أخباره تعالى عما كان ويكون
ولا يجوز النسخ في أخباره تعالى عما كان ويكون فيكون بذلك منصرفا من الصدق إلى الكذب ومن الحق إلى الهزل واللعب وإنما ينسخ أخباره الكذاب أو

المخبر بالظن فيرجع عن قوله إلى أن يكذب نفسه ويبطل قوله وذلك كقول القائل رأيت كذا وسمعت كذا ثم يقول بعد لم يكن ما أخبرت أني رأيته وسمعته
ونجد أن شيئا قد كان ثم يخبر أنه لا يكون فيكذب نفسه فيما أخبر ويدل أنه أخبر بما لا يعلمه أو يكذب نفسه فيخبر أن ما أخبر به أنه سيكون إنما قال متعمدا للكذب أو قاله بالظن وأنه كان جاهلا به ثم رجع عن ظنه وبذلك صفة الكذاب
وقد جوز فريق من الروافض في أخبار الله جل ثناؤه التناسخ وهذا الكفر لا يجوز أن ينسخ الله خبره أنه خلق آدم وأسكنه الجنة وأمر الملائكة أن يسجدوا

له فسجدت الملائكة كلها إلا إبليس ولا أخباره عما مضى من الرسل وعما كان في الدهور الخالية مما أخبر أنه كان فنجد أن ذلك لم يكن وكذلك ما أخبر عز و جل أنه سيقيم القيامة وأنه يبعث من في القبور وأنه يصير فريقا في الجنة وفريقا في السعير ولا ما يقول أهل الجنة وأهل النار وأنه يخلد أهل الجنة فيها ويخلد المشركين في العذاب الأليم فيخبر خلاف ذلك كله لأن ذلك يوجب بالخبر الثاني لزوم الكذب في الأول ولزوم البراءة وأنه أراد أن يفعل فاستبدل فأراد أن لا يفعل رجوعا عن قوله والرجوع عن القول الكذب والبداء من الجهل بالعواقب
ومن ذلك حدوث الإرادات في ذاته بالذوات وذو البداوات جاهل بما يكون فيما يستقبل
ولا جائز أن يخبر بأمر كان ثم يخبر أنه لم يكن أو يخبر بأمر لا يكون ثم يخبر أنه سيكون أو يخبر

أنه لا يفعل ثم يخبر أنه سيفعل أو يخبر عن شيء أنه لا يفعله ثم يخبر أنه يفعله كما قال عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خاتم النبيين فأخبر أنه آخر من يبعث ثم يخبر أنه يبعث بعده نبيا أو يبعث نبيا بعدما أخبر أنه آخر من يبعث من النبيين
وكما قال للأعراب قل لن تخرجوا معي أبدا فلما قالوا بعد خبره هذا ذرونا نتبعكم قال الله جل وعز يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله تعالى من قبل وقال لا مبدل لكلماته جل عن الجهل والبداوات
وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بعد ذلك أنها دنية سفلى أو يصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعدما أخبر أنه عالم الغيب

وأنه لا يبصر ما قد كان ولا يسمع الأصوات وأنه لا قوة له ولا قدرة على الأشياء ولم يتكلم بشيء ولا الكلام كان منه ولا له الخلق والأمر وأنه تحت الأرض لا على العرش جل عن ذلك وتعالى علوا كبيرا
فإذا عرفت ذلك واستيقنته فتلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله في فرعون حتى إذا أدركه الغرق وقال فاليوم ننجيك ببدنك وكقوله يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار أنه لم يرد به النجاة من الغرق في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة وقد تأول قوم أن الله جل ذكره عنى أن ينجيه ببدنه من النار إذا آمن عند الغرق وقالوا إنما ذكر أن قوم فرعون يدخلون النار ولم يذكر أنه يدخل فرعون النار وإنما قال يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ولم يقل فيردها

فرعون وقال وحاق بآل فرعون سوء العذاب فأخذه الله نكال الآخرة والأولى
وإنما معنى قوله ننجيك ببدنك أن الله جل وعز لما غرق فرعون وقومه لم توقن بنو إسرائيل بذلك وقالوا ما غرق فرعون وإننا نخاف أن يلحقنا فيقتلنا فأمر الله جل شأنه البحر 99 فألقى بدنه بغير روح على ضفة البحر ليستبين بنو إسرائيل بغرقه فلما ألقاه البحر نظرت إليه بنو إسرائيل فجعلوا يمثلون به
وكذلك إذا تلوت قوله فليعلمن الله الذين صدقوا الآية وقوله ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الآية فظاهر التلاوة على استئناف العلم من الله بجهاد المجاهدين وصدق الصادقين وكذب

الكاذبين وجل الله أن يستأنف علما بشيء وكيف وكل شيء يكون فهو يكونه فلم يأت إلا وقد تقدم العلم منه به وكيف يأتي وكيف يكون ولو لم يكن يعلم كيف يكون ما أحسن أن يكونه أبدا لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه كيف يكون يحسن أن يصنعه ومن لم يحسن كيف يصنعه لم يقدر أن يصنعه
وهذا نجده ضرورة في فطرنا فلو لم نر كتابا قط ولم نحسن أن نكتب لم يجز لنا أن نكتب كتابا مؤلفا بمعاني مفهومة بالتخمين أبدا وكذلك جميع الصناعات من لم يرها فيعلمها أو توصف له فيعلمها لم يحسن أن يأتي بها أبدا فالله جل ذكره أولى بعلم ما يكونه قبل أن يكونه
ألم تسمعه يقول ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وقد يستدل على ذلك من عقولنا أن من فعل شيئا بحكمة فلم يفعله حتى كان عالما قبل أن

يفعله فأتى به كما أراد أن يكون وقد علم كيف يجيء
وقد امتدح الله جل وعز بعلم ما قد كان وما سيكون وما لا يكون أو كان كيف كان يكون فمدح نفسه بعلم جميع الغيوب فقال جل من قائل وربك أعلم بمن في السموات والأرض وقال وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وقال عالم الغيب والشهادة وقال علم الله أنكم ستذكرونهن وقال علم أن سيكون منكم مرضى الآية
وأخبر بما لا يكون أو كان كيف كان كيف يكون فقال عز و جل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقال لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم فأخبر أنه قد علم أنهم لو نصروهم لولوا الأدبار وإنما قوله حتى يعلم ولما يعلم وليعلمن إنما يريد حتى يراه فيكون معلوما موجودا لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما قبل أن يكون ويعلمه موجودا

كائنا فيعلم في وقت واحد أنه معدوم موجود أنه قد كان وأنه لم يكن بعد وهذا المحال
وإنما لم يجز أن يقال يعلم الله أن الشيء قد كان لأن الشيء لم يكن بعد فإن الله جل وعز لا يجوز أن يكون جاهلا به أنه سيكون وذلك موجود فينا ونحن جهال وعلمنا محدث قد علمنا أن كل إنسان ميت فكلما مات إنسان قلنا قد علمنا أنه قد مات من غير أن نكون قبل موته جاهلين أنه سيموت إلا أنا قد يحدث لنا العلم من الروية وحركة القلب إذا نظرنا إليه ميتا بأنه ميت
والله جل ذكره لا تحدث فيه الحوادث لأنا لم نجهل موت من مات أنه سيكون وكذلك علمنا أن النهار سيكون صبيحة ليلتنا ثم يكون فنعلم أنه قد كان من غير جهل منا تقدم أنه سيكون
فكيف بالقديم الأزلي الذي لا يكون موت ولا نهار ولا شيء من الأشياء إلا وهو يخلقه ونحن لا نخلق شيئا

وكذلك قوله جل وعز لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين وقوله وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها وقوله إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
ليس ذلك ببدء منه لحدوث إرادة حدثت له ولا أن يستأنف مشيئة لم تكن له وذلك فعل الجاهل بالعواقب الذي يريد الشيء وهو لا يعلم العواقب

البداوات وحدوث الإرادات
فلم يزل تعالى يريد ما يعلم أنه يكون لم يستحدث إرادة لم تكن لأن الإرادات إنما تحدث على قدر ما لم يعلم المريد فأما من لم يزل يعلم ما يكون وما لا يكون من خير وشر فقد أراد على علم لا يحدث له بداء إذ كان لا يحدث فيه علم به
وقد تأول بعض من يدعي السنة وبعض أهل البدع ذلك على الحدوث

فأما من ادعى السنة 100 فأراد إثبات القدر فقال إرادة الله جل وعز أحدث من تقديره تقديره سابق الإرادة
وأما بعض أهل البدع فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث وليست بمخلوقة ولكن الله جل وعز بها كون المخلوق فزعمت أن الخلق غير المخلوق وأن الخلق هو الإرادة وأنها ليست بصفة الله من نفسه وجل الله أن يكون شيء حدث لغير إرادة منه وجل عن البداءات وتقلب الإرادات
فأما قوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله فإنه وعدهم الدخول على علم أنهم يدخلون
وأما قوله إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
وقوله وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها

فإنه لم يزل يريد قبل أن يحدث الشيء أن يحدثه في وقت إحداثه فلم يزل يريد إحداثه في الوقت المؤخر فإذا جاء الوقت فهو أيضا يريد أن يحدثه فيه فبإرادته أحدثه في ذلك الوقت الذي فيه أحدثه
فإرادة الله جل وعز دائمة لأنه مريد قبل الوقت الذي يحدث فيه المخلوقات وفي الوقت الذي أحدثه فيه فأراد بقوله جل وعز إذا أردناه إذا جاء الوقت الذي فيه وهو له قبل الوقت مريد فأوقع إذا على الإرادة وإنما أراد الوقت وهو مريد له أيضا في الوقت والعرب تفعل هذا في مخاطباتها يقول الرجل لآخر متى تريد أن آتيك فيقول غدا فيسأله في ظاهر المسألة عن وقت إرادته وإنما يريد الوقت الذي فيه المجيء ويجيبه بالوقت الذي يجيء فيه ولو أجابه على ظاهر مسألته إذا قال متى تريد أجيئك لقال الساعة أريد أن تجيئني غدا فأجابه عن وقت المجيء وإنما سأله في الظاهر عن وقت الإرادة وهو يريد وقت المجيء فأجابه عن معنى السؤال ولم يجبه عن ظاهر المسألة

وكذلك إذا أراد الله جل وعز وقت كون الشيء وأنزل ظاهر القول على الإرادة فقال جل من قائل وإذا أردنا أن نهلك قرية يعني الوقت الذي أردنا من قبل إذا جاء الوقت أهلكناها فيه فإنما أراد بقوله إذا أردنا إذا كان الوقت الذي أردنا أن نهلكهم فيه لا على البدء منه بإرادة أخرى وأراد تكوين الشيء إلى وقت معلوم لم يزل يريد أن يكونه فيه فلم يزل مريدا الهلاك للقرى في الأوقات التي يهلكها فيها فإذا أهلكها فبإرادة متقدمة منه بهلاكها في تلك الأوقات التي أخر هلاكها إليها وبإرادة لم تزل أخر هلاك القرى إلى الوقت الذي لم يزل يريد أن يهلكها فيه

السمع والبصر
وكذلك قوله عز و جل إنا معكم مستمعون ليس معناه إحداث سمع ولا تكلف لسمع ما يكون من المتكلم في وقت كلامه وإنما معنى إنا معكم مستمعون وسيرى الله عملكم أي المسموع والمبصر لن يخفى

على سمعي ولا على بصري أن أدركه سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله جل وعز وتعالى عن ذلك وكذلك قوله اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله لا يستحدث بصرا ولا لحظا محدثا في ذاته تعالى عن ذلك
وقد ذهب قوم أن لله جل وعز استماعا حادثا في ذاته فذهب إلى ما يعقل من الخلق أنه يحدث فيهم علة لسمع ما يكون من قول عند سمعه للقول لأن المخلوق إذا سمع الشيء حدث له عنه فهم عما أدركته أذنه من الصوت وكذلك ذهب إلى أن رؤية تحدث له
قال أبو عبد الله وهذا خطأ وإنما معنى سيرى و إنا معكم مستمعون أن المسموع والمبصر لم يخف على عيني ولا على سمعي أن أدركه سمعا وبصرا لا بالحوادث في الله جل وعز ومن ذهب إلى أنه يحدث له استماع مع حدوث المسموع وإبصار مع حدوث المبصر فقد ادعى على الله عز و جل ما لم يقل وإنما على العباد التسليم كما قال وأنه عالم سميع بصير ولا

يريد ما لم يكن وإنما معنى حتى يعلم حتى يكون المعلوم وكذلك حتى يكون المبصر والمسموع ولا يخفى على الله عز و جل أن يعلمه موجودا ويراه موجودا ويسمعه موجودا بغير 101 حدوث علم في الله جل وعز ولا سمع ولا بصر ولا يعني حدوثا في ذات الله جل الله عن الحوادث في نفسه وتعالى عن البداوات في علمه وإرادته علوا كبيرا

العلو
وكذلك قوله جل وعز وهو القاهر فوق عباده وقوله الرحمن على العرش استوى وقال أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض وقال إليه يصعد الكلم الطيب وقال يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره الآية وقال تعرج الملائكة والروح الآية وقال لعيسى

عليه السلام إني متوفيك ورافعك إلي وقال بل رفعه الله إليه وقال فالذين عند ربك يسبحون له
وذكر آلهة لو كانوا لابتغوا إلى طلبه سبيلا حيث هو فقال قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا وقال سبح اسم ربك الأعلى فلن ينسخ ذلك أبدا فإذا تلوت ما يكون كأنه نسخ أو خلاف الظاهر فاعلم أن ذلك ليس بنسخ ولا بمضاد لهذا وذلك كقوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وقوله وهن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية وقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية فليس بناسخ ولا ذلك ناسخ لهذا ولا هذا ضد ذلك ولكن معنى ذلك غير معنى هذا
هذه الآية معناها أن الله جل وعز لم يرد الكون بذاته

في أسفل الأشياء وينتقل فيها لانتقالها وينهض فيها على أقدارها ويزول عنها عند فنائها جل مولانا وتعالى عن ذلك علوا كبيرا
وقد ادعى بعض أهل الضلال فزعموا أن الله جل وعز في كل مكان بنفسه كائنا كما هو على العرش لا فرق بين ذلك عندهم ثم أجابوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليهم في قولهم ما نفوا لأن كل من أثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه وقد تدين لما يلزمه في المعنى بما نفى كالنصارى زعمت أنهم يعبدون ثلاثة وأن ذلك ليس بشرك وأن معنى الثلاثة معنى واحد فلم يغن عنهم نفيهم الشرك بقولهم وقد دانوا به في المعنى وكذلك جميع أهل الضلال ينفون الكفر ويتبرؤون منه وهم كافرون
كذلك جميع أهل البدع ينفون البدع بقولهم ويتبرؤون

منها وقد خالفوا ما دانوا الله تبارك وتعالى بها وكذلك هؤلاء في نفيهم بعد تثبيتهم معنى ما نفوا فاحتجوا بهذه الآية أن الله عز و جل في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما ثبتوا فقالوا لا كالشيء في الشيء فأحالوا لأن ما كان في الأشياء فهو كالشيء وإن نفوه بألسنتهم
قلت فبين لي معن ذلك كله قال أما معنى قوله تعالى يعلم وسيرى الله وإنا معكم مستمعون فإنما معناه حتى يكون الموجود فنعلمه موجودا ونسمعه مسموعا وتبصره مبصرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر وأما قوله إذا أردناه فمعناه إذا جاء وقت كون المراد فيه
وأما قوله على العرش استوى وهو القاهر فوق عباده وأأمنتم من في السماء وإذا لابتغوا إلى ذي العرش فهذه وغيرها مثل قوله إليه يصعد الكلم وقوله ثم يعرج إليه في يوم فهذا

مقطع يوجب أنه فوق العرش فوق الأشياء منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية لأنه أبان في هذه الآيات أن ذاته بنفسه فوق عباده لأنه قال أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض يعني فوق العرش والعرش على السماء لأن من كان فوق شيء على السماء فهو في السماء وقد قال مثل ذلك فسيحوا في الأرض يعني على الأرض لا يريد الدخول 102 في جوفها وكذلك قوله لأصلبنكم في جذوع النخل يعني فوقها وقال أأمنتم من في السماء ثم فصل فقال أن يخسف بكم الأرض ولم يصله بمعنى فيشتبه ذلك فلم يكن لذلك معنى إذ فصل بقوله في السماء ثم استأنف التخويف بالخسف إلا أنه على العرش فوق السماء وقال يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم الآية وقال تعرج الملائكة والروح إليه

فبين عروج الأمر وعروج الملائكة ثم وصف صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال إليه يصعد الكلم الطيب
وقال ثم يعرج إليه ثم قال في يوم كان مقداره مقدار صعودها وفصله من قوله إليه كقول القائل صعدت إلى فلان في يوم أو في ليلة وإن صعودك إليه في يوم فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله جل وعز وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم قد صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو الذي لله عز و جل فوقه
وقال إليه يصعد الكلم الطيب
وكلام الملائكة أكثر وأطيب من كلام الآدميين فلم يقل ينزل إليه الكلم الطيب
وقال عن عيسى بل رفعه الله إليه ولم يقل عنده وقال عن فرعون لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات

فأطلع إليه موسى ثم استأنف فقال وإني لأظنه كاذبا فيما قال لي إنه في السماء فطلبه حيث قال له موسى مع الظن منه بموسى عليه السلام انه كاذب ولو أن موسى عليه السلام أخبره أنه في كل مكان بذاته لطلبه في الأرض أو في بيته وبدنه ولم يتعز ببنيان الصرح
وأما الآيات الأخر التي نزعوا بها فقد أبان الله جل وعز في تلاوتها أنه لا يريد أنه كائن في الأشياء بنفسه إذ وصلها ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به كونه فوق عرشه فقال عز و جل ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض فبدأ بالعلم وأخبر أنه مع كل مناج حيث وجد وختم الآية بالعلم وقال إن الله بكل شيء عليم فبدأ بالعلم وختم بالعلم فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث ما كانوا لا يخفون عليه ولا يخفى عليه مناجاتهم تفردوا أو اجتمعوا
ولو اجتمع قوم في السفل وناظر إليهم في العلو ويسمع كلامهم فقال إني لم أزل معكم أراكم وأعلم

مناجاتكم كان صادقا ولله المثل الأعلى عن شبه الخلق
وقد روى ابن مسعود ما يدل على ذلك فقال اجتمع ثلاثة نفر عند الكعبة فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول فقال بعضهم إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله عز و جل وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم الآية فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا هذا دعوى خرجوا من قولهم في ظاهر التلاوة لأن موضع الاثنين والثلاثة والأربعة وأكثر من ذلك وأقل من ذلك الواحد فهو معهم لا فيهم وما كان مع الشيء فقد خلا جسمه منه وبان كل واحد منهما بنفسه عن الآخر وهذا خروج عن قولهم لأن عندهم لا يخلو من الله سبحانه شيء أن يكون فيه بنفسه فقد تركوا قولهم على ظاهر التلاوة لأن الله تعالى قال معهم ولم يقل فيهم

وكذلك قوله عز و جل ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فقد بين ما أراد بذلك فقال ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به بنفسه ثم قال ونحن أقرب إليه من حبل الوريد أي بعلمه فتكون الإحاطة بالعلم أقرب من عرق قلبه المتصل بقلبه فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة فإن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء وأقرب ما يكون منه أن يلازمه ولم يقل عز و جل إني فيكم ولا إني في حبل الوريد ولا أني أقرب فيكم من حبل الوريد لأنه لو كان في حبل الوريد صار حبل الوريد أقرب إلينا لأن ما كان فيه شيء فقد 103 حواه وآخر حواه وهو دونه كالرجل يكون في بيت دار فجدار البيت أقرب إلى الدار ممن هو في البيت ولو كان ذلك كذلك لكان آخر حبل الوريد أقرب إلى قلوبنا منه ومحال أن يكون ما في الوريد أقرب إلى الجسم من حبل الوريد وإنما يكون أقرب إلى الجسم من حبل الوريد إذا لم يكن في حبل الوريد وكان خارجا

منه أو كان بعضه في حبل الوريد وبعضه خارجا منه إلى الجسم فذلك التبعيض ففي ظاهر التلاوة على دعواهم ما يدل أنه ليس في حبل الوريد كله وإنما يدل على أنه إما خارج منه أو بعضه خارج منه وكذلك قوله في السماء إله وفي الأرض إله فلم يقل في السماء ثم قطع كما قال أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فقال في السماء إله فأخبر أنه إله أهل السماء وإله أهل الأرض
وذلك موجود في اللغة إذ يقول القائل من بخراسان فيقال ابن طاهر وإنما هو في موضع فجايز أن يقال ابن طاهر أمير في خراسان فيكون أميرا في بلخ وسمرقند وكل مدنها هذا وإنما هو في موضع واحد يخفى عليه ما وراء بيته ولو كان على ظاهر اللفظ وفي معنى الكون ما جاز أن يقال أمير في البلد

الذي هو فيه لأنه في موضع واحد من بيته أو حيث كان إنما هو في موضع جلوسه وليس هو في داره أمير ولا في بيته كله وإنما هو في موضع منه لو كان معنى هذا معنى الكون فكيف العالي فوق كل شيء لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره فهو إله أهل السماء وإله أهل الأرض لا إله فيهما سواه فهو فيهما إله إذ كان مدبرا لهما وما فيهما وهو على عرشه فوق كل شيء باق

الحشوية والنسخ في الأخبار
وأما الأخبار فقد قال بعض الروافض إن الله عز و جل ينسخ أخباره وقال قوم من أهل السنة بنسخ الأخبار لا على التعمد منهم ولكن عن الإغفال والسهو عن الفحص عن معنى ذلك
فقال الكلبي إنه لما نزلت إنكم وما تعبدون من

دون الله حصب جهنم نسخها بقوله إن اللذين سبقت لهم منا الحسنى ومعنى ذلك لو كان نسخها أن الله عز و جل قال إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنه أراد به أن يعذب عزيرا والملائكة والمسيح فأوجب عليهم العذاب ثم نسخ ذلك بعدما أوجبه كما أوجب قيام الليل ثم نسخه وكما أوجب تقديم الصدقة قبل نجوى النبي صلى الله عليه و سلم ثم نسخها وكما أوجب الصلاة إلى بيت المقدس ثم نسخه ومعاذ الله أن يكون الله عز و جل أراد وأحب تعذيب أوليائه من الملائكة ولا المسيح ولا عزير وقد تقدمت فيهم أخبار من الله جل وعز بالولاية قبل أن ينزل آية العذاب في الآلهة فلما أنزل آية العذاب لم يرد بها من تقدم منه القول بولايتهم وإنما أراد من عبدوا سوى أوليائه وكان خبرا خاصا لا عاما كما قال الله جل وعز إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ولم يرد الكافرين إذ لم يتوبوا لأنه قد تقدم فيهم أخبار أنه لا يغفر لهم إن لم يتوبوا

وقال الكلبي ومتبعوه أيضا قوله والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض نسخ ذلك بقوله فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
ولو كان كما زعم لكان قوله ويستغفرون لمن في الأرض خبرا منه أنهم يستغفرون لأهل الأرض كلهم من تاب منهم ومن لم يتب ثم رجع فقال إنما استغفروا للذين تابوا وليس كذلك ولكنه أخبر أولا بخبر كان ظاهره على العموم وهو خصوص ولم يرد أولا في خبره أنهم استغفروا لأهل الأرض كلهم ثم رجع فأخبر أنهم إنما استغفروا للتائبين دون غيرهم هم لم يستغفروا قط إلا للتائبين ولم يرد بخبره عنهم إلا التائبين ولكنه أخبر أولا وكان ظاهر خبره على العموم
وإنما أراد بقوله لمن في الأرض من التائبين ثم بين في الخبر الثاني من أراد لأن الله عز و جل لا جائز أن ينسخ الاستغفار للكافرين وقد أخبر أنه قال لا يغفر لهم أبدا فيكون قد أمرهم أن يستغفروا للكافرين ثم

نسخه بنهيه لهم فيدعوا الاستغفار لجميع الناس دون أن يستغفروا للمؤمنين بعد ذلك لأنه عز و جل يقول ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ولا يقدمون بين يدي الله ما لم يؤمروا به فيخالفوا محبة مولاهم فيسألوه أن يغفر للكافرين مع المؤمنين وقد أوجب ألا يغفر لهم أبدا وهو يخبر بأنهم لا يشفعون إلا لمن رضي شفاعتهم له ويمدحهم بذلك
فإن احتج محتج بأن إبراهيم عليه السلام قد استغفر لأبيه ومحمدا صلى الله عليه و سلم لعمه حتى نهي فذلك إنما كان ابتلاء من محمد صلى الله عليه و سلم حتى نهاه الله عز و جل لا أن الله تبارك وتعالى أمره أن يستغفر للمشركين ثم نسخه والملائكة لا جائز أن تبتدئ بما لم تؤمر به لأنه عز من قائل يقول ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
فالناسخ والمنسوخ لا يجوز أن يكونا إلا في الأحكام في الأمر والنهي والحدود والعقوبات في أحكام الدنيا

ولا يكون ذلك بداوات من الله عز و جل ولا استفادة علم ولا رجوعا عن صدق بنسخ خبر ولا ابتداء بكذب ثم رجوعا إلى صدق جل وتعالى عن ذلك
ولكنه أمر بأمر وحكم بحكم وهو يريد أن يوجه إلى وقت ويريد أن يأمر بتركه بعد ذلك الوقت لم يزل مريدا للفعل الأول إلى الوقت الذي أراد نسخه وإيجاد بدله إلا من المأمور به والحكم به وكلاهما لم يزل يريدهما ولم يبدله في الثاني ببدو ولا بنسخ أمره ولكنه ينسخ المأمور به بمأمور به آخر وكلامها وقع التبديل على المأمور به بمأمور به آخر وكلاهما كلامه لا رجوعا عن قوله الأول أنه لم يكن حقا وصدقا منه وحكمة وصلاحا لعباده يستخرج منهما التسليم لأمره في وقت يكون ذلك منهما ويكون من إبراهيم القصد منه لحديدة يذبح بها ابنه وإضجاعه ووضع السكين على حلقه بالصبر والتسليم لأمره ويكون من إسحق بالطوع لأبيه ابتغاء مرضاة الله ربه بالتسليم لأمره ويكون من الكبش بدله وكلاهما مراد له لم يزل في

وقتين مختلفين فأراد أن يضجعه ويقصد بحديدة لذبحه ويكون التسليم منهما ويأمره بالكبش فيذبحه ولو أراد الله ذبح ابنه لذبحه لا محالة لأنه تعالى لا يريد شيئا إلا تم ولو أراد ذبح ابنه لذبحه لا محالة ولأخبره أنه ذابحه لا محالة لأنه لا يخبر بشيء أنه كائن ثم لا يكون ولا يجوز أن يخبر أنه يكون إلا كان
كما أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم والمؤمنين أن يصفحوا عن المشركين ولا يقاتلوهم ويصبروا على أذاهم وهو يريد أن يصفحوا عنهم إلى أن يقوى الإسلام ويهاجروا إلى المدينة وهو يريد إذا هاجروا وقوي المسلمون أن يأمرهم بالقتال وكلاهما لم يزالا مرادا له
أراد أن يوجب هذا إلى وقت ثم يوجب الآخر بدلا منه ويأمر بترك الأول كما أمرهم بالصلاة إلى بيت المقدس ثم أمرهم أن يتحولوا إلى الكعبة وذلك كثير في أحكامه أبدل أحدهما بدلا من الآخر في وقتين مختلفين وكلاهما كان مريدا له

هذا يريد أن يأمر به إلى وقت وهذا يريد أن يأمر به بدلا منه بعد تقضي الوقت ويأمر بترك الأول من غير بدء ولا جهل
وكذلك كل حكم نسخه حكم آخر فإنما جعل الثاني بدلا من الأول وذلك موجود بين العباد على تقدم الإرادة منهم فيما أمروا به أولا ثم نهوا عنه وأمروا بغيره من غير بدء ولا جهل وذلك كان يأمر الرجل غلامه ليعمل في أرضه وهو يريد أن يعمل فيها وقت الزراعة ثم يصرفه بعد ذك إلى خدمته في منزله وكلاهما قد تقدمت به الإرادة منه ويأمره أن يخرج معه إلى قريته وهو يريد إذا بلغ القرية أن يأمره بالرجوع إلى أهله يقوم بحوائجهم ويكتفي هو بخدمة نفسه في قريته أو يريد أن يرده إلى قريته أو مدينته إلى عمل يعمله له من بناء أو عمل يكسب به أو غير ذلك لربما قال له إعمل كذا وكذا إلى الظهر أو إلى رأس الشهر وإذا انسلخ 105 الشهر فدع العمل واعمل كذا وكذا لعمل آخر فتقدم منه الأمر

بالعملين جميعا في وقتين مختلفين أو يأمره بأحد العملين في وقت وهو كذلك يريد أن يأمره بالعمل الآخر بعد انقضاء الثاني فيكون الآخر بدلا من الأول يبدأ بأحدهما إلى الوقت وقد أمره أن يدعه إذا جاء الوقت ويعمل الآخر بدلا من الأول من غير بدء منه ولا كذب ولا جهل فكيف بالإله الواحد القهار الذي يعلم عواقب الأمور كلها ولا تبدو له البداوات ولا تحل به الحوادث ولا تعتقبه الزيادة والنقصان

القول بخلق القرآن
ولقد جامعنا قوم من أهل الضلال على ذلك لئلا يقع النسخ من الله عز و جل في أخباره ومدحه وإنما يقع النسخ في أحكامه ثم جهلوا إذ أرادوا أن يقووا قولهم بأن كلام الله مخلوق فزعموا أن الله عز و جل قد ينسخ كلامه بكلامه فيما أمر به ونهى

عنه وكان مما استدلوا به أنه كلام مخلوق أنه ينسخ بعضه ببعض
قالوا ولو لم يكن مخلوقا ما جاز عليه النسخ ولا التبديل
وقد جهلوا المعنى وجاروا عن الحق لأن الله جل وعز لم ينسخ كلامه بكلامه وإنما ينسخ مأمورا به بمأمور به فأبدل أحدهما مكان الآخر وكلاهما كلامه وإنما ينسخ كلامه الأول بكلام منه ثان الكاذب الراجع عما قال فأما إذا كانا جميعا منه فهما حق وصدق فإنما أمرهم بمأمور أوجبه ثم رفعه وبدله بمأمور آخر ألزمهم القيام به وكلاهما كلامه أوجبهما في وقتين مختلفين فالله جل وعز لم يأمر العباد أن يفعلوا كلامه ثم يأمرهم أن يفعلوا كلاما له ثانيا بدلا من الأول وإنما أمرهم بعمل يعملونه ثم بدل لهم عملا آخر ألزمهم إياه ونسخ الأول وجعل الثاني مبدولا به ألم تسمع الله عز و جل يقول لا مبدل لكلماته

وقال يريدون أن يبدلوا كلام الله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم لن تخرجوا معي أبدا ولم يقل إن الله حرم عليكم الخروج معي ولم يقل أبدا فيكونوا إذا أرادوا الخروج مع النبي صلى الله عليه و سلم أرادوا أن يعصوا الله ولا يكونوا مبدلين كلام الله ولكن الله جل وعز أمر نبيه أن يخبرهم أنهم لا يخرجون معه أبدا أبدا ولا جائز أن يخرجوا معه أبدا لأن هذا القول من الله عز و جل خبر منه أنه لا يدعهم يخرجون مع نبيه عليه السلام أبدا ولا يأذن لهم في ذلك فلو خرجوا كان ذلك تكذيبا لخبر الله جل وعز ولو أذن لهم الله لكان هذا تبديلا لكلامه الأول وكان هذا كذبا وجل ربنا وتعالى عن ذلك فلما سألوا النبي عليه السلام أن يخرجوا معه وكان في خروجهم تكذيب خبر الله وتبديل لكلامه قال الله جل ثناؤه لنبيه عليه السلام لما سألوا أن يخرجوا معه يريدون أن يبدلوا كلام الله فدل الله عز و جل بذلك أن في

تبديل كلام الله إيجاب الكذب والله جل وعز لا يبدل كلامه ولا ينسخ قوله وإنما ينسخ فرضه ويبدله بفرض غيره وكلاهما كلامه
ألا ترى أن كل ما ينسخ ويبدل فلا يجوز فعله كالصلاة إلى بيت المقدس وبعضه لا يجوز فعله على الإيجاب له كقيام الليل وغيره وكذلك الوصية للوالدين ولمن يرث لا يجوز أن ينفذ الوصية لهم
والكلام الذي نهاهم به أولا كلام له واجب على العباد أن يؤمنوا به أنه حق وأنه من القرآن من كفر به فهو كافر ومن آمن به فهو مؤمن وأن عليهم ألا يخرجوا جميعا من حفظه حتى يكون بعضهم يحفظه ولا يجوز له أن يسقط من القرآن فلا يقرأ ولا يتلى وأنما سقط فرض الآية وثبت نصها والنص حق وصدق وإنما بطل الفرض ولم يبطل النص وإنما سقطت الوصية أن ينفذ فتجوز فسقط وجوب الفرض من الآية وثبت نصها أن تجب الوصية للوالدين ونحوها ولم يسقط كلامه بذلك أنه حق

وصدق وأنه ليس بين الآية الناسخة للمأمور به وبين الآية التي نسخ منها المأمور به فرقان في الايمان بهما والكفر بهما وأنهما جميعا حق وصدق وإنما افترق الحكمان بهما
فمن زعم أن الحكم 106 المنسوخ واجب بعد علم فقد كفر وأن الثاني المبدل به ليس بواجب فقد كفر فجائز أن يقال قد أبطل الله الصلاة إلى بيت المقدس ولا يقال قد أبطل الله قوله فيكون كلام الله باطلا
فالكلام الذي نسخ به حق والكلام المنسوخ الحكم منه حق فيقال قد أبطل الله جل وعز وجوب الوصية وأبطل الله الصلاة إلى بيت المقدس أن يكون واجبا الآن وأبطل قيام الليل أن يكون واجبا
ولا يقول مؤمن قد أبطل عز و جل الآيات التي كانت هذه الأحكام كلها فيها واجبات فيكون كلاما باطلا فالكلام الذي نسخ منه الحكم والكلام الذي ثبت به الحكم الثاني كلام الله حق وصدق لا باطل ولا كذب وأحد الحكمين ساقط ومن دان به بعد علم

فقد دان بالضلال والباطل أن يكون واجبا على عباد الله
وكان مما احتجوا علينا به في ذلك قول الله جل من قائل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
فقالوا ما جاز أن يكون بعضه خيرا من بعض فهو مخلوق لأنه إذا كان شيء هو خير من شيء فقد فضله والآخر منقوص وقال أو مثلها قالوا وما كان له مثل فهو مخلوق لأن المثل يشتبه بمثله وما جاز أن يأتي به الله جل وعز فيحدثه فهو مخلوق وكل مخلوق فمثله مخلوق لأن حكم المثل حكم مثله
وجهلوا التأويل إنما قوله جل وعز نأت بخير منها بخير بمأمور به هو أوسع لكم وأخف عليكم أو مثله في الخفة والسعة وكذلك قوله عز و جل من جاء بالحسنة فله خير منها لا يعني خيرا من التوحيد

وإنما يعني له منها خير كما يقال الدراهم خير من المال لا يريد أفضل من المال وإنما يريد الدراهم من المال خير فإن قالوا بظاهر التلاوة فقد جامعونا أن الله جل وعز عندما أمر بالوصية للوالدين أمر بمأمور به أوسع من الأول وجامعونا أن الله جل وعز لما أمر بالمال لورثة معلومين فالمأمور به الآخر أوسع وما نسخ الله جل وعز من تقدمه النجوى بين يدي كلامهم لرسوله عليه السلام وما نسخ من قيام الليل ونحو ذلك
ومما يدل على بطلان قولهم أن قائلا لو قال ترك قيام الليل أن يكون علينا واجبا هو أرفق بنا وأوسع لنا من قبل اتساعه لنا كان صادقا ولو قال إن قوله فاقرؤوا ما تيسر منه خير من قوله يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا فأراد أن الكلام الآخر من الله جل ذكره خير وأفضل والكلام الأول أنقص وأدنى كان كافرا بالله عز و جل إذ ازدرى كلام الله وزعم أنه منقوص دني

القسم الخامس
مع المعتزلة دفاع والزامات
دفاع عن أهل السنة
دعوى المعتزلة
وقد ادعى علينا بعض أهل البدع من المعتزلة أنا نزعم أن الله عز و جل ينسخ أخباره وصفاته فقالوا إن الله عز و جل أخبر أنه يعذب القاتل والزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم ظلما ولم يستثن منهم أحدا فزعمتم أنه جائز أن يغفر الله لبعض أهل الكبائر وأنه لا يغفر لبعضهم
وقال بعضهم إنه يغفر لهم كلهم
وأخبر أن الفجار لا يغيبون عن النار فزعمتم أن الله جل ذكره يخرج قوما من الفجار المقرين بعدما احترقوا ويدخلهم الجنة
وزعم بعضكم أن الله عز و جل يخرج كل فاجر مقر قاتل كان أو زان أو سارق أو من أتى بأعظم الذنوب إلا بالكفر بالله جل ثناؤه

وزعمتم أن الله جل وعز نسخ خبره وأخلف وعيده وأكذب قوله في بعض ما أخبر أنه معذبه وبعض من أخبر أنه مخلد في النار وهذا تكذيب وخلف من القول
وكذلك قالوا في الصفات قالوا زعمتم أن الله جل وعز امتدح بأن الأبصار لا تدركه ثم زعمتم أن هذه المدحة تبدل في الآخرة فتراه العيون وهذا نسخ المدح لأنه أمتدح بأن الأبصار لا تدركه ولم يستثن في الدنيا فزعمتم أنها تدركه في الآخرة نظرا
قالوا ولو جاز أن يغفر الله لأهل الكبائر بعد ما قال إني معذبهم وإن جزاءهم النار لجاز أن يغفر لأهل الكفر لأنه كذلك قال إني أعذبهم وإن جزاءهم النار ولو جاز أن تراه الأبصار بعدما نفى الرؤية لجاز في قوله وهو يطعم ولا يطعم أن يطعم في الآخرة ولا يطعم 107 في الدنيا
وكذلك قوله لا تأخذه سنة ولا نوم لجاز أن

تأخذه السنة والنوم في الآخرة وقوله لا يخفى عليه شيء أنه يخفى عليه في الآخرة لا فرقان بين ذلك زعموا

في الوعد والوعيد
وقال أبو عبد الله رحمه الله وقد أبعدوا القياس وادعوا علينا ما لم نقله معاذ الله أن نقول إن أخبار الله ومدحه تنسخ وهو الصادق في كل حال والكامل لم يزل ولا يزول ولكنا نقول إن الله جل ذكره أخبارا عامة وإن اتفق ظاهر تلاوتها في العموم فهو مختلف في معاني الخصوص والعموم
فأما ما ادعوا علينا في الوعيد فهذه دعوى باطل ولكن الله جل وعز أوجب لآكل مال اليتيم والزاني والسارق وشارب الخمر والقاتل وهو يريد أن ذلك عليهم أجمعين واجب وأنهم له مستحقون ولم يرد أن يعذبهم أجمعين ولو أراد أن يعذبهم أجمعين فإن أراد أن يعذب بعض من استوجب فيعذبه بعدله

ويغفو عن بعض من وجب عليه فيعفو عنه بفضل رحمته لزلاته يقول إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فأخبر أنه لا مشيئة له في مغفرة أحد من المشركين وله المشيئة فيما دون الشرك بالمغفرة عمن يشاء منهم فأخبر أنه لم يرد أن يعذبهم كلهم وأن يغفر لبعض من يشاء منهم
وأخبر أنهم جميعا مستحقون للعذاب وأن له مشيئة في بعض من استحق منهم العذاب الذي وجب عليهم في حكمه ولم يعلمنا من يغفر له فقطعنا بما قطع وأيسنا من عفوه عمن آيسنا منهم من المغفرة للمشركين وأوقفنا ما أوقف من عذاب المستحقين من المؤمنين إلا أنا نعلم أنه سيعذب بعضهم ولا يكذب قوله لأنه أخبر أنه يعذب وأن له مشيئة فيهم فيمن يشاء منهم أن يغفر له
فكان ما أخبر الله جل وعز به من عذاب الموحدين

خصوصا لا عموما إذ أخبر أنه يغفر لمن يشاء منهم وأن خبره أنهم مستوجبون عموم
وإذا أخبر أنه له مشيئة فيمكن مشيئته فيمن استوجب العذاب منهم
وأما ما ادعوا به علينا فزعموا أنه يلزمنا أن نشك في عذاب الكفار فلا ندري يغفر لبعضهم لأنه قال لليهود والنصارى بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء
فقالوا قد استثنى في هاتين الآيتين كما استثنى فيما دون الشرك فإنه يقال لهم أبعدتم في القياس والتمييز إن الله جل وعز لم يقل لليهود والنصارى بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء منكم فيكون قد استثنى بعضهم فيلزمنا ذلك فلو قال ذلك كان يلزمنا كما قلتم وكذلك قوله عز و جل يغفر لمن يشاء عموم لم يخص قوما بأعيانهم فقد عرفنا من يشاء مغفرته بعد عموم هذا الخبر بأخبار خاصة ولولا الأخبار الخاصة

بعد ذلك لكان علينا أن نقف حتى نعلم من يشاء عذابه فلما أخبرنا أنه لا يغفر لمن أشرك قطعنا بذلك
وأخبرنا أنه يغفر لمن يشاء ممن تاب قال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقال تعالى ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء فقطعنا بذلك وعلمنا أنه قد شاء عذاب الكافرين وشاء مغفرة التائبين ولما أرخى كذا مغفرته من يشاء من المصرين من الموحدين وقفنا ولم نقطع وعلمنا أنه يشاء أن يغفر لبعضهم وأنه يعذب بعضهم إذ أخبر أنه سيعذبهم إلا من يشاء مغفرته منهم فجعل مشيئته في مغفرة بعضهم خصوصا والآخرون معذبون بقوله أعذب وأغفر لمن شئت منهم فعلمنا أن من يشاء الله من خلقه بعد قوله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء أن يعذبهم وأن يغفر لهم ولم نعلم من يغفر له من المصرين من الموحدين

ولا من يعذب منهم إلا أنه سيعذب بعضهم ويغفر لمن يشاء منهم
وأما قولهم لا يخلو من ثلاث خلال
إما أن يكون قال أعذبهم وهو يعلم أنه سيعذبهم
أو كان لا يعلم من يعذبه منهم
أو كان يعلم أنه يعذبهم
فالشك في علم عذابهم كفر
وقوله أعذبهم وهو يعلم 108 أنه لا يعذبهم كذب
فقد جامعناهم على ذلك إلا الفصل الأول وهو قولهم إنه قال ذلك وهو يعلم أنه يعذبهم
فجوابنا أنه قال ذلك وهو يعلم أنه سيعذب بعضهم ويعفو عمن شاء أن يعفو عنه وكذلك استثنى لما علم ولا يلحقه في ذلك شك ولا كذب ولا خلف والآية في الاستثناء من شاء أن يغفر له من الموحدين لا يخلو من أن تكون الآية من أولها إلى آخرها في المصرين أو في التائبين أو هي مخصصة أولها وآخرها في التائبين

فهذا لا يقوله أحد أنه من تاب من الشرك لم يغفر له ومن تاب من الذنوب غفر لمن شاء منهم وإن كانت في المصريين فهذا عندنا هو الحق لأن الله جل ذكره لا يغفر لمن مات مصرا على الشرك ويغفر لمن يشاء ممن مات مصرا على الذنوب مع التوحيد وإن كان أولها في بعض دون بعض فهذا على معاني شتى وآخرها في التائبين فهذا التحكم في الدعوى لأنهم جامعونا على أن أولها في المصرين وقولهم إن أولها في المصرين على ما ابتدأها الله عز و جل أو يأتوا ببرهان على قولهم
وقولهم إن آخرها في التائبين فلو كان كذلك لم يكن التائبون مغفورا لهم أجمعين إنما الغفران أن يغفر لبعضهم لمن شاء منهم لأن الله جل ثناؤه استثنى خصوصا ولم يعم وقد عمتها الأخبار عنه أنه يغفر للتائبين جميعا ولم يخص أحدا منهم بالمغفرة دون أحد كما خص فيما دون الشرك أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فإن أبوا في آيات الوعيد إلا ظاهر التلاوة أن الله عز و جل أخبر أنه معذب جميع من فعل ذلك وكل من

فعله منهم فهو في ظاهر التلاوة معذب وأنه إنما استثنى في آية الاستثناء من يأتي دون غيرهم كذا وأنه من أخبر أنه معذبه من الموحدين فالخبر فيه عام ولم يرد بعضنا دون بعض فعليهم في الظاهر مثل ذلك إن كان أراد أن يعذب من قال إني أعذبه على العموم ولم يرد بعضا دون بعض فقد قال الله جل وعز ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم وقال والله لا يحب الظالمين وقال إن الظالمين في عذاب مقيم وقال ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار
فكل من جاء بسيئة أو ظلم نفسه بذنب صغير ومات مصرا عليه أو عصى بذنب كبير وتاب منه فهو في النار لأنه لم يستثن في هذه الآي تائبا من مصر لا من كبيرة ولا من صغيرة
فإن قالوا إنه لا يريد التائبين ولا المجتنبين للكبائر ولا النبيين قيل لهم تركتم ظاهر التلاوة

وكذلك قلنا نحن لم نرد من شاء أن يغفر له من أهل الكبائر والصغائر المصرين
وكذلك قوله عز و جل كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها إلى قوله فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء وكل من دخل النار فقد كذب بما أنزل الله جل ثناؤه
وقالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فلن يدخل النار أبدا كذا على قول من حمل الآية على ظاهرها إلا من قال ما أنزل الله على بشر من شيء وكذب النذر وأنه لا يدخلها أحد من أهل الكبائر المقرين بالله ورسوله فإن قالوا ذلك ضادوا قولهم وكذبوا الله تعالى فيما سوى ذلك من الأخبار
وإن قالوا إنما أراد المكذبين خاصة قلنا لهم هذا أبين في العموم من الآيات الموجبات للموحدين على الذنوب النار لأنه قال كلما ألقي فيها فوج فعم كل فوج يلقى فيها وكذلك قوله لا يصلاها

إلا الأشقى الذي كذب وتولى وقد نفى أن يصلاها إلا من كذب وتولى وأوجب أن من صدق لا يدخلها وإن أتى بكل ذنب لأن الله عز و جل نفى أن يصلاها إلا من كذب وتولى
فإن قالوا إنما عنى به بابا من أبوابها دون غيره من الأبواب
قيل لهم فهذا على غير ظاهره كما قلتم في الآيات الموجبات لمن أذنب من أهل التوحيد وقد قال جل وعز من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون وقال جل من قائل والله يحب المحسنين وقال 109 إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا
وأحسن الأعمال التوحيد
فإن قالوا أراد من اجتنب الكبائر من الموحدين

قيل لهم هذا غير ظاهر التلاوة فإن الله تعالى يقول إنما يتقبل الله من المتقين
قيل لهم فهذا عليكم لأن كل من اتقى الشرك فقد وقع عليه اسم المتقين كما من فجر فجرة فقد وقع عليه اسم الفاجرين فقد لزمكم القول بأن الله تعالى ينسخ أخباره لأنا نقول زعمتم في دعواكم علينا أن أخبار الله جل وعز تتناسخ لأنه يقول إن الظالمين لهم عذاب مقيم إنه لا يحب الظالمين فكل من عصى الله من النبيين والصديقين وأصحاب الأنبياء فقد ظلم نفسه
وقال موسى عليه السلام رب إني ظلمت نفسي وقال يونس عليه السلام إني كنت من الظالمين وقال آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وقال الله جل وعز من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون

الله وليا ولا نصيرا ومن عصى الله فقد عمل سوءا لأن المعصية سوء كائنة ما كانت فإن قالوا لم يرد النبيين ولا التائبين ولا من اجتنب الكبائر
قيل لهم فلو عارضكم معارض فقال إنما أراد بقوله إلا من تاب من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم دون غيرهم لأن الآية عليهم أنزلت فهي لهم خاصة ما كنتم تردون عليه فإن قالوا أراد كل تائب قيل لهم يقول لكم كذلك أراد كل من أذنب ذنبا دون الشرك مصرا كان أو غيره ويقال لهم أرأيتم لو قال لكم قائل إن قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إنما أراد به من اجتنبها فلم يعملها قط يريد من لم يكن له صبوة واحتج بظاهر التلاوة على الذي يحتجون عليه
فإن قالوا قد استثنى من تاب قيل لهم وكذلك قد استثنى ما دون الشرك من الذنوب فقد ذهبتم إلى ما خص دون ما عم

ولو قال لكم قائل بل إنما أراد به من لم يرتكب كبيرة قط فإن كانت منه كبيرة ثم تاب ثم لقيه بالصغائر مصرا عليها غفر له ما تاب منه من الكبائر كما قال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا وأخذه بالصغائر لأنه إنما أراد أن يغفر الصغائر إذا لم يتب منها ممن اجتنب الكبائر فلم يأتها قط فمن قال بظاهر الآيتين أوجب المغفرة لمن لقيه مصرا عليها وهذا ظاهر الآيتين فإن قالوا أراد من اجتنب الكبائر بالتوبة ومن لم يكن له صغيرة قيل إن ظاهر الآية إنما هو على الاجتناب وهو ألا يكون أتاها قط فقد تركتم ظاهر التلاوة والعموم فإن كان من رجا لمن استثنى الله جل ذكره مشيئة مغفرته قال بتناسخ الأخبار فقد قلتم بتناسخ الأخبار وأنتم عبتم ترك ظاهر التلاوة في الآيات الموجبات على الكبائر لأهل التوحيد النار وتركتم ظاهر الآية في استثناء كل ما دون الشرك من الذنوب فزعمتم أنه أراد التائبين ممن أخطأ ممن قال بمثل ما عاب على غيره فقال

يغفر لبعضهم فقلتم يغفر لكلهم هو ظاهر الاستثناء لمن شاء فخص ولم يعم فاحكموا على أنفسكم أنكم تقولن بتناسخ الأخبار
وقد قال بعض الأمة بغير قولنا وقولكم قالوا إنما أراد بالوعيد على الكبائر المشركين ولم يرد المؤمنين لأن المؤمنين مغفور لهم لأنه يقول ومن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وقال عز و جل وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وقال عز و جل والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم
فكل من أقر فقد آمن
وقولكم إذا أتى كبيرة فليس بمؤمن دعوى منكم لا برهان لكم عليها وقد قالت الخوارج إنه إنما أراد به من أتى كبيرة فهو كافر فما دعواكم إلا كدعواهم أو ترجعون جميعا إلى قول أهل الحق فتقطعون بما قطع الله جل وعز من عذاب للجاحدين ومغفرة للتائبين

والوقوف عند من استثنى من الموحدين فيما دون الشرك وإلا كنتم مدعين مبطلين ونحن نسألكم عن معنى قولكم حتى نقرر كم بأن قولكم خلاف الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماعكم معهم

إمتناع الخوف والرجاء
فنقول لكم أرأيتم يخلو العباد أجمعون من أن يكون لا ينفك أحد منهم أن يكون صاحب كبيرة أو صاحب صغيرة مجتنبا للكبائر فإن 110 قالوا لا قلنا فمن كان منهم صاحب كبيرة هل يجب عليه واجب أن يعلم أنه إن مات عليها ولم يتب أنه في النار لا محالة فإن قالوا كذلك يجب عليه قيل لهم هل يجب عليه أن يخاف الله عز و جل إن مات عليها أن يعذبه بعد موته فإن قالوا نعم قلنا إنما الخوف على الشك فأما من علم أنه معذب لا محالة فلا معنى لخوفه لأنه مستيقن بالعذاب لا شك فيه فكيف يكون خائفا أن يعذب وهو مستيقن بالعذاب إن مات على ذلك

ولو جاز له ذلك لجاز أن يقولوا إنا نخاف أن يعذب الله عز و جل فرعون وهامان قالوا لا يجوز ذلك لأنا مستيقنون بعذاب فرعون وهامان
وقيل يجوز أن يقولوا إن مات الكافر مصرا خفنا عليه العذاب فإن قالوا لا يجوز لأنا مستيقنون ذلك قيل لهم فكذلك صاحب الكبيرة لا يجوز أن يخاف الله عز و جل أن يعذبه عليها فيكون شاكا في وعيد الله عليها فيكفر
ويقال لهم هل يجوز أن يرجو أن يعفو الله عنه وهو مصر عليها ولم يتب بعد فإن قالوا لا لأن رجاءه أن يعفو الله عنه ولم يتب شك في وعيد الله وصدقه ورجا أن يخلف وعده ويكذب قوله قيل لهم فالخوف والرجاء من صاحب الكبيرة ضلال إذن
ويقال لهم أرأيتم إن كان مجتنبا الكبائر هل يجوز أن يخافه قالوا نعم عليه أن يخاف الله قيل لهم يخاف الله أن يعذبه وهو وعده المغفرة والرضى والمدخل الكريم وهو الجنة

فإن قالوا لا يخاف أن يعذبه الله إذا لقيه بالضغائر مجتنبا للكبائر
قلنا فلو جوزتم له الخوف أن يعذبه الله وقد لقيه مجتنبا للكبائر لكان خوفه ضلالا لأن ذلك يوجب عليه الشك في وعد الله تعالى ولا يأمن أن يخلف وعده ويكذب قوله جل وعز عما يقول الظالمون علوا كبيرا
ويقال لهم يجوز أن يرجوا أن يكفر الله عنه سيئاته ويدخله الجنة وهو مجتنب للكبائر والصغائر ولو اجتنب الكبائر والصغائر لكان مغفورا له فنسألكم كذا عنه ولو اجتنب الكبائر وأتى الصغائر أو كان مجتنبا للذنوب كلها هل يجوز له أن يرجو العفو والمغفرة من الله جل وعز
فإن قالوا لا يجب ذلك عليه فقد زعموا أنه لا ينبغي لأحد أن يرجو المغفرة من الله لأن صاحب الكبائر عندهم مؤيس من رحمة الله عز و جل وصاحب الصغائر ومن لم يأت شيئا من الذنوب موقن بمغفرة فلا ينبغي لأحد أن يخاف الله ولا يرجوه بزعمهم فإن قالوا

لا ينبغي له أن ييأس من الله قيل إن الرجاء عندكم لا يكون إلا على الشك لا على اليقين فكيف يجوز أن يرجو أن يغفر الله له ويدخله الجنة وقد وعده ذلك لئن جاز له ذلك ليجوزن لك أن ترجو الله أن يدخل رسله الجنة وأن يؤاخذهم بذنوب غيرهم ويرجو أن لا يعذبهم بكفر غيرهم من الكفار ويرجو أن لا يعذبكم على الكفر به وأنتم به مؤمنون ولو جاز ذلك لجاز أن يرجو أن يكونوا رجالا وأن يكونوا نساء وهذا كله غير جائز عندهم لأن الرجاء والخوف عندهم لا يكون إلا على الشك ولا يكون على اليقين فإن قالوا لا يجوز ذلك لأن الله جل ذكره أخبر أنه مدخل رسله الجنة وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأنه لا يجزى العباد إلا بما كسبوا ولا يعذبهم بما لم يذنبوا
قيل لهم وكذلك المجتنب للكبائر لا يجوز له أن يرجو الله أن يغفر الله له وقد وعده ذلك بل يستيقن ذلك والموحدون لا يخلو أحد منهم من أن يكون مجتنبا

للكبائر أو مصرا على بعض الكبائر أو دون ذلك أو كلاهما فحرام عليهم على قولكم الرجاء والخوف فحرام على العباد كلهم بزعمكم الرجاء والخوف لأنه لا يخلو أحد منهم من أن يكون من إحدى المنزلتين وهذا الخروج من الكتاب والسنة وإجماع الأولين والآخرين

إمتناع العفو
وكذلك العفو في الآخرة لا يجوز أن يكون من الله جل ذكره على مذهبكم لأنه لا يلقى الله إلا صاحب كبيرة قد أوجب في الدنيا ألا يعفو عنه وذلك عندكم كفر إن اعتقده لأن الله جل ذكره قد آيسه من ذلك
أو صاحب صغيرة غير مصر 111 على كبيرة يعد مجتنبا للكبائر كلها فقد عفى عفا الله عنه في الدنيا وقد مات يوم مات وهو مغفور له من أهل الجنة فلا يحتاج إلى العفو والصفح عنه في القيامة وقد فعل ذلك به في الدنيا وهو في الدنيا يوم مات

لأنه قد لقي الله عز و جل ولا ذنب له تجب عليه به العقوبة في الآخرة وإنما العفو والصفح في الآخرة عمن لقيه وهو مستحق للعقوبة فصفح عنه تفضلا عليه وذلك عندكم كذب منه لو فعله فأما من لقيه ولا ذنب له يستوجب به العقوبة فلا يحتاج إلى العفو والله عز و جل لا يلقاه في القيامة كافر ولا موحد إلا صاحب كبيرة أو مجتنب لها والعفو في القيامة عن هذين ساقط فلا عفو لله جل ذكره في الآخرة على مذهبكم عن أحد
وهذا الخروج من الكتاب والسنة وإجماع القرون من الأولين والآخرين

امتناع شفاعة النبي
وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم لا تجوز على قولكم في الآخرة لأن صاحب الكبيرة الله معذبه لا محالة ولا يستحل النبي صلى الله عليه و سلم أن يشفع فيه فيكون يطلب إلى الله عز و جل أن يخلف قوله ويكذب وعيده على دعواكم

وكذلك المجتنب للكبائر يلقى الله وقد استوجب الإجارة من العذاب وقد غفر الله له وأخبره أنه مدخله الجنة وعدا عليه مؤكدا فلا يحتاج إلى الشفاعة إنما يحتاج إلى الشفاعة المستوجب للعذاب فأما من ضمن الله له المغفرة وأخبره أنه من أوليائه وأنه مدخله الجنة وأنه لا يعذبه فلا يحتاج إلى الشفاعة ولو جاز أن يشفع في هذا لجاز أن يشفع في إبراهيم عليه السلام ألا يعذب وفي موسى ويحيى وجميع رسله واختص محمدا بأفضل الصلاة والتسليم لأن الوعد من الله عز و جل للمجتنب للكبائر ولرسله أكبر درجات في الجنة وأعظم منزلة عند الله جل ذكره قد وعدهم جميعا ألا يعذبهم ويدخلهم الجنة وقد تولاهم أجمعين فلا شفاعة للنبي صلى الله عليه و سلم في القيامة على قولكم وهذا رد للآثار المستفيضة عن النبي صلى الله عليه و سلم والأمة كلها جاهلها وعالمها كلهم يرجون شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز في قولكم لأحد في الدنيا أن يرجو شفاعة النبي عليه السلام ولا أن يسألها لأنه إن كان صاحب كبيرة

فعليه أن يعلم أن النبي عليه السلام لا يشفع إلى الله عز و جل فيه لأن في ذلك طلبا أن يكذب قوله ويرجع عن وعيده
وإن كان مجتنبا للكبائر لم يجز له ذلك لأن عليه أن يعلم أن شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم في القيامة لا تجوز بزعمكم وحرام على أحد من العباد أن يرجوها أو يطلبها إلى الله عز و جل في قولكم
فإنما أنتم قوم غلطتم فجعلتم الخاص عاما والعام خاصا وادعيتم على من خالفكم أنه قد وصف الله جل وعز أن أخباره تتناسخ وقد دخلتم في مثل ما عبتم وجوزتم تعذيب الرسل عليهم السلام والتائبين لأنه وعد من عصاه النار ولم يستثن أحد إلا أن يقولوا إنه أخبر في آيات أخر أنه لا يعذب الرسل عليهم السلام ولا التائبين من المذنبين فيقال لكم وكذلك قد أخبر أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من المذنبين وقد قلتم فيمن أوجب الله لهم العذاب على الظلم إنه لم يرد الرسل عليهم السلام ولا التائبين

ولا أهل الصغائر وإن كانت الآية في ظاهر تلاوتها عامة فلم يعمهم إذ أخبر في آيات أخر أنه لا يعذبهم وكذلك قوله ما على المحسنين من سبيل وقوله إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا فلزمكم أن من أحسن من جميع الخلق ولو مثقال ذرة أن الله يدخله الجنة فقلتم إن الله قد أخبر أنه إنما يتقبل الله من المتقين فقيل لكم فمن اتقاه بأقل التقوى فقد دخل في العموم بالقول فإن قلتم إنما أراد التائبين قيل لكم وكذلك إنما أراد أن يعذب على الكبائر من يشاء أو يغفر له لأنه قد أخبر بعد خبره عن عذابهم أنه يغفر لمن يشاء أن يغفر له منهم ولم يعلمنا بهم فمن استثناه فهو لا محالة مغفور 112 له وإن كان الاستثناء لم يقع على أحد بعينه إلا أنا نعلم أن بعضهم يغفر لهم كما قال فعلينا أن نقطع بما بينه ونوقف ما أوقفه وهو عالم بمن يشاء مغفرته ومن يشاء عذابه

القسم السادس
ذكر الناسخ والمنسوخ في الأحكام
فأول ذلك معرفة السور المكية والمدنية ليعرف أن ما فيها من الأمر والأحكام نزل بمكة أو بالمدينة فإذا اختلف كان الذي نزل بالمدينة هو الناسخ لأنه الآخر في النزول
حدثنا شريح بن يونس قال حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال ما كان من حد أو فريضة أنزلها الله عز و جل بالمدينة وما كان من ذكر الأمم والقرون أنزل بمكة

قال وحدثنا شريح قال حدثنا سفيان عن معمر عن قتادة قال السور المدنية البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والرعد والحجر والنحل والنور والأحزاب وسورة محمد صلى الله عليه و سلم والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والنساء القصرى ويا أيها النبي لم تحرم ولم يكن وإذا جاء نصر الله والفتح وقل هو الله أحد وهو يشك في أرأيت
حدثنا عبد الله بن بكر قال حدثنا سعيد عن قتادة قال إن الذي أنزل بالمدينة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وآية من الأعراف واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر والأنفال وبراءة والرعد غير آية منها مكية ولو أن قرآنا سيرت به الجبال إلى آخر الآية ومن إبراهيم إلى قوله

ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا إلى آخر الآية والحج غير أربع آيات منها مكية أولهن وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى عذاب يوم عقيم والنور وعشر آيات من العنكبوت والأحزاب وسورة محمد صلى الله عليه و سلم والفتح والحجرات والرحمن والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون ويا أيها النبي إذا طلقتم النساء ويا أيها النبي لم تحرم ولم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب وإذا زلزلت وإذا جاء نصر الله وبقية السور مكي
قال وحدثنا عبد الله قال حدثنا أسامة عن

الأعمش عن المسيب عن علقمة قال ما كان في القرآن يا أيها الناس فهو مكي وما كان يا أيها الذين آمنوا فهو مدني
قال ذكر سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بنحوه
قال حدثنا شريح قال حدثنا مروان بن معاوية عن سلمة بن نبيط عن الضحاك قال كل آية أنزلت يا أيها الذين آمنوا بالمدينة ويا أيها الناس بمكة

فأما الناسخ والمنسوخ في الأحكام فهو على وجوه شتى منها خصوص ومنها عموم حدثنا سعيد قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة في قوله عز و جل نأت بخير منها أو مثلها يقول فيها تخفيف وفيها رخصة وفيها أمر وفيها نهي
قال وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نثبت خطها ونبدل حكمها
فالباب الأول ما رفع رسمه من الكتاب ولم يرفع حفظه من القلوب فأثبت حكمه بسنة نبيه عليه السلام من ذلك آية الرجم قال عمر رضي الله عنه إنا كنا نقرأ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة

قال وحدثنا معاوية عن أبي إسحاق عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال سمعت أنس بن مالك يقول كنا نقول فيما نسخ أن بلغوا إخواننا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه
وقوله إنا أنزلنا هذا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة

وفي مصحف عائشة قبل أن يغير عثمان رضي الله عنهما المصاحف إلى مصحف واحد إن الله وملائكته يصلون على الصف 113 الأول بعد قوله وسلموا تسليما
وقال كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ومن ذلك ما روي الني أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم وكانت فيما أسقط وفي حرف أبي وهو أب لهم فليس ذلك في الرغبة وإنما ذلك في الولاية ولا يكون في الرغبة إلا ما كان من صلب الرجل
وقال النبي عليه السلام من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فعلي
وقوله اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك إلى قوله الجد ولو أن لابن آدم واديين من مال

لابتغا إليهما ثالثا وكان بعد ذلك هذا الكلام مثبتا في مصحف أبي وقوله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر
وفي مصحف عائشة رضي الله عنها وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة فنسخ ذلك كله وأبدل أحكامه بالسنة
ثبت الرجم بالسنة وأوجب النبي عليه السلام على أمته ألا ينتفي أحد من والده فقال من انتفى من أبيه أو ادعى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله
ونهى عليه السلام عن الحرص الذي يخرج إلى طلب ما لا يحل وقوله إنا نستعينك ونستغفرك يقنت بها المسلمون في صلاتهم وكذلك وجاهدوا في الله حق جهاده وأوجب على العباد أن يفعلوه وأن يقوموا بذلك لله جل ذكره وقد جاءت بذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم شهدوا أن هذه الآيات كانت مما أنزلها الله عز و جل
قال وحدثنا شريح قال حدثنا يحيى بن أبي

بكير عن فضيل بن مرزوق عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال أنزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر وقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شاء الله أن نقرأ ثم ننسخها فأنزل الله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فحفظتها الأمة فمنهم من قال نزلت ثم رفعت وهي ثابتة في السنة أنها صلاة العصر ومنهم من يقول بل رفعت وصلاة الوسطى غيرها ثم اختلفوا أي صلاة هي إلا أنه قد روي عن علي وعبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلاة العصر
وقال وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة فالجهاد ثابت والحكم به ثابت والرسم من الكتاب مرفوع

قال وحدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة أن عمر قال لعبد الرحمن بن عوف ألم تجد فيما أنزل الله أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة قال بلى ولكن أسقط من القرآن
والباب الثاني أن يرفع حكمه من الآية بآية أخرى ويبقى رسمه فيما أسقط ثابتا في كتاب الله عز و جل من ذلك قوله عز و جل وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ومنه إن يكن منكم عشرون صابرون

الآية وقوله فأمسكوهن في البيوت وقوله ثلاثة قروء وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وقوله إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين
وكذلك قوله فذرهم واصفح عنهم و أعرض عنهم و ما أرسلناك عليهم وكيلا و ما أرسلناك عليهم حفيظا و لست عليهم بمسيطر وقوله عز و جل فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا فنسخ ذلك قوله تبارك وتعالى واقتلوهم حيث وجدتموهم وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
والباب الثالث أن يرفع رسمه من الكتاب ويرفع حفظه من القلوب وحكمه فمن ذلك ما حدثنا إسمعيل

بن سليمان بن داود الهاشمي قال حدثنا ابن جعفر عن المبارك عن عاصم عن زر عن أبي قال قال لي أبي يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة
قال وحدثنا حجاج بن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرب عن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قال أنزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها إن الله سيؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم

حدثنا القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الله بن صالح 114 عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي أمامة أن رجلا كانت معه سورة فقام يقرأ من الليل فلم يقدر عليها وقام آخر يقرؤها فلم يقدر عليها فقال النبي عليه السلام إنها نسخت البارحة
وحدثنا شريح قال حدثنا بكار بن عبد الله

الربذي عن موسى بن عبيدة قال سمعت محمد بن كعب يقول في هذه الآية يمحو الله ما يشاء قال ما أنسي النبي صلى الله عليه و سلم والمسلمون بعدما قرؤوه
والباب الرابع أن يرفع رسمه من الكتاب ويبقى حفظه في القلوب ويرفع حكمه من ذلك ما روت عائشة أنه كان فيما أنزل الله ألا يحرم إلا عشر رضعات والأمة مجمعة أن حكم العشر رضعات غير لازم في الكتاب ولا في السنة وإنما اختلف العلماء في رضعة أو خمس رضعات ولم يقل أحد ما فوق الخمسة
قال وحدثنا عبد الغفار بن داود عن ابن

لهيعة عن عمرو بن دينار النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ثم قال وكانت فيما أسقط
قال وحدثنا سنيد قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن الزهري قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم قال وحدثنا حجاج عن ابن جريح عن مجاهد النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم فالأمة اليوم مجمعة أن النبي عليه السلام ليس بأب للمؤمنين وقد قال الله عز و جل ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية
والباب الخامس أن يرفع الرسم ويرفع الحكم

إذا كان الحكم لعلة فانقضت تلك العلة وذلك كقوله عز و جل وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم الآية فكان إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المؤمنين أعطى النبي صلى الله عليه و سلم زوجها صداقها من الغنائم وذلك قوله تعالى وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا فإن عاقبتم يعني إن غنمتم فأعطوا زوجها مثل ما ساق إليها من الصداق وذلكم الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وكفار مكة
وقال جل من قائل إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن إلى قوله ذلكم حكم الله يحكم بينكم وهذا في الصلح بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وكفار أهل مكة فنسخ ذلك إذ زال الصلح وفتحت مكة فأيما امرأة جاءت من المشركين لم يجب أن يعطوا زوجها شيئا وكذلك الكفار ليس واجبا في الحكم أن يعطوا

أزواج من هرب إليهم من المسلمين
ومنه توقيت الله عز و جل للنبي عليه السلام استغفاره لبعض من كان أظهر له الإيمان وأسر النفاق ثم نسخها الله فنهاه عن الاستغفار لهم
ومن ذلك أن النبي عليه السلام حض على الصدقة فجاء عبد الرحمن بمال عظيم وجاء عاصم بن عدي بصاعين فاستهزأ معتب بن قشير وحكم بن يزيد فقالا أما عبد الرحمن فما أعطى إلا رياء وسمعة والله عز و جل عن صاعي عاصم غني فأنزل الله جل ذكره استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فقال عم النبي عليه

السلام لا تستغفر قد نهاك الله فقال النبي عليه السلام يا عم أولا أستغفر إحدى وسبعين مرة وكان ظاهرهم الإسلام فاطلع الله على نفاقهم وليس أحد يعلم ذلك بعد النبي عليه السلام لأنه وحي من الله جل ثناؤه فهكذا كان ثم انقضى حكمه فنسخ التخيير للنبي في أكثر من السبعين إذ حرم عليه أن يستغفر لهم سبعين مرة ولم ينهه عن أكثر من ذلك ثم نهاه الله عز و جل بعد ذلك عن الاستغفار ألبتة بقوله سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم وهذا لا يجوز أن يكون لأحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم
ومنه ما اختلفوا في الآية الثانية هل هي زيادة حكم 115 أم ناسخة لأولى من ذلك ما أنزل من الهجرة ثم أنزل بأمره بالقتال عليها فقال قوم نسخت بعد الهجرة بغير قتال عرض للمهاجر ولا رخصة له في الرجوع وكانت له رخصة أولا

حدثنا يوسف عن شيبان عن قتادة وحدثنا شريح قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن النبي عليه السلام قال لما نزلت آية الهجرة كتب بها المسلمون من المدينة إلى إخوانهم بمكة فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق أدركهم المشركون فردوهم فأنزل الله عز و جل ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون عشر آيات من أول السورة فتعاهدوا فخرجوا فتبعهم المشركون فاقتتلوا فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزلت فيهم ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتتنوا إلى قوله لغفور رحيم وقال بعضهم بل يعني هي زيادة حكم ثان لا ناسخة
ومنه ما أوجب الله جل ثناؤه على المؤمنين ألا يناجوا الرسول حتى يتصدقوا بصدقة إذا أرادوا أن يناجوه بعدما يتصدقون ثم رفع ذلك بقوله عز و جل أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا

وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة الآية فنسخ هذه الأحكام فلم يبق لنا منها حكما في كتابه لأن صلح النبي صلى الله عليه و سلم مع أهل مكة قد مضى وانتهى ولا يعلمه إلا الله جل ذكره
والنهي للإستغفار عمن أظهر الإسلام وأسر النفاق ولم ينه عن ذلك إذ كنا لا نعرف ما في قلبه بوحي ينزل فلنا أن نستغفر لكل من أظهر الإسلام ونكل سريرته إلى الله عز و جل ولا نبي بعد محمد عليه السلام وقد مضى النبي عليه السلام وتاب الله على المؤمنين فيما كان أوجب عليهم من الصدقة فناجوا الرسول من غير أن يقدموا قبل مناجاتهم صدقة
والباب السادس أن يفعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا أو يأمر أمته بفعل ليس بنص في كتاب الله عز و جل فينسخه الله بحكم أنزله في كتابه فيثبت الحكم في الكتاب بالفرض وأباح ما كان محرما كذا

من ذلك صلاته إلى بيت المقدس وإن كان قد قال بعض ما مضى أن الله افترض الصلاة أولا إلى بيت المقدس بقوله فأينما تولوا فثم وجه الله لو لم تجمع الأمة على هذا القول إلا أنها مجمعة أن الله أوجبه بما أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم وذلك لا يكون إلا عن الله عز و جل وإن لم نجد نصه في كتاب الله فنسخ الله عز و جل ذلك بقوله فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره
ومنه استغفاره لعمه فنسخ ذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية
ومنه كلامه في الصلاة المفروضة فروى زيد بن أرقم أن الله عز و جل نسخ ذلك بقوله وقوموا لله قانتين وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة ولم يبين أنها بعينها نزلت لذلك

ومن ذلك أيضا أنه كان محرما عليهم بغير نص نجده في الكتاب إذا ناموا في ليالي رمضان ألا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا إلى دخول الليل من القابلة ولهم أن يفعلوا من ذلك ما أحبوا قبل أن يناموا ففعل ذلك غير واحد منهم فرفع ذلك عنهم رحمة بهم وعرفهم مع رفعه إياه عنهم أن ما أوجب من ذلك كان يصنعه بعضهم فقال عز من قائل أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فرفعه ونسخه وقررهم بخيانتهم أنفسهم وعفا عنهم خيانتهم أنفسهم فيما كان نهاهم عنه ففعلوه
وكان 116 يؤذن بعضهم بعضا بالصلاة فنسخ ذلك برؤيا عبد الله بن زيد الأنصاري الأذان وأكد رؤياه وإذا ناديتم إلى الصلاة
والباب السابع أن يختلفوا في الآيتين أناسخة إحداهما الأخرى أم لم تنسخها وإن أجمعوا أن يستعملوا التي

اختلفوا فيها منسوخة أم لا على التجوز والاحتياط لا على القطع من ذلك قوله وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ثم قال جل ثناؤه في الآية الأخرى إلا ما ملكت أيمانكم فقال علي أحلتها آية وحرمتها آية وقال عثمان نحو ذلك
وكذلك قوله عز و جل وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا إلى قوله تعالى لعلهم يتقون هذه مكية ثم نزلت بالمدينة وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
قال وحدثنا شريح قال حدثنا إسحاق بن يوسف

عن سفيان عن السدي عن سعيد بن جبير وأبي مالك وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا نسختها الآية في النساء وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الآية
حدثنا شريح قال حدثنا يحيى بن زكريا عن الحجاج عن أصحاب عبد الله قال المتعة

منسوخة نسختها الطلاق والعدة والميراث
وحدثنا يونس بن محمد قال حدثنا شيبان عن قتادة عن سعيد بن المسيب ثم نسخ هذا الحرف المتعة وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم
واختلفوا في قوله عز و جل وللمطلقات متاع بالمعروف قال بعضهم نسخت بقوله فنصف ما فرضتم وقال إن في النصف لها لمتاعا حسنا وقال بعضهم هي ثابتة لم تنسخ وليست بواجبة لمن شاء متع ومن لم يشأ لم يمتع وقد متع عبد الرحمن بن عوف والحسن وعلي وغيرهم والواجبة التي لم يسم لها صداقا ولم يدخل بها

حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا شيبان عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن المتعة نسخها قوله تعالى فنصف ما فرضتم
والباب الثامن أن يختلفوا في الآيتين أناسخة إحداهما الأخرى أم لا ويجمعوا على إثبات حكمهما في معنيين مختلفين من ذلك قوله جل وعز والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قال مجاهد نسخ منها عدة التي لم يدخل بها قال يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
وحدثنا شريح قال حدثنا هشيم قال حدثنا يونس عن الحسن قال نسخ من القرء امرأتين واللائي يئسن من المحيض من نسائكم واللائي لم يحضن
قال وحدثنا شريح قال حدثنا الحسن بن موسى

عن ورقاء عن مجاهد ثم نسخ من القرء عدة من لم يدخل بها
وقال الحسن قرء امرأتين اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن وأبى ذلك أكثر العلماء وقالوا نحن نرد إلى قوله بقوله ثلاثة قروء اللائي لم يحضن وقد دخل بهن وقوله إذا نكحتم المؤمنات وقوله واللائي يئسن من المحيض حكمين مخصوصين لم يدخلهم الله جل ذكره في الأقراء ولكن خص آية الأقراء في ذوات الحيض المدخول بهن وخص كل آية من الآيتين الآخريين كل واحدة منهما بحكم سوى الأخرى واختلفوا في هاتين الآيتين الآخريين والأمة مجمعة أن عدة الآيسة من المحيض والتي لم تحض ثلاثة قروء

وعن ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فخافت وجهر وخافتنا فيما خافت لها وما كان ربك نسيا
حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد في الدعاء قال وقال أبو همام عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في الدعاء حدثنا عباد بن العوام عن الأشعث عن عكرمة 117 عن ابن عباس كانوا يقولون اللهم اغفر وارحم

حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله جل وعز ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال كان النبي صلى الله عليه و سلم متواريا بمكة إذا قرأ القرآن رفع صوته فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن جاء به فأنزل الله عز و جل ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها عن أصحابك فلا يستطيعون أن يأخذوا عليك
حدثنا هشيم قال حدثنا منصور وعوف عن الحسن ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال لا ترائي في العلانية ولا تسئ بها في السر والأمة مجمعة أن للمصلي أن يرفع صوته وله أن يخافته ويسمع أذنيه وأجمعوا أنه لا يجوز أن يرائي بصلاته
وكذلك قوله عز و جل وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا الآية فقال بعضهم نسختها

إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله إلى قوله فلا جناح عليهما فيما افتدت به
وقال بعضهم كلتاهما محكمتان ليست إحداهما بناسخة للأخرى تحريم أخذ القنطار على الظلم بغير الحق وأخذه منها تفدي به نفسها ليخلعها ثم تأخذه فهذه خصوص وهذه مخصوص
والباب التاسع أن أصحاب محمد عليه السلام اختلفوا في آيتين هل نسخت إحداهما الأخرى وحكمهما جميعا ثابتان ثم أجمعت العلماء بعد عصرهم من التابعين ومن بعدهم عن سنة النبي عليه السلام أن إحداهما نسخت الأخرى وأنها مبدلة لبعض حكمها من ذلك قول الله عز و جل والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فاختلف زيد وابن مسعود وابن عباس

فقال ابن مسعود أن سورة النساء القصرى أنزلت بعد
وقال عتبة تربص آخر الأجلين
والأمة مجمعة اليوم أن الآية في الحامل قد ثبت حكمها وأنها لا تربص آخر الأجلين وذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر سبيعة أن تتزوج بعد وفاة زوجها بأربعين يوما
ومنه أيضا المملوكة يكون لها زوج يريد المولى أن يعزل عنها زوجها وينكحها فأجمعوا أن ذلك جائز في بعض المماليك واختلفوا في بعضهم فرأى جابر وأنس أن بيعها طلاقها فرأوا أن ينكحها المشتري ويعزل زوجها عنها ولا ينكحها الأول الذي هو زوجها
ورأى ابن مسعود أن ينكحها زوجها واحتج بقوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وأبي ذلك أكابر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم عمر

وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد رضي الله عنهم
وقالوا لا يجوز للمولى أن ينكح أمته إذا كان لها زوج وإن كانت ذمية تحت ذمي وأجمعوا جميعا بعد ذلك أن ذوات الأزواج إذا سبين ينكحهن من ملكهن وأن الله جل ذكره نسخ ذوات الأزواج من النساء بقوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم
قال أبو سعيد الخدري نزلت في سبايا أوطاس والأمة مجمعة اليوم أنه لا يحل للموالي أن ينكحوا الأزواج سوى السبايا وأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خير بريرة من زوجها بعدما بيعت وأعتقت بعد البيع لم يجعل البيع يزيل نكاح زوجها ولو كان البيع مزيل النكاح فكان بيعها طلاقها لكانت حين

باعها مولاها من عائشة رضي الله عنها واشترتها منهم وقبضتها كان قد زال نكاحها بالبيع وبانت منه
وقد كان بعض من مضى يرى أن آية الاستئذان منسوخة والعلماء اليوم مجمعة أنها ثابتة إلا أن بعضهم رأى أن دق الباب يجري من الاستيذان
وكذلك قوله لا إكراه في الدين قال بعضهم ليست بمنسوخة ولكنها ثابتة في أهل الذمة إذا أدوا الجزية لم يكرهوا وروي أن عمر قال لغلام رومي أسلم فأبى فقال عمر لا إكراه في الدين وقال قوم هي منسوخة نسختها آية السيف قوله عز و جل أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على 118 نصرهم لقدير وغيرها من الآي
ومن ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال بعضهم نزلت في أهل الذمة ناسخة لقتالهم من بين الكفار وقال بعضهم أريد بها آخر الزمان في الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر لأهل الإسلام إذا غلبت الأهواء ولم تقبل العامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمر وقال بعضهم لم تنسخ وإنما معنى قوله تعالى عليكم أنفسكم أهل دينكم يأمر بعضكم بعضا ثم عزاهم فقال لا يضركم ضل أي من لا تضركم ضلالة الضالين فائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر كما أمرتكم وكذلك قوله عز و جل فتول عنهم فما أنت بملوم
حدثنا شريح قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب السختياني عن مجاهد قال خرج علي معتجرا ببرد مشتملا فقال لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم أحزنا وقلنا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتولى عنا حتى نزلت وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقال بعضهم لم تنسخ وإنما أمر أن يتولى عن الكافرين ويذكر المؤمنين

وكذلك قوله تعالى ويستغفرون لمن في الأرض حدثنا سنيد قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة ويستغفرون لمن في الأرض قال للمؤمنين وقال أكثر العلماء لم يأذن للملائكة أن يستغفروا للكفار وإنما معناه لمن في الأرض خصوص يعني المؤمنين ثم بين في المؤمن ما أبهمه في قوله لمن في الأرض فقال ويستغفرون للذين آمنوا
والباب العاشر أن يجمع العلماء على نسخ آية ثم يختلفون في الناسخة ماذا أوجبت من الحكم فيجمعوا على حكم أنها أوجبته ونسخت ما قبله ويختلفون في غيره أثبت بالناسخة أم لا من ذلك قوله عز و جل والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وكان الأعرابي لا يرث قريبه من المهاجرين وكانوا يتوارثون بالهجرة حتى نزلت وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فأجمعوا أن الآية الأولى منسوخة وأن الله جل ثناؤه أثبت الميراث

بالقرابة للمؤمنين لا بالهجرة ممن سمى الله له الميراث وممن لم يسم له الميراث كالخالة والعمة وابنة الأخ وما أشبه ذلك فرأوا ألا يرد على الوارث ما فضل من المال بعدما يعطى ما سمى الله جل ذكره وما خلا المرأة والزوج إذا لم يكونوا قرابة ورأوا إن لم يترك قرابة ممن سمى الله جل ذكره وترك قرابة ممن لم يسم الله جل ذكره له ميراث ورثوهم على منازل قرابتهم من الميت
يرى ذلك أهل العراق وأبى ذلك مالك وأهل المدينة فقالوا لا يرد على وارث ممن سمى الله عز و جل ولا يورث من لم يسم الله جل ذكره يرث الميت المسلمون ما فضل عمن سمي له الميراث وما ترك من لم يدع وارثا له معينا ميراثا فبيت المال أحق به قاله زيد بن ثابت وقال القول الأول عدة من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم عمر وعلي وابن مسعود
وحدثنا شريح قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة والذين آمنوا ولم يهاجروا قال كان

المسلون يتوارثون بالهجرة والذين آخا النبي صلى الله عليه و سلم بينهم فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ ذلك وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين
والباب الحادي عشر أن يختلف الصدر الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في الآيتين أنسخت إحداهما الأخرى أنم لم تنسخها ثم يجمع العلماء بعد أن إحداهما هي المحكمة فمن ذلك قوله والزانية لا ينكحها إلا زان روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها ثابتة لم تنسخ وأنه لا يحل أن ينكح الزانية إلا زان وروي عن ابن مسعود مثل ذلك وقد روي عنه خلاف ذلك أنه سئل عن ذلك فقرأ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات

وحدثنا سنيد قال حدثنا هشيم قال حدثنا أبو خباب عن بكر بن خنيس عن أبيه قال أتيت ابن مسعود فسأله رجل عن رجل زنى بامرأة فحدا ثم تابا وأصلحا أيتزوجها فتلا هذه الآية 119 وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون
وحدثنا هشيم قال حدثنا مغيرة عن إبراهيم عن علقمة أنه سئل عن ذلك فتلا هذه الآية إلى آخرها وقال قوم نسختها وانكحوا الآيامى منكم وهن من أيامى المسلمين

حدثنا سنيد قال حدثنا ابن جريج وأخبرني يحيى بن سعيد عن ابن المسيب مثله قال إنهن من أيامى المسلمين وقال ابن عباس لم يرد بهما تحريم التزويج إنما وصف الزانيات أنه لا ينكحوهن كذا يعني لا يقع لهن إلا زان مثلهن وإن كان مسلما أو مشركا مستحلا لذلك فليست بمنسوخة ولكنها خصوص في الزاني ألا يتزوج وهو محرم وفي المشرك المستحل لذلك وقال قوم يتزوجها الذي زنا بها لأنه هو الذي يحصنها ولا يتزوجها غيره وذهب قوم إلى أنها منسوخة للتائب لا غيره
والأمة اليوم مجمعة أنه لا بأس أن يتزوجها هو وغيره لأن أوله حرام وآخره حلال فلا بأس أن يتزوج العفيف والزاني الزانية
وكذلك قوله وأشهدوا إذا تبايعتم فكان ابن

عمر يشهد إذا باع وإذا اشترى ويرى أنها ثابتة لم تنسخ وحدثنا شريح قال حدثنا هشيم قال حدثنا إسماعيل قال قلت للشعبي أرأيت الذي يشتري من الرجل شيئا حتما عليه أن يشهد قال ألم تر إلى قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فنسخ ما كان قبله
حدثنا شريح قال حدثنا ابن أبي زائدة قال حدثنا الحكم قال فإن أمن بعضكم بعضا
نسخت هذه الشهود والعلماء اليوم مجمعة أنها منسوخة نسختها فإن أمن بعضكم بعضا
وثبت عند العلماء أن النبي عليه السلام بايع رجلا فرسا بغير بينة لأنه سأل الرجل البينة فلم تكن له

فجاء خزيمة بن ثابت يشهد للنبي صلى الله عليه و سلم ولم يحضر مصدقا للنبي عليه السلام وقال بعضهم لم تكن واجبة أن يشهد وإنما هي دلالة من الله عز و جل لهم على أن يستوثقوا من أموالهم بالكتاب والسنة لا على الوجوب وكذلك قوله عز و جل يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه فقال عطاء هي ثابتة لم تنسخ وقال جابر لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وحدثنا شريح قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة قال أمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام فنسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام فنسخ الله جل ذكره تحريم القتال في الشهر الحرام وقتال من أحرم من المشركين أو قلد محرما وهو مشرك فأباح قتال هؤلاء كلهم إلا أن يسلموا أو يكونوا أهل كتاب فيعطوا الجزية

وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وغيرهما هي منسوخة نسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
والأمة مجمعة أن الغزو في الشهر الحرام وغيره حلال وطاعة حدثنا علي بن عاصم عن يمان عن عامر قال لم ينسخ من المائدة شيء قال لا
وقد أجمعت الأمة اليوم أن قوله لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام على نسخها بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وكذلك قوله عز و جل إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية فكان ابن عمر

يرى أنها ثابتة بعد النبي صلى الله عليه و سلم وبكا من ذلك لما قرأها
قال وحدثنا يزيد قال سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم أن أباه قرأ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فدمعت عيناه فبلغ صنعه ابن عباس فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن نسختها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها 120 لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
وحدثنا سليمان بن داود قال حدثنا إبراهيم عن سعد عن ابن شهاب عمن سمع سعيد بن مرجانة يتحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر إذ تلا عبد الله بن عمر هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو

تخفوه الآية ثم قال والله إن أخذ بهما لتهلكن ثم بكى حتى سمع نشيجه ابن مرجانة فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت ما تلا ابن عمر من هذه الآية فقال ابن عباس يغفر الله لأبي عبد الرحمن لقد وجد المسلمون فيها وجدا حين نزلت مثل ما وجد عبد الله فأنزل الله بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت قال ابن عباس فكانت هذه الوسوسة ما لا طاقة للمسلمين به
فصار الأمر إلى قضاء الله عز و جل أن النفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت العمل
وأبى ذلك ابن عباس وغيره وقالوا منسوخة
وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن الزهري عن ابن عباس لما نزلت ضج المسلمون منها ضجة وقالوا يا رسول الله نتوب عن عمل اليد والرجل واللسان فكيف نتوب من الوسوسة كيف نمتنع منها فجاء جبريل بهذه الآية لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إنكم

لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسواس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت الآية
وقال حدثنا شريح قال حدثنا هشيم قال حدثنا شيبان عن الشعبي قال لما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه نزلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت الآية
حدثنا مروان بن شجاع قال حدثنا خصيف عن مجاهد نحوه
وقال قوم من أهل الآثار إن هذا لا يجوز أن ينسخ لأنها خبر والخبر لا ينسخ
وقال سائر العلماء هذا وإن كان خبرا فإنه إيجاب حكم من واخذه بحديث النفس ثم رحم الله جل اسمه خلقه فرفع عنهم الحكم بالمواخذة لأنه حكم والحكم يجوز نسخه وإنما معنى يحاسبكم يواخذكم به الله ثم رفع الحكم بذلك
والأمة مجمعة أنها منسوخة

وسئل النبي صلى الله عليه و سلم عما يجد العبد من الوسوسة مع ما يظهرون من الكراهة لما يجدون فقال ذلك صريح الإيمان
وقال تجاوز الله لأمتي عما حدثت به نفوسها
وكذلك قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه فرأى بعضهم أنها ثابتة فرأى أن يعطى من الميراث الذين لا يرثون
وحدثنا شريح قال حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله وإذا حضر القسمة هذه الآية اختلف الناس فيها
وحدثنا هشيم قال حدثنا منصور عن قتادة عن يحيى بن يعمر قال ثلاث آيات محكمات ضيعهن كثير من الناس منهن هذه

حدثنا هشيم عن أبي إسحاق عن مجاهد قال محكمة وليست بمنسوخة
حدثنا شريح قال حدثنا هشيم عن مغيرة عن سيار عن إبراهيم قال نسختها العشر ونصف العشر حدثنا هشيم قال حدثنا جبير عن الضحاك والكلبي عن أبي صالح قال هي منسوخة وروي عن سعيد بن جبير وغيره أنه نسختها آية الزكاة
والعلماء اليوم مجمعون أن الميراث لأهله ولا يجب إعطاؤهم إلا أن يكون الوارث بالغا فيتطوع فيتصدق على أقربائه ورأى بعضهم أنها ثابتة لم تنسخ وإنما أريد بها الزكاة لا التطوع وحدثنا شريح قال حدثنا هشيم عن حجاج عن

سالم المكي عن ابن الحنفية يوم حصاده قال العشر ونصف العشر
حدثنا شريح عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعند ذرايته
وكذلك قوله عز و جل إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين فزعم قوم من الصدر الأول أن الله جل ذكره نسخ الآية كلها فنهى عن الوصية لمن يرث وأن الواجب للأقربين الذين لا يرثون في الثلث قال ذلك طاوس والضحاك
وقال بعضهم هي تطوع إلا أنه ليس له أن يوصي إلا في الذين لا يرثون

وقال قوم له أن يوصي بثلثه في الأقربين فيمن شاء وقال جل الناس لم تنسخ وإنما أراد بها الوالدين والأقربين الذين لا يرثون من الكفار المماليك ومن لم يرث من القرابة
والأمة اليوم مجمعة أنها ليست بواجبة وإن أراد 121 أن يتطوع فله أن يوصي لمن أحب
وكذلك قوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فقال ابن عباس محكمة وأن قوله متعمدا أنزلت بعد التي في الفرقان بسنة وقال أبو هريرة لا يدخل الجنة وقال الضحاك نزل قوله الأول من تاب قبل قوله متعمدا بسبع سنين وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم نازلت ربي في قاتل المؤمنين أن يجعل له توبة فأبى أن يجعل له توبة

والعلماء اليوم مجمعة أنها نسختها التوبة فمن تاب أجمعت جميع الأمة موافقها ومخالفها على قبول التوبة إلا رجل واحد فإنه خرج عن الإجماع
والباب الثاني عشر أن تختلف الأمة في الآية أولها وآخرها في آيتين هل نسخت إحداهما الأخرى ثم لا يجمعون على واحد من القولين من ذلك قوله عز من قائل في أهل الذمة فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم
فاختلف في ذلك العلماء
فقال قوم من أهل العراق الآية محكمة لم ينسخها شيء وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كتب إلى محمد بن أبي بكر في نصرانية زنت أن ادفعها إلى أهل دينها فرأى أن آية التخيير ثابتة فذلك أمره أن يترك الحكم فيها ويدفعها إلى أهل دينها

وأبى ذلك كثير من العلماء وقالوا ليس للموالي إذا ارتفعوا إليه إلا أن يحكم بينهم وقالوا نسختها بعدها قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم قال ذلك الشعبي ومجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم
حدثنا شريح قال حدثنا هشيم عن منصور وغيره عن الحكم ومجاهد في قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله قال نسخت ما كان قبلها فاحكم بينهم أو أعرض عنهم حدثنا شريح قال حدثنا وكيع عن سفيان عن الساري عن عكرمة فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله إليك
واختلفوا في قوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما فقال أكثر العلماء لم تنسخ وقال أقلهم

نسخ منها في الكفار قوله واقتلوهم حيث وجدتموهم
حدثنا شريح قال حدثنا هشيم عن عباد عن الحسن وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
قال نسخ في براءة وأمر بالقتال
وأبى ذلك العلماء إلا أنه أثنى على المؤمنين بالحلم ولم يرد بذلك قتال المشركين والأمة اليوم مجمعة أنها ليست بمنسوخة إلا الحسن فيدخل في الباب الذي أجمعوا لا أن آخر الأمة غلطت فيه
وكذلك قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فديه طعام مسكين فقال بعض العلماء نزلت فيمن يطيق الصيام فخيره الله جل ذكره إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم مسكينا ولم يصم فنسخ الله جل

وعز هذه الآية بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقرأ من قال ذلك بالتخفيف وهو أكثر العلماء فقرأ وعلى الذين يطيقونه خفيفة
حدثنا شريح قال حدثنا بكار بن عبد الله الربذي عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فنسختها فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
وقالت فرقة ليست بمنسوخة إنما أنزلها الله في الشيخ الكبير والحامل والمرضع ومن به العطش ممن يكون الصوم عليه شديدا فجعل الله له أن يطعم مسكينا إلا أنهم مجمعون على اختلافهم في الشيخ أن للشيخ أن يفطر ويطعم
ومن ذلك قوله تعالى خذ العفو وأمر بالعرف

حدثنا شريح قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن مجاهد خذ العفو قال خذ ما عفا لك من أخلاقهم
وكذلك قوله تعالى وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم واختلفوا فيه فقال أكثرهم نسخ بالزكاة وقال الكلبي كان هذا قبل أن يؤمر بالزكاة ثم نسخت بالزكاة
وكذلك قوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء قال بعضهم نسختها فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم قاله قتادة
حدثنا سعيد حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر قال يمن على الأسير 122 أو يفادى حدثنا أبو سفيان عن معمر حدثني رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر قال ما رأيت عمر قتل إلا أسيرا

واحدا حدثنا مبشر الحلبي عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم قال أتي عمر بن عبد العزيز برجل من أهل فارس فبينما هو يحاوره إذ قال الأسير أما والله لرب رجل من المسلمين قد قتلته قال فأمر به فضربت عنقه وقال لا أستبقيه على ما قال
حدثنا مبشر عن صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي أن الأسير كان معه فلم يقتله وأبو سفيان عن معمر عن الحسن قال لا يقتل الأسير إلا في الحرب
أبو سفيان عن معمر عن قتادة فإما منا بعد قال نسختها فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم

وكره قتله الحسن وعطاء وغيره قال إن شاء الإمام من وإن شاء فادى
وقال ابن عباس هو مخير إن شاء قتل وإن شاء فادى وإن شاء من
وكذلك القول لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد قتل ومن وفادى
وكذلك قوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن حدثنا شريح قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن قال نسختها فاقتلوا المشركين ولا مجادلة أشد من السيف
حدثنا يحيى بن بكير عن سالم عن سعيد أو مجاهد ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم أهل الحرب فجادلوهم بالسيف

الباب الثالث عشر الناسخ والمنسوخ الذي أجمعت عليه الأمة أنه ناسخ فمنسوخ لا يختلفون في ذلك وهو مثبت في الكتاب من ذلك ما نسخ حكمه كقوله عز و جل وأعرض عن الجاهلين واصفح الصفح الجميل فاصفح عنهم وقل سلاما وامهلهم رويدا وذر الذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا فذرهم في غمرتهم حتى حين قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله وما أرسلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل فاعرض عنهم وانتظر وما أشبه ذلك نسخه الله بقوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير

ومن ذلك قوله لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين وقوله فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا نسخ ذلك قوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وأما قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن الله عز و جل نسخها ساعة من نهار لنبيه صلى الله عليه و سلم ثم أعاد تحريمها كما كان فلا يحل قتالها أبدا إلا أن يبتدئ المشركون فيها بالقتال فيحل القتال للمسلم إذا بدؤوه لقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه الآية فنسخها الله لنبيه ساعة من نهار بقوله فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم إلى قوله وهم بدؤوكم أول مرة إلى قوله ويشف صدور قوم مؤمنين يعني خزاعة من بني بكر حلفاء قريش

فقاتلت بنو بكر خزاعة وكان بين أهل مكة وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم صلح فأرسلت قريش من أهل مكة إلى بني بكر فطال كان ذلك نكثا لعهدهم فأذن الله لنبيه أن يأتيهم في الحرم ويبدأهم بالقتال فسار إليهم النبي عليه السلام فقاتلهم في الحرم فلما فتح لنبيه عليه السلام مكة وفرغ من قتالهم قال لا قتال بين أحد فنقول لهذا أحلها لرسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما أحلها ساعة من نهار ثم عادت كما كانت لا يحل فيها قتال ولا يختلا خلاها ولا يعقر صيدها ولا يعضد شجرها
وقد روي عن قتادة أنه نسخ قوله ولا تقاتلوهم عند

المسجد الحرام بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فليس كما قال ما زال أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم والتابعون إلى عصرنا مجمعين أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر أنه قد عادت حرمتها
حدثنا أبو إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال قال الله عز و جل فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم 123 إلى قوله سلطانا مبينا قال لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى قوله فامتحنوهن ثم نسخ هؤلاء الآيات فأنزل براءة من الله ورسوله إلى قوله ونفصل الآيات لقوم يعلمون وأنزل وقاتلوا المشركين كافة إلى قوله

المتقين وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ثم نسخ هذه بقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله
وأما قوله ويسألونك ماذا ينفقون
فحدثنا شريح قال حدثنا مروان بن معاوية قال حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو قال العفو الفضل عن العيال ثم نسخ ذلك بالزكاة

وكذلك قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما وقوله فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فأنزل الله الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فنسخ الله حد البكرين من الأذى والحبس والجلد بالتبيين بما بين النبي صلى السلام عن الله عز و جل لأن الله تبارك وتعالى قال حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فأمرهم بانتظار السبيل فقال النبي عليه السلام خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد ماية ورجم بالحجارة وقال عمر رضي الله عنه كنا نقرأ فيما أنزل الله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة فنسخ حد البكرين بالجلد ونسخ الثيبين بما كان نزل في القرآن من الرجم ثم رفع رسمه من الكتاب وبقي وجوبه
وقوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم
حدثنا شريح قال حدثنا أبو سفيان عن معمر قال

قد بين قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
وأبى أكثر العلماء وقالوا إنما أراد ما يفعل بي ولا بكم ما أدري ما أومر به أنا وأنتم
وكذلك إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم
حدثنا شريح قال حدثنا سفيان عن معمر عن قتادة قال نزلت على النبي عليه السلام ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر بين مكة والحديبية
وقال بعضهم إنما عنى بذلك ما أدري أن يحدث من أمر أو حكم في وفيكم
والعلماء على أنها منسوخة
ونسخ قوله ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير وقوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون بقوله عز و جل

إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر إلى قوله فهل أنتم منتهون
وكذلك قوله وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول نسخ الله ذلك بقوله ولهن الربع مما تركتم فقسم الله لهن الميراث ونسخ الوصية لهن وقال بعض العلماء نسخه الله بقول النبي عليه السلام لا وصية لوارث ونسخ ما كان عليها من العدة إلى الحول بقوله يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
وقال بعضهم لم يوجب الله عز و جل العدة في الحول إنما كان أباح لها الوصية إذا كانت من الزوج على أن تسكن إلى الحول فنسخها بالميراث
وكذلك قوله عز من قائل يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا فقام النبي عليه السلام وأصحابه حولا

كاملا حتى تورمت أقدامهم فنسخها الله جل ثناؤه بقوله فاقرءوا ما تيسر منه
وكذلك قوله عز و جل إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة فنسخها بقوله فإذ لن تفعلوا وتاب الله عليكم
وكذلك قوله إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين نسخها الله فاختلفوا
فمنهم من قال بآيات المواريث ومنهم من قال بقول النبي عليه السلام لا وصية لوارث وقال بعض من يتفقه لم تجب قط فتنسخ إنما عنى الله جل ذكره بقوله للوالدين والأقربين العبيد والكفار

من الأخوان 124 الذين لا يرثون فالوصية لهم جائزة على حالها لم تنسخ ولم يقل هذا القول أحد ممن مضى
وقال بعض التابعين نسخ منها كل من يرث وبقي منها القرابة الذين لا يرثون فالوصية لهم واجبة إلا أنهم مجمعون أن الوصية لا تجوز إلا للأقربين الذين لا يرثون ولا تجوز لمن يرث
وكذلك الخمر نسخ قوله فيهما إثم كبير ولم يحرمها ونسخ من قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فنسخ ذلك بقوله فاجتنبوه لعلكم تفلحون
وكذلك قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام

نسخ الله بها صلاته إلى بيت المقدس
وكذلك قوله إن لم يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى قوله لا يفقهون فكتب عليهم بهذه الآية ألا يفر واحد من عشرة ولا قوم من عشرة أمثالهم ووعد النصر أن ينصر الواحد على العشرة والقوم على عشرة أمثالهم إن صبروا فجبنوا عن ذلك وضعفوا عنه فنسخ الله عز و جل ذلك وخفف عنهم ورفع عنهم من ضمانه لنصرهم على قدر ما خفف عليهم في الآية الناسخة فأنزل الله الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إلى قوله بإذن الله فوجب عليهم ألا يفر الرجل من الرجلين ولا القوم من مثلهم ووعدوا أن ينصر الواحد على الاثنين والقوم على مثليهم إذا صبروا
ونسخ قوله وإن جنحوا للسلم فاجنح لها بقوله عز من قائل قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله صاغرون

ونسخ قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فلم تزل الأمة مجمعة أن نكاح نساء أهل الكتاب حلال إلا ابن عمر فإنه كرهه وكرهه عمر وغيره بغير التحريم خوفا أن تكون الذمية ليست بعفيفة
وكذلك قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم فنسخه بقوله إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وبقوله ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله

وكذلك قوله فسيحوا في الأرض نسخه بقوله ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله وكذلك قوله فسيحوا في الأرض فأجلهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض بقية عهدهم وآذنهم بالحرب بعد انقضاء الأربعة أشهر
وقال ابن عباس وأجل الذين ليس لهم عهد خمسين ليلة انسلاخ الأشهر الحرم يسيحون فيه حيث شاؤا
وقال عز و جل فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم قال فأمرهم الله إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق أذهب الشرط الأول ثم قال عز و جل إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام يعني أهل مكة فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين فأرسل النبي عليه السلام

أبا بكر وعليا رضي الله عنهما فأذنوا لأصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم ولا عهد لهم
قال وهي الحرم من أجل أنهم أمنوا فيها حتى يسيحوا فيها فأذن للناس كلهم إن لم يؤمنوا فنسخ الله جل ذكره ببراءة في قوله إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلى قوله فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ونسخت قوله لا ينهاكم الله عن الذين يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم فنسخ ذلك كله ببراءة
وقال الله عز و جل انفروا خفاقا وثقالا فأوجبت هذه الآية على الأمة الجهاد وقال ابن عباس فنسخها قوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة قال ابن عباس فتنفر طائفة وتمكث طائفة مع النبي عليه السلام والماكثون

يتفقهون في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم من الغزو وبما أنزل الله وكتابه وحدوده 125 وروي عنه أيضا أن السرايا هي التي ترجع فيتعلمون من القاعدين مع النبي عليه السلام
وأمر الأنفال إذا جمعت الغنائم بغير مبادرة ولا نفل بشرط قبل الخروج ولكن الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة قال ابن عباس فذلك قوله تعالى قل الأنفال لله والرسول وكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ليس لأحد فيها شيء ثم أنزل الله بعد واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه الآية فقسم الله الخمس الذي كان للنبي عليه السلام خاصة ينفل منه على خمسة أخماس وجعل الأربعة الأخماس الباقية لمن شهد الوقعة
وكذلك قوله عز و جل والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كان الرجل يحالف الرجل بقول ترثني وأرثك ويرضيان بذلك ويتعاقدان وعلى ذلك

ابن عباس وقال ابن المسيب نزلت في الأدعياء كانوا رجالا يتبنون رجالا يرثونهم
وأجمعت الأمة أن الله عز و جل نسخ ميراث الحلفاء والأدعياء بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال ابن عباس إلا أن يصلوا أولياؤهم الذين عاقدوهم وصية لهم
قال ابن المسيب فجعل للأدعياء الوصية ونسخ ميراث الأدعياء
وحدثنا شريح قال حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة قال ثم نسخ ذلك بالميراث
وأنزل عز و جل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا فتحرج قوم من مخالطة اليتامى وشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا إنا نخلط طعامهم بطعامنا فأنزل الله ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير

وإن تخالطوهم فإخوانكم فقالت العلماء إن الله عز و جل نسخ التشديد عليهم بالرخصة في المخالطة على غير تعمد لظلم كما يصنع المسلمون في أسفارهم وقد يصيب بعضهم من الغذاء أكثر من بعض ورخص الله لهم في ذلك على المخالطة من غير تعمد لظلم شيء من ماله بعينه
الباب الرابع عشر اختلفوا فيه أمنسوخ هو أم استثناء خصوص من عموم كقوله فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا فأجمعوا أنه أسقط الفسق بالتوبة فقال بعضهم نسخه وقال بعضهم لم يرده وإنما أراد من لم يتب
فقال بعضهم لم يرد للتائب في ترك قبول الشهادة ثم اختلفوا في الشهادة
وقال بعضهم نسخ الشهادة والفسق بالتوبة
فقال مالك رحمه الله ومتبعوه إذا تاب قبلت شهادته
وقال أهل العراق لا تقبل شهادته أبدا تاب أم لم يتب

وكذلك قوله تعالى إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر فقال قوم نزلت في المنافقين وعفور المؤمنين وقال ابن عباس نسختها وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إلى قوله تعالى فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله
وكذلك قوله ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى أو صديقكم
وروي عن ابن عباس أنه قال لما نزلت لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قالوا لا يحل لنا أن نأكل عند أحد فأنزل الله جل ثناؤه ليس على الأعمى حرج الآية وقال مجاهد نحو ذلك
وقال عبد الله بن عبيد الله تحرجوا بعد الإذن وقالوا لم تحد لنا

وقال عكرمة نحو ذلك حدث يعقوب بن إبراهيم بن عبد الله بن عتبة وابن المسيب أنه كان رجال من أهل العلم يحدثون أنما نزلت هذه الآية بقول الله عز و جل ليس على الأعمى حرج الآية كلها أن المسلمين كانوا يرغبون 126 في النفير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيعطون مفاتيحهم ضمناءهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فيقول الذين استودعوهم والله ما يحل لنا ما في بيوتهم وإنما هي أمانة أو ثمن حتى أنزل الله هذه الآية فطابت أنفسهم بما أحل الله ونسخت قوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وروي عن ابن عباس
وذهب قوم أن الله جل ذكره أحل لهم طعام من

ذكر في الآية بغير إذنهم وقالوا لو كان من بعد إذنه لهؤلاء ما كان معنى خصوص إذ كان يحل الطعام لكل الخلق عن إذنه قاله قتادة والحسن
حدثنا يونس بن بشر عن شيبان عن قتادة في قوله أو صديقكم قال أحل لغير مواريثهم أن يأكلوا من طعامهم
ورأى الحسن من كان لا يرث بغير إذنه فقيل له فقال يا لكع إقرأ أو صديقكم والصديق من استراح إليه القلب
وقال قوم لم يرد الله أن يحل لهم أن يأكلوا بإذن ولا بغيره ولكن الأعرج والأعمى والمريض لا يمكنهم أن يسألوا من الطعام مسألة الصحيح فتحرج المسلمون لما نزلت هذه الآية لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

كما توعد في أكل مال اليتيم فقال إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فسألوا النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله وإن تخالطوهم فإخوانكم الآية وقال لغة العرب في ذلك جائزة يريد المفعول به فيسمي الفاعل وأراد جل ذكره الإذن في مخالطتهم في المواكلة فسمى الأعرج والأعمى والمريض وهو يريد من يخالطهم فرخص لهم كما رخص للناس في أسفارهم إذا سافروا وبعضهم يصيب من الطعام أكثر من بعض
وكذلك قوله عز و جل من قائل فاتقوا الله ما استطعتم نسخت قوله اتقوا الله حق تقاته اتقوا الله حق تقاته
حدثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة فاتقوا الله ما استطعتم نسخت قوله اتقوا الله حق تقاته
وقال ابن عباس لم تنسخها ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ثم أمروا أن يقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم

وقال ابن مسعود حق تقاته أن يذكر فلا ينسى وأن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر
وكذلك قوله عز و جل وليست التوبة للذين يعملون السيئات الآية
وروي عن ابن عباس أن الله تبارك وتعالى أنزل بعد ذلك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فحرم المغفرة على من تاب عند الموت وهو كافر وأرجأ التوبة لأهل التوحيد إلى مشيئته فلم يوئسهم من المغفرة
وقال بعضهم حرم التوبة على الكافر والموحد المصر عند الموت أن يقبلها منهم ثم نسخ من ذلك توبة الموحد فأطلقها له بقوله إن الله لا يغفر أ ن يشرك به
وقال آخرون لم تنسخ ولم يرد الله عز و جل بها إلا وقت الغرغرة وهو وقت معاينة الرسل فلا توبة مقبولة بإيجاب المغفرة لأنه قد عاين وآمن الكافر

وتاب الموحد المصر ضرورة بما عاين من أعلام الآخرة فارتفعت المحنة وزال البلوى والاختبار والتوبة مبسوطة لضمان المغفرة لكل مذنب كافر أو مؤمن ما لم يغرغر
وقد روي عن النبي عليه السلام قال التوبة مقبولة ما لم يغرغر فإذا غرغر لم تقبل مغفرة وروي إن تاب قبل موته بفواق ناقة يعني ما بين الحلبتين
وروي عن إبراهيم ما لم يؤخذ بكظمه فالتوبة مقبولة ما لم يغرغر فإذا غرغر لم يغفر للكافر ذنوبه إذا تاب في ذلك الوقت ولم تقبل التوبة من الموحد لضمان المغفرة وكان كمن مات من الموحدين ولم يتب فأرجاه الله للمغفرة إن شاء الله رحمه بفضله أو يعذبه بما استحق ووجب له بعدله
وكذلك قوله وإني لغفار لمن تاب فقال بعضهم نسخ ذلك في آخر الزمان إذا طلعت الشمس من مغربها فقال لا ينفع 127 نفسا إيمانها الآية

وقال بعضهم إنما أراد الكافرين لا المؤمنين
الباب الخامس عشر ومما اختلفوا أنه منسوخ ولا يجوز عند أهل النظر أن يكون الكتاب والسنة منسوخا من ذلك قوله عز و جل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون
شريح عن الكلبي أنه قال نسختها إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وهذا لا يحل لأحد أن يظنه دون أن يقطع به أن الله جل ذكره إنما عنى في الآية الأولى عذاب الملائكة وعيسى وغيره من وليائه فأخبر عباده أن يعذبهم ثم نسخ من ذلك خصلتين
إحداهما أن الله جل ذكره لم يرد عذاب أوليائه قط بذلك لأنه ما زال يريد أن لا يعذبهم
والثانية أنه كان تقدم من الله عز و جل في المسيح والملائكة وفي عزير أخبار أنهم من أهل الجنة قبل نزول هذه الآية ولا جائز أن يكذب الله عز و جل خبره

الأول وإنما حاج النبي صلى الله عليه و سلم ابن الزبعري لما علم أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أنزل عليه قبل ذلك في الملائكة والمسيح وعزير أنهم أولياؤه فأراد أن يكذب النبي عليه السلام ولم يتقدم من الله جل ذكره في المسيح والملائكة أخبار في أوليائه ما كان الله ليخبر بعذابهم ثم نسخه بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
فمن زعم أن الله جل ذكره نسخ خبره فقد وصف الله سبحانه بالكذب
وقوله في الملائكة قول الله جل وعز ويستغفرون لمن في الأرض ثم نسخها فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك فزعم أن الملائكة استغفرت أولا للمشركين وهذا كذب لأن الله جل وعز يقول ولا يشفعون إلا

لمن ارتضى ولم يكن الملائكة يشفعون لمن في الأرض ممن قد علموا أن الله لا يغفر له أبدا
وقوله عز و جل لا أسألكم عليه أجرا الآية و وقل ما سألتكم من أجر نسختها قل لا أسألكم عليه أجرا الآية قد أجد الله عز و جل استثنى لهم المودة وأعوذ بالله أن يكون الله جل ذكره أراد أن المودة في القربى أجر له على دعائه إليه ولكن قوله قل لا أسألكم عليه أجرا منقطع ثم استأنف هذا تسميه العرب استثناء الخلف وإنما هو استئناف
ومن ذهب إلى مودة القرابة فأراد أن يذكرهم حق الرحم فلا يؤذى
ومن ذهب إلى المودة في الدين فأراد أن يودوا الله بطاعته

القسم السابع
في أساليب القرآن
باب التقديم والتأخير
ومما كلم الله جل ذكره به عباده مقدم ومؤخر لأن العرب قد كانت تفعل ذلك في تراجعها بينها ومخاطبتها قبل أن ينزل الكتاب على نبيه عليه السلام
فمن ذلك قوله عز و جل فكيف كان عذابي ونذر فبدأ بالعذاب قبل النذر وكان قبل العذاب لأن الله جل اسمه يقول وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى
وقال في عقاب الأمم فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فأخبر أنهم أنذروا فلما كذبوا كان آخر أمرهم العذاب وقال تعالى فساء صباح المنذرين غير أن العذاب صبحهم بما نقمهم إذ أنذروا فلم يؤمنوا وإن كانت قد قدم في التنزيل العذاب قبل النذر فإنه بدأ فأخبر أنه أنذرهم قبل أن يعذبهم ثم قال في عقب

ذلك فكيف كان عذابي ونذر فقال كذبت قوم لوط بالنذر كذبت ثمود كذبت قوم لوط المرسلين وقال ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر وقال فكيف كان عذابي ونذر وقال عز و جل وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
ومن ذلك قوله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين فبدأ في التنزيل بالوصية قبل الدين وقضى النبي عليه السلام بالدين قبل الوصية
والأمة مجمعة ألا وصية إلا فيما فضل من بعد قضاء الدين وكذلك روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إنكم تقرءون من بعد وصية يوصي به أو دين 128 وإن النبي عليه السلام قضى بالدين قبل الوصية ولولا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم

لكان على العباد أن يبدءوا بما بدأ الله به الوصية قبل الدين كما قال اركعوا واسجدوا
وقال عز و جل إن الصفا والمروة من شعائر الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم نبدأ بما بدأ الله به ثم قام على الصفا
وكذلك قوله عز و جل يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين فقرئ في ظاهر التنزيل أن الله حسبه والمؤمنين وإنما حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله
وكذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه معنى يرضوا رسوله
وكذلك إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها ولم يبن ما أراد بقوله مالها ولا أبان ما أصيب به وإنما هو في ظاهر التلاوة وقال الإنسان يومئذ مالها تحدث

أخبارها قيل له إن ربك أوحى لها وهو كقول القائل قال فلان مالك يومئذ وإنما يريد قال فلان يومئذ مالك وهو تقديم وتأخير وفي بعضه إضمار وهو قيل بأن ربك أوحى لها
وقوله عز و جل سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
ومن ذلك قوله عز و جل ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان وإنما معناه وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا إلى قوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك
وكذلك قوله وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم يكن بينكم

وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما فهذا مقدم ومؤخر وإنما معناه ولئن أصابتكم مصيبة ليقولن قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم تكن بينكم وبينه مودة حين قال هذا القول ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما
وكذلك قوله إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم قال هو أعلم بالله عز و جل من أن يبدأ باسم سليمان قبل اسم الله عز و جل وإنما معناه الكتاب جاءني من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فأخبرت ممن الكتاب وأن أول صدر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم بدأ باسم الله عز و جل قبل اسمه وقد كان النبي عليه السلام أولا يكتب باسمك اللهم فلما نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب النبي عليه السلام بعد ذلك فبدأ باسم الله عز و جل فدل بذلك أنه اتبع ما أخبر الله عن سليمان فهذا دليل قوله

إنه من سليمان وإنه مقدم ومؤخر لأن الله عز و جل يقول لنبيه عليه السلام فبهداهم اقتده
ولم تزل كتب الأئمة العدول وعلماء الأمة إلى عصرنا هذا يبدأ باسم الله أول كتبهم
وكذلك قوله عز و جل لهم غرف من فوقها غرف مبنية مقدم ومؤخر وإنما معناه لهم غرف مبنية من فوقها غرف وكذلك فسرها أهل التفسير
وكذلك قوله عز و جل ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما مقدما ومؤخرا إنما هو ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يجعله ركاما ثم يؤلف بينه لأن الأركام لا تؤلف بالاستواء إنما يجعل بعضه فوق بعض ثم يبسطه مؤلفا
وكذلك قوله عز و جل قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت الآية

وكذلك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا إنما معناه وخروا له سجدا ورفع أبويه على العرش إنما العرش سرير يوسف عليه السلام فلم يرفعهم على السرير ثم سجدوا له إنما سجدوا له تحية وإكراما لا عبادة له ثم رفعهما على سريره بعدما سجدوا له وأجلسهم معه على فراشه كذلك فسرها المفسرون
وكذلك قوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن 129 العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية إنما معناه ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعلمون لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم وأخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين
وكذلك قوله سبحانه وبرزوا لله الواحد القهار

وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد إنما معناه وبرزوا لله الواحد القهار ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران الآية
وكذلك قوله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنما معناه سيؤتينا الله من فضله ويؤتينا رسوله من فضله فالفضل لله وحده
وكقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إنما معناه أن يغسلوا وجوههم قبل أن يقوموا إلى الصلاة ثم يقوموا إليها فقال بعضهم يعني إذا قمتم من النوم
وقال عز و جل فاهدوهم إلى صراط الجحيم إنما معناه وقفوهم إنهم مسئولون ثم اهدوهم إلى صراط الجحيم
وكذلك فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم مقدم ومؤخر إنما هو فاستعذ بالله واقرإ

القرآن فكان معناه فإذا استعذت بالله فاقرأ القرآن المعنى من الله جل ثناؤه إذا أردت أن تقرأ فاستعذ قبل أن تقرأ فقدم القراءة قبل الاستعاذة
وقوله قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي مقدم ومؤخر وإنما هو في المعنى ولو تملكون أنتم خزائن رحمة ربي
وقوله نأت بخير منها أو مثلها مقدم نأت منها بخير
وقوله فاذهب أنت وربك فقاتلا معناه اذهب أنت فقاتل ويعينك ربك ولم يعنوا أن يذهب الله فيقاتل ولو كان ذلك معناه كفروا
وقوله من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض معناه بغير فساد
وقوله فريقا كذبوا وفريقا يقتلون معناه

وفريقا يقتلون فريقا كلا الكلمتين مقدمة مؤخرة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون معناه يعدلون بربهم
وأجل مسمى عنده مؤخرة وعنده أجل مسمى
وقوله تعالى وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وإنما معناه وعظهم في أنفسهم وقل لهم قولا بليغا
وقوله خلق الإنسان من عجل معناه خلق العجل من الإنسان وهي العجلة لأن آدم عليه السلام أراد أن يقوم قبل أن تصير الروح إلى رجليه فقال جل ثناؤه خلق الإنسان من عجل لأن العجل فعل الإنسان بعدما خلق وكذلك قوله وكان الإنسان عجولا
وكذلك قوله تعالى ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة إنما هو أن العصبة لتنوء بمفاتحه

وقوله فما أصبرهم على النار معناه فما الذي صبرهم على النار
وقوله يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق معناه ونقول ذوقوا عذاب الحريق
وكذلك قوله ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا معناه يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا
وقال واسأل من أرسلنا إنما هو واسأل من أرسلنا إليهم من قبلك
وقوله إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا مضمر معناه إلا أنه من شاء أن يتخذ
وقوله فإنهم عدو لي إلا رب العالمين لا عدو لي 130

وقوله ما كان ينبغي لنا مقدم مؤخر ما كان لنا ينبغي
وقوله وغرابيب سود مقدم ومؤخر سود غرابيب لأنه يقال أسود غربيب

باب الإضمار
وقال أبو عبد الله ومن كلام الله عز و جل واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم وإنما هو حب العجل
وكذلك قوله فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم إنما هو فيقول لهم أكفرتم بعد إيمانكم
وقوله واسأل القرية أهل القرية واسأل العير أصحاب العير وكم من قرية

ومن كلام الله عز و جل الشيء مسمى باسم يشبهه لا باسمه والعرب تفعل ذلك كقوله تعالى كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء فأراد المنعوق وهي الغنم فسمى الناعق وهو الصائح بالغنم

الحروف الزوائد
ومن الحروف زوائد فمن ذلك غير المغضوب عليهم ولا الضالين إنما معناه غير المغضوب عليهم والضالين وكذلك قوله خلقكم والذين من قبلكم من زائدة إنما هو والذين قبلكم
وكذلك قوله ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك معناه ما منعك أن تسجد لا من الزوائد تأكيد لا نفي
وكذلك ما نهاكما ربكما معناه إلا كراهية أن تقول العرب ما عندك نفع ولا دفع

وقوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها إنما معناه أن يضرب مثلا بعوضة فزاد قوله ما توكيدا
وكذلك قوله فبما نقضهم ما زائدة معناه فبنقضهم ميثاقهم
وكذلك قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إنما هو يحفظونه بأمر الله
وكذلك قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم إنما هو يغضوا أبصارهم
وكذلك قوله ما وجدنا لأكثرهم من عهد معناه ما وجدنا لأكثرهم عهدا وإذا قلنا للملائكة معناه وقلنا للملائكة

وكذلك قوله وإذ قال موسى لقومه معناه وقال موسى لقومه
وقوله أن ينزل عليكم من خير من ربكم معناه خير ربكم
وقوله وإذ أوحيت إلى الحواريين وقوله إذ قال الله يا عيسى بن مريم وإذ علمتك وإذ أوحيت وقوله وقوله أأنت قلت للناس تقرير لا استفهام على جهل ليعلمه كقول الرجل لعبده أفعلت كذا وكذا يريد تحذيره وقال جرير ... ألستم خير من ركب المطايا ... وأندي العالمين بطون راح ...
ولو كان استفهاما ما أعطاه عبد الملك على ذلك ماية ناقة برعاتها

إلهين اثنين إذا أشرك فعل الذكر مع فعل الأنثى غلب فعل الذكر وقال جل ذكره وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم مجرور بالباء وهي مشتركة بالكلام الأول من المغسول والعرب تفعل ذلك هذا بالجوار للمعنى على الأول فكان موضعه واغسلوا أرجلكم
وكقوله يدخل من يشاء في رحمته والظالمين على موضع المنصوب الذي قبله والظالمين لا يدخلهم في رحمته
قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا واللفظ الواحد والجميع عنه هو جنب وهم جنب وأمر بالقسط والمعدلة
وقوله ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك لا حرف زائد إنما معناه ما منعك أن تسجد
وكم من قرية أهلكناها وما أهلكنا من

قرية إلا ولها كتاب معلوم وإن من قرية إلا نحن مهلكوها يعني وإن من قرية نحن مهلكوها

المفصل والموصول
وأما المفصل والموصول فإن الله عز و جل يقول ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون
ففصل الكلمة من الكلمة إذا انفردت كل واحدة منهما بمعنى هو المعنى الذي في الأخرى وكان لا يتم المعنى إلا بتواصلهما جميعا
فهو موصل ومفصل من هذه الجهة
وهو كله مفصل من معنى آخر إن الله جل ذكره بينه كله وهو قوله تعالى وفصلناه تفصيلا
وقال عز من قائل أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
وقال وقد فصل لكم ما حرم عليكم وكل شيء فصلناه تفصيلا وقال عز و جل وكذلك

نفصل الآيات لعلهم يتذكرون وكذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين
فأنزل الله جل ثناؤه كتابه بلسان العرب ليفهموا معاني ما أراد فيما أمر به ونهى عنه ووصف به نفسه ووعده ووعيده وجميع ما نزله فقال عز من قائل بلسان عربي مبين وكلام العرب له فصول ووصول ليبين به المعاني ويفصح به عن المراد فيصل الكلمة بالكلمة إذا كانت الكلمة الأولى لا تبين عن المعنى وحدها 131 حتى تصل بها الكلمة الأخرى
لو قال قائل من لم يدر سامعه ما يريد حتى يصلها من أين جئت ولو قال قلت لم يدر ما قال حتى يقول كذا وكذا ولو قال أحمد لم يدر من

يريد حتى يقول النبي عليه السلام وإني فلان ولو قال سمعت ما درى سامعه ما سمع حتى يقول كذا وكذا
ومنه مفصل يتم المعنى بالكلمة والكلمتين والثلاث فصاعدا فيتم المعنى ثم يريد المتكلم أن يستأنف كلاما آخر يبين عن معنى ثان فيقطع الكلام الأول عند تمام المعنى ثم يستأنف كلاما آخر ثانيا يتبين عن معنى ثان لا على الأول
لو قال قائل أحمد كريم ثم أراد أن يذم إسحاق ولا يدخله في المدح بالكرم فقال أحمد كريم وإسحاق لم يدعه حتى يصله
ولو قال لي على فلان ألف درهم ثم أراد أن يخبر أن فلاما قد أوفاه فقال لي على فلان ألف درهم وفلان فلو سكت على قوله وفلان كان ادعاء عليهما جميعا ألف درهم فإن قال وفلان قد أوفاني كان فصل ما بينهما
وان ادعى على الأول وفصل الآخر منه بالبراءة

له مما كان له وإنما يفصل الثاني من الأول بأن فصل الكلام بكلام ثان تبين به معنى الثاني من الأول كقوله ذهبت أنا وفلان فلو سكت عليه كان قد أخبر أنهما ذهبا جميعا فإن فصله بكلام مستقبل أبان أنه قد فصل الأول
ذهبت أنا وفلان لم يذهب معي فلم يقف على فلان فيكون قد أخبر أنه قد ذهب معه ولكي يبين أنه عطف اسمه ليبين ما قطعه عن الذهاب بكلام يدخله بقوله وفلان يخبر أنه لم يذهب معه وأنه هو ذهب وحده
وكذلك قول الله جل ذكره يبين المعنى بالواو فقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى ففصل بينهم
ولو قال قائل إن الذين آمنوا وهادوا كان قد فصل بينهما
وكذلك قوله السماء والأرض والذكر والأنثى

ولا يجوز السماء الأرض الذكر الأنثى فيكون معناهما واحدا
وكذلك فصل الله فقال هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم وكذلك بسم الله الرحمن الرحيم ولا جائز بسم الله الرحمن الرحيم فيوهم أنهما اثنان
وكذلك قوله محمد رسول الله ولا جائز محمد ورسول الله فيكونا اثنين
ولا يجوز الفصل فيما لا يتم إلا بالوصل ولا يجوز الوصل فيما لا يتم معناه إلا بالفصل فيمن لم يجهر بذلك
فمن الفصل والوصل ما لو وصل المفصول كان في ظاهر تلاوته كفرا وكذلك إن فصل الموصول كان في ظاهر تلاوته من كتاب الله عز و جل كفرا فهو الموصول الذي لا يجوز قطعه ومن قطعه كان كافرا كقوله لا إله ويقف نفيا لله تبارك وتعالى ولو لم يقف

واستأنف كلاما ليس بموصل كان كافرا أيضا لو قال لا إله واستغفر لذنبك كان قد جحد الله جل وعز
وكذلك قوله يأمر فاعلم أنه لا إله ولم يصلها إلا الله فهي كلمة أولها نفي لكل إله فإذا وصلها بقوله إلا الله كان توحيدا لله وحده بنفي كل معبود دونه
وكذلك قوله تعالى قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله كان علم الغيب منتفيا عن سوى الله موصوفا به وحده
وكذلك قوله عز من قائل وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها وكذلك قوله إن الله لا يستحيي حتى يصلها بقوله أن يضرب مثلا ما بعوضة
وكذلك قوله والله لا يستحيي حتى يصلها من الحق
وكذلك قوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول

له لم يجز أيضا قطعه إذا لم يبين ما يقول للشيء فقال كن ثم وصلها فقال فيكون ثم استأنف فقال والذين هاجروا
وأما ما قطع الله تبارك وتعالى المعنى بالقول فلم يصله بمعنى ثان فيكون معناهما واحدا مما قطع الأول 132 وإن وصله بغيره بتمام معنى الأول واستأنف قوله ثانيا وصله بمعنى ثان مستقبل ليفرق به بين المعنيين فيه ما يكون كفرا لأن يذم به حتى يقطعه ولا يصله كقوله تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء فهذا كلام تام معناه لو وصله فقال و الله ثم قطع كان كافرا حتى يصله بقوله ولله المثل الأعلى ولكن يتلوه مستأنفا فيفردهم عن الله جل ذكره بالمثل السوء ويفرد الله جل وعز عنهم بالمثل الأعلى
وقوله إنما يستجيب الذين يسمعون فقطع

المستمعين من الموتى ثم قال يبعثهم الله فوصل المعنى بذكر البعث لهم
وقوله سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ثم استأنف ومثلهم في الإنجيل كزرع الآية
وقوله تعالى فأولى لهم ثم استأنف طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم
وكذلك قوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم فلو وقف على قولهم لهم فوصله ولم يقطعه منه بمستأنف بقوله ما يشتهون لكان قد أخبر أنهم قد جعلوا لله البنات ولهم جميعا ما يشتهون فأخبر أنهم وصفوا الله جل ذكره بأن له البنات ولم يصفوه بما يشتهون من الذكران وجل عنهما جميعا وإنما ذم الله المشركين حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم

من البنات ويجعلون لأنفسهم الذكران فيجعلون أنفسهم فوق الله جل وعز لتوكيد الحجة عليهم بعد إقرارهم أن الله خالقهم ثم يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم وكذلك قوله إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ثم الكلام لتمام المعنى لثواب الذين آمنوا ثم استأنف فقال والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فلو وصلها واصل ولم يقطعها باستثناء فقال والذين كفروا لكان قد وصفهم بدخول الجنات مع الذين آمنوا
وكذلك يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك فتم الكلام بتمام المعنى بإيجاز الله لنوح ومن معه البركات والسلام ثم استأنف الأمم من بعده بالمتاع والعذاب ولم يصل الكلام فيشترك الأمم بعده في السلام والبركات وكذلك إن

مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى قوله ثم قال له كن فيكون ثم قطع واستأنف فقال الحق من ربك مستأنفا فوقع الحق مستأنفا وكذلك فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة والمبتدأ في أكثر الأخبار مرفوع ولكن هذا الموضع نصب الثاني المقطوع من الأول فجعلهما جميعا في معنى المفعول بهما يخالف بين معناهما ثم اتبع آخر الفريقين بما حق عليهم من الضلالة بخلاف الفرقة الأولى التي هداها فقال فريقا هدى ثم استأنف فقال وفريقا حق عليهم الضلالة
وقوله من بعثنا من مرقدنا فقطع ثم استأنف هذا ما وعد الرحمن قالت الملائكة هذا ما وعد الرحمن
وقوله إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة فقطع ثم قال وكذلك يفعلون

وقوله قل لا تقسموا لا تحلفوا ثم ابتدأ فقال طاعة معروفة معناه أو طاعة معروفة
وقوله فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا معناه وساء ذلك الوزر يوم القيامة حملا
والمفصل الذي ابتدأه باستئناف ما بعده بتمام الكلام ولو لم يصله بكلام ثان فليس مفصولا بالأول فالمفصل لا يخلو من أن يوصل بكلام مستأنف إلا أنه لا يوصل بالأول وإنما يوصل بالثالث وكذلك قوله ما المسيح بن مريم إلا رسول خلت من قبله الرسل
هو آخر الكتاب