كتاب : البديع في نقد الشعر
المؤلف : أسامة بن منقذ

قال الحكيم: لسنا نمنع محبة الائتلاف بالأرواح، وإنما نمنع محبة اجتماع الأجسام، فإن ذلك طبع البهائم.
قال المتنبي:
وما كلُ من يهوى يعفُّ إذا خلا ... عفافي ويرضي الحبَّ والخيل تلتقي
قال الحكيم: من تخلى عن الظلم بظاهر أمره وعفة جوارحه وكان مساكناً له بحواسه فهو ظالم.
قال المتنبي:
وإطراقُ طرفِ العين ليس بنافعٍ ... إذا كان طرفُ القلب ليس بمطرقِ
قال الحكيم: علل الأفهام أشد من علل الأجسام.
قال المتنبي:
يهونُ علينا أن تصابَ نفوسنا ... وتسلمَ أعراضٌ لنا وعقولُ
قال الحكيم: من جعل الفكر موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك مستعمل البديهة في موضع الفكر.
قال المتنبي:
ووضعُ الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرٌ، كوضع السيف في موضع الندى
قال الحكيم: التنائي بمباعدة الجواهر أشد من التنائي بمباعدة الأجسام.
قال المتنبي:
وأبعدُ من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظُ من عاداك من لا تشاكل
قال الحكيم: إن الحكيم تريه حكمته أن فوق علمه علماً؛ فهو يتواضع لتلك الزيادة. والجاهل يظن أن فضله قد تناهى؛ فيسقط بجهله فتمقته النفوس.
قال المتنبي:
وما التيهُ طبي فيهمُ غيرَ أنني ... بغيضٌ إليَّ الجاهلُ المتعاقلُ
قال الحكيم وقد نظر إلى غلام حسن الوجه فاستنطقه، فلم يجد عنده علماً.
فقال: نعم البيت لو كان فيه ساكن.
قال المتنبي:
وما الحسنُ في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
قال الحكيم: إذا تجوهرت النفوس الفلسفية لحقت بالعالم العلوي، فلا تسكن إلى الهموم الترابية ولا يعترضها الملل.
قال المتنبي:
ولذيذ الحياةِ أنفسُ في النف ... سِ وأشهى من أن تملَّ وأحلى
قال الحكيم: الكلال والملال يتعاقبان الأجسام لضعفها، لا لضعف الحس.
قال المتنبي:
وإذا الشيخُ قال: أفٍّ فما ملَّ ... حياةً وإنما الضعف ملاَّ
قال الحكيم: الدنيا تطعم أولادها وتأكل مولودها.
قال المتنبي:
أبداً تستردُ ما تهبُ الدنيا ... فيا ليت جودها كان بخلا
قال الحكيم: إذا كانت الأشياء فاعلة في الطبع لم تحمد على فعلها لأن الشمس لا تحمد على حرارتها ولا على ضوئها.
قال المتنبي:
ربَّ أمرٍ أتاك لا تحمدُ ال ... فعالَ فيه وتحمدُ الأفعالا
قال الحكيم: الجبن ذلة كامنة في نفس الجبان فإذا خلا بنفسه أظهر شجاعته.
قال المتنبي:
وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ ... طلبَ الحربَ وحدهُ والنزالا
قال الحكيم: الغلبة بطبع الحياة، والمسالمة بطبع الموت، والنفس لا تحب أن تموت؛ فلذلك تشتهي الأشياء غلبة.
قال المتنبي:
من أطاق التماسَ شيءٍ غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
قال الحكيم: الإنسان شبح نور روحاني، فهو عقل غريزي، إلا تراه العيون من ظاهر النور.
قال المتنبي:
لولا العقولُ لكان أدنى ضيغمٍ ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
قال الحكيم: النفوس البهيمية تألف مساكنة الأجسام الدانية فلذلك يصعب عليها مفارقة أجسامها، والنفوس الصافية بضد ذلك.
قال المتنبي:
إلفُ هذا الهواءِ أوقعَ في الأنف ... سِ إنَّ الحمام مر المذاقِ
قال الحكيم: نفع بذي الجدة أن يفارقه الجود، لأنهما إذا اعتدلا كان اعتدالهما كشيء واحد ويحويهما اسمان.
قال المتنبي:
والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق
قال الحكيم: العاقل لا يساكن شهوة الطبع لعلمه بزوالها، والجاهل يظن أنها خالدة له وهو باق عليها، فهذا يشقى بعقله وهذا ينعم بجهله.
قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ ... وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعم
قال الحكيم: الصبر على مضض السياسة ينال به شرف الرياسة.
قال المتنبي:
لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدمُ
قال الحكيم: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: إما ديانة لخوف معاد، أو سياسة لخوف النفس.
قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجدْ ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ
قال الحكيم: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وعبدك وزوجك، فسبب صلاح حالهم التعدي عليهم.

قال المتنبي:
من الحلمِ أن تستعملَ الجهلَ دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرقُ المظالم
قال الحكيم: كل ما له أول تدعو الضرورة إلى أن يكون له آخر.
قال المتنبي:
إنعمْ ولذ فللأمور أواخرٌ ... أبداً إذا كانتْ لهنَّ أوائلُ
قال الحكيم: النفوس المتجوهرة تركت الشهوات البهيمية طبعاً لا خوفاً.
قال المتنبي:
وترى الفتوة والمروءة والأبوة ... في كلِّ مليحةٍ ضراتها
هنَّ الثلاثُ المانعات لذتي ... في خلوتي لا الخوفُ من تبعاتها
قال الحكيم: إذا لم تتصرف النفس في شهواتها ومرادها فحياتها موت ووجودها عدم.
قال المتنبي:
ذلَّ من يغبطُ الذليل بعيشِ ... ربَّ عيشٍ اخفُ منهُ الحمامُ
قال الحكيم: الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرة، والعجز لا يكون إلا عن ضعف؛ وليس للعاجز أن يسمى بالحليم وهو عاجز.
قال المتنبي:
كلَّ حلمٍ أتى بغير اقتدارٍ ... حجةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ
قال الحكيم: النفس الذليلة لا تجد الهوان والنفس العزيزة يؤثر فيها يسير الكلام.
قال المتنبي:
من يهنْ يسهلِ الهوانُ عليهِ ... ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
قال الحكيم: موت النفس حياتها، وعدمها وجودها؛ لأنها تلحق بعالمها.
قال المتنبي:
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموتِ في الحرب تبغي الخلودا
قال الحكيم على قدر بصيرة العقل يرى الإنسان الأشياء، فالسالم العقل يرى الأشياء بحقائقها. والنفس السقيمة ترى الأشياء بطبعها.
قال المتنبي:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ ... يجدْ مراً بهِ االماءَ الزلالا
قال الحكيم: على قدر الهمم تكون الهموم.
قال المتنبي:
أفاضلُ الناس أغراضٌ لذا الزمن ... يخلو من الهمِّ أخلاهم من الفطن
قال الحكيم: الحس قبل المحسوس والعقل قبل المعقول.
قال المتنبي:
فقر الجهول بلا عقلٍ إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا رأسٍ إلى رسن
قال الحكيم: ليس ظاهر جمال الإنسان بنافع إذا كان ميت الحس العقل.
وقال المتنبي:
لا يعجبنَّ مضيماً حسنُ بزتهِ ... وهلْ تروق دفيناً جودة الكفن
قال الحكيم: الزيادة في الحد نقص في المحدود.
قال المتنبي:
متى ما ازددتُ من بعد التناهي ... فقدْ وقعَ انتقاصي في ازديادي
قال الحكيم: أقرب القرب مودات القلوب وإن تباعدت الأجسام، وأبعد البعد تنافر القلوب وإن تدانت الأجسام.
قال المتنبي:
وأبعد بعدنا بعد التداني ... وقربَ قربنا قرب البعاد
قال الحكيم: إذا كان البناء على غير قواعد كان الفساد إليه اقرب من الصلاح.
وقال المتنبي:
فإنَّ الجرحَ ينفرُ بعد حينٍ ... إذا كانَ البناءُ على فسادِ
قال الحكيم: بإنفاذ سهم الحزم، تدرك صحة العزم.
قال المتنبي:
مع الحزمِ حتى لو تعمد تركهُ ... لألحقهُ تضييعهُ الحزمَ بالحزم
قال الحكيم: الأشكال لاحقة بأشكالها كما أن الأضداد مباينة لأضدادها.
قال المتنبي:
وشبهُ الشيءِ منجذبٌ إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغامُ
قال الحكيم: لا يجد لذة الحياة من لا يجد لشهواته رحى، ولا لأمره تصرفا.
قال المتنبي:
منْ لا توافقهُ الحياةُ وطيبها ... حتى يوافقُ عزمه الإنفاذا
قال الحكيم: أواخر حركات الفلك كأوائلها وإنشاء العالم كتلاشيه بالحقيقة لا في الحس.
قال المتنبي:
كثيرُ حياةِ المرءِ قبل قليلها ... يزولُ، وباقي عيشهُ مثلُ ذاهبهِ
قال الحكيم: من نظر بعين العقل، ورأى عواقب الأمور قبل بوادرها لم يجزع بحلولها.
قال المتنبي:
عرفتُ الليالي قبل ما صنعتْ بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
قال الحكيم: ليس لحوق البغية في نيل الشهوة صعباً؛ وأعجز العجز من لم يفن عمره في طلب الغاية.
قال المتنبي:
إذا فلَّ عزمي عن مدى خوف بعده ... فأبعدُ شيءٍ ممكنٍ لم يجدْ عزما
قال الحكيم: أول درج الفضل ترك الذم ثم التناهي في المدح.
قال المتنبي:
ومني استفادَ الناسُ كلَّ غريبةٍ ... فجاوزوا بترك الذمِ إن لم يكن حمدُ
قال الحكيم: من قصر عن أخذ لذاته عدمها وعدم صحة جسمه.
قال المتنبي:

ذرْ النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترقٌ جارانِ دراهما العمرُ
قال الحكيم: من لم يرفع نفسه عن قدر الجاهل، رفع الجاهل قدره عنه.
قال المتنبي:
إذا الفضلُ لم يرفعك عن شكر ناقصٍ ... على نكبةٍ فالفضلُ فيمنْ له الشكرُ
قال الحكيم: من أفنى جدته في جمع المال خوف العدم قد أسلم نفسه للعدم.
قال المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمعِ مالهِ ... مخافةَ فقرٍ فالذي كتب الفقرُ
قال الحكيم: أعظم ما على النفس إعظام ما في ذوي الدناءة.
قال المتنبي:
وإني رأيتُ الضرَّ أحسن منظراً ... وأهونَ من مرأى صغيرٍ به كبرُ
قال الحكيم: الذي لا يعلم بعلته لا يتوصل إلى برئها.
قال المتنبي:
ومن جاهلٍ بي وهو يجهلُ جهلهُ ... ويجهلُ علمي أنه بي جاهلُ
قال الحكيم: حلول الفناء في عظيم كحلوله في صغير.
قال المتنبي:
فطعمُ الموت في أمرٍ حقيرٍ ... كطعم الموتِ في أمرٍ عظيمِ
قال الحكيم: من كان همه الأكل والشرب والنكاح فهو بطبع البهائم؛ لأن البهائم متى خلي بينها وبين ما تريد لم تفعل شيئاً غير ذلك.
قال المتنبي:
أرى أناساً ومحصولي على غنمٍ ... وذكرَ جودٍ ومحصولي على الكلمٍ
قال الحكيم: من أثرى من العدم افتقر من الكرم.
قال المتنبي:
وربَّ مال فقيراً من مروتهِ ... لمْ يثرْ منهُ، كما أثرى من العدمِ
قال الحكيم: إذا لم تتجرد الأفعال من الذم كان الإحسان إساءة.
قال المتنبي:
إذا الجودُ لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمدُ مكسوباً ولا المالُ باقيا
قال الحكيم: تغير الأفعال التي ترد غير مطبوعة، أشد ثقلاً من الريح الهبوب.
قال المتنبي:
وأسرعُ مفعولٍ فعلت تغيراً ... تكلفُ شيئاً في طباعكَ ضده
قال الحكيم: أتعب الناس من قصرت قدرته، واتسعت مروءته.
قال المتنبي:
وأتعبُ خلقِ اللهِ من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجدهُ
قال الحكيم: أعظم الناس محنة من قل ماله وعظم مجده ولا مال لمن كثر ماله وقل مجده.
قال المتنبي:
فلا مجدَ في الدنيا لمنْ قلَّ ماله ... ولا مالَ في الدنيا لمنْ قلَّ مجده
قال الحكيم: بالغريزة يتعلق الأدب لا بتقادم السن.
قال المتنبي:
وإذا الحلم لم يكنْ في طباعٍ ... لم يحلم تقادمُ الميلاد
قال الحكيم: الائتلاف بالجواهر قبل الائتلاف بالأجسام.
قال المتنبي:
أصادق نفسَ المرءِ من قبل جهله ... وأعرفها في فعله والتكلمِ
قال الحكيم: إذا لم تصن بالمال أبناء الجنس وتقتل به أعداء النفس، فما تصنع بالأغراض والأعراض.
قال المتنبي:
لمن تطلبُ الدنيا إذا لم تردْ بها ... سرورَ محبّ أو إساءةَ مجرمِ
قال الحكيم: إن أقبح الظلم حسدك لعبدك الذي تنعم عليه.
قال المتنبي:
وأظلمُ أهلِ الظلم من باتَ حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلبُ
قال الحكيم: أيام الحياة لا خوف فيهإن كما أن أيام المصائب لا بقاء لها.
قال المتنبي:
لا تلقَ دهركَ إلا غير مكترثٍ ... ما دامَ يصحبُ فيه، روحك البدنُ
قال الحكيم: الأيام لا تتم الفرح ولا الترح فالأسف على الماضي تضييع للعقل، لا غير.
قال المتنبي:
فما يدومُ سرور ما سررت بهِ ... ولا يردُ عليك الفائتَ الحزنُ
قال الحكيم: العشق ضرورة داخلة على النفس، والعاشق بتلك الضرورة مغتبط.
قال المتنبي:
مما أضرَ بأهلِ العشقِ أنهمُ ... هووا وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا
قال الحكيم: من صحة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت سنة عمل بها حسب السياسة.
قال المتنبي:
كلما أنبتَ الزمانُ قناةً ... ركب المرءُ في القناة سنانا
قال الحكيم: ليس من الحزم فناء النفوس في طلب الشهوات، بل في العلم العلوي.
قال المتنبي:
ومراد النفوس أصغرُ من أن ... تتعادى فيه وأن تتفانى
قال الحكيم: خوف وقوع المكروه قيل تناهي المدة خور في الطبع.
قال المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ ... فمنَ العجزِ أن تموت جبانا
قال الحكيم: من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله ترك الرذائل.
قال المتنبي:

إنا لفي زمنٍ تركُ القبيحِ به ... من أكثر الناس إحسانٌ وإجمال
قال الحكيم: تخليد الذكر في الكتب عمر لا يبيد، وهو في كل يوم جديد.
قال المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته ... ما فاته وفضولُ العيش أشغال
قال الحكيم: اعجز العجزة ن قدر أن يزيل العجز عن نفسه فلم يفعل.
قال المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً ... كنقصِ القادرين عن التمام
قال الحكيم: استبصار العقلاء ضد لتمني الجهلاء؛ والحال التي يبكي منها العاقل، عليها يحسده الجاهل.
قال المتنبي:
ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبها ... إني بما أنا باكٍ منهُ محسودُ
قال الحكيم: لا غنى لمن ملكه الطمع؛ فاستولت عليه الأماني.
قال المتنبي:
أمسيتُ أروح مثرٍ حازناً ويداً ... أنا الغنيُ وأموالي المواعيدُ
قال الحكيم: أكثر هذه الأيام أحلام، وغذاؤها أسقام وآلام.
قال المتنبي:
هون على بصرٍ ما شقَّ منظرهُ ... فإنما يقظاتُ: العين كالحلمِ
قال الحكيم: الحيوان كله متغلب، وليس من السياسة شكوى بعض الناس إلى بعض.
وقال المتنبي:
لا تشكونَّ إلى خلقٍ فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
قال الحكيم: النفس الشريفة ترى الموت بقاء، لدرك النفس أماكن البقاء. وهذه جليلة يعجز الخلق عن ركوبها.
قال المتنبي:
يعللنا هذا الزمانُ بذا الوعدِ ... ويخدعُ عما في يديهِ من النقدِ
قال الحكيم: إذا كان سقم النفس بالجهل كان الموت شفاءها.
قال المتنبي:
قد استشفيتُ من داءٍ بداءٍ ... وأقتلُ ما أعلكَ ما شفاكا
قال الحكيم: كره ما لا بد من كونه عجز في صحة العقل.
وقال المتنبي:
نحنُ بنو الموتى، فما بالنا ... نعافُ ما لا بدَّ من شربه
قال الحكيم: إذا كان تلاشي الأرواح من كرور الأيام، فما بالنا نعاف رجوعنا إلى أماكنها.
قال المتنبي:
تبخلُ أيدينا بأرواحنا ... على زمانٍ هي من كسبه
قال الحكيم: اللطائف سماوية، والكثائف أرضية، وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول.
قال المتنبي:
فهذه الأرواحُ من جوه ... وهذه الأجسامُ من تربهِ
قال الحكيم: النظر في عواقب الأمور يزهد في حقائقها، والعشق عمى الحس عن درك رؤية المعشوق.
قال المتنبي:
لو أنكر العاشقُ في منتهى ... حسنِ الذي يسيهِ لم يسبه
قال الحكيم: آخر التوقي أول موارد الخوف.
قال المتنبي:
وغايةُ المفرطِ في سلمه ... كغايةِ المفرطِ في حربهِ

باب
التقفية
اعلم أن التقفية هو أن يأتي في البيت ذكر نكتة أو خير أو غير ذلك يومي إليه الشاعر أو الناثر، مثل قوله تعالى: " فهن قاصرات الطرف " ، فإنه يومي إلى قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دبَّ محولٌ ... من الذرّ فوق الإتبِ منها لأثرا
ومنه قول الرفاء:
مدحٌ يغضُّ زهيرٌ عنهُ ناظرهُ ... ونائلٌ يتوارى عندهُ هرمُ
لا يستعيرُ له المداح منقبةً ... ولا يقولون فيهِ غيرَ ما علموا
ومنه:
ألومُ زياداً في ركاكة رأيهِ ... وفي قوله: أي الرجال المهذبُ
وهل يحسن التهذيب منك خلائقاً ... أرقَ من الماءِ الزلال وأعذبُ
تكلمَ والنعمانُ شمسُ سمائهِ ... وكلُّ مليكٍ عند نعمانَ كوكبُ
ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصرَ منهُ شمسه وهو غيهبُ
باب
التلطيف والتوليد
اعلم أن التلطيف والتوليد هو أن يلفق كلاماً مع كلام آخر فيولد من الكلامين كلام ثالث كما روي عن مصعب بن الزبير على خيله؛ عدة؛ فلما أخذها الحجاج كتب عليها: للفرار.
ومن ذلك قوله لسعيد: ما اسمك؟ قال: سعيد، فقال: على الأعداء.
وسأل المهدي السيد الحميري: ما اسمك؟ فقال: أنت السيد يا أمير المؤمنين. وهذا من الأدب إذا كان اسم المسؤول من صفات السائل.
وقال معاوية لسعيد بن مرة: من أنت؟ فقال: أنا ابن مرة وأنت السعيد يا أمير المؤمنين.
وقيل للعباس رضي الله عنه: أيما أكبر: أنت؟ أو النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أنا أسن: والنبي صلى الله عليه وسلم أكبر.

وقيل للمهلب: أيهما أشجع الناس؟ قال: فلان؛ فقيل له: فما تقول في عبد الله بن الزبير؟ قال: سألتموني عن الإنس، أو عن الجن.

باب
المبادي والمطالع
اعلم أن المبادي والمطالع كما قال بعض الكتاب: أحسنوا الابتداءات؛ فإنها دلائل البيان، وقالوا: ينبغي للشاعر أن يتحرز في ابتداءاته مما يتطير منه، ويستحقر ن الكلام، خاصة في المدائح والتهاني.
وأنكروا على أبي نواس قوله في أول قصيدة مدح بها البرامكة:
أربع البلى، إن الخضوع لباد
فلما انتهى إلى قوله:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمكٍ من رائحينَ وغادِ
إستحكم تطيرهم، وقيل إنهم نكبوا بعد ذلك بأسبوع واحد.
ولذلك تطير المعتصم لما مدحه ابن إبراهيم الموصلي بقوله:
يا دارُ غيرك البلى ومحاك ... يا ليتَ شعري ما الذي أبلاكِ!
فتغامز الحاضرون وعجبوا من جواز ذلك على إسحاق مع فطنته وفهمه وعلمه، وكان خراب القصر بعد ذلك بقليل.
وأنشد أبو مقاتل:
لا تقل بشرى، ولكن بشريان ... غرةُ الهادي ويومُ المهرجان
فأوجع ضرباً وقيل له: هلا قلت: انتقل بشرى فعندي بشريان وأحسن الإبتداءات قول أشجع السلمي:
قصرٌ عليهِ تحيةٌ وسلامُ ... خلعت عليه جمالها الأيامُ
وأجمعوا على أحسن الابتداءات قول امرئ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل
فقالوا: لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى؛ وذكر الحبيب والمنزل، في نصف بيت.
وقيل إن أبا الطيب المتنبي لما أنشد:
أوه بديلاً من قولتي واها
قال له بعض الحاضرين: أوهُ وكيهُ.
باب
الأواخر والمقاطع
اعلم أن الأواخر والمقاطع ينبغي أن يتحرز الشاعر فيها مما يعترض عليه، كما روي أن أبا تمام لما أنشد:
على مثلها من أربع ملاعب
قال بعض الحاضرين: لعنة الله ولعن اللاعنين.
وكذلك قوله: خشنت عليه أخت ابن خشن.
وكذلك ينبغي أن تكون أواخر القصائد حلوة المقاطع، توقن النفس بأنه آخر القصيدة؛ لئلا يكون كالبتر.
وأحسن المقاطع قول تأبط شراً:
لتقرعنَّ عليَّ السنَّ من ندمٍ ... إذا تذكرتَ يوماً بعض أخلاقي
وقول زهير بن أبي سلمى:
وأعلمُ علمَ اليومِ والأمس قبله ... ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عمي
ولذلك ينبغي أن يكون مقطع البيت حلواً وأحسنه ما كان على حرفين، منها بها، وحطه السيل من عل، وليلة معاً وتفريق الأحبة في غد، وقوله:
أتتني تؤنبني في البكا ... فأهلاً بها وبتأنيبها
فللعينِ عذرٌ إذا ما بكت ... وقد عدمت وجه محبوبها
ومن ذلك:
من معشرٍ يتخيرون كلامهم ... حتى كأنهمُ تجارُ الجوهر
ومنه أن يكون في آخر البيت حرف لا يحتاج إلى إعراب، واو أو ياء صليبان أو ياء إضافة، أو ياء جماعة، كقوله:
صحا القلب عن سلمى وقد كان لا يصحو
أو تكون الفاصلة لائقة بما تقدمها كقوله:
همُ البحور عطاءً حين تسألهم ... وفي اللقاءِ إذا تلقاهمُ بهمُ
ومنه:
من معشرٍ يتخيرون كلامهم ... حتى كأنهمُ تجار الجوهرِ
باب
التخلص والخروج
اعلم أن التخلص والخروج يستحب أن يكون في بيت واحد، وهو شيء ابتدعه المحدثون دون المتقدمين، وأحسن الخروج في العرب قول زهير:
إنَّ البخيلَ ملومٌ حيثُ كان ... ولكنَّ الجوادَ على علاتهِ هرم
وقال دعبل الخزاعي:
وقالت وقد ذكرتها عهد الصبا ... باليأسِ تقطعُ عادةُ المتعود
وقال البحتري:
قد قلتُ للغيث الركام ولجَّ في ... إبراقهِ وألحَّ في إرعاده
لا تعرضن لجعفر متشبهاً ... بندى يديهِ فلستَ من أنداده
وقال علي بن الجهم:
فلما أن تجلى قال صحبي ... أضوءُ الصبحِ أم وجهُ الإمامِ
وقال حسان بن ثابت الأنصاري:
تغنَ بالشعر أن كنتَ قائله ... إنَّ الغنى لهداةِ الشعر مضمارُ
نميزُ ساقطه منهُ ونعزلهُ ... كما يميز خبثَ الفضة النارُ
باب
التعليم والترسيم

اعلم أن التعليم والترسيم هو أن الشعر قول موزون مقفى دال على معنى، وله طرفان: أحدهما غاية الجودة، والآخر غاية الرداءة، وبينهما وسائط. والمعنى للشعر بمنزلة المادة، والشعر فيه بمنزلة الصورة. وهو أربعة أشياء: لفظ، ومعنى، ووزن، وقافية. وتهذيبه أن يكون اللفظ سمحاً سهل المخارج حلواً عذباً. وتهذيب الوزن أن يكون حسناً تقبله النفس والغريزة، غير منكسر ولا مزحف. فإن أمكن فهو التخليع مثل: المرء ما عاش في تكذيب طول الحياة له تعذيب.
وتهذيب القافية أن تكون سلسلة المخرج مألوفة، فإن القوافي حوافر الشعر.
والذي يمدح به الناس الصفات الإنسانية وهي السماحة والشجاعة والعدل والعفة. ومنها تولد ما يتولد منها كما قال زهير:
أخي ثقةٍ لا تهلكُ الخمرُ مآله ... ولكنه قد يهلكُ المال نائله
فمدحه بالعفة، ثم قال:
تراهُ إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ثم قال:
فمن مثلُ حصنٍ في الحروب ومثله ... لإنكار ضيمٍ، أو لأمرٍ نحاوله
ولو لم يكن في كفه غيرُ نفسهِ ... لجاد بها فليتق اللهَ سائله
فمدحه بالشجاعة والمعني التي يقصدها الشعراء هي المدح والهجاء والنسيب والمراثي والأوصاف والتشبيه. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان زهير لا يعاظل الكلام ولا يقصد الوحشي منه ولا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال.
وقد يكون الشاعر مقصراً ولا يكون مخطئاً. لأنه لا يمكنه الإحاطة بكل شيء.
ويحب أن يمدح كل واحد بما يصلح له، كما قال زهير:
من يلقَ يوماً على علاته هرماً ... يلقَ السماحةَ منهُ والندى خلقا
ليثٌ بعثرَ يصطاد الرجالَ، إذا ... ما الليثُ كذبَ عن أقرانه صدقا
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا عنقا
لو نالَ حيٌّ من الدنيا بمكرمةٍ ... أفقَ السماءِ لنالت كفه الأفقا
ولا يمدح لكثرة الأولاد؛ لأن الحيوان الكريم أعز نتاجا مثل قوله:
بغاثُ الطيرِ أكثرها نتاجاً ... وأمُ الصقر مقلاةٌ نذورُ
وليمدح بالجود وقلة المال مثل قوله:
وإني لا أخزى إذا قيلَ: مملقٌ ... جوادٌ، وأخشى أن يقال: بخيل
وقوله أيضاً:
فما كان من خير أتوهُ، فإنما ... توارثه آباءُ آبائهم قبلُ
وهل ينبتُ الخطيَّ إلاَّ وشيجه ... وتغرسُ إلاَّ في منابتها النخلُ
ومثل قوله:
إني سترحل بالمطيّ قصائدي ... حتى تحلَّ على بني ورقاء
مدحٌ لهم يتوارثون ثناءها ... رهناً لآخرهم فطول بقاءِ
حلماءُ في النادي إذا ما جئتهم ... جهلاءُ يومَ عجاجةٍ ولقاءِ
من سالموا نالَ الكرامةَ كلها ... و حاربوا ألوى مع العنقاء
وكما قال الحطيئة:
أقلوا عليهم، لا أبا لأبيكمُ ... من اللومِ أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فإن كانت النعماءُ فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وتعذلني أفناءُ سعدٍ عليهمُ ... وما قلتُ إلا بالذي علمت سعد
وقال آخر:
نزورُ امرأً يعطي على الحمد ماله ... ومن يعطي أثمانَ المحامد يحمدِ
يرى البخلَ لا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أنَّ المالَ غيرُ مخلدِ
كسوبٌ ومتلافٌ إذا ما سألته ... تهلل واهتزَ اهتزازَ المهندِ
من تأته تعشو إلى ضوءِ نارهِ ... تجد خيرَ نار عندها خيرُ موقدِ
وكما قال الشماخ:
فتى يملأ الشيزى ويروي سنانه ... ويضربُ في رأس الكميّ المدجج
فتى ليس بالراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوتِ الحيّ بالمتولج
وقوله أيضاً:
رأيتُ عرابةَ الأوسيَ يسمو ... إلى الخيرات منقطعَ القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاها عرابةُ باليمينِ
كما قال النابغة:
ألم ترَ أنَّ اللهَ أعطاكَ سورةً ... ترى كلَّ ملكٍ دونها يتذبذبُ
لأنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبدُ منهنَ كوكبُ
ومنه:
في كفه خيزرانٌ نشرهُ عبقٌ ... من كفّ أروعَ في عرنينه شممُ
يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلمُ إلا حينَ يبتسمُ

ويمدح الوزير بالحزم والسياسة، كما يمدح الملك بالعزم والرياسة، ويمدح الكاتب بالذكر والفكر والذكاء والذهن. كما قال السلمي:
بديهته مثلُ تفكيره ... متى رمته فهوَ مستجمعُ
يرومُ الملوك ندى جعفرٍ ... وهم يجمعون ولا يجمعُ
ويمدح القائد بالبأس، والشدة، والصرامة، والنجدة، كما قال منصور النمري:
ترى الخيل يومَ الروم تظمأ تحتهُ ... ويروى القنا من كفه والمناصلُ
حلالٌ لأطراف الأسنة نحرهُ ... حرامٌ عليها صدرهُ والكواهلُ
وكما قال بشار:
فقل للخليفة إن جئته ... نصيحاً لا خير في المتهمْ
إذا ايقظتك حروبُ العدى ... فنبه لها عمراً ثمَ نمْ
فتى لا يبيتُ على دمنةٍ ... ولا يشربُ الماءَ إلا بدمْ
وكقول أبي نواس:
قولا لهرونَ إمامِ الهدى ... عند اجتماع المجلس الحاشد:
نصيحة الفضل وإشفاقه ... أخلى له وجهك من حاسد
أنت على ما بك من قدرةٍ ... فلست مثل الفضل بالواجدِ
أوجده اللهُ، فما مثله ... لطالبٍ منهُ ولا ناشدِ
وليس على اللهِ بمستنكرٍ ... أن يجمعَ العالمَ في واحدِ
وأصل الهجاء سلب المديح، فكل ما مدح به فسلبه هجاء وضده أيضاً قد يخرجه الحاذق مخرج الحق، كما قال:
يروعكَ من سعدِ بنِ عمرو جسومها ... وتزهدُ فيها حينَ تقتلهم خبرا
فسلم له كثرة العدد وعظيم الخلق كأنه مدح وهو يهجو، لأن الكرام قليل، والقحة عما في النفس المميزة. وقول الآخر:
وإذا يسرك من تميمٍ خصلةٌ ... فلما يسوؤك من تميمٍ أكثرُ
ومن ذلك:
قومٌ إذا ما جنى جانيهمُ أمنوا ... من لؤمِ أحسابهم أن يقتلوا قودا
وأما المراثمي فلا فرق بينهما وبين المدح إلا بذكر الموت والذهاب، يقال: ذهب الجواد والجود. وبكته الخيل رديء؛ لأنها توصف بارتباطها بموته لراحتها.
ولذلك لا يقال في بكاء وما يشبهه إلا لما يعقل، كما قال الخنساء:
فقد فقدتك حرقة فاستراحت ... فليتَ الخيلَ صاحبها يراها
ومن ذلك التأسف قول الحطيئة:
فما كان بيني لو رأيتك سالماً ... وبين الغني إلا ليالٍ قلائلُ
فإن عشتُ لم أملك حياتي، وإن أمت ... فما في حياتي بعد موتكَ طائلُ
وأما الأوصاف والتشبيه فتهذيبه الصحة. كقول امرئ القيس:
له أيطلا ظبيٍ، وساقا نعامةٍ ... وإرخاءُ سرحانٍ وتقريبُ تتفلِ
وقوله يصف درعاً مطوية مبززة:
وممدودة البيت موضونةٍ ... تضاءلُ في الطيّ كالمبردِ
تفيض على المرءِ أردانها ... كفيض الأتي على الجدجدِ
ومثل قوله لآخر:
ونحنُ الثرايا وعيوقها ... ونحنُ السما كان والمرزمُ
وأنتمُ كواكبُ مجهولةٌ ... ترى في السماءِ ولا تعلمُ
وكقول عدي:
تزجى أغنَّ كأنَّ إبرةَ روقه ... قلمٌ أصابَ من الدواةِ مدادها
وقوله أيضاً:
يتعاوران من الغبار ملاءةً ... غبراءَ محكمةً هما نسجاها
تطوى إذا علوا مكاناً مشرفاً ... فإذا السنابك أسهلت نشراها
وقول الآخر:
يبدو وتضمره البلادُ كأنه ... سيفٌ على شرفٍ يسيلُ ويغمدُ

باب
التهذيب والترتيب
اعلم أن التهذيب والترتيب هو أن يحصل المعنى قبل اللفظ، والقوافي قبل الأبيات.
ويقصد الكلام الجزل دون الرذل، والعذب دون الجهم. ولا يعمل نظم ولا نثر عند الملل، فإن الكثير معه قليل، والنفيس خسيس، والخواطر ينابيع، فإذا رفق بها جمت، وإذا عنف عليها نزحت.
وليكتب كل معنى يسنح، وكل لفظ يعرض، وليترنم بالشعر وهو يصنعه؛ فإنه يعين عليه، فقد يجيد الشاعر ويمكنه مرة، ولا يمكنه أخرى.
وإياك وتعقيد المعاني، وتقعير اللفظ، وليجعل المعنى الشريف في اللفظ الظريف، لئلا يتلف أحدهما الآخر، ومتى عصي الشعر فاتركه، ومتى طاوعك عاوده، وروح الخاطر إذا كل، واعمل في أحب المعاني إليك، وكل ما يوافقه طبعك فالنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطي على الرهبة.

واعمل الأبيات متفرقة على ما يجود به الخاطر، ثم انظمه في الآخر، وحصل المبدأ والمقطع والخروج، فهو أصعب ما في القصيدة، وميز في فكرك محط الرسالة، ومصب القصيدة؛ فإنه أسهل عليك: وأشعرها أولا وهذبها أولا وهذبها آخراً فقد قيل عن الحطيئة: إنه كان يعمل القصيدة في شهرين، ويهذبها في حول. وقيل عن زهير: إنه كان يعمل القصيدة في شهرين ويهذبها في حول، ولذلك سمي شعره: المنقح الحولي.
ولا يسرف الكاتب في الشكر لأنه إبرام وتثقيل، ولا في الدعاء فإنه تكسب من السلاطين وكان المتقدمون يتركون السجع، لكن تكون كلماتهم متوازنة، وفصولهم متقابلة، وهي طريقة أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه، وطريقة ابن المقفع، وسهل بن هرون وغيره.
ولا يجعل كل الكلام فناً واحداً شريفاً قبل أن يفصله فإن الكلام كالقعد إن كان كله ثميناً لم يكمل حسنه. أرصف كلامك لتكون كل كلمة مكانها وإلا كان كالجسد المنكوء من الأعضاء.
واعلم أن الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح، فإذا قويت الألفاظ، فلتقوا المعاني؛ ليحمل بعضها بعضاً.
واقصد القوافي الحسنة، ولا تقصد المستهجنة، فإنها حوافر الشعر.
واقصد الأوزان الحلوة دون المهجورة؛ فإنها أحلى في القلوب، واجعل كلامك في التوقيعات وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أجود وفي المجالس أجول وبالأسماع أعلق وبالأفواه أعبق. وإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره عن قوافي سجعه؛ وإذا سرقت معنى فغير الوزن والقافية ليخفى ولا يظهر.
وإذا أخذت شعراً فزد على معناه، وانقص من لفظه، كما يطعن به عليه، فحينئذ تكون أحق به.
وإذا تقاربت الديار تقاربت الأفكار، ولهذا قالوا: الشعر محجة يقع فيها الحافر على الحافر.
واعلم أن من الناس من شعره في البديهة أحسن منه بالروية وبالعكس. وفي الناس من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصر، وبضد ذلك؛ ومن إذا قوي نظمه ضعف نثره وبالضد، وقلما يتساويان؛ وقد يبرز الشاعر في معنى دون غيره، وكما قالوا: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب.
وامدح بأخلاق النفس دون أخلاق الجسم؛ وامدح كل واحد بما يليق به.
وإياك والمصادر والمباني التي هي غير مقصودة ولا معهودة، كما قال بعضهم للرشيد: أحسن الله إنابتك؛ فقال: وعجل الله إماتتك.
وارتك التعقيد والتقعير، وهو التكلف بالوحشي، مثل قول زهير: وليس بحقلد. وقول أبي تمام: يجهضمه.
ولا تعقد المعاني فتحوج إلى كشف، فإن أحسن الشعر ما سبق معناه إلى القلب مع لفظه إلى السمع.
وليكن كلامك سليماً من التكلف، بريئاً من التعسف، وليحط لفظك بمعناك، وليشتمل على مغزاك؛ فإن البلاغة سرعة جواب في صواب، وأن تقول فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ. والعي إكثار في إعذار، وإبطاء في أخطاء، كما جاء في المثل: سكت ألفإن ونطق خلفاً.
وقدر اللفظ على قدر المعنى، لا زائداً عنه ولا ناقص كما قيل في مدح بعض الكتاب: كأن ألفاظه قوالب معانيه، وقيل في آخر: كان إذا أخذ شبراً كفاه، وإن، أخذ طوماراً ملاه.
واستعمل التطويل في مكانه، والتقصير في مكانه، فقد قيل: إن الإيجاز إذا كان كافياً كان التطويل غثاً وإن كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً فإنك تصل إلى ما وصلوا إليه، وتقدر على ما قدروا عليه. وإياك أن تفرط أو تفرط؛ فإن فرطت قصرت، وإن أفرطت كثرت. وخير الأمور أوسطها.
وادخر الألفاظ التي جاءت في الأشعار للمكاتبات والمخاطبات ابتداء وجواباً لمن كاتبت أو كاتبك، أو خاطبت أو خاطبك.
واعلم أن محاسن الشعر ثلاثة: التطبيق والتجنيس والمقابلة. ومحاسن المعاني ثلاثة: الاستعارة والتشبيه والمثل، فاقصد إليها واعتمد عليها.
وينبغي أن يكون ابتداء القصيدة أو الرسالة ما يدل على المعنى المقصود، مثل قولهم في أول كتب الفتوح " الحمد لله الغالب. وفي أول كتب العهود: الحمد لله الواهب.
واعلم أن خير الكلام المطمع الممنع، وأحسنه ما قل ودل، وجل ولم يمل، وألا يكون قروياً ولا بدوياً وأن يكون الكاتب حلو الكلام قريب المعاني، لا نكاتب العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة، ولا يداخل ألفاظ العلماء في ألفاظ العرب ولا يركب الضرورة وإن كانت من ضرورات العرب لأنها تحسن منهم ولا تحسن منا.

واعلم أن من الكلام ما يستعمل بعض أبنيته دون بعض، مثل التعاطي، واستعمل الألفاظ العربية دون الحضرية، فإن الشيح والثمام في الشعر أحسن من الخوخ والرمان.
والخطباء ثلاثة: جاهلي، وإسلامي، ومخضرم.
والشعراء ثلاثة: حضري، وبدوي، ومفلق.
واكثر من حفظ النظم والنثر، فعلى قدر ما تحفظ منه تقوى فيه.
واعلم أن الشعر يسخي البخيل، ويشجع الجبان، ويفرج الهموم، ويرضي الغضبان، ولذلك قالوا: الشعر أنفذ من السحر، وربما كانت الإطالة اتهاماً والإجازة إفهاماً.
واستفتح بذكر الله، فقد كانت العرب تسمي الخطبة التي لا يستفتح فيها بذكر الله تعالى: البتراء والتي لا توشح بالقرآن: الشوهاء.
قال ناسخه: تم الكتاب ووقع الفراغ منه نهار الأربعاء رابع شهر شعبان المبارك لسنة أربع وثمانية هجرية رحمة الله من نظر فيه والدعاء لمؤلفة ولكاتبه بالمغفرة ولجميع المسلمين.

أقسام الكتاب
1 2