كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

بينَ ما تقتاته البهيمةُ والسبع ووجَدوا فيه صَولةَ الجمل ووُثوبَ الأسد وغدْرَ الذئب ورَوَغان الثعلب وجُبْن الصِّفْرِد وجَمْعَ الذَّرَّةِ وصنْعةَ السُّرْفة وجُودَ الدِّيكِ وإلفَ الكلب واهتداءَ الحمام وربَّما وجدوا فيه ممَّا في البهائم والسباع خُلُقَيْن أو ثلاثة ولا يبلغُ أن يكون جملاً بأن يكون فيه اهتداؤه وغَيرته وصَولته وحِقدُه وصبرُه على حَمْل الثِّقْل ولا يلزَم شبهُ الذئبِ بقدْر ما يَتَهَيَّأُ فيه من مِثل غدْرِه ومكْرِه واسترواحِه وتوحُّشه وشدَّة نُكْره كما أن الرجلَ يصيبُ الرأيَ الغامضَ المرَّةَ والمرَّتين والثَّلاثَ ولا يبلغُ ذلك المقدارُ أن يقال له داهيةٌ وذو نَكراء أو صاحبُ بَزْلاء وكما يخطئ الرجل فيفحُش خَطَاؤه في المرَّة والمرَّتين والثلاث فلا يبلغ الأمرُ به أن يقال له غبيٌّ وأبلهُ ومنقوص .
وسمَّوه العالمَ الصغيرَ لأنَّهم وجدُوه يصوِّر كلَّ شيءٍ بيده ويحكي كلَّ صوتٍ بِفَمه وقالوا : ولأنَّ أعضاءَه مقسومةٌ على البروج الاثني عشر والنجومِ السبعة وفيه الصفراء وهي من نِتاج النار وفيه السوداء وهي من نِتاج الأرض وفيه الدَّمُ وهو من نِتاج الهواء وفيه البلغَمُ وهو من نِتاج الماء وعلى طبائعه الأربع وضعت الأوتاد الأربعة

فجعَلوه العالَمَ الصغير إذ كانَ فيه جميعُ أجزائِه وأخلاطِهِ وطبائعه ألا تَرَى أنَّ فيه طبائعَ الغضبِ والرضَا وآلة اليقين والشكِّ والاعتقاد والوقف وفيه طبائعُ الفِطنةِ والغَباوة والسلامة والمكر والنصيحةِ والغِشِّ والوَفاء والغدر والرياء والإخلاص والحبّ والبُغْض والجِدِّ والهزْل والبخْل والجُود والاقتصادِ والسّرَف والتواضع والكبر والأُنسِ والوحشة والفكرة والإمهال والتمييز والخبْط والجبْن والشجاعة )
والحزم والإضاعة والتبذير والتقتير والتبذل والتعزز والادِّخار والتوكُّل والقَناعة والحِرْصِ والرغبة والزُّهْد والسُّخْط والرِّضا والصبر والجزَع والذِّكر والنسيان والخوفِ والرجاء والطَّمَعِ واليأس والتنزُّه والطبَع والشكِّ واليقين والحياء والقِحَة والكِتْمانِ والإشاعة والإقرار والإنكار والعلم والجهل والظلم والإنصاف والطلب والهَرب والحِقْد وسرْعة الرضا والحِدَّةِ وبُعْدِ الغَضب والسُّرور والهمّ واللَّذَّةِ والأَلَم والتأميلِ والتمنِّي والإصرارِ والنَّدَم والجِمَاحِ والبَدَوات والعيِّ والبلاغَة والنُّطْق والخَرَس والتصميمِ والتوقف والتغافُلِ والتفاطُن والعفوِ والمكافأة والاستطاعةِ والطبيعة وما لا يحصى عدده ولا يُعرَف حَدُّه .


فالكلبُ سبع وإن كانَ بالناس أنيساً ولا تخرِجُه الخصلة والخَصلتان ممَّا قاربَ بعضَ طبائِع الناس إِلى أن يخرجَه من الكَلْبيَّة قال : وكذلك الجميع وقد عرَفت شبَه باطنِ الكلب بباطن الإنسان وشبَه ظاهِر القرد بظاهر الإنسان : ترى ذلك في طَرْفِه وتغميضِ عينه وفي ضِحْكه وفي حكايته وفي كفِّه وأصابِعه وفي رفعِها ووضعِها وكيف يتناولُ بها وكيف يجهز اللُّقمة إلى فيه وكيف يكسِر الجَوْزَ ويستخرج لبَّه وكيف يَلْقَنُ كل مَا أُخِذَ به وأُعِيدَ عليه وأنَّهُ من بين جميعِ الحيوان إذا سقط في الماء غرِق مثلَ الإنسان ومع اجتماعِ أسبابِ المعرفة فيه يغرق إلاّ أن يكتسب معرفةَ السباحة وإن كان طبعُه أوفى وأكمل فهو من هاهنا أنقص وأكلُّ وكلُّ شيءٍ فهو يسبَح من جميع الحيوانات ممَّا يوصف بالمعرفة والفِطنة وممَّا يوصَفُ بالغَباوة والبَلادة وليس يصير القردُ بذلك المقدار من المقارَبَة إلى أن يخرُج من بعض حدود القرود إلى حدود الإنسان .
عود إلى الحوار في شأن الكلب والديك وزعمتَ أنَّ ممَّا يمنعُ من التمثيل بين الديك والكلب أنّه حارسٌ محترسٌ منه وكلُّ حارسٍ من الناس فهو حارسٌ غيرُ مأمونٍ تَبدُّلُه .
ولقد سأل زيادٌ ليلةً من الليالي : مَنْ على شُرطتكم قالوا : بَلْج بنُ نُشْبَة الجُشَميّ فقال : ( وساعٍ مع السلطانِ يَسعى عليهمُ ** ومحتَرسٍ مِن مثلِه وهو حارس )

ويقال : إن الشاعر قال هذا الشعرَ في الفلافس النَّهشَليّ حين ولِيَ شُرطةَ الحارِث بن عبد اللّه فقال : ( أقلِّي عليَّ اللومَ يا ابنةَ مالكٍ ** وذُمِّي زماناً سادَ فيه الفُلافسُ ) ( وساعٍ مع السلطان يَسعَى عليهمُ ** ومُحتَرسٍ من مثلِه وهو حارسُ )
وليس يُحكمَ لِصغار المضارِّ على كبارها بل الحكمُ للغامر على المغمور والقاهِر على المقهور ولو قد حكَينا ما ذكر هذا الشَّيخُ من خِصال الكلب وذكَرَ صاحبُه من خصالِ الديك أيقنتَ أنَّ العجَلةَ من عمل الشيطان وأنَّ العُجْبَ بئس الصاحب .
وقلتَ : وما يبلغُ من قدْر الكلب ومِن مقدارِ الديك أن يتفرَّغ لهما شيخان من جِلَّة المعتزِلة وهم أشراف أهلِ الحكمة فأيُّ شيءٍ بلغ غفر اللّه تعالى لك من قدْرِ جزءٍ لا يتجزَّأ من رمْل عالج والجزءِ الأقلِّ من أوَّل قطْع الذَّرَّة للمكان السحيق والصحيفة التي لا عمقَ لها ولأيِّ شيء يُعنَوْن بذلك وما يبلغ من ثمنِه وقدْرِ حجْمه حتَّى يتفرَّغَ للجدالِ فيه الشُّيوخ الجِلَّة والكهولُ العِلْية وحتَّى يختاروا النَّظرَ فيه على التسبيح والتهليل وقراءةِ القرآن وطولِ الانتصابِ في الصلاة وحتَّى يزعم أهلُه

أنَّه فوقَ الحجِّ والجهاد وفوقَ كلِ برٍّ واجتهاد فإنْ زعمتَ أنّ ذلك كلّه سواءٌ طالت الخُصومةُ معَك وشغلْتنا بهما عمّا هو أولى بِنا فيك على أنَّك إذا عَممْتَ ذلك كلَّه بالذمِّ وجَلَّلته بالعيب صارت المصيبةُ فيك أجلَّ والعزاءُ عنها أعسر وإن زعمتَ أنَّ ذلك إنَّما جاز لأنَّهم لم يذهبُوا إلى أثمان الأعيان في الأسواق وإلى عظم الحجم وإلى ما يروقُ العينَ ويلائِمُ النفس وأنَّهم إنَّما ذهبوا إلى عاقبة الأمر فيه وإلى نتيجتِه وما يتولَّد عنه من علم النِّهايات ومن باب الكلِّ والبعْض وكان ويكون ومن باب ما يحيط به العلم أو ما يفضل عنه ومن فَرقِ ما بين مذاهب الدُّهريَّة ومذاهب الموحِّدين فإن كان هذا العذْرُ مقبولاً وهذا الحكم صحيحاً فكذلك نقول في الكلب لأنَّ الكلبَ ليس له خطرٌ ثمين ولا قَدْر في الصدرِ جليل لأنَّه إن كان كلبَ صيد فديتُه أربعون دِرهماً وإن كان كلب ضَرْعٍ فديتُه شاة وإن كان كلبَ دارٍ فديتُه زِنبيلٌ من ترابٍ حُقَّ على القاتل أَن يؤدِّيَه وحُقَّ على صاحبِ الدار أن يقبلَه فهذا مقدارُ ظاهِر حاله ومُفتَّشِه وكوامِنُ خِصاله ودفائِنُ الحكمةِ فيه والبرهاناتُ على عجيب تدبير الربِّ تعالى ذكرُه فيه على خلاف ذلك فلذلك استجازُوا النَّظَر في شأنه والتمثيلَ بينَه وبين نظيره وتعلم أيضاً مع ذلك أنَ الكلبَ إذا كانَ فيه مع خُموله وسقوطِه مِن عجيبِ التدبير والنعمةِ السابغةِ والحكمةِ البالغة مثلُ هذا الإنسان

الذي له خلق اللّه السمواتِ والأرض وما بينهما أحقُّ بأنْ يُفكر فيه ويُحْمَدَ اللّهُ تعالى على ما أودَعَه من الحكمةِ العجيبةِ والنِّعمة السابغة .
وقلت : ولو كان بدلُ النظرِ فيهما النظرَ في التوحيد وفي نفي التشبيه وفي الوعد والوعيد وفي )
التعديل والتجوير وفي تصحيح الأخبار والتفضيلِ بين علم الطبائع والاختيار لكان أصوبَ .
دفاع عن المتكلمين والعجبُ أنَّك عَمَدْتَ إلى رجالٍ لا صناعةَ لهم ولا تجارةَ إلاَّ الدعاء إلى ما ذكرت والاحتجاجُ لما وصفت وإلاَّ وضْعُ الكتبِ فيه والولايةُ والعداوةُ فيه ولا لهمْ لَذّةٌ ولا هَمٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلا عليهِ وإليه فحين أَرادُوا أن يُقَسِّطُوا بينَ الجميعِ بالحِصص ويَعْدِلوا بينَ الكلِّ بإعطاء كلِّ شيء نصيبه حتَّى يقعَ التعديلُ شاملاً والتقسيطُ جامعاً ويظهرَ بذلك الخفيُّ من الحِكَم والمستورُ من التدبير اعترضْتَ بالتعنُّتِ والتعجُّب وسطّرت الكلامَ وأطلتَ الخطب من غير أنْ يكون صوَّبَ رأيَكَ أديبٌ وشايَعَك حكيم .
نسك طوائف من الناس وسأضرِب لك مثلاً قد استوجبتَ أغلظَ منه وتعرَّضتَ لأشدَّ منه ولكنَّا نستأنِي بك وننتَظِرُ أوْبَتَك وَجَدْنَا لجميعِ أهلِ النَّقص ولأهلِ كلِّ صِنفٍ منهم نُسْكاً يعتمِدون عليه في الجَمَال ويحتسِبون به في الطاعة وطلَب المثُوبة ويفزَعون إليه على قدْرِ فسادِ الطِّباع وضعفِ الأصل

واضطراب الفرْع مع خبْث المنشأ وقلَّةِ التثبُّتِ والتوقُّفِ ومع كثرة التقلُّب والإقدام مَعَ أوّلِ خاطر : فنُسك المَريبِ المرتابِ من المتكلِّمين أنْ يتحلَّى برمْي الناسِ بالرِّيبة ويتزيَّنَ بإضافةِ ما يجدُ في نفسه إلى خَصمه خوفاً من أن يكونَ قد فطِن له فهو يستُرُ ذلك الداءَ برمْيِ الناس به .
ونُسكُ الخارجيِّ الذي يتحلَّى به ويتزيَّا بجماله إظهارُ استعظامِ المعاصي ثم لا يَلتفِت إلى مجاوزَة المقدارِ وإلى ظُلْمِ العباد ولا يقِف على أنَّ اللّه تعالى لا يحبُّ أن يَظْلِمَ أظلمَ الظَّالمين وأنَّ في الحقِّ ما وسِعَ الجميع .
ونسْك الخُراسانيِّ أن يُحجَّ ويَنَام على قفاه ويعقد الرِّياسة ويتهيَّأ للشَّهادة ويبسُطَ لسانَه بالحِسْبة وقد قالوا : إذا نَسَك الشَّريفُ تواضَعَ وإذا نسَكَ الوضيعُ تكبَّر وتفسيرُه قريبٌ واضح ونُسْك البَنَوي والجنديِّ طرحُ الديوانِ والزِّرايةُ على السُّلطان ونسك دَهاقِين السَّوادِ تركُ شُرْب المطبوخ ونُسْك الخَصِيِّ لُزُوم طَرَسُوس وإظهارُ مجاهَدَةِ الروم ونُسك الرافضيِّ تركُ النبيذ ونسك البستانيِّ تركُ سَرِقة الثَّمر ونُسْك المغنِّي الصَّلاةُ في الجماعة وكثرةُ التسبيح والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
ونسك اليهودِيِّ التشدُّدُ في السَّبْت وإقامته . )
والصوفيُّ المظهِرُ النُّسكَ من المسلمين إذا كان فسلاً يبغض العمل

تطرف وأظهر تحريمَ المكاسب وعاد سائلاً وجعل مسألتَه وسيلة إلى تعظيم الناسِ له .
وإذا كان النَّصرانيُّ فسلاً نذْلاً مبغِضاً للعمَل وترهَّب ولَبِس الصُّوف لأنَّه واثقٌ أنَّه متى لبِس وتزيَّا بذلك الزِّيِّ وتحلَّى بذلك اللِّباس وأظهر تلك السِّيما أنَّه قد وجَبَ على أهل اليُسرِ والثَّروة منهم أن يعُولُوه ويَكْفُوه ثمَّ لا يرضى بأنْ رَبحَ الكِفايةَ باطلاً حتى استطال بالمرتبة .
فإذا رمى المتكلِّمُ المريبُ أهلَ البراءة ظنَّ أنَّه قد حوَّل ريبتَه إلى خَصمه وحوَّل براءةَ خصمِه إليه وإذا صار كلُّ واحدٍ من هذه الأصناف إلى ما ذكرنا فقد بلغ الأمنيَّة ووقَفَ على النِّهاية فاحذَر أن تكونَ منهم واعلَمْ أنَّكَ قد أشبهتهم في هذا الوجه وضارعتَهم في هذا المذهب .
مما قدَّمْنَا ذكرَه وبينَه وبينَ ما ذكرنا بعضُ الفرْق .
يقال : أجرأ من الليث وأجبَنُ من الصِّفْرِد وأسخَى مِنْ لافِظة وأصبرُ على الهُونِ من كَلب وأحذر من عَقْعَق وأَزهى مِن غراب وأصنَع من سُرفَة وأظلم من حيَّة وأغدَر من الذئب وأخبَث من ذئِبِ الحَمَز وأشدُّ عداوةً من عقرب وأروغُ من ثعلب وأحمقُ من حُبارى وأهدى من قطاة وأكذَبُ مِن فاختة وألأمُ من كلبٍ على جيفة

وأجمَعُ من ذَرّة وأضلُّ من حِمار أهلي وأعقُّ من ضَبٍّ وأبرُّ من هِرَّة وأنْفَر من الظليم وأضَلّ من وَرَل وأضلُّ من ضبٍّ وأظلم من الحيَّة .
فيعبِّرون عن هذه الأشياء بعبارةٍ كالعبارة عن الناس في مواضع الإحسان والإساءة حتَّى كأنَّهم من الملومِين والمشكورين ثم يعبِّرون في هذا البابِ الآخَر بدونِ هذا التعبير ويجعلونَ خبَرهم مقصوراً على ما في الخِلقة من الغريزة والقُوى فيقولون : أبصرُ من عُقاب وأسمعُ من فرَس وأطولُ ذماءً من ضبٍّ وأصحُّ من الظليم .
والثاني يشْبِه العبارةَ عن الحمد والذمِّ والأوَّل يُشبِه العبارةَ عن اللائمةِ والشكر وإنَّما قلنا ذلك لأنَّ كلّ مشكورٍ محمود وليس كلُّ محمودٍ مشكوراً وكلُّ ملومٍ مذموم وليس كلُّ مذمومٍ ملوماً وقد يحمدون البَلدَةَ ويذمُّون الأخرى وكذلك الطعام والشراب وليس ذلك على جهة اللّوم ولا على جهة الشكر لأنَّ الأجْر لا يقع إلاَّ على جهة التخيُّر والتكلُّف وإلاَّ على ما لا يُنال إلاّ بالاستطاعة والأوَّلُ إنَّما يُنالُ بالخِلقة وبمقدارٍ من المعرفة ولا يبلغ أنْ يسمَّى عقْلاً كما أنّه ليس كلُّ قُوَّةٍ تسمَّى استطاعة واللّه سبحانه وتعالى أعلم . )

( ما ذكر صاحبُ الديك من ذمِّ الكلابِ )

وتعدد أصناف معانيها
وتعداد أصناف معايبها ومثالبها مِن لؤمها وجبنها وضعْفها وشرَهها وغدْرِها وبَذَائِها وجهْلها وتسرُّعِها ونتْنها وقذَرها وما جاء في الآثار من النَّهْي عنِ اتخاذها وإمساكها ومن الأَمْر بقتْلِها وطردها ومن كثرةِ جناياتها وقلَّة رَدِّها ومِن ضرب المثَل بلؤمها ونذالتها وقبحِها وقبْحِ معاظلتِها وَمِن سماجة نُباحِها وكثرة أذاها وتقذُّر المسلمين من دنوِّها وأنّها تأكل لحومَ الناسِ وأنَّها كالخلْق المركّبِ والحيوان الملفّق : كالبغْل في الدوابِّ وكالراعِبيِّ في الحمام وأنّها لا سبعٌ ولا بهيمة ولا إنسيَّةٌ ولا جِنِّيَّة وأنَّها من الحِنِّ دون الجِنّ وأنّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ من المِسْخ وأنَّها تنبُش القبورَ وتأكُلُ الموتى وأنَّها يعتريها الكَلَبُ مِن أكل لحوم الناس .
فإذا حكيْنَا ذلكَ حكَينا قولَ من عدَّد محاسنَها وصنّف مناقبها وأخذْنا مِنْ ذكر أسمائِها وأنسابها وأعراقها وتفدية الرجال إيَّاها

واستهتارهم بها وذكر كسْبِها وحراستها ووفائها وإلْفها وجميعِ منافعها والمرافق التي فيها وما أُودِعت من المعرِفة الصحيحةِ والفِطَن العجيبة والحسِّ اللطيف والأدب المحمود وذلك سِوى صِدق الاسترواح وجَودَةِ الشمِّ وذِكْر حفظها ونَفَاذها واهتدائِها وإثباتِها لصُوَر أربابها وجيرانها وصبرِها ومعرفتِها بحُقوق الكرام وإهانتها اللئام وذكر صبْرها على الجفا واحتمالها للجوع وذكر ذِمامها وشدَّةِ مَنْعِها مَعَاقِدَ الذِّمَارِ منها وذكر يَقَظَتها وقِلَّة غفلتها وبُعْدِ أصواتها وكثرة نسْلها وسرعة قَبولها وإلقاحها وتصرُّفِ أرحامِها في ذلك مع اختلاف طبائِع ذكورها والذكور من غير جنسها وكثرةِ أعمامِها وأخوالها وتردُّدها في أصناف السِّباع وسلامتها من أعراق البهائم وذكر لَقَنها وحكايتها وجودة ثقافتِها ومَهْنِها وخِدمتها وجِدِّها ولِعْبها وجميعِ أمورها بالأشعارِ المشهورة والأحاديث المأثورة وبالكتُبِ المنَزَّلة والأمثالِ السائرة وعن تجرِبةِ النَّاس لها وفِراستِهم فيها وما عايَنوا منها وكيف قال أصحابُ الفأل فيها وبإخبار المتطيِّرين عنها وعن أسنانها ومنتهى أعمارها وعدد جرائها ومدَّةِ حملها وعن أسمائها وألقابِها وسِماتِها وشِياتها وعن دوائها وأدوائها

وسياستها وعن اللاتي لا تلقَنُ منها وعن أعراقِها والخارجيِّ منها وعن أصول مواليدها ومخارج بلدانها .
وذكر صاحبُ الديك ما يحفظ من أَكلِ الكلابِ للحُوم النَّاس فقال : قال الجَارود بن أبي سَبْرَة في ذلك : ) ( فَمنْ كانَ عنه بالمغيَّبِ سائلاً ** فقد صارَ في أرض الرُّصافةِ هالكا ) ( تظلُّ الكلابُ العادياتُ يَنُشْنَه ** إذا اجتَبْن مُسْوَدّاً مِنَ الليل حالكا ) وقال نُفَيع بن صفَّار المحاربي من ولد مُحارِب بن خُصَفة في حرب قيسٍ وتغلب : ( أفنَتْ بَني جُشَم بن بكرٍ حَرْبُنا ** حتى تَعادَلَ مَيلُ تَغلِب فاستَوَى ) ( أكَلَ الكلابُ أَنوفَهم وخُصَاهُمُ ** فلتَبْكِ تَغْلِبُ للأُنوفِ وللخُصى ) وقال أبو يعقوب الخُرْيمي وهو إسحاق بن حسَّان بن قوهي في قتلَى حربٍ ببغداد :

( وهَل رأيتَ الفتيانَ في باحة ** المعتْرَكِ مَعفورة مَنَاخِرُها ) ( كلّ فتًى مانعٍ حقِيقَتَه ** يشقَى به في الوَغَى مَساعِرُها ) ( باتَتْ عليه الكلابُ تنهَشُه ** مخضوبةً من دمٍ أظافِرُها ) وقال أبو الشمقمق وهو مَرْوان بن محمد مولى مرْوان بنِ محمَّد ويكنى أبا محمَّد : ( يُوسفُ الشاعرُ فَرْخ ** وجَدُوه بالأُبُلَّه ) ( حَلَقِيٌّ قَدْ تُلقِّي ** كامناً في جَوف جُلَّه ) ( خيَّطوها خشْيَةَ الكل ** بِ عليْهِ بمِسَلَّه ) وذُكر لي عن أبي بَكر الهُذَليِّ قال : كنَّا عندَ الحسن إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس فقال يا أبا سعيد : ما تقولُ في دم البراغيث يُصيب الثوب : أيصلَّى فيه فقال : يا عجباً ممَّن يلَغ في دماءِ المسلمين كأنَّه كلبٌ ثم يسألُ عن دم البراغيث فقام وكيعٌ يتخلَّج في مِشيتِه كتخلُّج المجنون فقال الحسن : إنَّ للّه في كلِّ عضوٍ منه نعمةً فيستعين بها على المعصية اللَّهمَّ لا تجعلْنا ممَّن يتقوَّى بنعمتِك على معصيتك .


ما أضيف من الحيوان إلى خبث الرائحة وقال صاحب الديك : أشياءُ مِنَ الحيوانِ تُضافُ إِلى نتْنِ الجُلُود وخُبث الرائِحة كريح أبْدان الحيَّات وكنتْن التُّيوس وصُنانِ عرَقها وكنتن جِلدِ الكلاب إذا أصابه مطر وضروبٌ من النَّتن في سوى ذلك نحنُ ذاكروها إن شاء اللّه تعالى .
وقال رَوح بن زنباع الجُذَاميّ في امرأته وضرب بالكلب المثل : ( رِيح الكرائمِ معروفٌ لَهُ أَرَجٌ ** وريحُها ريحُ كلْبٍ مَسَّهُ مَطَرُ ) قال : وكانت امرأةُ رَوح بن زِنباع أمَّ جعفر بنتَ النُّعمان بن بشير وكان عبدُ الملك زوَّجه إيّاها )
وقال : إنَّها جاريةٌ حسناء فاصبرْ على بَذَاءِ لسانِها .
وقال الآخر : ( وريحُ مَجْروبٍ وريح جُلَّه ** وريح كلبٍ في غَدَاةٍ طَلّهْ ) ( كأنَّ ريحَهُمُ من خُبْثِ طُعْمَتِهِمْ ** ريحُ الكلاب إذا ما بلّها المطر ) ومما ذُكر به الكلبُ في أكله العَذِرة قولُ الراجز : أَحرَصُ من كلبٍ على عِقْيِ صَبِي وقال مثل ذلك حَنْظَلة بن عَرَادة في ذكره لابنِه السَّرَنْدَى :

( ما للسَّرَنْدَى أطالَ اللّهُ أيْمَتَهُ ** خَلَّى أباه بقفر البِيد وادَّلجا ) ( مِجْعٌ خَبيثٌ يُعاطي الكَلْبَ طُعْمَتَه ** وإن رأى غفلةً من جارِهِ ولجا ) ( رَبَّيْته وهو مثلُ الفَرْخ أَصْرُبُهُ ** والكلبُ يلحَسُ من تحتِ استِه الرَّدَجا ) يقال للذي يخرُج من بطن الصبيِّ حين يخرُج من بطن أمه عِقي بكسر العين ويقال عقَى الصبي يعِقي عَقْياً فإذا شُدَّ بطنُه للسِّمن قيل قد صُرِبَ ليسمَن والعِقي وهو العَقْية الغيبة وإيَّاه عنَى ابنُ عمر حين قيل له : هلاَّ بايعت أخاك ابن الزُّبير فقال : إنَّ أخي وضَعَ يده في عَقْيَةٍ ودعا إلى البَيعة إنِّي لا أنزَع يَدِي مِن جماعةٍ وأضعُها في فُرقة .
وفي الحديث المرفوع : الراجعُ في هِبَتِه كالرَّاجِع في قَيئه وهذا المثلُ في الكلب .
ويقالُ : أبخَلُ من كلبٍ على جِيفة وقال بعضُهم في الكلب : الجِيفة أحبُّ إليه من اللّحم الغريض ويأكل العَذِرة ويرجِع في قيئه ويشغَر ببَوله فيصير في جوفِ فيه وأنفه ويحذفه تِلقاءَ خَيشومه .


وقال صاحب الكلب : إنْ كنتُم إنَّما تستسقطون الكلب وتستسفلونه بهذا وأشباهه فالجيفةُ أنتنُ من العذرة والعَذرة شرٌ من القيء والجيفة أحبُّ إلى أشراف السباع ورؤسائها من اللحم العبيط الغريض الغضِّ .
مأكل السبع والأسَد سَيِّد السباع وهو يأكل الجِيفةَ ولا يعرِض لشرائع الوحش وافتراس البهائم ولا للسابلة من الناس ما وَجَدَ في فريسته فَضْلة ويبدأ بعدَشُرْب الدَّم فيبقُر بطنَه ويأكل ما فيه من الغثيثة والثفل والحَشْوة والزِّبل وهو يرجع في قيئه وعنه ورِث السِّنَّور ذلك .
ما قيل في السبع من الأمثال )
وهو المضروبُ به المثلُ في النَّجدة والبسالة وفي شِدَّة الإقدام والصَّولة فيقال : ما هو إلاّ الأسد على براثنه وهو أشدُّ من الأسد وهو أجرَأ من الليث العادي وفلان أسدُ البلاد وهو الأسد الأسود وقيل لحمزة بن عبد المطَّلب أسدُ اللّه فكفَاك من نُبْل الأسد أنَّه اشتُقَّ لحمزة بن عبد المطَّلب من اسمه ويقال للملك أَصْيَد إذا أرادوا

أن يصِفوه بالكِبْر وبقلَّةِ الالتفات وبأنَّ أنفَه فيه أسلوب ولأنَّ الأسد يَلتفت معاً لأنَّ عنقه من عظم واحد وقال حاتم : ( هَلاَّ إذا مَطَرَ السماءُ عليكُمُ ** ورفعتَ رأسَك مثلَ رأسِ الأصْيَدِ ) ( يَذُودونَ كلباً بالرِّماحِ وطَيِّئاً ** وتَغلِبَ والصِّيدَ النواظرِ من بَكر ) وقال الآخر : ( وكم لي بها من أبٍ أصْيَدٍ ** نَمَاه أبٌ ما جدٌ أصيَدُ ) وبعدُ فإِنّ الذي يأكل الجِيفةَ لم يبعُد من طبعِ كثيرٍ من الناس لأنَّ من الناس من يشتهي اللحمَ الغابَّ ومنهم من يشتهي النَّمكْسُود وَلَيْسَ بَيْنَ النَّمَكْسُودِ وبين المصلوب اليابس كبيرُ فرق وإنَّما يذبحون الدِّيَكَةَ والْبَطَّ والدَّجاج والدُّرّاج من أوََّلِ الليل ليسترخيَ لحمُها وذلك أول التَّجييف .
فالأسد أجمعُ لهذه الخصال من الكلب فهلاَّ ذكرتمْ بذلك الأسد وهو أنبَهُ ذِكراً وأبعدُ صيتاً .
وأمَّا ما ذكرتم من نَتْن الجِلد ومن استنشاق البول فإنَّ للتيسِ في ذلك ما ليس للكلب وقد شاركه في الحذْفِ ببوله تِلقاءَ أنفه وباينَه بشدَّةِ الصُّنان فإنَّ الأمثالَ لَه أكثرُ ذِكراً وفي العنز أيضاً عيوب .


وفي توجيه التيس ببوله إلى حاقِّ خَيشومه قال الشاعر لبعض من يهجُوه : ( دُعِيتَ يَزِيدَ كي تَزِيدَ فلم تَزِدْ ** فعادَ لك المُسْمِي فأسْمَاك بالقحر ) ( وما القَحْرُ إلاَّ التيسُ يَعْتِك بولُه ** عَلَيْهِ فيمذي في لَبَانٍ وفي نحر ) ( أَعثمانُ بنُ حَيَّانَ بن لؤم ** عَتُودٌ في مفارِقِه يَبولُ ) ( ولو أَنِّي أشافِهُه لشالت ** نَعامَتُه ويفهم ما يقول ) وبعد : فما يُعلمَ من صنيع العنز في لبنها وفي الارتضاع من خلفها إلاَّ أقبح .
وقال ابن أحْمَرَ الباهليُّ في ذلك : ( إنّا وجَدْنا بَني سَهْمٍ وجاملهم ** كالعنز تعطِفُ روْقَيها وتَرْتَضِعُ )
وقلتم : هَجَا ابْنُ غادية السلمي بعضَ الكِرام حينَ عُزِل عن يَنْبُع فقال لمن ظنَّ أنَّه إنَّما عُزِل لمكانه : ( رَكِبوك مُرتَحَلاً فظهرُك منهمُ ** دَبِرُ الحراقفِ والفَقَارِ مُوقَّعُ ) ( كالكلبِ يَتْبَعُ خانِقِيهِ وينتحي ** نحوَ الذين بهم يَعِزُّ ويمنعُ )

وقال ابن هَرْمة الفِهريّ : ( فما عادَت لذِي يمنٍ رؤوساً ** ولا ضَرَّت بفُرْقتها نِزارَا ) ( كعَنْز السَّوْءِ تَنْطَحَ مَنْ خَلاهَا ** وتَرْأَمُ مَنْ يُحِدُّ لها الشِّفارَا ) وما نعلم الرُّجوعَ في الجِرَّة وإعادةَ الفرثِ إلى الفم ليُستقصَى مضغُه إلاَّ أسمجَ وأقذَرَ من الرُّجوعِ في القَيْءِ وقد اختار اللّه عَزّ وجلَّ تلك الطبيعةَ للأنعام وجعل الناسَ ليسوا لشيءٍ من اللُّحمان أشدَّ أكلاً ولا أشدَّ عَجباً بِهِ منكم ولا أصلحَ لأبدانهم ولا أغْذَى لهم من لُحُوم هذه الأنعام أفتائِهَا ومَسَانِّهَا .
وقال صاحبُ الديك : ما يشبه عَوْدُ الماشيةِ في الجِرَّة ورجوعُها في الفرث تطحَنُه وتُسيغه الرجُوعَ في القيء وقد زعمتم أنَّ جِرَّةَ البعيرِ أنتنُ مِن قَيءِ الكلاب لطول غُبُوبها في الجوف وانقلابها إلى طباع الزِّبل وأنَّها أنتن من الثلط وإنَّما مثل الجِرَّة مثل الرِّيق الذي ذكره ابنُ أحمر فقال : ( هذا الثناءُ وأجْدِرْ أن أُصاحبه ** وقَدْ يدوِّمُ رِيقَ الطَّامِعِ الأَمَلُ ) فإنَّما مَثَلُ القَيءِ مَثَلُ العَذِرَة لأنَّ الرِّيق الذي زعمتم ما دامَ في فم

صاحبه ألذُّ من السلوى وأمتعُ من النسيم وأحسنُ موقعاً من الماء البارد من العطاش المسهوم والريقُ كذلك ما لم يزايِل موضعَه ومتى زايل فَمَ صاحبِه إلى بعض جِلْده اشتدّ نتْنه وعادَ في سبيل القيء .
فالرِّيق والجِرَّةُ في سبيلٍ واحد كما أنَّ القيء والعَذِرة في سبيل واحد ولو أن الكلبَ قَلَسَ حتَّى يمتلئ منه فمه ثم رجع فيه من غير مباينةٍ له لكان في ذلك أحقَّ بالنظافة من الأنعام في جِرَّتها وحشيِّها وأهليِّها وإنَّ الأرانِبَ لَتَحِيضُ حيضاً نَتِناً فما عاف لحمَهَا أصحابُ التَّقَذُّرِ لمشاركَتِها الأنعامَ في الجِرَّة .
فقال صاحب الكلب : أمَّا ما عبتموه من أكْلِ العَذِرة فإنَّ ذلك عامٌّ في الماشيةِ المتخيَّرِ لحمُها على اللُّحْمان لأنَّ الإبل والشياه كلّها جَلاّلة وهُنَّ على يابسِ ما يخرُج من الناسِ أحرَصُ وعلى )
أنّها إذَا تعوَّدت أكل ما قد جفَّ ظاهرُه وداخلُه رطبٌ رَجَع أمرُها إلى ما عليه الكلب ثم الدَّجاج لا تَرْضَى بالعَذِرة وبما يَبْقَى من الحبوبِ التي لم يأتِ عليها الاستمراء والهضْم حتَّى تلتمِس الديدانَ التي فيها فتجمع نوعين من العذرة لأنها إذا أكلت ديدان العَذِرَةِ فقد أتَتْ على النَّوْعين جميعاً ولذلك قال عبد الرحمن بن الحَكَم في هجائِه الأنصار بخبيث الطعام

فضرب المثلَ بالدَّجاج من بين جميع الحيوان وترَكَ ذِكر الكلاب وهي له مُعْرِضة فقال : ( وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُرَاها ** لخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الدَّجَاجِ ) ولو قال : ( وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُرَاها ** لِخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الْكِلابِ ) لكان الشِّعْر صحيحاً مُرضياً .
وعلى أنَّ الكلابَ متى شبِعت لم تعرض للعَذِرة والأنعامُ الجلاَّلةُ وكذلك الحافِر قد جعلت ذلك كالحَمْضِ إذا كانت لها خَلَّةٌ فهي مَرَّة تتغذَّى به ومرة تتحمَّض وقد جاء في لحُوم الجَلاَّلة ما جاء .
وملوكُنا وأهلُ العيشِ مِنَّا لا يرغبون في شيءٍ من اللُّحمان رغبَتَهم في الدَّجاج وهم يقدِّمونها على البطِّ والنواهض والقَبَجِ والدُّرَّاج نعم وعلى الجِداء والأَعْنُقِ الحُمْرِ من بَنَاتِ الصَّفَايا وهم يعرفُون طبعها وسوء قُوتِها وهم مع ذلك يأكلون الرَّواعِيَ كما يأكُلون المسمَّنات .
الشبوط أجود السمك وأطيبُ ما في الأنهار من السمك وأحسنُها قُدوداً وخَرْطاً وأسبطُها سُبُوطاً وأرفعُها ثمناً وأكثرُها تصرُّفاً في المالح والطريّ وفي

القَرِيسِ والنَّشوطِ الشَّبُّوطُ وليس في الماء سمكة رفيعةُ الذكر ولا ذاتَ خمول إلاَّ وهي أحرص على أكْل العَذِرة منها وإنّها في ذلك لأَشدُّ طلباً لها من الخِنزير في البرِّ والجِرِّيِّ في البحر .
لحم الخنزير وقد عَلم الناسُ كيفَ استطابةُ أكلِ لحُومِ الخنازير وأكلُ الخنازيرِ لها وكيف كانت الأَكاسرة والقياصرةُ يقدِّمونها ويفضِّلونها ولولا التعبُّدُ لجَرَى عندنا مَجْرَاه عندَ غيرِنا .
وقد علم النَّاسُ كيف استطابةُ أكل الجِرِّيِّ لأذنابها .
ما قيل في الجري )
وفي الجِرّيِّ قال أبو كَلْدة : هو أُدْم العُميان وجيِّدٌ في الكَوْشَان ودواءٌ للكليتين وصالحٌ لوجَع الظهر وعَجْبِ الذَّنب وخِلافٌ على اليهود وغيظٌ على الروافض وفي أكله إحياءٌ لبعض السُّنن وإماتةُ بعضِ البِدَع ولم يُفْلَجْ عليهِ مُكثِرٌ منه قطُّ وهو محنةٌ بين المبتدِع

والسُّنِّي هلك فيه فِئَتَانِ مذْ كانت الدنيا : محلِّلٌ ومحرِّم .
وقال أبو إسحاق : هو قبيح المنظر عاري الجِلدِ ناقص الدّماغِ يلتهم العَذِرة ويأكل الجرذان صحاحاً والفأرَ وزَهِمٌ لا يُستَطاعُ أكلُه إلاّ محسِيّاً ولا يتصرَّفُ تصرُّفَ السمك وقد وقع عليه اسم المِسْخ لا يَطِيب مملوحاً ولا ممقوراً ولا يؤكل كباباً ولا يُختارُ مطبوخاً ويُرمَى كلُّه إلاَّ ذنَبه .
والأصناف التي تَعرض للعَذِرة كثيرة وقد ذكرنا الجلاَّلاَتِ من الأنعامِ والجِرِّيِّ والشَّبُّوطِ من السمك ويعرِض لها من الطير الدَّجاجُ والرَّخَمُ والهَداهِد .
الأنوق وما سمي بهذا الاسم وقد بلغ من شَهوة الرَّخَمَة لذلك أنْ سمَّوها الأنوق حتى سمَّوا كلَّ شيءٍ من الحيوان يعرِض للعذِرة بأنوق وهو قول الشاعر : ( حتَّى إذَا أضحى تَدَرَّى واكتحل ** لجارتَيه ثم ولَّى فنثلْ )

رِزقَ الأَنُوقَينِ القَرَنْبَى والجُعَل ولشدَّة طلب الجعل لذلك قال الشاعر : ( يَبِيت في مجلس الأقوام يَربَؤُهم ** كَأَنَّه شُرَطيٌّ بَاتَ في حَرَسِ ) وكذلك قال الآخر : ( إذا أتَوه بطعامٍ وأكَلْ ** بَاتَ يعشِّي وَحْدَه ألفَيْ جُعَل ) هذا البيتُ يدلُّ على عِظَم مقدار النَّجْو فهجاه بذلك وعلى أنَّ الجُعَل يقتات البَراز .
وفي مثل ذلك يقول ابن عَبْدَل إن كان قاله وإنما قلت هذا لأنَّ الشعر يَرتفِع عنه والشعر قوله : ( نِعْم جارُ الخنزيرةِ المرضعُ الغر ** ثى إذا ما غدا أبو كلثومِ ) ( ثاوياً قد أصابَ عند صديقٍ ** من ثَريدٍ ملبَّقٍ مأدُوم ) ( ثم أنحى بجَعره حاجبَ الشم ** سِ فألقَى كالمِعْلَفِ المَهْدُوم ) ( بضَريطٍ ترى الخنازير منه ** عامداتٍ لتلِّهِ المركومِ ) وقال الراجز في مثل ذلك : ( قد دقَّهُ ثَارِدُهُ وصَوْمَعَا ** ثُمَّتَ أَلبَانَ البَخاتِي جَعْجَعَا )

( جَعْجَعَة العَوْدِ ابْتَغَى أنْ يَنْجَعا ** ثُمَّتَ خوّى بارِكاً واسْتَرْجَعا ) وفي طلب الجُعَل للزِّبْلِ قال الراجز وهو أبو الغُصْن الأسَدي : ( ماذا تلاَقي طَلَحَاتُ الحرجه ** من كل ذات بُخْنقٍ غَمَلَّجه ) ( ظَلّ لها بَيْنَ الحلال أَرَجَه ** مِنَ الضُّرَاطِ والفُسَاءِ السمجه ) ( فجئتُها قاعِدَةً منشجه ** تعطيه عنها جعَلاً مُدحرجَه ) وقال يحيى الأغرّ : تقول العرب سَدكَ به جُعَله وقال الشاعر : ( إذا أتيتُ سُليمَى شَبَّ لي جُعَل ** إنَّ الشقيَّ الذي يُغْرَى به الجُعَلُ ) يضرب هذا المثلُ للرَّجل إذا لَصِقَ به من يكره وإذا كان لا يزال يراه وهو يهرُب منه قال يحيى : وكان أصلُه ملازمةَ الجُعَل لمن بات في الصحراء فكلَّما قام لحاجةٍ تبِعه لأنَّه عنده أنَّه يريد الغائط .
القرنبى وفي القَرَنْبَى يقول ابنُ مقبل :

( ولا أطرُق الجَاراتِ بِاللَّيل قابعاً ** قبُوعَ القَرَنْبَى أخْلَفَتْه مجاعره ) والقبوع : الاجتماع والتقبض والقرَنْبى : دويْبَّةٌ فوق الخُنْفَسَاء ودونَ الجعل وهو والجعل يتْبعان الرَّجلَ إلى الغائط .
ومن الطَّير الذي يُضارِع الرَّخمة في ذلك الهدهدُ منتنُ البَدَن وإن لم تجدْه ملطخاً بشيءٍ من العَذِرة لأنَّهُ يبني بيته ويصنع أُفحوصَه من الزِّبل وليس اقتياتُه منه إلاَّ على قدْر رغبتِه وحاجته في ألاّ يتَّخذ بيتاً ولا أُفحوصاً إلاّ منه فخامَرَه ذلك النَّتنُ فَعَلِق ببدنه وجرى في أعراق أبويه إذ كان هذا الصنيع عامّاً في جنسه .
وتعتري هذه الشَّهْوةُ الذِّبان حتَّى إنَّها لو رأتْ عسلاً وقذَراً لكانت إلى القذَر أسرعَ وقال الشاعر : ( قَفاً خَلْفَ وَجْهٍ قَدْ أُطِيلَ كأنَّه ** قفا مالِكٍ يُقْصِي الهُمومَ عَلَى بَثْقِ ) ( وأعظمُ زهواً من ذُبابٍ على خِراً ** وأبخَلُ من كَلْبٍ عَقُور على عَرْقِ ) ويزعمون أَنَّ الزُّنبورَ لهِجٌ بصيد الذِّبان ولا يكاد يصيده إلاَّ وهو

ساقطٌ على عذرة لفَرْط شَهْوتِه لها ولاستفراغها فيعرِف الزُّنبور ذلك فيجعل غَفلتَه فُرصة ونُهْزة قالوا : وإنَّما قلنا ذلك لأنّا لم نجِدْه يرومُ صيدَه وهو ساقِطٌ على ثمرةٍ فما دونها في الحلاوة .
شعر في الهجاء وقال أبو الشَّمقمق في ذلك : ( الطّريقَ الطَّرِيقَ جاءكُم الأح ** مقُ رأس الأَنتانِ والقَذِره ) يمشي رُويداً يريد حَلْقتكم كمشي خِنزيرةٍ إلى عَذِره وقال حَمَّادُ عَجْرَد في بشَّارِ بْن بُرْدٍ العُقَيليّ : ( ما صَوَّرَ اللّه شِبْهاً لَه ** مِنْ كلِّ مَنْ مِنْ خَلْقِهِ صَوَّرا ) ( أَشَبَهَ بِالخِنزيرِ وجهاً ولا ** بالكلب أعراقاً ولا مَكْسِرا ) ( ولا رأينَا أحداً مثله ** أنجَسَ أو أطْفَسَ أو أقذرا ) ( لو طُلِيتْ جِلدتُه عنبراً لنتَّنت ** جِلْدتُه العَنْبرا ) ( أو طُلِيت مِسكاً ذَكِيّاً إذَنْ ** تَحَوَّلَ المِسْكُ عليه خِرَا ) وقال أبو نُواس في هِجَاء جَعْفرِ بْنِ يحيى بن خالد البرمَكيّ : ( إذا ما مدحتُ فتًى من خِرَا ** أَليس جَزَائي أن اعْطَى الخِرَا ) وقال أعرابيٌّ يهجو رجلاً يقال له جُلمود بن أوس كان مُنتنَ العرق :

( إنِّي إذا ما عارضي تألَّقا ** ورَعَدت حافته وَبرَقا ) ( أهلكتُ جُلمودَ بنَ أَوس غَرَقا ** كانَ لحمقاءَ فصارَ أَحمَقَا ) أخبث شيءٍ عَرَقاً وخِرَقَا وقال حَمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار : ( بَلْ لَعَمْري لأَنْتَ شَرٌّ من الكل ** بِ وأولَى مِنْه بكلِّ هَوَانِ ) ( ولَرِيحُ الخِنْزِيرِ أطيَبُ مِنْ رِي ** حِكَ يا ابْنَ الطَّيان ذي التُّبَّانِ ) وقال بعض الشعراء في عبد اللّه بن عُمير : ( غَزَا ابنُ عُميرٍ غَزْوةً تركَتْ له ** ثَناءَ كَرِيحِ الجَوْرَبِ المتخرقِ )
وقال حمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار : ( قُلْ لشَقِيِّ الجَدِّ في رَمْسِه ** ومَن يفِرُّ الناسُ من رِجْسِه ) ( لِلقِرِدِ بَشَّارِ بْنِ بُردٍ ولا ** تَحْفِل برغم القرد أو تَعسه ) ( للقِرْدِ باللَّيْثِ اغترارٌ به ** فَمَا الَّذِي أدناك من مَسِّهِ ) ( يا ابنَ استِها فاصبِرْ على ضَغْمةٍ ** بنَابِهِ يا قِردُ أَوْ ضِرْسِهِ ) ( نهارُه أخبثُ من ليلِه ** ويومُه أخبثُ من أمسِهِ )

( وليس بالمُقْلِعِ عن غَيِّه ** حتى يُدلَّى القِردُ في رَمْسِه ) ( ما خَلقَ اللّه شبيهاً له ** من جِنِّهِ طُرّاً ومن إنْسِهِ ) ( واللّهِ ما الخِنزيرُ في نَتْنِه ** من رُبْعه بالعُشْر أو خمْسِهِ ) ( بل ريحُه أطيبُ من ريحهِ ** ومسُّه أليَنُ مِن مسِّهِ ) ( وعودُه أكرمُ من عُودِه ** وجِنسُه أكرمُ من جِنسهِ ) وأنا حفظك اللّه تعالى أستظرِف وضعَه الخنزيرَ بهذا المكان وفي هذا الموضع حين يقول : وعودُه أكْرَمُ من عُودِه .
وأَيُّ عودٍ للخنزير قَبَحه اللّه تعالى وقبح من يشتهي أكله وقال حمَّادُ عجرد في بشَّارِ بن بُرد : ( إنَّ ابنَ بُردٍ رأى رُؤيَا فأوَّلَهَا ** بلا مَشُورةِ إنسانٍ ولا أَثَرِ ) ( رأى العَمَى نِعمةً للّه سابغة ** عليه إذ كانَ مكفوفاً عن النَّظرِ ) ( وقال : لو لَمْ أكُنْ أعمَى لكنتُ كما ** قد كان بُردٌ أَبِي في الضِّيقِ والعُسُرِ ) ( أكدُّ نفسيَ بالتطيين مجتهِداً ** إمَّا أجيراً وإمَّا غيرَ مُؤتَجَرِ ) ( أو كنتُ إنْ أنا لم أقنَعْ بفعلِ أبي ** قَصَّابَ شاءٍ شَقِيَّ الجَدِّ أو بَقَرِ ) ( كإخوتي دائباً أشقَى شقاءَهُمُ ** في الحرِّ والبردِ والإدلاج وَ الْبُكَرِ ) ( فقد كفاني العَمَى من كلِّ مَكْسَبَةٍ ** والرِّزقُ يأتِي بأسبابٍ من القَدَرِ )

( فصرتُ ذا نَشَبٍ من غير ما طلب ** إلاَّ بمَسْألتي إذ كنت في صِغَرِي ) ( أضمُّ شيئاً إلى شيءٍ فأذخره ** ممَّا أجمِّع من تمر ومن كِسَرِ ) ( مَن كان يعرفُني لو لم أكن زَمِناً ** أو كان يبذُل لي شيئاً سِوى الحَجَر ) ( لقد فطِنتَ إلى شيءٍ تعيش به ** يا ابنَ الخبيثة قد أدقَقْتَ في النظر ) ( يا ابنَ التي نَشَزَت عن شيخ صِبْيَتها ** لأَير ثوبانَ ذي الهامات والعُجَرِ ) ( أما يكفُّكَ عن شَتْمي ومنقَصَتي ** ما في حِرامِّك من نَتْن ومن دَفَرِ ) ( نفَتْكَ عنها عُقَيلٌ وهي صادقة ** فسل أسيداً وسل عنها أبا زُفَرِ ) ( يا عبدَ أمِّ الظباء المستطبِّ بها ** من اللَّوَى لستَ مولى الغُرِّ من مُضَر ) ( بل أنتَ كالكلب ذُلاًّ أو أذلُّ وفي ** نَذَالةِ النفس كالخنزيرِ واليَعَر ) ( وأنتَ كالقردِ في تشويه منظرِه ** بل صورةُ القرد أبهى منك في الصُّوَرِ ) ووصف ابن كريمة حشٌ ا له كان هو وأصحابه يتأذون بريحه فقال : ( ولي كَنِيفٌ بِحَمْدِ اللّه يطرقني ** أرواح وادي خبال غير فَتَّار )

( له بدائعُ نَتْن ليس يَعرِفها ** من البَرِيَّةِ إلاَّ خَازِن النَّارِ ) ( إذا أتانى دَخِيلٌ زَادَنِي بِدَعاً ** كَأَنَّهُ لَهِجٌ عَمْداً بإضْرَارِي ) ( قد اجتوانِي له الخُلاَّنُ كلُّهُم ** وباعَ مَسْكَنَه مِن قُرْبه جاري ) ( فمن أرادَ من البِرْسَامِ أقتَلَهُ ** أو الصُّدَاعِ فمرْه يدخُلَنْ داري ) ( استكثَفَ النَّتنُ في أنفي لكثرتِه ** فليس يوجِدُنيه غيرُ إضماري ) وقيل للمحلول : ويلكَ ما حفظتَ بيتَ شعرٍ قط فقال : بيتاً واحداً اشتهيته فحفظتُه فقيل له : فهاته قال : أمَا إنِّي لا أحفَظُ إلاَّ بيتاً واحداً قيل : فكيف رزق منك هذا البيت فَأَنْشِدْهُ فَأَنشَدَهم : كأنَّما نَكْهَتُهَا مِدَّةٌ تَسِيلُ من مَخْطَةِ مَجْذُوم وزعم أصحابنا أنّ رجُلاً من بني سعد وكان أنتنَ الناس إبطاً بلَغه أن ناساً من عبد القيس يتحدَّوْنَه برجلٍ منهم فمضى إليهم شدّاً فوافاهم وقد أَزْبَدَ إبطاه وهو يقول : ( أقبلتُ مِنْ جَلْهَةِ ناعتينا ** بِذِي حُطاطٍ يُعطِسُ المخنُونا )

( يَزْوِي له من نتْنِهِ الجَبينا ** حتَّى تَرَى لوجهِه غُضُونا ) نُبِّئْتَ عبدَ القيس يَأبِطونا قال : ومتَح أعرابيٌّ على بئرٍ وهو يقول : ( يا رِيَّها إذا بَدا صُنَانِي ** كأنَّنِي جاني عُبَيْثُرَانِ ) وقال آخر : ) ( كَأنَّ إبطيَّ وقد طالَ المدى ** نَفْحَةُ خُرْءٍ مِنْ كَوَاميخ القرى ) ويقال إنّهُ ليس في الأرض رائِحةٌ أنتنُ ولا أشَدُّ على النفس من بَخَر فمٍ أو نَتْنِ حِرٍ ولا في وقال صاحب الكلب : فما نرى النَّاسَ يَعافُون تسميدَ بُقولِهم قبل نُجومِها وتفتُّقِ بزورها ولا بعد انتشارِ ورقها وظهورِ موضع اللُّبِّ منها حتَّى ربَّمَا ذَرُّوا عليها السَّمادَ ذَرّاً ثُمَّ يُرْسَل عليها الماءُ حتى يَشْرَبَ اللُّبُّ قُوى العذرة بل مَن لهمْ بالعَذِرة وعلى أنَّهُم ما يصيبونها إلاّ مغشوشةً مُفْسَدَة وكذلك صنيعُهم في الريحان فأمَّا النَّخْلُ فلو استطاعوا أن يَطْلوا بها الأجذاعَ طلياً لفعلوا وإنَّهم لَيُوقدون بها

الحَمَّاماتِ وأَتاتينَ المِلاَل وتنانير الخبز ومن أكرم سمادهم الأبعارُ كلُّهَا والأخثاءُ إذا جفَّت وما بينَ الثَّلط جَافاً والخثاء يابساً وبين العَذِرة جافَّةً ويابسةً فرق وعلى أنَّهم يعالِجون بالعَذِرة وبخرْءِ الكلب من الذُّبحة والخانُوق في أقصى مواضِع التقزُّز وهو أقصى الحلق ومواضع اللهاة ويضعونَها على مواضع الشَّوكة ويعالجون بها عُيون الدَّوابّ .
أقولٌ لمسبِّحٍ الكناس وقال مسبّح الكناس : إنَّمَا اشتُقَّ الخير من الخُرْءِ والخرء في النوم خير وسَلْحَةٌ مُدرِكَةٌ ألذُّ مِن كَوْمٍ العَروس ليلةَ العُرس ولقد دخلتُ على بَعْضِ الملوك لبعض الأسباب وإذا به قُعاصٌ وزكام وثِقَلُ رأس وإذا ذلك قد طاولَه وقد كان بلغني أنَّه كان هجَر الجلوس على المقعدة وإتيانَ الخلاء فأمرتُه بالعَود إلى عادته فما مَرَّت به أيامٌ حتى ذهب ذلك عنه .
وزعم أنَّ الدنيا مُنتِنة الحِيطان والتُّرْبةِ والأنهار والأودية إلاّ أنَّ النَّاسَ قد غمرهم ذلك النتْن المحيط بهم وقد مَحَقَ حِسَّهم له طولُ مُكثِه في خياشيمهم قال : فمن ارتابَ بخبري فليقفْ في الرَّدِّ إلى أن يمتحنَ ذلك في أوَّل ما يخرجُ إلى الدنيا عَنْ بيتٍ مطيَّب وليتشَمَّمْ تشمُّمَ

المتشبِّث عَلَى أنّ البقاعَ تتفاوت في النتن فهذا قولُ مسبّح الكنَّاس .

عصبية سلمويه وابن ماسويه
وزعم لي سَلْمَوَيه وابن ماسَوَيه مُتطبِّبا الخلفاء أنَّه ليس على الأرض جِيفةٌ أنتنُ نَتْناً ولا أَثْقَبُ ثُقوباً مِن جيفةِ بعير فظننتُ أنَّ الذي وهَّمهما ذلك عَصَبِيَّتُهُمَا عليه وبغضُهما لأربابه ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله هو المذكورُ في الكتب براكب البعير ويقال إن الحجَّاج قال لهم : أيُّ الجيَفِ أنتن فقيل : جِيَف الكلاب فامتحِنَتْ فقيل له : أنتن منها جيف السنانير وأنتن جيفها الذكورُ منها فصلب ابن الزُّبير بين جِيفَتَيْ سنَّورين ذكرين . )
أطيب الأشياء رائحة وأنتنها وأنا أقول في النتن والطِّيب شيئاً لعلَّك إن تفقّدتَه أن توافقَني عليه وترضى قولي أمَّا النتن فإنِّي لم أشمَّ شيئاً أنتنَ من ريحِ حُشٍّ مقيَّر يبول فيه الخِصيان ولا يُصَبُّ عليه الماء فإِنّ لأبوالهم المترادفة المتراكبة ولريح القار وريح هواءِ الحشِّ وما ينفصل إليه من ريح

البالوعة جِهةً من النَّتْن ومذهباً في المكروه ليس بينه وبين الأبدان عمل وإنَّما يقصِد إلى عين الرُّوح وصميمِ القلب ولا سيَّما إذا كان الخلاءُ غيرَ مكشوف وكان مغموماً غيرَ مفتوح فأمَّا الطِّيب فإني لم أشْمَمْ رائِحة قطُّ أحيا للنفس ولا أعصَمَ للرُّوح ولا أفتَقَ ولا أغنج ولا أطيب خِمرة من ريحِ عَروس إذا أُحكِمت تلك الأخلاط وكان عَرْف بَدَنها ورأسِهَا وشعرها سليماً وإن كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّك ستجد ريحاً تعلَمُ أنّهُ ليس فوقَهَا إلاّ ريحُ الجنة .

ما قيل في الظربان
ومما قالوا في النَّتْن وفي ريح جُحْرِ الظَّرِبان خاصَّة قول الحكم بن عَبْدَل : ( ألقيتَ نفسَكَ في عَرُوضِ مَشَقَّةٍ ** ولحَصْدُ أنفِكَ بالمنَاجِل أَهْوَنُ ) ( أنت امرؤٌ في أرضِ أمِّكَ فُلفلٌ ** جَمٌّ وفُلفُلنا هُناك الدِّنْدِنُ ) ( فبحقِّ أمّك وهي منك حقيقةٌ ** بالبِرِّ واللَّطَفَ الذي لا يُخْزَنُ ) ( لا تُدْنِ فاكَ من الأَميرِ ونحِّه ** حتَّى يُداوِيَ ما بأنْفِكَ أَهْرَنُ ) ( إن كان للظّرِبانِ جُحْرٌ مُنتِنٌ ** فلَجُحْر أَنفك يا محمَّدُ أنتَنُ )

وقال الربيع بن أبي الحقَيق وذكر الظّرِبان حينَ رمى قوماً بأنّهم يَفسُون في مجالسهم لأنّ الظَّرِبان أنتنُ خلْقِ اللّه تعالى فَسْوةً وقد عَرَف الظّرِبانُ ذلك فجعَلَه من أشَدِّ سِلاَحِهِ كما عرَفَتِ الحُبارَي مَا في سُلاَحِها من الآلة إذا قرب الصقر منها والظّربانُ يدخل على الضبِّ جُحرَه وفيه حُسوله أو بيضُه فيأتِي أضيقَ موضعِ في الجُحر فيسدُّه بيديه ويحوِّل استَه فلا يفسو ثلاثَ فَسَوَاتٍ حتى يُدَارَ بالضبِّ فيخِرَّ سكرانَ مفشِيّاً عليه فيأكله ثم يقيم في جُحره حتَّى يأتِيَ على آخِر حُسوله .
وتقول العرب : إنّه ربَّمَا دخَل في خِلال الهَجْمة فيفسو فلا تتِمُّ له ثلاثُ فَسَواتٍ حتى تتفرَّق الإبل عن المبْرَك تتركه وفيه قِرْدان فلا يردُّها الراعي إلاّ بالجَهْدِ الشديد .
فقال الربيع وهجاهم أيضاً بريح التُّيوس : ) ( قَلِيلٌ غَنَاؤُهُمُ فِي الهِياجِ ** إذَا مَا تَنَادَوْا لأمرٍ شديدِ ) ( وأنتمْ كِلاَبٌ لَدَى دُورِكم ** تهرُّ هريرَ العَقور الرَّصُودِ ) ( وأنتم ظَرَابيُّ إذ تجلسونَ ** وما إنْ لنا فيكمُ من نَدِيدِ ) ( وأنتم تيوسٌ وقد تُعْرَفونَ ** بريح التُّيوسِ وقُبْح الخدودِ ) قال : ويقال : أفسى من الظّرِبان ويسمّى مفرِّقَ النَّعَمِ يريدون من نتْن ريحِ فُسَائه ويقال في المثل إذا وقعَ بين الرجُلين

شرٌّ فتباينَا وتقاطَعَا : فسَا بَيْنَهُمَا ظَرِبَان ويقال : أنتَن مِنْ ظربان لأنَّ ( ولو كنتُ في نارِ الجحيم لأصبَحَتْ ** ظَرَابِيُّ من حِمَّانَ عنِّي تثيرها ) وكان أبو عُبيدة يُسمِّي الحِمَّانيَّ صاحِبَ الأصَمِّ : الظَّرِبان يريد هذا المعنى كما يسمى كل حِمَّانِيٍّ ظَرِبَاناً .
وقال ابن عَبدََلٍ : ( لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونحِّه ** حتَّى يداوِيَ ما بأنْفِك أهْرَنُ ) ( إن كانَ للظَّرِبان جُحرٌ مُنتِنٌ ** فلَجُحر أنفِك يا محمد أنتن ) في شعره الذي يقول : ( ليتَ الأميرَ أطاعَنِي فشفيتُه ** من كلِّ مَن يُكْفِي القصيدَ ويَلْحَنُ ) ( متكَوِّرٌ يَحْثُو الكلام كأنَّما ** باتَتْ مناخِرُهُ بدُهْنٍ تُعْرَنُ ) ( وبنَي لهم سِجناً فكنتُ أميرَهم ** زَمناً فأضربُ مَن ْ أشَاءُ وأسجُنُ ) ( قل لابنِ آكِلة العِفَاصِ محمَّدٍ ** إن كنتَ من حبِّ التقرُّب تجبُنُ ) ( ألقيْتَ نفسَك في عَروضِ مَشَقَّةٍ ** ولَحَصْدُ أنفِك بالمناجِلِ أهْوَنُ ) ( أنتَ امرؤٌ في أرضِ أمِّك فلفلٌ ** جَمٌّ وفلفلنا هناك الدِّنْدِن )

( فبحقِّ أمِّكَ وهي منك حقيقَةٌ ** بالبرِّ واللَّطَفِ الذي لا يُخْزَنُ ) ( إنْ كانَ للظَّرِبانِ جُحْرٌ منتنٌ ** فلَجُحْر أنفِك يا محمَّدُ أنتَنُ ) ( فسَلِ الأميرَ غيرُ موفَّقٍ ** وبَنُو أبِيهِ للفَصاحة مَعْدِنُ ) ( وسَلِ ابنَ ذَكْوانٍ تَجِدْهُ عالِماً ** بسَليقةِ العُرْب التي لا تحزُن ) ( إذْ أنتَ تجعَلُ كلَّ يومٍ عفصةً ** فتجيدُ ما عمِلت يَداك وتحسِنُ ) ( أشبهتَ أمَّكَ غيرَ بابٍ واحدٍ ** أنْ قد خُتِنْتَ وأنَّها لا تُخْتَنُ ) ( فلَئِن أصبتَ دراهماً فدفنتَها ** وفُتِنت فيها وابنُ آدَمَ يُفتَنُ ) ( فبما أراك وأنتَ غيرُ مُدَرْهِمٍ ** إذْ ذاك تَقْصِف في القِيان وتزْفِنُ ) ( إذ رأسُ مَالِكَ لُعْبَةً بصريَّة ** بَيْضَاءُ مُغْرِبَةٌ عليها السَّوْسَنُ ) وقال ابن عبدل أيضاً : ( نَجَوت محمداً ودخانُ فيه ** كرِيح الجَعْر فوق َ عَطِينِ جِلْدِ ) ( ركبتُ إليه في رَجُلٍ أتاني ** كريمٍ يطلبُ المعروفَ عِندي ) ( فقلتُ له ولم أعجَل عليه ** وذلكَ بعدَ تقريظي وحَمْدي ) ( فأعْرَضَ مُكْمَحاً عنِّي كأنِّي ** أكَلِّمُ صَخْرَةً في رأْس صمْدِ )

( أقرِّبُ كل آصِرَةٍ ليدنو ** فما يزْداد منِّي غيرَ بُعْدِ ) ( فلو كنتَ المهذّبَ من تميم ** لخفتَ ملامَتي ورجوتَ حَمدي ) ( نَجَوتُ محمداً فوجدتُ ريحاً ** كريح الكلبِ ماتَ قريبَ عَهْدِ ) ( وقد ألْذَعتَنِي ثعبانَ نَتْنٍ ** سيبلغ إنْ سلِمْنا أهلَ نَجْدِ ) ( وأدنَى خَطْمَه فودِدتُ أنِّي ** قَرَنْتُ دونوَّه مني ببُعْدِ ) ( كما افَتَدَتِ المعاذةُ من جَواهُ ** بخِلْعَتها ولم تَرجِع بزَنْدِ ) ( وفارقَها جواه فاستراحَتْ ** وكانتْ عندَه كأسيرِ قِدِّ ) ( وقد أدنيتُ فاه إليَّ حتَّى ** قتلتُ بذاك نفسي غيرَ عَمْدِ ) وما يدنُو إلى فيه ذُبابٌ ولو طُليت مَشافِرُه بقَنْد ( يَذُقن حلاوةً ويَخفْن موتاً ** زعافاً إنْ همَمْنَ له بِوردِ ) ( فلما فاحَ فُوه عليّ فَوْحاً ** بمثل غَثِيثَةِ الدَّبِر المُغِدِّ ) ( فقلت له : تنحَّ بفيك عنِّي ** فما هذا بريحِ قُتَارِ رَنْدِ )

( وما هذا بريح طِلاً ولكنْ ** يفوحُ خِرَاكَ منه غير سَرْدِ ) ( فحدِّثْنِي فإنَّ الصِّدقَ أدنى ** لبابِ الحقِّ من كذِب وجَحْدِ ) ( أباتَ يجولُ في عَفَجٍ طحور ** فأعلم أمْ أتاكَ به مُغَدِّي ) ( فإن أهديتَ لي من فيكَ حتْفي ** فإِنِّي كالذي أهديتَ أهدي ) ( لكم شُرُداً يَسرِن مغنِّياتٍ ** تكونُ فنونُها من كل فِندِ ) ( أما تخزَى خَزِيت لها إذا ما ** رَوَاها النَّاسُ من شِيبٍ ومُرْدِ ) ( لأَرجُو إن نجوت ولم يُصبْني ** جَوًى إنِّي إذن لَسعيد جدِّ ) ( وقلتُ له : متى استطْرفْتَ هذا ** فقال أصابني من جَوفِ مَهْدِي ) ( فقلت له : أما دَاويتَ هذا ** فتعذر فيه آمالا بجَهْدِ ) ( فقال : أمَا علمت له رِقَاءً ** فتسديَه لنا فيما ستُسْدي ) ( فقلت له : ولا آلوه عيا ** له فيما أسرُّ له وأُبدي ) ( عليكَ بقيئةٍ وبجَعْرِ كَلْبٍ ** ومثليْ ذاك من نونٍ كَنَعْدِ ) ( وحِلتيتٍ وكُرَّاثٍ وثُومٍ ** وعُودَي حَرْمَلٍ ودِماغِ فَهْدِ ) ( وحَنْجَرَةِ ابنِ آوى وابنِ عِرسٍ ** ووزنِ شَعيرةِ من بَزْر فَقْدِ )

( وكَفِّ ذُرُحْرُحٍ ولسانِ صَقر ** ومثقالين من صوّان رَقْدِ ) ( يُدَقُّ ويُعجَن المنخول منه ** ببولٍ آجِن وبجَعْرِ قِرد ) ( وتدفِنُه زماناً في شعيرٍ ** وترقبه فلا يَبدُو لبَرْدِ ) ( فإنْ حضَرَ الشتاءُ وأنتَ حيٌّ ** أراك اللّهُ غَيَّكَ أمرَ رشدِ ) ( فدَحْرِجْها بنادِقَ وازدرِدْها ** متَى رُمْتَ التكلُّم أيّ زَرْدِ ) ( فتقذف بالمِصَلِّ على مِصَلٍّ ** ببلعومٍ وشِدْقٍ مُسْمَعِدِّ ) ( وويْلَك ما لِبَطْنِك مذْ قعَدْنا ** كأنّ دوِيَّهُ إرزام رَعد ) ( فإنَّ لحِكَّةِ الناسور عندي ** دواءً إن صبرتَ له سيُجدِي ) ( يُميت الدُّودَ عنكَ وتشتهيه ** إن انت سَنَنْتَهُ سنَّ المقَدِّي ) ( به وطليتَه بأصولِ دِفْلَى ** وشيءٍ من جنَى لَصَفٍ ورَنْدِ ) ( أَظُنِّي ميِّتاً مِنْ نَتْن فيهِ ** أهانَ اللهُ من ناجَاهُ بَعْدِي )

أشعار العرب في هجاء الكلب

وقال صاحب الديك : سنذكُر أشعار العرب في هجاء الكلب مجرّداً على وجهه ثمَّ نذكُر ما ذمُّوا من خلالهِ وأصنافِ أعماله وأموراً من صفاته ونبدأ بذكرِ هجائه في الجملة قال بشَّار بن بُرْد : ( عددتَ سويداً إذ فخرتَ وتَوْلَباً ** وللكَلْبُ خَيْرٌ من سُويدٍ وتَولبِ ) ( أتَذْكُرُ إذ تَرْعَى على الحيِّ شاءَهُمْ ** وأنتَ شريكُ الكلب في كلِّ مَطْعَمِ ) ( وتلحَسُ ما في القَعْبِ من فَضْلِ سُؤْرِهِ ** وقد عاثَ فيه باليدَين وبالفمِ ) وقال ابن الذئبة : ( من يجمع المال ولا يَتُبْ به ** ويترك المالَ لِعَامِ جِدْبِه ) يهُنْ عَلَى النَّاسِ هَوانَ كلبِهِ وقال آخر : ( إنَّ شَرِيبي لاَ يغبُّ بوجهه ** كُلومي كأنْ كلباً يُهارِش أكْلُبا ) ( ولا أَقْسِمُ الأعطان بيني وبينَه ** ولا أتوقَّاه وإن كان مُجْرِبا ) هجا الأحوص ابناً له فشبَّهه بجرْوِ كَلْبٍ فقال : ( قبِحْ به من ولدٍ وأَشْقِحْ ** ثل جُرَيِّ الكلب لم يُفَقّحْ )

( إن يَرَ سُوءًا مَا يَقُمْ فينبِحْ ** بالبابِ عند حاجةِ المستفتِحْ ) وقال أبو حُزَابة : ( يا ابنَ عليٍّ بَرِح الخَفاءُ ** أنتَ لغَيْرِ طَلْحَةَ الْفِدَاءُ ) ( قد علمَ الأشرافُ والأكفاءُ ** أنَّك أنت النَّاقصُ اللَّفَاءُ ) ( بنو عليٍّ كلُّهمْ سواءُ ** كَأَنَّهم زِينِيَّةٌ جِراءُ ) وقال عبد بني الحسحاس وذكر قبح وجهه فقال : ( أتيتُ نِساءَ الحارثيِّينَ غُدْوةً ** بوجهٍ بَرَاهُ اللّهُ غيرِ جميلِ ) ( فشبَّهنَني كلباً ولسْتُ بفَوقِه ** ولا دونَه إن كان غيرَ قليل )

وقال أبو ذباب السعدي في هوان الكلب : ( لكِسْرَى كانَ أعقَلَ من تميمٍ ** لياليَ فرَّ من أرْضِ الضَّبابِ ) ( وأسكنَ أهلَه ببلاد رِيفٍ ** وأَشجارٍ وأنهارٍ عِذَابِ ) ( فصار بنُو بَنيه لها مُلوكاً ** وصرنا نحنُ أمثالَ الكِلاَبِ ) ( فلا رَحمَ الإلهُ صدَى تميم ** فقد أزْرَى بنا في كلّ بابِ ) وأراد اللعين هجاء جرير وجرير من بني كليب فاشتق هجاءه من نسبه فقال : ( سأقْضِي بين كلبِ بني كُليبٍ ** وبين القَينِ قَينِ بني عِقال ) ( فإنَّ الكلبَ مَطعَمُه خبيثٌ ** وإنَّ القينَ يَعمَل في سَفالِ ) ( كِلاَ العَبدينقد علمتْ مَعَدٌّ لئيمُ الأصلِ من عمٍّ وخالِ ** فما بُقيَا عليَّ تركتُماني ) وقال رجلٌ من همْدان يقال له الضَّحَّاك بن سعد يهجو مَرْوان بن محمد بن مروان بن الحكم واشتقَّ له اسماً من الكلب فجعلَه كلباً فقال : ( لجَّ الفِرَارُ بمرْوانٍ فقلتُ له ** عادَ الظلوم ظليماً همُّهُ الهربُ ) ( أين الفِرارُ وتركُ الملْك إن قبلت ** منك الهُوَينَى فلا دينٌ ولا أدبُ )

( فَرَاشَةُ الحلم فِرعون العذابِ وإن ** يُطلَب نَدَاهُ فكلبٌ دونَه كَلِبُ ) وقال آخر وجعل الكلبَ مثلاً في اللُّؤم : ( سَرَتْ ما سَرَت من ليلِها ثمّ عرّسَتْ ** على رجلٍ بالعَرْجِ أَلأَمَ مِنْ كلْبِ ) وكذلك قول الأسود بن المنذر فإنّه قال : ( فإنّ امرأً أنتُمُ حولَه ** تحُفُّون قُبَّتَه بالقِبابِ ) ( يُهينُ سرَاتَكُم جاهداً ** ويقتُلكم مثلَ قتْل الكلابِ ) وقال سحيمة بن نعيم : ( ألستَ كليبيّاً لكَلْبٍ وكلبةٍ ** لها عندَ أطْنَاب البُيوتِ هَرِيرُ ) وقال النَّجْرانيُّ في ذلك : ( مِن منْزِلي قد أخرجَتْنِي زوجتي ** تهّرُّ في وجهي هَرِير الكَلبةِ ) ( أُمَّ هِلالٍ أبْشِرِي بالحسرةِ ** وأَبشرِي منك بقُرب الضَّرَّة )

الفلحس والأرشم
ويقال للكلب فلحَس وهو من صفات الحِرْص والإلحاح ويقال : فلان أسأَلُ مِنْ فَلْحَس وفَلْحَسٌ : رجلٌ من بني شيبان كان حريصاً رغيباً ومُلحِفاً مُلِحّاً وكلُّ طُفَيليٍّ فهو عندهم فَلْحَسٌ .
والأرشَم : الكلب والذئب وقد اشتقَّ منه للإنسان إذا كان يتشمَّم الطعام ويتْبع مواضعه قال جريرٌ في بعضهم :

( لَقًى حَملتْهُ أمُّه وهي ضَيفة ** فجاءَتْ بيَتْنٍ للضِّيافةِ أرشَما ) وقال جريرٌ في استِرواح الطعام : ) ( وبنو الهُجَيم سَخيفةٌ أحلامُهم ** ثُطُّ اللِّحَى مُتشابِهُو الألوانِ ) ( لو يَسمَعون بأكلةٍ أو شَرْبةٍ ** بعُمَانَ أضحى جمْعُهم بعُمانِ ) ( متأبِّطين بنيهمُ وبناتِهمْ ** صُعرَ الخدودِ لريحِ كلِّ دُخانِ ) وقال سَهمُ بن حنْظَلَة الغَنَويُّ في ذلك : ( وأمّا كلابٌ فمثلُ الكِلا ** ب لا يُحسِنُ الكلبُ إلاَّ هريرَا ) ( وأمّا هِلالٌ فعَطَّارَةُ ** تبيع كِباءً وعِطْراً كثيرا )

بين جرير والراعي
ومرَّ جريرٌ يوماً بالمِرْبَد فوقف عليه الراعي وابنه جنْدَل فقال له ابنه جندل : إنَّه قد طال وقوفُك على هذا الكلب الكُلَيبيّ فإلى متى وضرب بغلَته فمضى الراعي وابنه جندل فقال جرير : واللّه لأُثْقِلنَّ

رواحلك فلما أمسى أخذَ في هجائه فلم يأته ما يريد فلما كان معَ الصبح انفتَح له القولُ فقال : ( فغضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُميرٍ ** فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا ) ( ولو جُعِلت فِقاحُ بني نُميرٍ ** على خَبَثِ الحديدِ إذاً لذَابا ) ثم وقف في موقفه فلمَّا مرَّ به جندلٌ قبض على عِنان فرسِه فأنشده قوله حتى إذا بلغ إلى هذا البيت : ( أَجندلُ ما تقول بنو نميرٍ ** إذا ما الأَيرُ في استِ أبيك غابا ) قال : فأدبَرَ وهو يقول : يقولون واللّه شرّاً .
وقال الشاعر وضرب بالكلب المثلَ في قُبْح الوجه : وضَبَّار : اسم كلب له .
أمثال في الكلاب وقال كعب الأحبارِ لرجل وأراد سفراً : إنّ لكلِّ رُفقةٍ كلباً فلا تكنْ كلبَ أصحابِك .
وتقول العرب : أحبُّ أهلي إليّ كلبهم الظاعن ومن الأمثال وقَع الكلبُ على الذِّئب ليأخذَ منه مثل ما أخَذ ومن أمثالهم :

الكلابَ على البَقَر ومن أمثالهم في الشؤم قولهم : على أهْلِها دلَّتْ بَرَاقِشُ وبراقش : كلبةُ قومٍ نبحَت على جيشٍ مرُّوا ليلاً وهمْ لا يشعُرون بالحيِّ فاستباحوهم واستدلُّوا على مواضعهم بنباحها . )
قال الشاعر : ( ألم تَرَ أنَّ سيِّد آلِ ثورٍ ** نُباتة عضَّهُ كلبٌ فماتا )

قتيل الكبش وقتيل العنز
وقال صاحب الكلب : قد يموت الناسُ بكلِّ شيء وقد قال عبد الملك بن مروان : ألا تتعجبون من الضحَّاك بن قيس يطلب الخلافة ونطح أباه كبش فوُجِد ليس به حَبَضٌ ولا نَبَض وقال عَرفجة بن شريك يهجو أسلَم بن زُرْعة ووطئتْ أباه عنْزٌ بالمِربد فمات فقال : ( فيما ابنَ قتيلِ العنْز هل أنت ثائرٌ ** بزُرعةَ تيساً في الزَّرِيبةِأزنما ) وقال أبو الهول يهجو جعفر بن يحيى : ( أصبحتُ محتاجاً إلى الضَّرْبِ ** في طلَبِ العُرْف إلى الكلْبِ )

( قد وقَّح السَّبُّ له وجهَه ** فصار لا ينحاش للسَّبِّ ) ( إذا شَكَا صبٌّ إليه الهوَى ** قال لهُ مالي وللصبِّ ) ( أعْنِي فتًى يُطعَن في دينهِ ** يشِبُّْ مَعَهُ خَشَبُ الصُّلْبِ ) قال : وقلتُ لأبي عبيدة : أليس بُقْعُ الكلاب أمثلَها قال : لا قلت : ولم قال : ( وخِفْتُ هجاءهم لما تَوَاصَوْا ** كخَوْفِ الذِّئبِ من بُقْعِ الكِلابِ ) قال : ليس هكذا قال إنما قال : خَوْفِ الذِّئب من سُودِ الكِلابِ ألا ترى أنّه حين أراد الهجاء قال : ( كأنَّك بالمبارَكِ بعدَ شهرٍ ** تَخُوضُ غُمورَه بُقْعُ الكِلابِ ) ويدل على ذلك قول الجَدَليِّ : ( لعمري لجو من جواء سويقة ** أسافله ميث وأعلاه أجزع ) ( مِن الجَوْسَقِ الملعونِ بالرَّيِّ لا يني ** على رأسه داعي المنيَّةِ يلمَعُ ) ( يقولون لي صبراً فقلتُ : لَطَالَمَا ** صَبَرتُ ولكنْ لا أرى الصَّبرَ ينفعُ )

( فليتَ عطائي كانَ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ ** وكان لي الصَّمَّان والحزْنُ أجمعُ ) ( وكان لهم أجْري هنيئاً وأصبحَتْ ** بي البازلُ الكَوماء بالرمل تَضْبَع ) ( أأجَعلُ نفسي عِدْلَ علجٍ كأنَّما ** يموتُ به كلبٌ إذا ماتَ أبقَعُ )
قال : فقد بيَّن كما ترى أنَّ الأبقَعَ شرُّها قال : وقلت : فلم قال الشاعر : ( أرسلْتَ أُسداً على بُقْعِ الكلاب فقد ** أمسى شَرِيدُهمُ في الأرض فُلاَّلاَ ) قال : فكيف يقول ذلك وهو يمدحهم وإذَا صغّر شأنَ من هَزَموا فقد صغَّر شأنَ الممدوح بل إنَّما قال : أرسلتَ أسداً على سود الكلاب .
قال : وإنَّما جاء الحديثُ في قتل سُود الكلاب لأنَّ عُقُرَها أكثرُ ما تكون سوداً وذلك من غلَبة أنفسها .
وليس في الأرض حيوانٌ من بقرةٍ وثورٍ وحِمارٍ وفرسٍ وكلبٍ وإنسان إلاّ والسُّودُ أشدُّها أَسْراً وعَصَباً وأظهرُها قُوَّةً وصبْراً .

( يا ثَابِتَ بن أبي سعيدٍ إنَّها ** دُوَلٌ وأحْرِ بها بأَنْ تتنَقَّلا ) ( هلاّ جعلتَ لها كحُرْمَةِ دِعْبِلٍ ** في است أمِّ كلبٍ لا يساوي دِعبِلا ) وقال ابن نوفل : ( وجئتَ على قَصْواءَ تنقلُ سَوءةً ** إلينا وكم من سوءةٍ لا تَهابُها ) ( وتزعمُ أَنْ لم تخز سَلْمُ بنُ جنْدَلٍ ** وقد خَزِيت بعدَ الرِّجال كلابُها ) وقال الحسن بن هانئ يهجو جعفرَ بنَ يحيى : ( قفاً خلف وجه قد أطيل كأنَّه ** قفا مالك يقضي الهموم على بثق ) ( وأعظم زهواً من ذباب على خِراً ** وأَبخَلُ من كَلْبٍ عَقُورٍ على عَرْق ) وقال أبو الشَّمقمق : ( أهلُ جودٍ ونائلٍ وفَعالٍ ** غَلَبُوا الناسَ بالنَّدى والعطيَّهْ ) ( جئتُه زائراً فأدنَى مكاني ** وتلقَّى بِمرْحَبٍ وتحيَّهْ ) ( لا كمِثْلِ الأصَمِّ حارثةِ اللؤ ** مِ شبيهِ الكُلَيبة القَلَطيَّهْ ) ( جئتُه زائراً فأعرضَ عنِّي ** مثلَ إعراض قحبةٍ سُوسِيَّهْ ) ( وتولَّى كأنَّه أير بغلٍ ** غابَ في دُبْر بَغلةٍ مِصريَّهْ ) ( ألا قُولا لسرّان المخازِي ** ووجهِ الكلب والتَّيْسِ الضروطِ )

( له بطنٌ يَضلُّ الفيلُ فيه ** ودُبرٌ مثلُ رَاقود النَّشوط ) ( وأَيْرٌ عارمٌ لا خيرَ فيه ** كدَوْرِ سفينةٍ في بَثْق رُوط ) ( ولحيَةُ حائكٍ من باب قلب ** مُوَصَّلَةِ الجوانبِ بالخُيوطِ ) ( له وجهٌ عليه الفقرُ بادٍ ** مُرقَّعة جوانُبه بِقوطِ ) ( إذَا نَهَضَ الْكِرَامُ إلَى المَعَالِي ** تَرَى سَرَّانَ يَسْفَلُ فِي هَبُوط ) وقال أيضاً في ذلك : من البسيط ( يا رازقَ الكلبِ والخنزيرِ في سعةٍ ** والطيرِ والوحش في يهماءَ دوَّيَّهْ ) ( لو شئتَ صيَّرتَه في حالِ فاقته ** حتى تُقِرَّ بتلك الحالِ عينيَّه ) وقال جرير بن عطية يهجو الصَّلَتان العبديّ : ( أقول لها والدَّمع يغسِل كُحلَها ** متى كان حكمُ اللّهِ في كَرَبِ النخلِ ) فأجابه الصَّلَتَانُ فقال : ( تُعيِّرنا أن كانت النَّخْلُ مالَنا ** وودَّ أبوك الكلبُ لو كان ذا نَخْلِ ) يعيِّره جريرُ بأَنَّه كان هو وأبوه من أصحاب النَّخْل .

وقال وضاح اليمن : ( وأكتم السِّرَّ غضباناً وفي سكري ** حتى يكون له وجهٌ ومستمِعُ ) ( وأتْرُكُ القولَُ عن علمٍ ومَقْدِرَةٍ ** حتى يكون لذاك النَّجْدِ مُطَّلَعُ ) ( لا قُوّتي قُوّة الراعي ركائبَه ** يبيتُ يأوي إليه الكلب والرُّبَع ) ( ولا العَسيفِ الذي تشتدُّ عُقْبَتُه ** حتَّى يَثُوبَ وباقي نعْلِه قطَع ) وقال محمد بن عباد الكاتب مولي بحيلة وأبوه من سبى دابق وكاتب زهير وصديق ثمامة يهجو أبا سعد دعى بني مخزوم وبعد أن لقي منه ما لقي : ( فعلَتْ نزارُ بك الذي اس ** تأهَلْتَه نفياً وضَرْبَا ) ( فهجوتَ قحطانا لأه ** جُوَهم مكايَدةً وإرْبا ) ( وأردتَ كيما تشتَفي ** بهجائهم منهم فَتَرْبَا ) ( ووثقت أَنَّك مَا سبب ** تَ حَماكَ لؤمُك أن تُسَبَّا ) ( كالكلب إن ينبح فلي ** س جوابه إلاَّ اخْسَ كَلْبا ) ( خفِّض عليك وقَرْ مكا ** نَك لا تطفْ شرقاً وغربا ) ( واكشِفْ قِناعَ أبيك فال ** آباءُ ليس تُنال غَصْبا )


وقال آخر يصف كلباً : ( ومُبْدٍ ليَ الشَّحناءَ بيني وبينه ** دعوتُ وقد طال السُّرى فدعاني ) فوصفه كما ترى أنَّه يبدي له البغضاء .
وقال آخر : ( سَرَتْ ما سَرَتْ من ليلها ثم عرَّست ** عَلَى رجُلٍ بالعَرْج ألأمَ من كلْبِ ) وقال راشِد بن شهاب اليشكُريُّ : ( فلستُ إذا هبَّتْ شَمالٌ عَرِيَّةٌ ** بكَلْبٍ على لحم الجزورِ ولا بَرَمْ ) وقال كُثَيِّر بن عبد الرحمن وهو يصف نعلاً من نِعال الكرام : ( إذا طُرِحَتْ لم يَطَّبِ الكلبَ ريحُها ** وإن وُضِعت في مجلس القَوم شُمَّتِ ) وقال اللّعين في بعض أضيافه يخبر أنّه قراه لحمَ كلب وقد قال ابنُ الأعرابي : إنَّما وصف تيساً : فقلتُ لعَبْدَيَّ اقْتُلا داءَ بطنِه وأعفاجِه اللائي لهنَّ زوائدُ ( فجاءَا بخِرشَاوَي شَعير عليهما ** كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ ) وقال خُلَيد عَيْنَين وهو يهجو جرير بن عطية ويردّ عليه : ( وعيّرتَنا بالنخل أن كان مالنا ** وودَّ أبوك الكلب لو كان ذا نخل )

وقال دِعبل بن عليّ : ( ولو يشربُ الماءَ أهلُ العفا ** ف لما نال من مائهم شَرْبَهْ ) ( ولكنَّه رزقُ مَنْ رِزْقُه ** يعمُّ به الكلبَ والكلبهْ ) ( من هُجِيَ بأكل لحوم الكلاب ولحومِ الناس ) قال سالم بن دَارة الغطفانيُّ : ( يافَقْعَسِيُّ لِمْ أكلته لِمَهْ ** لو خافَكَ اللّهُ عليه حرَّمه ) فما أكلتَ لحمَه ولا دَمه وقال الفرزدق في ذلك : ( إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلدةٍ ** وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه ) وقال مساور بن هند : ( إذا أسدِيَّةٌ ولدتْ غُلاَماً ** فبشِّرها بلؤمٍ في الغلامِ ) ( يخرِّسها نساءُ بني دُبَير ** بأخبثِ ما يجدن من الطَّعام ) ( ترى أظفارَ أعقَدَ مُلقيَاتٍ ** براثنُها . على وَضَم الثُّمَامِ ) فهذا الشعر وما أشبَهه يدلُّ على أنَّ اللعين إنَّما قراهم كلباً ولم يَقْرِهم تيساً وأنَّ الصوابَ خلافُ وقال مُساوِر بن هند أيضاً : ( بني أسدٍ أن تُمحل العامَ فَقْعس ** فهذا إذنْ دَهْرُ الكلابِ وعامُها )

وقال شرَيح بن أوس يهجو أبا المهوّش الأسدي : ( وعيَّرْتنا تمرَ العراق وبُرَّه ** وزادُك أير الكَلْب شيَّطه الجمْر )

أكل لحوم الناس
وما قيل في ذلك من شعر
وقال معروفٌ الدُّبيريّ في أكلِهم لحومَ الناس : ( إذا ما ضِفْتَ يوماً فقعسيّاً ** فلا تَطعَمْ له أبداً طعاما ) ( فإنَّ اللحم إنسانٌ فدَعْهُ ** وخيرُ الزَّادِ مَا مَنَع الحراما ) وقد هُجِيت هذيلٌ وأسد وبَلَعنْبَر وباهلة بأكلِ لحوم الناس قال حسَّان بن ثابت يذكر هذيلاً : ( إنْ سرَّك الغَدْرُ صِرفاً لا مِزَاجَ له ** فأت الرجيع وسل عن دارِ لِحْيانِ ) ( قومٌ تواصَوا بأكل الجار بينهم ** فالكلبُ والشَّاةُ والإنسانُ سِيَّانِ ) وقال الشاعر في مثل ذلك في هذيل : ( تداعَوا له من بين خَمسٍ وأربعٍ ** وقد نصل الأظفارُ وانسبَأ الجِلْدُ )

( ورَفَّعتم جُردَانَه لرئيسكم ** مُعاوية الفلحاء يالكَ ماشُكْدِ ) وقال الشاعر في ذلك في باهلة : ( إنَّ غفاقاً أكلَتْه باهله ** تمشَّشوا عظامَه وكاهلَه ) وأصبحتْ أم غفاق ثاكِلَه وهجا شاعر آخر بَلْعَنبر وهو يريد ثَوْبَ بن شَحْمَة وكان شريفاً وكان يقال له مجير الطير فأمَّا مجير الجراد فهو مدلج بن سويد بن مرشد بن خيبري فعيَّر الشاعرُ ثوب بنَ شحمة بأكل الرجلِ العنبريِّ لحمَ المرأة إلى أن أتى ثوبٌ من الجبَل فقال : ( عجِلتُمُ ما صادَكم عِلاجْ ** من العُنُوق ومن النِّعاجْ ) حتى أكلتمْ طَفْلَةً كالعاجْ فلما عيَّره قال ثوب : ( يا بنتَ عمِّيَ ما أدراكِ ما حسبي ** إذ لا تجنُّ خبيثَ الزاد أضلاعي ) ( إنِّي لذو مِرَّةٍ تُخْشَى بوادِرُه ** عِنْدَ الصِّياحِ بِنَصْلِ السَّيْفِ قَرَّاعِ ) ومن ظريف الشعر قول أبي عدنان :

( فما كلبة سوداء تقرى بنأبها ** عراقا من الموتى مرار وتكدم ) ( أُتيح لها كلبٌ فضنَّتْ بعَرْقِها ** فهارشَها وهي على العَرْق تَعْذِمُ ) فقفْ على هذا الشعر فإنّه من أعاجيب الدنيا . )
وقال سُنَيح بن رباح شار الزِّنجي : ( مَا بالُ كلبِ بني كُليبٍ سبَّنا ** أن لم يُوازِنْ حَاجِباً وعِقال )

قتيل الكلاب
وتنازع مالك بن مِسْمَع وشقيق بن ثور فقال له مالِك : إنَّما رفعك قَبْرٌ بتُسْتَر فقال شقيق : حينَ وضَعَك قبرٌ بالمشقَّر يا ابن قتيلِ النساء وقتيل الكلاب .
قال : وكان يقال لمسمع بن شيبان قتيلُ الكلاب وذلك أنَّه لجأ في الردة إلى قومٍ من عبد القيس فكان كلبُهم ينبحُ عليه فخاف أن يدلَّ على مكانه فقتَلَه فقُتِلَ به .
أمثال أخرى في الكلب
قال : والعرب تقول : أسرَعُ من لَحْسَةِ كلبٍ أنفه ويقال :

أحرصُ من لَعْوة وهي الكلبة وجمعها لِعاء وفي المثل : ألأم من كلبٍ على عَرْق ونَعِم كلبٌ في بؤس أهله وفي المثل : اصنع المعروف ولو مَعَ الكلب .
وقال ابن سِيرين : الكلبُ في النوم رجلٌ فاحش فإن كان أسودَ فهو عربيٌّ وإن كان أبقَعَ فهو عجَميّ .
وقال الأصمعيّ عن حمّاد بن سلمة عن ابنِ أخْتِ أبي بلال مِردَاسِ بن أُدَيَّة قال : رأيتُ أبا بلالٍ في النوم كلباً تذرِف عيناه وقال : إنّا حُوِّلنا بعدَكم كلاباً من كلاب النار .
قال : ولمّا خرج شَمِر بن ذي الجَوشَن الضِّبابي لقتال الحسين بن علي رضي اللّه تعالى عنهما فرأى الحسينُ فيما يرى النائم أنَّ كلباً أبقعَ يلغُ في دمائهم فأوَّلَ ذلك أن يقْتُلهم شمر بن ذي الجوشن وكان مُنْسلخاً بَرَصاً .
قال : والمسلمون كلُّهم يسمُّون الخوارجَ : كلابَ النار .


شعر في تشبيه الفرس بضروب من الحيوان ليس بينها الكلب وقال صاحب الديك : صاحب الكلب يصِفُه بالسُّرعةِ في الحُضْر وبالصّبر على طول العَدْو وبسَعة الإهاب وأنَّه إذا عدا ضَبَع وبسَط يديهِ ورجليه حتى يمسَّ قَصَصُهُ الأرْض وحتى يشرط أذنيه بشَبَا أظفاره وأنَّه لا يحتِشي ريحاً مع ما يصيب الكلاب من اللَّهَث فإن كان كما تقولون فلم وصفت الشعراءُ الفرسَ وشبّهته بضروب من الخلق وكذلك الأعضاءُ وغير ذلك من أمره وتركوا الكلب في المنْسَأ لا يلتفت أحَدٌ لِفْتَهُ ) ( عن لسانٍ كجثَّة الوَرَل الأح ** مر مجَّ النَّدِى عليه العَرارُ ) ولم يذكره في شيء وقال خالد بن عجرة الكلابي : ( كأن لسانَه وَرَلٌ عليه ** بدار مضية مج العرار ) وقال امرؤ القيس : ( وَخدٌّ أسِيلٌ كالمِسَنِّ وبِرْكَةٌ ** كجُؤجؤ هَيقِ دَفُّه قد تموَّرا ) ولم يذكره في شيءٍ وقال عُقْبة بن سابق : ( عريض الخدِّ والجب ** هَةِ والصَّهوةِ والجنبِ ) ولم يذكره في شيء وقال امرؤ القيس : ( وسامعتان تعرِف العتقَ فيهما ** كسامعتَي مذعورة وسطَ ربرب )

ولم يذكره في شيء من ذلك وقال عقبة بن سابق : ( ولها بِركةُ كجؤجؤ هيقٍ ** ولَبَانٌ مضرّجٌ بالخِضَابِ ) ولم يذكره في شيء وقال خُفاف بن نَدبة : ( عَبل الذِّراعين سليم الشّظا ** كالسِّيدِ يَومَ القِرَّةِ الصاردِ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال امرؤ القيس : ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال عقبة بن سابق : ( وأرساغ كأعناقِ ** ظِباءٍ أربع غُلْبِ ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال الجَعْديُّ : ( كأن تماثيلَ أرساغهِ ** رِقابُ وُعُولٍ لَدَى مَشْرَبِ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال امرؤ القيس : ( لها متْنَتَانِ خَظَاتَا كما ** أكبَّ عَلَى ساعديه النَّمِرْ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال أبو دُؤاد :

( يمشي كمشي نعامتَينِ ** تُتابِعانِ أشقَّ شاخِصْ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال ابن الصَّعِق : ( بمحنَّبٍ مثلِ العُقا ** بِ تخالُه للضُّمرِ قِدْحا ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال رَبيعة بن جُشم النمري ويروى لامرئ القيس : ) ( وساقانِ كعباهما أصمَعَا ** نِ لحمُ حَمَاتَيهما منبتِرْ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاري : ( كأنَّ حَمَاتَيْهِما أَرنبانِ ** تقبَّضتا خيفةَ الأجدلِ ) ( كأنَّ حَماتَها كردوس فحْلٍ ** مقلِّصةٌ على ساقَي ظليمِ ) ولم يذكره في شيء من ذلك وقال الأعشى : ( أمَّا إذا استقبلتَه فكأنَّه ** جِذْعٌ سَمَا فوقَ النَّخيلِ مشذَّب ) ( وإذا تصفَّحَه الفوارسُ معرضاً ** فتقولُ سِرحانُ الغَضَا المتصوِّبُ ) ( أما إذا استدبرته فتسوقُه ** ساقٌ يقمِّصها وظيفٌ أحدَبُ ) (

منهُ وجاعرة كأنّ حماتها ** لما كشفت الجُلّ عنه أرنبَ ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال الأسعر الجُعْفي : ( أما إذا استقبلْتَه فكأنّه ** بازٍ يكفكِفُ أن يطيرَ وقد رأَى ) ( أما إذا استعرضتَه متمطِّرا ** فتقول هذا مثلُ سِرحان الغَضا ) ( أمَّا إذا استدبرته فتَسُوقه ** ساقٌ قُموصُ الوَقْعِ عاريةُ النَّسَا ) ولم يذكره في شيءٍ وقال أبو داؤد : ( السِّيد ما استقبلتَه وإذا ** ولَّى تقول مُلَمْلَمٌ ضَرْبُ ) ( لأمٌ إذا استعرضتَه ومشَى ** متتابعاً ما خانَه عَقْبُ ) ( يمشِي كمشيِ نعامةٍ تبِعتْ ** أُخرى إذا هي راعَها خطْبُ ) ( له أيطلاَ ظبي وساقَا نعامةٍ ** وإرخاءُ سِرحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ ) ولم يذكره في شيءٍ من ذلك وقال ابن سِنانٍ العبْديّ : ( أما إذا ما أَقبلت فُمطارةٌ ** كالجِذع شذّبهُ نفيُّ المِنْجَلِ ) ( أما إذا ما أعرضَتْ فنبيلة ** ضخمٌ مكانُ حِزامِها والمِركَلِ ) ( أما إذا تشتدُّ فهي نعامةٌ ** تنفي سنابكُها صِلابَ الجَنْدَل ) قول أبي عبيدة في تشبيه الفرس بضروب من الحيوان قال أبو عبيدة : ومما يشبِه خلْقُه من خَلْقِ النعامة طولُ وظيفِها وقصر

ساقيها وعُري نَسَييها وممَّا يشبه من خلقه خلْقَ الأرنب صِغَر كعبَيها وممَّا يشبه من خلْقه خلْق الحمار الوحشيِّ غِلظ لحمه )
وظمأ فصوصِه وسَراتِه وتمحص عصَبِه وتمكُّن أرساغه وعَرض صهوته .
قال صاحب الكلب : قد قال أبو عبيدة : إنّ مما يشبه من خلقه خلْقَ الكلب هَرَت شدقِه وطول لسانه وكثرة ريقه وانحدار قصِّه وسبوغ ضُلوعِه وطول ذراعيه ورُحْب جلده ولحوق بطنه وقال طُفيل الغَنَويّ يصف الخيل : ( تبارِي مَراخِيها الزِّجاج كأنَّها ** ضِرَاءُ أحسَّتْ نبأةً من مكلِّبِ ) وقال طُفَيل أيضاً : وقال صاحب الديك : وأين يقع البيتُ والبيتان والثلاثة من جميع أشعار العرب وقال صاحب الكلب : لعلَّنا إن تتبَّعنا ذلك وجدناه كثيراً ولكنك تقدَّمت في أمر ولم تُشْعِر بالذي تعني فَنَلتقط من الجميع أكثرَ مما التقطت والإنسان شريف الأعضاء وقد تشبه مواضعُ منه مواضع من الفرس العتيق وما حضرنا من الأشعار إلاّ قوله :

( وترى الكميتَ أمامَه ** وكَأنّه رجلٌ مُغاصِبْ ) وقال الشاعر في ذلك : ( خُوصٌ تَرَاحَ إلى الصراخ إذا غدت ** فِعْلَ الضِّرَاءِ تَرَاح للكَلاّبِ ) وقد شبهوا بالكلب كلَّ شيء وكان اسم فرس عامر بن الطفيل الكلب والمزنوق والوَرد .

شعر في وصف الناقة
قال صاحب الديك : قد قال أوس بن حجر ووصف الناقةَ ونشاطها والذي يَهيجها فقال : ( كَأَنَّ هرّاً جَنيباً عند مَغْرِضها ** والتفَّ ديكٌ برجليها وخنْزيرُ ) فهلاّ قال : والتف كلبٌ كما قال : والتفَّ ديك وقال أبو حيَّة : وقال الأعشى : ( بجُلالةٍ سُرُحٍ كَأَنّ بدَفِّها ** هرّاً إذا انتعل المطيُّ ظلالَها ) وقال عنترة بن شدَّاد العَبْسي : ( وكأنَّما ينأى بجانب دَفِّها ال ** وحْشِيِّ من هَزِج العشيِّ مؤوَّمِ )

( هرٌّ جَنيبٌ كلّما عطَفَتْ له ** غَضْبَى اتقاها باليدين وبالفمِ ) وقال المثقِّب العَبْديّ : ) ( فسلِّ الهمَّ عنك بذاتِ لَوْثٍ ** عُذَافِرةٍ كَمِطْرَقةِ القُيُونِ ) ( بصادقةِ الوَجِيفِ كأنّ هرّاً ** يُبارِيها ويأخُذُ بالوَضِين ) قال صاحب الكلب : إنما يذكرون في هذا الباب السِّباعَ المنعوتة بالمخالب وطولِ الأظفار كما ذكر الهرَّ وابن آوى والكلبُ ليس يوصف بالمخالب وليس أَنَّ الهر أقوى منه ألا ترى أوسَ بن حجرِ قال في ذلك : كأنّ هرّاً جَنِيباً عِنْدَ مغْرِضِها فذكر الموضع الذي يوصف بالخلْبِ والخدْش والخمش والتظفير فلما أراد أن يفزِّعها ويثَوِّرَها حتى تذهبَ جافلة في وجْهِها أو نادَّة أو كأنّها مجنونة من حاق المرح والنشاط قال : وقال أبو النجم : ( لو جُرَّ شَنٌّ وسطها لم تَحْفِلِ ** من شهوةِ الماءِ ورِزٍّ معضل ) ولو قال أوس :

والتفّ شَنٌّ برِجليها وخِنزير لكان جائِزاً لولا يُبْس الشنِّ وقحُوله وأنّه ليس مما يلتوي على رجليها وقال آخر : ( كأنَّ ابنَ آوى مُوثَقٌ تحت غرْزِها ** إذا هو لم يَكْلِمْ بنابَيهِ ظَفّرا ) وقال صاحب الديك : حديث عمرو بن شُعيب عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا يحِلُّ لرجلٍ أَنْ يُعطِيَ عَطِيَّةً ويرجٍ ع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يُعطي العطيَّةَ ثم يرجِعُ فيها كمثل الكلب يأكل حتى إذا شَبِع قاءَ ثم عاد في قيئه .
وعن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يرجع في هِبَته إلاّ الوالد من ولده والعائِدُ في هبتِه كالعائد في قيئه .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد اللّه بن جعفر أنّ أبا بكرٍ أمر بقتل الكلب قال عبد اللّه بن جعفر : وكانت أمِّي تحتَ أبي بكر وكان جروٌ لي تحت سريره فقلت له : يا أبتِ وكلبي أيضاً فقال : لا تقتلوا كلبَ ابني ثمّ أشار بإصبعه إلى الكلب أي خذوه من تحت السرير وأنا لا أدري فقتل .
وإسماعيل بن أُميَّة قال : أُمَّتان من الجنِّ مُسِختا وهما الكلاب والحيَّات . )
ابن المبارك قال : إذا عرف الرجلُ قدْرَ نفسه صار عِند نفسِه أذلَّ من الكلب .

لؤم الكلب
قال صاحب الديك وذَكَرَ الكلب فقال : من لؤمِه أنَّه إذا أسمنْتَه أكلك وإِن أجعْتَه أنكرك ومن لؤمه اتّبَاعه لمن أهانه وإِلفُه لمن أجاعَه لأنه أجهلُ من أن يأنس بما يؤنس به وأشره وأنَهمُ وأحرصُ وألجُّ من أن يذهب بمطمعته ما يذْهَب بمطامع السباع .
ومن جهله أيضاً أَنّا لم نجدْه يحرُس المحسنين إليه بنباحه وأربابَهُ الذين ربّوه وتبنُّوه إلا كحراسته لمن عَرفه ساعةً واحدة بل لمن أذلّه وأَجاعَه وأَعطشه بل ليس ذلك منه حراسةً وإنَّما هو فيه من فضل البَذَاء أَو الفُحْش وشدَّة التحرُّش والتسرُّع وقد قال الشاعر في ذلك : ( إذا تخازَرْتُ وما بي من خَزَرْ ** ثم كسَرت العينَ من غير عَوَر ) ( أبذى إذا بُوذيت من كلبٍ ذَكَرْ ** أَسودَ قَزَّاحٍ يُعوِّي في السَّحَر )
جبن الكلب
والكلب جبانٌ وفيه جرأة ولؤم ولو كان شجاعاً وفيه بعض التهيُّب

كان أمثل ومن فرط الجبن أنّه يفزَع من كلِّ شيء وينبحَه .
والبرذون ربَّما رمَح البرذونَ مبتدئاً وقلق وصهل صَهِيلاً في اختلاط وليس ذلك من فضْل قوَّةٍ يجدُها في نفسه على المرموح ولكنَّه يكون جباناً فإذا رأى البِرذون الذي يظنُّ أنَّه يعجِز عنه أراه الجبنُ أنَّه واقعٌ به فعندها يقلَق وإذا قلِق رمَح وهذه العلَّة تعرض للمجنون فإنَّ المجنونَ الذي تستولي عليه السَّوداء ربما وثَب على من لا يعرفه وليس ذلك إلاّ لأنَّ المِرَّة أوهمتْه أنَّه يريده بسوء وأنّ الرأي أن يبدأه بالضرب وعلى مثل ذلك يرمي بنفسه في الماءِ والنار .

مما حدث للنظام
فأمّا الذي شهدت أنا من أبي إسحاق بن سيَّار النظّام فإنّا خرجنا ليلةً في بعض طرقات الأبُلَّة وتقدَّمتُه شيئاً وألح عليه كلبٌ من شكل كلاب الرِّعاء وكره أن يعدوَ فيغريَه ويُضَرِّيه وأنف أيضاً من ذلك وكانَ أنِفاً شديدَ الشَّكيمةِ أبَّاء للهَضيمة وكرِه أن يجلسَ مخافةَ أن يشغَر عليه أو لعلَّه أن يعضَّه فيَهْرِتَ ثوبَه وألحَّ عليه فلم ينله بسوءٍ فلمَّا جُزْنا حدَّه وتخلَّصنا منه قال إِبراهيم في كلامٍ له كثير يعدِّد خصالَه المذمومة فكان آخر كلامه أن قال : إن كنت سَبْع فاذهبْ مع السِّباع وعليك بالبرارِي والغِياض وإن كنت بَهيمة فاسكتْ عنَّا سكوت البهائم )


ولا تنكر قولي وحياتي عنه بقولٍ ملحون من قولي : إن كنت سَبْع ولم أقلْ إن كنت سبعا .

إفساد الإعراب لنوادر المولدين
وأنا أقول : إنّ الإعرابَ يفسد نوادر المولَّدِين كما أنّ اللحنَ يُفْسِد كلام الأعراب لأنّ سامعَ ذلك الكلام إنَّما أعجبتْه تلك الصورة وذلك المخرَج وتلك اللغة وتلك العادة فإذا دَخَلْت على هذا الأمر الذي إنما أضحك بِسُخْفِه وبعضِ كلام العجميَّة التي فيه حروفَ الإعراب والتحقيق والتثقيل وحوَّلتَه إلى صورةِ ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهلِِ المروءَة والنجابة انقلب المعنى مع انقلاب نظْمِه وتبدَّلَتْ صورته .
ثم قال أبو إسحاق : إِنْ أطعمَه اللصُّ بالنهار كسرةَ خُبْزٍ خلاّه ودارَ حولَه ليلاً فهو في هذا الوجه مرتشٍ وآكلُ سُحت وهو مع ذلك أسمجُ الخلْقِ صوتاً وأحمق الخلق يقَظَةً ونوماً وينام النَّهارَ كله على نفس الجادَّة وعلى مدقِّ الحوافر وفي كل سوقٍ وملتقَى طريق وعلى سبيل الحمُولة وقد سهر الليلَ كله بالصياح والصَّخَب والنَّصَب والتَّعب والغيظ والغضب وبالمجيء والذَّهاب فيركبه من حبِّ النوم

على حسب حاجته إليه فإن وطئتْه دابَّةٌ فأسوَأُ الخَلْقِ جزَعاً وأَلأمه لؤماً وأكثره نُباحاً وعُواءً فإن سلم ولم تَطَأهُ دابَّةٌ ولا وطئه إنسان فليست تتمُّ له السلامة لأنّه في حالِ متوقِّعٍ للبليَّةِ ومتوقِّعُ البليَّةِ في بَليَّة فإنْ لم يسلم فليس على ظهرها مبتلى أسوأُ حالاً منه لأنّه أسوَؤُهم جزَعاً وأقلُّهم صبراً ولأنّه الجاني ذلك على نفسه وقد كانت الطُّرق الخالية له معرضة وأصول الحيطان مباحة .
وبعد فإنّ كلَّ خُلُقٍ فارقَ أخلاقَ النَّاس فإنّه مذموم والناس ينامون بالليل الذي جعله اللّه تعالى سكَناً وينتشرونَ بالنّهار الذي جعله اللّه تعالى لحاجات الناس مَسْرحاً .
قال صاحب الكلب : لو شئنا أن نقول : إنّ سهره بالليل ونومَه بالنهار خَصْلَةً ملوكيَّة لقلنا ولو كان خلافُ ذلك ألذّ لكانت الملوك بذلك أولى وأمَّا الذي أشرتمْ به من النوم في الطرق الخالية وعبتُموه به من نومه على شارعاتِ الطُّرق والسِّكَكِ العامرة وفي الأسواق الجامعة فكلُّ امرئٍ أعلم بِشَأْنِهِ ولولا أنّ الكلبَ يعلمُ ما يَلقَى من الأحداث والسُّفهاءِ وصِبيان الكتَّاب من رضِّ عظامِه بألواحهم إذا وجدوه نائِماً في طريق خالٍ ليس بحضرته رجالٌ يُهابون ومشيخةٍ يرحمون ويزجرون السفهاءَ وأنّ ذلك لا يعتريه في مجامع الأسواق لقَلّ خلافه عليك ولما رقد في الأسواق وعلى أنّ هذا الخُلُق إنَّما يعتري كلاب الحُرَّاس وهي

التي في الأسواق مأواها )
وبعد فمن أخطأُ وأظلمُ ممَّن يكلِّف السباعَ أَخلاقَ الناس وعادات البهائِم وقد علمْنا أنّ سباعَ الأرض عن آخرها إنَّما تَهيج وتَسرح وتلتَمس المعيشةَ وتتلاقى على السفاد والعظال ليلاً لأنها تبصر بالليل .

سبب اختيار الليل للنوم
وإنما نام الناسُ بالليل عن حوائِجِهم لأنّ التمييز والتفصيل والتبيُّن لا يمكنهم إلاّ نهاراً وليس للمتعَب المتحرِّك بدٌّ من سكون يكون جَماماً له ولولا صرفُهم التماسَ الجَمام إلى الوقت الذي لو لم يناموا فيه والوقتُ مانع من التمييز والتبيُّن لكانت الطبائعُ تنتقض فجعلوا النَّوم بالليل لضربين : أحدهما لأنّ الليلَ إذ كان من طبعه البرد والرُّكود والخُثورة كان ذلك أنزَعَ إلى النوم وما دعا إليه لأنّه من شكله وأمّا الوجه الآخر فلأنّ الليلَ موحِشٌ مخُوف الجوانب من الهوامِّ والسباع ولأنّ الأشياء المبتاعةَ والحاجات إلى تمييز الدنانير والدراهم والحبوب والبزور والجواهر وأخلاط العطر والبَرْبَهار وما لا يحصى عدده فقادتهم طبائعُهم وساقتهم غرائزهم إلى وضعِ النوم في موضعه والانتشار

والتصرف في موضعه على ما قدَّر اللّه تعالى من ذلك وأحبَّه وأمَّا السباع فإنها تتصرَّف وتبصر بالليل ولها أيضاً عللٌ أخرى يطول ذكرُها .
وأمَّا ما ذكرتموه من نوم الملوك بالنَّهار وسهرهم بالليل فإنّ الملوكَ لم تجهلْ فضلَ النوم بالليل والحركةِ بالنهار ولكنَّ الملوك لكثرة أشغالها فضلَت حوائِجها عن مقدار النهار ولم يتّسع لها فلما استعانَت بالليل ولم يكن لها بدٌّ من الخلوة بالتدبير المكتوم والسرِّ المخزون وجمعت المقدارَ الفاضلَ عن اتِّسَاع النهار إلى المقدارِ الذي لا بدَّ للخلوة بالأسرار منه أخذتْ من الليل صدراً صالحاً فلمَّا طال ذلك عليها أعانها المِران وخفَّ ذلك عليها بالدُّربة .
وناسٌ منهم ذهبوا إلى التناول من الشراب وإلى أن سَماع الصوت الحسن مما يزيد في المُنّة ويكون مادَّةً للقوة وعلموا أنّ العوامَّ إذا كانت لا تتناول الشّرابَ ولا تتكلّف السماع على هذا المعنى أن ظنّها سيسوءُ وقولَهَا سيكثُر فرأوا أنّ الليل أسترُ وأجدرُ أن يتمَّ به التدبير وقال الراجز : اللَّيلُ أخفَى والنَهارُ أفْضَحُ وقالوا في المثل : اللَّيل أخفَى للويل .

تلهي المحزون بالسماع
وما زالت ملوكُ العجَم تلهِّي المحزون بالسماع وتعلِّل المريض وتَشغله عن التفكير حتَّى أخذت )
ذلك ملوكُ العرب عن ملوك العجم ولذلك قال ابن عَسَلة الشيباني : ( فصحوت والنَّمَرِيُّ يحسَبُها ** عَمَّ السِّماكِ وخالَةَ النَّجْم ) النجم : واحد وجمع وإنَّما يعني في البيت الثريَّا ومدجنة : يعني سحابةً دائِمة .
قول أم تأبط شراً في ولدها وفيما يحكى عن امرأةٍ من عقلاء نساءِ العرب وإذا كان نساءُ العرب في الجملة أعقلَ من رجال العجَم فما ظنُّكَ بالمرأةِ منهم إذا كانت مقدَّمة فيهم فروَوا جميعاً أنَّ أمَّ تأبَّط شرّاً قالت : واللّه ما وَلَدْتُه يَتْناً ولا سقَيته غَيْلاً ولا أبتُّه على مَأْقة .
فأمَّا اليتن فخروج رِجل المولود قبلَ رأسِه وذلك علامة سُوءٍ ودليلٌ على الفساد وأَما سَقي الغَيْل فارتضاع لبن الحبلى وذلك فسادٌ شديد .


ما ينبغي للأم في سياسة رضيعها حين بكائه وأما قولها في المأقة فإنَّ الصبيَّ يبكي بكاءً شديداً متعِباً موجِعاً فإذا كانت الأمُّ جاهلةً حرّكته في المهد حركةً تورثه الدُّوار أو نوّمته بأن تضرب يدَها على جنبه ومتى نام الصبيُّ وتلك الفزْعةُ أو اللَّوعة أو المكروه قائمٌ في جوفه ولم يعلَّلْ ببعضِ ما يلهيه ويُضحكه ويسرُّه حتى يكون نومه على سرورٍ فيسْرِي فيه ويعمَل في طباعه ولا يكون نومه على فزعٍ أو غيظ أو غمٍّ فإنَّ ذلك ممَّا يعمل في الفساد والأمُّ الجاهلةُ والمرقِّصة الخرقاء إذا لم تعرف فرقَ ما بين هاتين الحالتين كثُر منها ذلك الفساد وترادَفَ وأعان الثاني الأوّلَ والثالثُ الثانيَ حتَّى يخرجَ الصبيُّ مائقاً وفي المثل : صاحبي مَئِق وأنا تئقٌ يضرب هذا المثل للمسافر الأحمق الرَّفيق والزَّميل وقد استفرغه الضَّجر لطول السفر فقلبُه ملآن فأوَّلُ شيءٍ يكون في ذلك المئق من المكروه لم يحتمله بل يَفيض ضجره عليه لامتلائه من طول ما قاسى من مكروه السفر .
ما يحتاج إليه الملوك فاحتاج حُذَّاق الملوكِ وأصحابُ العنايات التامَّةِ أن يداووا أنفسَهم بالسماع الحسن ويشدُّوا من متْنِهم بالشراب الذي إذا وقعَ في الجَوف حرَّك الدَّم وإذا حرك الدَّم حرَّك طباعَ السرور ثمَّ لا يزالُ زائداً

في مِكيال الدم زائداً في الحركة المولِّدة للسرور هذه صفةُ الملوك وعليه بنوا أمرَهم جهل ذلك مَنْ جهله وعَلمه من علمه .
وقال صاحب الكلب : أمَّا تركُه الاعتراضَ على اللِّصِّ الذي أطعمه أيَّاماً وأحسنَ إليه مِراراً )
فإنَّما وجب عليه حفظُ أهلِه لإحسانهم إليه وتعاهدهم له فإذا كان عهده ببرِّ اللص أحدَث من عهده ببرِّ أهله لم يكلَّف الكلبُ النظرَ في العواقب وموازنة الأمور والذي أَضمر اللصُّ من البَيات غَيْبٌ قد سُتِر عنه وهو لا يَدري أجاء ليأخذَ أم جاء ليعطيَ أو هم أمروه أو هو المتكلِّف لذلك ولعلَّ أهله أيضاً أن يكونوا قد استحقُّوا ذلك منه بالضَّرب والإجاعة وبالسبِّ وأمَّا سماجة الصَّوت فالبغل أسمجُ صوتاً منه كذلك الطاووس على أنَّهم يتشاءَمون به وليس الصَّوت الحسنُ إلاّ لأصناف الحمام من القَماريِّ والدَّبَاسيّ وأصناف الشَّفانين والورَاشين فأمّا الأسد والذئب وابن آوى والخنزير وجميعُ الطير والسباع والبهائِم فكذلك وإنَّما لك أن تذمَّ الكلبَ في الشيء الذي لا يعمّ والناس يقولون : ليس في الناس شيءٌ أقلَّ من ثلاثةِ أصناف : البيان الحسن والصوت الحسنِ والصورة الحسنة ثمّ النَّاس بعدُ مختلِطون ممتزجون وربّما كان مِنَ الناسِ بل كثيراً ما تجدُه وصوته أقبحُ من صوت الكلب فلم تخصّون الكلبَ بشيءٍ عامَّةُ الخلق فيه أسوأ حالاً من الكلب وأما عُواؤه مِن وَطْء الدَّابّة وسوءُ جزَعه من ضرب الصِّبيان فجزعُ

الفرَس من وقْع عذَبة السَّوط أسوأ من جزَعه من وقع حافر بِرذون وهو في هذا الموضع للفرس أشدُّ مناسبةً منه للحمار .
على أنَّ الدِّيكَ لا يُذكَر بصبرٍ ولا جزَع .

نوادر ديسيموس اليوناني
قال صاحب الديك : حدَّثني العُتْبي قال : كان في اليونانيِّين ممرور له نوادرُ عجيبة وكان يسمَّى ديسيموس قال : والحكماء يروون له أكثرَ من ثمانين نادرة ما منها إلاّ وهي غُرَّةٌ وعينٌ من عُيون النوادر : فمنها أنَّه كان كلَّما خرجَ من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات للغائط والطهور ألقَى في أصل باب دارِه وفي دُوَّارته حجراً كي لا ينصفق الباب فيحتاج إلى معالجة فتحه وإلى دفعه كلَّما رجَع من حاجته فكان كلَّما رجع لم يجد الحجَر في موضعه ووجد البابَ منصفقاً فكَمن له في بعضِ الأيّام ليرى هذا الذي يصنع ما يصنع فبينا هو في انتظاره إذ أقبَل رجلٌ حتَّى تناوَلَ الحجر فلمَّا نحَّاه عن مكانه انصفق

البابُ فقال له : ما لَك ولهذا الحجر وما لك تأخذه فقال لم أعلمْ أنَّه لك قال : فقد علمتَ أَنَّه ليس لك .
قال : وقال بعضهم : ما بال ديسيموس يعلِّم الناسَ الشِّعرَ ولا يقول الشعر قال : ديسيموس )
كالمِسَنِّ الذي يشحَذ ولا يقطع .
ورآه رجلٌ يأكل في السُّوق فقال : أتأكل في السوق فقال : إذا جاع ديسيموس في السُّوق أكلَ من السوق .
قال : وأسمعه رجلٌ كلاماً غليظاً وسطَا عليه وفحش في القول وتحلَّم عنه فلم يجبه فقيل له : ما منعك من مكافأته وهو لك مُعرِض قال : أرأيتَ لو رمحَك حِمارٌ أكنتَ ترمحُه قال : لا قال : فإن ينبح عليك كلب تنبح عليه قال : لا قال : فإنَّ السفيهَ إمّا أن يكون حماراً وإما أن

أمثال أخرى في الكلب
وقال صاحب الديك : يقال للسفيه إنَّما هو كلب وإنَّما أنتَ كلبٌ نَبَّاح وما زال ينبَح علينا منذُ اليوم وكلبُ مَن هذا ويا كلب ابن الكلب وأخسَأْ كلباً .
وقالوا في المثل : احتاج إلى الصُّوف مَنْ جَزَّ كلبَه و أجِعْ كلبَك يتبَعْك وأحبُّ شيء إلى الكلبِ خانقهُ وسمِّن كلبَك يأكلك

وأجوَع من كَلْبة حَومَل وكالكلب يربِض في الآرِيِّ فلا هو يأكل ولا يدَعَ الدابَّة تعتلف .
براقش وفي أمثالهم في الشؤم : على أهلها دلَّتْ بَراقِشُ .
وبَراقش : كلبة نبحتْ على جيشٍ مرُّوا في جوف الليل وهم لا يشعُرون بموضع الحيِّ فاستدلُّوا عليهم بنُباح الكلبة فاستباحوهم .
الجنّ والحنّ وقال صاحب الدِّيك : روى ِإسماعيلُ المكِي عن أبي عَطاءٍ العُطارِدي قال : سمعت ابن عبَّاس يقول : السُّود من الكلاب الجِنّ والبُقْع منها الحنّ ويقال إنَّ الحنَّ ضَعفة الجنِّ كما أنَّ الجنيَّ إذا كفر وظلَم وتعدَّى وأفسد قيل شيطان وإن قوي على البنيان والحمل الثقيل وعلى استراق السمع قيل مارد فإنْ زاد فهو عِفريت فإن زاد فهو عبقريّ كما أنّ الرجلَ إذا قاتل في الحرب وأقدم ولم يحجم فهو الشجاع فإن زاد فهو البطل فإِن زاد قالوا : بُهْمة فإن زاد قالوا : أَلْيَس فهذا قول أبي عبيدة .
وبعض النَّاس يزعم أنَّ الحِنّ والجنَّ صِنفان مختلفان وذهبوا إلى قول الأعرابي حينَ أتى بعضَ الملوك ليكتتب في الزَّمْنَى فقال في ذلك : ) ( إن تكتبوا الزَّمْنَى فإنِّي لَزَمِنْ ** مِن ظاهر الدَّاءِ وداءٍ مُسَتَكِنّ )

( أبيتُ أهوِي في شياطينَ تُرِنّ ** مختلفِ نجِارُهمْ حِنٌّ وجنّ ) ما ورد من الحديث والخبر في قتل الكلاب وعن أبي عنبسة عن أبي الزبير عن جابر : قال : أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب حتى أن المرأة لتقدم بكلبها من البادية فنقتله ثم نهانا عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النكتتين على عينيه فإنه شيطان .
وعن أبي الزبير عن جابر قال : أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فكنا نقتلها كلها حتى قال : إنها أمة من الأمم فاقتلوا البهيم الأسود ذا النكتتين على عينيه فإِنه شيطان وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن ابن عمر ونافع عن أبي رافع قال : أمرَني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنْ أقتلَ الكلاب فكُنَّا نقتُلُها فانتهيت إلى ظاهر بني عامر وإذا عجوزٌ مسكينة معها كلب وليس قربها إنسان فقالت : ارجعْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنَّ هذا الكلبَ يُؤنِسني وليس قربي أحد فرجع إليه فأخبره فأمر أن يقتلَ كلبها فقتله وقال في حديث آخر : إنَّه لمَّا فرَغ من قتل كلاب المدينة وقتلِ كلْب المرأة قال : الآنَ استرحْت قالوا : فقد صحَّ الخبرُ عن قتل جميع الكلاب ثمَّ صحَّ الخبر بنسخ بعضه وقتل الأسود البهيم منها مع الخبر بأنَّها من الجنّ والحنّ وأنَّ أمَّتين مُسِختا وهما الحيَّات والكلاب .


ثم روى الأشعث عن الحسن قال : ما خطَب عثمانُ خُطبةً إلاّ أمرَ بقتْل الكلاب وذبح الحمام وعن الحسن قال : سمعت عثمانَ بن عفَّانَ يقول : اقتلوا الكلابَ واذبحوا الحمام .
قال : وقال عطاءٌ : في قتل كَلْب الصيد إذا كان صائداً أربعُون درهماً وفي كلب الزرع شاة .

ما ورد من الحديث والخبر في دية الكلب
والحسن بن عمارة عن يعلى بن عطاءٍ عن إسماعيل بن حسان عن عبد اللّه بن عمر قال : قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كلب الصَّيدِ بأربعين درهماً وفي كلب الغنم بشاة وفي كلب الزرع بفَرَق من طعام وفي كلب الدار بفَرَق من تراب حقَّ على القاتل أن يؤدِّيَه وحُقَّ على صاحب الدار أن يقبِضه .
قالوا : والتراب لا يكون عقلاً إذا كان في مقدار الفَرَق .
وفي قوله : وحُقَّ على صاحب الدار أن يقبضه دليلٌ على أنّه عقوبة على اتخاذه وأن ذلك على )
التصغير لأمر الكلب وتحقيره وعلى وجه الإرغام لمالكه ولو كان عوضاً أو ثواباً أو كان في طريق الأموال المحروص عليها لما أكْرِه على قبضه أحد ولكان العفو أفضل .

ما ورد من الحديث والخبر في شأن الكلب
قال : وسئل عن الكلب يكون في الدار وفي الدار مَن هو له كاره .
ابن أبي عَروبة عن قَتادة عن أبي الحكم : أنّ ابنَ عمر سئل عن ذلك فقال : المأثَمُ على ربِّ الدَّار الذي يملكها .
وعن ابن عُمر قال : من اتَّخذ كلباً ليس بكلب زَرْع ولا ضَرْع ولا صَيد نَقَص من أجره كلَّ يوم قيراط فقال رجل : فإن اتخذه رجلٌ وهو كاره قال : إنَّما إثمه على صاحب الدار .
وصَدَقة بن طَيْسَلة المازنيّ قال : سألت الحسن قلت : إنَّ دورَنا في الجبّان وهي مُعْوِرة وليس وعن ابن أبي أُنيسة عن سالم عن أبيه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من اقتَنَى كلباً إلاَّ كلب صيدٍ أو كلب ماشية نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان .
وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : من اقتنى كلباً فإنَّه ينقص من عمله كلَّ يوم قيراط .
ويونس عن أبيه عن إسحاق قال : حدثنا هُنَيدَةُ بن خالد الخزاعي قال : انطلقت مع نفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نعودُ رجلاً من

الأنصار فلمَّا انتَهوا إلى باب الدار ثارت أكلُبٌ في وجوه القوم فقال بعضهم لبعض : ما يُبقي هؤلاءِ من عمل فلانٍ شيئاً كلُّ كلبٍ منها ينقُص قيراطاً في كلِّ يومٍ .
هشام بن حسان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اتخذ كلباً ليسَ بكلبِ صيدٍ ولا زرْع ولا ضَرْع فإنه ينقُص من أجره كلَّ يوم قيراطٌ والقيراطُ مثلُ جبل أحُد .
يونس عن أبي إسحاق عن مجاهد قال : أقبل عبد اللّه بن عمرو بن العاص حتَّى نزل ناحية مكَّة وكانت امرأةُ عمٍّ له تهاديه فلما كانت ذاتَ يوم قالت له : لو أرسلتَ إليَّ الغنَم فاستأنستُ برعائها وكلابها فقد نزلتُ قاصية فقال : لولا كلابُها لفعلتُ إنَّ الملائكةَ لا تدخلُ داراً فيها كلب .
الثوريُّ عن سماك بن حرب أنَّ ابنَ عباس قال على مِنبر البصرة : إنَّ الكلاب من الحِنّ وإنّ الحِنّ من ضَعفة الجن فإذا غشيكم منها شيءٌ فألقُوا إليها شيئاً أو اطردوه فإنَّ لها أَنفُسَ سوء )
وهُشيم عن المغيرة عن إبراهيم قالوا : لم يكونوا ينهَوننا عن شيء من اللعب ونحنُ غلمان إلاَّ الكلاب .
قال صاحب الديك : روى إبراهيم بن أبي يحيى الأسلميّ عن محمّد بن المنكدِر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال : تقامر رجُلان على عهد

عُمر بديكين فأمر عمر بالديكة أن تُقْتَل فأتاه رجلٌ من الأنصار فقال : أمرتَ بقتل أمَّةٍ من الأمم تسبِّح اللّه تعالى فأمر بتركها .
وعن قَتادة أنّ أبا موسى قال : لا تتَّخذوا الدَّجاج في الدُّور فتكونوا أهل قرية وقد سمعتم ما قال اللّه تعالى في أهل القرى : أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ .
وهذا عندي من أبي موسى ليس على ما يظنُّه الناس لأنّ تأويله هذا ليس على وجه ولكنَّه كرِه للفُرسان ورجالِ الحرب اتخاذَ ما يتّخذه الفلاَّح وأصحابُ التعيُّش مع حاجته يومئذ إلى تفرُّغِهم لحروب العجم وأخْذهم في تأهُّب الفُرسان وفي دُرْبة رجال الحرب فإن كان ذهب إلى الذي يظهَرُ في اللفظ فهذا تأويلٌ مرغوب عنه .
وقال صاحب الكلب لصاحب الديك : فقد أمر عُمَر بقتل الدِّيَكة ولم يستثنِ منها شيئاً دون شيء ونهى أبو موسى عن اتخاذ الدجاج ولم يستثن منها شيئاً دون شيء والدِّيكةُ تدخل في هذا الاسم واسم الدَّجاج يجمعها جميعاً ورويتم في قتل الحمام مثلَ روايتكم في قتل الكلاب ولم أركم رويتم أنّ الحمام مِسْخ ولا أنَّ بعضَه من الجن وبعضه من الحِن ولا أنَّ أمتين مسختا وكان أحدهما الحمام وزعمتم أنَّ عمر إنَّما أمر بقتل الدِّيَكة حين كره الهِراش بها والقمار بها فلعلَّ كلابَ المدينة في تلك الأيَّام كثُر فيها العَقُور وأكثر أهلُها من الهِراش بها والقمار فيها وقد علمتم أنّ ولاة المدينة ربَّما دَمَروا على صاحب الحمام إذا خيف قِبَلَه

القِمار وظنُّوا أنه الشَّرَف وذكروا عنه الرَّمْيَ بالبُندق وخديعةَ أولادهم بالفراخ فما بالكم لم تُخرِّجوا للكلابِ من التأويل والعذْر مثلَ الذي خرَّجتم للحمام والديكة .
المسخ من الحيوان ورويتم في الجرَّيِّ والضِّباب أنهما كانتا أمَّتين مُسختا وروى بعضهم في الإرْبيانة أنَّها كانت خيّاطة تسرِق السُّلوك وأنَّها مُسِخت وترك عليها بعضُ خيوطها لتكون علامةً لها ودليلاً على جِنْس سرقتها ورويتم في الفأرة أنَّها كانت طحّانة وفي سُهيل أنّه كان عشّاراً باليمن وفي الحيَّة أنّها كانت في صورة جَمَل وأنَّ اللّه تعالى عاقبها حتى لاطَها بالأرض وقسم عقابَها على عشرة )
أقسام حين احتملت دخولَ إِبليس في جوفها حتَّى وَسوَس إلى آدم مِنْ فِيها وقلتم في الوَزَغة وفي الحكأة ما قلتم وزعمتم أنّ الإبل خُلِقَت من أعنان الشياطين وتأوّلتم في ذلك أقبحَ التأويل وزعمتم أنَّ الكلابَ أمّةٌ من الجنّ مُسخت والذئبُ أحقُّ بأن يكون شيطاناً من الكلب لأنَّه وحشيٌّ وصاحبُ قِفار وبه يُضرَب

المثل في التعدِّي والكلب ألوفٌ وصاحبُ ديار وبه يُضرَبُ المثل والذئب خَتُور غدّار والكلب وفيٌّ مناصح وقد أقام الناسُ في الدّى ار الكلابَ مُقامَ السَّنانير للفأر والذئب مضرَّةٌ كلُّه والكلبُ منافعُه فاضلةٌ على مضارِّه بل هي غالبة عليها وغامرةٌ لها وهذه صفة جميعِ هذه الأشياء النافعة .
والناس لم يُطبِقوا على اتِّخاذها عبَثاً ولا جهْلاً والقضاة والفقهاءُ والعُبَّاد والوُلاة والنُّسَّاك الذين يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر والمحتَسِبة وأصحاب التكلُّف والتسليم جميعاً لم يطبقوا على ترك النَّكِير على ما يشاهدونه منها في دورِ مَنْ لا يعصيهم ولا يمتنِع عليهمْ إلاّ وقد عَلِموا أنَّه قدْ كان لقتلِ الكلابِ بأعيانها في ذلك الدَّهر معنى وإلاَّ فالنَّاسُ في جميع أقطارِ الأرض لا يُجمِعون على مسالمةِ أصحاب المعاصي الذين قد خلعوا عُذُرَهم وأبرزوا صَفحتَهم بل ما ترى خصماً يطعن على شاهدٍ عندَ قاض بأنَّ في داره كلباً ولا تَرَى حَكَما يردُّ بذلك شهادة بل لو كان اتِّخاذُ الكلاب مأموراً به لَما كان إلاّ كذلك .
ولو أنَّكم حملتم حكم جميع الهَداهد على حكم هدهد سليمان وجميعَ الغربان على حكم غُراب نوح وجميعَ الحمام على حكم حمامة السفينة وجميعَ الذئاب على حكم ذئب أُهبان بن أوس وجميعَ الحميرِ على حكم حمار عُزَير لكان ذلك حكماً مردوداً .
أمور حدثت في دهر الأنبياء

وقد نعرِض لخصائص الأمور أسبابٌ في دهر الأنبياءِ ونزول الوحي لا يعرض مثلُها في غير زمانهم : قد كان جبريل عليه السلام يمشي في الأرض على صورة دِحيةَ الكَلبيّ وكان إبليس يتراءى في السِّكك في صورة سُرَاقة المُدْلجِي وظهر في صورة الشيخ النَّجْدي ومثل هذا كثير .
ما يسمى شيطاناً وليس به فإنْ زعمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نظَرَ إلى رجلٍ يتبع حماماً طيَّاراً فقال : شيطانٌ يتبع شَيطاناً فخبِّرونا عمن يتخذ الحمام من بين جميع سكان الآفاق ونازلةِ البُلدان من الحرميِّين والبصريِّين ومن بني هاشم إلى من دونَهم أتزعمون أنَّهم شياطينُ على الحقيقة وأنَّهم من نجل )
الشياطين أو تزعمون أنَّهم كانوا إنساً فمُسِخوا بعدُ جِنّاً أم يكون قوله لذلك الرجل شيطان على مثل قوله شَيَاطِينَ الجِنِّ وَالإنْس وعلى قول عمر : لأنَزِعنَّ شيطانَه من نُعرتِه وعلى قول منظور بن رواحة : ( فلما أتاني ما تقولُ تَرَقَّصَتْ ** شياطينُ رأْسِي وانتَشَيْنَ من الخَمْرِ )

وقد قال مَرَّةً أبو الوجيه العُكْلي : وكان ذلك حين ركبني شيطاني قيل له : وأيَّ الشياطينِ تعني قال : الغضب .
والعرب تسمِّي كلَّ حيّةٍ شيطاناً وأنشد الأصمعي : ( تُلاعب مثنى حَضْرَميٍّ كأنَّهُ ** تعمُّج شَيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قَفْرِ ) وقالت العرب : ما هو إلاّ شيطان الحَمَاطة ويقولون : ما هو إلاّ شيطان يريدون القبح وما هو إلاّ شيطان يريدون الفِطنة وشدَّة العارضة .
وروي عن بعض الأعراب في وقعة كانت : واللّه ما قتلْنا إلاَّ شَيطَانَ بَرِصاً لأنَّ الرجل الذي قاتلهم كان اسمه شيطان وكان به برص .
وفي بني سعد بنو شيطان قال طفيلٌ الغنوي : وشيطان إذ يدعوهم ويُثَوِّب وقال ابن مَيّادة :

( فلما أتاني ما تَقُول محاربٌ ** تغنَّت شياطيني وجُنَّ جُنونُها ) وقال الراجز : ( إنِّي وإن كنتُ حديثَ السِّنِّ ** وكانَ في العين نُبوٌّ عنِّي ) وقال أبو النَّجم : ( إنِّي وكلَّ شاعرٍ من البَشَرْ ** شَيطانُه أُنثى وشَيطانِي ذَكَرْ ) وهذا كلُّه منهم على وجه المثل وعلى قول منظور بن رَواحَة : ( أتاني وأهلي بالدِّماخ فغَمْرَةٍ ** مسبُّ عُويفِ اللؤم حيَّ بني بَدْرِ ) ( فلما أتاني ما يقولُ ترقَّصتْ ** شياطينُ رأسي وانتشَيْنَ من الخَمْر ) خرافة العذرى وقد رويتم عن عبد اللّه بن فايد بإسنادٍ له يرفعه قال : خرافة رجل من بَني عذرة استهوته )
الشياطين فتحدَّث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً بحديث فقالت امرأةٌ من نسائِه : هذا من حديثِ خُرافة قال : لا وَخُرَافَة حقّ .
حديث عمر مع الذي استهوته الجن ورويتم أنَّ شريك بن خُباسة دخَلَ الجنَّةَ وخرجَ منها ومعه ورقةٌ من وَرَقِها وأنَّ عمر سأل الرجل المفقود الذي استهوته الجنُّ فقال : ما كان طعامهم قال : الفول والرِّمَّة وسأل عن شرابهم فقال : الجدَف وقال الأعشى : ( وإني ومَا كلّفتموني وربِّكم ** لأعلمُ من أمسَى أعقَّ وأحْوَبا )

من خنقته الجن ثم عود إلى الحوار وزعَمتم أنَّ الجنَّ خنقت حرْبَ بن أمية وخنقت مِرداسَ بن أبي عامر وخنقت الغَريض المغنِّي وأنَّها قتلت سعد بن عبادة واستهوت عمرو بن عدي واستهوت عمارة بن الوليد فأنتم أمْلياءُ بالخرافات أقوياءُ على ردِّ الصحيح وتصحيح السقيم وردِّ تأويل الحديث المشهورِ إلى أهوائكم وقد عارضْناكم وقابلناكم وقارضْناكم .
وقالوا : في الحديث أنّ من اقتنى كلباً ليسَ بكلْب زرْعٍ ولا ضرْع ولا قَنص فقد أَثِم فهاتوا شيئاً من جميع الحيوان يصلح للزرْع والضَّرْع والقنص وبعد فهل اتخذوا كلبَ الضَّرْع إلاّ ليحرسَ الماشيةَ وأولادَها من السباع وهل عند الكلبِ عند طروق الأسد والنمر والذئاب وجميع ما يقتات اللُّحمانَ من رؤساء السباع إلاَّ صياحَه ونباحَه وإنذاره ودلالته وأنْ يشغلَها بعضَ الشَّغْل ويهجهج بها بعض الهجهجة إلى أن يلحق بها من يحميها ويتوافى إليها من يذود عنها إذ ليس في هذا القياس أنّا متى وجدنا دهراً تكثُر فيه اللصوص ويفشو فيه السُّرَّاق وتظهر فيه النُّقوب ويشيع فيه التسلُّق ممَّن إذا أفضى إلى منزلِ القوم لم يرضَ إلا بالحريبة ليس دونها شيء أو يأتي على الأنفس وهو لا يصل إلى ما يريدُ حتى يمرَّ على النساء مكشَّفات

ومَن عسى إذا أخذ المرأةَ أخذَ يدٍ ألاَّ يرضى أن يتوعَّد بذبح الأولاد وأن يُتَّقى بالمال حتَّى يذبح ومن عسى إن تمكّن شيئاً أو أمنَ قليلاً أن يركب الحُرَم بالسَّوءَة العظمى وبالتي لا شَوَى لها فهذا الحال أحقُّ بالحِراسة من تلك الأحوال .
وبعد فلِمَ صار نساءُ الحرمَين يتزاوَرْن ليلاً ونساء المصرَين يتزاورن نهاراً ونساء الحرمين لا يرين نهاراً ونساء المصرَين لا يُريْنَ ليلاً إلاَّ للمكابرات ولمكانِ كثرةِ من يستقفي ويتحوّب للنقب )
والتسلُّق وإذا كان الأمر كذلك فأيُّ الأمورِ أحقُّ بالتحصين والحياطة وأيُّهما أشبه بالتغرير والإضاعة : اتخاذ الكلاب التي لا تنام عند نوم من قد دأب نهاره أو ترك اتخاذها ويقَظة السُّرَّاق على قدر المسروقين .
وعلى أنّا لو حُلنا بين حَرس الأسواق وما تشتمل عليه من حرائب الناس وبين اتِّخاذ الكلاب لامتنعوا من ضَمان الحراسة ولامتنع كلُّ محروس من إعطائهم تلك الأجرة ولوجَد اللصوصُ ذلك من أعظم الغُنْم وأجود الفُرص أو ما تعلمون أنَّ هذا الحريم وهذه الحرمات وهذه العقائل من الأموال أحقُّ بالمنْع والحِراسة والدَّفع عنها بكلِّ حيلة منْ حفظ الغنم وحريمِ الراعي وحُرمة الأجيرِ وبعد فإنَّ الذئابَ لا تجتمع على قطيعٍ واحد والذي يُخاف من الذئب السَّلَّة والخطفة والاستلابُ والاختلاس والأموالُ التي في حوانيت

التجار وفي منازل أهلِ اليسار يأتيها من العدد والعُدّة ومن نُجب أصحاب النجدة من يحتملها بحذافيرها مع ثقل وزنها وعظم حجمها ثمَّ يجالدون دون ذلك بسيوف الهند وبالأذرع الطوال وهم من بين جميع الخليقة لَولاَ أنّهم قد أحسُّوا من أنفسهم الجراءَة وثباتَ العزيمة بما ليس من غيرهم لكانوا كغيرهم ولولا أنَّ قلوبَهم أشدُّ من قلوب الأسْد لما خَرَجوا على أنّ جميع الخلق يطالبونهم وعلى أنّ السلطانَ لم يُوَلَّ إلاّ لمكانهم والكلابَ لم تُتَّخَذْ إلا لِلإنْذَارِ بهم وعلى أنَّهم إذا أُخذوا ماتوا كراماً .
ولعلَّ المدينةَ قد كانت في ذلك الدهر مأموناً عليها من أهل الفساد وكان أكثرُ كلابها عَقوراً وأكثرُ فِتيانها من بين مُهارشٍ أو مقامرٍ والكلبُ العَقورُ والكلْب الكَلِبُ أشدُّ مضرَّةً من الذئب المأمورِ بقتله .
وقد يعرض للكلاب الكلَب والجنون لأُمور : منها أن تأكلَ لحوم الناس ومنها كالجنون الذي يعرِض لسائر الحيوان .
قتل العامة للوزغ وجُهَّالُ النَّاسِ اليوم يقتلون الوَزَغ على أنَّ آباءَها وأمهاتها كانت تنفُخ على نار إبراهيم وتنقُل إليها الحطب فأحسَب أنَّ آباءها

وأمَّهاتِها قد كنَّ يعرفن فصْل ما بين النبيِّ والمتنبِّي وأنَّهن اعتقدْن عداوة إبراهيم على تقصيرٍ في أصل النظر أو عن معاندةٍ بعد الاستبانة حتَّى فعلنَ ذلك كيف جاز لنا أن تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى إلاَّ أن تدَّعوا أنَّ هذه التي نقتلها هي تلك )
الجاحدةُ للنبوَّة والكافرةُ بالربوبيّة وأنَّها لا تتناكح ولا تتوالد .
وقد يستقيم في بعض الأمرِ أن تقتلَ أكثر هذه الأجناس إمَّا من طريق المحنة والتعبُّد وإمّا إذ كان اللّه عزّ وجلّ قد قضى على جماعتها الموتَ أن يجريَ ذلك المجرى على أيدي الناس كما أجرى موت جميع الناس على يد ملك واحد وهو ملك الموت .
وبعد فلعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذا القول إن كان قاله على الحكاية لأقاويل قوم ولعلَّ ذلك كان على معنًى كان يومئذٍ معلوماً فتَرَك النَّاسُ العِلَّة ورووا الخبر سالماً من العِلل مجرَّداً غير مضمّن .
ولعلَّ مَن سمع هذا الحديث شهِد آخرَ الكلام ولم يشهد أوَّلَه ولعلَّه عليه الصلاة والسلام قصَد بهذا الكلام إلى ناسٍ من أصحابه قد كان دار بينهم وبينه فيه شيء وكلُّ ذلك ممكنٌ سائغٌ غير مستنكَر ولا مدفوع .


وقد رويتم في الفواسق ما قد رويتم في الحيَّة والحدأة والعقرب والفأرة والغراب ورويتم في الكلب العَقور وكيف يُقتلْنَ في الحِل والحرَم فإنْ كنتم فُقهاءَ فقد علمتم أنَّ تسميةَ الغراب بالفِسق والفأرة بالفُويسِقة أنّ ذلك ليس من شكل تسمية الفاسق ولا من شكل تسمية وقد قالوا : ما فجرها إِلاَّ فاجر ولم يجعلوا الفاجر اسماً له لا يفارقه وقد يقال للفاسق من الرجال : خبيث وقد قال صلى الله عليه وسلم : من أكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا وهو على غير قوله عزّ وجلَّ الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وقد قال بعضُ الرُّجَّاز وذكر ذئباً : ( أما أتاكَ عَنِّيَ الحَدِيثُ ** إذْ أنَا بالغَائِطِ أَسْتَغِيثُ ) ( والذئبُ وَسْطَ غَنَمِي يَعِيثُ ** وصِحْتُ بِالْغَائِطِ يا خَبِيثُ ) وهذا الباب كثير وليس هذا موضعه وقد ذكرناه في كتاب الاسم والحكم .
وقد يشبه الاسمُ الاسمَ في صورةِ تقطيع الصوت وفي الخطِّ في القرطاس وإن اختلفت أماكنُه ودلائله فإذا كان كذلك فإنَّما يعرف فضلُه بالمتكلِّمين به وبالحالات والمقالات وبالذين عُنُوا بالكلام وهذه جملةٌ وتفسيرها يطول .


القتل والقصاص وقالوا : قد أُمِرْنا بقتل الحيَّة والعقرب والذئب والأسد على معْنًى ينتظم معنَيْين : أحدهما الامتحان والتعبُّد بفكر القلب وعمل الجارحة لا على وجه الانتقام والعقوبة وأُمرنا بضرب )
الباغي بالسيف إذا كانت العَصَى لا تُغني فيه على جهة الدَّفْع وعلى جهة العقاب ولم نُؤمَرْ بالقصد إلى قتله وإنَّما الغاية في دفع بأسِه عنا فإن أتى إلى ذلك المقدار عليه كان كسارقٍ ماتَ من قطع يده وقاذفٍ ماتَ عن جَلد ظهره وقد أُمِرْنا بالقصد إلى قتل الحيَّات والعقارب وإن لم تعرض لنا في ذلك الوقت لأنَّ جنسَها الجنسُ المتلف متَى همَّ بذلك وليس لنا أن نضربَ الباغيَ بالسَّيف إلاَّ وهو مقبلٌ غيرُ مدبر ولنا أن نقتل الحيَّة مقبِلةً ومدبرة كما يُقتل الكافرُ مقبِلاً ومدبراً إلاَّ أنَّ قتلَ الكافر يجمع الامتحان والعقوبة وليس في قتل الحية إلاّ الامتحان وقد كان يجوز أن تمتَحَن بحبسها والاحتيالِ لمنعها دونَ قتلها وإذا ولَّى الباغِي من غير أن يكون يريد الرجوع إلى فئة فحكمه الأسر والحبس أبداً إلى أن يُؤْنَسَ منه النُّزوعُ وسبيل الأحناشِ والسِّباع وذواتِ السموم من الهمَج والحشرات القتلُ مقبلةً ومدبرة وقد أبيح لنا قتلُ ضروبٍ من الحيوان عندما يبلُغ

من جناياتها علينا الخدش فضلاً من الجرح والقتل كالبعوض والنمل والبراغيث والقمل .
والبعيرُ قتلهُ فسادٌ فإن صال على الناس كان قتلُه صلاحاً والإنْسان قتله حرام فإن خيفَ منه كان قتلُه حلالاً .

طائفة من المسائل
والحديث عن مسخ الضَّبِّ والجِرِّيِّ وعن مسخ الكلاب والحُكَأَةِ وأنَّ الحمامَ شيطان من جنس المُزاح الذي كنَّا كتبنا به إلى بعض إخواننا ممَّن يدَّعي علمَ كلِّ شيء فجعلنا هذه الخرافاتِ وهذه الفطنَ الصغارَ من باب المسائل .
فقلنا له : ما الشِّنِقْناقُ والشَّيْصَبانُ وتنكوير ودركاذاب ومَن قاتل امرأة ابنِ مقبل ومن خانق الغَريض ومن هاتف سعد

وخبِّرنا عن بني أُقيش وعن بني لبنى ومَن زَوْجُها وعن بني غَزْوان ومَن امرأته وعن سملقة وزَوبعة والميدعان وعن النقار ذي الرقبة وعن آصف ومن منهم أشار بأصفر سليم وعن أطيقس اسم كلب أصحاب الكهف وكيف صارت الكلابُ لا تنبح من سمَّاه وأين بلغ كتَابُ شَرطهم وكيف حدَّثوا عن ابن عباسٍ في الفأر والقرد والخنزير والفيل والأرنب والعنكبوت والجِرِّيِّ أنَّهنَّ كلَّهنّ مِسخ وكيف خُصَّت هذه بالمِسخ وهل يحلُّ لنا أن نُصدِّق بهذا الحديث عن ابن عبَّاس وكيف صارت الظباءُ ماشيةَ الجنّ وكيف صارت الغِيلان تُغيِّر كلَّ شيء إلاَّ حوافرَها ولم ماتت من ضربةٍ وعاشتْ من ضربتين ولم )
صارت الأرانب والكِلاب والنَّعامُ مراكبَ الغيلان ولم صارت الرواقيد مطايا السَّواحر وبأي شيء زوَّج أهلُ السّعلاة ابن يربوع وما فرق ما بينه وبين عبد اللّه بن هلال وما فعلت الفتاة التي كانت سميت بصبر على يد حرمي

وأبي منصور ولم غضِب من ذلك المذهب ولم مضى على وجهه شفشف وما الفرق بين الغِيلان والسّعالي وبين شيطان الخضراء وشيطان الحَماطة ولم عُلق السمك المالح بأذنابه والطريّ بآذانه وما بالُ الفراخِ تُحمَل بأجنحتها والفراريج بأرجلها وما بال كلِّ شيء أصلُ لسانه ممّا يلي الحلق وطرفه ممَّا يلي الهواء إلاَّ لسان الفيل ولم قالت الهند : لولا أنَّ لسانه مقلوب لتكلَّم ولم صار كلُّ ماضغٍ وآكلٍ يُحرِّك فكَّه الأسفل إلا التمساح فإنه يحرِّك فكَّه الأعلى ولم صار لأجفان الإنسان الأشفار وليس ذلك للدواب إلاّ في الأجفان العالية وما بالُ عين الجَرادة وعين الأفعى لا تدوران وما بيضة العُقْر وما بيضة الديك ولم امتنع بيض الأنوق وهل يكون الأبلق العقوق وما بال لسانِ سمكِ البحر عديماً وما بال الغريقِ من الرِّجال يطفو على قفاه ومن النساء على وجهه ولم صار القتيل إذا قُتل يسقط على وجهه ثم يقلبه ذكَرُه

وأين تذهب شِقشِقة البعير وغُرمول الحمار والبغْل وكبِدُ الكوسج بالنهار ودَمُ الميت ولم انتصب خَلْق الإنسان من بين سائر الحيوان وخبِّرني عن الضفادع لم صارت تنقُّ بالليل وإذا أُوقدت النارُ أمسَكَت .
وقالوا : قد عارضناكم بما يجري مجرى الفساد والخُرافة لنردَّكم إلى الاحتجاج بالخبَر الصحيح المخرج للظاهر .
فإن أعجبتك هذه المسائلُ واستطْرَفتَ هذا المذهب فاقرأ رسالتي إلى أحمد ابن عبد الوهاب الكاتب فهي مجموعةٌ هناك .
والكلاب أصنافُ لا يحيط بها إلاّ من أطالَ الكلام وجملة ذلك أنّ ما كان منها للصيد فهي الضِّراء وواحدها ضِروة وهي الجوارح والكواسب ونحن لا نعرفها إلاَّ السَّلُوقيّة وهي من أحرار الكلاب وعتاقها والخِلاسية هجنها ومقاريفها وكلابُ الرعاءِ من زينيّها

وكرديها فهي كرادتها .
وقد تَصيد الكلابُ غيرُ السَّلوقيّة ولكنَّها تقصِّر عن السَّلوقيّة بعيداً وسَلوق من أرض اليمن كان لها حديدٌ جيِّد الطبع كريم العنصر حرُّ الجوهر وقد قال النابغة : ( تَقدُّ السَّلوقيَّ المضاعَفَ نَسْجُه ** وتوقِد بالصُّفَّاح نارَ الحُباحِبِ )
وقال الأصمعيّ : سمعتُ بعضَ الملوك وهو يركض خلفَ كلْبٍ وقد دنا خَطمه من عَجْب ذنب الظبي وهو يقول : إيه فدتكَ نفسي وأنشد لبعض الرجاز : مفدَّيات وملعَّنات قال صاحب الديك : فلمَّا صار الكلبُ عندهم يجمع خصالَ اللؤم والنَّذالة والحرصِ والشَّره والبَذاء والتسرُّع وأشباه ذلك صاروا يشتقُّون من اسمه لمن هجَوه بهذه الخصال وقال بشَّار : ( واستَغْنِ بالوجَبات عن ذَهبٍ ** لم يَبقَ قبلَك لامرئٍ ذَهبُهْ )

ما اشتق من اسم الكلب
قال صاحب الكلب : لَما اشتقُّوا من اسمه للأشياء المحمودة أكثر قال عامر بن الطفيل : ( ومدجَّجٍ يسعَى بشِكَّتِه ** محمرَّةٍ عيناهُ كالكلْبِ ) ومن ولد ربيعة بن نزار كلب بن ربيعة وكلاب بن ربيعة ومكالب بن ربيعة ومكلبة بنو ربيعة بن نزار وفيهم من السباع أسَد وضُبيعة وذئب وذؤيب وهم خمسة عشر رجلاً ثمانية من جميع السباع ومن الثمانية أربعة مشتقَّة من اسم الكلب ومن هذا الباب كليب بن يربوع وكلاب بن ربيعة وكلب بن وَبرة ومنه بنو الكلبة قال الشاعر : ( سَيكْفِيك من ابني نزارٍ لراغبٍ ** بنو الكلبةِ الشمُّ الطوالُ الأشاجعِ ) والكلبة لقب ميَّة بنت عِلاج بن شَحْمة العنبريّ وبنوها بنو الكلبة الذين سمعتَ بهم تزوَّجها خُزيمة بن النعمان من بني ضُبَيعة بن ربيعة بن نزار فهي أمُّهم وفيها يقول شُبَيل بن عَزْرة الضُّبَعي

صاحب الغريب وكان شِيعيّاً من الغالية فصار خارجيًّا من الصُّفرية : ( بنو كلبةٍ هرَّارة وأبُوهُمُ ** خُزَيمةُ عبدٌ خاملُ الأصل أوكَسُ ) وفي مَيَّة الكلبة يقول أبوها وهو عِلاج بن شحمة : ( دعتْها رجالٌ من ضُبَيعة كَلْبةً ** وما كان يُشكى في المحول جِوارُها ) ومما اشتقَّ له من اسم الكلب من القُرى والبُلدان والناس وغير ذلك قولهم في الوقْعة التي كانت بإرمِ الكلبة ومن ذلك قولهم : حين نزلنا من السَّراة صرنا إلى نجد الكلبة .
وكان سبب خروج مالك بن فَهم بن غَنْم بن دَوس إلى أزد شنوءة من السراة أنّ بني أخته قتلوا كلبةً لجاره وكانوا أعَدَّ منه فغضب ومضى فسمِّي ذلك النجد الذي هَبط منه نَجْد الكَلْبة . )
وبطَسُّوج بادُوريا نهر يقال له : نهر الكلبة ويقولون : كان ذلك عند طلوع كوكب الكلب ومن ذلك قولهم :

عبَّاد بن أنْف الكلب ومن ذلك أبو عُمَرَ الكلبُ الجَرميّ النحوي وكان رجلا من العِلية عالماً عَروضيّاً نحويّا فرضيّاً وعَلُّويه كلب المطبخ وكان أشربَ الناس للنبيذ وقد راهنوا بينه وبين محمَّد بن عليّ .
والكلب : كلب الماء وكلب الرحى والضبة التي يقال لها الكلب وكذلك الكُلْبة والكَلْبتان والكُلاّب والكَلُّوب .
وقال راشد بن شِهابٍ في ذلك المعنى : ( أُمكِّن كُلاَّب القنا من ثغورها ** وأخضِب ما يبدو منَ استاهها بِدَمّ ) وقال : وقال الراجز : ( ما زالَ مذْ كَان غُلاماً يستتر ** له على العَيرِ إكافٌ وثَفَرْ ) والكَلْبَتَانِ والعَلاةُ والوَتَرْ وقال أشهب بن رُميلة وكان أوَّلَ من رمى بني مجاشع بأنَّهم قُيون : ( يا عجبَا هل يركبُ القَيْنُ الفَرَسْ ** وعَرَقُ القَينِ على الخَيلِ نَجَسْ ) ( وإنَّما أداته إذا جَلَسْ ** الكلبتان والعَلاةُ والقَبَسْ ) وكان اسم المزنوق فَرَسِ عامر بن الطفيل : الكلب .


وقد زعمت العلماء أنَّ حرب أيَّام هَراميت إنَّما كان سببه كلب .
قال صاحب الديك : قد قيل للخوارج : كلاب النار وللنوائح : كلاب النار .
وقد قال جَندلُ بن الراعي لأبيه في وقوفِه على جرير : ما لكَ تُطيل الوقوفَ على كلبِ بني كليب وقال زفر بن الحارث : ( يا كلبُ قد كَلِب الزَّمانُ عليكُمُ ** وأصابكمْ مِنَّا عذابٌ مُرسَلُ ) ( إنَّ السَّماوة لا سماوةَ فالحقي ** بمنَابِتِ الزَّيتونِ وابْنِي بَحْدلُ ) وقال حُصين بن القعقاع يرثي عُتيبة بن الحارث : ( بكَرَ النّعيُّ بخيرِ خِنْدِفَ كلِّها ** بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بن شِهابِ ) ( قتلُوا ذُؤَاباً بعد مقتلِ سَبْعةٍ ** فشَفَى الغليلَ ورِيبةَ المرتابِ ) ( يوم الحليس بذي الفَقَارِ كَأَنَّه ** كَلِبٌ بِضرب جماجِم ورِقابِ ) وقال آخر : ( للّه درُّ بني الحَدّاءِ مِنْ نَفَرٍ ** وكلُّ جارٍ على جيرانه كَلِبُ ) ( إذا غَدوْا وعِصِيُّ الطَّلْح أرجُلُهم ** كما تَنَصَّبُ وسَطَ البِيعة الصُّلُبُ ) وإذا كان العُود سريع العُلوق في كلِّ زمانٍ أوْ كلِّ أرض أو

في عامَّة ذلك قالوا : ما هو إلاَّ كلب .
وقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم في وزرِ بن جابر حين خرجَ من عندِه واستأذنه إلى أهله : نعم إن لم تدركْه أمُّ كلْبة يعني الحمَّى .
وممَّا ذكروا به العضو من أعضاء الكلب والكلبة والخلق منهما أو الصفة الواحدة من صفاتهما أو الفعل الواحد من أفعالهما قال رؤبة : لاقيت مَطْلاً كَنُعَاسِ الْكَلْبِ يقول : مطلا مُقَرْمَطاً دائِماً وقال الشاعر في ذلك : قال : هذه أرضٌ ذات غبرة من الجدب لا يبصر القوم فيها النجم الذي يُهتَدى به إلاّ وهو كأنّه عين الكلب لأنّ الكلب أبداً مُغمِضٌ غير مطبق الجفون ولا مفتوحها والهُبّى : الظلمة واحدها هابٍ والجمع هُبًّى مثل غازٍ وغُزًّى والقِباع : التي قَبعت في القتام واحدها قابع كما يقبَع القنفذ وما أشبهه في جُحره وأنشد لابن مقبل : ( ولا أطرقُ الجاراتِ باللَّيل قابعاً ** قُبُوعَ القَرنْبى أخلفته مجاعره ) والقبوع : الاجتماع والتقبُّض والقَرنْبى : دُوَيْبَّة أعظم من الخُنَفساء .

شعر في الهجاء له سبب بالكلب

وقال الآخر في صفة بعض ما يعرض له من العيوب : ( ما ضَرَّ تغلبَ وائلٍ أهجوتَها ** أم بُلتَ حيثُ تناطَحَ البحرانِ ) ( إنّ الأَراقم لا ينالُ قديمَها ** كلبٌ عَوَى متهتِّم الأسْنانِ ) وقال الشاعر في منظور بن زَبَّان : ( لبئس ما خَلَّفَ الآباءُ بعدَهُمُ ** في الأُمَّهاتِ عِجَانُ الكَلْبِ مَنْظورُ ) ومن هذا الضرب قول الأعرابيّ : ( كلاب لعاب الكلب إن ساق هَجْمة ** يعذِّب فيها نفسَه ويُهينُها ) وقال عمرو بن معدِ يكرِب : ( لحا اللّهُ جَرْماً كلَّما ذَرَّ شارِقٌ ** وجوهُ كِلابٍ هارشَتْ فازبأَرَّتِ ) وقال أبو سفيان بن حرب : ( ولو شئتُ نجَّتني كُميتٌ طِمِرَّة ** ولم أجْعَل النَّعماءَ لابن شَعوب ) ( وما زال مُهري مَزْجَرَ الكلبِ مِنهمُ ** لدنْ غدوةً حتّى دنَتْ لِغُروبِ ) وقال عبد الرحمن بن زياد :

( دعَتْه بمسرُوق الحديث وظالعٍ ** من الطرف حتى خاف بَصبصَةَ الكَلبِ ) وقال شريح بن أوس : ( وعيَّرْتَنا تمْرَ العراقِ ونخْلَه ** وزادك أير الكَلْبِ شيَّطه الجمرُ ) وقال آخر وهو يهجو قوماً : ( فجاءا بخرشَاوَي شعيرٍ عَلَيْهما ** كرادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ ) وقال الحارث بن الوليد : ( ذهب الذين إذا رأَوني مُقبِلاً ** هَشُّوا وقالُوا : مَرحباً بالمقْبِلِ ) وقال سَبْرة بن عمرو الفقعسيّ حين ارتشى ضَمْرة النهشلي ونفر عليه عباد بن أنف الكلب الصيداوِيّ فقال سبرة : ( يا ضَمْرُ كيفَ حكمتَ أمُّك هابلٌ ** والحكْمُ مَسؤول به المتعمَّدُ ) ( أحفِظتَ عهداً أم رَعيت أمانةً ** أم هل سمعتَ بمثلها لا يُنشدُ ) ( شَنعاءَ فاقِرة تجلِّلُ نهشلاً ** تَغُور به الرفاق وتُنْجِد ) ( إنَّ الرِّفاقَ أمال حكمك حبُّها ** فلك اللقاء وراكبٌ متجرِّد ) ( فضح العشيرةَ واستمرَّ كأنّه ** كلبٌ يبصبِص للعِظال ويَطْرُدُ ) ( لا شيءَ يعدِلُها ولكنْ دونَها ** خَرْطُ القَتادِ تَهابُ شوكَتَها اليدُ ) ( جوْعانُ يلحَس أَسكَتَا زيفيَّة ** غَلِمٌ يثورُ على البراثن أَعْقَدُ ) وقال مزرِّدُ بن ضرار : ( وإنَّ كناز اللَّحْمِ من بَكَرَاتِكمْ ** تَهِرُّ عليها أمُّكمْ وتُكالِبُ )

( وليتَ الذي ألقى فناؤك رحلَه ** لتَقرِيَه بالتْ عليه الثَّعالبُ ) وهذان البيتان من باب الاشتقاق لا من باب الصفات وذِكْرِ الأعضاء وقال : ( يا سبْرُ يا عبدَ بني كِلابِ ** يا أيرَ كلبٍ مُوثَقٍ بِبابِ ) لا يَعْلِقَنْكمُ ظُفري ونابي وقال الآخر : ( كأنّ بني طُهَيّةَ رهطَ سَلْمَى ** حجارةُ خارئٍ يَرمي الكِلابَا ) وقال صاحب الكلب : ومما اشتقَّ من اسم الكلب في موضع النباهة كليب بن ربيعة هو كليب وائلٍ ويقال إنّه قِيل في رجلين من بني ربيعة ما لم يُقَلْ في أحدٍ من العرب حتَّى ضُرب بهما المثل وهو قولهم : أعزُّ من كليبِ وائل والآخر : لا حرَّ بوادِي عَوْف .
قالوا : وكانت ربيعة إذا انتجعت معه لم توقد ناراً ولم تحوِّضْ حوضاً وكان يحمي الكلأ ولا يُتَكَلَّمُ عندَهُ إلاَّ خفضاً ويجير الصيد ويقول : صيدُ أرضِ كذا وكذا في جواري لا يباح وكان له جرو كلب قد كَتَعه فربما قذَف به في الروضة تعجبُه فيحميها إلى منتهى عوائه ويلْقيه بحريم الحوض فلا يرِدُه بعير حتَّى تصدُرَ إبله .

ما قيل من الشعر في كليب
وفي ذلك يقول معبَد بن شعبة التميمي : ( أظنَّ ضِرارٌ أنَّني سأُطيعه ** وأنِّي سأُعطيه الذي كنتُ أمنعُ ) ( تقدَّم في الظلم المُبيِّن عامِداً ** ذراعاً إذا ما قُدِّمَتْ لك إصبع ) ( كفعلِ كُليبٍ كنت أنبئت أنَّه ** يخلط أكلاءَ المِياه ويَمنَعُ ) ( يُجير على أفناءِ بكرِ بن وائل ** أرانب ضاح والظباءَ فترتَعُ ) وقال دريد بن الصمة : ( لعمرُكَ ما كُليبٌ حين دلّى ** بحبلٍ كلبَه فيمن يميحُ ) ( بأعظَم من بني سفيان بَغْياً ** وكلُّ عدوِّهم منهم مريح ) وقال العبَّاس بن مرداس : ( كما كان يبغيها كليبٌ بظلمِه ** من العزِّ حتى طاح وهو قَتيلُها ) ( على وائل إذْ يُنزِل الكلب مائحاً ** وإذ يُمنَع الأكلاءَ منها حلولُها ) وقال عباس أيضاً لكُليب بن عهمة الظفريّ :

( أكُليبُ إنَّكَ كلَّ يوم ظالم ** والظلمُ أنكدُ وجْهُه ملعونُ ) ( تبغِي بقَومِك ما أرادَ بوائل ** يومَ الغديرِ سَمِيُّكَ المطعونُ ) ( وإخالُ أنَّك سوفَ تَلْقَى مثلَها ** في صَفْحتَيك سنانُه المسنونُ ) وقال النابغة الجعدي : ( رَمَى ضَرْع نابٍ فاستمر بطَعْنةٍ ** كحاشيةِ البُرد اليماني المسهَّم ) وقال قَطِران العبشَميُّ ويقال العبشي : ( ألم تر جسَّاسَ بن مُرَّة لم يَرِدْ ** حِمَى وائلٍ حَتَّى احتداه جَهولُها ) ( أجرَّ كليباً إذ رمى النابَ طعنةً ** جدَت وائلا حتَّى استخفَّت عقولها ) ( بأهون مما قلت إذ أنت سادِرٌ ** وللدَّهرِ والأيَّامِ والٍ يُدِيلها ) وقال رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة : ( نحن أَبَسْنَا تغلبَ ابنةَ وائلٍ ** بقتل كُليبٍ إذ طغى وتَخيَّلا ) ( أبأناه بالنَّابِ التي شقَّ ضَرعها ** فأصبَحَ موطوءَ الحِمى متذلِّلا )
وقال رجل من بني سَدوس : ( وأنت كليبيٌّ لكليبٍ وكلبةٍ ** لها حولَ أطنابِ البيوتِ هَريرُ )

وقال ابن مقبل العَجلاني : ( بكتْ أمُّ بكرٍ إذْ تبدَّدَ رهطُها ** وأَنْ أصبحوا منهم شَريدٌ وهالكُ ) ( وإنَّ كلا حيَّيكِ فيهم بقية ** لوَ أنَّ المنايا حالُها متماسكُ ) ( كلاب وكعب لا يبيت ** أخوهمذليلاً ولا تُعيِي عليه المسالكُ ) ( قد سِرتَ سَيْرَ كُليبٍ في عشيرتِه ** لو كان فيهم غلامٌ مثلُ جسَّاسِ ) ( الطاعن الطعنة النجلاء عانِدُها ** كطرّة البرد أعيا فتقُها الآسي ) هون من تبالة على الحجاج وقال أبو اليقظان في مثل هذا الاشتقاق : كان أوَّل عمل ولِيه الحجّاج بن يوسف تَبالة فلما سار إليها وقرُب منها قال للدليل : أين هي وعلى أيّ سمت هي قال : تسترك عنها هذه الأكمة قال : لا أُراني أميراً إلاَّ على موضعٍ تسترني منه أكمة أهوِنْ بها عليّ وكرَّ راجعاً فقيل في المثل : أهْوَنُ مِنْ تَبَالَةَ عَلَى الحَجاج .
والعامة تقول : لهو أهونُ عَلَيَّ من الاعراب على عركوك .

الحجاج والمنجم حينما حضرته الوفاة
قال : ولمّا حضرت الحجاج الوفاةُ وقد وليَ قبل ذلك ما وليَ وافتتح ما افتتح وقتل من قتل قال للمنجِّم : هل ترى ملكاً يموت قال : نعم ولستَ به أرى ملكاً يموتُ اسمه كُليب وأنتَ اسمُك الحجَّاج قال : فأنا واللّه كليبٌ أمِّي سمَّتْني به وأنا صبيّ فمات وكان استخْلَفَ على الخراج يزيد بن أبي مسلم وعلى الحرب يزيد بن أبي كبشة .
قال : والعرب إنَّما كانت تسمِّي بكلب وحمار وحجر وجُعَل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك وكان الرجل إذا وُلد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل فإِن سمع إنساناً يقول حجراً أو رأى حجراً سمَّى ابنَه به وتفاءل فيه الشدَّة والصلابة والبقاء والصبر وأنَّه يحطم ما لقى وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً أو رأى ذئباً تأوَّل فيه الفطنة والخِبَّ والمكرَ والكسب وإن كان حماراً تأوَّل فيه طولَ العُمر والوقاحة والقوَّة والجَلَد وإن كان كلباً تأوَّل فيه الحِراسة واليَقَظة وبُعْدَ الصوت والكسبَ وغير ذلك . )


ولذلك صوَّر عبيد اللّه بن زياد في دِهليزه كلباً وأسداً وقال : كلب نابح وكبش ناطح وأسد كالح فتطيَّر إلى ذلك فطارت عليه .
وقال آخر : لو كان الرجل منهم إنَّما كان يسمِّي ابنَه بحجر وجبل وكلب وحمار وثور وخنزير وجُعَل على هذا المعنى فهلاَّ سمَّى بِبِرْذون وبغل وعُقاب وأشباه ذلك وهذه الأسماء من لغتهم .
قال الأوّل : إنَّما لم يكن ذلك لأنّه لا يكاد يرى بغلاً وبِرذوناً ولعلَّه لا يكون رآهما قط وإن كانت الأسماء عندهم عتيدة لأمورٍ لعلّهم يحتاجون إليها يوماً ما .
قالوا : فقد كان يسمع بفرس وبعير كما كان يسمع بحمار وثور وقد كان يستقيم أن يشتقَّ منهما اشتقاقات محمودة بل كيف صار ذلك كذلك ونحن نجده يسمِّي بنجم ولا يسمِّي بكوكب إلاَّ أنَّ بعضَهم قد سمَّى بذلك عبداً له وفيه يقول : ( كَوْكَبُ إنْ مُتُّ فَهْيَ مِيتَتي ** لا مُتّ إلاَّ هَرِماً يا كَوْكَبُ ) ووجدناهم يسمون بجبل وسَنَد وطَود ولا يسمُّونَ بأُحُد ولا بثَبير وأجأ وسلمى ورَضوى وصِنْدِد وحميم وهو تلقاء عيونهم متى أطلَعوا رؤوسهم من خيامهم ويمسونَ ببُرْج ولا يسمون بفَلَك ويسمون بقَمر وشمس عَلَى جهة اللقب أو على جهة المديح ولم يسمُّوا بأرض وسماء وهواءٍ وماء إلاَّ على ما وصفنا وهذه الأصول في الزجر أبلغ كما أنَّ جبلاً أبلغُ

من حجر وطوداً أجمع من صخر وتركوا أسماءَ جبالهم المعروفة .
وقد سمّوا بأسد وليث وأُسامةَ وضِرغامة وتركوا أن يسمُّوا بسبع وسبعة وسبع هو الاسم الجامع لكلِّ ذي ناب ومخلب .
قال الأوّل : قد تسمَّوا أيضاً بأسماء الجبال فتسمَّوْا بأبَان وسَلْمَى .
قال آخرون : إنَّما هذه أسماء ناسٍ سمَّوا بها هذه الجبال وقد كانت لها أسماءٌ ترِكت لثقلها أو لعلَّة من العلل وإلاَّ فكيف سمَّوا بسلمى وتركوا أجأ ورَضوى .
وقال بعضهم : قد كانوا ربَّما فعلوا ذلك على أن يتَّفق لواحدٍ وَلودٍ ولمعظَّمٍ جليل أن يسمع أو يرى حماراً فيسمِّي ابنه بذلك وكذلك الكلب والذئب ولن يتفق في ذلك الوقت أن يسمع بذِكر فرس ولا حِجْر أو هواء أو ماء فإذا صار حمار أو ثور أو كلب اسمَ رجل معظَّم تتابعت عليه العرب تَطِيرُ إليه ثم يكثر ذلك في ولده خَاصَّةً بعده وعلى ذلك سمَّت الرعية بنيها وبناتِها )
بأسماء رجال الملوك ونسائهم وعلى ذلك صار كلُّ عليٍّ يكنى بأبي الحسن وكل عُمَر يكنى بأبي حفص وأشباه ذلك فالأسماء ضروب منها شيء أصليٌّ كالسَّمَاء والأرض والهواء والماء والنار وأسماءٌ أخَرُ مشتقَّاتٌ منها على جهة الفأل وعلى شكل اسم الأب كالرجل

يكون اسمه عمر فيسمى ابنَه عميراً ويسمِّي عميرٌ ابنَه عِمران ويسمِّي عمرانَ ابنَه مَعْمَراً وربَّما كانت الأسماء بأسماء اللّه عزَّ وجلّ مثل ما سمى اللّه عز وجل أبا إبراهيم آزر وسمَّى إبليس بفاسق وربّما كانت الأسماء مأخوذةً من أمورٍ تحدثُ في الأسماء مثل يوم العَرُوبة سمِّيت في الإسلام يوم الجمعة واشتقَّ له ذلك من صلاة يوم الجمعة .
الألفاظ الجاهلية المهجورة وسنقول في المتروك من هذا الجنس ومن غيره ثم نعودُ إلى موضعِنا الأوَّلِ إن شاء اللّه تعالى .
ترك النّاسُ مما كان مستعملاً في الجاهلية أموراً كثيرة فمن ذلك تسميتُهم للخَراج إتاوة وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السُّلطان : الحُملان والمَكْس وقال جابر ابن حُنَيّ : وكما قال العبديُّ في الجارود : ( أيا ابن المعلَّى خِلتَنا أم حسبتَنا ** صَرَارِيَّ نُعطِي الماكسِين مُكوسا )

وكما تركوا انْعَمْ صباحاً وانْعَمْ ظلاماً وصاروا يقولون : كيف أصبحتم وكيف أمسيتم وقال قيس بن زُهير بن جذيمة ليزيد بن سنان بن أبي حارثة : انعَمْ ظَلاماً أبا ضَمْرة قال : نعمتَ فمن أنت قال : قيس بن زهير .
وعلى ذلك قال امرؤ القيس : ( ألا عِمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ البالِي ** وهَلْ يَعِمَنْ مَن كان في العُصُر الخَالِي ) وعلى ذلك قال الأوَّل : ( أتوْا نَارِي فقلتُ مَنُونَ قالوا ** سَرَاة الجنِّ قلتُ عِمُوا ظَلاَما ) وكما تركوا أن يقولوا للملك أو السَّيِّد المطاع : أبيت اللعن كما قيل : مَهْلاً أبيتَ اللّعنَ لا تأكُلْ مَعَهْ وقد زعموا أن حُذَيفةَ بنِ بدرٍ كان يُحيَّا بتحيَّة الملوك ويقال له : أبيت اللّعن وتركوا ذلك في الإسلام من غير أن يكون كفراً .
وقد ترك العبْد أنْ يقول لسيده ربِّي كما يقال ربُّ الدار وربُّ البيت وكذلك حاشية السيِّد ) ( ربُّنا وابننا وأفضَلُ مَنْ يم ** شِي ومَن دُونَ مَا لدَيهِ الثّناءُ )

وكما قال لبيد حين ذكر حُذَيفة بن بدر : ( وأهلكْنَ يوماً ربَّ كِنْدَةَ وابنَه ** وربَّ مَعدٍّ بين خَبْت وعَرْعَرِ ) وكما عيّر زيدُ الخَيل حاتماً الطائيّ في خروجه من طيِّء ومن حرب الفساد إلى بني بدر حيث يقول : ( وفرَّ من الحَرْبِ العَوانِ ولم يكُنْ ** بها حاتم طَبّاً ولا متطبِّبا ) ( وريب حصناً بعْدَ أن كان آبياً ** أبُوّة حِصْنٍ فاستقالَ وأعتَبَا ) ( أقِمْ في بني بدر ولا ما يهمنا ** إذا ما تقضَّت حربُنا أنْ تطربا ) وقال عوف بن محلَّم حين رأَى الملك : إنّه ربي وربِّ الكعبة وزوجُه أمُّ أناس بنت عَوف وكما تركوا أن يقولوا لقُوّام الملوك السَّدَنة وقالوا الحَجَبَة .
وقال أبو عُبيدة مَعْمر بن المثنَّى عن أبي عبد الرحمن يونس بن حبيب النحوي حين أنشدَه شعر الأسديّ : ( ومركضة صريحي أبوها ** تُهان لها الغلامة والغلامُ )

قال : فقلت له : فتقول : للجارية غلامة قال : لا هذا من الكلام المتروك وأسماؤُه زالت مع زوال معانيها كالمِربَاعِ والنَّشيطة وبقي الصَّفايا فالمرباع : رُبع جميع الغنيمة الذي كان خالصاً للرئيس وصار في الإسلام الخمس على ما سنَّه اللّه تعالى وأما النَّشيطة فإنَّه كان للرئيس أن ينشِط عند قِسمة المتاع العِلْقَ النفيسَ يراه إذا استحلاه وبقي الصِفِيّ وكان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم من كل مَغْنم وهو كالسيف اللَّهذَم والفرسِ العتيق والدرع الحصينة والشيء النادر .
وقال ابن عَنَمة الضبّي حليف بني شَيبان في مرثيته بِسطام بن قيس : ( لك المِرباعُ منها والصَّفايا ** وحُكْمُك والنَّشِيطَةُ والفُضولُ ) والفُضول : فضول المقاسم كالشيءِ إذا قسم وفضَلت فَضلةٌ استهلكت كاللؤلؤة والسيف والدِّرْع والبيضة والجارية وغير ذلك .
كلمات إسلامية محدثة وأسماءُ حدثت ولم تكن وإنَّما اشتقَّت لهم من أسماءٍ متقدِّمة على التشبيه مثل قولهم لمن )
أدرَكَ الجاهليَّة والإسلام مُخَضرم كأبي رجاءٍ العُطارديِّ بن سالمة وشقيق بن سالمة ومن الشعراء النابغة الجَعديُّ

وابن مقبل وأشباههم من الفقهاء والشعراء ويدلُّ على أنَّ هذا الاسم أحدث في الإسلام أنَّهم في الجاهليَّة لم يكونوا يعلمون أنَّ ناساً يسلمون وقد أدركوا الجاهليَّة ولا ويقال إنَّ أوَّلَ من سمَّى الأرضَ التي لم تُحفَر قطُّ ولم تحرثْ إذا فعل بها ذلك مظلومة النابغةُ حيث يقول : ( إلاّ الأوراريَّ لأْياً ما أبيِّنُها ** والنؤيَ كالحَوضِ بالمظلومَةِ الجَلَدِ ) ومنه قيل سقاءٌ مظلوم إذا أعجل عليه قبل إدراكه وقال الحادرة : ( ظَلم البِطاحَ له انهلالُ حَريصةٍ ** فصفَا النِّطافُ له بُعيْدَ المَقْلَعِ ) وقال آخر : ( قالتْ له ميٌّ بأعلَى ذِي سَلَم ** لو ما تَزُورُنا إذا الشعْبُ أَلمّ ) ألا بلَى يا ميّ واليومُ ظلَمْ يقول ظلم حين وضعَ الشيءَ في غير موضعه وقال الآخر : أنا أبو زينب واليومُ ظلَمْ وقال ابن مقبل : ( عادَ الأذلَّةُ في دارٍ وكان بها ** هُرْتُ الشَّقَاشِق ظَلاَّمُونَ للجزُر ) وقال آخر : ( وصاحبِ صدقٍ لم تَنلني أذاته ** ظلَمْتُ وفي ظُلْمِي له عامداً أجْرُ ) ( لا يَظلِمون إذا ضِيفوا وِطابَهُمُ ** وهم لجودهمُ في جُزْرِهم ظلمُ )

وظلم الجزور : أن يعرقبوها وكان في الحقِّ أن تنحر نحراً وظلمهم الجزُر أيضاً أن ينحروها صِحاحاً سماناً لا علَّة بها .
قال : ومن ذلك قولهم : الحرب غَشوم وإنَّما سمِّيت بهذا لأنَّها تنال غير الجاني .
قال : ومن ذلك قولهم : مَنْ أَشْبَهَ أباه فما ظَلَم يقول : قد وضع الشبه في موضعه .
ومن المحدَثِ المشتقِّ اسم منافق لمن رَاءَى بالإسلام واستسرَّ بالكفر أُخذ ذلك من النافقاء والقاصعاء والدامَّاءِ ومثل المشرك والكافر ومثل التيمُّم قال اللّه تعالى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي تحرَّوْا ذلك وتوخَّوْه وقال : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه فكثُر هذا في الكلام حتَّى )
صار التيمُّم هو المسح نفسُه وكذلك عادتهم وصنيعهم في الشيءِ إذا طالتْ صُحبتهم وملابستهم له وكما سمَّوا رَجيع الإنسان الغائط وإنَّما الغيطان البطون التي كانوا ينحدرون فيها إذا أرادوا قضاءَ الحاجة للستر .
ومنه العَذِرة وإنَّما العذِرة الفناءُ والأفنية هي العَذِرات ولكن لما طال إلقاؤهم النَّجْو والزِّبل في أفنيتهم سمِّيت تلك الأشياء التي رَموا بها باسم المكان الذي رميت به وفي الحديث : أَنْقُوا وقال ابن الرقَيَّات : ( رَحِمَ اللّهُ أَعْظُماً دَفَنُوها ** بِسِجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ )

( كان لا يحجُبُ الصديقَ ولا يع ** تَلُّ بالبخلِ طيِّبَ العَذِرَاتِ ) ولكنَّهم لكثرةِ ما كانوا يُلقون نجوَهم في أفنيتهم سموها باسمها .
ومنه النّجو : وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد قضاءَ الحاجةِ تستَّر بنجوة .
والنّجو : الارتفاع من الأرض قالوا من ذلك : ذهب يَنْجُو كما قالوا ذهب يتغوّط إذا ذهب إلى الغائط لذلك الأمر ثمَّ اشتقوا منه فقالوا إذا غسل موضع النجو قد استنجى .
وقالوا : ذهب إلى المخرَج وإلى المتوضَّأ وإلى المذهب وإلى الخَلاءِ وإلى الحُشّ وإنّما الحشّ القطعةُ من النَّخل وهي الحِشّان وكانوا بالمدينة إذا أرادوا قضاءَ الحاجة دخلوا النخل لأنَّ ذلك أستر فسموا المتوضأ الحشّ وإن كان بعيداً من النخل كلّ ذلك هرباً من أن يقولوا ذهب لخَرْءِ لأنَّ الاسم الخرءُ وكل شيءٍ سواه من ورجيع وبراز وزِبل وغائط فكله كناية ومن هذا الباب الملَّةُ والمَلَّة موضع الخُبْزة فسموا الخُبْزة باسم موضعها وهذا عند الأصمعيِّ خطأ .
ومن هذا الشكل الراوية والراوية هو الجمل نفسه وهو حامل المزادة فسمِّيت المزادة باسم ومنه قولهم : ساق إلى المرأة صَداقها قالوا : وإنَّما كان يقال ذلك

حين كانوا يدفعون في الصَّدَاق إبلاً وتلك الإبل يقال لها النافجة وقال شاعرهم : ( وليس تِلادي من وِراثةِ والدي ** ولا شادَ مالِي مُستَفاد النوافِجِ ) وكانوا يقولون : تَهنِيك النافجة قال : فإذا كانوا يدفَعون الصَّدَاقَ عيناً ووَرقاً فلا يقال ساق إليها الصَّداق . )
ومن ذلك أنَّهم كانوا يضربون على العروس البناءَ كالقبَّة والخَية والخيام على قدر الإمكان فيقال بني عليها اشتقاقاً من البناءِ ولا يقال ذلك اليومَ والعروس إمَّا أن تكون مقيمةً في مكانها أَوْ تتحَوّل إلى مكان أقدم من بنائها .
قال : ومن ذلك قولهم في البَغيّ المكتسِبة بالفُجور : قَحْبة وإنَّما القُحَاب السعال وكانوا إذا أرادوا الكناية عن من زنَتْ وتكسَّبت بالزنى قالوا قحبت أي سعلت كناية وقال الشاعر : إنَّ السُّعَالَ هُوَ القُحَاب وقال : ( وإذا ما قحَبت واحدةٌ ** جاوبَ المبعِدُ منها فَخَضَفْ ) وكذلك كان كنايتهم في انكشاف عورة الرجل يقال : كشف علينا متاعَه وعَورته وشواره

كلمات للنبي صلى الله عليه وسلم لم يتقدمه فيهن أحد

وكلمات النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يتقدَّمْه فيهنَّ أحد : من ذلك قوله : إذاً لا ينتَطِح فيها عَنْزان ومن ذلك قوله : ماتَ حتْف أنفه ومن ذلك قوله : يا خيلَ اللّه اركَبي ومن ذلك قوله : كلُّ الصَّيدِ في جَوفِ الفَرا وقوله : لا يُلسَعُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين .
شنشنة أعرفها من أخزم وقال عُمر رضي اللّه تعالى عنه : شِنْشِنَةٌ أعرِفها من أخزم يعني شبه ابن العبَّاس بالعبَّاس وأخزَم : فحل معروف بالكرم .
ما يكره من الكلام وأما الكلام الذي جاءَت به كرَاهيةٌ من طريق الروايات فروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : لا يقولَنَّ أحدُكم خَبثت نَفسي ولكن ليقلْ لَقِسَت نفسي كأنه كره أن يضيف المؤمنُ الطاهِرُ إلى نفسه الخُبث والفساد بوجهٍ من الوجوه .
وجاءَ عن عمر ومجاهد وغيرهما النهيُ عن قول القائل : استأثَر اللّهُ بفُلان بل يقال مات فلان ويقال استأثرَ اللّه بعلم الغيب واستأثر اللّه بكذا وكذا .


قال النَّخَعيّ : كانوا يكرهون أن يقال : قراءة عبد اللّه وقراءة سالم وقراءَة أُبَيّ وقراءَة زيد وكانوا يكرهون أَن يقولوا سنَّة أبي بكر وعمر بل يقال سنَّة اللّه وسنَّة رسوله ويقال فلان يقرأ بوجْه كذا وفلان يقرأ بوجه كذا . )
وكره مجاهد أن يقولوا مُسيجِد ومُصيحِف للمسجد القليل الذَّرْع والمصحف القليل الورق ويقول : هم وإن لم يريدوا التصغير فإنَّه بذلك شبيه .
وجوه تصغير الكلام وربَّما صغَّروا الشيءَ من طريق الشَّفَقة والرِّقَّة كقول عمر : أخافُ على هذا العُريب وليس التصغير بهم يريد وقد يقول الرجل : إنَّما فلانٌ أخَيِّي وصُدَيِّقي وليس التصغير له يريد وذكر عمرُ ابنَ مسعود فقال : كُنَيْفٌ مُلئ علماً وقال الحُباب بن المنذر يوم السَّقِيفة : أنا جُذَيْلها المحكك وعُذَيقُها المرجَّب وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة : الحُميراء وكقولهم لأبي قابوسَ الملك : أبو قُبيس وكقولهم : دبّت إليه دويْهِيَة الدهر وذلك حين أرادوا لطافة المدخل ودقّة المسلك .


ويقال إنَّ كلَّ فُعيل في أسماء العرب فإنَّما هو على هذا المعنى كقولهم المُعَيْدِيّ وكنحو : سُليم وضُمَير وكليب وعُقير وجُعيل وحُميد وسُعيد وجُبير وكنحو عُبيد وعُبيد اللّه وعُبيد الرماح وطريق التحقير والتصغير إنَّما هو كقولهم : نُجيل ونُذيل قالوا : ورُبّ اسمٍ إذا صغَّرْتَه كان أملأَ للصَّدْر مثل قولك أبو عبيد اللّه هو أكبر في السماع من أبي عبد اللّه وكعب بن جُعَيل هو أفخم من كعب بن جعل وربَّما كان التصغير خِلقة وبنية لا يتغيَّر كنحو الحُمَيّا والسُّكَيْتِ وجُنَيدة والقطيعا والمريطاء والسُّميراء والمليساء وليس هو كقولهم القُصَيْرى وفي كبيدات السماءِ والثرّيا .
وقال عليٌّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه : دقَقت البابَ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : من هذا فقلت : أنا فقال : أنا كأنَّه كرِه قولي أنا .
وحدّثني أبو عليٍّ الأنصاري وعبد الكَريم الغِفاريّ قالا : حدَّثنا عيسى بن حاضر قال : كان عمرو بن عُبيد يجلس في دَاره وكان لا يَدَع بابَه مفتوحاً فإذا قرعَه إنسان قامَ بنفسه حتَّى يفتحه له فأتيتُ الباب يوماً فقرعتُه فقال : من هذا فقلت : أنا فقال : ما أعرف أحداً يسمَّى أنا فلم أَقُلْ شيئاً وقمتُ خلفَ الباب إذ جاءَ رجلٌ من أهل

خراسان فقرَع الباب فقال عمرو : مَن هذا فقال : رجلٌ غريبٌ قدِم عليك يلتمس العلم فقام له ففتح له الباب فلمَّا وجدْتُ فرجةً أردت أن ألجَ الباب فدفَع البابَ في وجهي بعُنف فأقمتُ عنده أيَّاماً ثم قلت في نفسي : واللّه إنِّي يومَ أتغضَّب على عمرو بن عُبيد لَغَيرُ رشيدِ الرأي فأتيتُ البابَ فقرعته عليه فقال : )
وقال رجل عند الشَّعبيّ : أليس اللّه قال كذا وكذا قال : وما عَلَّمَك وقال الربيع بن خُثَيم : اتَّقُوا تكذيب اللّه ليتَّق أحدكم أن يقولَ قال اللّه في كتابه كذا وكذا فيقول اللّه كذبتَ لم أقلْه .
وقال عمر بن الخطَّاب رضي اللّه عنه : لا يقل أحدُكم أهرِيقُ الماء ولكن يقول أبول .
وسأل عمرُ رجلاً عن شيءٍ فقال : اللّه أعلم فقال عمر : قد خَزينا إن كُنَّا لا نعلم أنَّ اللّه أعلم إذا سُئِلَ أحَدُكم عن شيءٍ فإن كان يعلمه قاله وإن كان لا يعلمه قال : لا علم لي بذلك .
وسمعَ عمر رجلاً يدعو ويقول اللهمَّ اجعلْني من الأقلِّين قال : ما هذا الدعاءُ قال : إنِّي سمعت اللّه عزّ وجلّ يقول : وقليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورَ وقال : وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ قال عمر : عليك من الدعاءِ بما يُعرَف .
وكره عمر بن عبد العزيز قولَ الرجل لصاحبه : ضعْه تحت إبطِك وقال :

هلاَّ قلتَ تحت يدِك وتحت مَنكِبك وقال مَرَّة وراثَ فرسٌ بحضْرة سليمان فقال : ارفَعوا ذلك النَّثِيل ولم يقل ذلك الرَّوث .
وقال الحجَّاج لأمِّ عبد الرحمن بن الأشعَث : عَمَدْتِ إلى مَالِ اللّه فوَضَعْته تحْتَ كأنَّه كره أن يقول على عادة الناس : تحت استك فتلجلج خوفاً من أن يقول قَذَعاً أو رَفَثاً ثمّ قال : تحتَ ذيلِك .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لا يقولَنَّ أحدُكم لمملوكه عَبْدِي وأمَتي ولكنْ يقول : فتَايَ وكره مُطرِّف بن عبد اللّه قولَ القائل للكلب : اللّهُمَّ أخْزه .
وكره عِمران بن الحُصين أن يقولَ الرَّجلُ لصاحبه : أنَعمَ اللّهُ بك عيناً ولا أنعَمَ اللّهُ بك عيناً وقد كرهوا أشياءَ ممَّا جاءت في الروايات لا تُعرَف وجوهها فرأيُ أصحابنا : لا يكرهونها ولا نستطيع الردِّ عليهم ولم نسمع لهم في ذلك أكثرَ من الكراهة ولو كانوا يروون الأمورَ مع عللها وبرهاناتها خَفَّت المؤنة ولكنّ أكثر الروايات مجرّدة وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دونَ حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان وإن كانوا قد شاهدوا النوعين مشاهدةً واحدة

قال ابن مسعود وأبو هريرة : لا تسمُّوا العِنَب الكَرْم فإنَّ الكَرمَ هو الرجلُ المسلم .
وقد رفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأمَّا قوله : لا تسُبُّوا الدَّهرَ فإنَّ الدهر هو اللّه فما أحسن ما فسَّر ذلك عبد الرحمن بن مهديّ قال : وجهُ هذا عندَنا أنَّ القوم قالوا : وَمَا يُهْلِكنَا إلاَّ الدَّهْرُ فلما قال القوم ذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ذلك اللّه يعني أنَّ الذي أهلك القرونَ هو اللّه عزّ وجلَّ فتوهم منه )
المتوهِّم أنَّه إنَّما أوقع الكلام على الدهر .
وقال يونس : وكما غلطوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان : قُلْ ومَعَك رُوح القُدُس فقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان : قُلْ ومَعَك جِبريل لأنَّ روح القدس أيضاً من أسماءِ جبريل ألا ترى أنّ موسى قال : ليتَ أنّ رُوحَ اللّه مع كلّ أحد وهو يريد العصمة والتوفيق والنصارى تقول للمتنبِّي : معه روح دكالا ومعه روح سيفرت وتقول اليهود : معه روح بَعلزَبول يريدون شيطاناً فإذا كان نبياً قالوا : روحه روح القدس وروحه روح اللّه وقال اللّه عزَّ وجلّ : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا يعني القرآن .


وسمع الحسن رجلاً يقول : طلع سُهيل وبَرُد الليل فكره ذلك وقال : إنّ سهيلاً لم يأتِ بحرٍّ ولا ببردٍ قطُّ ولهذا الكلام مجازٌ ومذهب وقد كره الحسنُ كما ترى .
وكره مالك بن أنس أن يقولَ الرجُلُ للغيم والسحابة : ما أخلقها للمطر وهذا كلام مجازه قائم وقد كرهه ابن أنس كأنّهم من خوفهم عليهم العودَ في شيءٍ من أمر الجاهليّة احتاطوا في أمورهم فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلّق .
ورووا أنّ ابنَ عبَّاسٍ قال : لا تقولوا والذي خَاتَمه على فمي فإِنَّما يختِم اللّه عزّ وجلّ على فم الكافر وكره قولهم : قوس قُزَح وقال : قزح شيطان وإنَّما ذهبوا إلى التعرِيج والتلوين كأنّه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية وكان أحَبَّ أن يقال قوس اللّه فيرفع من قدره كما يقال بيت اللّه وزُوَّار اللّه وأرض اللّه وسماء اللّه وأسد اللّه .
وقالت عائشة رضي اللّه عنها : قولوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خاتَم النبيين ولا تقولوا : لا نَبيَّ بعده فإلاّ تكنْ ذهبتْ إلى نزول المسيح فما أعرف له وجهاً إلاّ أن تكُون قالت لا تغيِّروا ما سمعتم وقولوا كما قيل لكم والفِظوا بمثله سواء .
وكره ابن عمر رضي اللّه عنهما قول القائل : أسلمت في كذا وكذا وقال : ليس الإسلام إلاّ لِلّه عزّ وجلَّ وهذا الكلام مجازُه عند الناس سهل وقد كرهه ابنُ عمر وهو أعلم بذلك .


وكره ابنُ عبَّاسٍ رضي اللّه عنهما قولَ القائل : أنا كسلان .
وقال عمر : لا تسمُّوا الطريق السِّكَّةَ .
وكره أبو العالية قول القائل : كنت في جِنازة وقال : قل تبِعت جنازة كأنّهُ ذهب إلى أنّه عنى أنّه كان في جوفها وقال قل تبعت جنازة والناس لا يريدون هذا ومجاز هذا الكلام قائم وقد )
كرهه أبو العالية وهي عندي شبيهٌ بقول من كره أن يقول : أعطاني فلان نصف درهم وقال : إذا قلت : كيف تكيل الدقيق فليس جوابه أن تقول : القَفِيز بدُنَينير ولكن يتناول القفيز ثم يكيل به الدقيق ويقول : هكذا الكيلة وهذا من القول مسخوط .
وكره ابن عبَّاس قول القائل : الناس قد انصرفوا يريد من الصلاة قال بل قولوا : قد قَضَوُا الصلاة وقد فرَغوا من الصلاة وقد صلَّوْا لقوله : ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ قال : وكلام الناس : كان ذلك حين انصرفنا من الجنازة وقد انصرفوا من السُّوق وانصرف الخليفة وصرف الخليفةُ الناسَ من الدار اليومَ بخير وكنت في أوَّل المنصرفين وقد كرهه ابن عبّاس ولو أخبرونا بعلّتِه انتفعنا بذلك .
وكره حَبيب بن أبي ثابت أن يقال للحائض طامِث وكره مجاهد قول القائل : دخل رمضان وذهب رمضان وقال : قولوا شهر رمضان فلعلّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى .
قال أبو إسحاق : إنما أتى من قِبل قوله تعالى : شَهْرُ رَمََضَان الَّذِي

أُنْزِلَ فِيهِ الْقرْآنُ فقد قال الناس يوم التَّروية ويوم عَرَفة ولم يقولوا عرفة .
رأي النظَّام في طائفة من المفسرين وصور من تكلفهم .
كان أبو إسحاق يقول : لا تسترسلوا إلى كثير من المفسِّرين وإن نصَبوا أنفسَهم للعامَّة وأجابوا في كلِّ مسألة فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلَّما كان المفسِّر أغربَ عندَهم كان أحبَّ إليهم وليكن عندكم عِكْرِمةُ والكلبيُّ والسُّدّي والضَّحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر الأصمّ في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم وقد قالوا في قوله عزَّ وجلّ : وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلّهِ : إنّ اللّه عزّ وجلَّ لم يعن بهذا الكلام مساجدَنا التي نصلِّي فيها بل إنَّما عنَى الجبَاهَ وكل ما سجد الناس عليه : من يدٍ ورجلٍ وَجَبْهَةٍ وأنفٍ وثَفِنَة

وقالوا في قوله تعالى : أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ : إنَّه ليس يَعني الجمال والنُّوقَ وإنَّما وإذَا سُئلوا عن قوله : وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قالُوا : الطلح هو الموز .
وجعلوا الدليلَ على أنَّ شهر رمضانَ قد كان فرضاً على جميع الأمم وأنّ الناس غيَّروه قولَهُ تعالى : كُتبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .
وقالوا في قوله تعالى : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالوا : يعني أنّه حَشَرَهُ بِلاَ حجَّة . )
وقالوا في قوله تعالى : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ : الويل وادٍ في جهنم ثم قَعَدُوا يصِفون ذلك الوادي ومعنى الويل في كلام العرب معروف وكيف كان في الجاهليَّة قبل الإسلام وهو من أشهر كلامهم .
وسئلوا عن قوله تعالى : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قالوا : الفَلَق : وادٍ في جهنم ثمَّ قعدوا يصِفونه وقال آخرون : الفلق : المِقْطَرة بلغة اليمن .
وقال آخرون في قوله تعالى : عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً قالوا : أخطأ من وصَلَ بعض هذه الكلمة ببعض قالوا : وإنَّما هي : سَلْ سبيلاً إليها يا محمد فإن كان كما قالوا فأين معنى تسمَّى وعلى أيِّ شيءٍ وقع قوله تسمَّى فتسمَّى ماذا وما ذلك الشيء وقالوا في قوله تعالى : وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قالوا الجلود كناية عن الفروج كأنه كان لا يَرَى أنّ كلام الجِلد من أعجب العجب .
وقالوا في قوله تعالى : كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعامَ : إِنّ هذا إنَّما كان كنايةً عن الغائط كأنه لا يرى أنّ في الجوع وما ينال أهلَه من الذِّلَّة والعجزِ والفاقة وأنّه ليس في الحاجة إلى الغذاءِ ما يُكتَفَى بِه في الدِّلالة على أنّهما مخلوقان حتّى يدَّعيَ على الكلام ويدّعي له شيئاً قد أغناه اللّه تعالى عنه .


وقالوا في قوله تعالى : وَثيَابَكَ فَطَهِّر : إنّه إنما عنَى قلبه .
ومن أعجب التأويل قول اللِّحياني : الجبّار من الرجال يكون على وجوه : يكون جبّاراً في الضِّخَم والقوَّة فتأوّل قوله تعالى : إنّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ قال : ويكون جبَّاراً على معنى قتّالاً وتأوّل في ذلك : وَإذَا بَطَشْتمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ وقولَه لموسى عليه السلام : : إنْ تُرِيدُ إلاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً في الأَرْضِ أي قتَّالاً بغيرحقّ والجبارُ : المتكبِّر عن عبادة اللّه تعالى وتأوَّل قوله عزَّ وجلَّ : وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً وتأوّلَ في ذلكَ قول عيسى : وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقيّاً أي لم يجعلْني متكبِّراً عن عبادته قال : الجبَّار : المسلَّط القاهر وقال : وهو قوله : وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي مسلّط فتقهرهم على الإسلام والجبَّار : اللّه .
وتأوَّل أيضاً الخوف على وجوهٍ ولو وجدَه في ألفِ مكانٍ لقال : والخوفُ على ألف وجه وكذلك الجبَّار وهذا كلّه يرجِع إلى معنًى واحد إلاّ أنّه لا يجوز أن يوصَف به إلاّ اللّه عزّ وجلَّ .
وقال رجل لعُبيد اللّه بن الحسن القاضي : إنّ أبي أوصى بثُلث مالِه في الحصون قال : اذهبْ فاشترِ به خيلاً فقال الرجل : إنّه إنَّما ذَكَر الحصون قال : أما سمعتَ قول الأسْعَر الجُعْفِيّ : )

( ولقد علمت على تجنُّبيَ الرَّدى ** أنّ الحصونَ الخيلُ لا مَدَرُ القُرَى ) فينبغي في مثل هذا القياس على هذا التأويل أنّه ما قيل للمدن والحصون حصون إلاّ على التشبيه بالخيل .
وخبَّرني النُّوشِروانيّ قال : قلت للحسن القاضي : أوصي جدِّي بثلث ماله لأولاده وأنا من أولاده قال : ليس لك شيء قلت : ولم قال : أو ما سمعت قول الشاعر : ( بنُونا بنو أبنائِنا وبناتُنا ** بنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ ) قال : فشكوت ذلك إلى فلان فزادني شرًّا .
وقالوا في قوله : مَا سَاءَكَ ونَاءَك : ناءك أبعدك قالوا : وساءك أبرصك قال : لقوله تعالى : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وبئس التكلُّف .
وقال ابن قميئة : ( وحمَّال أثقال إذا هي أعْرَضت ** على الأصل لا يَسطِيعُها المتكلِّفُ ) وقال اللّه وهو يخبر عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم : وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ .


رأي في أبي حنيفة وسئل حَفص بن غِياث عن فقه أبي حنيفة فقال : أعلم الناس بما لم يكنْ وأجهلُ الناس بما كان .
وقالوا في قوله تعالى : ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم قالوا : النعيم : الماءُ الحارُّ في الشتاء والبارد في الصيف .
الصَّرورة ومن الأسماء المحدَثة التي قامت مقامَ الأسماء الجاهليَّة قولهم في الإسلام لمنْ لم يحجّ : صَرورة .
وأنتَ إذا قرأتَ أشعارَ الجاهليَّة وجدتَهم قد وضعوا هذا الاسمَ على خلافِ هذا الموضع قال ابن مَقرومٍ الضَّبّيّ : ( لو أنَّها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ رَاهبٍ ** عَبدَ الإله صَرُورةٍ مُتَبَتِّلِ ) ( لدنا لبَهْجَتِها وحُسْنِ حَدِيثِها ** ولَهَمَّ من تامُورِه بتنَزُّل ) والصرورة عندهم إذا كانَ أرفعَ الناسِ في مراتب العبادة وهو اليومَ اسمٌ للذي لم يَحجَّ إمّا لعجزٍ وإمَّا لتضييعٍ وإمَّا لإنكار فهما مختلفان كما ترى . )


فإِذا كانت العرب يشتقُّون كلاماً من كلامهم وأسماءً من أسمائهم واللغة عاريّة في أيديهم ممَّن خلقَهم ومكَّنهم وألهمهم وعلَّمهم وكان ذلك منهم صواباً عند جميع الناس فالذي أعارهمْ هذه النِّعمةَ أحقُّ بالاشتقاق وأوجبُ طاعةً وكما أنَّ له أن يبتدئَ الأسماءَ فكذلك له أن يبتدئها ممَّا أَحَبَّ قد سمَّى كتابَه المنزلَ قرآناً وهذا الاسم لم يكنْ حتى كان وجعل السجودَ للشمس كفراً فلا يجوز أن يكون السجود لها كفراً إلاّ وترك ذلك السجود بعينه يكون إيماناً والترك للشيء لا يكون إلاّ بالجارحة التي كان بها الشيء وفي مقداره من الزمان وتكون بدلاً منه وعَقِباً فواحدةٌ أن يسمَّى السجود كفراً وإذا كان كفراً كان جحوداً وإذا كان جحوداً كان شركاً والسجود ليس بجَحْد والجحد ليس بإشراك إلاَّ أن تصرفه إلى الوجه الذي يصير به إشراكاً . ( ما اشتق من نباح الكلابِ وما قيل من الشعر فيه ) وقال طُفيل الغَنَوِيّ : ( عَوَازِبُ لَمْ تَسْمَعْ نُبُوحَ مقامةٍ ** ولم ترَ نَارًا تِمَّ حَولٍ مجرَّمِ ) وإنَّما أُخذ ذلك للجميع من نباح الكلاب .

( سقط : وذكروا أن الظبي إذا أسن ونبتت لقرونه شعب نبح ، وهو قول أبو داود ) ( وقُصرَى شَنِج الأَنْسَا ** ءِ نبَّاح من الشعب ) يعني من جهة الشعب وأنشد بعضهم : ( وينبَحُ بينَ الشعبِ نبحاً كأنّه ** نُبَاحُ سَلُوقِ أَبصَرَتْ مَا يُرِيبها ) ( وبَيَّضها الهُزْل المسوِّدُ غَيْرَها ** كما ابيضَّ عن حَمْضِ المراحم نِيبُها ) لأن الظّبيَ إذا هزل ابيضّ والبعير يَشِيب وجهَه من أكل الحَمْض وكذلك قال ابن لَجَأ : شابَتْ ولمَّا تَدْنُ من ذَكَائها كما قال الآخر : ( أَكلْن حمضاً فالوُجُوه شِيبُ ** شَرِبن حتى نزح القَلِيبُ ) وقد تصير النَّاقة الحمراء إذا أتمَّت حبشيّة ولذلك قال الشاعر : حمراء لا حَبَشيّة الإتمام وما أشبه ذلك بقول العَبديّ : ( وداويتُها حتَّى شتَتْ حَبَشِيَّةً ** كأنَّ عليها سُنْدُسَاً وسَدُوسا )


والدَّواء : اللبن فلذلك تصير الفرس إذا ألقت شعرها وطرّت تستديل هذا اللون .
وقال خالد بن الصقْعب النَّهديّ : ( كأنَّ عرينَ أيكَتِه تَلاَقَى ** به جَمْعَانِ من نَبَطٍ ورُومِ ) ( نُباحُ الهدْهدِ الحَوْلِيِّ فيه ** كَنَبْح الكَلْبِ في الأَنَس المقُيمِ ) ويقال إنَّ الهدهد ينبَحُ وربَّما جعلوا الهُدْهُدَ الذي ينبح الحمامَ الذكر قال الشاعر وهو يصف الحمام الذَّكَرَ كيف يصنع فيها : ( وإذا استترن أرَنَّ فيها هُدهُدٌ ** مثْلُ المَدَاكِ خَضَبْتَهُ بِجِسادِ ) وقال طُفيل في النُّبوح والمجاعات : ( وأشْعَث تَزْهَاه النُّبوح مُدَفَّعٍ ** عن الزَّادِ ممَّا جَلّف الدهرُ مُحْثَلِ ) وقال الجعديّ : ( فلما دَنونا لصَوتِ النُّباح ** وَلا نُبْصِرُ الحيِّ إلاّ التماسَا ) وقال ابن عبدل : ( آليتُ إذ آليتُ مجتهداً ** ورفعتُ صَوتاً ما به بَحَحُ ) ( لا يُدْرِكُ الشعراءُ منزلَتي ** في الشعر إنْ سكَتَوا وإنْ نَبَحُوا ) وقال عمرو بن كلثوم :

( وَقَدْ هَرَّتْ كلابُ الحَيِّ مِنَّا ** وشَدَّ بِنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِينَا ) وقال بعض العلماءِ : كلاب الحيّ شعراؤهم وهم الذين ينبحون دونَهم ويحمون أعراضَهم وقال آخرون : إن كلابَ الحَيِّ كلُّ عقورٍ وكلُّ ذي عُيون أربع .
وأما قوله : ( لَعَمْرُكَ ما خَشِيتُ على أُبَيٍّ ** رِماحَ بني مقيِّدةِ الحمِارِ ) ( ولكنِّي خَشِيت على أُبَيٍّ ** رِمَاحَ الجنّ أو إيَّاكَ حارِ ) فالطَّواعين هي عند العرب رماح الجن وفي الحديث : إنَّ الطاعونَ وخْز مِنَ الشيطان .
وقال أبو سلمى : ( لا بدَّ للسُّودَد من أرماحِ ** ومن سفيهٍ دائمِ النُّباحِ ) ومن عَدِيدٍ يُتَّقَى بالرَّاحِ )
وقال الأعشى : ( مِثْل أيَّامٍ لَنَا نعْرِفُهَا ** هَرَّ كلبُ النَّاسِ فيها ونَبَحْ ) ( رُزُنُ الأحْلاَمِ في مجلسِهمْ ** كلّما كَلْبٌ من الناسِ نَبَحْ )

وقال : ( سيَنبَحُ كلبي جاهداً مِن ورائكم ** وأَغنى غَنَائي عنكُم أن أُؤنَّبا ) ( ولا هَرَّها كَلبِي ليبعد تعْرها ** ولو نَبَحَتْنِي بالشَّكاةِ كلابُها ) كلابها : شعراؤها وهو قول بشر بن أبي خازم : ( وإنِّي والشَّكاةَ لآلِ لأمٍ ** كذاتِ الضِّغْنِ تَمشي في الرِّفاقِ ) وقال أبو زُبَيْد : ( ألم تَرَني سكَّنْتُ لأياً كلابَهُمْ ** وكفكفت عنكم أكلُبِي وَهي عُقّرُ )

هجاء ضروب من الحيوان
قال صاحب الكلب : قد علمنا أنّكم تتبَّعتم على الكلب كلَّ شيءٍ هُجِي به وجعلتم ذلك دليلاً على سقوط قدْره وعلى لؤم طبعه وقد رأينا الشعراءَ قد هَجَوا الأصناف كلّها فلَمْ يُفلت منهم إنسان ولا سبع ولا بهيمةٌ ولا طائر ولا هَمَج ولا حشَرة ولا رفيع من الناس ولا وضيع

إلاّ أن يَسلم بعضُ ذلك عليهم بالخمول فكفاك بالخمول دِقَّةً ولُؤماً وقِلَّة ونَذالة وقال أميَّة بن أبي عائذ لإياس بن سهم : ( فأبْلِغْ إياساً أَنَّ عِرضَ ابنِ أُختِكمْ ** رِداؤُك فاصطَنْ حسنه أو تبذَّلِ ) ( فإن تكُ ذا طَوْلٍ فإني ابنُ أُختكم ** وكلُّ ابنِ أختٍ من نَدَى الخالِ مغتلِي ) ( فما ثعلبٌ إلاَّ ابن أختِ ثُعالةٍ ** وإنَّ ابنَ أختِ اللَّيثِ رِيبالُ أشبُلِ ) ( ولن تجد الآسادَ أخوالَ ثعلَبٍ ** إذا كانت الهيجا تَلوذُ بمدخلِ ) فهذا من الثعلب وقال مزرّد بن ضرار : ( وإنّ كناز اللَّحمِ من بَكَراتِكمْ ** تهرُّ عليها أمُّكُمْ وتكالب ) ( وليتَ الذي ألقى فناؤُك رحله ** لتَقرِيَه بالتْ عليه الثعالبُ ) فقد وضع الثعلب كما ترى بهذا الموضع الذي كفاك به نذالة قال ابن هرمة : ( فما عادت بذي يَمَن رُؤوساً ** ولا ضَرَّت لفرقتها نِزارَا )

( كعنْزِ السَّوءِ تنطَحُ من خلاها ** وتَرْأَمُ من يُحِدُّ لها الشِّفَارا ) وهذا قول الشاعر في العنز وقال ابن أحمر : ( إنا وجدْنَا بني سهْمٍ وجامِلَهم ** كالعنْزِ تَعْطِف رَوقيها فترتَضِعُ ) وقال الفرزدق : ( على حينَ لم أتركْ على الأرضِ حَيّة ** ولا نابحاً إلا استقرَّ عَقُورها ) ( وكان نُفَيع إذ هجاني لأهْلِه ** كباحثةٍ عن مُدْيةٍ تستثيرُها ) فهذا قولهم في العنز ولا نعلم في الأرض أقلَّ شرّاً ولا أكثر خيراً من شاة . ( يا لَلرجال لقومٍ قد مَلِلتُهم ** أرى جِوارَهمُ إحدى البليَّات ) ( ذئبٌ رضيع وخِنزير تُعارِضُها ** عَقارِبٌ وُجِنَتْ وَجْناً بِحَيَّاتِ ) ( ما ظنُّكم بأناس خَيْرُ كسبهمُ ** مُصَرَّح السُّحتِ سمَّوه الأَمَانات ) فهذا قولهم في العقارب والحيَّاتِ والضِّباع والخنازير .
وقال حماد عَجْردٍ في بَشَّار : ( قد كان في حُبِّي غزالةَ شاغِلٌ ** للقرد عن شَتْمي وفي ثوْبَانِ ) ( أو في سميعةَ أُختِها وشِرادِها ** لمجونها مع سِفْلة المُجّانِ ) ( أو بيت ضيق عرسه وركوبها ** شرّ البِغاءِ بأوكَسِ الأثمانِ )

هذا قول حماد في القرد وقال حمَّاد في بشَّار بن بُرد أيضاً : ( ولكنْ مَعاذَ اللّهِ لستُ بقاذِفٍ ** بَريئاً لسوَّاق لِقَومٍ نوائحِ ) ( وما قلتُ في الأعمى لِجَهلٍ وأمّه ** ولكِنْ بأمرٍ بيِّنٍ ليَ واضحِ ) ( سأُعرِضُ صحفاً عن حُصينٍ لأمِّه ** ولست عن القِرد ابن بَرْدٍ بصافِحِ ) وقال الآخر : ( لما أتيت ابنَي يزيدَ بن خَثْعَمٍ ** أرى القردَ والخنْزيِرَ مُحتَبِيانِ ) وقال العتَّابي : ( اسْجدْ لقِرْد السَّوءِ في زَمَانِه ** وإن تَلقَّاكَ بِخَنْزَوانِه ) لا سيَّما ما دام في سلطانه وقال أبو الشمقمق : ) ( إن رِياحَ اللُّؤمِ من شحِّه ** لا يَطمَع الخنزير في سَلْحِهِ ) ( كفّاه قُفل ضلّ مِفتاحهُ ** قد يَئِس الحدَّاد مِن فَتْحِهِ ) وقال خلف بن خليفة : ( فسبحانَ من رِزقُه واسع ** يَعُمُّ به القِرْدَ والقِرْدَهْ )

وهذا كثير ولعمري لو جُمِع كلُّه لكان مثلَ هِجاء الناس للكلب وكذلك لو جمع جميعُ ما مُدِح به الأسدُ فما دُونه والأمثالُ السائرةُ التي وقعت في حَمد هذه الأشياء لَمَا كانتْ كلُّها في مقدارِ مديح الكلب فهذه حُجَّتُنَا في مَرتبةِ الكلب على جميع السباع والبهائِم .
ولما قال معبدٌ في قتل الكلب وتلا قول اللّه عزَّ وجلَّ : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى َ الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكُهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فاقْصُصِ الْقَصَصَ قال أبو إسحاق : وإن كنتَ إنَّما جعلتَ الكلب شرّ الخلق بهذه العلَّة فقد قال على نسق هذا الكلام : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قَلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُون بِهَا أُولئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فالذي قال في الإبل والبقَر والغنَم أعظم فَأَسْقِطْ من أقدارها بقدر معنى الكلام وأدنى ذلك أن تُشرِك بين الجميع في الذمّ فإنَّك متى أنصفتَ في هذا الوجه دعاك ذلك إلى أن تُنْصِفها في تتبُّع ما لها من الأشعار والأمثال والأخبار والآيات كما تتبَّعت ما عليها .

الشرف والخمول في القبائل
وقال صاحب الكلب : سنضرب مثلاً بيننا يكون عَدلاً : إذا استوى القبِيلان في تقادم الميلاد ثم كان أحد الأبوين كثير الذرء والفُرسان والحكماءِ والأجواد والشعراء وكثيرَ السادات في العشائر وكثيرَ الرؤساء في الأرحَاء وكان الآخر قليل الذَّرء والعدد ولم يكن فيهم خير كثيرٌ ولا شر كثير خملوا أو دخلوا في غمار العرب وغَرِقُوا في معظم الناس وكانوا من المغمورين ومن المنسيِّينَ فسَلموا من ضروب الهجاء ومن أكثرِ ذلك وسلموا من أنْ يُضرَبَ بهم المثل في قِلَّةٍ ونذالة إذا لم يكن شرٌّ وكان محلُّهم من القلوب محلّ من لا يَغْبِط الشعراءُ ولا يحسدهم الأكفاءُ وكانوا كما ( وقُولا إذا جَاوزتما أرْضَ عامرٍ ** وجاوزتُما الحيَّينِ نهْداً وَخَثْعَمَا ) ( نَزيعانِ من جَرْمِ بن رَبَّانِ إنَّهم ** أَبَوْا أن يُرِيقوا في الهَزاهِز مِحْجما )
وإذا تقادم الميلاد ولم يكن الذّرْءُ وكان فيهم خيرٌ كثيرٌ وشرٌّ كثيرٌ ومثالِب ومناقب ولم يَسلَموا من أن يُهجَوا ويُضْرَبَ بهم المثل ولعلَّ أيضاً أن تتفق لهم أشعار تتصل بمحبة الرواة وأمثال تسير على ألسنة

العلماء فيصيرُ حينئذٍ من لا خير فيه ولا شرَّ أمْثلَ حالاً في العامَّة ممَّن فيه الفضلُ الكثيرُ وبعضُ النقص ولا سيَّما إذا جاوَروا من يأكُلهم وحالَفوا من لا ينصفهم كما لقيت غَنِيّ أو باهلة .
ولو أنَّ عبْساً أقامت في بني عامر ضِعفَ ما أقامت لذهب شَطْرُ شرفها ولكنَّ قيسَ بن زُهير لمَّا رأى دلائل الشرِّ قال لأصحابه : الذلُّ في بني غَطفَان خير من العزِّ في بني عامر .
وقد يكون القوم حُلولاً مع بني أعمامهم فإذا رأوا فضْلهم عليهم حَسدوهم وإن تركوا شيئاً من إنصافهم اشتدَّ ذلك عليهم وتعاظَمَهم بأكثر من قدره فَدَعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم فوقَ الذي كانوا فيه من بني أعمامهم حتى يدْعُوَهم ذلك إلى النَّدم على مفارقتهم فلا يستطيعون الرُّجوع حميةً واتقاء ومخافَة أن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه وإلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم ومِن شدَّة ( بكل وادٍ بنو سعد ) وقد خرج الأضبَط بن قُريع السَّعْدِيُّ من بني سعد فجاوَزَ ناساً فلما رأى مذْهَبهم وظُلمهم ونَهْكهم قال : بكلِّ وادٍ بَنُو سعد فأرسلها مثلاً .


وقد كان عبَّاس بن ريطة الرِّعلي سيِّد بني سُليم وقد ناله ضيم في بعض الأمر فأبى الضَّيم فلما حاولَ مفارقتَهم إلى بني غَنْم عزَّ عَليْهِ فقال في كلمة له : ( وأمُّكم تُزْجِي التؤام لبَعْلِها ** وأمُّ أخِيكم كزَّةُ الرِّحْم عاقِرُ ) وزعموا أنَّ أبا عمرو أنشد هذا الشعر وخبَّر عن هذه القصّة في يومٍ من أيامه فدمعت عينُه فحلف شُبَيل بن عَزرة بالطلاق : إنَّه لَعَرَبيٌّ في الحقيقة لغِيَّةٍ أو لرِشْدة قبائل في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضعة فمن القبائل المتقادمة الميلاد التي في شِطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضَعة مثل قبائل غطفان وقيس عيلان ومثل فزارة ومرَّة وثعلبة ومثل عبس وعبد اللّه بن غطفان ثم غَنِيّ وباهلة واليعسوب والطفاوة فالشرف والخطر في عَبس وذبيان والمبتلى والملقَّى والمحروم والمظلوم مثل باهلة وغنيّ ممّا لقيت من صوائب سهام الشعراء وحتَّى كأنَّهم آلة لمدارج )
الأقدام ينكب فيها كلُّ ساعٍ ويعثُر بها كلُّ ماش

وربّما ذكروا اليَعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء وأَشجَع الخنثى ببعض الذِّكر وذلك مشهور في خصائص العلماء ولا يجوز ذلك صدورَهم وجلُّ معظم البلاء لم يقع إلاَّ بغنيٍّ وباهلة وهم أرفع من هؤلاء وأكثر فضولاً ومناقب حتى صار من لاخير فيه ولا شرَّ عنده أحسنَ حالاً ممَّن فيه الخير الكثير وبعض الشرّ وصار مثلهم كما قال الشاعر : ( اضرب نَدَى طَلْحَةِ الطّلْحَات مبتدئا ** بِبُخْل أشْعثَ واستَثْبِتْ وكُنْ حكما ) ( تخرج خُزاعة من لؤم ومِن كرمٍ ** ولا تعُدَّ لها لؤماً ولا كرما ) وقد ظرف في شعره فظلم خُزاعةَ ظُلماً عبقريّاً .
وقال في مثل ذلك الأشعر الرَّقَبان الأسديّ :

( بحسْبِك في القوْمِ أن يعْلموا ** بأنّك فيهم غنيٌّ مُضِرّ ) ( وأنت مليخ كلحْم الحُوَارِ ** فلا أنت حُلْوٌ ولا أنت مُرّ ) وكما قال الشاعر في علباءَ بن حبيب حيث يقول : ( أرى العِلباء كالْعِلْبَاءِ ** لا حلوٌ ولا مُرُّ ) ( شُيَيْخٌ من بني الجارو ** دِ لا خيرٌ ولا شرُّ ) والخمول اسمٌ لجميع أصناف النَّقْصِ كلِّها أو عامَّتها ولكنَّه كالسَّرْو عند العلماء وليس ينفعك العامَّةُ إذا ضرّتك الخاصَّة .
ومن هذا الضرب تميم بن مرّ وثور وعُكل وتيم ومزينة ففي عُكل وتيم ومزَينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور وقد سلِم ثور إلاَّ من الشيء اليسير مما لا يرويه إلاَّ العلماء ثم حلَّت البليَّةُ وركَدَ الشرُّ والتحف الهجاء على عُكْل وتيم وقد شعّثوا بين مزينة شيئاً ولكنَّهم حبَّبهم إلى المسلمين قاطبةً ما تهيأ لهم من الإسلام حين قلّ حظُّ تيم فيه وقد نالوا من ضبَّة مع ما في ضبَّة من الخصال الشريفة لأنَّ الأبَ متى نقص ولَدُه في العدد عن ولد أخيه فقد ركبهم الآخَرون بكلِّ عظيمة حتى يروا تسليمَ المرباع إليهم حظّاً والسير تحت اللواء والحمل على أموالهم في النوائب حتَّى ربَّما كانوا كالعضاريط والعُسَفاء والأتباع وفي الأتباع والدخلاء ثم لا يجدون من ذلك بدّاً كأنهم متى امتنعوا خذَلوهم فاستباحوهم فرأوا أن النَّعمة أربحُ لهم .


وقد أعان غيلان على الأحنف بكلمة فقال الأحنف : عبيدٌ في الجاهليَّة أتباعٌ في الإسلام )
فإن هربوا تفرّقوا فصاروا أشلاءً في البلاد فصار حكمُهم حكم من درج وحكمُ أبيهم كحكم من لم يُعقِب وإذا هم حالفوا القرباء فذلك حيث لا يرفعون رؤوسهم من الذلّ والغرم .
والحِلْف ضربان : فأحدهما كانضمام عبس وضبَّة وأسد وغطفان فإنَّ هؤلاءِ أقوياءُ لم يُنهكوا كما نُهِكت باهلة وغنيّ لحاجةِ القوم إليهم ولخشونة مسِّهم إن تذكّروا على حال فقد لقِيت ضبَّةُ من سعدٍ وعبسٌ من عامر وأسدٌ من عيينة بن حصن ما لقُوا .
وقد رأيت مشقَّةَ ذلك على النابغة وكيف كرِه خروج أسد من بني ذبيان .
وعيينةُ بن حصن وإن كان أسود من النابغة وأشرف فإنَّ النابغةَ كان أحزم وأعقل .


وقد سلمت ثور وابتُليت عُكل وتيم ولولا الربيع بن خُثَيم وسُفيان الثوري لما علمت العامَّةُ أنَّ في العرب قبيلةً يقال لها ثور ولَشَريفٌ واحدٌ ممَّن قَبَلت تيم أكثرُ من ثور وما ولد .
وكذلك بَلْعَنبر قد ابتُليت وظلمت وبُخست مع ما فيها من الفُرسان والشُّعراء ومن الزُّهاد ومن الفقهاء ومن القضاة والوُلاة ومن نوادر الرِّجال إسلاميِّين وجاهليِّين .
وقد سلمت كعب بن عمرو فإنه لم ينلها من الهجاء إلاَّ الخمش والنُّتف .
وربَّ قومٍ قد رضُوا بخُمولهم مع السلامة على العامَّة فلا يشعرون حتَّى يصبَّ اللّه تعالى على قممِ رؤوسهم حجارةَ القذف بأبياتٍ يسيِّرها شاعر وسوطَ عذابٍ يسير به الراكبُ والمثل كما قال الشاعر : ( إن مَنَافاً فَقْحَةٌ لدارِم ** كما الظليمُ فَقْحَةُ البراجِمِ ) ( وجَدْنَا الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المطَايَا ** كما الحَبِطاتُ شرُّ بني تميمِ ) فما الميسم في جِلد البعير بأعلق من بعض الشعر .

أثر الشعر في نباهة القبيلة
وإذا كان بيت واحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعَدد والفَعال مثل نُمير يصير أهلُه إلى ما صارت إليه نُمير وغير نمير فما ظنُّكَ بالظُّلَيم وبمناف وبالحَبِطات وقد بلغ مضرَّةُ جرير عليهم حيثُ قال : ( فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمير ** فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا ) إلى أن قال شاعر آخر وهو يهجو قَوْماً آخَرين : وسَوفَ يزيدُكم ضَعةً هِجَائِي كما وضعَ الهِجاءُ بَنِي نُميْرِ )
وحتّى قال أبو الرُّدَيْنيّ : ( أَتُوعِدُنِي لِتَقْتُلَنِي نُميْرٌ ** مَتى قَتَلَتْ نُميْر مَنْ هَجَاهَا ) بكاء العرب من الهجاء وذكر بعض من بكى منهم لذلك ولأمر ما بكت العربُ بالدموع الغِزار من وقعِ الهجاءِ وهذا من أوَّل كرمها كما بكى مخارقُ بن شِهاب وكما بكى عَلقمة بن عُلاثة وكما بكى عبد اللّه بن جُدعان من بيتٍ لخداش بن زهير وما زال يهجوه من غير أن يكون رآه ولو كان رآه ورأى جماله وبهاءَه ونبله والذي يقع في النفوس من تفضيله ومحبته ومن إجلاله والرقة عليه أمسك ألا

ترى أن النَّبيت وغسَّان بن مالك بن عمرو بن تميم ليس يعرفهم بالعجز والقلَّة إلاَّ دَغفل بن حنظلة وإلاَّ النخَّار العُذريّ وإلا ابن الكيِّس النمريّ وإلاَّ صُحار العبدي وإلاَّ ابن شَرِيَّة وأبو السَّطَّاح وأشباههم ومن شابه طريقهم والاقتباس من مواريثهم وقد سلموا على العامة وحصلوا نسب العرب فالرجل منهم عربي تميمي فهو يعطي حقّ القوم في الجملة ولا يقتضي ما عليه وعلى رهطه في الخاصّة والحرمان أسوأ حالاً في العامة من هذه القبائل الخاملة وهم أعدّ وأجلد .
ما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول وبليَّة أخرى : أنْ يكون القبيلُ متقادِم الميلاد قليل الذلة قليل السيادة وتهيَّأ أن يصير في ولدِ إخوتهم الشرف الكامل والعدد التامّ فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكلِّ من رآهم أو سمع بهم أضعافُ الذي هم عليه لو لم يكونوا ابتُلوا بشرف إخوتهم .
ومِنْ شؤم الإخوة أنّ شرفهم ضعةُ إخوتهم ومن يُمن الأولاد أنّ شرفهم شرفُ من قَبْلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم : كعبد اللّه بن دارم وجرير بن دارم فلو أنَّ الفُقَيم لم يناسب عبد

ولقد ضعضعتْ قُريش لما جاءتْ به من الخصال الشريفة التامّة مِنْ أركان كنانة سَنامَ الأرض وجبلها وعينَها التي تبصر بها وأنفَها التي بها تعطس فما ظنُّك بمن أبصر بني زيد بن عبد اللّه بن دارم وبني نهشل بن دارم وبني مجاشع بن دارم ثمَّ رأى بني فقُيم بن جرير بن دارم وكذلك كلُّ أخوَين إذا برَع أحدُهما وسبق وعلا الرِّجال في الجود والإفضال أو في الفُرُوسة أو في البيان فإِن كان الآخر وسَطاً من الرجال قصدُوا بحسن مآثره في الطبقة السفلى لتَبِين البراعةُ في أخيه فصارت قرابته التي كانت مفخرةً هي التي بلغت به أسفَل السافلين وكذلك عَنَزَة بن )
أسد في ربيعة ولو كان سودد ربيعة مرَّةً في عَنَزَة ومرّة في ضُبَيعة أضْجَمَ لكان خيراً لهم اليوم ولودَّ كثير من هؤلاءِ القبائل التي سلمت على الشعراءِ أو على العوامِّ أن يكون فيهم شَطْرُ ما للعنَزيِّين من الشرف ولو أنَّ الناس وازنوا بين خصال هذه القبائل خيرها وشرِّها لكانوا سَوَاءً .
وقال صاحب الكلب : ذكرتَ عيوبَ الكلب فقلتَ : الكلب إذا كان في الدار مَحَق أُجُور أهل الدَّار حتى يأتيَ على أقصاها لأنَّ الأجور إذ أُخِذ منها كلَّ يوم وزنَ قيراط والقيراط مثل أحد لم يلبث على ذلك أن يأتيَ على آخرها وقلتَ : في الكلب أشدُّ الأذى على الجار والضيف

والدخيل يمنعه النَّومَ ليلاً والقائلَة نهاراً وأن يسمَعَ الحديث ثمّ الذي على سامع النُّباح ولو لم يكن في الكلب ما يؤذي بشدَّة صوتِه إلاَّ بإدامة مجاوبة الكلاب لكان في ذلك ممّا ينغِّص العيش ويمنع من الكلام والحديث .
شعر في النباح والاستنباح وقال أرطأة بن سُهَيّة في بعض افتخاره : ( وإنِّي لَقَوَّام إلى الضّيف موهنا ** إذا أغدف السِّترَ البخيلُ المواكلُ ) ( دعَا فأجابَتْهُ كلاب كَثِيرَةٌ ** على ثقةٍ منِّي بما أنا فاعلُ ) ( وما دونَ ضيفي من تلادٍ تحوزُه ** يدُ الضيف إلاَّ أنْ تُصانَ الحَلائِلُ ) وقال ابن هَرْمة : ( ومستنبحٍ نبَّهتُ كلبي لصوتِهِ ** وقلتْ له قُمْ في اليَفَاع فجَاوِبِ ) ( فجاءَ خَفِيّ الصوتِ قد مسَّهُ الضّوى ** بضرْبةِ مسنونِ الغِراريْن قاضِبِ ) ( فرحَّبت واستبشرت حتَّى بسطتهُ ** وتلك التي ألقَى بها كلَّ آئبِ ) وقال آخر : ( هجمنَا عليه وهو يَكْعمُ كلبَهُ ** دعِ الكلب يَنْبحْ إنَّما الكلبُ نابحُ )

وقال مزرِّد بن ضرار : ( فإن آبَ سارٍ أسمَعَ الكلبَ صوتَه ** أتى دون نَبْحِ الكلبِ والكلب دائبُ ) وقال بشَّار بنُ برْد : ( سقَى اللّه القِباب بتلِّ عبدي ** وبالشرقين أَيَّامَ القِبابِ ) ( وأياماً لنا قَصُرَتْ وطالتْ ** على فُرعان نائمَةَ الكلابِ )
وقال رجل من بني عبد اللّه بن غَطفان : ( إذا أنتَ لم تستَبْقِ وُدَّ صحابةٍ ** على دَخن أكثرت بثَّ المعاتِبِ ) ( وإنِّي لأستبقي امرأ السَّوءِ عُدَّةً ** لعدْوَة عِرِّيضٍ من الناس جانبِ ) ( أخاف كلابَ الأبعدين ونبحهَا ** إذا لم تجاوبْها كلابُ الأقارِب ) وقال أُحيحة بن الجُلاح : ( ما أحْسَنَ الجِيدَ من مُليكةَ والل ** بَّاتِ إذ زانها ترائبُها ) ( يا ليتني ليلة إذَا هجع ال ** نَّاسُ ونامَ الكلابُ صاحبُها ) وقلتَ : وفي الكلب قذارةٌ في نفسه وإقذاره أهله لكثرة سُلاحه وبوله على أنّهُ لا يرضى بالسُّلاح على السطوح حتَّى يحفر ببراثنه وينقب بأظافره وفي ذلك التخريب .


ولو لم يكن إلاّ أنّهُ يكون سبب الوكف وفي الوكف من منع النَّوم ومن إفساد حُرِّ المتاع ما لا يخفى مكانه مع ما فيه من عضِّ الصبيان وتفزيع الوِلدان وشقِّ الثياب والتعرُّض للزوّار ومع ما في خلقه أيضاً من الطبع المستدعي للصبيان إلى ضربه ورجْمه وتهييجه بالعبث ويكون سبباً لعقْرهم والوثوبِ عليهم .
وقلت : وبئس الشيء هو في الدار وفيها الحُرَم والأزواج والسَّراريُّ والحظِيّات المعشوقات وذلك أن ذَكَره أَيَرُّ ظاهر الحجم وهو إما مُقْبَع وإمّا قائم وليس معه ما يواريه وربما أَشَظَّ وأنعَظ بحضرتهنَّ ولعلّهنَّ يكنَّ مُغِيباتٍ أو محتاجاتٍ إلى ما يحتاج إليه النساءُ عند غيبة فحلهنّ وإذا عجزَ عن أن يَعُمَّهن .
وفد قرحان وقد رمى ضابئُ بن الحارث البُرجُميُّ أمّ أناس من العرب أنّ الكلب الذي كان يسمَّى قُرْحان كان يأتي أمَّهم حتَّى استعدَوا عليه وحبسه في ذلك عثمان بنُ عفّان رضي اللّه تعالى عنه ولولا أنّ المعنى الذي رماهم به

كان مما يكون ويجوز ويُخافُ مثلُه لَما بلغ منه عثمانُ ما بلغ حتّى مات في حبسه وفي ذلك يقول ضابئ ابن الحارث : ( تجشَّم نَحوي وَفْدُ قُرحانَ شُقَّةً ** تَظَلُّ بها الوَجناءُ وهي حَسِيرُ ) ( فزوّدتُهم كلباً فراحوا كأنما ** حَباهم بتَاجِ الهرمزان أميرُ ) ( إذا عَثّنَتْ من آخر الليل دُخْنة ** يبيت له فوقَ السرِيرِ هَرِيرُ )

قصص تتعلق بالكلاب
وزعم اليقطريُّ أنّهُ أبصرَ رجلاً يكُومُ كلبةً من كِلاب الرعاء ومرَّ بذلك الزُّبِّ العظيمِ في ثفرها والثَّفرُ منها ومن السبع كالحِرِ من المرأة والظَّبْية من الأتان والحِجر والحياء من الناقة والشاة فزعم أنّها لم تعقِد عليه ولا ندري أمكّنته أم اغتصبَها نفسَها .
وأمّا النَّاس ففي مُلح أحاديثهم : أَنّ رجلاً أشرفَ على رجل وقد ناك كلبةً فعقَدت عليه فبقي أسيراً مستخْزِياً يدور معها حيث دارت قال : فصاح به الرجل : اضربْ جَنبَيها فأطلقته فرفَعَ رأسه إليه فقال : أَخزاه اللّه أيُّ نيَّاكِ كلْباتٍ هو .


وخبّرني من لا أردُّ خبره أنّه أشرفَ من سطحٍ له قصير الحائط فإذا هو بسَوادٍ في ظلِّ القمر في أصل حائط وإذا أنينُ كلبة فرأى رأسَ إنسان يدخل في القمر ثم يرجع إلى موضعه من ظِلّ القمر فتأمَّل في ذلك فإِذا هو بحارس ينيك كلبة قال : فرجمتُه وأعلمته أنِّي قد رأيتُه فصبَّحني من الغد يقرَع الباب عليّ فقلت له : ما حاجتك وما جاء بك فلقد ظننتُ أنّك ستركب البحر أو تمضي على وجهك إلى البراري قال : جُعِلتُ فِداك أسألك أن تستُر عليّ ستَرَ اللّه عليك وأنا أتوب على يديك قال : قلت ويلَك فما اشتهيتَ مِن كلبة قال : جُعلت فداك كلُّ رجلٍ حارسٍ ليس له زوجةٌ ولا نجل فهو ينيك إناثَ الكلاب إذْ كنَّ عِظامَ الأجسام قال : فقلت : فما يخاف أن تعضَّه قال : لو رَامَ ذلك منها غيرُ الحارس التي هي له وقد باتتْ معه فأدخلها في كِسائه في ليالي البرد والمطر لما تركته وعلى أنَّه إن أراد أن يوعبه كلَّه لم تستقرّ له قال : ونسيتُ أنْ أسألَه : فهل تعقِد على أُيور النّاسِ كما تعقِد على أيور الكلاب فلقيته بعدَ ثلاثين سنة فقال : لا أدري لعلَّها لا تعقد عليه لأنَّهُ لا يُدْخِلُهُ فيها إلى أصله لعلّ ذلك أيضاً إنَّما هو شيءٌ يحدث بين الكلب والكلبة فإِذا اختلفا لم يقع الالتحام قال : فقلتُ : فَطَيِّبٌ هو قال : قد نكْت عامَّة إنَاث الحيوانات فوجدتُهُنَّ كلَّهنَّ أطيَبَ من النساء قلتُ : وكيف ذلك قال :

ما ذاك إلاّ لشدَّة الحرارة قال : فطال الحديث حتى أَنِس فقلتُ له : فإذا دار الماء في صُلْبك وقرُبَ الفراغ قال : فربَّما التزمتُ الكلبةَ وأهوَيت إلى تقبيلها ثم قال : أمَا إنَّ الكلابَ أطيبُ شيءٍ أفواهاً وأعذَبُ شيءٍ رِيقاً ولكن لا يمكن أنْ أنيكها من قُدَّامٍ ولو ذهبتُ أن أنيكها من خلف وثَنيتُ رأسَها إلى أنْ أقبِّلها لم آمَنْ أنْ تظنَّ بي أني أريدُ غيرَ ذلك فتُكدِّم فمي ووجهي قال فقلت : فإنِّي أسألُك بالذي يستُرُ عليك هل نَزَعت عن هذا العمل مُنْذُ أعطيتَني صفقةَ يدِك )
بالتَّوبة قال : ربَّما حنَنتُ إلى ذلك فَأَحتبسُ بعهدك .
قال : وقلتُ : وإنَّك لتحنُّ إليها قال : واللّه إني لأَحِنُّ إليها ولقد تَزَوَّجتُ بعدَك امرأتين ولي منهما رجالٌ ونساء ومن تعوّد شيئاً لم يكد يصبِرُ عنه قال : فقلت له : هل تَعرف اليومَ في الحُرّاس مَن ينيك الكلبات قال : نعم خذ محموَيه الأحمر وخذ يشجب الحارس وخذ قفا الشاة وخذ فارساً الحَمّاميّ فإنّ فارساً كان حارساً وكان قيِّم حَمّام وكان حَلَقيّاً فزعم أنّه ناكَ الكلابَ خمسين سنة وشاخ وهُزِلَ وقبُح وتشنَّج حتّى كان لا يُنيكه أحد قال : فلم يزَلْ يحتالُ لكلب عندَه حتى ناكه قال : وكان معه بخير حتَّى قتله اللصوص ثمَّ أشرفَ على فارِسٍ هذا المحتسِبُ الأحدبُ وهو ينيك كلبةً فرماه بحجر فدمَغَه قال : فالكلاب كما ترى تُتَّهم بالنساءِ وينيكها الرجال وتنيك الرجال وليس شيءٌ أحقّ بالنفي والإغراب والإطراد وبالقتل منها ونحن

من السباع العادِيَة الوحشيَّة في راحة إلاّ في الفَرْط فإنّ لها عُراماً على بعض الماشية وجنايةً على شرار العامَّة وكذلك البهائم وما عسى أن يبلغ من وطْءِ بعير ونطح كبش أو خمش سِنّورٍ أو رَمْح حمار ولعلّ ذلك يكون في الدهر المرّةَ والمرّتين ولعلَّ ذلك أيضاً لا ينال إلاَّ عبداً أو خادماً أو سائساً وذلك محتَمل فالكلاب مع هذه الآفات شركاءُ الناس في دورهم وأهاليهم .
قال صاحب الكلب : إنْ كنتم إلى الأذى بالسُّلاح تذهبون وإلى قَشرِ طِين السطوح بالبراثن تميلون وإلى نتن السُّلاح وقذَر المأكول والمشروب تقصدون فالسِّنَّورُ أكثر في ذلك وقد رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنّه قال : هُنَّ مِنَ الطَّوَّافاتِ عليكم فإِذا كان ذلك في السنانير مغتفراً لانتفاعهم بها في أكل الفأر فمنافع الكلاب أكثرُ وهي بالاعتقاد أحقّ وفي إطلاق ذلك في السنّور دليلٌ على أنّه في الكلاب أجْوَز .
وأمَّا ما ذكرتم من إنعاظه فلعمري إنّه ما ينبغي للغَيورِ أن يُقيم الفرسَ ولا البِرذونَ والبغلَ والحمارَ والتَّيس في المواضع التي تراها النساءُ والكلبُ في ذلك أحسنُ حالاً وقد كرِه ناسٌ إدخال منازلهم الحمامَ والدِّيكةَ والدجاج والبطّ خاصة لأنّ له عند السفاد قضيباً يظهر وكذلك التيس من الظباءِ فضلاً عن تُيوس الصفايا فهذا المعنى الذي ذكرتمْ يجري في وجوهٍ كَثيرة

وعلى أنّ للحمام خاصَّةً من الاستشارة والكَسْم بالذئب والتقبيل الذي ليس للناس مثلُه ثمَّ التقبيل والتغزّل والتَّنفُّش والابتهاج بما يكون منه بعدَ الفراغ وركوب الأنثى للذكر وعدم )
إمكانها لغير ذكرها ما يكونُ أهيجَ للنساء ممَّا ذكرتم فلم أفردتم الكلب بالذِّكر دونَ هذه الأمورِ التي إذا عاينت المرأة غُرمُولَ واحِدٍ منها حقَرت بعلَها أو سيِّدَها ولم يزل ظلُّ ذلك الغرمول يعارضها في النوم وينبِّهها ساعةَ الغفلة ويُحدِث لها التمنِّيَ لما لا تقدر عليه والاحتقارَ لما تقدر عليه وتركتم ذكر ما هو أجلُّ وأعظمُ إلى ما هو أخسُّ وأصغر فإنْ كنتم تذهَبون في التشنيع عليه إلى ما يعقر من الصبيان عند العَبث والتعرُّض والتَّحَكك والتهيِيج والتحريش فلو أنّ الذي يأتي صبيانُكم إلى الكلب من الإلحاح بأصنَاف العَبَث والصِّبيانُ أقسى الخلْقِ وأقَلّهم رحمةً أنْزَلُوهُ بالأحنف ابن قيس وقيس بن عاصم بل بحاجب بن زُرارة وحِصن بن حُذَيفة لخَرَجُوا إلى أقبَحَ ممَّا يخرج إليه الكلب ومَن ترك منهم الأخذَ فوق يدِ ابنه فهو أحقُّ باللائِمة .


وبعد فما وجدْنَا كلباً وثبَ على صبيٍّ فعقَره مِنْ تلقاءِ نفسه وإنّه ليتردَّد عليه وهو في المهد وهو لحمٌ على وضَم فلا يشَمُّه ولا يدنو منه وهو أكثرُ خلقِ اللّه تعالى تشمُّماً واسترواحاً وما في الأرضِ كلبٌ يلقى كلباً غريباً إلاَّ شمّ كلُّ واحدٍ منهما استَ صاحبِه ولا في الأرضِ مَجوسيٌّ يَموت فيُحْزَن على موتِه ويحمل إلى الناوُوس إلاَّ بعد أن يُدنى منه كلبٌ يشَمُّه فإنّه لا يخفى عليه في شمِّه عندَهم أحيٌّ هو أم ميِّتٌ للطافَةِ حِسِّه وأنّه لا يأكل الأحياءَ فأمَّا اليهود فإنّهم يتعرَّفون ذلك من الميّت بأن يدهُنوا استَه ولذلك قال الشاعر وهو يرمي ناساً بدين اليهودية : إذا مات منهم ميِّتٌ مَسَحُوا اسْتَهُ بدُهنٍ وحَفُّوا حَوْلَه بقرَام

جنايات الديك
وقالوا : فإذا ذكرتم جناياتٍ الكلاب فواحدٌ من جنايات الدِّيَكة أعظمُ من جنايات الكلاب لأنّ عبد اللّه بن عثمان بن عفّان ابنَ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنَّما مات من نقْرِ ديكٍ في دار عثمان نقر عينه فكان سبَبَ موته فقتْلُ الديك لِعتْرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعظمُ من كثيرٍ ممَّا تستعظمونَه من جنايات الكلاب .


وقد نقر ديكٌ عينَ ابن حَسَكة بن عَتَّاب أو عين ابن أخته .
وقد نقر ديك عين ابن الريان بن أبي المسيح وهو في المهد فاعورّ ثمَّ ضربته الحُمرة فمات ووثبَ ديك فطعن بصِيصَتِه عين بنتٍ لثُمامة بن أشرس قال ثمامة : فأتاني الصّريخ فو اللّه ما وصلتُ إليها حتى كَمد وجههُا كلُّه واسوَدَّ الأنفُ والوَجْنتان وغارت العينان وكان شأنُ هذا )
الديك فيما زعم ثمامة عجباً من العجب : ذكر أنَّ رجلاً ذكر أنَّ ديكاً عند بقَّالٍ لهم يقاتل به الكلاب قال : فأتيتُ البقَّال الذي عنده فسألتُه عن الديك فزعم أنَّه قد وجَّه به إلى قتال الكلاب وقد تراهنوا في ذلك فلم أبرحْ حتَّى اشتَرَيْتُهُ وكنتُ أصونُه وجعلته في مَكَنّة فخرجت يوماً لبعض مصلحةٍ وأقبلت بنتي هذه لتنظر إليه فكان هذا جزائِي منه .
قال : وديكٌ آخر أقبل إلى رأس زيد بن علي حتَّى وطئَ في ذؤابته ثمّ أقبَلَ ينقُرُ دِماغه وعينيه فقال رجل من قريش لمن حضر ذلك من الخدم :

نفع الكلب
والكلب إن كان كما يقول فإنَّ له يداً تشجُّ وأخرى تأسُو بل ما يدفَع اللّه بحراسته ويجلب من المنافع بصيده أكثرُ وأغمر وهو

الغامر لا المغمور والفاضل لا المفضول والديك يفقأ العُيونَ وينقُر الأدمغة ويقتل الأنفس ويشُجُّ ولا يأسو فشرُّه صِرف وخيره ممزوج إلاّ أنْ يزعموا أنّه يحرس من الشيطان فيكون هذا من القول الذي يحتاج إلى البرهان ومن عارض منافع الكلاب وحراستَها أموالَ الناس من اللصوص ومنعَ السِّباع من الماشية وموضعَ نفع الكلب في المزارع وذلك عيان ونفعه عامُّ وخطبه عظيم بما يُدَّعَى من حراسة الدِّيكة للشيطان لم يكايل ولم يُوازِن ولم يَعرف المقايسة ولا وقَف قطُّ على معنَى المقابلة ودَلَّ بذلك على أنَّ مبلغَ رأيِه لا يجوز رأيَ النساء .

العواء وما قيل من الشعر فيه
ويكون العُواء للكلب والذئبِ والفصيل وقال النابغة : ( ألم أكُ جارَكم فتركتموني ** لِكلبي في دياركمُ عُواءُ ) وقال الشاعر : وقال الشاعر : ( ومستَنْبحٍ تَستَكشِط الرّيحُ ثَوْبَه ** ليَسقُط عنهُ وهو بالثَّوب مُعْصمُ )

( عَوى في سوادِ الليل بعدَ اعتسافِه ** لينبَحَ كلبٌ أو ليفزَعَ نُوّمُ ) ( فجاوبَهُ مستسمِعُ الصوتِ للقِرَى ** له مع إتيان المُهبِّينَ مَطْعَمُ ) ( يَكَادُ إذا ما أبصر الضيفَ مُقْبِلاً ** يكلِّمهُ من حبِّهِ وَهوَ أعجَمُ ) وقال ذو الرُّمَّة : ( به الذئب محزوناً كأنَّ عواءَه ** عواءُ فصيل آخرَ الليلِ مُحثَلِ ) وقال آخر : ( ومنهلٍ طامسة أعلامُه ** يَعوِي به الذئْبُ وتَزقُو هامُه ) وقال عَقيل بن عُلّفة يهجو زبَّان بن منظور : ( لا باركَ اللّهُ في قومٍ يسودهمُ ** ذئبٌ عَوى وهو مشدود على كُورِ ) ( لم يبقَ من مازنٍ إلاَّ شرارُهُم ** فوقَ الحصَى حولَ زبّان بنِ منظورِ ) وقال غَيلان بن سلمة : ( ومعرِّس حين العشاء به ** الحبس فالأنواء فالعقل ) ( فتركته يعوِي بقَفرتِه ** ولكلِّ صاحِب قفرةٍ شكلُ ) ( بتَنُوفةٍ جرداءَ يجزعها ** لَحِب يلوحُ كأنّه سَحْل ) وقال مغلّس بن لقيط : ( عوى منهُمُ ذئبٌ فطرَّب عادياً ** على فعليات مُسْتَثَارٍ سخيمها )

( إذا هُنَّ لم يلحَسْنَ من ذي قرابةٍ ** دماً هُلِستْ أحسادُها ولحومُها ) وقال الأحيمِرُ السعديُّ : عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى )
وصوَّتَ إنسان فكِدتُ أطيرُ وقال آخر : ( وعاوٍ عَوى واللّيْلُ مستحلس الندى ** وقد زَحَفَتْ للغور تالية النَّجِم ) وذلك أنّ الرجلَ إذا كانَ باغياً أو زائراً أو ممَّن يلتمِس القرَى ولم ير بالليل نَاراً عوى ونبح لتجيبَه الكلاب فيهتدي بذلك إلى موضع الناس .
وقال الشاعر : ومُستَنبِحٍ أهلَ الثَّرى يَلمَس القِرى إلينا وممساه من الأَرض نازح ( ومستنبحٍ بعد الهدُوِّ دعوتُه ** وقد حانَ من سارِي الشِّتاءِ طروق ) فهذا من عواء الفصيل والذئب والكلب .

ما قالوا في أنس الكلب وإلفه
وقال صاحب الكلب : وممّا قالوا في أنْس الكلب وإلفه وحبِّه لأهله ولمن أحسَنَ إليه قول ابن الطّثريّة : ( يا أُمَّ عمرٍ و أنجِزِي الموعودا ** وارعَيْ بذاكِ أمانةً وعُهُودا ) ( ولقد طرقْت كلابَ أهلِكِ بالضُّحَى ** حتَّى تركتُ عُقُورَهُنَّ رُقُودا ) ( يضرِبْنَ بالأذنابِ مِن فرحٍ بنا ** متوسِّداتٍ أذرُعاً وخدودا ) وقال الآخر : ( لو كُنْتُ أحمِلُ خمراً يومَ زرتُكم ** لم يُنكِر الكلبُ أنِّي صاحب الدَّارِ ) ( لكنْ أتيتُ ورِيحُ المِسكِ يفعمني ** والعنبرُ الوَرْدُ أُذكيه على النار ) ( فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ** وكان يعرف ريح الزِّقِّ والقار ) وقال أبو الطّمَحان القينيّ في الإلف وهو يمدح مالك بن حمار الشَمْخي :

( فما أنا والبكارَةُ من مخاضٍ ** عِظامٍ جِلَّةٍ سُدُسٍ وبُزْلِ ) ( وقد عرَفَتْ كلابُهمُ ثيابي ** كأنِّي منهمُ ونسيتُ أهلي ) ( نمَتْ بك من بني شَمْخٍ زِنَادٌ ** لها ما شئتَ مِن فرعٍ وأصلِ ) وقال الشاعر في أَنَس الكلاب وإلفها يذكر رجلاً : ( عنيف بتَسْواقِ العِشارِ ورَعْيِها ** ولكنْ بتَلْقَامِ الثَّرِيدِ رفيقُ ) ( سَنِيد يظَلُّ الكلب يمضَغْ ثَوبَه ** له في ديارِ الغانيات طَرِيق ) وقال الآخر : ( بات الحويرثُ والكلاب تَشَمُّه ** وسَرت بأبيضَ كالهلال على الطَّوَى ) وقال ذو الرمة : ( رأتني كلابُ الحي حتَّى ألِفنَني ** ومُدَّت نُسوج العنكبوت على رحلي ) وقال حسَّان بن ثابت : ( أولاد جَفْنَةَ حولَ قبرِ أبيهمُ ** قبرِ ابْنِ ماريةَ الكريمِ المُفْضِلِ ) ( بِيض الوجوهِ نقيَّةٌ حُجزاتُهمْ ** شمُّ الأنُوفِ من الطَّرازِ الأَوَّلِ ) ( يُغشَوْنَ حتَّى ما تَهِزُّ كلابهم ** لا يَسَألونَ عن السّوادِ المقبِلِ ) ( وبوَّأتِ بيتك في مَعلمٍ ** رَحِيب المَبَاءةِ والمسْرحِ ) ( كفيتَ العُفاةَ طِلاَبَ القِرَى ** ونَبْحَ الكلاب لمستَنْبِحِ )

( تَرَى دَعْس آثَارِ تلك المطيِّ ** أخادِيدَ كاللَّقم الأفيَحِ ) ( ولو كنْتَ في نفق زائغٍ ** لكُنْتَ على الشرك الأوضَح ) وفي مثل ذلك وليس في ذكر إلف الكلاب ولكِنَّه مما ينبغي أن يكون مجموعاً إلى هذه الأشعار وبك إلى ذلك حاجة شديدة قال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْت : ( لا الغياباتُ مُنتواكَ ولكنْ ** في ذُرَى مُشْرِفِ القُصورِ ذرَاكا ) وقال البزَّار الحلِّيّ في المعنى الأول : ( ألِفَ الناسَ فما ينبَحُهُمْ ** مِنْ أسيف يبتغي الخيرَ وحُرّ ) وقال عِمران بن عصام : ( لِعَبْدِ العزِيزِ على قَوْمِه ** وغَيرهِمُ مِنَنٌ غَامِرَهْ ) ( فبابك ألينُ أبوابهم ** ودارُك آهلةٌ عامرهْ ) ( وكلبُك آنس بالمعتفِين ** من الأُمِّ بابنتها الزَّائرهْ ) ( وكفُّك حين ترى السائلي ** ن أندَى من اللَّيلةِ الماطرهْ ) وقال هلال بن خثعم : ( إنِّي لَعَفٌّ عن زيارة جارَتي ** وإنِّي لَمشْنوءٌ إليّ اغتيابُها )

( إذا غابَ عنها بعلها لم أكنْ لها ** زَؤوراً ولم تأنَسْ إليَّ كلابُها ) ( وما أنَا بالدَّارِي أَحاديثَ سِرِّها ** ولا عالِم مِنْ أيِّ حوكٍ ثِيابُها ) ( وإنّ قِرَابَ البطنِ يكفيك ملؤهُ ** ويَكفيك سوءَات الأمور اجتنابُها ) وقال حاتم الطائي وهو حاتم بن عبد اللّه ويكنى أبا سَفَّانة وكان أسره ثوب ابن شَحمة العنبريّ مُجير الطير : ( إذا ما بخيلُ النَّاس هَرَّتْ كلابُه ** وشَقَّ على الضَّيفِ الغريبِ عَقُورُها ) ( فإنِّي جبانُ الكلب بيتي موطَّأٌ ** جَواد إذا ما النَّفسُ شَحَّ ضميرُها ) ( ولكن كلابي قد أُقِرَّت وعُوِّدت ** قليل على مَن يعتريها هَريرُها )

هجو الناس بهجو كلابهم
وقال صاحب الكلب : إنّ كثيراً من هجاءِ الكلب ليس يراد به الكلب وإنَّما يراد به هِجَاءُ رجلٍ فيجعل الكلب وُصلةً في الكلام ليبلغ ما يريدُ من شتمه وهذا أيضاً مما يرتفق الناسُ به ( مِن دونِ سَيبك لونُ ليل مظلمٍ ** وحَفيف نافجةٍ وكلب مُوسَدُ ) ( وأخوكَ محتمل عليك ضغينة ** ومُسِيفُ قومِك لائم لا يَحمَدُ )

( والضّيفُ عِنْدَكَ مثلُ أسودَ سالخ ** لا بلْ أحبُّهما إليك الأَسودُ ) فهذا قول الشاعر وقال الآخر : وما يكُ فيَّ مِن عيبٍ فإنِّي جَبَانُ الكلبِ مَهْزولُ الفصيلِ فهو لم يردْ مدحَ الكلب بالجبن وإنَّما أراد نفسه حين قال : وحفيف نافجة وكلب موسد فإن كان الكلبُ إنما أسرَه أهلُه فإنَّما اللوْم على من أسرَه وإنما هذا الضَّرب كقوله : ( قوم إذا استنبَحَ الأَضيافُ كلبهمُ ** قالوا لأُمِّهمُ بُولي على النَّارِ ) ومعلوم أنّ هذا لا يكون ولكن حقَّر أمرهم وصغَّرهم .
وقال ابن هَرْمة : ( وإذا تنوَّرَ طارِق مستنبِح ** نبحَتْ فَدَلَّتْهُ عليّ كلابي ) وقال ابن مهية : ( جلَبنا الخيلَ من شُعَبَى تَشَكَّى ** حوافِرَها الدوابرَ والنُّسورا ) ( ولم يكُ كلبُهم ليفيق حتَّى ** يُهارِشَ كلبُهم كلباً عَقورا ) ومعلوم أنَّ هذا لا يكون إنما هو مثل وقال أعرابيّ :

( أخو ثقةٍ قَدْ يحسبُ المجدَ فُرصةً ** إلى أهله أو ذِمَّةً لا تُخَفَّرُ ) ( حبيبٌ إلى كلبِ الكريمِ نباحُه ** كرِيهٌ إلى الكوماءِ والكلبُ أبصَرُ ) وقال ابن هَرْمة : ( وفرحة من كلابِ الحيِّ يتبَعُها ** شَحمٌ يَزِفُّ به الداعِي وتَرعِيبُ ) فهذا قول هؤلاءِ وقال الآخر : ( هَجَمْنَا عليه وهو يَكعَمُ كلبَه ** دَعِ الكلبَ يَنْبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ ) وقال الآخر : ( وتَكْعَم كلبَ الحيِّ مِن خَشيةِ القِرى ** ونارُكَ كالعَذْراءِ مِنْ دُونها سِتْرُ ) وقال أعشى بني تغلب : ( إذا احتلَّت معاوية بن عمرو ** على الأطواء خَنَّقَتِ الكلابا ) فالكلب مرَّةً مكعوم ومرّة مخنوق ومرّة مُوسَد ومحرَّش ومرةً يجعله جباناً ومرّةً وثّاباً كما قال الراعي في الحطيئة : ( وقعنا إليه وهو يخنقُ كلبَه ** دَع الكلبَ ينبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ ) وقال أعشى بني تغلب :

( بكَيْتَ على زادٍ خبيثٍ قرِيتَه ** ألا كلُّ عَبْسيٍّ على الزادِ نابحُ ) وقال الفرزدق : ولا تنزع الأضياف إلاّ إلى فتًى إذا ما أبَى أن ينبَحَ الكلبُ أوقدا وقال الآخر : دَع الكلبَ ينبَحْ إنَّما الكلبُ نابحُ وقال الآخر : ألا كلُّ كلبٍ لا أبا لَكَ نابحُ وقال الفرزدق : إذا ما أبى أن ينبَحَ الكلبُ أوقَدَا )
ومتى صار الكلب يأبى النباح فهذَا على أنّهم يتشفّون بذكر الكلب ويرتَفِقُونَ به لا على أنّ هذا الأمرَ الذي ذكروه قد كانَ على الحقيقة : وقال الآخر وهو جرير :

( يُثير الكلابَ آخرَ اللَّيلِ وَطؤُه ** كضَبِّ العَرادِ خَطْوُه متقارِبُ ) ( فباتَ يُمنِّينَا الربيعَ وصَوْبَه ** ويَنْظُرُ من لُقَّاعةٍ وهو كاذب ) فذكر تقارُبَ خطوه وإخفاءَ حركته وأنَّه مع ذلك قد أثار الكلاب من آخر الليل وذلك وقت نومها وراحتها وهذا يدلُّ على تيقُّظها ودِقَّة حسِّها .
وفيما ذكروا مِن حالة الكلب لسبب القرى من البرد والذي يلقى وكيف الشأن في ذلك قال أعشى باهلة : ( وأجْحَرَ الكلبَ مُبْيَضُّ الصَّقِيعِ بِهِ ** وأَلجأ الحيَّ من تنفاحه الحُجَرُ )

وقال الحطيئة : ( إذا أجْحر الكلبَ الصَّقِيعُ اتَّقَيْنَه ** بأثباجِ لا خُورٍ ولا قَفِراتِ ) وقال ابن هَرْمة : ( وسل الجارَ والمعصِّب والأض ** ياف وَهْناً إذا تحبَّوْا لديّا ) ( كَيف يَلْقوْنَني إذا نبَحَ الكل ** ب وراءَ الكُسُورِ نَبْحاً خَفِيّا ) ( ومَشَى الحالبُ الْمُبِسُّ إلى النَّا ** بِ فلم يَقرِ أصفرَ الحيّ ريّا ) ( لم تَكُنْ خارجيَّةً من تراثٍ ** حادثٍ بل وَرِثتُ ذاكَ عَليَّا ) ( وتَبرُد بَرْدَ رِداءِ العَرو ** سِ في الصَّيْفِ رَقرقتَ فيه العبيرا ) ( وتسخن ليلةَ لا يستَطي ** عُ نُباحاً بها الكلب إلا هريرا ) وقال الهذلي : ( وليلةٍ يَصطَلي بالفَرثِ جازِرُها ** يختصُّ بالنَّقَرى المُثرِينَ داعيها ) ( لا ينبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** من الشِّتاءِ ولا تَسرِي أفاعيها )

وقال الفرزدق : ( إذا احمرَّ آفاقُ السَّماءِ وهَتَّكَت ** كُسُورَ بَيوتِ الحيِّ نَكْباءُ حرْجَفُ ) ( وجَاءَ قريعُ الشَّولِ قبلَ إفَالِها ** يَزِفُّ وجاءَتْ خَلفَه وهي زُحَّفُ ) ( وهتَّكَتِ الأطنابَ كلُّ ذِفرَّةٍ ** لها تامكٌ من عاتق النَّيِّ أعرَفُ ) ( وباشرَ راعيها الصَّلَى بلبانه ** وكَفٍّ لحرِّ النار ما يتحرّفُ ) ( وقاتلَ كلبُ الحيِّ عن نارِ أهلِه ** ليربِض فِيها والصِّلا متكنَّفُ ) ( وأصبَحَ مبيَضُّ الصَّقيعِ كأنّه ** على سَرَوات النِّيبِ قُطْن مُندَّفُ )

الجزء الثاني
احتجاج صاحب الكلب بالأشعار المعروفة
( والأمثالِ السَّائرة والأخبار الصحيحة والأحاديث المأثورة وما أوجد العيان ) ( فيها وما استخرجت التجاربُ منها من أصناف المنافع والمرافق وعن )
مواضع أخلاقها المحمودة وأفعالها المرادة
. ) ونبدأ بقول العرب : إنَّ دماءَ الملوك شفاءٌ من داء الكلب ثُمَّ نذكر الأبواب لما قدَّمنا في صدر كلامنا هذا قال بعض المُرِّيِّين : ( أرَى الخلاّنَ بعد أبى عمير ** بِحجْرٍ في لقائهمُ جَفاءُ ) ( منَ البِيض الوُجوهِ بني سنان ** لوَ أنَّكَ تستضيئ بهم أضاءوا ) ( لهم شمسُ النَّهارِ إذا استقَّلت ** ونُورٌ ما يغيِّبُه العَماءُ ) ( بُناةُ مَكارمٍ وأساةُ كَلمٍ ** دِماؤهمُ مِنَ الكلَبِ الشفاء ) وقال الفرزدق :

( سقط : بيت الشعر ) ( من الدارميين الذين دماؤهم ** شفاء من الداء المجنة والحبل ) وقال عبدُ اللَّه بنُ قيس الرّقَيَّات : ( عاوَدَني النُّكسُ فاشتفيت كما ** تَشفي دِماء الملُوكِ من كَلَبِ ) وقال ابن عَيَّاش الكنديُّ لبني أسَد في قتلهم حُجْرَ بنَ عمرو :

( عبيد العصا جئتمْ بقتلِ رئيسكمْ ** تُريقون تاموراً شفاءً من الكلَبْ ) وقال الفرزدق : ( ولو تَشربُ الكَلْبى المِرَاضُ دماءَنا ** شَفَتْها وذو الخَبْلِ الذي هو أدْنَفُ ) وذاك أنَّهمْ يزعمون أنَّ دماءَ الأشراف والملوك تَشفي من عَضَّةِ الكلْبِ الكلَبِ وتَشفي من الجنون أيضاً كما قال الفرزدق : ( ولو تشربُ الكَلْبَى المِرَاضُ دماءنا ** شفتها )
ثم قال : وذو الخَبْلِ الذي هو أدْنَفُ وقد قال ذلك عاصم بن القِرِّيَّة وهو جاهليّ : ( وداويتُهُ مما بِهِ من مَجَنةٍ ** دمَ ابنِ كُهالِ والنِّطاسيُّ واقفُ ) ( وقَلَّدْتُه دهراً تميمةَ جَدِّه ** وليس لِشيءِ كادَهُ اللَّهُ صارفُ ) وكان أصحابنا يزعُمون أنَّ قولهم : دماء الملوك شفاءُ من الكلب على

معنى أنَّ الدَّم الكريم هو ( كَلِبٌ مِن حِسِّ ما قد مسَّهُ ** وأفانين فُؤاد مُخْتَبلْ ) وعلى معنى قوله : كَلِبٌ بِضرْبِ جَماجمِ ورِقابِ فإذا كَلِبَ من الغيظ والغضب فأدرك ثأره فذلك هو الشفاء من الكلَب وليس أنَّ هناك دماً في الحقيقة يُشربُ ولولا قول عاصم بن القرِّيَّة : والنِّطاسيُّ واقفُ لكان ذلك التأويلُ جائزاً وقول عوف بن الأحوص :

( ولا العنقاء ثعلبة بن عمرو ** دِماءُ القَومِ للكَلْبَى شِفاءُ ) وفي الكلب يقول الأعشى : ( أُراني وعَمْراً بيننا دَقُّ مَنْشِمٍ ** فلم يبق إلاًّ أنْ يُجَنَّ وأكلبا ) ألا ترى أنَّه فرَّق بينهما ولو كان كما قال لبيد بن ربيعة : ( يَسْعَى خُزيمةُ في قومٍ ليهلكهمْ ** على الحمالة هل بالمرء مِن كلَبِ ) لكان ذلك على تأويل ما ذهبوا إليه جائزاً وقال الآخر : ( وأمْرَ أميري قد أطَعتمْ فإنَّّ ما ** كَواه بَنارٍ بينَ عينيه مُكلبُ ) وهذا عندي لا يدخل في الباب الأوَّل وقد جعلوه منه .
قال صاحبُ الكلب : وزعمتم أنّه يبلغُ من فضل قوَّة طباع الدِّيك في الإلقاح أنَّه متى سفد دجاجة وقد احتشت بيضاً صغاراً من نتاج الرِّيح

والتراب قلبها كلَّها حيواناً ولو لم يكنْ سفِدها إلاَّ مرَّةً واحدة وجعلتموه في ذلك بغاية الفِحْلة فطباعُ الكلب أعجبُ إلقاحاً وأثقبُ وأقوى وأبعد لأنَّ الكلبَ إذا عضَّ إنساناً فأوَّل ذلك أنّْ يُحيله نبَّاحاً مثله وينقلَه إلى طباعه فصار ينبح ثم يُحبله ويُلقحه بأجراءٍ صغار يَبولُها عَلقاً في صُوَر الكلاب على بُعد ما بين العُنصرينِ والطَّبعين والجنسين والذى يتولَّد في أرحام الدجاج أقرب مشاكلة إلى طباع الديك فالكلب هو )
العجب العجيب لأنَّه أحبَلَ ذكراً من خِلاف جنسه ولأنّه مع الإحبال والإلقاح أحاله نبَّاحاً مثله فتلك الأدراص وتلك الكلاب الصغار أولادٌ ونتِاج وإن كان لا يبقى .
وقد تعلمون أنَّ أولادَ البغْلات من البغال لا تبقى وأن اللِّقاح قد يقع وإنما مُنع البغل من البغلة بهذه العلَّة .

أسرة تتوارث دواء الكلب
قال أبو اليقظان وغيره : كان الأسود بن أوس بن الحُمَّرة أتى النَّجاشيَّ ومعه امرأته وهي بنت الحارث أحد بني عاصم بن عبيد بن

ثعلبة فقال النجاشيُّ : لأعطينَّك شيئاً يشفي من داء الكلب فأقبَلَ حتَّى إذا كان ببعض الطريق أتاه الموت فأوصى امرأته أن تتزوَّج ابنه قٍ دامة بنَ الأسود وأن تعلّمه دواء الكلَب ولا يخرُج ذلك منهم إلى أحد فتزوَجته نِكاح مَقْت وعلّمته دواء الكلب فهو إلى اليوم فيهم .
فوَلدَ الأسود قُدامة وولد قُدامة المُحِلَّ وأمُّه بنت الحارث فكان المحِلُّ يُداوي من الكلَب فولد المحلّ عُقبةَ وعمراً فداوى ابنُ المحلُ عُتيبة بن مرداس وهو ابن فَسوة الشاعر فبال مثلَ أجراء الكلب عَلَقاً ومِثل صوُر النَّمْل والأدراص فقال ابن فسوْة حين برئَ : ( ولولا دواءُ ابنِ المُحِلِّ وعلمُه ** هَرَرتُ إذا ما النَّاس هَرَّ كلابهُا )

( وأخرج عبد اللَّه أولاد زارعٍ ** مُوَلَّعَة أكتافها وجنوبُها ) وأولاد زارع : الكلاب .
وأمَّا قوله : ولولا دواء ابن المُحِلِّ وعلمه هررتُ فإنَّما ذهبَ إلى أنَّ الذي يَعَضُّه الكلْبُ الكلِبُ ينبح نباح الكلاب ويَهِرُّ هريرها . ( أعراض الكَلَب ) وقال محمَّد بن حفص وهو أبو عبيد اللَّه بن محمد ابن عائشة : عضّ رجلاً من بَني العَنْبرِ كلبٌ كلب فأصابه داءُ الكلب فبال عَلَقاً في صورةِ الكلاب فقالت بنت المستَنْثر :

( أبا لكَ أدراصاً وأولادَ زارعٍ ** وتلكَ لعمْري نُهيَة المتعَجِّبِ ) وحدَّثني أبو الصَّهباء عن رجالِ من بني سعد منهم عبد الرحمن بن شبيب قالوا : عضّ سنجيرَ الكلبُ الكلِب فكان يعطشُ ويطلُبُ الماء بأشدِّ الطلب فإذا أتوه به صاح عند معاينته : لا لا أريد وهكذا يصيب صاحبَ تلك العضّة وذلك أنَّه يعطش عنها أشدّ العطش ويطلب الماء أشدَّ الطلب فإذا أتوه به هرَب منه أشدَّ الهرب فقال دَلَم وهو عبدٌ لبني سعد : ( لقد جئت يا سنجير أجلو ملقة ** إباؤك للشيء الذي أنت طالب ) وهي أبياتٌ لم أحفظ منها إلاَّ هذا البيت .
وذكر مَسْلَمَة بن محارب وعليُّ بن محمَّد عن رجاله أنَّ زياداً كتب دواء الكلب وعلَّقه على باب المسجد الأعظم ليعرفه جميع الناس .

( ردّ على ما زعموا من أعراض الكلب ) وأنا حفظك اللَّه تعالى رأيتُ كلباً مرّةً في الحَيِّ ونحنُِ في الكتَّاب فعرض له صبيٌّ يسمّى مهديّاً من أولاد القصّابين وهو قائم يمحو لَوحهُ فعضّ وجهه فنقع ثَنيَّته دونَ موضع الجفن من عينه اليسرى فخرق اللحمَ الذي دون العظم إلى شطر خدّه فرمى به ملقيَّاً على وجهه وجانبِ شِدقه وترك مُقلتَه صحيحة وخرج منه من الدّم ما ظننتُ أنَّه لا يعيش معه وبقي الغلامُ مبهوتاً قائماً لا ينبس وأسكته الفزع وبقي طائر القلب ثمَّ خيط ذلك الموضعُ ورأيته بعد ذلك بشهر وقد عاد إلى الكُتّاب وليس في وجهه من الشَّتْر إلا موضعُ الخيط الذى خيط فلم ينبَحْ إلى أن برئَ ولا هرَّ ولا دعا بماءٍ حتَّى إذا رآه صاح : رُدُّوه ولا بال جرواً ولا عَلقاً ولا أصابه ممَّا يقولون قليل ولا كثير ولم أجدْ أحداً من تلك المشايخ يشكُّ أنَّهم لم يَروا كلباً قطُّ أكْلَبَ ولا أفْسَدَ طبعاً منه فهذا الذي عاينت .
وأما الذي بلغني عن هؤلاء الثقات فهو الذي قد كتبتُه لك .

( مما قيل في الكلب الكلِب ) وفي الكَلْبِ الكَلِبِ أنشد الأعرابي : ( حيَّاكُم اللَّه فإنِّي منقلبْ ** وإنّما الشاعر مجنون كلبْ ) أكثر ما يأتي على فيه الكَذبْ ( فإن كنتُم كَلْبى فعندي شفاؤكم ** وفي الجنِّ إن كانَ اعتراك جُنونُ ) وأنشدني : ( وما أدري إذا لاقيتُ عَمْراً ** أكَلْبَى آلُ عمرو أمْ صِحاحُ ) قال : فأما المُكلب الذي يصيبُ كلابَه داءٌ في رُؤُوسها يسمَّى الجُحام فتُكْوى بين أعينها

مسألة كلامية
وسنذكر مسألة كلاميَّة وإنَّما نذكرها لكثرة من يعترض في هذا ممَّن ليس له علم بالكلام ولو كان أعلمُ الناس باللغة لم ينفعك في باب الدين حتّى يكون عالماً بالكلام وقد اعترض معترضون في قوله عزّ وجل : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأ الَّذي

آتيناهُ آياتنا فانسلخَ منها فأتبعه الشيطانُ فَكَانَ من الْغاوين وَلوْ شئنا لَرَفَعناهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلدَ إلى الأرض واتَّبَع هَوَاهُ فمثُلهُ كمثل الكلب إنَ تحْمِلْ عَلَيه يَلهثْ أو تَتْركْهُ يلهثْ ذلك مَثلُ القومِ الَّذين كذَّبوا بآياتنا فزَعَموا أنَّ هذا المثَلَ لا يجوزُ أن يُضرَب لهذا المذكور في صدر هذا الكلام لأنه قال : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فما يُشبَّه حالُ من أُعطي شيئاً فلم يقبله ولم يذكر غير ذلك بالكلب الذي إن حملتَ عليه نبح وولى ذاهباً وإن تركته شدَّ عليك ونبح مع أنّ قوله : يلهث لم يقع في موضعه وإنما يلهث الكلب من عَطشِ شديد وحرٍّ شديد ومن تعب وأما النُّباح والصِّياح فمن شيء آخر قلنا له : إن قال ذلكَ مَثَلُ القَومِ الَّذين كذَّبوا بآياتنا فقد يستقيم أن يكون الرادّ لا يسمَّى مكذباً ولا يقال لهم كذَّبوا إلا وقد كان ذلك منهم مراراً فإن لم يكن ذلك فليس ببعيد أن يشبَّه الذي أوتي الآيات والأعاجيب والبرهانات والكرامات في بدء حرصه عليها وطلبه لها بالكلب في حرصه وطلبه فإنَّ الكلبَ يُعطي الجِدَّ والجُهْد من نفسه في كلِّ حالةٍ من الحالات وشبَّه رفضه وقذفه لها من يديه وردَّه لها بعد الحرص عليها وفرط الرغبة فيها بالكلب إذا رجع ينبح بعد

إطرادك له وواجبٌ ُ أن يكون رفض قبول الأشياء الخطيرة النفيسة في وزن طلبهم )
والحرصِ عليها والكلب إذا أتعب نفسه في شدَّة النُّباح مقبلاً إليك ومدبراً عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التَّعب والعطش وعلى أنَّنا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا وهي رابضةٌ وادعة إلا وهي تلهث من غير أن تكون هناك إلا حرارة أجوافها والذي طُبعت عليه من شأنها إلا أنَّ لهث الكلب يختلف بالشدَّة واللِّين .

كرم الكلاب
وقال صاحب الكلب : ليس الدِّيك من الكلب في شيء فمن الكلاب ذواتُ الأسماء المعروفة والألقاب المشهورة ولكرامها وجوارحها وكواسبها وأحرارها وعتاقها أنسابٌ قائمةٌ ودواوينُ مخلّدة وأعراقٌ محفوظة ومواليد مُحصاة مثل كلب جذعان وهو السَّلْهبُ بن البراق بن يحيى بن وثّاب بن مظفِّر بن مُحارش .
شعر فيه ذكر أسماء الكلاب
وقد ذكر العرب أسماءَها وأنسابها قال مزرِّد بن ضرار :

( فعَدّ قريضَ الشّعر إن كنت مُغْزراً ** فإن غزير الشعر ما شاء قائل ) ( لنعت صبُاحيٍّ طويل شقاؤه ** له رَقَميَّات وصَفراءُ ذابل ) ( بَقينَ له مما يبرّي وأكلبٍ ** تَقَلْقلُ في أعناقهنَّ السَّلاسلُ ) ( سُخامٌ ومِقلاء القَنيصِ وسلْهبٌ ** وجدْلاءُ والسَّرْحان والمتناولُ ) ( بنات سلُوقِيَّينِ كانا حياته ** فماتا فأودى شخصُه فهو خاملُ ) ( وأيقن إذْ ماتا بجُوع وخَلَّةٍ ** وقال لَهُ الشَّيطانُ : إنَّك عائلُ ) ( فطوّفَ في أصحابه يستثيبهمْ ** فآب وقد أكْدتْ عليه المسائلُ ) ( فقال لها : هَل من طعامٍ فإنَّني ** أذمُّ إليك الناسَ أمُّكِ هابلُ )

( فقالتْ : نَعمْ هذا الطَّويُّ وماؤه ** ومُحتَرقٌ من حائل الجلد قاحِلُ ) ( فلما تناهتْ نفسُه مِن طعامِه ** وأمسى طليحاً ما يُعانيه باطلُ ) ( تَغشَّى يريدُ النّوم فضل ردائه ** فأعيا على العينِ الرُّقاد البلابلُ ) ففكِّرْ في هذا الشعر وقِفْ على فصوله حتى تعرف غناء الكلاب عندهم وكسبها عليهم وموقعها منهم وقال لبيدٌ في ذكرها وذكر أسماءَها : ( لتذودهنَّ وأيقنتْ إن لم تَذُدْ ** أنْ قد أحمَّ مِنَ الحتوفِ حمامُها ) ( فتقصَّدتْ منها كَسابِ وضرِّجت ** بدمٍ وغُودِرَ في المَكَرِّ سُخامُها )

عادة الشعراء حين يذكرون الكلاب
والبقر في شعرهم
ومن عادة الشعراء إذا كان الشعرُ مَرثيةً أو موعظةً أن تكون الكلابُ التي تقتلُ بقرَ الوحش وإذا كان الشعر مديحاً وقال كأن ّ ناقتي بقرة من صفتها كذا أن تكون الكلابُ هي المقتولة ليس على أنَّ ذلك حكاية عن قصّة بعينها ولكنَّ الثِّيران ربَّما جرحت الكلاب وربَّما قتلتها
شعر آخر فيه ذكر لبعض أسماء الكلاب
وقال لبيدٌ في هذا القول الثاني غير القول الأول وذلك على معنى ما فسّرت لك فقال في ذلك وذكر أسماءها : ( فأصبح وانشقَّ الضَّبابُ وهاجه ** أخُو قفرةٍ يُشْلى رِكاحاً وسائلا )

( عوابسَ كالنُّشَّاب تدمَى نحورُها ** يريْن دماءَ الهاديات نوافلا ) ومن أسمائها قولهم : على أهلها جنتْ براقش ومن أسمائها قول الآخر : ضبَّار : ( سفَرتْ فقلت لها هَجٍ فتبرقَعَتْ ** فذكرْتُ حينَ تبرقعتْ ضَبَّارا ) وقال الكُميت الأسديّ : ( فبات وباتتْ عليه السَّما ** ءُ من كلِّ حابيةٍ تَهْطُلُ ) ( مُكِبَّا كما اجتنح الهالكيّ ** على النّصْل إذ طُبع المنْصُلُ ) ثم ذكر أسماء الكلاب فقال : ( وفي ضِبْن حِقفٍ يرى حِقْفَه ** خَطافِ وَسرْحَةُ والأحْدلُ )

( وأربعةٌ كقِداح السَّرا ** ء لا عانياتٌ ولا عُبَّلُ ) ( بتنا وباتَ جليد اللَّيل يَضربنُا ** بينَ البُيوتِ قرَانا نبْح درواسِ ) ( إذا مَلاَ بطنَه ألبانها حَلَباً ** باتَتْ تغنِّيه وضْرَى ذاتُ إجراسِ ) ودرواس : اسم كلب والوضرى : استه وغناؤها : الضُّراط وقال ضابئ بنُ الحارثُ في ذلك : ( فترمّلَت بدمٍ قَدامِ وَقدْ ** أوفى اللَّحاقُ وحانَ مصرعه ) وقال الآخر : ) ( ولو هيّا له اللَّه ** من التوفيق أسبابا ) ( لسمَّى نفسَه عَمراً ** وسمَّى الكلبَ وثَّابا ) ومثل هذا كثير .

أحرص الكلاب
والكلبُ أشدُّ ما يكون حرصاً إذا كان خطمُهُ يمسّ عجْبَ ذنب الظَّبي والأرنب والثَّور وغير ذلك مما هو من صيده ولذلك قال الشاعر : ( ربَّما أغدو مَعي كلبي ** طالباً للصيّد في صحبي ) ( فاستدرَّتْه فدرَّ لها ** يَلْطمُ الرُّفْغينِ بالتُّرب ) ( فادَّراها وَهْيَ لاهيةٌ ** في جميم الحاج والغَرْب ) ( ففرى جُمَّاعهنَّ كما ** قُدَّ مخلولان من عَصبِ )

ثم قال : ( غير يعفورٍ أُهلّ به ** جاف دَفَّيهِ عن القَلْب ) ( ضمّ لَحْيَيهِ بمخْطِمِهِ ** ضَمَّك الكسرَينِ بالشعبِ ) ( وانتحى للباقياتِ كما ** كَسَرتْ شَغْواءُ من لهْبِ ) ( فتعايا التَّيسُ حين كبَا ** ودنا فُوهُ من العَجْبِ ) ( ظلَّ بالوعساء ينفُضه ** آرِماً منه على الصُّلْبِ ) ( تلكَ لذَّاتي وكنتُ فتًى ** لم أقُلْ من لذّةِ حسبي ) الإهلال والاستهلال وأما قوله : غير يعفور أُهلَّ به فالإهلال الذي ذكر هو شيءٌ يعتريه في ذلك الوقت يخرج من جوفه صوتٌ شبيه بالعُواء الخفيف وهو

ما بين العواء والأنين وذلك من حاق الحرص وشدَّة الطلب وخوف الفوات ويقال : أهلّت السماءُ إذا صبَّت واستهلت : إذا ارتفع صوت وقعها ( يُهِلُّ بالفرقد رُكبانُها ** كما يُهلُّ الراكبُ المعتمِرْ ) ومنه استهلال الصبي ولذلك قال الأعرابيُّ : أرأيت من لا شرب ولا أكل ولا صاح واستهل أليس ذلك يُطَلّ

تخريق الكلب أذنيه
وإذا ضبَع الكلبُ وهو أن يمدَّ ضبْعه كلَّه ولا يكون كالحمار الضيِّق الإبطيْن والكلبُ في افتراش ذراعيه وبسط رجليه حتَّى يصيب قصُّه الأرض أكثر من الفرس وعند ذلك ما يَنْشط أذنيه حتَّى يدميهما ولذلك قال الحسن بن هانئ وقد طال ما نعتَ بهما : ( فانصاع كالكوكب في انحداره ** لَفْتَ المشير مُوهناً بنارهِ ) ( شَدَّا إذا أحْصفَ في إحضاره ** خَرّقَ أذنيه شبَا أظفارهِ ) وأوّل هذه الأرجوزة : ( لما غَدَا الثَّعلبُ من وِجاره ** يَلتَمِس الكَسْب على صغارهِ )

معرفة أبي نواس بالكلاب وجودة شعره
وأنا كتبتُ لك رجزه في هذا الباب لأنَّه كان عالماً راوية وكان قد لعب بالكلاب زماناً وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب وذلك موجود في شعره وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه هذا مع جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة وإن تأمَّلتَ شِعرَه فضَّلتَهُ إلاَّ أن تعترض عليك فيه العصبيّة أو ترى أنّ أهل البدو أبداً أشعرُ وأنَّ المولَّدين لا يقاربونهم في شيء فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحقَّ من الباطل مادمتَ مغلوباً
طرديات أبي نواس
قال الحسن بن هانئ : ( لما غدا الثعلبُ من وِجارِه ** يلتَمس الكسبَ على صغاره ) ( عارضَهُ في سَنَن امتياره ** مضمَّرٌ يَمُوجُ في صِداره )

( في حَلق الصُّفْر وفي أسيارِه ** منضمَّة قُصْراهُ من إضماره ) ( قد نَحتَ التسهيمُ من أقطاره ** من بعد ما كان إلى أصبْاره ) ( غَضّاً غَذَتهُ الجُورُ من عِشَاره ** أيَّام لا يُحجبُ عن أظآره ) ( وهو طَلاً لم يَدْنُ من إشغاره ** في مَنْزلٍ يُحجَبُ عن زُوَّاره ) ( يُساسُ فيه طَرفَيْ نهارِه ** حتَّى إذا أحْمدَ في اخْتباره ) ( جَمْرَ غضًى يدمِنُ في استعاره ** كأنَّ لَحيَيه لدى افتراره )

( شك مَساميرَ على طَواره ** يضمُّ قُطريه من اضطباره ) ( وإن تمطَّى تمّ في أشباره ** عَشْرٌ إذا قَدّر في اقتداره ) ( سمْعٌ إذا استَرْوَحَ لم تُمارِه ** إلا بأن يُطلَقَ من عِذاره ) ( فانصاعَ كالكوكب في انحداره ** لَفْتَ المُشيرِ مُوهِناً بناره ) ( شدَّاً إذا أحْصَفَ في إحضاره ** خرَّق أذنيه شبا أظفاره ) ( حتى إذا ما انساب في غباره ** عافَرهُ أخْرَقُ في عِفاره )

( فتَلتَلَ المفْصِلَ من فَقارِه ** وشقَّ عنه جانبَيْ صِدارِه ) ما خِيرَ للثَّعلب في ابتكاره
طردية ثانية لأبي النواس وقال في كلب سُليمان بن داود الهاشميّ وكان الكلبُ يسمى زُنبوراً : ( إذا الشياطينُ رأتْ زُنبورا ** قد قُلِّدَ الحلقَةَ والسُّيورا ) ( دَعَتْ لِخِزَّان الفلا ثُبُورا ** أدفى ترى في شِدقِه تأخيرا ) ( ترى إذا عارضْتَه مفرورا ** خناجراً قد نبتتْ سُطورا )

( سقط : بيت الشعر ) ( فتلتل المفصل من فقاره ** وشق عنه جانبي صداره ) ( حتَّى توفَّى السَّبْعةَ الشهورا ** من سِنِّهِ وبَلغَ الشُّغورا ) ( وعَرف الإيحاءَ والصَّفيرا ** والكفَّ أنْ تومئ أو تشيرا ) ( يعطيك أقصى حُضْره المذخورا ** شَدًّا تَرَى من همزهِ الأُظفُورا ) ( مُنتشِطاً من أُذنه سُيورَا ** فما يزالُ والغاً تامورا ) ( مِن ثعلب غادَرَه مجزورا ** أو أرنب كوَّرَها تكويرا ) ( أو ظبيةٍ تقرو رَشاً غريرا ** غادَرها دون الطَّلا عَقيرا ) ( فأمتعَ اللَّهُ به الأميرا ** رَبِّي ولا زالَ به مسرورا ) وقد قال كما ترى : ( شدًّا ترى من هَمْزه الأظفورا ** مُنتشِطاً من أُذنه سيُورا )

بإثر قوله : ( حتَّى توفَّى السبعة الشهورا ** من سِنِّهِ وبلغ الشغورا ) فإنَّ الكلب إذا شغر برجله وبالَ فذلك دليلُ على تمام بلوغه للإلقاح وهو من الحيوان الذي يحتلم .
وأما احتلام الغلام فيعرف بأمور : منها انفراقُ طرف الأرنبة ومنها تغيُّر ريح إبطيه ومنها الأنياب ومنها غلظ الصوت ومن الغلمان من لا يحتلم وفي الجواري جوارٍ لا يحضْن وذلك في النساء عيب وليس مثله من الرجال عيباً وقد رأيت رجالاً يوصفون بالقوة على النساء وبعضهم لم يحتلم إلا مرة أو مرتين وبعضهم لم يحتلم البتة
طردية ثالثة لأبي نواس قد قال الحسن بنُ هانئ مثل ذلك في أرجوزة أخرى : ( يَمْري إذا كان الجراءُ عبْطا ** براثِنا سُحْمَ الأثافي مُلْطا )

يَنْشِط أُذنيه بهنّ نَشْطا وهذه الأجوزة أوَّلها : ( عَدّدْت كلباً للطَّرادِ سَلْطا ** مقلَّداً قلائداً وَمقْطا ) ( فهو الجميل والحسيب رهْطا ** ترى له شِدقين خُطَّّا خَطَّا ) ( يمري إذا كان الجِرَاء عَبْطا ** براثناً سُحْمَ الأثافي مُلْطا ) ( ينشِط أُذْنَيه بهنَّ نشطاً ** تخالُ ما دَمينَ منها شرطا ) ( ما إنْ يقعنَ الأرض إلا فَرْطا ** كأنَّما يُعجلِنَ شيئاً لقْطا )

( يَلْقَين مِنه حَكماً مشْتطاً ** للعظْم حطماً والأدِيم عَطَّا ) 4

شعر في نعت سرعة القوم
والشعراء إذا أرادوا سرعة القوائم قالوا كما قال : ( يخفي التُّرابَ بأظْلاف ثمانية ** ومَسُّهن إذا أقبلن تَحليلُ ) وقال الآخر :

( وكأنَّما جَهَدَتْ أليَّتُهُ ** أن لا تَمَسَّ الأرضَ أربَعُهُ ) فأفرط المولَّدون فى صفة السرعة وليس ذلك بأجود فقال شاعرٌ منهم يصف كلبة بسرعة العَدْو : كأنَّما تَرفَعُ ما لم يُوضَعِ وقال الحسن بن هانئ : ما إنْ يقعن الأرض إلا فرْطا وقال الحسن بن هانئ في نعت كلب : ( أنعتَُ كلباً أهلُه في كَدِّه ** قد سَعِدتْ جدودُهم بِجَدِّه )

( سقط : بيت الشعر ) ( فكل خير عندهم من عنده ** يظل مولاه له كعبده ) ( يبيتُ أدنى صاحب من مهْده ** وإن عري جلَّله بُبرْدِه ) ( ذو غُرَّةٍ محجّلٌ بزَنْدهِ ** تَلَذّ منه العينُ حُسنَ قدِّه ) ( يا حُسنَ شِدقيه وطول َ خدِّه ** تلقَى الظِّباء عنتاً من طَرْده ) ( يشربُ كأساً شدُّها في شدّه ** يا لكَ مِنْ كلب نسيح وحْدهِ ) طردية خامسة لأبي النواس وقال في صفاتها وأسمائها وسماتها وأنسابها وألقابها وتفدية أربابها لها كما ذكرنا قبل ذلك : ( قد أغتدِي والطَّيرُ في مَثْواتِها ** لم تُعْرِب الأفواهُ عن لُغاتها )

( بأكلب تمرَحُ في قِدّاتِها ** تَعُدُّ عِينَ الوَحْشِ من أقواتِها ) ( قد نحَتَ التقريح وارِياتها ** من شدَّة التسهيم واقتياتها ) ( وأشفَقَ القانصُ من حُفاتِها ** وقلت ُ قد أحكمتَها فهاتِها ) ( وأدْن للصَّيد مُعلَّماتِها ** وارفعْ لنا نسبةَ أمَّهاتِها ) ( فجاء يُزجيها على شِياتها ** شُمَّ العراقيبِ مؤنَّفاتها ) ( غُرَّ الوجوه ومحجَّلاتِها ** مُشرِفَةَ الأكنافِ مُوفِياتِها )

( قُود الخراطيم مُخْرطَماتِها ** سوداً وصُفْراً وخَلَنْجِيَّاتها ) ( مختبَرَات من سَلُوقيَّاتِها ** كأنّ أقماراً على لَبَّاتِها ) ( تَرَى على أفخاذها سِماتِها ** مُفدَّياتِ ومُحمَّياتِها ) ( مفروشة الأيدي شَرَنْبَثاتِها ** شُمَّ العَراقيب مؤلفاتها ) ( حيدَ الأظافيرِ مُكَعْبراتِها ** زُلَّ المآخير عَمَلَّساتها ) تسمعُ في الآثار من وحَاتِها

( منْ نَهمِ الحرص ومن خَواتِها ** لتَفْثأ الأرنبَ عَنْ حياتها ) ( إنَّ حياةَ الكلبِ في وفاتها ** حتَّى ترى القِدرَ على مَثْفاتِها ) ( كثيرة الضِّيفانِ من عُفاتِها ** تقذِفُ جالاها بجَوْزَي شاتها ) فقد قال كما ترى : ( تسمَعُ في الآثار مِنْ وحاتها ** من نهَم الحِرص ومن خَواتِها ) وهذا هو معناها الأول وأما قوله : تعُدُّ عين الوَحْش من أقواتها فعلى قول أبي النَّجم : )
تعُدَّ عانات اللِّوى من مالها كطلعة الأشمط من جلبابه

هو قول الأول : كطلعةِ الأشمطِ من كسائه وهو كما قال الآخر : كطَلْعةِ الأشمَطِ من بُرْد سَمَلْ طردية سادسة لأبي النواس وقال الحسن بن هانئ : ( لمَّا تبدَّى الصُّبحُ من حِجابِه ** كطَلْعَةِ الأشمَطِ من جلبابه ) ( وانعدلَ اللَّيلُ إلى مآبِه ** هِجْنا بكلبٍ طالما هِجْنا به ) ( خَرَّطَهُ القانِصُ واغتدى به ** يَعزُّه طوراً على استصعابه ) ( وتارةً ينصَبُّ لانصبابه ** فانصاع للصَّوت الذي يعنى به ) كلمَعَان البرقِ من سحابه

( كأنَّ عينيه لدى ارتيابه ** فَصَّا عَقيقٍِ قد تقابَلا به ) ( حتَّى إذا عفَّرَه هاها به ** باَبَا به يا بعد ما بَابَا بِه ) ( ومَيْعةٍ ِ تُعرَفِ من شَبابِه ** كأنَّ متْنَيهِِ لدى انسلابِه ) ( مَتنا شُجاع لَجَّ في انسيابِه ** كأنَّما الأُظفور في قِنابه )

( مُوسى صناعٍ رُدَّ في نِصابِه ** يثرُدُ وجه الأرض في ذهابه ) ( كأنّ نسراً ما توكَّلنا بِه ** يَعفُو على ما جرَّ من ثيابه ) ( إلاَّ الذي أثَّرَ من هُدَّابِه ** تَرَى سَوَام الْوَحْشِ يُحْتَوَى بِه ) يَرُحنَ أسْرى ظُفرهِ ونابه

4

صفة أبي نواس لثعلب أفلت منه مرارا
ً ) وقال في ثعلب كان قد أفْلتَ منهُ مراراً : ( قد طالَما أفلتَّ يا ثعالا ** وطالما وطالما وطالا ) ( جُلت بكلبي يومَكَ الأجوالا ** ما طَلْتَ منْ لا يسأمُ المِطالا ) ( حتَّى إذا اليومُ حدا الآصالا ** أتاك حَيْنُ يقدمُ الآجالا ) طردية سابعة لأبي نواس وقال أبو نواس أيضاً : ( لِفتِْيةٍ قد بَكَّرُوا بأكلُبِ ** قد أدَّبوها أحسنَ التأدبِ )

( مِنْ كل أدفى مَيَسانِ المنْكِبِ ** يشبُّ في القَوْد شِبابَ المُقْرَبِِ ) ( ينشِطُ أذْنيه بجدِّ المِخْلَبِ ** فما تَنِي وشيقَةٌ منْ أرنَبِ )

( وجلدَة مسلوبةٌ من ثعلب ** مقلوبة الفرْوة أوْ لمْ تُقْلَبِ ) ( وعيْرُ عاناتٍ وأُمُّ التَّوْلَبِ ** ومِرجلٌ يهدِر هَدْر المُصْعَبِ ) يَقذف جالاهُ بِجَوز القَرهَب ( صفة ما يستدلُّ به على فراهية الكلابِ )

وشياتها وسياستها
قال بعض من خبر ذلك : إنَّ طول ما بين يدي الكلب ورجليه بعد أن يكون قصير الظهر من علامة السُّرعة

قال : ويصفونه بأن يكون صغير الرأس طويل العُنقُ غليظها وأن يشبه بعضُ خلقه بعضاً وأن يكون أغضف الأذنين مُفرط الغضف ويكون بعيد ما بينهما ويكون أزرق العينين طويل المقلتين ناتئ الحدقة طويل الخطم واسع الشِّدقين ناتئ الجبهة عريضها وأن يكون الشَّعر الذي تحت حنكه كأنَّه طاقة ويكون غليظاً وكذلك شعرُ خدَّيه ويكون قصير اليدين طويل الرجلين لأنه إذا كان كذلك كان أسرع في الصعود بمنزلة الأرنب قالوا : ولا يكاد يلحق الأرنب في الصَّعود إلا َّ كلُّ كلبٍ قصيرِ اليدين طويل الرِّجلين وينبغي أن يكون طويل الصدر غليظاً ويكونَ ما يلي الأرض من صدره عريضاً وأن يكون غليظ العضُدين مستقيم اليدين مضموم الأصابع بعضها إلى بعض إذا مشى أو عدا وهو أجدرُ ألاَّ يصير بينها من الطِّين وغير ذلك ما يفسُدها ويكون ذكيَّ الفؤاد نشيطاً ويكون عريض الظَّهر عريض ما بين مفاصل عظامه عريض ما بين

عظمي أصلِ الفخذين اللذين يصيبان أصل الذنب وطويل الفخذين غليظهما شديد لحمهما ويكون رزين المحزم رقيق الوسط طويل الجلدة التي بين أصل الفخذين والصدر ومستقيم الرجلين ويكون في ركبته انحناء ويصير قصير الساقين دقيقهما كأنَّهما خشبة من صلابتهما وليس يكره أن تكون الإناث طوال الأذناب ويكره ذلك للذكور ولينُ شعرهما )
يدلُّ على القوة وقد يرغب ذلك في جميع الجوارح من الطير وذوات الأربع من لين الرِّيش لذوات الريش ولينُ الشَّعر لذوات الشعر من عِتاق الخيل علامةٌ صالحة قال : وينبغي أن يكون الكلبُ شديد المنازعة للمقود والسِّلسلة وأن يكون العظم الذي يلي الجنَبين من عظام الجنبين صغيراً في قدر ثلاث أصابع وزعم أنَّهم يقولون : إنّ السُّود منها أقلّها صبراً على البرد والحر وإنّ البيض أفرهُ إذا كنَّ سُودَ العيون قال : ومن علامة الفَرَه التي ليس بعدها شيء أن يكون على ساقيه

أو على إحداهما أو على رأس الذنب مخلب وينبغي أن يُقطع من السَّاقين لئلا يمنعه من العدو

خير غذاء للكلب
وذكرَ أنَّ خير الأشياء التي تُطعمُها للكلب الخبزُ الذي قد يَبسِ ( سقط : الصفحة كاملة ) ويكُون الماء الذي يسقاه عليه شيء من زيت ، فإن ذلك كالقت المحض للخيل ، ويشتد عليه عدوه .
خير طعام لإسمان الكلاب

وقال : خير الطعام في إسمان الكلاب رأس مطبوخ ، وأكارع بشعرها ، من غير أن تطعم من عظامها شيئا ، والسمن إذا طعم منه قدر ثلاث سكرجات مرتين أو ثلاث مرات فإن ذلك مما يسمنه ، ويقال إنه

( الصفحة كاملة ) يعيد لهرم شابا ، حتى يكون ذلك في الصيد وفي المنظر ، والعظم والثريد من أرد ما تأكله للعدو .

من علاج الكلاب

ومما يكون غذاء ومن خير شيء يداوي به الكلب من وجع البطن والديدان ، أن يطعم قطعة ألية وصوف شاة معجونا بسمن البقر ، فإنه يلقى كل دود وقذر في بطنه .
وخير ما يعالج به الخفا أن يدهن أسته ثلاثة أيام ، ويجم فيها ولا يستعمل ، أو يمسح على يديه ورجليه القطران .
وذكر عن خزيمة بن طرخان الأسدي ، من أهل همذان ، أنه قال : ليس من علاج الكلب خير من أن يحقن . ( كدى ، وأكدى ، والكدية )
وقال : يقال كدى الجرو يكدى كدى وهو داء يأخذ الجراء خاصة ، يصيبها منه قيء وسعال ، حتى تكوى بين عينيها . ويقال أكدى

عداوة بعض الحيوان لبعض وزعم صاحب المنطق أَنَّ العُقابَ تأكلُ الحيّاتِ وأَنَّ بينَهما عداوةً لأنَّ الحيَّةَ أيضاً تَطلبُ بيضَها وفراخها قال : والغُداف يقاتل البُومة لأنَّ الغُدافَ يَخْطِف بيضَ البومة نهاراً وتشدُّ البومةُ على بيض الغُداف ليلاً فتأكله لأنَّ البومةَ ذليلةٌ بالنهار رديَّة النظر وإذا كانَ اللّيلُ لم يَقْوَ عليها شيءٌ من الطير والطير كلُّها تعرِف البومةَ بذلك وصنيعَها بالليل فهي تطير حولَ البومةِ وتضربُها وتَنْتِف ريشها ومن أجْلِ ذلك صارَ الصيَّادون ينِصِبونها للطير والغداف يقاتل ابنَ عِرْسٍ لأنه يأكل بيضَه وفراخَه

قال : وبين الحِدأة والغُداف قتالٌ لأنَّ الحِدأة تخطِفَ بيضَ الغداف لأنَّها أشدُّ مخالبَ وأسرَعُ طيراناً وبين الأُطْرُغُلَّة والشَّقْرَاق قتال لأنَّه يقتل الأُطْرُغُلَّة ويُطالبها وبين العنكبوت والعَظَاية عداوة والعَظاية تأكل العنكبوت وعصفور الشَّوك يعبَثُ بالحمار وعبَثه ذلك قتَّال له لأنَّ الحمارَ إذا مَرَّ بالشَّوك وكانت به دَبَرَة أو جَرَبٌ تحكَّك بِهِ ولذلك متَى نهِق الحمار سقطَ بيضُ عصفور الشوك وجعلتْ فراخُه تخرج من عشّها ولهذه العِلّة يطيرُ العصفورُ وراءَ الْحِمار وينقُر رأسه والذئب مخالفٌ للثَّور والحمارِ والثعلبِ جميعاً لأنَّه يأكل اللحم النِّيءَ ولذلك يقع على البقر والحمير والثعالِبِِ

وبين الثعالِبِ والزُّرَّق خلافٌ لهذه العلّة لأنَّهما جميعاً يأكلان اللحم والغراب يُخالف الثَّورَ ويُخالف الحمار جميعاً ويطير حولَهما وربّما نَقَرَ عيونهَما وقال الشاعر : ) ( عَادَيْتَنَا لا زلت في تَبَابِ ** عَدَاوَةَ الْحِمارِ للغُرابِ ) ولا أعرف هذا من قول صاحب المنْطِق لأنَّ الثعلبَ لا يجوزُ أن يُعَادِيَ مِنْ بينِ أحرار الطّير وجَوارِحها الزُّرَّقَ وحدَه وغيرُ الزُّرَّق آكِلُ اللَّحم وإن كان سببُ عداوته له اجتماعَهُما على أَكْلِ اللّحم فليُبْغِض العقابَ من الطير والذئْبَ من ذوات الأربَع فإنّها آكل لِلّحم والثَّعلَبُ إلى أنْ يحسُدَ ما هو كذلك أقربُ وأولَى في القياس فلو زعم أنّه يَعُمُّ أكَلَةَ اللّحم بالعداوة حتّى يُعطى الزُّرَّق من ذلك نصيبَه كان ذلك أجْوَزَ ولعلَّ المترجِم قد أساء في الإخبار عنه قال : والحيَّة تقاتل الخِنزيرَ وتقاتِل ابنَ عِرْس وإنّما تقاتلُ ابنَ عِرْسٍ إذْ كان مأواهما في بيتٍ واحد وتقاتلُ الخنزير لأنّ الخنزير يأكلُ الحيَّات ويزعمون أنّ الذي يأكلُ الحيَّاتِ القنافذُ والأوعالُ والخنازيرُ والعِقْبان قال : فالحيَّة تعرف هذا من الخنزير فهي تُطَالبه .


قال : والغراب مصادقٌ للثَّعلب والثَّعلبُ مصادقٌ للحيَّة والأسد والنمر مختلفان قال : وبين الفِيَلةِ اختلافٌ شديد وكذلك ذكورها وإناثها وهي تَستعمِل الأنيابَ إذا قاتَل بعضُها بعضاً وتعتمد بهَا على الحيطان فتهدِمُها وتزحُمُ النَّخلةَ بجنبها فَتَصْرَعُها

تذليل الفيل والبعير
وإذا صعُب من ذكورتها شيء احتالوا له حتَّى يكُومَه ذكرٌ آخر فإذا كامَهُ خضَع أبداً وإذا اشتَدَّ خُلُقُه وصعُب عصَبوا رِجلَيه فسكن ويقال إنَّ البعيرَ إذا صعُب وخافَه القوم استعانوا عليه فأبرَكُوه وعَقلوه حتَّى يكومَه فحل آخر فإذا فعلَ ذلك به ذَلَّ ( الفيل والسنّور ) وأمّا أصحابنا فحكَوا وجوهَ العداوةِ الّتي بين الفيل والسِّنّور وهذا أعجب وذهبوا إلى فزع الفيل من السِّنَّور ولمْ يرَوه يفزع ممَّا هو أشدُّ وأضخم وهذا البابُ على خلاف الأوّل كأنَّ أكثرَ ذلك الباب بُنيَ على عداوة الأكْفاء .


والشاةُ من الذئب أشدُّ فَرَقاً منها من الأسد وإن كانت تعلم أنَّ الأسد يأكلها

الحمام والشاهين
وكذلك الحمام يَعتريه من الشَّاهينِ ما لا يعتريه من العُقاب والبازي والصقر
أعداء الفأرة
وكذلك الفأرة من السِّنّور وقد يأكلها ابْنُ عِرْس وأكثر ذلك أن يقتلها ولا يأكلها وهي من )
السِّنّورِ أشدُّ فرَقاً
الثعلب والدجاجة
والدَّجاجة تأكلها أصناف من السباع والثعلبُ يطالبها مُطالبةً شديدة ولو أنَّ دجاجاً على رفٍّ مرتفع أو كُنَّ على أغصان شجرةٍ شاهقة ثمّ مرَّ تحتَها كلُّ صِنفٍ ممَّا يأكلها فإِنَّها تَكونُ مستمسكةً بها معتصمةً بالأغصان التي هي عليها فإذا مرَّ تحتها ابنُ آوى وهُنَّ ألفٌ لم تَبْقَ واحدةٌ منهنَّ إلاّ رمَتْْ بنفسها إليه

ما يأباه بعض الحيوان من الطعام
والسبع لا يأكل الحارَّ والسِّنَّور لا يذوقُ الحموضة ويَجْزَع من الطَّعام الحارِّ والله تعالى أعلم ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى مفاخر الكلب ونبدأ بكلِّ ما أشبه فيه الكلبُ الأُسُودَ والإنسان وبشيء من صفات العظَال قال صاحب المنطق في كتابه الذي يقال له الحيوان في موضعٍ ذكَرَ فيه الأسد قال : إذا ضربَ الأسَدُ بمخالبه رأيتَ موضع آثار مخالبهِ في أقدار شرط الحجَّام أو أزْيدَ قليلاً إلاّ أنَّه من داخلٍ أوسعُ خرْزاً كأنَّ الجِلدَ ينضمُّ على سم مخالبه فيأكل ما هنالك فأمّا عضَّته فإنَّ دواءَها دواءُ عضَّةِ الكلب قال : وممَّا أشبه فيه الكلبُ الأسدَ انطباقُ أسنانه وممّا أشبَهَ فيه الكلب الأسدَ النَّهَمُ فإِنَّ الأسدَ يأكل أكلاً شديداً ويَمْضَغُ مَضغَاً متدارِكاً ويبتلع البَضْع الكبار من حاقِّ الرغبة ومن الحرص

وكالذي يخاف الفوت ولِمَا نازعَ السِّنَّورَ من شَبَهِهِ صار إذا ألقيت له قِطعة لحم فإمَّا أنْ يحملها أو يأكلها حيثُ لا تراه وإمَّا أن يأكلها وهو يكثر التلفُّت وإنْ لم يكنْ بحضْرته سِنَّور ينازعُه والكلبُ يَعضُّ على العَظمِ ليُرضَّه فإنْ مانَعَه شيءٌ وكان مما يُسيغه ابتَلَعَه وهو واثق بأنّه يستَمريه ويُسيغه والنَّهم يعرِض للحيَّات والحيَّة لا تمضَغُ وإنما تبتلعُ ذواتُ الرَّاسات وهي غير ذوات الأنياب فإِنّها تمضَغ المضْغة والمضغتين وإن ابتلعت شيئاً فيه عظم أتَتْ عُوداً شاخصاً فالتوت عليه فحطَمت العظم والحيَّة قويّة جداً قال : والأسد وإن كان ممَّا لا يفارق الغِياض ولا يفارق الماء فإِنّه قليلُ الشرب للماء وليس يُلقى رَجْعَه إلاّ مرةً في اليوم وربّما كان في اليومين والثلاثة ورجعُه يابس شديد اليُبس متعلِّق شبيه برجيع الكلب ويشبهه أيضاً من جهة أخرى وذلك أنّهما جميعاً إذا بَالاَ شَغَرا )
والكلب من أسماء الأسد لقرابةِ ما بينه وبينَ الكلب والكلبُ يُشبه الخِنزير فإنَّ الخِنزير يسمَن في أسبوع وإن جاع أيّاماً ثم شبِع شَبعةً تبيَّن ذلك تبيُّناً ظاهراً ألا تراهُ ينزع إلى محاسن الحيوان ويُشبه أشراف السباع وكرائم البهائم

عظال الكلاب
ويقال : ليس في الأرض فحلٌ من جميع أجناسِ الحيوان لِذَكَرِه حجمٌ ظاهر إلاَّ الإنسان والكلب وليس في الأرض شيئان يتشابكانِ من فَرْط إرادةِ كلِّ واحدٍ منهما لطباع صاحبه حتى يلتحم عضوُ الذكر بعضو الأنثى حتَّى يصير التحامهما التحامَ الخِلقة والبِنْية لاَ كالتِحامِ الملامَسَة والملازمة إلاّ كما يُوجَد من التحام قضيبِ الكلب بثَفْر الكلبة .
وقد يلزَق القُراد ويَغْمِس العَلس مقاديمه في جوف اللحم حتَّى يُرَى صاحبُ القُراد كأنَّه صَاحِبُ ثُؤلُول وما القُراد المضروبُ به المثلُ في الالتحام إلاّ دون التحامِ الكلبين ولذلك إذا ضربوا المثل للمتباضِعين بالسُّيوف والملْتَقِيَين للصِّراع فالتفّ بعضُهم ببعض قالوا :

كأنهم الكِلاب المتعاظِلة وليس هذا النَّوعُ من السِّفاد إلاّ للكلاب وزعم صاحبُ المنطق وغيرُه أنَّ الذُّبابَ في ذلك كالكلب

إسماعيل بن غزوان وجارية مويس بن عمران
وكان إسماعيل بن غَزْوان قد تعشّقَ جاريةً كانت لموَيْس بن عمران وكانت إذا وقَعَتْ وقعةً إليه لم تمكثْ عندَهُ إلاّ بقدرِ ما يقَعُ عليها فإذا فَرَغ لبِست خُفَّها وطارت وكان إسماعيلُ يشتهي المعاوَدَةَ

وأنْ يطيلَ الحديث ويُريدُ القَرْص والشمَّ والتقبيلَ والتجريد ويعلم أنّه في الكَوْم الثاني والثالث أجدر أن يُنْظَرَ وأجدَرُ أن يَشْتَفيِ فكان ربَّما ضَجِرَ ويذكرُها بقلبه وهو في المجلس فيقول : ياربِّ امسَخْني وإيّاها كلبَين ساعة من الليل أو النَّهار حتَّى يشغَلَها الالتحامُ عن التفكيرِ في غضَب مولاتِها إن احتَبَسَت

من أعاجيب الكلاب
وفي الكلبة أعجوبة أخرى : وذلك أنّه يسفَدُها كلبٌ أبقعُ وكلب أسودُ وكلب أبيضُ وكلب أصفرُ فتؤدِّي إلى كلِّ سافدٍ شِكْلَهُ وشِبْهه في أكثر ما يكُونُ ذلك وأما تأويل الظالع في قول الحطيئة : ( تسدَّيتُها مِنْ بَعْدِ مَا نَام ظَالِعُ ال ** كلابِ وأخْبى نارَهُ كلُّ موقِدِ )

قال الأصمعيّ : يظلَع الكلبُ لِبعضِ ما يعرض للكلاب فلا يمنعه ذلك مِنْ أن يهيجَ في زمن هَيْج الكلاب فإِذا رأى الكلبة المستحرِمة لم يطمَع في معاظلتها والكلابُ منتبهةٌ تنبَح فَلاَ يَزَال يَنتَظِرُ وقتَ فَتْرةِ الكلاب ونومها وذلك مِن آخر الليل وقال أُحَيْحَة بن الجُلاَح : ( يا ليتَني ليلةً إذا هَجع ال ** نَّاسُ ونام الكلابُ صاحِبُها )

طردية ثامنة لأبي نواس
وممَّا قِيل في الكلاب : من الرَّجز قول أبو نواس :

( وفِتية من آلِ ذُهلٍ في الذرى ** مِن الرقاشِيّينَ في أعْلى العُلا ) ( بِيضٍ بهالِيلَ كرامِ المُنْتَمَى ** باتُوا يََسِيرون إلى صُوح اللوى ) ( ينفُون عن أعيُنهِمْ طِيبَ الكَرَى ** إلاّ غِشَاشاً بعد ما طال السُّرى ) ( يعدين إبلاء الفتى على الفتى ** حتى إذا ما كوكبُ الصُّبح بدَا )

( رحيبةِ الأشداقِ غضْفٍ في دَفَا ** تَلوي بأذناب قليلات اللِّحا ) ( سَمَعْمَعات الضُّمْر من طُول الطَّوى ** من كلِّ مَضْبُور القَرَا عاري النَّسا ) ( مُحَمْلجِ المَتْنينِ مَنْحُوضِ الشَّوى ** شَرنبَثِ البُرثُنِ خَفّاقِ الحشا )

( تخالُ منه القصّ من غير جَنَا ** مَسَنَّتَا صَفواء في حَيْديْ صَفا ) ( يلتهب الغائِطُ مِنْهُ إن عدا ** يُقادح المْروَ وشَذّان الحَصَا ) ( حتَّى إذا استسحَرَ في رَأْد الضُّحى ** بمربَإ أوْفَى به على الرُّبا ) ( أرانباً من دونها سِربَا ظِِبا ** نواشزاً من أنَسٍ إلى خَلاَ )

( فوضَى يُدَعْثِرنَ أفاحيصَ القطا ** لَعلَعنَ واستلْهثن من غيْر ظما ) ( مبالغاتٍ في نَهيمٍ وصأَى ** كأَنَّما أعينُها جمر الغَضى ) ( ثمَّ تطَلّعنَ معاً كالبرقِ لا ** في الأرض يَهوين َ ولا لوح الهوا ) ( كأَنّها في شَرطها لما انبرى ** كواكبٌ يُرمَى الشّياطِينُ بها )

( يذْمَرْنَ بالإيسادِ ذَمْراً وَأَيَا ** حتى إذا ما كنَّ منهنَّ كها ) ( دارتْ عليهنّ من الموت رَحى ** تجذبهنَّ بحديداتِ الشَّبا ) ( شوَامِذ يلعَطْن مَعْبُوط الدِّما ** بين خليع الزَّورِ مرضُوضِ الصَّلا )

( ومائلِ الفَوْدَينِ مجلوز القَفا ** يُقْفِينَ بالأكبادِِ منها والكُلَى ) وبالقلوبِ وكَرَادِيس الطُّلى طردية تاسعة لأبي النواس وقال أيضاً : ( لمَّا تَبَدَّى الصُّبْحُ من حِجَابِه ** وانعدلَ الليلُ إلى مآبِه ) ( خرَّطه القانصُ واغتدَى به ** في مِقود يَردَعُ من جذَابه ) ( يَعُزُّه طوراً على استصعابه ** وتارةً ينصبُّ لانصِبابه ) ( كأنَّما يفتَرُّ من أنيابه ** عن مرهَفات السِّنِّ من حِرابِه ) ( يَرْثُم أنفَ الأرضِ في ذَهابِه ** حتَّى إذا أشرَفَ مِن حِدَابِه )

( بعد انحدار الطَّرف وانقلابِه ** بروضةِ القاعِ إلى أعجابِه ) ( أرسَلَه كالسَّهْمِ إذْ غالَى بِه ** يكادُ أن ينسَلّ من إهابه ) ( كَلَمَعانِ البرقِ في سَحابِه ** حتَّى إذا ما كادَ أو حَدَا بِه ) ( وانصاتَ للصَّوتِ الذي يُدْعَى به ** كأنَّما أُدْمجَ في خِضابِِه ) ( مابين لحْيَيه إلى أَقْرَابِه ** مشَهَّر الغُدُوِّ في إيابه )

وقال أيضاً : ما البرق عارضٍ لماح ولا انقضاض الكواكب المنصاح ( ولا انبتات الدَّلو بالمتَّاحِ ** ولا انسيابُ الحُوتِ بالمُنْدَاح )

( حين دنَا من راحةِ السَّبَّاحِ ** أَجدَّ في السُّرعةِ من سِرياحِ ) ( يَكادُ عِنْدَ ثَمَل المِرَاح ** إذا سَمَا الخاتلُ للأَشْباحِ ) ( يَطيرُ في الجوِّ بلا جَنَاحِ ** يفترُّ عن مِثلِ شَبَا الرِّماحِ ) ( فكَمْ وكَمْ ذِي جُدَّة لَيَاحِ ** ونازِبٍ أعْفَرَ ذي طِماحِ )

غادَرَهُ مضرَّج الصِّفاحِ

باب آخر في الكلب وشأنه
تفسير شعر قيل في الكلاب
قال طُفيلٌ الغَنَويّ : ( أناس إذا ما أنكر الكلبُ أهْلَهُ ** حَمَوْا جارَهُمْ مِن كلِّ شنْعاءَ مُظْلِع ) يقول : إذا تكفَّروا في السِّلاح لمْ تَعْرِفْهُم كلابُهُم ( فلا تَرفَعي صوتاً وكُوني قَصِيَّةً ** إذا ثوَّبَ الدَّاعِي وأنكَرَنِي كَلْبي ) يقول : إيّاكِ والصُّراخَ إذا عايَنْتِ الجيش

وقوله : أنكرني كلبي يخبر أنَّ سلاحَهُ تامٌّ من الدِّرع والمِغْفَر والبَيضَة فإذا تكفّر بسلاحه أنكره كلبُه فنبحَه وأما قوله : ( إذا خَرِس الفَحل وسطَ الحُجورِ ** وصاحَ الكلابُ وعُقَّ الْوَلدْ ) فأمَّا قوله : إذا خرِسَ الفحل فإنَّ الفحلَ إذا عايَن الجيشَ وبوارِقَ السيوف لم يلتفت لِفْتَ الحُجورِ وأمَّا قوله : وصاح الكلاب فإنَّ الكلابَ في تلك الحالة تنبَح أربابَها كما تنبح سَرَعَانَ الخَيل إليهم لأنّها لا تعرفهم من عدُوِّهم وأما قوله : وعُقَّ الولد فإنَّ المرأةَ إذا صبَّحتهم الخيل ونادى الرجال يا صباحاه ذُهِلت عن ولدها وشغَلها الرُّعبُ عن كلِّ شيء فجَعَلَ تركها احتمالَ ولدها والعطفَ عليه في تلك الحالة عقوقاً منها وهو قولُهم : نزلتْ بهم أمور لا يُنادَى وليدُها وإنَّما استعاروا هذه الكلمة فصيّروها في هذا الموضعِ من هذا المكان وقد ذكر ذلك مزرِّد بن ضِرَارٍ وغيرُه فقال :

( تَبَرَّأتُ مِن شَتمِ الرجالِ بتوبةٍ ** إلى اللّه مِنى لا يُنادَى وَلِيدُها ) ( ظَهَرتُم على الأحرار من بَعْدِ ذلَّةٍ ** وِشِقْوَةِ عَيشٍ لا يُنادَى وَليدُها ) والذي يُخْرِسه إفراطُ البرد وإلحاحُ المطر كما قال الهذليُّ : ( وليلةٍ يَصْطَلي بالفَرْثِ جَازِرُها ** يَخْتَصُّ بالنّقَرَى المُثرِينَ دَاعيها ) ( لا يَنبَحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** من الصَّقيعِ ولا تَسْرِي أفاعيها )
وقال ابن هَرْمة : ( واسألِ الجارَ والمعصِّب والأضيا ** ف وهْناً إذا تحيّوْا لديَّا ) ( كيف يَلقَونَني إذا نَبحَ الكل ** بُ وراءَ الكُسورِ نَبحاً خَفيَّا ) وقال آخر : ( إذا عميَ الكلبُ في ديمة ** وأخرسهُ اللَّه مِن غير صِرّ ) يقول : الكلبُ وإن أخرَسَه البردُ الذى يكون مع المطر والرِّيح التي تمرُّ بالصَّحارى المطيرة فتَبرُدُ فإنَّ الكلب وإن ناله ذلك فإنّ ذلك من خِصبٍ وليس ذلك من صِرّ

نبح الكلاب السحاب

والكلب إذا أَلحّت عليه السحائب بالأمطار في أيام الشتاء لقَي جِنَّة فمتى أبصَرَ غيماً نبحه ( وما ليَ لا أغْزوُ وللدَّهر كَرَّة ** وقد نَبحتْ نحوَ السماء كلابها ) يقول : قد كنت أدَعُ الغَزو مخافَة العطش على الخيل والأنفس فما عُذرِي اليوم والغُدران كثيرة ومَناقع المياه موفورة والكلابُ لاتنبَح السحاب إلاَّ من إلحاح المطر وترادُفه وقال الأفوه الأودِيّ في نبح الكلاب السحاب وذلك من وصف الغيم : ( له هَيْدَبٌ دانٍ ورعْد وَلجّةٌ ** وبرق تراهُ ساطعاً يتبلّجُ ) ( فباتَت كلاب الحيِّ ينبَحْن مُزْنَهُ ** وأضْحَتْ بناتُ الماء فيها تعمَّجُ )

( قول أبي حيَّة النميري في الكلب ) وقال أبو خالد النميريّ : وذكروا فرعون ذا الأوتاد عند أبي حيَّة النميريّ فقال أبو حيَّة : الكلبُ خير منه وأحزم قال : فقيل له كيف خَصَصْتَ الكلبَ بذلك قال : لأنَّ الشاعر يقول : ( وما ليَ لا أغْزُو وللدَّهر كرَّة ** وقد نبحت نحوَ السماءِ كلابُها ) وقال الفرزدق : ( فإنَّك إن تهجو حنيفةَ سادراً ** وقبلك قد فاتوا يَدَ المتناوِل ) ( كفِرعَوْنَ إذ يرمي السَّماءَ بسهمِهِ ** فرُدَّ عليه السهم أفوقَ ناصلِي ) ( تعصّب فهد الأحزم للكلب ) وزعم فهدٌ الأحزم أنَّ الكلبَ إنَّما عَرَف مخَرج ذلك الشيء المؤذي له حتَّى نبحه بالقياس لأنَّه إنما نَبحه بعد أن توالى عليه الأذى من تلك الجهة وكان فهد يتعصَّب للكلب فقلت له : وكذلك الحمار

إذا رفعت عليه السَّوط مرَّ من تحتك مَرًّا حثيثاً فالقياس عَلَّمَهُ أنَّ السَّوط متى رُفِع حُطَّ ومتى حُطّ أصابَه ومتى أصابه ألم فما فضْلُ الكلبُ في هذا الموضع على الحمار والحمارُ هو الموصوف بالجهل

مما قيل في نباح الكلاب
قال الفرزدق : ( وقد نَبَحَ الكلبُ السحابَ ودُونَها ** مَهَامِهُ تعْشِي نَظْرةَ المتَأمِّلِ ) وقال الآخر : ( ما لَكَ لا تَنبحُ يا كَلْبَ الدَّوْمْ ** قد كنتَ نَبَّاحاً فما بالُ اليَوْمْ ) قال : كان هذا رجلٌ ينتظر عِيراً له تَقدَمْ فكان إذا جاءت العِيرُ نبح فاحتبست عليه العيرُ فقال كالمتمنِّي وكالمنتظر المستبطئ : ما لك لا تنبح أي ما للِعيرِلا تأتي وقال : خرج إياس بن معاوية فسمع نُباح كلب فقال : هذا كلبٌ مشدود ثم سمع نباحَه فقال : قد أُرسِل فَانتهوْا إلى الماء فسألوهم فكان كما قال فقال له غيلان أبو مروان : كيفَ علمتَ أنَّه موثَق وأنَّه أُطلق قال :

كان نباحُه وهو موثق يُسمَع من مكانٍ واحد فلما أُطلق سمعتهُ يقرُب مرّةً ويبعد مرةً ويتصرَّفُ في ذلك وقالوا : مرَّ إياس بنُ معاوية ذاتَ ليلةٍ بماء فقال : أسَمعُ صوتَ كلبٍ غريب قيل له : كيفَ عرفتَ ذلك قال : بُخضوع صوتِه وشِدَّة نُباح الآخر فسألوا فإذا هو غريب مربوطٌ والكلابُ تنبَحه استطراد لغويّ وقال بعض العلماء : كلب أبقَع وفرس أبلق وكبش أملح وتيسٌ أبرق وثور أشْيَه ويقال كلب وكلاب وكَليب ومَعزْ وماعِز ومَعيز وقال لبيد : ( فبِتْنَا حيثُ أمسَيْنَا قَرِيباً ** على جَسَدَاءَ تَنْبَحنَا الكليبُ )

وقال عَلْقَمَة بن عَبَدة : ( وتُصْبِحُ عن غِبِّ السُّرَى وكأنَّها ** مُوَلَّعَةٌ تخشى القَنيص شَبُوبُ ) ( تَعَفّقَ بالأَرْطى لَها وأرادَها ** رجالٌ فبَذَّتْ نَبْلَهمْ وكَلِيب ) ( فَمنْ للخَيلِ بَعْدَ أبي سرَاجٍ ** إذا ما أشنج الصِّرُّ الكَلِيبَا ) وهؤلاء كلهم جاهليّون

رأى لحمّوية الخريبى في بقع الكلاب وسوادها وقال حمُّويَه الخُرَيْبي وأنشدُوه : ) ( كَأنَّكَ بالمُبَارَكِ بَعْدَ حينٍ ** تَخُوض غِماره بُقْع الكِلاَبِ ) وأنشدوه : ( أرسلت أُسْداً على سُودِ الكلاب فقدْ ** أمْسَى شريدُهُمُ في الأَرضِ فُلاَّلا ) فقال : لا خير في بُقْع الكلابِ البتة وسُود الكلاب أكثرها عَقُوراً

خير الكلاب والسنانير
وخيرُ الكلاب ما كان لونُه يذهب إلى ألوان الأسد من الصُّفْرةِ والحُمرةَ والتبقيع هُجْنة وخيْرُ السنانير الخلَنْجِيَّة وخير كلاب الصَّيد البِيض قَالوا : إنّ الأسَدَّ للِهراشِ الحُمر والصُّفر والسُّودُ للِذِّئاب وهي شرُّها

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولاَ أنّ الكلابَ أُمَّة من الأممِ لأمَرْتُ بقتلها ولكن اقتلوا منها كلَّ أسوَدَ بهيم وكلُّ شيءٍ من الحيوان إذا اسودَّ شعرُه أو جلدُهُ أو خير الحمام وزعم أنّ الحمام الهُدَّاءَ إنما هو في الخُضرِ والنمر فإذا اسودَّ الحمام حتَّى يدخل في الاحتراقِ صارَ مثلَ الزِّنجيِّ الشديد البطش القليل المعرفة والأسوَدُ لا يجيء من البعد لسود هدايته والأبيض وما ضرَب فيه البياض لا يجيء من الغاية لضَعْف قواه وعلى قدر ما يعتريه من البَياض يعتريه من الضّعف

فالكلب هو الأصفَر والأحمر والحمام هو الأخضر والأنْمر والسِّنَّور هو الخَلَنْجيُّ العسَّال وسائر الألوان عيب وقد يكون فيها ومنها الخارجيُّ كما يكون من الخيل ولكنَّه لا يكادُ ينجب ولا تعدُو الأمورُ المحمودة منه رأسَه وقد يكون ربَّما أشْبَهَ وقرب من النَّجابة فإذا كان كذلك كان كهذه الأمهات والآباء المُنجبة إلاَّ أنّ ذلكَ لا يتمُّ منها إلا بَعْدَ بطون عِدَّةٍ .
استطراد لغوي وقال أبو زيد : قال ردَّاد : أقول للرجُلِ الَّذِي إذا ركب الإبلَ فَعَقَرَ ظهُورَها من إتعابه هذا رجل مِعْقَرٌ وكذلِك السَّرْج والقَتَب ولا يقال للكلب إلاَّ عقُور ويقال هو ضرْو للكلب الضاري على الصيد وضروة للكلبة وهذا ضرَاءٌ كثيرة وكلب ضارٍ وكلاب ضَوَارٍ وقد ضرِيتْ أشدَّ الضراوة وقال ذو الرُّمَّة : وقال طفيل الغنوي :

( تُباري مَرَاخيها الزِّجاجَ كأَنَّها ** ضِرَاءٌ أَحسَّتْ نَبأَةً من مكلِّبِ )
ومنه قيل : إناء ضار وقد قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه : إيَّاكمُ وهذِهِ المجازِرَ فإنَّ لها ضرَاوَة كضرَاوَةِ الخمر وقال الأصمعيّ : كلب أبقَعُ وكلبةٌ بقعاء وفرس أبلقُ وفرس بَلقاء وتَيس أبْرَقُ وعَنْزٌ بَرْقاء وكذلك جَبَل أبرقُ وكساءٌُ أبرق وكلب أبرق .


الغلام الشاعر وقال ابن داحة : نزل عندنا أعرابيٌّ ومعه ابنان له صغيران وكان أحدهما مُستهتَراً باللَّعب بالكلاب وكان الآخر مُستَهْتَراً بالحُملان فقال الأعرابيُّ لصاحب الكلب : ( ما لي أراكَ مع الكلاب جَنِيبةً ** وأرَى أخاكَ جَنِيبةَ الحُمْلان ) قال : فردَّ عليه الغلام : ( لولا الكلابُ وهَرْشُها مَنْ دُونَها ** كَانَ الوقيرُ فَريسةَ الذُّؤبانِ ) والوقير : اسم للغنم الكثيرةِ السائمةِ مع ما فيها مِنَ الحمير وغير ذلك وقال الشماخُ بنُ ضرَارٍ : ( فأوْرَدَهُنَّ تَقْرِيباً وشَدًّا ** شرَائعَ لم يكدِّرْها الوَقيرُ )

وقال الشاعر في تثبيت ما قال الغلام : ( تَعدُو الذّئابُ على َ مَنْ لا كلابَ له ** وتتَّقي صَوْلَةَ الْمُسْتأْسِدِ الضارِي ) وقال الآخر : ( إنَّ الذئاب تَرى مَنْ لا كلاب له ** وتتّقي حَوْزَةَ المستثِفر الحامي ) عفّة عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق وقال محمَّد بن إبراهيم : قَدِمَتِ امرأة إلى مَكَّةَ وكانتْ ذات جمالٍ وعَفافٍ وَبَراعةٍ وشَارة فأَعجبَت ابن أبي ربيعة فأرْسَل إليها فخافت شِعْرَه فلما أرادت الطَّواف قالت لأخيها : اخْرجُ مِعي فَخَرَجَ مَعَها وعَرَضَ لها عُمر فلمَّا رأى أخاها أعْرَض عنها فأنشدت قولَ جَرير : ( تعْدُو الذِّئاب على مَنْ لا كلاب له ** وَتتَّقي حَوزَةَ المستأسِد الضَاري )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11