كتاب : المحاسن والمساوئ
المؤلف : إبراهيم البيهقي

فقال له الحسن: سل ما شئت وتمن ما أحببت، فلو خرجت إليك من ملكي كله ما كافأتك. فقال: تشتري لي غنيمات وتردني إلى البادية. فقال: نحن إلى مكان تصفه بهذه الصفة. قال: الوطن الوطن. فاشترى له ألف شاة وأعطاه عشرين ألف درهم ورده إلى وطنه.
ومما قيل فيمن كره الغربة قال ابن أبي السرج: قرأت على حائط خانٍ بالأهواز:
إن الغريب ولو يكون ببلدةٍ ... يُجبى إليه خراجها لغريب
وأقل ما يلقى الغريب من الأذى ... أن يُستذلّ وقوله مكذوب
قال: وقرأت على حائط خان بعسكر مكرم من الأهواز:
إن الغريب إذا ينادي موجعاً ... عند الشدائد كان غير مُجاب
فإذا نظرت إلى الغريب فكن به ... متراحماً لتباعد الأحباب
قال: وقرأت على حائط خان ببغداد في الجانب الغربي:
غريب الدار ليس له صديق ... جميع سؤاله كيف الطريق
تعلّق بالسؤال بكل شيءٍ ... كما يتعلق الرجل الغريق
فلا تجزع فكل فتىً ستأتي ... على حالاته سعةٌ وضيق
قال: ووجدت على بابٍ مكتوباً:
عليك سلام الله يا خير منزلٍ ... رحلنا وخلفناك غير ذميم
فإن تكن الأيام فرّقن بيننا ... فما أحدٌ من ريبها بسليم
وأنشد:
أقمنا مكرهين بها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب البلاد بنا ولكن ... أمرُّ العيش فرقة من هوينا
ولآخر:
أقمت بأرضكم بالكره مني ... فلما طاب لي فيها المقيل
وأوطنت البلاد وحنّ قلبي ... بغزلانٍ بها أزف الرحيل
ولآخر:
وإن اغتراب المرء من غير فاقةٍ ... ولا حاجةٍ يسمو لها لعجيب
فحسب الفتى بخساً وإن أدرك الغنى ... ونال ثراءً أن يقال غريب
ولآخر:
أيّ سرورٍ لعيش مغتربٍ ... فردٍ وحيدٍ نأى عن الوطن
لا تطمع النفس في هواه ولا ... يكحل عيناً بمنظرٍ حسن
ولآخر:
سل الله الإياب من المغيب ... فكم قد ردّ مثلك من غريب
وسل الحزن عنك بحسن ظنٍّ ... ولا تيأس من الفرج القريب
ولآخر:
تصبّر ولا تعجل وُقيت من الردى ... لعل إياب الظاعنين قريب
فقلت وفي قلبي جوىً لفراقها ... ألا لا تعزّيني فلست أُجيب
أعاذل حبي للغريب سجيةٌ ... وكلُّ غريبٍ للغريب حبيب
لئن قلت لم أجزع من البين إن مضوا ... لطيّتهم إني إذاً لكذوب
بلى غُبَّرات الشوق أضرمت الحشا ... ففاضت لها من مقلتيّ غروب
ولآخر:
إذا اغترب الكريم رأى أموراً ... محجلةً يشيب لها الوليد
قال أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل: أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب:
ما كنتُ أحسب أن يكو ... ن كذا تفرقنا سريعا
بخل الزمان عليّ أن ... نبقى كما كنّا جميعا
فأحلّني في بلدةٍ ... وأحلّك البلد الشسيعا
قد كنت أنتظر الوصا ... ل فصرت أنتظر الرجوعا
ولآخر:
إلفان كانا لهذا الحب قد خلقا ... داما عليه فتمّ الوصل واتفقا
كنا كغصنين في عودٍ فغالهما ... ريب الزمان وصرف الدهر فافترقا
فاصفرّ عودهما من بعد خضرته ... وأسقط البين من عوديهما الورقا
ولآخر:
أتظعنُ والذي تهوى مقيم ... لعمرك إن ذا خطبٌ عظيم
إذا ما كنت للحدثان عوناً ... عليك وللفراق فمن تلوم
ولآخر:
لقد شفّني أني أدور ببلدةٍ ... أخلايَ منها نازحون بعيد
أُقلّبُ طرفي في البلاد فلا أرى ... وجوه أخلاي الذين أريد
ولآخر:
قف بالمنازل وقفة المشتاق ... واسفح بها من دمعك المهراق
لا تبخلنّ على الديار بأدمعٍ ... يجرين بين محاجرٍ ومآقي
تلك الديار كما عهدت عميرةٌ ... لكنها صفرٌ من الطرّاق

لم يبقها أمدٌ تقادم عهده ... فالدمع ينطق والرسوم بواقي
لهفي على زمنٍ مضت أيامه ... والعيش غضٌّ مورق الأوراق
أيامنا ما كانت إلا خلسةً ... كسف الهلال عراه وجه محاق
أو نظرةً من خائفٍ لم ينجه ... خوفٌ الحذار وشدة الإشفاق
وكذاك أيام السرور قصيرةٌ ... لكن أيام البلاء بواقي
كيف اللقاء وقد تطاوحت النوى ... شتان بين مشائمٍ وعراق
يا ليت شعري كيف عهد أحبتي ... لما أظلهم وشيك فراقي
ظني بهم حسنٌ وكيف بأوبةٍ ... تروي غليل متيمٍ مشتاق
ومنها نجديات:
ألا هل أرى حوراً تبرقعن بالحمى ... وهل أجتني بالعين من خدهم وردا
لعلي أرى نجداً ومن حلّ بالحمى ... فأحسب من نجدٍ على كبدي بردا
خليليّ قد داويت عقلاً سلبته ... بشحط النوى والبعد من قربهم عمدا
فلم أر بعد الدار يشفي من الجوى ... ولا القرب أيضاً من ديارهم أجدى
بلى إن في النأي التقطع والأسى ... وحبُّ سليمى القلب من بينهم أودى
ولآخر:
نسيم الخزامى والرياح التي جرت ... بليل على نجدٍ تذكرني نجدا
أتاني نسيم السِّدر طيباً من الحمى ... فذكّرني نجداً وقطّعني وجدا
ولآخر:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بصحراء من نجران ذات ثرىً مندي
وهل أردنّ الدهر حصن مجاشعٍ ... وقد ضربته نفحةٌ من صبا نجد
ولآخر:
أقول لصاحبي والعيس تخدي ... بنا بين المنيفة والضمار
تمتع من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجدٍ ... وريّا روضه غبَّ القطار
شهورٌ ينقضين وما شعرنا ... بأنصافٍ لهن ولا سرار
وأما ليلهن فخير ليلٍ ... وأنضر ما يكون من النهار
قال: وقال الفتح بن خاقان: ورد عليّ أعرابي من البادية نجديّ فصيحٌ فبات ليلةً عندي على سطح مشرف على بستان، فسمع فيه صوت الدواليب فقال: ما أشبه هذا إلا بحنين الإبل، وأنشدني:
بكرتْ تحنّ وما بها وجدي ... وأحنّ من شوقٍ إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أحرقت خدي

محاسن الدعاء للمسافر
بأيمن طالع وأسرّ طائر، لا كبا بك مركبٌ ولا أشتّ بك مذهبٌ ولا تعذّر عليك مطلب، سهّل الله لك السير ويسر لك القصد وطوى البعد بمسرة الظفر وكرامة المذخر بأيمن طائر وأسعد جدّ على الطائر الميمون والكوكب السعد.
وفي رسالة للبحتري: إلى حيث تتقاصر أيدي الحوادث عنك وتتقاعس نوائب الأيام دونك.
فصل: وخصصت بسهولة المطلب ونجاح المنقلب، كان الله لك في سفرك خفيراً وفي حضرك ظهيراً.
آخر: بسعيٍ نجيح وأوبٍ سريع وسريح.
آخر: قصّر الله محلّه وهدى رحله وسرّ بأوبته أهله ولا زال آمناً مقيماً وظاعناً.
آخر: بأسعد جدٍّ وأنجح مطلب وأسرّ منقلب وأكرم بدأةٍ وأحمد عاقبة.
فصل: فاشخص مصحوباً بالسلامة والكلاءة، آئباً بالنجح والغبطة، محوطاً فيما تطالعه بالعناية والشفقة في ودائع الله وضمانه وكنفه وجواره وستره وأمانه وحفظه وذماره.
وقال رجل للنبي، صلى الله عليه وسلم: إني أريد سفراً. فقال: في حفظ الله وكنفه، زودك الله التقوى ووجهّك إلى الخير حيث كنت.
كتب أبو العيناء: استخلف الله فيك واستخلفه منك.
لابن أبي السرح:
في كنف الله وفي ستره ... من ليس يخلو القلب من ذكره
وأنشد الآخر:
فارحل أبا بشرٍ بأيمن طائرٍ ... وعلى السعادة والسلامة فانزل
مساوئ الدعاء للمسافر
بالبارح الأشأم والسانح الأعضب والصرد الأنكد للسفر الأبعد، لا استمرّت مطيته واستتبت أمنيته، ولا تراخت منيّته بنحسٍ مستمرٍ وعيش مرّ، لا قرى إن استضاف ولا أمن إن خاف.

ويقال: إن علياً لما اتصل به مسير معاوية قال: لا أرشد الله قائده ولا أسعد رائده ولا أصاب غيثاً ولا سار إلا ريثاً ولا وافق إلا ليثاً، أبعده الله وأسحقه وأوقد ناراً على أثره، لا حط الله رحله ولا كشف محلّه ولا بشّر به أهله، لا زكا له مطلب ولا رحب له فيه مذهب، لا سقاه الله غماماً ولا يسّر له مراماً، لا فرّج الله همه ولا سرّى غمّه، ولا حلّ عقده ولا أورى زنده، جعله الله سفر الفراق وعصا الشقاق، وأنشد:
بأنكد طائرٍ وبشرّ قال ... لأبعد غايةٍ وأخس حال
بحدّ السند حيث يكون مني ... كما بين الجنوب إلى الشمال
غريباً تمتطي قدميك دهراً ... على خوف تحنّ إلى العيال
الباهلي:
إذا استقلت بك الركاب ... فحيث لا درّت السحاب
وحيث لا يُبتغى فلاحٌ ... وحيث لا يُرتجى إياب
ابن أبي السرح:
فسر بالنحوس إلى بلدةٍ ... تُعمّر فيها ولا ترزق
ولا تمرع الأرض من نهرها ... ولا يثمر الشجر المورق
تغيض البحار بها مرةً ... ويكدي السحاب بها المغدق
الباهلي:
أدنى خطاك الهند والصين ... وكلُّ نحسٍ بك مقرون
بحيث لا يأنس مستأنسٌ ... وحيث لا يفرج محزون
تهوي بك الأرض إلى بلدةٍ ... ليس بها ماءٌ ولا طين

محاسن الرؤيا
حدثنا أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد قال: كان المأمون يبطّل الرؤيا ويقول: ليست بشيء ولو كانت على الحقيقة كنا نراها ولا يسقط منها شيء، فلما رأينا إنما يصحّ منها الحرف والحرفان من الكثير علمنا أنها باطل وأن أكثرها لا يصح، وكان بعث بابنه العباس إلى بلاد الروم فأبطأ عليه خبره فصلّى ذات يوم الصبح وخفق وانتبه ودعا بدابته وركب وقال: أحدثكم بأعجوبة، رأيت الساعة كأن شيخاً أبيض الرأس واللحية عليه فروة وكساؤه في عنقه ومعه عصاً وفي يده كتاب فدنا مني وقد ركبت فقلت: من أنت؟ فقال: رسول العباس بالسلامة، وناولني كتابه. فقال المعتصم: أرجو أن يخفق الله رؤيا أمير المؤمنين ويسره بسلامته. قال: ثم نهض فوالله ما هو إلا أن خرج فسار قليلاً إلا وبصر بشيخ قد أقبل نحوه في تلك الحال، فقال المأمون: هذا والله الذي رأيته في منامي وهذه صفته. قال: فدنا منه الرجل فنحّاه خدمه وصاحوا به. فقال: دعوه. فجاء الشيخ، فقال له: من أنت؟ قال: رسول العباس وهذا كتابه. قال: فبهتنا وطال منه تعجبنا. فقلت: يا أمير المؤمنين أتبطل الرؤيا بعد هذه؟ قال: لا.
وحدثنا عليّ بن محمد قال: حدثني أبي عن محمد بن عبد الله قال: رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية كأني دخلت مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرفعت رأسي ونظرت إلى الكتاب الذي فوق المحراب فإذا فيه ما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، فإذا قائل يقول: يمحي هذا الكتاب ويكتب مكانه اسم رجل من بني هاشم يقال له محمد. فقلت: فأنا محمد، فابن من؟ قال: ابن عليّ. قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله. قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن عباس. فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر، فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ولا نعرف نحن المهدي فتحدث الناس بها حتى ولي المهدي فدخل مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه فإذا اسم الوليد، وإني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى اليوم، فدعا بكرسيّ فألقي له في صحن المسجد، فقال: ما أنا ببارحٍ حتى يُمحى ويكتب اسمي مكانه.
فأمر بأن يحضر العمّال والسلاليم وما يحتاج إليه لذلك، فلم يبرح حتى غُيّر وكتب اسمه.
قال: ورأى رجل أبا دلف فيما يراه النائم فقال: ما حالك؟ فقال:
فلو أنا إذا متنا تُركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء
قال: ورأى رجل الحجاج بن يوسف فيما يراه النائم فقال له: ما حالك؟ فقال: ما أنت وذاك لا أم لك! فقال: سفيهٌ في الدنيا سفيه في الآخرة!

وعن إسحاق بن إسماعيل بن علي قال: حدثني عمي عيسى بن علي قال: دخلت على المنصور فقال: يا أبا العباس أتذكر رؤياي بالشراة؟ قلت: يا أمير المؤمنين أي الرؤيا؟ قال: مثلك ينساها؟ كان يجب أن تكتبها بقلم من ذهبٍ في رقٍّ وتوصي بها بنيك وبني بنيك! قلت: فأخبرني بها يا أمير المؤمنين! قال: رأيت كأني بمكة إذ فُتح باب الكعبة فخرج رجل فقال: عبد الله بن محمد. فقمت وقام أخي. فقال الرجل: ابن الحارثية. فدخل أخي فأبطأ هنيهةً ثم خرج وفي يده لواء فخطا خطىً خمساً ثم سقط اللواء من يده. ثم خرج الرجل بعينه فقال: عبد الله، فقمت وقام عمي عبد الله بن علي وصعد الدرجة فزحمته ببعض أركاني فسبقت فإذا بأبي وإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال لي الرجل: ابدأ برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه فدعا بلواء فعقده لي ثم قال: هاك فيك وفي ولدك حتى تقتلوا به الرجال. فخطوت خطىً لو شئت أن أخبركم بها لأخبرتكم.
وحدثنا محمد بن يونس قال: أخبرني منصور بن أبي مزاحم عن طيفور مولى أبي جعفر قال: قال المنصور: رأيت في السنة التي وليَ فيها هشام بن عبد الملك كأني راكب حمار أسود وعليه حمل تبن عظيم، وكان بالموصل رجلٌ يعبر الرؤيا، وحججت تلك السنة فرأيته بمنىً وقصصت عليه الرؤيا. فقال: أخبرني لمن هذه الرؤيا. فقلت: لرجل من أفناء الناس. قال: ما قلت الحق، اصدقني وأصدقك! فقلت: لرجلٍ من بني هاشم. قال: الآن جئت بالحق، إن صدقت الرؤيا صار صاحبها خليفةً. قال: فانسلكت كالهارب خوفاً أن يظهر من قولي وقوله شيء. قال: فبينا الربيع ذات يوم قد دخل فقال: يا أمير المؤمنين رجل بالباب معبّر يستأذن. قال: أدخله. فأدخله فلما رآه تبسّم وقال: هذا صاحبي. فدنا منه وقبّل يده. فقال: أتذكر رؤياي؟ قال: نعم، وهي التي حملتني إليك. قال: كيف كنت تأولتها؟ قال: قلت راكب حمار أسود والحمار جدّ الرجل وسواده سودد، قلت وكان على الحمار تبن فقلت الحنطة والشعير يخرجان من التبن وقعد عليه ومن صار مالكه فقد ملك الأقوات فهذا رجل يملك الناس. قال: لله أبوك ما أحسن ما عبّرت وأسرع ما صححت! وأمر له بصلةٍ وقال: أقم عندنا وحوّل عيالك فإنا نأمر لك بأرزاق تسعك وإياهم. ففعل ذلك.
وبلغنا عن مزاحم مولى فاطمة قالت: كنت مع عمر بن عبد العزيز وهو نائم فانتبه وقال: يا فاطمة لقد رأيت رؤيا ما رأيت أحسن منها. قلت: حدثني بها يا أمير المؤمنين. قال: حتى أصبح. قال: فجاء المنادي فناداه بالصلاة فقام فصلّى بالناس الفجر ثم رجع إلى مجلسه. فأتيته فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني بالرؤيا. فقال: رأيت كأني في أرض خضراء لم أر أرضاً أحسن منها، ورأيت في تلك الأرض قصور زبرجد ورأيت جميع الخلائق حول ذلك القصر، فبينا أنا كذلك إذ نادى مناد من القصر: أين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقام النبي، صلى الله عليه وسلم، فدخل القصر، فقلت: سبحان الله! إنا في ملإ فيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم أسلّم عليه! فلم ألبث إلا قليلاً حتى خرج المنادي فنادى: أين أبو بكر الصديق؟ فقام أبو بكر، رحمه الله، فدخل، فما لبثت إلا قليلاً حتى خرج المنادي فنادى: أين عمر بن الخطاب؟ فقام عمر فدخل، فقلت: سبحان الله! إنا في جمع فيهم أبي ولم أسلّم عليه! فما لبث إلا قليلاً حتى خرج المنادي فنادى: أين عثمان بن عفان؟ فقام عثمان، رحمه الله، فدخل، فما لبثت إلا قليلاً حتى خرج المنادي فنادى: أين علي بن أبي طالب؟ فقام عليّ فدخل، فما لبثت إلا قليلاً حتى خرج المنادي فنادى: أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمت فدخلت فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، قاعداً ورأيت أبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعثمان وعلياً بين يديه، فقلت: أين أقعد؟ لا أقعد إلا إلى جنب أبي، قال: فقعدت عند عمر بن الخطاب، فرأيت فيما بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر شاباً حسن الوجه، فقلت: يا أبة من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، عليه السلام. قال: فما لبثت إلا قليلاً حتى سمعت منادياً ينادي: يا عمر بن عبد العزيز اثبت على ما أنت عليه. قال: ثم قمت فخرجت فلم ألبث إلا قليلاً حتى خرج عليّ عثمان وهو يقول: الحمد لله الذي نصرني. ثم لم ألبث إلا قليلاً حتى خرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: الحمد لله الذي غفر لي!

مساوئ الرؤيا

روي عن عمر بن حبيب القاضي أن رجلاً كان بالبصرة وكانت له امرأة وله منها ابنان فمات وترك لهم شاة، فرأت المرأة في النوم كأن أحد ابنيها يقول: يا أمه أما ترين هذا الجدي قد أفنى علينا لبن هذه الشاة وليس بدّ من أن أقوم فأذبحه! فقالت: لا تفعل يا بني. قال: لا بد من أذبحه. فقام فذبحه وسمطه وشواه وأخرجه من التنور فقعد هو وأخوه يأكلان، فكلمه أخوه بشيء، فأخذ السكين فشق بطنه، فانتبهت فزعة وإذا ابنها يقول: يا أمه أما ترين هذا الجدي قد أفنى علينا لبن هذه الشاة أقوم فأذبحه؟ فقالت: لا تفعل يا بني. فجعلت تتعجب من تصديق الرؤيا فأخذت بيد أخيه فدخلت بيتاً وأغلقت الباب من داخل، فبينا هي مفكرة مغتمة إذ غقت فرأت النبي، صلى الله عليه وسلم، في النوم، فقال: ما شأنك؟ فخبرته الخبر. فنادى: يا رؤيا! فإذا الحائط قد انصدع وخرجت امرأة جميلة بارعة الجمال. فقال لها النبي، صلى الله عليه وسلم: ما أردت إلى هذه المسكينة؟ قالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أتيتها في منامها! فنادى: يا أضغاث أحلام! فخرجت امرأة دونها. فقال: ما أردت إلى هذه المسكينة؟ قالت: رأيتهم بخير فحسدتهم فأردت أن أغمهم. فقال، صلى الله عليه وسلم: ليس عليك بأس. فانتبهت وأكلت مع ابنيها ولم يزالوا بخير.

محاسن الازكان
قال: نظر إياس بن معاوية إلى نسوة قد فزعن من بعير فأشار إليهن فقال: هذه بكر وهذه حامل وهذه مرضع. فقام إليهن رجل فسألهن فكن كما قال. فقيل له: كيف علمته؟ قال: رأيتهن لما فزعن وضعت كل واحدة منهن يدها على أهم المواضع إليها، فوضعت الحامل يدها على بطنها، ووضعت المرضع يدها على ثديها، ووضعت البكر يدها على قبُلها.
قال: ونظر إياس يوماً إلى رجل متأبط شيئاً فقال: معه سكر وقد ولد له غلام. فاتبعه الرجل فسأله فإذا هو كما قال. فقيل له في ذلك، فقال: رأيت الذباب قد أطافت به فقلت معه حلاوة وهو سكر، ورأيته نشيطاً فقلت ولد له غلام.
مساوئ الازكان
قال: واستقبل إياس رجلاً فقال: خذوه فإنه سرق وسيأتي من يطلبه. فأخذوه فلم يتجاوز ساعة حتى جاء قوم يطلبونه فأخذوه فقيل له في ذلك، فقال: رأيته يرعد ويعدو مدلها متغير اللون يكثر الالتفات فزكنت فيه هذا وأنه لص.
قال: ورأى رجلاً على عاتقه جرة عسل فقال: فيها سم أو حية. فنظروا فإذا حية، فسئل عن ذلك فقال: رأيت الذباب تحوم حوله ولا تسقط عليه فعلمت أنه حية أو سم.
محاسن الفأل والزجر
حدثنا الحسن بن وهب قال: حدثني صالح بن علي بن عطية قال: كان المنصور ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم ونذر دمه فيها وأجلّه ثلاثة أيام. فقال خالد ليحيى ابنه: إني قد طولبت بما ليس عندي وإنما يراد بذلك دمي فانصرف إلى حرمتك وأهلك فما كنت فاعلاً بعد موتي فافعله، ثم قال: يا بني ولا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا فتعلمهم حالنا. قال يحيى: فأتيت إخوان والدي فمنهم من جبهني بالرد ثم بعث إليّ بمال جليل، ومنهم من لم يأذن لي وبعث بمال في أثري لكيلا يُخبر به المنصور. قال: فدخلت على عمارة بن حمزة وهو مقابل بوجهه إلى الحائط فسلمت فرد رداً ضعيفاً. قال يحيى: فضاقت بي الأرض، ثم كلمته فيما كنت أتيته فيه. فقال: إن أمكننا شيء فسيأتيك.
فانصرفت عنه وصرت إلى أبي فأعلمته ذلك وقلت: أراك تثق من عمارة بما لا يوثق به. فوالله إني لفي ذلك الحديث إذ طلع علينا رسول عمارة بمائة ألف درهم ورسول صاحب المصلى بمائة ألف درهم ورسول مبارك التركي بمائتي ألف درهم. فجمعنا في يومين ألفي ألف درهم وسبع مائة ألف درهم وبقيت ثلاثمائة ألف درهم، فتعذر ذلك. قال يحيى: فوالله إني لمارّ بالجسر مهموماً مغموماً إذ وثب إليّ زاجر فقال: فرّخ الطير قف أخبرك! فطويته ولم ألتفت إليه، فلحقني وتعلّق بي. فقلت: ويحك اذهب عني فإني مشغول عنك! فقال: أنت والله مهموم ووالله ليُفرجنّ همك وتمن باللواء غداً في هذا الموضع بين يديك. فأقبلت أعجب من قوله. فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم! قلت: نعم. ولو قال خمسين ألف درهم لقلت نعم لبعد ذلك عني.

ثم مضيت فوالله ما انصرفت حتى ورد على المنصور الخبر بانتقاض أمر الموصل وانتشار الأكراد بها. فقال المنصور: ويحكم من لها! وكان المسيب بن زهير عند المنصور وكان صديقاً لخالد فقال: عندي والله من يكفيكه وأنا أعلم أنك ستلقاني بما أكره ولكني لا أدع على حال نصحك، فقال المنصور: قل فلست أردّ عليك. قال: يا أمير المؤمنين ما ترميها بمثل خالد. فقال المنصور: ويحك وتراه يصلح لنا بعد ما أتيناه إليه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين وأنا زعيمه بذلك والضامن عليه. فتبسم المنصور وقال: صدقت والله ما لها غيره، فليحضر غداً. فأُحضر فصفح له عن الثلاث المائة الألف الدرهم الباقية عليه وعقد له.
قال يحيى: فنمرّ والله بالزاجر واللواء بين يدي، فلما رآني قال: أنا ها هنا أنتظرك منذ غدوة! قال: فتبسمت إليه فقال: امض. فمضى معي ودفعت إليه الخمسة الآلاف الدرهم.

مساوئ الفأل
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حضرت مجلس المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين ألا أحدثك عن الفضل بن يحيى؟ قال: بلى. فقلت: دخلت دار الرشيد وإذا الفضل بن يحيى وإسماعيل بن صبيح وعبد الملك بن صالح في بعض تلك الأروقة يتحدثون، فلما بصر بي الفضل أومأ إلي وقال: يا إسحاق انتظرناك منذ الغداة لتساعد على ما نحن فيه من المذاكرة! فقلت: يا سيدي أنا السكيت إذا أجريت الجياد وفاز السابق والمصلّي. فقال: هيهات عندها مدحت نفسك ولما تكذّب.
فلما فرغ عبد الملك من حديثه قال الفضل: إن لقسٍّ حديثاً سمعته من الخليل بن أحمد فهل عند واحد منكم له ذكر؟ فسكت القوم. فقلت: يا سيدي ما نعرف له حديثاً إلا حديث خطبته بعكاظ. قال: ذاك شيء قد فهمته العامة واختبرته الخاصة. ثم أطرق ساعة. فقلنا: إن رأيت أن تحدثنا. فقال: حدثني الخليل بن أحمد أن قيصر ملك الروم بعث إلى قس بن ساعدة أسقف نجران وكان حكيماً طبيباً بليغاً في منطقه، فلما دخل عليه ومثل بين يديه حمد الله وأثنى عليه، فأمره بالجلوس فجلس، فرحب به وأدنى مجلسه وقال: ما زلت مشتاقاً إليك معما أحببت من مناظرتك في الطب. فكان أول ما سأله عن الشراب لعجبه به، فقال: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن؟ قال: ما صفا في العين واشتد على اللسان وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم. قال: فما تقول في مطبوخه؟ قال: مرعىً ولا كالسعدان. قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيي وفيه بعض المتعة وما يكاد يقوى شيء بعد الموت. قال: فما تقول في نبيذ العسل؟ قال: نِعم شراب الشيخ للابردة والمعدة الفاسدة. قال: فما تقول في أنبذة التمر؟ قال: أوساخ يطيب مذاقها في اللهوات وتسوء عاقبتها في البدن وتولّد الأرواح في البطن لرقتها. قال: فمن أي شيء يكون الثمل الذي يذهب الغم ويطيب النفس؟ قال: زعموا أن العقل تصعده سورة الشراب إلى الدماغ الذي هو أصله بقوة الروح الذي جُعل فيه، فإذا صعدت السورة إلى الدماغ الذي هو أصله فاحتوت عليه حتى تغشاه حجب العقل عن منافعه فاحتجب البصر بغير عمى والسمع بغير صمم واللسان بغير خرس، والدليل على ذلك أن السكران لا يرى في نومه شيئاً ولا تصيبه جنابة فلا يزال العقل كذلك محتجباً حتى تفكه الطبيعة من إسار السكر إما بقوة فيعجل وإما بضعف فيبطيء. قال: فمن أي شيء الخمار من بعد صحو السكران؟ قال: من إعياء الطبيعة عن مجاهدة السورة في افتكاك العقل وتخلّصه حتى يردها النوم إلى هدوء وما أشبهه. قال: الصرف أفضل أم الممزوج؟ قال: الصرف سلطان جائر والجائر مستفسد مذموم والممزوج سلطان عادل والعادل مستصلح محمود. قال: فصف لي الأطعمة. قال: الأطعمة كثيرة مختلفة وجملة ما آمرك به الإمساك عن غاية الإكثار فإن ذلك من أفضل ما بلوناه من الأدوية ورأس ما نأمر به من الحمية.

قال له: عمن حملت الحكمة؟ قال: عن عدة من الفلاسفة. قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة المرء بقدره. قال: فما تقول في الحلم؟ قال: حلم الإنسان ماء وجهه. قال: فما تقول في المال وفضله؟ قال: أفضل المال ما أعطي منه الحق. قال: فما أفضل العطية؟ قال: أن يعطى قبل السؤال. قال: فأخبرني عما بلوت من الزمان وتصرّفه ورأيت من أخلاق أهله. قال: بلونا الزمان فوجدناه صاحباً ولا يعتب من عاتبه، ووجدنا الإنسان صورة من صور الحيوان يتفاضلون بالعقول، ووجدنا الأحساب ليست بالآباء والأمهات ولكنها هي أخلاق محمودة، وفي ذلك يقول، أو قال أقول:
لقد حلبت الزمان أشطره ... ثم محضت الصريح من حلب
فلم أر الفضل والمعال في ... قول الفتى إنني من العرب
حتى نرى سامياً إلى خلقٍ ... يذود محموده عن النسب
ما ينفع المرء في فكاهته ... من عقل جدٍّ مضى وعقل أب
ما المرء إلا ابن نفسه فبها ... يعرف عند التحصيل للنوب
حتى إذ المرء غال مهجته ... ألفيته تربةً من الترب
ووجدنا أبلغ العظات النظر إلى محل الأموات، وأحمد البلاغة الصمت، ووجدنا لأهل الحزم حذاراً شديداً وبذلك نجوٌ من المكروه، والكرم حسن الاصطبار، والعز سرعة الانتصار، والتجربة طول الاعتبار، قال: خبرني هل نظرت في النجوم؟ قال: ما نظرت فيها إلا فيما أردت به الهداية ولم أنظر فيما أردت به الكهانة، وقد قلت في النجوم:
علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب شيءٍ لا ينال ضلال
ماذا طلابك علم شيءٍ أُغلقت ... من دونه الأفلاك ليس يُنال
هيهات ما أحدٌ بغامض قدره ... يدري كم الأرزاق والآجال
إلا الذي فوق السماء مكانه ... فلوجهه الإكرام والإجلال
قال: فهل نظرت في زجر الطير؟ قال: نحن معاشر العرب مولعون بزجر الطير. قال: فما أعجب ما رأيته منه؟ قال: شخصت أنا وصاحب لي من العرب إلى بعض الملوك فألفيناه يريد غزو قومٍ كانوا على دين النصرانية فخرج حتى إذا كان على فراسخ من مدينته أمر بضرب فساطيطه وأروقته لتتوافى إليه جنوده وضرب به فسطاط على شاطيء نهر وأمر بخباء فضرب لي ولصاحبي، فبينا نحن كذلك إذ أقبل طائران أسود وأبيض وأنا وصاحبي نرمقها حتى إذا كانا رأسه رفرفا وشرشرا ثم غابا ثم رجعا أيضاً حتى إذا كانا قريباً منه طوياه ثم أقبلا نحونا فوقفا ثم رتعا. فقال صاحبي: ما رأيت كاليوم طائرين أعجب منهما فأيهما أنت مختار؟ فقلت: الأسود. قال: الأبيض أعجبهما إليّ، فما تأوّلتهما؟ قلت: الليل والنهار يطويان هذا الرجل في سفره فيموت، وتأولت اختيارك الأبيض أنك تنصرف بيد بيضاء مخفقة من المال. فإذا هو قد غضب. فلما جن الليل بعث إلينا الملك لنسمر عنده فإذا صاحبي قد أخبره بالخبر، فسألني فأخبرته وصدقته. فغضب وقال: هذه حمية منك لأهل دينك. فقلت: أما أنا فقد صدقتك. فأمر بحبسي ومضى لوجهه، فلم يتجاوز إلا قليلاً حتى مات، فأوصى لي بعشرين ناقة وقال: قاتل الله قساً! لقد محضني النصيحة. فانصرفت من سفري ذلك بعدة من الإبل وانصرف صاحبي مخفقاً من المال.
قال الملك: وما رأيت أيضاً من الزجر أعجب؟ قلت: رأيت مرة عند الملك الهمام أبي قابوس وقد خرج عليه خارج من مضر يريد ملكه وقد حشد له فبعث إلى بعض عماله في توجيه أربعمائة فارس ووجهني مع الرسول وأمرنا بالشد على أيديهم في جمع الخيل والرجال، وكان الرسول شاعراً، فبينا نحن نسير إذ سنحت لنا ظباء أعنزٌ فيها تيس يقدمها، وكان أبو قابوس يواعد للقائه في يوم كذا وكذا، فنحن نقول إن كان الملك قد خرج في يوم كذا فهو اليوم في موضع كذا وقد أقبلنا ونحن نقود جيشاً عرمرماً، فأنشأ الرسول يقول:
ألا ليت شعري ما تقول السوانح ... أغادٍ أبو قابوس أم هو رائح
قال: فنظرت إلى التيس عند فراغه من هذا البيت قد دخل في مكنسه حتى توارى فيه، فدخلني من ذلك ما لم أقدر على أن أمسك نفسي حتى استرجعت.

فقال لي رفيقي: ما لك؟ قلت: إن صدق الزجر فصاحبك قد ثوى في التراب والتحف عليه أطباق الثرى. قال: كيف ذلك؟ قلت: وافق فراغك من البيت دخول التيس في مكنسه. فأعرض عني فلما أصبحت في اليوم الذي واعدنا للقائه لم يواف ولم يكن بأوشك من أن أتانا الخبر بهلاكه وقعود ابنه، فأكرمه قيصر وأحسن جائزته.
قلنا: أيّد الله الوزير! لقد بلغت باستحقاق ولقد حزت قصبة الرهان في كل منقبة. فتبسم وقال: عز الشريف أدبه. وإذا رسول الرشيد قد وافاه فنهض نحوه وتصدع المجلس وانصرفنا. فلما مضى من الليل بعضه إذ أنا بطارق قد طرقني وبين يديه غلمان على أعناقهم البدر وإذا رسول الفضل وقد حمل إلي مائة ألف درهم وقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول: ضجرت باستماع الحديث وأوجبت عليّ بذلك منّةً وهذه صلة وتحةٌ في جنب قدرك عندي فخذها ولا تعتد بها. فقلت: سبحان الله الذي خلق هذا الرجل وجبله على كرم بذّ به من مضى ومن غبر! وإذا هو قد وجه إلى أصحابي الذين كانوا معي بمثل الذي وجّه به إليّ، فغدوت إليه وأردت أن أشكره فقال: والله لئن ذهبت تكشف ما ستر الله لأجفونك! فكأنما ألقمني بذلك حجراً، فاحتبسني عنده فطعمت وشربت ورحت وقد حملني على عدة أفراس بسروج مذهبةٍ ولجم مذهبة ووجه معي بعشرة تخوت ثياب وعشر بدر. قال فقال المأمون: ويحك يا إسحاق! ثواب حديثك ضعف ما أمر لك به الفضل وقد أمرت لك بمائة ألف درهم. فقبضت ذلك وانصرفت.
قال: وكان محمد بن حازم قال قصيدته التي يقول فيها:
فيا شامتاً مهلاً فكم من شماتة ... تكون لها العقبى لقاصمة الظهر
فاعتل محمد ولم يكن يرثه إلا أخوه وكان بسر من رأى، فوجهت إليه جاريته تعلمه بشدة علته، فقدم أخوه ومحمد لمآبه فأدخل الجارية بيتاً في الدار ووطئها قبل وفاة أخيه. فلما مات حمل المال والأثاث والجارية إلى منزله بسر من رأى وأخذ في الشراب، فانصرف ليلةً ثملاً فأراد المبيت على سطح الدار فمنع من ذلك فامتنع، فلما صار في أعلى الدرجة سقط وانقصف ظهره فجعلنا نتذاكر شعر أخيه.
قيل: ووفدت عزة كثيّر على عبد الملك بن مروان، فلما دخلت سلّمت فردّ عليها السلام ورحّب بها وقال: ما أقدمك يا عزة؟ قالت: شدة الزمان وكثرة الألوان واحتباس القطر وقلة المطر. قال: هل تروين لكثير:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغير
قالت: لا أروي له هذا، ولكني أروي له قوله:
كأني أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلّت
فقال: ما كنت لتصيري إلى حاجة أو تهبي نفسك لي فأزوجك منه.
قالت: الأمر إليك يا أمير المؤمنين، ما كنت لأزهد في هذا الشرف الباقي لي ما دامت الدنيا أن يكون أمير المؤمنين وليي. فعظم بذلك قدرها عنده وأمر لها بمال وكتب إلى كثير وهو بالكوفة: أم اركب البريد وعجّل فإني مزوجك عزة. فأتاه الكتاب وهو مضنىً من الشوق إليها فرحل فأقبل نحوها، فلما كان في بعض الطريق إذا هو بغراب على شجرة بانة وإذا هو ينتف ريشه ويطايره، وكان شديد الطيرة، فلما رآه تطير وهم بالانصراف ثم غلبه شوقه فمضى وهو مكروب لما رأى، حتى أتى ماءً لبني نهد، فإذا هو برجل يسقي إبله فنزل عن راحلته واستظل بشجرة هناك فأبصر النهدي، فأتاه وسأله عن اسمه ونسبه فانتسب، فرحب به، فأخبره عما رأى في طريقه، فقال: أما الغراب فغربة، وأنا البانة فبينٌ، وأما نتف ريشه ففرقة. فاستطير لذلك، ومضى حتى دنا من دمشق فإذا بجنازة فاستعبر وقال: أسأل الله خير ما هو كائن! فسأل عن الميت فإذا هي عزة، فخرّ مغشياً عليه، فعُرف وصب عليه الماء فكان مجهوده أن بلغ القبر، فلما دفنت انكب على القبر وهو يقول:
سراج الدجى ضمر الحشى منتهى المنى ... كشمس الضحى نوامة حين تصبح
إذا ما مشت بين البيوت تخزلت ... ومالت كما مال النزيف المرنح
تعلّقتُ عزاً وهي رؤدٌ شبابها ... علاقة حبٍ كاد بالقلب يرجح
أقول ونضوي واقفٌ عند رمسها ... عليك سلام الله والعين تسفح
فهلا فداك الموت من أنت دونه ... ومن هو أسوأ منك ذلاً وأقبح
على أم بكرٍ رحمة وتحيةٌ ... لها منك والنائي يودّ وينصح

منعّمةٌ لو يدرج الذرُّ بينها ... وبين حواشي بردها كاد يجرح
وما نظرت عيني إلى ذي بشاشةٍ ... من الناس إلا أنت في العين أملح
ثم بكى حتى غشي عليه، فأفاق وهو يقول:
ما أعيف النهدي لا در رده ... وأزجره للطير لا طار طائره
رأيت غراباً ساقطاً فوق بانةٍ ... ينتّف أعلى ريشه ويطايره
فقال غرابٌ اغترابٌ من النوى ... وبانة بينٌ من حبيب تعاشره
ثم لم يزل باكياً حتى أدركه الموت ولم ير ضاحكاً بعدها، وقيل فيه من الشعر:
تنادى الطائران ببين سلمى ... على غصنين من غربٍ وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير داني
أخذه أبو الشيص فقال:
أشاقك والليل ملقي الجران ... غرابٌ ينوح على غصن بان
أحصُّ الجناح شديد الصياح ... يبكي بعينين ما تدمعان
وفي نعبات الغراب اغترابٌ ... وفي البان بينٌ بعيد التداني
ولآخر:
أقول يوم تلاقِينا وقد سجعت ... حمامتان على غصنين من بان
الآن أعلم أن الغصن لي غصصٌ ... والبان بينٌ قريبٌ عاجلٌ داني
فقمت تخفضني أرضٌ وترفعني ... حتى وثبت وهذا السير إزكاني
ولآخر:
أقول وقد صاح ابن دأية غدوةً ... بوشك النوى لا أخطأتك الشوابك
أفي كل يومٍ رائعي منك روعةٌ ... ببينونة الأحباب عرسك فارك
فلا بضت في خضراء ما عشت بيضةً ... وضاقت برحبيها عليك المسالك

محاسن الشعر في هذا الفن
لبعضهم:
وقالوا عقابٌ قلت عقبى لهم من النوى ... دنت بعد شحطٍ منهم ونزوح
وقالوا حمامٌ قلت حُمَّ لقاؤها ... وعادت لنا ريح الوصال تفوح
وقالوا دمٌ دامت مودة بيننا ... وطلحٌ فنيلت والمطيُّ طلوح
وقالوا تغنّى هدهدٌ فوق أيكةٍ ... فقلت هدىً تغدو بنا وتروح
وحكي عن النعمان بن المنذر أنه خرج يتصيد ومعه عديّ بن زيد فمرّ بآرامٍ، وهي القبور، فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الآرام؟ قال: لا. قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبو ... ن على الأرض تمرون
فكما كنتم فكنا ... وكما نحن تكونون
قال: أعد. فأعاد، فرجع كئيباً وترك صيده. قال: ثم خرج معه خرجة أخرى فوقف على آرام بظهر الكوفة، فقال: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الآرام؟ قال: لا. قال: فإنها تقول:
رُبّ ركبٍ قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال
فانصرف وترك صيده.
عبد الله بن مسلم قال: حدثت عن معاوية أنه سأل عبيد بن شرية الجرهمي عن أعجب شيء رآه فقال: نزلت بحيّ من قضاعة في الجاهلية فأخرجوا جنازة لرجل من بني عذرة فخرجت معهم حتى إذا واروه تنحيت جانباً وعيناي تذرفان ثم تمثلت بأبيات من شعر كنت رُوّيتها قبل ذلك الزمان:
استقدر الله خيراً وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرّمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكُّره ... والدهر أيتما حالٍ دهارير
قال: وإلى جانبي رجل يسمع ما أقول، فقال: أتدري من قائل هذه الأبيات؟ قلت: لا والله. قال: والذي يُحلف به أنه لصاحب هذا القبر وهذا ذو قرابته أسرّ الناس بموته وأنت الغريب تبكي عليه! فعجبت مما ذكره في شعره والذي صار إليه من قوله كأنه نظر إلى نفسه بعد موته.
قال: ولما بعث أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، خالد بن الوليد إلى أهل الردة انتهى إلى حيّ من تغلب فأغار عليهم وقتلهم، وكان رجل منهم جالساً على شراب له وهو يغني بهذه الأبيات:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريبٌ وما ندري

فوقف عليه رجل من أصحاب خالد فضرب عنقه وإذا رأسه في الجفنة التي كان يشرب منها، ولذلك قيل:
إن البلاء موكل بالمنطق
وحدثنا الحسين بن الضحاك قال: شهدت الواثق وكان قاعداً في مجلس كان أول مجلس قعده فكان أول ما تغنى من الغناء في ذلك المجلس صوت إبراهيم بن المهدي فغنت به شارية جارية إبراهيم:
ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشةً للثواء أم للقاء
فلتقل فيك باكياتٌ كما شئ ... ن صباحاً وعند كل مساء
قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنين فغنى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
قال: فازداد والله في البكاء، ثم قال: أسمعت كاليوم قط تعزية بأب ونعي نفس؟ ثم ارفضّ ذلك المجلس.
وحدثنا ابن المكي عن أبيه قال: قال محمد الأمين في آخر أيامه: يا مكي والله أحب أن أقعد يوماً قبل أن يحال بيننا وبين ما نريد. فقلت: يا أمير المؤمنين افعل ذلك، فقال: اغد عليّ في غد. قال: فانصرفت وغدا عليّ رسوله في السحر فجئت إليه وهو في صحن داره وعليه جبة وشي مذهبة تأتلق وعمامة مثلها ما رأيت لأحد قط مثل ذلك وتحته كرسي من ذهب مرصّع بالجوهر.
فدعا بكرسي فجلست عليه عن يساره. ثم قال لخادم على رأسه: ادع لي فلانة وفلانة، حتى عدّ أربع جوار ما منهن جارية إلا وأنا أعرف حذقها وجودة غنائها. فخرجن وجلسن عن يمينه. ثم قال: يا غلام عليّ برطلٍ، فأتي برطل وقدح بلّور مكلل بالجوهر. فالتفت إلى التي تليه فقال لها: غني، فضربت ضرباً حسناً وتغنت بشعر الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما قتلت كسرى بليل مرازبه
بني هاشمٍ ردوا سلاح أخيكم ... ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه
قال: فرمى بالقدح في وسط الدار ثم قال: لعنك الله! ما هذا؟ قالت: لا والله يا سيدي ما جاء على لساني غير هذا. ثم التفت إلى الغلام فقال: اسقني. فأتاه بقدح مثل الأول. وقال للأخرى: غني. فغنت ما قيل في كليب وائل:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضُرّج بالدم
فرمى بالقدح في صحن الدار وكسره ثم قال: يا غلام عليّ برطل. وقال للثالثة: غني، فغنت:
أتقتل عمراً لا أبا لك شارداً ... وتزعم بعد القتل أنك هارب
فلو كنت بالأقطار ما فتّ ضربتي ... وكيف تفوت الحين والدم طالب
قال: فرماها بالقدح وقال: يا غلام عليّ برطل. وقال للرابعة: غني. فغنت:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العوائر
قال: فالتفت إلي وقال: قد سمعت هذا أمر يريده الله جل وعز. قال: فما مضت أيام حتى رأيت رأسه بين شرفتين من شرف قصره.

محاسن ترك التطير
روي عن عكرمة قال: كنا جلوساً عند ابن العباس وابن عمر فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير! فقال ابن العباس: لا خير ولا شر، وأنشد في مثله:
ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل
والناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل
ولا إذا صاح غرا ... بٌ في الديار احتملوا
وما غراب البين إ ... لا ناقةٌ أو جمل
ولآخر:
أترحل عمن أنت صبٌّ بمثله ... وتلحى غراب البين إنك ذو ظلم
أقم فغراب البين غير مفرّقٍ ... ولا نازل إلا على أفضل الحكم
ولآخر:
غلط الذين رأيتهم بجهالةٍ ... يلحون كلهم غراباً ينعق
ما الذنب إلا للجمال فإنها ... مما يشتِّت جمعهم ويفرق
إن الغراب بيمنه يدني النوى ... وتشتت الشمل الجميع الأينق
محاسن المواعظ

قال: وحكي عن الأوزاعي قال: بعث إليّ المنصور فقال: لم تبطيء عنا؟ قلت: وما تريد منا؟ قال: لآخذ عنكم وأقتبس منكم. فقلت له: مهلاً فإن عروة بن رويم أخبرني أن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، قال: من جاءته موعظة من ربه فقبلها شكر الله له ذلك، ومن جاءته فلم يقبلها كانت حجة عليه يوم القيامة، مهلاً فإن مثلك لا ينبغي له أن ينام. إنما جُعلت الأنبياء رعاة لعلمهم بالرعية يجبرون الكسير ويسمنون الهزيلة ويردون الضالة فكيف من يسفك دماء المسلمين ويأخذ أموالهم! أُعيذك بالله أن تقول إن قرابتك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تدعوك إلى الجنة، إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانت في يده جريدة يستاك بها فضرب بها قرن أعرابي فنزل عليه جبريل، عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يبعثك جباراً مؤيساً مقنطاً تكسر قرون أمتك، ألق الجريدة عن يدك، فدعا الأعرابي إلى القصاص من نفسه فكيف بمن يسفك دماء المسلمين؟ إن الله عز وجل أوحى إلى من هو خير منك إلى داود، عليه السلام: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق. وأوحى إليه: يا داود إذا أتاك الخصمان فلا يكونن لأحدهما على صاحبه الفضل فأمحوك من ديوان نبوتي.
اعلم أن ثوباً من ثياب أهل النار لو علق بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من نتن ريحه، فكيف بمن تقمّصه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبال الدنيا لذابت كما يذوب الرصاص حتى تنتهي إلى الأرض السابعة، فكيف بمن تقلدها؟ قال: ودخل عمرو بن عبيد على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل يقفك ويسائلك عن مثقال ذرة من الخير والشر، وإن الأمة خصماؤك يوم القيامة، وإن الله جل وعز لا يرضى منك إلا ما ترضاه لنفسك، ألا وإنك لا ترضى لنفسك إلا بأن يعدل عليك وإن الله جل وعز لا يرضى منك إلا بأن تعدل على الرعية، يا أمير المؤمنين، إن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور، والله ما يُحكم وراء بابك بكتاب ولا بسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، قال: فبكى المنصور. فقال سليمان بن مجالد وهو واقف على رأس المنصور: يا عمرو قد شققت على أمير المؤمنين! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين من هذا؟ قال: أخوك سليمان بن مجالد. قال عمرو: ويلك يا سليمان! إن أمير المؤمنين يموت وإن كل ما تراه ينفد وإنك جيفة غداً بالفناء لا ينفعك إلا عمل صالح قدّمته، ولقرب هذا الجدار أنفع لأمير المؤمنين من قربك إذ كنت تطوي عنه النصيحة وتنهى من ينصحه، يا أمير المؤمنين إن هؤلاء اتخذوك سلماً إلى شهواتهم. قال المنصور: فأصنع ماذا؟ ادع لي أصحابك أولهم! قال: ادعهم أنت بعمل صالح تحدثه ومر بهذا الخناق فليرفع عن أعناق الناس واستعمل في اليوم الواحد عمالاً كلما رابك منهم ريب أو أنكرت على رجل عزلته ووليت غيره، فوالله لئن لم تقبل منهم إلا العدل ليتقربن به إليك من لا نية له فيه.
وحدث محمد بن عبد الله قال: قال المنصور لجعفر بن حنظلة البهراني: عظني. قال فقلت: يا أمير المؤمنين أدركت عمر بن عبد العزيز سنتين لم يتخذ مالاً ولم ينشيء عيناً ولم يستخرج أرضاً ولم يضع لبنة على لبنة ولا أُحصي كم من ولده تحمل الحمالات وحمل على الخيل، وولي هشام بن عبد الملك ثماني عشرة سنة ما منها سنة إلا وهو ينشيء فيها عيوناً ويتخذ فيها أموالاً ويقطع لولده القطائع، ولا أعرف اليوم من ولده رجلاً يشبع. فقال: والله لقد وعظت وأحسنت. قال جعفر: ففرحت أن نجعت عظتي في أمير المؤمنين. قال: فأطرق ساعة ثم قال: يا غلام ادع لي سليمان بن مجالد. فدعاه فقال: يا سليمان علق أصحاب قيليا بأرجلهم حتى يؤدوا ما عليهم. وكان قد جعلها لصالح ابنه، فعلمت أن عظتي لم تنفع قليلاً ولا كثيراً.

وحدث محمد بن عبد الله الخراساني قال: حدثني المفضل الضبّي قال: سمعت المسيب بن زهير يقول: بينا المنصور يطوف بالبيت وأنا قدامه إذا رجل مستلم الركن فقلت له: تنحّ فقد جاء أمير المؤمنين، كرتين أو ثلاثاً، فلم يبرح حتى رمقه المنصور وسمعه وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور الجور والبغي والفساد في الأرض وما يحول بين المرء وقلبه من الطمع. فلما سمعه قال لي: يا مسيب عليّ بالرجل. فقلت له: أما إذ قد ابتليت بك فأجب. قال: حتى أتم طوافي. فلما أتم طوافه قلت له: أجب الآن فقد فرغت من طوافك، قال: حتى أصلي ركعتين. قلت: نعم فصلّ. فصلى ركعتين ثم أدخلته على المنصور، فلما رآه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: وعليك السلام، ما هذا الكلام الذي سمعتك تلفّظ به آنفاً عند الركن؟ قال: أوسمعته يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: هو ذاك، ألست بان عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ألست الخليفة ما بقيت غاية إلا وقد بلغتها، أتطمع أن تنال ما عند الله جل وعز بما أنت فيه؟ قال: وفيما أنا؟ قال: أخبرك بما لا تقدر أن تدفعه. قال: وما هو؟ قال: عمدت إلى الطين فأوقدت عليه فصيرت منه الآجر قم عمدت إلى الرمل وأوقدت عليه فصيرت منه الجص وصيرت بعضه فوق بعض فبنيت لك منها الحصون المشيدة والقصور العالية ثم غلقت عليها أبواب الحديد فاحتجبت عن الناس أجمعين ثم أقعدت على الأبواب أقواماً عبدوك من دون الله.
فلما قال له ذلك استوى جالساً ثم قال: أنا! قال: نعم أنت، أما سمعت الله جل ذكره يقول: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ما صلّوا لهم ولا صاموا ولكنهم أمروهم فأطاعوهم في كل ما أرادوا ولم يخالفوهم، فكانت تلك ربوبتهم؟ ثم اتخذت بطانة يسيرة وقلت لا يدخل عليّ فلان وفلان، فرفع أولئك إليك من أمور المسلمين ما هان عليهم وخف عليك، فإذا جاء المظلوم إلى الباب لم يصل إليك فصار إلى بعض من يصل إليك فقال ارفع قصتي هذه إلى أمير المؤمنين، قال: نعم، فدفعها إليه فإذا هو يتظلم من بعض من يصل إليك، فأرسل إليه الظالم الذي ظلم صاحب القصة: والله لئن رفعت قصة فلان إلى أمير المؤمنين لأرفعن قصة فلان الذي ظلمته في كذا وكذا، فأمسك القصة ولم يرفعها، فعند ذلك اقتطعت حقوق الناس دونك وأنت محصور في قصرك تظن أنك في شيء أو على شيء والناس وراء بابك يقتلون ويؤكلون.
والله لقد دُفعت إلى جزيرة من جزائر البحر وإذا ملك تلك البلاد مشرك وصنمه في كمه وتسمى البلاد الصين فرأيته ذات يوم وهو يبكي في مجلسه، فقام إليه وجوه مملكته فقالوا: ما يبكيك أدام الله ملكك وأعزك أيها الملك، أليس قد مكن الله لك، أليس قد مهد الله لك؟ قال: أبكي الصمم قد اعتراني أخاف أن لا أسمع صوت مظلوم وصارخ بالباب، ألا وقد آليت عليكم أن لا يركب منكم الفيل ولا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم حتى أعرفه. قال: فلقد والله رأيته يركب بالغداة والعشي يتصفح الوجوه هل يرى مظلوماً فينصفه، فهذا لا يعرف الله جل وعز ولا يريد بذلك رفعة عند الله جل وعز ولا زلفى لديه ولا رجاء ثواب ولا مخافة عقاب ولكن شفقةً على ملكه وخوفاً من أن ينتشر عليه أمره فيخاف أن يذهب ملكه، وهو مشرك يفعل هذا ويتفقده من نفسه ورعيته، وأنت ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكنت أولى بهذا الفعل من ذلك المشرك! قال: صدقت قد عرفت الذي قلت وفهمت ما وصفت والأمر على ما ذكرت، ولكن كيف أصنع وقد بليت بأمر الأمة ودعوت الفقهاء فلاناً وفلاناً على أن أستعين بهم على ما أنا فيه فهربوا مني؟ قال: إنهم لم يهربوا منك ولكن لم يعلموا أنك تريدهم للعمل بالحق وكان العمل معك ومعونتك أوجب عليهم من الصلاة والصيام والحج والنوافل ولكنهم هربوا خوفاً على أبدانهم من عذاب الله وذلك أنهم تخوفوا أن تحملهم على مثل رأيك. قال المنصور: فهذا عمي عيسى بن علي الضامن عليّ أنك إن تأتيني بهم أطلقت أيديهم في إنصاف الناس ولا أخالف أمرهم. فقال الرجل: أكذا يا عيسى أنت الضامن على ما قال الخليفة؟ قال: نعم. قال: الله، حتى قالها ثلاثاً. قال: وأقيمت الصلاة فافترقنا، فلما صلينا طلب الرجل فلم يوجد فكانوا يرون أنه الخضر، عليه السلام، أو ملك أرسل إليه.

وحكي عن الحجاج قال: حججت فنزلت ضرية فإذا أعرابي قد كور عمامته على رأسه وتنكب قوسه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر فخذوا من ممركم لمقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، أما بعد فإنه لم يستقبل أحد يوماً من عمره إلا بفراق آخر من أجله، فاستصلحوا لأنفسكم ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه وراقبوا من ترجعون إليه، فإنه لا قوي أقوى من خالق ولا ضعيف أضعف من مخلوق ولا مهرب من الله إلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يدي طالبه، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
وقال بعض الأعراب: إن الموت ليقحم على الشيب تقحّم الشيب على الشباب، ومن عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن فيها على بلوى، ولا طالب أغشم من الموت، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه.
وقال أعرابي: كيف تفرح بعمرٍ تنقصه الساعات وسلامة بدنٍ معرّض للآفات؟ ولقد عجبت من المؤمن يفر من الموت وهو سبيله إلى الثواب، ولا أرى أحداً إلا سيدركه الموت وهو منه آبق.
وقال عتيق بن عبد الله بن عامر بن الزبير: كنت عند سليمان بن عبد الملك فدخل عليه عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين بالباب أعرابي له حزم ودين ولسان. فقال: يؤذن له. فلما دخل قال له سليمان: تكلم. قال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب. قال: يا أعرابي إنا لنحتمل عمّن لا ينصح وأنت الناصح جيباً والمأمون غيباً. فقال: أما إذ أمنت بادرة غضبك فإني سأطلق من لساني ما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله جل ذكره، وحق إمامتك يا أمير المؤمنين إنه قد تكنّفك قوم قد أساؤوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، حربٌ للآخرة سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله جل وعز فإنهم لا يألون للأمانة تضييعاً وللأمة خسفاً وعسفاً، وأنت مسؤول محاسب على ما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً بائع آخرته بدنيا غيره! فقال سليمان: يا أعرابي إن لسانك لأقطع من سيفك! قال: أجل يا أمير المؤمنين هو لك لا عليك. فقال له: هل لك حاجة في ذات نفسك؟ قال: لا حاجة لي في شيء خاص دون عام.

وعن أبي بكر الهذلي قال: بعث عمر بن هبيرة إلى الحسن البصري وابن سيرين والشعبي فقدموا عليه وهو بواسط، وكان رجلاً يحب حسن السيرة ويسمع من الفقهاء، فلما دخلوا عليه ألطفهم وأمر لهم بنزل وحسن ضيافة، فأقاموا على بابه شهراً، فغدا عليهم حسن بن هبيرة ذات يوم فقال: إن الأمير داخل عليكم، فجاء يتوكأ على عكاز له حتى دخل فسلم ثم قال: إن يزيد بن عبد الملك عبد من عبيد الله أخذ عهودهم وأعطاهم عهده كي يسمعوا له ويطيعوا، وإنه يأتيني منه كتب أعرف في تنفيذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله، فماذا تأمرون؟ فقال الحسن: يا ابن سيرين أجب الأمير. فسكت. فقال للشعبي: أجب الأمير. فتكلم بكلام هيبةٍ، فقال: يا أبا سعيد ما تقول؟ فقال: أما إذ سألتني فإنه يحق عليّ أن أجيبك: إن الله جل وعز مانعك من يزيد ولن يمنعك يزيد من الله، وإنه يوشك أن ينزل بك ملك من السماء فيستنزلك من سريرك وسعة قصورك إلى باحة دارك ثم يخرجك من باحة دارك إلى ضيق قبرك ثم لا يوسع عليك إلا عملك. يا ابن هبيرة إني أنهاك عن الله جل وعز، فإنما جعل الله جل وعز السلطان ناصراً لعباده ودينه فلا تركبوا عباد الله سلطان الله فتذلوهم فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. يا ابن هبيرة لا تأمنن أن ينظر الله جل وعز إليك عند أقبح ما تعمل في طاعته نظرة مقت فيغلق عنك باب الرحمة. يا ابن هبيرة إني قد أدركت أناساً من صدور هذه الأمة كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، وكانوا لحسناتهم أن لا تقبل أخوف منكم لسيئاتكم أن لا تغفر، وكانوا لثواب الآخرة أبصر منكم لمتاع الدنيا بأعينكم، وكانوا على الدنيا وهي عليهم مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي عنكم مدبرة. يا عمر إني أخوفك مقاماً خوفك الله جل وعز من نفسه فقال: ذلك أن خاف مقامي وخاف وعيدي. يا عمر إن تكن مع الله على يزيد يكفك الله بائقته، وإن تكن مع يزيد الله على الله يكلك الله إليه. قال: فبكى ابن هبيرة وقام في عبرته وانصرف وأرسل إليهم من الغد بجوائزهم وأعطى الحسن أربعة آلاف درهم وابن سيرين والشعبي ألفين ألفين. فخرج الشعبي إلى المسجد وقال: من قدر منكم أن يؤثر الله جل وعز على خلقه فليفعل، فإن ابن هبيرة أرسل إليّ وإلى الحسن وابن سيرين فسألنا عن أمر. والله ما علم الحسن شيئاً جهلته ولا علمت شيئاً جهله ابن سيرين ولكنا أردنا وجه ابن هبيرة فأقصانا الله جل وعز وقصّر بنا، وأراد الحسن وجه الله فحباه تبارك اسمه وزاده.
وعن المدائني عن علي بن حرب قال: قال الشعبي: جمعنا عمر بن هبيرة بواسط وفينا الحسن البصري فقال: أنا وليّ هذه الرعية وربما كان مني الشيء الذي لا أرضاه وأمور ترد عليّ من أمير المؤمنين أكره إمضاءها وإنفاذها. فقال الشعبي: لا عليك أيها الأمير، إنما الوالي والد يخطيء ويصيب، وما يرد عليك من رأي أمير المؤمنين فإن استطعت أن ترده فاردده وإلا فلا ضير عليك. فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من استرعاه الله جل وعز رعية فلم يحط من ورائها بالنصيحة حرّم الله عليه الجنة، وأما رأي أمير المؤمنين فإذا ورد عليك فاعرضه على كتاب الله وإن وافقه فأمضه وإن خالفه فاردده، فإن الله جل وعز يمنعك من يزيد ولن يمنعك يزيد من الله. ثم أقبل الحسن على الشعبي فقال: ويلك يا شعبي! يقول الناس إن الشعبي فقيه أهل الكوفة فدخل على جبار من الجبابرة فيزين له المعصية! فقال: والله يا أبا سعيد لقد قلت وأنا أعلم ما فيه! قال: ذلك أوكد للحجة عليك وأبعد لك من العذر.
قيل: ووجد في كتب بزرجمهر صحيفة فيها: إن حاجة الله جل وعز إلى عباده أن يعرفوه، فمن عرفه لم يعصه طرفة عين. كيف البقاء بعد الفناء؟ كيف يأسى المرء على ما فاته والموت يطلبه؟ فقال كسرى: لم يكن من حق عليه أن يُقتل وأنا نادم على ذلك.
قيل: وحضرت الوفاة رجلاً من حكماء فارس فقيل له: كيف حالك؟ فقال: كيف يكون حال من يريد سفراً بعيداً بغير زاد ويقدم على ملك عادل بغير حجة ويسكن قبراً موحشاً بغير أنيس؟!

مساوئ المواعظ

قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه عمر جزعاً شديداً، فقال ذات يوم لمن حضره: هل من منشد شعراً أتعزى به أو واعظ يخفف عني فأتعزى وأتسلى؟ فقال رجل من أهل الشام: يا أمير المؤمنين كلّ خليل مفارق خليله بأن يموت أو بأن يذهب إلى مكان. فتبسم عمر، رحمه الله، ثم قال: ويحك! مصيبتي فيك زادتني مصيبة. قيل: وأصيب الحجاج بمصيبة وعنده رسول عبد الملك بن مروان فقال: ليت أني وجدت إنساناً يخفف عني مصيبتي! فقال رجل ممن حضر: أقول؟ قال: قل. فقال: كل إنسان يفارق صاحبه يموت أو يصلب أو يقع من فوق البيت أو يقع البيت عليه أو يسقط في بئر أو يغشى عليه أو يكون شيء لا يعرفه. فضحك الحجاج وقال: مصيبتي في أمير المؤمنين أعظم حيث وجه بمثلك رسولاً!

محاسن ما قيل في المراثي
قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيمي: أحسن مناطق الشعر المراثي والبكاء على الشيب، وكان بنو مروان لا يقبلون الشاعر إلا أن يكون راوية للمراثي، ويقولون: إن فيها ذكر معالي الأمور.
وقيل لأبي عبيدة: ما أجود الشعر؟ فقال: النمط الأوسط، يعني المراثي.
قال: وسألت أعرابياً: ما أجود الشعر عندكم؟ قال: ما رثينا به آباءنا وأولادنا، وذلك أنا نقولها وأكبادنا تحترق.
قيل: وقال المأمون لبعض جلسائه: ما أحسن ما قيل في المراثي؟ فقال قوله:
فتىً لم تكذّب موته نادباته ... بما قلن فيه لا ولا المادح المطري
فتىً لم يزل مذ شدّ عقد إزاره ... مشيد المعالي أو مقيماً على ثغر
قال الأصمعي: قدم علينا أعرابي فأقام عندنا أياماً ثم رجع إلى البادية فسأل عن إخوانه وأترابه فأُخبر أن الدهر أبادهم وأفناهم فبكى وأنشأ يقول:
ألا يا موت لم منك بداً ... أتيت فما تحيد ولا تحابي
كأنك قد هجمت على مشيي ... كما هجم المشيب على شبابي
قال أبو العيناء: ابن أبي طاهر أشعر الناس في بيتيه حيث يقول:
اذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... رٌ إلى ترب قبره فاعقراني
وانصحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان
وقال في مثله:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
وإن امرأً ينجو من النار بعدما ... تزوّد من أعمالها لسعيد
عبد الرحمن بن عيسى بن حماد الهمذاني في حمولة كاتب أحمد بن عبد العزيز:
حسنت لفقدك كثرة الأحزان ... بل هان بعدك نائب الحدثان
ما كان حقك أن تصير إلى البلى ... وأعيش لولا قسوة الإنسان
ولآخر:
إذا ما الدهر جرّ على أناسٍ ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
ولعبدة بن الطبيب في قيس بن عاصم:
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما
سلام امريءٍ وليته منك نعمةً ... إذا زار عن شحطٍ بلادك سلّما
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما
البسّامي يرثي عبيد الله بن سليمان بن وهب:
قد انقضى العيش ومات الكمال ... وقال صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
وله فيه:
لست مستسقياً لقبرك غيثاً ... كيف يظما وقد تضمن بحرا
أنت أولى بأن تعزى من النا ... س فقد مات بعدك الناس طرّا
ولأبي الحسين بن أبي البغل:
بعدت ديارك غير أني موجعٌ ... والهم مني في الحشا متداني
فاذهب فقد عمرت بشخصك حفرةٌ ... فضلت على متشامخ البنيان
ولئن صبرت فما صبرت تسليا ... لكن ذلك غاية الولهان
مساوئ ما قيل في المراثي
القاسم بن عبيد الله عند موته:
لا تأمننّ الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدواً ولم أترك على ظهرها خلقا
وأفنيت دار الملك من كل بارع ... فشتتُّهم غرباً وشدرتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي ميتاً ألقى
ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد ... لدى قابض الأرواح في فعله رفقا
ولبعضهم في القاسم بن عبيد الله:
خرجت من الدنيا ذميماً إلى القبر ... فلا أحدٌ يأسى ولا عبرةٌ تجري
وترت رسول الله في أهل بيته ... فكيف رأيت الله طالب بالوتر
الجاحظ قال: مررت بقبرين مكتوب على أحدهما: أنا ابن سافك الدماء، وعلى الآخر: أنا ابن ساجن الريح، فسألت عنهما فقيل: كان أحدهما حجاماً والآخر حداداً.
قال الكسروي: مررت بناووس في الري فإذا عليه مكتوب:
وما نارٌ بمحرقةٍ جواداً ... وإن كان كان الجواد من المجوس
ورأيت على ناووس ذكر أنه ناووس مهيار بن مهفيروز:
أيا ميتاً قد كان في أهل دينه ... مكان سنان الرمح لما تقدما
لقد كنت أرجو الدهر أن يسعف النوى ... وأرجو المنايا أن توافيك مسلما
فإن بخست آمالنا فيك ضلةٌ ... سعادة جدٍ ما أجلّ وأعظما

محاسن ما قيل في الشيب
قال: دخل منصور النميري على الرشيد فأنشده:
ما كنت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
فبكى الرشيد وقال: يا نميري لا خير في دنيا لا يخطر فيها بحلاوة الشباب ويستمتع بأيامه، وأنشد:
ولو ان الشيب رزءٌ حل بي ... وقت ما استحققت شيباً لم أبل
بل أتاني والصبا يرمقني ... مثل ما يأتي الكبير المكتهل
وأنشد:
حسرت عني القناع ظلوم ... وتولت ودمعها مسجوم
أنكرت ما رأت برأسي فقالت ... أمشيبٌ أم لؤلؤٌ منظوم
قلت شيبٌ وليس عيباً، فأنّت ... أنّةً يستثيرها المهموم
واكتست لون مرطها ثم قالت ... هكذا من توسدته الهموم
إن أمراً جنى عليك مشيب ال ... رأس في جمعه لأمر عظيم
شدّ ما أنكرت تصرف دهرٍ ... لم يداوم وأي شيءٍ يدوم
لابن المعتز:
لما رأت شيباً يلوح بعارضي ... صدت صدود مغاضبٍ متحمّل
نظرت إلي بعين من لم يعدل ... لما تمكن طرفها من مقتلي
ما زلت أطلب وصلها بتذلل ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلي
ولابن المعتز أيضاً في الشيب:
قالت وقد راعها مشيبي ... كنت ابن عمٍ فصرت عما
واستهزأت بي فقلت أيضاً ... قد كنت بنتاً فصرت أما
كفّي ولا تكثري ملامي ... ولا تزيدي العليل سقما
من شاب أبصر الغواني ... بعين من قد عمي وصمّا
لو قيل لي اختر عمىً وشيباً ... أيهما شئت قلت أعمى
ولآخر:
رأت طالعاً للشيب أغفلت أمره ... ولم تتعهده أكفُّ الخواضب
فقالت: أشيباً ماأرى؟ قلت: شامةٌ ... فقالت: لقد شامتك بين الحبائب
ولآخر:
شكوت من الشيب حتى ضجرت ... فدبّ إلى عارضي واشتعل
وسوّد وجهي فسودته ... فعلت به مثل ما قد فعل
ولآخر:
إذا راقهنّ خدين الشباب ... عطفن كما تعطف الوالده
وإن هنّ عاينّ ذا شيبةٍ ... فيا لك من مقلٍ زاهده
فويح الشباب وويح المشيب ... عدوّان دارهما واحده
لابن المعتز:
صرحت بالجفاء أمُّ حباب ... حين باشرتها ببعض الخطاب
قلت: لم ذا وقد رأيتك حيناً ... لا تملّين عشرتي وعتابي؟
قالت الشيب قد أتاك فأقصر ... عن عتابي فلست من أصحابي
فتعلّلت بالخضاب لأحظى ... عندها ساعةً بلون الخضاب
فرأته فأعرضت ثم قالت: ... ستر سوءٍ على خرابٍ يباب
ولابن المعتز أيضاً:
رفعت طرفها إليّ عبوساً ... واستثارت من المآقي الرسيما

ورأتني أسرّج العاج بالعا ... ج فظلّت تستحسن الأبنوسا
ليس شيبي إذا تأملت شيباً ... إنما الشيب ما أشاب النفوسا
وله:
ضحكت إذ رأت مشيبي قد لا ... ح وقالت قد فُضّض الأبنوس
قلت: إن الشباب فيّ لباقٍ ... بعد، قالت: هذا شبابٌ لبيس
قال: استقبل يونس النحوي عدواً له وهو يتهادى في مشيه ويقارب خطوه. فقال: يا يونس بلغت ما أرى! فقال: هذا الذي كنت آمله فقد بلغته فلا بلغته! فاستحسن ابن الزيات قوله فجعله شعراً وقال:
وعائبٍ عابني بشيبٍ ... لم يعد لمّا ألمّ وقته
فقلت إذ عابني بشيبٍ: ... يا عائب الشيب لا بلغته
ولغيره:
إن المسيب رداء الحلم والأدب ... كما الشباب رداء الجهل واللعب
تعجبت إذ رأت شيبي فقلت لها ... لا تعجبي من يطل عمرٌ به يشب
فينا لكُنّ وإن شيبٌ بدا أربٌ ... وليس فيكنّ بعد الشيب من أرب
شيب الرجال لهم عزّ ومكرمةٌ ... وشيبكن لكن الذل فاكتئبي
ولآخر:
الشيب في رأس الفتى حلمٌ به ... والشيب في رأس الفتاة قبيح
والخال في خدّ الفتى عيبٌ به ... والخال في خدّ الفتاة مليح

محاسن الورع
محمد بن الحسين عن أبي همّام وكان يخدم ضيغماً قال: كنت معه في طريق مكة، فلما صرنا في الرمل نظر إلى ما تلقى الإبل من شدة الحر فبكى.
فقلت له: لو دعوت الله أن يمطر علينا كان أخف على هذه الإبل. قال: فنظر إلى السماء وقال: إن شاء ربي فعل. فوالله ما كان إلا أن تكلم حتى نشأت سحابة وهطلت.
وعن عطاء أن أبا مسلم الخولاني خرج إلى السوق بدرهم يشتري لأهله دقيقاً فعرض له سائل فأعطاه بعضه ثم عرض له آخر فأعطاه الباقي وأتى إلى النجارين فملأ مزوده من نشارة الخشب وأتى به منزله وخرج هارباً من أهله، فأخذت المرأة المزود فإذا دقيق حوّارى فعجنته وخبزت. فلما جاء قال: من أين هذا؟ قالت: الدقيق الذي جئت به.
وعن أبي عبد الله القرشي عن رجل قال: دخلت بئر زمزم فإذا أنا بشخص ينزع الدلو مما يلي الركن، فلما شرب أرسل الدلو فأخذته فشربت فضلته فإذا هو سويق لوزٍ لم أر سويق اللوز أطيب منه، فلما كانت القابلة في ذلك الوقت دخل الرجل وقد أسبل ثوبه على وجهه ونزع الدلو وشرب وأرسل الدلو، فأخذته وشربت فضلته فإذا هو ماء مضروب بالعسل لم أشرب شيئاً قط أطيب منه، فأردت أن آخذ طرف ثوبه فأنظر من هو ففاتني، فلما كان في السنة الثالثة قعدت قبالة زمزم فلما كان في ذلك الوقت جاء الرجل وقد أسبل ثوبه على وجهه فدخل فأخذت طرف ثوبه، فلما شرب من الدلو وأرسلها قلت: يا هذا أسألك برب هذه البنيّة من أنت؟ قال: تكتم عليّ حتى أموت؟ قلت: نعم. قال: أنا سفيان، وهو الثوري، فتناولت فضلته فإذا هو ماء مضروب بالسكر الطبرزد لم أر قط أطيب منه، فكانت تلك الشربة تكفيني إذا شربتها إلى مثلها من الوقت لا أجد جوعاً ولا عطشاً.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً يكدح جبينه بالأرض يريد أن يجعل سجادة فقلت: ما تصنع؟ قال: إني وجدتها نعم الأثر في وجه الرجل الصالح.
ومما قيل من الشعر من هذا الفن منهم بشار حيث يقول:
كيف يبكي لمحبسٍ في طلول ... من سيقضي ليوم حبسٍ طويل
إن في البعث والحساب لشغلاً ... عن وقوفٍ برسم دارٍ محيلٍ
ولمحمد بن بشير:
ويلٌ لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
يا حسرتا في كل يومٍ أتى ... يذكرني الموت وأنساه
كأنه قد قيل في مجلسٍ ... قد كنت أتيه وأغشاه
صار البشيري إلى ربه ... يرحمنا الله وإياه
ولجرير:
إن الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النار
يا رب قد أسرفت نفسي وقد علمت ... علماً يقيناً لقد أحصيت أثاري
فاغفر ذنوباً إلهي قد أحطت بها ... رب العباد وزحزحني عن النار
ولذي الرمة بيت:
إن تنج منها تنج من ذي عظيمةٍ ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
ولآخر:

أستغفر الله مما يعلم الله ... إن الشقي لمن لم يرحم الله
هبه تجاوز لي عن كل سيئةٍ ... وا سوءتاه من حيائي يوم ألقاه
ولإسماعيل بن القاسم:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محالٌ في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
ولآخر:
أيا عجباً كيف يعصي الإل ... ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيءٍ له قدرةٌ ... تدلّ على أنه واحد
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبداً شاهد
ولأبي نواس الحسن بن هانيء:
سبحان من خلق الخل ... ق من ضعيفٍ مهين
يسوقهم من قرارٍ ... إلى قرارٍ مكين
يحور خلقاً فخلقاً ... في الحجب دون العيون
حتى بدت حركاتٌ ... مخلوقة من سكون
ولآخر:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى ... كأنك لا تظنّ الموت حقا
ألا يا ابن الذين مضوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى
وما لك غير تقوى الله زادٌ ... إذا جعلت إلى اللهوات ترقى
ولآخر:
يا قلب مهلاً وكن على حذر ... فقد لعمري أمرت بالحذر
ما لك بالترهات مشتغلاً ... أفي يديك الأمان من سقر
ولآخر:
إن كنت توقن بالقيا ... مة واجترأت إلى الخطيه
فلقد هلكت وإن جحد ... ت فذاك أعظم للبليه
ولآخر:
وأفنية الملوك محجباتٌ ... وباب الله مبذول الفناء
فمن أرجو سواه لكشف ضرٍّ ... وبلوى حين أجهد في الدعاء
وشكوائي إلى ملك عظيمٍ ... جليلٍ لا يصمّ عن الدعاء

مساوئ من لم يتورع
ابن أبي العرجاء قال: أراد موسى بن داود بن علي بن عبد الله بن العباس الخروج إلى الحج فدعا بأبي دلامة فقال له: تهيأ حتى تخرج معنا، وأعطاه عشرة آلاف درهم وقال: خلّف لعيالك ما يكفيهم. وإنما أراد موسى أن يأنس به في طريقه ويحدثه بنوادره وملحه ويسامره بالليل والنهار وينشده الأشعار. وكان أبو دلامة يفي بذلك كله مع ظرف كان فيه ولطف، وكان من ابراز الملوك. فلما حضر خروج موسى هرب إلى السواد بالكوفة فجعل يشرب من خمرها ويتمتع في نزهتها، وقد سأل عنه موسى فقيل له: استتر، فطلبه تحت كل حجر فلم يقدر عليه فخاف أن يفوته الحج فلما أيس منه قال: اتركوه إلى نار الله وحرّ سقره، وخرج، فلما شارف القادسية نظر إلى أبي دلامة قد خرج من قرية يريد أخرى، فبصروا به وأتوه به. فقال: قيدوه وألقوه في المحمل، ففعل به ذلك، وأنشأ يقول:
يا معشر الناس قولوا أجمعين معاً ... صلى الإله على موسى بن داود
أما أبوك فعين الجود تعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
نُبّئت أن طريق الحج معطشةٌ ... من الطلاء وما شربي بتصريد
والله ما بي من خيرٍ فتطلبه ... في المسلمين ولا ديني بمحمود
كأن ديباجتي خدّيه من ذهبٍ ... إذا تكسّر في أثوابه السود
إني أعوذ بداودٍ وتربته ... من أن أحج بكرهٍ يا ابن داود
فقال موسى: ألقوه من المحمل عليه لعنة الله ودعوه يذهب إلى سقر الله! فأُلقي عن المحمل ومضى موسى لوجهه. فما زال أبو دلامة بالسواد يشرب من خمرها ويتمتع في نزهتها حتى أتلف العشرة الآلاف الدرهم مع إخوانه وندمائه، وانصرف موسى فدخل عليه أبو دلامة يهنئه، فلما بصر به قال: يا محارف أتدري ما فاتك؟ فقال: والله يا سيدي ما فاتني ليل ولا نهار، يعني اللهو والقصف، ثم أنشده مديحاً له فيه، فاستحسنه وأمر له بجائزة.
قيل: وكان جندي بقزوين يصلي في بعض المساجد فافتقده المؤذن أياماً فقرع عليه الباب فخرج إليه. فقال له المؤذن: أبو من؟ قال: أبو الجحيم. قال: بس ردّ يا هذا الباب.
قال وقيل للقيني: ما أيسر ذنبك؟ قال: ليلة الدير. قيل: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانية فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير وشربت خمرها وسرقت كساءها وخرجت.
ما قيل فيه من الشعر
قال بشار:

وإنني في الصلاة أحضرها ... ضحكة أهل الصلاة إن شهدوا
أقعد في سجدةٍ إذا ركعوا ... وأرفع الرأس إن هم سجدوا
أسجد والقوم راكعون معاً ... وأسرع الوثب إن هم قعدوا
فلست أدري إذا إمامهم ... سلّم كم كان ذلك العدد
ولآخر:
نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حمّاد
عدلت مشافره الدنان وأنفه ... مثل القدوم يسنه الحداد
وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
ولآخر:
إن قرأ العاديات في رجب ... فليس يأتي بها إلى رجب
بل هو لا يستطيع في سنةٍ ... يختم تبّت يدا أبي لهب

محاسن صفة الدنيا
قال علي بن أبي طالب: الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنىً لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمّها وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت نفسها فشوّقت بسرورها إلى السرور ببلائها إلى البلاء تخويفاً وتحذيراً وترغيباً وترهيباً، فأيها الذام للدنيا والمتعلل بتغريرها متى غرتك، أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمهاتك في الثرى؟ كم عللت بكفيك وكم مرّضت بيديك تبتغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء وتلتمس لهم الدواء لم ينفعهم تطلّبك ذلك ولم يشفهم دواؤك! مثلت لك الدنيا مصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ولا يغني عنك أحباؤك، ثم وقف على أهل القبور فقال: يا أهل الثروة والعز إن الأزواج بعدكم قد نُكحت والأموال قد قُسمت والدور قد سُكنت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما والله لو أذن لهم لقالوا: إن خير الزاد التقوى.
وفي خبرٍ أن علياً وقف على المقابر ثم قال: اعتبروا بأهل الديار التي طُبِّق بالخراب فناؤها وشيد في التراب بناؤها، فمحلها مقترب وساكنها مغترب، لا يتزاورون تزاور الإخوان ولا يتواصلون تواصل الجيران، قد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى. ثم قال: إن الأزواج بعدكم قد نُكحت، إلى آخر الخبر.
مساوئ صفة الدنيا
قال الحسن البصري: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بعجوز متعبدة، فقلت: من أنت؟ فقالت: من بنات ملوك غسان. قلت: فمن أين طعامك؟ قالت: إذا كان آخر النهار في كل يوم تجيئني امرأة متزينة فتضع بين يدي كوزاً من ماء ورغيفين. قلت لها: أتعرفين المرأة؟ قالت: اللهم لا. قلت: هذه الدنيا خدمت ربك جل وعز فبعث إليك بالدنيا فخدمتك على رغم أنفها.
وزعموا أن زياد ابن أبيه مرّ بالحيرة فنظر إلى دير هناك فقال لحاجبه: ما هذا؟ قال: دير حرقة بنت النعمان بن المنذر. فقال: ميلوا بنا إليها نسمع كلامها. فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال لها: كلمي الأمير.
فقالت: أوجز أم أطيل؟ قال: بل أوجزي. قالت: كنا أهل بيتٍ طلعت الشمس وما على الأرض أعزّ منا فما عابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا.
قال: فأمر لها بأوساق من شعير. فقالت: أطعمتك يدٌ شبعى جاعت ولا أطعمتك يدٌ جوعى شبعت. فسّر زياد بكلامها وقال لشاعر: قيد هذا الكلام لا يدرس. فقال:
سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ... فتىً ذاق طعم الخير منذ قريب
وفي مثل هذا قول أعرابي وقد دعا لرجل برّه: مسّتك يدٌ أصابت فقراً بعد غنىً ولا مسّتك يدٌ أصابت غنىً بعد فقر.
ويقال: إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان فألفاها وهي تبكي. فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما من دار امتلأت سروراً إلا امتلأت ثبوراً، ثم قالت:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ نتقسم
وقالت:
فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها ... وأفٍّ لعيشٍ لا يزال يُهضّم
قال: وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة وعقد لك المنن في أعناق الكرام، ولا أزال بك عن كريم نعمةً، ولا أزالها بغيرك إلا جعلها السبب لردها عليه.

قال وقال عبد الملك بن مروان لسلمة بن زيد الفهمي: أي الزمان أدركت أفضل وأي الملوك؟ فقال: أما الملوك فلم أر إلا ذاماً أو حامداً، وأما الزمان فيضع قوماً ويرفع آخرين وكلهم يذمّ زمانه لأنه يبلي جديدهم ويطوي أعمارهم ويهرم صغيرهم وكل ما فيه منقطع إلا الأمل. قال: فأخبرني عن فهم. قال: هم كما قال الشاعر:
درج الليل والنهار على فه ... م بن عمرو فأصبحوا كالرميم
وخلت دارهم فأضحت يباباً ... بعد عزٍّ وثروةٍ ونعيم
وكذاك الزمان يذهب بالنا ... س وتبقى ديارهم كالرسوم
قال: فمن يقول منكم:
رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا ... يحبّون الغنيّ من الرجال
وإن كان الغنيّ أقل خيراً ... بخيلاً بالقليل من النوال
فما أدري علام وفيم هذا ... وماذا يرتجون من البخال
أللدنيا فليس هناك دنيا ... ولا يُرجى لحادثة الليالي
قال: أنا وقد كتمتها.
قال: ولما دخل عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، المدائن نظر إلى إيوان كسرى فأنشده بعض من حضره قول الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرِّقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقرةٍ يسيل عليهم ... ماء الفرات يسيل من أطواد
أرضٌ تخيّرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أمّ دؤاد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكلُّ ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفاد
فقال علي، رضي الله عنه: أبلغ من ذلك قول الله جل وعز: " كم تركوا من جناتٍ وعيون وزروعٍ ومقامٍ كريمٍ ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً آخرين " .
وقال عبد الملك ببن المعتز: أهل الدنيا كصورة في صحيفة كلما نُشر بعضها طوي بعضها. وقال: أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام.
وقال بعضهم: طلاق الدنيا مهر الجنة.
وذكر أعرابي الدنيا فقال: هي جمّة المصائب رنقة المشارب لا تمتعك الدهر بصاحب.
وقال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله جل وعز أنه لا يُعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها.
وقيل: إذا أقبلت الدنيا على امريء أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.

ما قيل فيه من الشعر
قال الأصمعي: ووجد في قبة لسليمان بن داود، عليه السلام، مكتوب:
ومن يحمد الدنيا لشيء يناله ... فسوف لعمري عن قليلٍ يلومها
إذا أدبرت كانت على الناس حسرةً ... وإن أقبلت كانت كثيراً همومها
وكان إبراهيم بن أدهم ينشد:
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وقال أبو العتاهية:
يا من ترفّع بالدنيا وزينتها ... ليس الترفّع رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف القوم كلهم ... فانظر إلى ملكٍ في زي مسكين
ولآخر:
هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك الزوال
فما ترجو بشيءٍ ليس يبقى ... وشيكاً ما تغيره الليالي
محمود الورّاق:
هي الدنيا فلا يغررك منها ... مخايل تستفزّ ذوي العقول
أقل قليلها يكفيك منها ... ولكن ليس تقنع بالقليل
تشيد وتبتني في كل يومٍ ... وأنت على التجهّز والرحيل
ومن هذا الذي يُبقي عليها ... مضاربه بمدرجة السيول
ولآخر:
أيا دنيا حسرت لنا قناعاً ... وكان جمال وجهك في النقاب
ديارٌ طال ما حجبت وعزّت ... فأصبح إذنها سهل الحجاب
وقد كانت لها الأيام ذلّت ... فقد قُرنت بأيام صعاب
كأن العيش فيها كان ظلاً ... يُقلّبه الزمان إلى ذهاب
ولآخر:
دنيا تداولها العباد ذميمةٌ ... شيبت بأكره من نقيع الحنظل
وثبات دنيا لا تزال ملمةً ... منها فجائع مثل وقع الجندل
ولآخر بيت:

حتى متى أنت في دنياك مشتغلٌ ... وعامل الله بالرحمان مشغول
أبو نواس:
دع الحرص على الدنيا ... وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع من المال ... فما تدري لمن تجمع
ولا تدري أفي أرض ... ك أم في غيرها تصرع
قال: وقال الأصمعي قال أبو عمرو بن العلاء: بينا أنا أدور في بعض البوادي إذا أنا بصوت:
وإنّ امرأً دنياه أكثر همه ... لممتسك منها بحبل غرور
قال: فنقشته على خاتمي.
قال: وسمع يحيى بن خالد البرمكي بيت العدويّ في صفة الدنيا حيث يقول:
حتوفها رصدٌ وعيشها نكدٌ ... وشربها رنقٌ وملكها دول
فقال: لقد انتظم في هذا البيت صفة الدنيا.
قيل: وسمع المأمون بيت أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت ... له عن عدوٍّ في ثياب صديق
فقال: لو سئلت الدنيا عن نفسها لما وصفت كما وصفها به أبو نواس.
وقال أبو حازم: الدنيا طالبة ومطلوبة وطالب الدنيا يطلبه الموت حتى يخرجه منها وطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى توفيه رزقه.
قال: وقيل للحسن البصري: ما تقول في الدنيا؟ فقال: ما عسى أن أقول؟ حلالها حساب وحرامها عذاب. فقيل: ما سمعنا كلاماً أوجز من هذا! قال: بلى كلام عمر بن عبد العزيز، كتب إليه عدي بن أرطاة وهو على حمص أن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى إصلاح حيطانها، فكتب إليه: حصنها بالعدل ونقّ طرفها من الظلم.

محاسن معرفة الأوائل
حدثنا زيد بن أخزم قال: حدثنا عبد الصمد عن سعيد عن المغيرة قال: سمعت سماك بن سلمة يقول: أول من خط بالقلم إدريس، عليه السلام. وهو أول من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود. وأول قرية بنيت في الأرض قرية تسمى ثمانين ابتناها نوح، عليه السلام. وأول من عمل الصابون سليمان بن داود، عليه السلام. وأول من باع فيمن يزيد حلساً وقدحاً رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأول من اتخذ القراطيس يوسف، عليه السلام. وأول من خبز له الرقاق نمرود بن كنعان لعنه الله وأول من حكم في الخنثى عامر بن الظرب العدواني. وأول من خضب بالسواد عبد المطلب بن هاشم. وأول من سنّ الدية من الإبل أبو سيارة العدواني وأقره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الإسلام. وأول من خلع نعله لدخول الكعبة الوليد بن المغيرة فخلع الناس نعالهم في الإسلام. وهو أول من قضى بالقسامة في الجاهلية فأقرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الإسلام. وهو أول من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية فأقرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الإسلام. وهو أول من قطع في السرقة في الجاهلية فقطع رسول الله في الإسلام. وأول من سلّم عليه بالإمرة المغيرة بن شعبة. وأول من أرّخ الكتب وختم على الطين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وأول من كتب بالعربية مرامر بن مروة من أهل الأنبار فانتشر من الأنبار في الناس. وأول من مشت الرجال معه وهو راكب الأشعث بن قيس. وأول من اتخذ المقصورة في المسجد معاوية بن أبي سفيان وذلك أنه بصر كلباً على منبره. وأول من لبس الخفاف وثياب الكتان زياد بن أبي سفيان، وأول من لبس الطيلسان جبير بن مطعم.
وأول من لبس الخز الطاروني عبد الله بن عامر فقال الناس: لبس الأمير جلد دب. وأول من نقش على الدراهم عبد الملك بن مروان وأول من سمّي عبد الملك. وأول من ابتنى مدينة في الإسلام الحجاج بن يوسف بنى مدينة واسط، وهو أول من قعد على سرير في حرب وأول من اتخذ المحامل، فقال فيه حميد الأرقط:
أخزى الإله عاجلاً وآجلا
أول عبدٍ عمل المحاملا
عبد ثقيفٍ ذاك أزلاً آزلا
وهو أول من عُلق له الخيش ونقل له الثلج. وأول من أطعم على ألف مائدة على كل مائدة عشرة رجال وأجاز بألف ألف درهم ولبس الدراريع السود المختار بن أبي عبيد. وأول من حذا النعال جذيمة الأبرش، وهو أول من وضع المنجنيق ورفعت له الشموع ونادم الفرقدين. وأول من حدا رجلٌ من مضر. وأول رأس حمل من بلد إلى بلدٍ رأس عمرو بن الحمق الخزاعي. وأول من عمل له النعش زينب بنت جحش زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب: نعم خباء الظعينة!

وأول من قطع نهر بلخ سعيد بن عثمان بن عفان. وأول من ضرب بسيفه باب قسطنطينية وأذّن في بلاد الروم عبد الله بن طليب من بني عامر بن صعصعة وكان مع مسلمة بن عبد الملك فأراد قيصر قتله فقال: والله لئن قتلتني لا تبقى بيعة في بلدان الإسلام إلا هدمت! فكفّ عنه.
وأول من جمّع جمعة مصعب بن عمير جمّعهم بالمدينة وكانوا اثني عشر رجلاً.
وروى أبو هلال عن أبي حمزة قال: أول من رأينا بالبصرة يتوضأ بالماء عبيد الله بن أبي بكرة فقلنا: انظروا إلى هذا الشيخ يلوط استه، أي يستنجي بالماء. وأول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير. وأول من رشا في الإسلام المغيرة بن شعبة. وأول رام رمى في الإسلام سعد بن أبي وقاص. وأول قاضٍ قضى أبو قرّة الكندي. وأول من اتّخذ الجمّازات أم جعفر.

مساوئ الأوائل
أول من اتخذ الود رجلٌ يقال له لَمَك ولد له على كبر سنه ابن فأصيب به واشتد وجده عليه فعمد إلى عود واتخذ كهيأة الصبي شبه صدر العود بالفخذ وإبريقه بالقدم والملاوي بالأصابع والأوتار بالعروق ثم ضرب به، وكانت له ابنة يقال لها ملاهي، وهي أول من اتخذت المعازف والطبول. وأول من عمل الطنابير قوم لوط كانوا يستميلون بها الغلمان المرد. وأما الزمر وشبهه فللرعاء والأكراد. وكان أول من غنّى من العرب جذيمة بن سعد الخزاعي وذلك بعد جرادتي عاد، وكان من أحسن الناس صوتاً فسمي المصطلق فغنى بالركبانية، ويقال إن أول من غنى باليمن رجل من حمير يقال له عنبس: وأول من غنى بالحرمين طويس. وأول امرأة قطعت يدها في الإسلام في السرق بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم قطعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها. ومن الرجال الخيار بن عدي بن نوفل.
محاسن الدلائل
روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: إن المؤمن إذا أتت عليه ستون سنة أحبه أهل السماء والأرض، وإذا أتت عليه سبعون سنة كتبت حسناته ومحيت سيئاته، وإذا أتت عليه ثمانون سنة غفر له ما تقدم من ذنبه، وإذا أتت عليه تسعون سنة شفّع في أهل بيته وأهله، وإذا أتت عليه مائة سنة كتب اسمه عند الله عز وجل أسير الله في أرضه.
وقال عمرو بن العاص: يتغير الغلام لسبع، ويحتلم لأربع عشرة سنة، ويتم خلقه لإحدى وعشرين، ويجتمع عقله لثمان وعشرين، وما بعد ذلك فتجارب.
وقال وهشابور: يستحب من الربيع الزهرة، ومن الخريف الخصب، ومن الغريب الانقباض، ومن القاريء البيان، ومن الغلام الكياسة، ومن الجارية الملاحة.
ومنه باب آخر
قيل: إذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية، وإذا ظهر الربا ظهر الفقر والمسكنة، وإذا خفرت الذمة أُديل العدو.
وعن ابن عباس قال: إذا رأيتم السيوف قد أعريت والدماء قد أُريقت فاعلموا أن حكم الله جل وعز قد ضيّع وانتقم من بعضهم ببعض، وإذا رأيتم الرثاء قد فشا فاعلموا أن الربا قد فشا، وإذا منعتم القطر فاعلموا أن الناس قد منعوا ما عندهم من الزكاة فمنع الله جل وعز ما عنده.
محاسن المشورة
كان يقال: إذا استحار الرجل ربه واستشار نصيحة وأجهد رأيه فقد قضى ما عليه ويقضي الله جل وعز في أمره ما يحب.
وقال آخر: حسن المشورة من المشير قضاء لحق النعمة.
وقيل: إذا استشرت فانصح وإذا تركت فاصفح.
وقال آخر: من وعظ أخاه سراً زانه ومن وعظه علانية شانه.
وقال آخر: الاعتصام بالمشورة نجاة.
وقال آخر: نصف عقلك مع أخيك فاستشره.
وقال آخر: إذا أراد الله بعبد هلاكاً أهلكه برأيه.
وقال آخر: إن المشورة تقوّم اعوجاج الرأي. وقال: إياك ومشورة النساء فإن رأيهن إلى الإفن وعزمهن إلى الوهن.
وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه، أنه قال: كان بين العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مباعدة فلقيت علياً، رحمه الله، فقلت له: إن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فأته وما أراك تلقاه.

فوجم لها ثم قال: تقدمني. فتقدمته فأذن له فاعتنق كل واحد منهما صاحبه وأقبل عليّ على يده ورجله يقبلهما ويقول: يا عم ارض عني رضي الله عنك! قال: قد رضيت عنك، ثم قال: يا ابن أخي قد كنت أشرت عليك بأشياء فلم تقبل مني فرأيت في عاقبتها ما كرهت وها أنا أشير عليك برأي آخر فإن قبلته وإلا نالك ما نالك. فقال: وما الذي كنت أشرت به يا عم؟ قال: أشرت عليك لما قُبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تسأله فإن كان الأمر فينا أعطاناه وإن كان في غيرنا أوصى بنا. فقلت: إن منعناه لم يعطنا أحد بعده. فمضت تلك، فلما قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتانا سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك فقلت: ابسط يدك حتى نبايعك، فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك منافيّ وإن بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك قرشي وإن بايعتك لم يختلف قريش لم يختلف عليك أحد من العرب. فقلت: في جهاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شغلٌ وليس عليّ فوت. فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة فقلت: ما هذا يا عم؟ فقلت: هذا ما دعوناك إليه فأبيته! قلت: سبحان الله ويكون هذا! قلت وهل رد مثل هذا؟ ثم أشرت عليك حين طُعن عمر، رحمه الله، أن لا تدخل نفسك في الشورى فإنك إن اعتزلتهم قدّموك وإن ساويتهم تقدموك. فدخلت معهم فكان ما رأيت. وها أنا أقول لك الآن: أرى هذا الرجل، يعني عثمان بن عفان، رحمه الله، يأخذ في أمور ولكأني بالعرب قد سارت إليه حتى يُنحر كما ينحر الجزور، والله لئن كان ذاك وأنت بالمدينة ليرمينك الناس بدمه ولئن فعلوا لا تنال من هذا الأمر شيئاً إلا بشر لا خير معه.
قال ابن عباس: فلما قتل عثمان، رضي الله عنه، خرج عليّ وهو على بغلة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأنا عن يمينه وابن القاريء عن يساره، وكان من أمر طلحة والزبير ما كان، وقتل طلحة عشية ذلك اليوم وأنا أرى الكراهية في وجه عليّ، رضي الله عنه. فقال: أما والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى تحت بطون الكواكب، ولكن نظرت إلى ما بين الدفتين فلم أر يسعني إلا قتالهم أو الكفر، ولئن كان قال هؤلاء ما سمعت في طلحة لقد كان كما قال أخو جعفى:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
ورحم الله عمي فكأنما يطلع إلى الغيب من ستر رقيق، صدق والله ما نلت من هذا الأمر شيئاً إلا بعد شر لا خير معه.
قال: وقال ابن عباس لعلي، رضي الله عنه: اجعلني السفير بينك وبين معاوية في الحكمين فوالله لأفتلنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه ولا ينتشر طرفاه.
قال علي، رحمه الله: لست من كيدك وكيد معاوية في شيء، والله لا أعطيه إلا السيف حتى يدخل في الحق. قال ابن عباس: وهو والله لا يعطيك إلا السيف حتى يغلب بباطله حقك. قال علي، رضي الله عنه: وكيف ذاك؟ قال: لأنك تطاع اليوم وتعصى غداً وإنه يُطاع فلا يعصى.
فلما انتشر على عليّ، رضي الله عنه، أصحابه وابن عباس بالبصرة قال: لله ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب من ستر دقيق.
ومثله خبر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين قال لأصحابه: دلوني على رجل أستعمله على أمرٍ قد أهمني. قالوا: فلان. قال. لا حاجة لنا فيه.
قالوا: فمن تريد؟ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم. فولاه.
ومنه خبر صاحب الأمين، فإنه حكي أنه كان بمدينة السلام شيخ من الكتاب مسنّ قد اعتزل لأمور وكان يوصف بجودة الرأي، فدعاه محمد الأمين وشاوره في أمر أخيه المأمون وما ينبغي أن يعامله حتى يقع في يده. فقال: إن استعجلت لم تنتفع بفعل ولا رأي، وإن تمهلت وقبلت مشورتي تمكنت من أخيك وذاك أنك تدعو بحُجاج خراسان إذا قدموا مدينة السلام وتجلس مجلساً حافلاً وتقول لهم: إن أخي كتب إلي يحمدكم ويذكر سمعكم وطاعتكم وجميل مذاهبكم، وتجزيهم الخير ثم تقول: قد أسقطت عنكم خراج سنة، وأخوك في بلد رجال بلا مال وليس له في نقض قولك حيلة وسيناله من ذلك خلل شديد حتى ينتقض أكثر أمره، ثم تفعل مثل ذلك في السنة المقبلة وترفع عنهم خراج سنتين، فإن لم يأتوك بأخيك في وثاق وكنت حياً فاضرب عنقي.

فلم يقبل الأمين ذلك للأمر المقدور والقضاء السابق وعجّل إلى خلع المأمون في عقد الأمر لابنه حتى كان ما كان. وليس يبلغ شيء في الملك والدولة خاصة مبلغ الرأي لأن الرأي لا يحتاج إلى السلاح والسلاح يحتاج أهله إلى الرأي وإلا كانت عدتهم عليهم ضرراً إذا لم يصيبوا في استعمالها وجه الرأي.

مساوئ من يستشير
قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في المشورة إلا الاستحقار من صاحبها لك وظهور فقرك إليه لوجب اطّراح ما تفيده المشورة وإلقاء ما تكسبه الإنسان، وما استشرت أحداً قط إلا كبر عندي وتصاغرت له ودخلته العزة ودخلتني الذلة، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب واختلفت عليك المسالك وأداك الاستبهام إلى الخطإ الفادح، فإن صاحبها أبداً مستذل مستضعف، وعليك بالاستبداد فإن صاحبها أبداً جليل في العيون مهيب في الصدور، ولن تزال كذلك ما استغنت عن العقول، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون ورجفت بك أركانك وتضعضع شأنك وفسد تدبيرك واستحقرك الصغير واستخف بك الكبير وعُرفت بالحاجة إليهم، وقد قيل: نعم المستشار العلم ونعم الوزير العقل.
وممن اقتصر على رأيه دون المشاورة أبو جعفر المنصور، فإنه لما حدث من أمر إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن ما حدث أمسك المنصور عن المشاورة واستبدّ برأيه وأقبل على السهر والخلوة ولم يذكر أمرهما لأحد من أهله، وكان تحته مصلّى قد تفزّز لحمته وسداه وكان جلوسه ومبيته عليه فلم يغيره، وعليه جبّة خزّ دكناء قد درن جيبها فلم يغيّرها حتى ظفر، وكان يقول في تلك الحال: إياك والمشورة فإن عثرتها لا تستقال وزلتها لا تُستدرك، فكم قد رأيت من نصيح عاد نصحه غشاً! ومنهم الرشيد فإنه حُكي عنه أنه بعث ذات ليلة إلى جعفر بن يحيى: إني قد سهرت فوجّه إليّ بعض سمّارك. فوجه إليه بسمير له كوفيّ، فسامره ليلته، فلما أن رجع سأله جعفر عن خبره. فقال: سامرته ليلتي كلها فأنشدته فما رأيته استحلى إلا بيتين من شعر أنشدتهما إياه فإنه أولع بهما وما زال يأمرني بتكريرهما عليه حتى حفظهما. فقال جعفر: وما هما؟ قال:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً ... إنما العاجز من لا يستبد
فقال له جعفر: أهلكني والله وأهلكت نفسك! قال: وكيف ذاك؟ قال: إنه كان لا غنى به عني وعن مشورتي ولم يكرر البيتين إلا وقد عزم على ترك مشاورتي والاستبداد بالرأي. فقتله بعد حول. وقال الشاعر في مثله:
بديهته وفكرته سواءٌ ... إذا ما نابه الخطب الكبير
وأحزم ما يكون الدهر رأياً ... إذا عمي المشاور والمشير
وصدرٌ فيه للهمم اتساعٌ ... إذا ضاقت بما فيه الصدور
ومنهم الشعبي، فإنه ذكر أنه كان صديقاً لابن أبي مسلم كاتب الحجاج وأنه لما قدم به على الحجاج لعنه، فقال له: أشر عليّ. فقال: ما أدري بما أشير ولكن اعتذر بما قدرت عليه. وأشار عليه بذلك جميع أصحابه. قال الشعبي: فلما دخلت خالفت مشورتهم ورأيت والله غير الذي قالوا، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أصلح الله الأمير! إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وأيم الله لا أقول في مقامي هذا إلا الحق! قد جهدنا وحرّضنا فما كنا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والجحة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت والله أحب إلينا قولاً ممن يدخل علينا وسيفه يقطر من دمائنا ويقول: والله ما فعلت وما شهدت، أنت آمن يا شعبي! فقلت: أيها الأمير اكتحلت والله بعدك بالسهر واستحلست الخوف وقطعت صالح الإخوان ولم أجد من الأمير خلقاً. فقال: صدقت فانصرف. فانصرفت.
محاسن كتمان السر
قال: كان المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابهم إلا ثلاثاً: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وكان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه. وكان يقول: سرك لا يطلع عليه غيرك. إن من أنفذ البصائر كتمان السر حتى يبرم المبروم.
وقيل لأبي مسلم صاحب الدولة: بأي شيء أدركت هذا الأمر؟ فقال: ارتديت بالكتمان واتزرت بالحزم وحالفت الصبر وساعدت المقادير فأدركت ظني وحزت حدّ بغيتي، وأنشد:

أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه الملوك بني مروان إذ حشدوا
مازلت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في غفلة بالشأم قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
قال: وقال عبد الملك بن مروان للشعبي، لما دخل عليه: جنبني خصالاً أربعاً: لا تطرينّي في وجهي، ولا تجرينّ علي كذبة، ولا تغتابن عندي أحداً، ولا تفشين لي سراً.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود. وأنشد المنقري في ذلك:
النجم أقرب من سرٍ إذا اشتملت ... مني على السر أضلاعٌ وأحشاء
وقال غيره:
ونفسك فاحفظها ولا تفش للورى ... من السر ما يطوي عليه ضميرها
فما يحفظ المكتوم من سر أهله ... إذا عقد الأسرار ضاع كبيرها
من القوم إلا ذو عفافٍ يعينه ... على ذاك منه صدق نفسٍ وخيرها
قال وقال معاوية بن أبي سفيان: أعنت على عليّ، رضي الله عنه، في أربع خصال: كان رجلاً ظهرةً علنةً أي لم يكتم سراً، وكنت كتوماً لأمري، وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافاً، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافاً، وكنت أحب إلى قريش منه فقلت ما شئت من جامع إلي ومفرق عنه.
وكان يقال لكاتم سره: من كتمانه إحدى خصلتين وفضيلتين الظفر بحاجته والسلامة من شره. من أحسن فليحمد الله وله المنة عليه، ومن أساء فليستغفر الله جل وعز وله الحجة عليه.
وقال بعضهم: كتمانك سرك يعقبك السلامة وإفشاؤك سرك يعقبك التبعة، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه.
وقال بعضهم: ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما في يده اللصوص فيخفيه ثم يمكن عدوّه من نفسه بإفشاء سره إليه وإظهار ما في قلبه له أو أن يظهره على سر أخيه، ومن عجز عن تقويم أمره فلا يلومن من لا يستقيم له.
وكان معاوية يقول: ما أفشيت سري إلى أحد إلا أعقبني طول الندم وشدة الأسف، ولا أودعته جوانح صدري فخطمته بين أضلاعي إلا كسّبني ذلك مجداً وذكراً وسناء ورفعة. فقيل له: ولا ابن العاص؟ فقال: ولا ابن العاص. وكان يقول: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من كتم سره كانت الخيرة في يده، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، وضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءاً إذا كنت واجداً لها في الخير مذهباً، وما كافأت من عصى الله فيك بأكثر من أن تطيع الله جل ذكره فيه، وعليك بإخوان الصدق فإنهم زينة عند الرخاء وعصمة عند البلاء. وحدث إبراهيم بن عيسى قال: ذاكرت المنصور ذات يوم أمر أبي مسلم وصونه لذلك السر حتى فعل ما فعله. فقال:
تقسمني أمران لم أقتحمهما ... بحرصٍ ولم تعركهما لي الكراكر
وما ساور الأحشاء مثل دفينةٍ ... من الهم ردتها إليك المقادر
وقد علمت أفناء عدنان أنني ... لدى ما عرا مقدامةٌ متجاسر
وقال غيره:
صن السر بالكتمان يرضك غبه ... فقد يظهر السر المضيع فيندم
ولا تفشين سراً إلى غير أهله ... فيظهر خرق السر من حيث يكتم
وما زلت في الكتمان حتى كأنني ... برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حيٌّ على الناس يسلم؟
ولآخر:
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر
ولو لم أصنه لبقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
ولآخر:
لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسري مذيع
فلولا الدموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع
ولآخر:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع
أبو نواس:
لا تفش أسرارك للناس ... وداو أحزانك بالكاس
فإن إبليس على ما به ... أرأف بالناس من الناس

وقال المبرد: أحسن ما سمعت في حفظ السر ما روي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت بغاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
قال العتبي:
ولي صاحبٌ سري المكتم عنده ... مخاريق نيران بليلٍ تُحرَّق
عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان ما تتخرق
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار نفسي بالأحاديث تغرق
فلا تودعن الدهر سرك جاهلاً ... فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في سر الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأديب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
ولآخر:
ولربما اكتتم الوقور فصرّحت ... حركاته عن كتمانه
ولربما رزق الفتى بسكوته ... ولربما حرم الفتى ببيانه
ولآخر:
لا يكتم السر إلا كل ذي خطرٍ ... والسر عند كرام الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له علقٌ ... قد ضاع مفتاحه والباب مردوم
قال: ودخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع شعره في عتبة فقال: ما أحسنت في حبك ولا أجملت في إذاعة سرك. فقال أبو العتاهية:
من كان يزعم أن سيكتم حبه ... أو يستطيع الستر فهو كذوب
إذا بدا سر اللبيب فإنه ... يبد إلا والفتى مغلوب
الحب أغلب للرجال بقهره ... من أن يرى للسر فيه نصيب
إني لأحسد ذا هوىً مستحفظاً ... لم تتهمه أعينٌ وقلوب
فاستحسن المهدي شعره وقال: قد عذرناك في إذاعة سرك ووصلناك على حسن عذرك على أن كتمان ذلك أحسن من إذاعته.
وقال المهلب بن أبي صفرة: ما ضاقت صدور الرجال عن شيء كما ضاقت عن السر.
وقال زياد: لكل مستشير ثقة ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر وترك النصيحة، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخريّ يرجو ثواب الله، ورجل دنيوي له شرف في نفسه وعقل يصون به حسه، وهما معدومان في هذا الدهر.

محاسن حفظ اللسان
قال أكثم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكيه، يعني لسانه. وقال الشاعر:
رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثاً مغارا
ومنه قول أكثم: رب قولٍ أشد من صول. وقوله: لكل ساقطة لاقطة. الساقطة من الكلام لها لاقطة من الناس.
وقال المهلب لبنيه: اتقوا زلة اللسان فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته ويزل لسانه فيكون فيه هلاكه.
وقال يونس بن عبيد: ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها من حفظ اللسان.
وقال قسامة بن زهير: يا معشر الناس إن كلامكم أعثر من صمتكم فاستعينوا على الكلام بالصمت وعلى الصواب بالفكر.
وقال الجاحظ: جرى بين شهرام المروزي وبين أبي مسلم كلام، فما زال أبو مسلم يقاوله إلى أن قال شهرام: يا لقيط! فصمت أبو مسلم، وندم شهرام، فما زال مقبلاً عليه معتذراً وخاضعاً متنصلاً. فلما رأى ذلك أبو مسلم قال: لسان سبق ووهم أخطأ وإنما الغضب شيطان وما جرأك غيري بطول احتمالي فإن كنت متعمداً للذنب فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوباً فالعذر سبقك، وقد غفرنا لك على كل حال. فقال شهرام: أيها الأمير عفو مثلك لا يكون غروراً. قال: أجل. قال: فإن عظم ذنبي لا يدع قلبي أن يسكن. ولجّ في الاعتذار. فقال لأبو مسلم: يا عجبا! كنت تسيء وأنا أحسن فإذا أحسنتَ أُسيء.
وشتم رجل المهلب فلم يجبه. فقيل له: حلمت عنه؟ فقال: لم أعرف مساويه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
سلمة بن القاسم عن الزبير قال: حُملت إلى المتوكل فأُدخلت عليه فقال: يا عبد الله الزم أبا عبد الله، يعني المعتز، حتى تعلّمه من فقه المدنيين. فأُدخلت إلى حجرة فإذا أنا بالمعتز قد أتى في رجله نعل من ذهب، فعثر حتى دميت رجله، فأتي بإبريق من ذهب وطست من ذهب وجعل يغسل ذلك الدم وهو يقول:
يُصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرِّجل
وعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته في الرجل تبرا على مهل

فقلت في نفسي: ضُممت إلى من أريد أن أتعلم منه.
وكان يقال: ينبغي للعاقل أن يحفظ لسانه كما يحفظ موضع قدمه، وقيل: من لم يحفظ لسانه فقد سلطه على هلاكه. وقال الشاعر:
عليك حفظ اللسان مجتهداً ... فإن جل الهلاك في زلله
ولآخر:
وجرح السيف تدمله فيبرا ... وجرح الدهر ما جَرح اللسان
جراحات الطعان لها التئامٌ ... ولا يلتام ما جرح اللسان
ولآخر:
وجرح اللسان كجرح اليد
ولآخر:
وجرح السيف يأسوه المداوي ... وجرح القول طول الدهر دامي

مساوئ جناية اللسان
أحمد بن إبراهيم الهاشمي قال: لما عفا أبو العباس السفاح عن سليمان بن هشام بن عبد الملك وعن ابنيه قرّبهم وأدناهم وبسطهم حتى كانوا يسمرون عنده بالليل، وكان سليمان إذا دخل ثنيت له وسادة وكذلك لابنيه وربما طرحت لهم نمارق ونصبت لهم كراسي، فإنهم عنده ذات ليلة أو ذات يوم إذ دخل إليه أبو غسان الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين بالباب رجل متلثم أناخ راحلته وقال: استأذن لي على أمير المؤمنين. فقلت: ضع عنك ثياب سفرك.
فقال: لا أحط رحلي ولا أسفر عمتي حتى أنظر إلى وجه أمير المؤمنين. فقال أبو العباس: فهل سألته من هو؟ قال: قد فعلت فذكر أنه سديف مولاك. فقال: سديف سديف! ائذن له فدخل رجل أحم طويل يتثنى عليه ممطر حرٍ ومعه محجن يتوكأ عليه، فلما نظر إلى أبي العباس سفر عن وجهه ثم سلم ودنا وقبل يده ثم انصرف إلى خلفه. فقام مقام مثله وأنشده:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
لا تقيلن عبد شمسٍ عثارا ... واقطعن كلّ رقلة وغراس
ولقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيدٍ ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أمسى ... ثاوياً بين غربةٍ وتناسي
نعم شبل الهراش مولاك لولا ... آودٌ من حبائل الإفلاس
فقام سليمان بن هشام فقال: يا أمير المؤمنين إن مولاك هذا مثل بين يديك يبعثك على قتلي وقتل ابني ويحدوك على طلب ثأرك منا، وقد بلغني أنك تريد اغتيالي. فقال أبو العباس: والله ما كان عزمي أن أقتلك ولا أن أسيء بك ولا أطالبك بشيء مما طالبت به أهل بيتك، فأما إذ وقع في خلدك إني أغتالك فيا جاهل من يحول بين وبينك وبين قتلك حتى أغتالك؟ ثم أمر بقتله وقتل ابنيه.
فقال سليمان لقاتله أبي الجهم: إنك قد أمرت بأمر لا بد لك من إنفاذه وحاجتي إليك أن تقدم ابني حتى أحتسبهما، ففعل.
وخرج سديف وقد وصله العباس بخمسة آلاف دينار وهو يقول: قد قرّت العينان واشتفت النفس فلله الحمد والشكر! وحكي عن شيرويه بن أبرويز أن رجلاً من الرعية وقف له يوماً وقد خرج من الميدان فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يدك وملكك ما كنت أحق به منه وأراح آل ساسان من جبريته وعتوّه وبخله ونكده، فإنه كان يأخذ بالإحنة، ويقتل بالظن، ويخيف البريّ، ويعمل بالهوى.
فقال شيرويه لبعض حجابه: احمله إلي. فحمل. فقال له: كم كانت أرزاقك في حياة أبرويز؟ قال: كنت في كفاية العيش. قال: فكم رزقك بما سمعت اليوم؟ قال: ما زيد في رزقي شيء. قال: فهل وترك أبرويز فانتصرت منه بما سمعت من كلامك؟ قال: لا. قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه ولم يقطع عنك مادة رزقك ولا وترك في نفسك، وما للعامة والوقوع في الملوك وهم رعية؟ وأمر أن ينزع لسانه من قفاه، وقال: حق ما يقال: الخرس خير من البيان بما لا يجب. وقال بعض الشعراء في مثله:
يا ليت أني لا أموت بغصتي ... حتى أرى رجلاً يقول فيصدق
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكّل بالمنطق
ولآخر:
لعمرك ما شيءٌ علمت مكانه ... أحق بسجنٍ من لسان مذلل
على فيك مما ليس يعنيك قوله ... بقفلٍ شديدٍ حيث ما كنت فاقفل
ولآخر:
إذا الأمر أعيا اليوم فانظر به غداً ... لعل عسيراً في غدٍ يتيسر
ولا تعد قولاً من لسانك لم يرض ... مواقعه من قبل ذاك التفكر

ولا تصر من حبل امريءٍ في رضى امريء ... فيتصلا يوماً وحبلك أبتر

محاسن الصدق
قال بعض الحكماء: عليك بالصدق فما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع بأعز من الصدق، والصدق عز وإن كان فيه ما تكره، والكذب ذلّ وإن كان فيه ما تحب، ومن عرف بالكذب اتهم في الصدق.
وقيل: الصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور.
وقال ابن السماك: ما أحسبني أؤجر على ترك الكذب لأني أتركه أنفة.
وقال الشعبي: عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل لأهله ليرضيها، وإصلاح بين الناس، وكذب في حرب.
وقال بعض الحكماء: الصدق عز والكذب خضوع.
وقال آخر: لو لم يترك العاقل الكذب إلا مروءةً لقد كان حقيقاً بذلك فكيف وفيه المأثم والعار! ومن المعروفين بالصدق أبو ذر الغفاري، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على أصدق ذي لهجة من أبي ذر.
ومنهم العباس بن عبد المطلب، حدثنا الحكم بن عيسى عن الأعمش عن الشعبي قال: اطلع العباس على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل، عليه السلام، فقال له جبريل، عليه السلام: هذا عمك العباس؟ قال : نعم. قال: إن الله جل وعز يأمرك أن تقرأ عليه السلام، وتعلمه أن اسمه عبد الله الصادق وأن له شفاعة يوم القيامة. فأخبره، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فتبسم العباس. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: إن شئت أخبرتك مما تبسمت وإن شئت أن تقول فقل. قال: بل تعلمني يا رسول الله. قال: لأنك لم تحلف يميناً في جاهلية ولا إسلام برةً ولا فاجرةً ولم تقل لسائل لا. قال: والذي بعثك بالحق ما تبسمت إلا لذلك.
ومنهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال يوم النهروان لأصحابه: شدوا عليهم فوالله لا يقتلون عشرة ولا ينجو منهم عشرة.
فشدوا عليهم فوالله ما قتل من أصحابه تمام عشرة ولا نجا منهم تمام عشرة.
ثم قال: اطلبوا ذا الثديّة. فطلبوه فقالوا: لم نجده. فقال: والله ما كذبت قط ولا كُذبت، والله لقد أخبرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه يقتل مع شر جيلٍ يقتلهم خير جيل. ثم دعا ببغلة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فركبها فسار حتى وقفت على قليب فيه قتلى فقال: اقلبوا القتلى واطلبوه بينهم. فإذا هو سابع سبعةٍ، فلما أخرجه قال: الله أكبر! لولا أن تنكلوا فتتركوا العمل لأخبرتكم بما جعل الله جل وعز لمن قتلهم على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم.
ومن الأخبار في مثله قيل: دخل هشام بن عروة على المنصور فقال له: يا أبا المنذر أتذكر حيث دخلت عليك أنا وأخي مع أبي الخلائف وأنت تشرب سويقاً بقصبة يراعٍ فلما خرجنا من عندك قال أبي: استوصوا بالشيخ خيراً واعرفوا حقه فلا يزال في قومكم بقية ما بقي؟ قال: ما أُثبت ذاك يا أمير المؤمنين. فلامه بعض أهله وقالوا: يذكّرك أمير المؤمنين ما يمتّ به إليك وتقول له لا أذكره؟ فقال: لم أذكره ولم يعودني الله في الصدق إلا خيراً.
قال: قدم زياد على معاوية، فلما طال بهم المجلس حدثه زياد بحديث، فقال له معاوية: كذبت. فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين فوالله ما حللت للكلام حبوة إلا على بيعة الصدق ولم أكذب، وحياة الكذب عندي موت المروءة، فاستحياه معاوية وقال: يغفر الله لك يا أخي، فكأني أرى بك حرب بن أمية في جميل شيمه وكرم أخلاقه.
قال: وكان الفضلبن الربيع يخاطب الرشيد فقال له الرشيد: كذبت. فقال: يا أمير المؤمنين وجه الكذب لا يقابل وجهك ولسانه لا يقابل جوابك.
محاسن الكذب
روي عن المغيرة بن إبراهيم قال: لم يرخص لأحد في الكذب إلا للحجاج بن علاط، فإنه لما فتحت خيبر قال لرسول الله: إن لي عند امرأة من قريش وديعة فإن أذن لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن أكذب كذبة فلعلي أن أستلّ وديعتي. قال: فرخص له. فقدم مكة فأخبرهم أنه ترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أسيراً في أيديهم يأتمرون فيه، قائل يقول يقتل وقائل يقول لا بل يبعث إلى قومه فيكون ذلك منّة.

فجعل المشركون يتباشرون بذلك ويوئسون العباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، منه والعباس يريهم التجلد. وأخذ الرجل وديعته، فاستقبله العباس فقال: ويحك ما الذي أخبرت به؟! فأعمله السبب ثم أخبره أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد فتح خيبر واستنكح صفية بنت حيي بن أخطب وقتل أباها وزوجها، وقال له: اكتم عليّ اليوم وغداً حتى أمضي، ففعل ذلك. فلما مضى أخبرهم العباس بالذي أخبره فكبتوا.
وروي أن رجلاً أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إتي أستسرّ بخلال أربع: الزناء والسرق وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركته لك سراً. فقال: دع الكذب. فمضى الرجل فهمّ بالزناء فقال: يسألني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن جحدت نقضت ما جعلته له وإن أقررت حددت، فلم يزن، ثم همّ بالسرقة وبشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له، عليه السلام: تركتهن أجمع.
ومن مُلح الكذب قيل: إنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة وتحاسد وكان كل واحد منهما ينتظر لصاحبه الدوائر، فلما ولي عبد الله بن مالك أذربيجان وأرمينية ضاق برجل من الدهاقين بالعراق الأمر وتعذرت عليه المطالب فحمل نفسه على أن افتعل على لسان يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك بالوصاة به وأكد بمعاونته كل التأكيد، ولم يعلم ما بينهما من التباعد، فشخص من مدينة السلام إلى أذربيجان وصار إلى باب عبد الله بن مالك بالكتاب، فأوصله الحاجب، فقال له عبد الله: أدخل صاحب هذا الكتاب. فأدخله. فقال له عبد الله: إن كتابك هذا مفتعل ولكنك قد تجشمت هذه الشقة البعيدة ولسنا نخيبك. فقال الرجل: أما كتابي فليس بمفتعل وإن كنت إنما تقصده بهذه التهمة لتصرفه فالله جل وعز حسبي وعليه أتوكل. فقال عبد الله: أفترى أن تُحبس في دار وتزاح علتك إلى أن أكتب وأستطلع الرأي وأعرف نبأ هذا الكتاب فإن كان مزوراً عاقبتك وإن كان صحيحاً خيرتك بين الصلات والولايات فأيها اخترت سوغتكه؟ قال: نعم. فأمر عبد الله بحبسه وإزاحة علته وكتب إلى وكيله بالعراق: إن رجلاً يسمى فلان بن فلان أورد عليّ كتاباً من أبي عليّ يحيى بن خالد البرمكي فتعرّف لي أمر هذا الكتاب واكتب إلي بالحال فيه.
فصار الوكيل بكتاب عبد الله إلى يحيى بن خالد فقرأه عليه، فدعا بالدواة وكتب إليه بخطه: فلان من أخص من يليني وأوجبهم حقاً وقد أخبرني صاحبك بشكك في أمره فأزل، جعلت فداك، الشك وليكن صرفه إلي معجلاً بما يشبهك.
فلما خرج الوكيل قال يحيى لأصحابه: ما تقولون في رجل افتعل عليّ كتاباً إلى عبد الله بن مالك وصل به من مدينة السلام إلى أذربيجان؟ فقالوا جميعاً: نرى أن تفضحه وتكشف ستره وتعلن أمره ليرتدع به غيره ويصير نكالاً وأحدوثة للعالمين. قال: لا والله، وهذا رأيكم؟ قالوا: نعم. فقال: قبح الله هذا من رأي فما أقله وأنذله! ويحكم هذا رجل ضاق به الرزق فأمّل فيّ خيراً ووثق بي وشخص إلى أذربيجان مع بعد شقتها وصعوبة طريقها أتشيرون عليّ أن أحرمه ما أمّله في حتى يسيء ظنه بي وقد عرفتم قدر عبد الله وحاله عند أمير المؤمنين وأني لم أكن أحتال لهذه المنزلة إلا بالخطير من المال، أفتريدون أن أردّ الأمر بيني وبينه بعد الألفة الواقعة إلى الحشمة؟ هذا والله النكد طول الأبد وغاية الضعف ونهاية أسباب الانتكاس! ثم أخبرهم بما كتب به إلى عبد الله فتعجبوا من كرمه واحتماله الكذب.
وورد الكتاب بخطه على عبد الله فدعا بالرجل وقد سقط في يده لاعتراض سوء الظن بقلبه، فلما دخل عليه قال. هذا كتاب أخي قد ورد عليّ بصحة أمرك وسألني تعجيل صرفك إليه. فدعا له بمائتي ألف درهم وبما يتبعها من الدواب والبغال والجواري والغلمان والخلع وسائر الآلة ثم أصدره. فلما حضر باب يحيى بن خالد أدخل ذلك أجمع إليه وعرضه عليه، فأمر له يحيى بمثل ذلك وأثبته في خاصته.

قيل: وكان رجال من أهل المدينة من فقيه وراوية وشاعر يأتون بغداد فيرجعون بحظوة وحال حسنة، فاجتمع عدة منهم يوماً فقالوا لصديق لهم لم يكن عنده شيء من الآداب: لو أتيت العراق فلعلك كنت تصيب شيئاً. فقال: أنتم أصحاب آداب تلتمسون بها! قالوا: نحن نحتال لك، فجهزوه وقدم بغداد وطلب الاتصال بعلي بن يقطين بن موسى وشكا إليه الحاجة! فقال: ما عندك من الأدب؟ قال: ليس عندي من الآداب شيء غير أني أكذب الكذبة فأخيّل إلى من سمعها أني صادق. وكان ظريفاً مليحاً، فأُعجب به وعرض عليه مالاً فأبى أن يقبله وقال: لست أريد منك إلا أن تسهّل إذني وتدني مجلسي. قال: ذاك لك. فكان من أقرب الناس إليه مجلساً حتى عرف بذلك.
وكان المهدي غضب على رجل من القواد حتى استصفى ماله فكان يختلف إلى علي بن يقطين رجاء أن يكلم له المهدي، وكان يرى قرب المدني منه ومكانه، فأتى المدني القائد عشاء وقال له: ما البشرى؟ فقال: لك البشرى وحكمك، قال: قد أرسلني إليك علي بن يقطين وهو يقرئك السلام ويقول: قد كلمت أمير المؤمنين في أمرك ورضي عنك وأمر برد مالك وضياعك ويأمرك بالغدو عليه لتغدو معه إلى أمير المؤمنين متشكراً، فدعا له الرجل بألف دينار وثياب وكسوة وحملان ودفعها إليه، وغدا على عليّ مع جماعة من وجوه العسكر متشكراً. فقال له عليّ: وما ذاك؟ فقال: أخبرني أبو فلان، وهو إلى جنبه، بكلامك لأمير المؤمنين في أمري ورضاه عني! فالتفت إلى المدني فقال: ما هذا؟ فقال: أصلحك الله! هذا بعض ذلك المتاع نشرناه. فضحك عليّ وقال: عليّ بدابتي، فركب إلى المهدي وحدثه بالحديث فضحك المهدي وقال لعلي: فإنا قد رضينا عن الرجل ورددنا عليه ماله فأجر على المدني رزقاً واسعاً واستوص به خيراً. فأجرى عليه ووصله، وكان يٌعرف بكذّاب الخليفة.
قال: وكتب عبد الملك بن مروان إلى عمر بن محمد صاحب البلقاء أن اخطب عليّ الشقراء بنت شبيب بن عوانة الطائية وهو يومئذ في بادية له ومعه عدة من أصحابه. فأرسل إليه عمر: إن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أخطب عليه الشقراء ابنتك فاحضر فارسل إليه. فقال: ما لنا إليكم حاجة، فإن كانت لأمير المؤمنين إلينا حاجة فليأت أو يرسل رسولاً. فقال عمر: سيروا بنا إليه. فسار في جماعة من وجوه البلقاء. قال: فدفعنا إلى أعرابي بفناء خيمته فسلمنا فرد السلام، وتكلم عمر فقال الأعرابي: أرسول أمير المؤمنين أنت؟ قال: نعم، قال: فإنا قد زوجناه على صداق نسائنا مائة من الإبل وما يتبعها من الثياب والخدم. فقلت: نعم. ثم جاءنا بثلاث جفان من كسور خبز ولبن فأكلنا ثم انصرفنا، فكتبت إلى عبد الملك بن مروان فأرسل إليه بمائة من الإبل وعشرة آلاف درهم وما يتبع ذلك من الطيب والخدم والأثاث. فجهزها ثم حملها إلى عبد الملك وما معها من ذلك شيء إلا البعير الذي ركبته ومعها نسوة من بنات عمها. فلما وافت عبد الملك أمر فأُدخلت إلى دار فأقامت أياماً ثم إن عبد الملك بنى بها فكان كثيراً ما يقول: ما رأيت مثل هذه الأعرابية ظرفاً وخلقاً ومنطقاً.
فاشتد ذلك على عاتكة بنت يزيد بن معاوية فأرسلت إلى روح بن زنباع، وكان من أخص الناس بعبد الملك، فقالت: يا أبا زرعة قد علمت رأي أمير المؤمنين معاوية كان فيك ورأي يزيد من بعده وأن أمير المؤمنين قد أعجبه أمر هذه الأعرابية وغلبت على قلبه فشأنك في إفساد ذلك عنده. قال: نعم ونعمة عينٍ. ثم خلا بعبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين كيف ترى الأعرابية؟ قال: قد جمعت ما جمع النساء الحاضرة والبادية. قال: يا أمير المؤمنين إنك من الأعرابية كما قال الأول:
وإذا تسرك من تميم خلةٌ ... فلما يسوءك من تميم أكثر
فقال له: لا تقل ذلك، قال: كأنك بها قد حالت إلى غير ما هي عليه.
فكثر ذلك منه. ثم إن عبد الملك دخل عليها فقال: يا شقراء أعلمت أن روحاً قال لي كذا وكذا؟ قالت: ولم ذاك وحال عشيرتي وعشيرته كما تعلم؟ قال: هو علي ما قلت لك وإن أحببت أسمعتك ذلك منه! فقالت: قد أحببت.

فأمرها أن تجلس خلف الستر وأرسل إلى روح، فلما دخل عليه قال: هيه يا أبا زرعة والله لقد وقع كلامك مني موقعاً! قال: نعم يا أمير المؤمنين إن الأعرابية تنتكث كانتكاث الحبل ثم لا تدري ما أنت عليه منها. فعجّلت ورفعت الستر وقالت: أنت فلا حياك الله ولا وصل رحمك قد كان يبلغني هذا عنك فما كنت أصدق! فوثب روح وقال: يا هذه إن هذا أرسل إليّ فأعلمني أنك خلف الستر وعزم عليّ أن أتكلم بهذا فلم أجد بداً من أبرّ عزيمته، وأما أنت فلا يسوءك الله! قالت: صدق والله ابن عمي وأنت الذي حملته على ما قال. فقال عبد الملك: ويلك يا شقراء ألا تقبلي منه! قالت: هو عندي أصدق منك. وجعل روح يقول وهو مولٍّ: هو والله الحق كما أقول. فخرج ووقع الكلام بينهما.
وقال خالد بن صفوان: دخلت على أبي العباس وهو خالي المجلس فقلت: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأمر بحفظ الستر لألقي إليك شيئاً أنصحك به أو قال فيه. فأمر بذلك. فقلت: يا أمير المؤمنين فكّرت في هذا الأمر الذي ساقه الله إليك ومنّ به عليك فرأيتك أبعد الناس من لذّاته وأتعب الخلق فيه؟ قال: وكيف ذاك يا خالد؟ قلت: باقتصارك من الدنيا على امرأة واحدة وتركك البيضاء المشتهاة لبياضها والخضرة التي تراد لخضرتها والسمينة المشتهاة لوطائها وذكرت الرشيقة الرخيمة والجعدة السبطة، فقال: يا خالد هذا أمر ما مرّ بسمعي! فاستأذن في الانصراف فأذن له.
وخرجت إليه أم سلمة وهو ينكت بالقلم على دواة بين يديه، فقالت: يا أمير المؤمنين أراك مفكراً، أنتقض عليك عدو؟ قال: كلا ولكن كلام ألقاه إلي خالد بن صفوان فيه نصيحتي. وشرح ذلك لها. قالت: فما قلت لابن الزانية؟ قال: ينصحني وتشتمينه! فقامت عنه وبعثت إلى مائة من مواليها فقالت: لهذا اليوم اتخذتكم وأعددتكم! امضوا إلى خالد بن صفوان فحيث وجدتم خالداً فاهووا إلى أعضائه عضواً عضواً فرضّوها. فطلبت ومررت بقوم أحدّثهم إذ أقبل القوم فدخلت في جملتهم ولجأت إلى دار ووقعت البغلة فرضّوها بالأعمدة وبقيت لا تظلني سماء ولا تقلني أرض.
فإني جالس ذات يوم إذ هجم عليّ قوم فقالوا: أجب أمير المؤمنين. فقمت ولا أملك من نفسي شيئاً حتى دخلت عليه وهو في ذلك المجلس وأنا أسمع حركة من وراء الستر فقلت أم سلمة والله. فقال: يا خالد من أين تُرى؟ قلت: كنت في غلة لي. ثم قال: الكلام الذي كنت ألقيته إليّ في بعض الأيام أعده عليّ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن العرب اشتقت اسم الضر من اسم الضرتين، وإن الضرائر شر الذخائر، والإماء آفة المنازل، ولم يجمع رجل بين امرأتين إلا كان بين جمرتين تحرقه واحدة بنارها وتلحقها أخرى بشرارها. قال: ليس هذا هو! قلت: بلى. قال: ففكر. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث إذا اجتمعن كن كالأثافي المحرقة، وأن الأربع يتغايرن فلا يصبرن ويتعالين فلا يهوين، وإن أُعطين لم يرضين. قال: لا والله ما هو هذا. قلت: يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الأربع همّ ونصب وضجر وصخب إنما صاحبهن بين حاجة تطلب وبلية تترقب، إن خلا بواحدة منهن خاف شر الباقيات، وإن آثرها كن له أعدى من الحيات، وأخبرتك أن الجواري رجال لا خصى لهن وخرقٌ لا حياة معهن. قال: لا والله ما هو هذا! قلت: بلى إن بني مخزوم ريحانة العرب وكنانة بيت قريش، وعندك ريحانة الرياحين وسيدة نساء العالمين، وحدثتني أنك تهم بالتزوج فقلت لك هيهات تضرب في حديد بارد ليس ذلك بكائن آخر الزمان المعاين! قال: ويلك أتستعمل الكذب؟ قلت: فمع السيوف لعب! قال: فاذهب فإنك أكذب العرب، قلت: فأيهما أصلح، أكذب أم تقتلني أم سلمة؟ فاستلقى ضاحكاً وقال: اخرج قبحك الله! وارتفع الضحك من وراء الستر وانصرفت إلى منزلي فإذا خادم لأم سلمة ومعه خمس بدر وخمسة تخوت وقال: الزم ما سمعناه منك.

قال الأصمعي: قال الخليل بن سهل: يا أبا سعيد أعلمت أن طول رمح رستم كان سبعين ذراعاً من حديد مصمت في غلظ الراقود؟ قال: فقلت ها هنا أعرابي له معرفة فاذهب بنا إليه نحدثه بهذا. فذهبت به إلى الأعرابي فقال له ذلك فقال الأعرابي: قد سمعنا بهذا وقد بلغنا أن رستم هذا واسفنديار أتيا لقمان بن عاد بالبادية فوجداه نائماً ورأسه في حجر أمه فقالت لهما: ما شأنكما؟ فقالا: بلغنا شدة هذا الرجل فأتيناه، فانتبه فزعاً من كلامهما فنفخهما فألقاهما إلى أصفهان فقبورهما اليوم بها. فقال الخليل: قبحك الله ما أكذبك! فقال: يا ابن أخي ما بيننا شيء إلا وهو دون الراقود.
قيل: وقدم بعض العمال من عمل فدعا قوماً إلى طعامه وجعل يحدثهم بالكذب فقال بعضهم: نحن كما قال الله عز وجل: سمّاعون للكذب أكالون للسحت.

وممن ذم الكذب
قيل: إنه وجد في كتب الهند: ليس لكذوب مروءة ولا لضجور رياسة ولا لملول وفاء ولا لبخيل صديق.
وقال قتيبة بن مسلم لبنيه: لا تطلبوا الحوائج من كذوب فإنه يقرّبها وإن كانت بعيدة ويبعدها وإن كانت قريبة، ولا من رجل قد جعل المسألة مأكلة فإنه يقدم حاجته قبلها ويجعل حاجتك وقاية لها، ولا من أحمق فإنه يريد نفعك فيضرك.
وقيل: أمران لا ينفكان من كذب: كثرة المواعيد وشدة الاعتذار.
وقال: كفاك موبخاً على الكذب علمك بأنك كاذب.
وقال رجل لأبي حنيفة: ما كذبت قط. فقال: أما هذه فواحدة.
وفي المثل: هو أكذب من أسير السند، وذلك أنه يؤخذ الخسيس منهم فيزعم أنه ابن الملك. ويقال: هو أكذب من الشيخ الغريب، وذلك أنه يتزوج في الغربة وهو ابن سبعين سنة فيظن أنه ابن أربعين سنة. وقيل: هو أكذب من مسيلمة.
ومما قيل في ذلك من الشعر:
حسب الكذوب من البل ... ية بعض ما يحكى عليه
ما إن سمعت بكذبةٍ ... من غيره نسبت إليه
ولآخر:
لقد أخلفتني وحلفت حتى ... إخالك قد كذبت وإن صدقتا
ألا لا تحلفن على يمينٍ ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا
ولآخر:
كلام أبي خلفٍ كله ... نداء الفواخت جاء الرطب
وليس وإن كنّ يشبهنه ... يقاربنه أبداً في الكذب
ولآخر:
قد كنت أنجز دهراً ما وعدت إلى ... أن أتلف الوعد ما جمعت من نشب
فإن أكن صرت في وعدي أخا كذبٍ ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب
محاسن فضل المنطق
سئل بعض الحكماء عن المنطق والصمت فقال: إنك تمدح الصمت بالمنطق ولا تمدح المنطق بالصمت وما عبّر عن شيء فهو أفضل منه.
وسئل آخر عنها فقال: أخزى الله المساكنة فما أفسدها للسان وأجلبها للعيّ والحصر، والله للمماراة في استخراج حق أسرع في هدم العيّ من النار في يابس العرفج. فقيل له: قد عرفت ما في المماراة من الذم. فقال: إن ما فيها أقل ضرراً من السكتة التي تورث عللاً وتولد أدواء أيسرها العيّ.
وقال بعض الحكماء: اللسان عضوٌ فإن مرنته مرن وإن تركته حزن.
محاسن الصمت
الهيثم بن عدي قال بعض الحكماء: تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات رميت عن قوس واحدة فقال كسرى: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على رد ما قد قلت. وقال ملك الهند: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإن كنت أملكها. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل وقد أندم على ما قد قلت. وقال ملك الصين: عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول.
وقال بعضهم: من حصافة الإنسان أن يكون الاستماع أحب إليه من المنطق إذا وجد من يكفيه، فإنه لن يعدم في الاستماع والصمت سلامة وزيادة في العلم.
وقال بعض الحكماء: من قدر أن يقول فيحسن قادر أن يصمت فيحسن، وليس كل من صمت فأحسن قادر أن يقول فيحسن.
وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام.
وكان يقال: من سكت فسلم كان كمن قال فغنم.
وقال علي بن عبيدة: الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق وسلامة من فضول القول.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الله جل وعز يكره الانبعاق في الكلام، فرحم الله امرأً أوجز في كلامه واقتصر على حاجته.

قيل: وكلم رجل سقراط بكلام أطاله فقال: أنساني أول كلامك طول عهده وفارق آخره فهمي بتفاوته. قيل: ولما قدم ليُقتل بكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: تُقتل ظلماً. قال: وكنت تحبين أن أقتل حقاً! قيل: ودخل رجل على معاوية ومعه ابن له يتوكأ عليه فقال: من هذا الغلام معك؟ قال: ابن لي يتيم. قال: حق لمن كنت أباه أن يكون يتيماً.

محاسن الكلام في الحكمة
اصبر محتسباً مأجوراً وإلا صبرت مضطراً مأزوراً.
المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين إن بقيت لم يبق الهمّ.
إذا حضر الأجل افتضح الأمل. الأمل يتخطى الأجل.
من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة.
لا يُستبطأ الدعاء بالإجابة وقد سدت طريقه بالذنوب.
واجد لا يكتفي وطالب لا يجد.
الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه.
شكرك نعمةً سالفة يقتضي لك نعمة مستأنفة.
من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم.
لولا من يقبل الجور لم يكن من يجور.
من مدحك بما ليس فيك فحقيق بأن يذمك بما ليس فيك.
من تكلف ما لا يعنيه فاته ما يعنيه.
من أحسّ بضعف حيلته عن الاكتساب بخل.
عالم معاند خير من جاهل منصف.
أطع من هو أكبر منك ولو بليلة.
حافظ على الصديق ولو في حريق.
أعظم المصائب انقطاع الرجاء.
إذا كُفيت فاكتفِ.
الليل أخفى للويل.
عين عرفت فذرفت.
لم يفت من لم يمت.
أصدع الفراق بين الرفاق.
محاسن البلاغة
يقال في المثل: هو أبلغ من قُسٍّ، وكان من حكماء العرب، وهو أول من كتب من فلان إلى فلان، وأقر بالبعث من غير نبي، وأول من قال البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. وقال فيه الأعشى:
وأبلغ من قسٍّ وأجرا من الذي ... بذي الغيل من خفّان أصبح خادرا
قال: وسئل أرسطاطاليس عن البلاغة فقال: أن تجعل في المعنى الكثير كلاماً قليلاً وفي القليل كلاماً كثيراً.
ووصف آخر بلاغة رجل فقال: كيف قادهم الله بأزمة أنوفهم إلى مصارع حتوفهم.
وقال اليوناني: البلاغة تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وقال الرومي: البلاغة حسن الاقتصاد عند البديهة والاقلال عند الإطالة.
وقال الهندي: البلاغة وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة.
وقال الفارسي: البلاغة أن تعرف الفصل من الوصل.
وقال إبراهيم الإمام: يكفي من حظ البلاغة أن يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ولا يُؤتى الناطق من سوء إفهام السامع.
وسُئل آخر عن البلاغة فقال: أن تجعل بينك وبين الإكثار مسورة للاختصار.
وقال أحنف: البلاغة الوقوف عند الكفاية وبلوغ الحاجة بالاقتصاد.
وقال معاوية لصحارٍ العبدي: ما البلاغة؟ فقال: أن تجيب فلا تبطيء وتقول فلا تخطيء.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: أن لا تبطيء ولا تخطيء.
وقيل: البليغ من أغناك عن التفسير.
وقال خالد بن صفوان: ليست البلاغة بخفة اللسان ولا كثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى والقصد للحجة.
محاسن الأدب
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: كفى بالأدب شرفاً أنه يدّعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب نسب إليه، وكفى بالجهل خمولاً أنه يتبرأ منه وينفيه عن نفسه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه. فأخذ بعض المولدين معنى قوله فقال:
ويكفي خمولاً بالجهالة أنني ... أراع متى أُنسب إليها وأغضب
وقال، رحمة الله عليه: قيمة مل امريءٍ ما يحسن. فرواه بعض المحدثين شعراً فقال:
قال علي بن أبي طالب ... وهو اللبيب الفطن المتقن
كلّ امريءٍ قيمته عندنا ... وعند أهل العلم ما يحسن
وأنشد أبو الحسن بن طباطبا العلوي لنفسه:
حسودٌ مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم راغباً ... وأجمع من عند الرواة فنونه
فأعرف أبكار الكلام وعونها ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أُغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
وقيل: الأدب حياة القلب ولا مثيبة أعظم من الجهل. وأنشدنا الكسروي:
عِيّ الشريف يزين منصبه ... وترى الوضيع يزينه أدبه

قال: وسمع بعض الحكماء رجلاً يقول: إني غريب. فقال: الغريب من لا أدب له.
وكان يقال: من قعد به حسبه نهض به أدبه.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: العلم خير من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال يبيده الإنفاق، والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.
وقيل لبزرجمهر: الأدب أفضل أم المال؟ قال: بل الأدب. قيل له: فما بال الأدباء بباب الأغنياء ولا نرى الأغنياء بباب الأدباء؟ فقال: لعلم الأدباء بمقدار فضل المال وجهل الأغنياء بمقدار الأدب.
وقال بعض الحكماء: إن كان الرزق لا بد مطلوباً بسبب فأفضل أسبابه ما افتتح بالأدب، ونظرنا فلم نره اجتمع لشيء من أصناف الصناعات كما اجتمع للكتبة لأنها لا تكمل لأحد حتى يبتدئها برياضة نفسه في الأدب فينفذ في الخط والبلاغة في الكتب والفصاحة في المنطق والبصر بصواب الكلام من خطابه والعلم بالشريعة وأحكامها والمعرفة بالسياسة والتدبير.

المناظرات في الأدب
حدثنا أبو ناظرة البصري عن المازني قال: بينا أنا قاعد في المسجد إذا صاحب بريد قد دخل وهو يسأل عني ويقول: أيكم المازني؟ فأشار الناس إليّ، فقال: أجب، قلت: من ومن أجيب؟ قال: الخليفة، فذعرت منه وكنت رجلاً فاطمياً فظننت أن اسمي رُفع فيهم فقلت: أصلحك الله! تأذن لي أن أدخل منزلي فأودع أهلي وأتأهب لسفري؟ فقال: افعل. فعلمت أنه لو كان شراً لما أذن لي فسكنت إلى قوله ودخلت المنزل فودّعتهم وخرجت إليه، فحملني على دابة من دواب البريد حتى وافى بي باب الواثق، فما كان إلا قليلاً حتى أذن لي فدخلت إلى بهوٍ وإذا رجل قاعد وعلى رأسه سبعون وصيفاً. فذهبت أسلّم عليه بالخلافة. فقيل لي: هذا بغا. ثم تقدمت إلى بهو آخر فإذا رجل قاعد على كرسي وبين يديه سبعون وصيفاً. فذهبت أسلم عليه بالخلافة فقيل: هذا وصيف. حتى دفعت إلى الستر فما زال يقول: اذهب ادن ادن، حتى حاذاني بسريره، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: بكر بن محمد. قال: ممن سمعتها؟ يعني اللغة. قلت: من مزاحم العقيلي، فقال حدثني. فلم أدر بما أحدثه وقلت: لعل حديثي على البديهة يعجبه، قلت: يا أمير المؤمنين قال رؤبة بن العجاج:
لا تعلواها وادلواها دلوا ... إنّ مع اليوم أخاه غدوا
فكأنه فطن لما أردت فقال: أجل أتدري لم دعوناك؟ قلت: لا. قال: وقع بيني وبين جارية لي شجار في بيت أردت لها إعرابه فامنتعت عليّ وقالت: سل المازني. قلت: فأسمعني يا أمير المؤمنين. قال: نعم. وأومأ إلى خادم بين يديه فضرب ستارة كادت عيني تلتمع من كثرة ذهبها ثم سمعت وراءها نقراً لولا جلالة أمير المؤمنين لرقصت عليه، ثم غنت:
أظليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحيةً ظلم
فقال: كيف ما سمعت؟ قلت: صواب. قال: فقد أخطأنا إذاً، قلت: وكيف؟ قال أمير المؤمنين قلت:
أظليم إن مصابكم رجلٌ ... أهدى السلام تحيةً ظلم
فقلت: وأصاب أمير المؤمنين. قال: فكاد يقوم إليّ فرحاً، ثم أدخل رأسه في الستارة فأومأ إليّ الخادم في الخروج فخرجت فناولني صرةً فيها خمسمائة دينار وحملت على البريد حتى رددت إلى منزلي بالبصرة. والشعر لأبي دهبل الجمحي يقول فيه:
عُقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عُقْم
فلا يلدن شبيهه أجود.
وحدثنا علي بن يزيد عن إسحاق بن المسيب بن زهير قال: حدثني المفضل قال: كنت يوماً عند الصراة ببغداد وكنت في الصحابة فأتاني رسول المهدي فقال لي: أجب. فخفت أن يكون ساعٍ سعى بي، فدخلت منزلي ولبست ثيابي وهممت أن أخبر أهلي ثم قلت: لم أعجل لهم الهمّ؟ إن كان خير سيأتيهم وإن كان غير ذلك فلا أكون عجّلته لهم. فمضيت حتى دخلت عليه وأنا مرعوب فسلمت عليه ورد السلام، وإذا عنده الفضل بن الربيع وعلي بن يقطين وغيرهما، فقال: إن هؤلاء زعموا أنك أعلم الناس بالشعر فأخبرني ما أشعر بيت قالته العرب؟ فوقعت في شيء لم أدر كيف هو فجهدت والله أن أنشده بيتاً من شعر فما قدرت عليه. فقال لي: ما لك لا تتكلم؟ فجرى على لساني ذكر الخنساء فقلت: لقد أحسنت الخنساء في قولها:
وإن صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار

قال: فاستبشر بذلك، وسر سروراً شديداً، ثم قال: أنت والله أعلم الناس وقد قلت هذا لهؤلاء فأبوا عليّ. فقال القوم: كان أمير المؤمنين أولى بالصواب. فقال لي: يا مفضّل أسهرتني البارحة أبيات حسين بن مطير الأسدي. قلت: وأي أبياته؟ قال قوله:
وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيها ... فقيراً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها
وكم قد رأينا من تغير عيشةٍ ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
قلت: مثل هذه فليسهرك يا أمير المؤمنين زادك الله توفيقاً وتسديداً! قال: حدثني يا مفضّل. قلت: أي الأحاديث تحب؟ قال: أحاديث الأعراب.
فما زلت أحدثه حتى بلغت الشمس منه، ثم قال: ما لك، قلت: يا سيدي ما تسأل عن رجل مأخوذ بعشرة آلاف درهم ليست عنده! قال: عليك عشرة آلاف درهم؟ قلت: نعم. فقال: يا ربيع احمل إليه عشرة آلاف درهم لقضاء دينه وعشرة آلاف درهم يبني بها داره وعشرة آلاف ينفقها على عياله، فرجعت ومعي ثلاثون ألف درهم.
وقال النضر بن شميل: دخلت على المأمون بمرو وهو في بهو له في يوم صائف وعليّ قميص مرقوع فقال: يا نضر تدخل على أمير المؤمنين في خلقان ثيابك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حرّ مرو وأنا شيخ كبير لا أحتمل الحر ولا البرد. ثم أنشدته:
لو يُشترى الشباب لاشتريته ... شبابي النضر الذي أبليته
بكل ما لي ثم ما استغليته
ثم أجرينا الحديث فقال: يا نضر أي النساء أحب إليك؟ قلت: البيضاء الفرعاء المديدة، فقال: حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان له فيها سداد من عوزٍ. قلت: صدق هشيم. حدثني عوف عن الحسن عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها كان له فيها سداد من عوز. قال: يا نضر والسداد خطأٌ؟ قلت: خطأٌ يا أمير المؤمنين! قال: وما يدريك؟ قلت: السَّداد بالفتح القصد في الدين وفي السبيل، والسِّداد البلغة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سداد. قال: أتعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان، رحمه الله، حيث يقول:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسِداد ثغر
فاستوى جالساً وقال: قبح الله من لا أدب له! ثم أقبل عليّ فقال: أخبرني بأخلب بيت قالته العرب، قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم
متى يقل صاحب السرادق ه ... ذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات أُدخل وأعطني سلمي
قال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني بأنصف بيت قالته العرب، قال: قول أبي عروبة:
إني وإن كان ابن عمي واغداً ... لمداهنٌ من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان امرأً ... متباعداً من أرضه وسمائه
فأكون والي سرّه وأصونه ... حتى يحين عليّ وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرّبتُ جلّتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركباً ... صعباً ركبت له على سيسائه
وإذا رأيت عليه برداً ناضراً ... لم يلفني متمنياً لردائه
فقال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني عن أعز بيت قالته العرب. قلت: قول راعي الإبل:
أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رزق لنفسي وأُجمل الطلبا
وأحلب الثرّة الصفيّ ولا ... أطلب في غير خلفها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغّبته في صنيعه رغبا
والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقّع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا

فقال: والله لقد أحسن وأجاد. ودعا بالدواة فما أدري ما يكتب ثم قال: يا نضر كيف تقول من الإتراب؟ قلت: أقول اترب القرطاسَ والقرطاسُ متروب. قال: فلم كسرت الألف؟ قلت: لأنها ألف وصل تسقط في التصغير. قلت: فكيف تقول من الطين؟ قلت: طِن الكتاب والكتابُ مطينٌ. قال: هذه أحسن من الأولى. ثم دفع ما كتب إلى خادم ووجهه معي إلى ذي الرياستين الحسن بن سهل، فقال لي ذو الرياستين: ما الذي جرى بينك وبين أمير المؤمنين؟ فقد أمر لك بخمسين ألف درهم. فقصصت عليه القصة. فقال ويحك لحّنت أمير المؤمنين. قلت: معاذ الله بل لحّنت هشيماً لأنه كان لحّانة، فوقّع لي أيضاً من عنده بثلاثين ألف درهم فانصرفت بثمانين ألف درهم في حرف واحد سِداد وسَداد.
قال أبو سعيد الضرير: سمعت ابن الأعرابي يقول : بعث إليّ المأمون فصرت إليه وإذا هو مع يحيى بن أكثم يطوفان في حديقة، فلما نظر إليّ ولاني ظهره فجلست فلما أقبل قمت قائماً فأسرّ إلى يحيى بشيء ما فهمت كله إلا ما قال: ما أحسن أدبه! وقد أقبل إلى مجلسه ثم التفت إليّ فقال: يا محمد بن زياد من أشعر العرب في وصف الخمر؟ فقلت: الذي يقول:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق
فقال: أحسن الناس قولاً في صفة الخمر الذي يقول:
فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مُزجت ... مثل فعل الصبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
قلت: فائدة أمير المؤمنين. ثم قال: ما معنى قول هند:
نحن بنات طارق ... نمشي على نمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
ففكرت في نسبها ونسب أبيها فلم أجد طارقاً فقلت: ما أعرف طارقاً يا أمير المؤمنين. فقال: إنما قالت إنها في العلو والشرف بمنزلة الطارق وهو النجم، من قول الله، عز وجل، والسماء والطارق، قلت: فائدة يا أمير المؤمنين ثانية. ثم التفت إلى يحيى بن أكثم فقال: أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبئه. فلم أدر ما قال وقمت لأخرج. فلما نظر إليّ وقد قمت رمى إليّ بعنبرة كانت في يده بعتها بخمسة آلاف درهم، قال: فرجعت إلى كتبي فنظرت فيها لأعرف ما قال فوقعت على هذه الأبيات لبعض الأعراب:
كأنما بنت أبي المحيريه ... قاعدةٌ في إتبها لُؤيليه
قد فاقت البؤبؤ والبؤيبيه
فعملت أنه عنى السيد وابن السيد.
قال أبو عبد الله الأسواري: دخلت على المأمون في حديقة له وفي يده مقراص ذهب وهو يقرص به ما طال من أوراق تلك الروضة ويقوّم ما بدا من أغصانها، فسلمت وقلت: يا أمير المؤمنين، جعلت فداك، إنك لمستهتر بهذه الحديقة حتى إنك لا تأمن عليها أحداً. قال: نعم يا أسواري فهل يحضرك في ذلك شيء؟ قلت: نعم، وأنشدته:
أوائل رسلٍ للربيع تقدمت ... على طيب وجه الأرض خير قدوم
فراقت لها بعد الممات حدائقٌ ... كواسٍ وكانت مثل ظهر أديم
إذا اقتصها طرف البصير بلحظةٍ ... توهّمها مفروشةً برقوم
كأن اخضرار الزهر والروض طالعٌ ... عليه سماءٌ زينت بنجوم
تردت بظلٍّ دائمٍ فتضاحكت ... كضحك بروقٍ في بكاء غيوم
وأوردها فحل السحاب عرائساً ... ضعاف القوى من مرضعٍ وفطيم
إذا برزت منهن بكرٌ حسبتها ... تراك وإن أضحت بعين سقيم
كمثل نشاوى الراح يلثم ذاك ذا ... أو الريح جادت بينها بنسيم
تخال وقوع الطل فيهن أدمعاً ... رنت بعيونٍ غير ذات سجوم
قال: أحسنت يا أسواري، يا غلام اسقنا على هذا. ثم جلس على كرسي مغشّىً بالحرير وإذا غلام قد أقبل يهتز كأنه القضيب المائل حين اخضر شاربه وبدا عذاره وفي يده كأسٌ وإبريق فصبّ في الكأس من الإبريق ثم مزجه وناوله إياه، فأخذه في يده ساعة وجعل ينظر إلى الغلام ما يرد بصره عنه، ثم قال: يا أسواري هل يحضرك في صفة مثل هذا شيء؟ قلت: نعم يا سيدي، وأنشدته:
ثجاج مزنٍ شجّ كأس رحيق ... ريق المهفهف فيه أعذب ريق

أذرى لخوف البين حرّ مدامعٍ ... في در خدٍّ فيه ذوب عقيق
هو في تناهي صدق حسنٍ فائقٌ ... في حسن صورة يوسف الصديق
قامت على رجلٍ به الدنيا لنا ... إن قام بالمنديل والإبريق
فرأى على قلبي لواحظ طرفه ... وتلا كتاب الحب بالتحقيق
إن دام ذا في حسنه أبداً لنا ... سمّي فقيه العصر بالزنديق
قال: فقال المأمون: أحسنت ويحك فمن صاحب هذه الأبيات؟ قلت: فلانٌ يا أمير المؤمنين. فقال: أشعر والله منه في هذا المعنى شيخ الشعراء أبو نواس حيث يقول:
كُفّي فلست لعاذلٍ بمطيق ... بلغ الهوى بي غاية التحقيق
قطع الهوى فرط الشباب بباطلٍ ... أيدي الزمان وألسن التصديق
وجداولٌ موصولةٌ بجداولٍ ... من صوب غاديةٍ ولمع بروق
تكسو مدامعه الرياض عرائساً ... من نرجسٍ متكاثفٍ وشقيق
باكرتها قبل الصباح بسحرةٍ ... قبل ابتكار مجرة العيّوق
من كف أحور ذي عذارٍ أخضرٍ ... يسبي القلوب بقدّه الممشوق
فكأن ما في الكأس من إبريقه ... نارٌ تسلل من فم الإبريق
وكأنها والماء يأخذ جسمها ... درٌّ يُنثر فوق أرض عقيق
وتضوع مسكاً في الزجاجة أذفراً ... ذوب الشباب معصفراً بخلوق
قمرٌ عليه من البدائع حلةٌ ... يسقيك كأس هوىً وكأس رحيق
ما طاب عيش فتىً يطيب بغيرها ... لا سيما إن شجها بالريق
يغنيك عن ورد الرياض وزهرها ... منه تورّد خدّه المعشوق
قال فقلت: يا أمير المؤمنين قد حضرني في هذا المعنى شيء فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشاده؟ قال: هات. فقلت:
جسمٌ مركَّبه في العين إنسيُّ ... وفي اللطافة والأجناس عدنيُّ
ما يعرف الطرف من أعراض جوهره ... إلا الذي يخبر الفكر القياسي
وكلّ من غاص في إدراك صورته ... فإنما نطقه في ذاك وهميّ
حاز المحاسن والأنوار أجمعها ... فالحسن من حسنه في الخلق جزئي
إذا العيون تراءته تراهقها ... من حسن صورته اللحظ الظلامي
ما دبّ في فطن الأوهام من حسنٍ ... إلا وكان له الحظ الخصوصي
كأن جبهته من تحت طرته ... بدرٌ يتوجه الليل البهيمي
كأن عينيه خرطا جزعتي يمنٍ ... من كل حافاتها سهم صيابيّ
كأن صدغيه قافا كاتبٍ مشقا ... من فوق ياقوتةٍ والخد وردي
كأنما الثغر منه في تبسمه ... درٌ تفلّق عنه البحر لجيّ
كأنما الردف منه إذ يميس به ... موجٌ يكفكفه الريح الجنوبي
لو مس أجبال ماهان لفجّرها ... بالماء يسعده الطلّ الغمامي
أو لامس الماء لانسابت أنامله ... كالثلج حلّ به الودق السخامي
جنسيُّ نورٍ على كنهيّ جوهرةٍ ... من روح قدسٍ أو الأنوار بريّ
يسقي بجوهرةٍ في جوف جوهرةٍ ... من نور جوهرةٍ واللون جنسي
ماءٌ وماءٌ وفي ماءٍ يديرهما ... ماءٌ خلافهما والطيب تيهيّ
قد جلّ عن طيب أهل الأرض عنبره ... ومسكه فهو الطيب السماويّ
إذا رأته عيون الخلق أحسرها ... نوراً ولاحظها الحسن الهوائيّ
كادت محاسنه من لطف رقته ... تصير عيباً وما للعيب كيفيّ
سبحان خالقه ماذا أراد به ... لولاه لم يكن الفعل السريريّ
إذا أدار علينا الكأس جمّشه ... من ودّ أسرارنا ودٌّ حقيقي
مصورٌ طرفت عين الزمان به ... واكتنّه من جناح الخفض علويّ

قال: فتبسم المأمون وقال: أحسنت والله يا أسواري، فلمن هذا ويحك؟ قلت: لعبدك النظّام. فقال: أحسن فيما وصف وأحسنت في تعبيرك عنه. ثم سقاني وأمر لي بخمسين ألف درهم وأمر للنظام بمثلها.
أحمد بن القاسم قال: كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلقٍ على قفاه فقال لعبد الله: يا أبا العباس من أشعر الناس في زماننا؟ فقال: أمير المؤمنين أعرف بهذا مني. قال: على حالٍ. قال الذي يقول:
أيا قبر معنٍ كنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطّت للمكارم أجمعا
قال أحمد: فقلت أشعرهم الذي يقول:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
فقال المأمون: أين أنتما عن قول أبي نواس:
يا شقيق النفس من حكمٍ ... نمت عن ليلي ولم أنم
قال: وقال المأمون لعبد الله بن طاهر في الحلبة وقد ارتفعت أصوات العامة: يا أبا العباس سكّن العامة. قال عبد الله: فوثتب أنا ومن معي فارتفع من أصواتنا وضجيجنا أكثر مما كان، فقال لي: أتدلّ بالرياسة ولا بصر لك بالسياسة، هكذا تسكّن العامة؟ هلا ناديت الأقربين لينادي الأقربون الأبعدين! قال: فوالله ما ميزّت بين تأديبه وبين نغرانه.
قال: وقال الحسن بن الفضل بن الربيع: خرج علينا المهديّ متنكراً ومعه الربيع والمسيّب بن زهير يطوف في الأسواق إذ نظر إلى أعرابي ينشد فقال الربيع: أخبرني عن أرق بيت قالته العرب، قال: بيت امريء القيس بن حجر:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلبٍ مقتّل
فقال المهدي: بيت قد داسته العامة وفيه غلطٌ. ثم قال للمسيب: هات ما عندك. فقال:
ومما شجاني أنها يوم أعرضت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرةٍ ... إليّ التفاتاً أسلمتها المحاجر
وسلمتها أيضاً. فقال: وإن هذا قريبٌ من ذاك. وخلفهم شابّ من أهل المدينة له أدب وظرف وقدم متظلماً فطال مقامه على باب المهدي، فلما سمع ذلك منهم حمله ظرف الأدب على أن أدخل نفسه بينهم واتصل بهم وقال: أتأذنون أن أخوض معكم فيما أنتم فيه؟ قالوا: ماذا؟ قال قال الأحوص:
إذا قلت إني مشتفٍ بلقائها ... فحمُّ التلاقي بيننا زادني وجدا
فقال المهدي: أحسنت يا فتى، فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أهل المدينة. قال: وما أقدمك العراق؟ قال: مظلمة لي أنا مقيم عليها بباب الخليفة منذ كذا وكذا وقد أضرّ بي ذلك. فقال للربيع: عليك بالرجل. فأخذه معه وسامره أياماً ثم أمر بردّ مظلمته وقضى حوائجه وأمر له بصلة عشرة آلاف درهم.
قال النضر بن شميل: حدثني الفرّاء عن الكسائي قال: دعاني الرشيد ذات يوم وما عنده إلا حاشيته فقال: يا علي أتحب أن ترى محمداً وعبد الله؟ قلت: ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين وأسرّ إليّ معاينة نعمة الله جل وعز على أمير المؤمنين فيهما وبهما، فأمر بإحضارهما، فأقبلا كأنهما كوكبا أفقٍ يزينهما هديهما ووقارهما، قد غضا أبصارهما وقاربا خطوهما، حتى وقفا بباب المجلس فسلما بالخلافة ثم قالا: تمم الله على أمير المؤمنين نعمه وشفعها بشكره وجعل ما قلّده من هذا الأمر أحمد عاقبة ما يؤول إليه أمر حمداً اختصه به وأخلصه له بالبقاء وكثّره لديه بالنماء ولا كدّر عليه منه ما صفا ولا خالط مسروره الردى، فقد صرت للمسلمين ثقة ومستراحاً إليك يفزعون في أمورهم ويقصدون في حوائجهم، فأمرهما بالدنو وصيّر محمداً عن يمينه وعبد الله عن يساره ثم التفت إلي ّفقال: يا علي ما زلت ساهراً مفكراً في معاني أبيات قد خفيت عليّ. قلت: إن رأي أمير المؤمنين أن ينشدنيها؟ فأنشدني:
قد قلت قولاً للغراب إذ حجل ... عليك بالقود المسانيف الأول
تغدّ ما شئت على غير عجل
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن العير إذا فصلت من خيبر وعليها التمر يقع الغراب على آخر العير فيطردها السواق، يقول هذا: تقدم إلى أوائل العير فكل على غير عجل، والقود الطوال الأعناق، والمسانيف المقدمة. ثم أنشدني:
لعمري لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمار إنني لجهول

قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل من العرب إذا دخل خيبر أكبّ على أربع وعشر تعشير الحمار، وهو أن ينهق عشر نهقات متتابعات، يفعل ذلك ليدفع عن نفسه حمّى خيبر. ثم أنشدني في قول الآخر:
أجاعلٌ أنت بيقوراً مضرّمةً ... ذريعةً لك بين الله والمطر
قلت: نعم، كانت العرب إذا أبطأ المطر تشد العشر والسلع، وهما ضربان من النبت، في أذناب البقر وألهبوا فيه النار وشردوا بالبقر تفاؤلاً بالبرق والمطر، ثم أنشدني:
لعمرك ما لام الفتى مثل نفسه ... إذا كانت الأحياء تعدى ثيابها
وآذن بالتصفيق من ساء ظنه ... فلم يدر من أي اليدين جوابها
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الرجل إذا ضلّ في المفازة قلب ثيابه وصاح كأنه يوميء إلى إنسان ويشتد شدة ويصفق بيديه فيهتدي الطريق. ثم أنشدني:
قوداء تملك رحلها ... مثل اليتيم من الأرانب
قلت: نعم، يقول: هذه ناقة مثل اليتيم من الاكام، واليتيم الواحد من كل شيء، والأرانب الاكام. ثم أنشدني لآخر أيضاً:
إلى الله أشكو هجمةً هجريةً ... تعاورها مرُّ السنين العوابر
فعادت رذايا تحمل الطبن بعدما ... تكون قرىً للمعتفين المفاقر
قلت: هذا رجل في بستانه نخيل أتى عليها الدهر فجفّت فقطعها وصيرها أجذاعاً وسقّف بها البيوت، فقال: هذه الأجذاع كانت تحمل الرطب، فأُكل وأطعم الأضياف فجفّت فقطعتها وسقّف بها البيوت فهي تحمل الطين، يعني ما فوقها من اللبن والتراب وغير ذلك. ثم أنشدني لرجل آخر:
وسربٌ ملاحٍ قد رأيت وجوههم ... إناثٌ أدانيه ذكورٌ أواخره
يعني الأضراس، ثم أنشدني لآخر:
فإني إذاً كالثور يضرب جنبه ... إذا لم يعف شرباً وعافت صواحبه
قلت: نعم، كانت العرب إذا أودت البقر الماء فشربت الثيران وأبت البقر ضربت الثيران حتى تشرب البقر، وهو كما قال: كالثور يُضرب لما عافت البقر. ثم أنشدني:
ومنحدرٍ من رأس برقاء حطه ... مخافة بينٍ أو حبيبٌ مزايل
قلت: نعم، يعني الدموع، والبرقاء العين لأن فيها سواداً وبياضاً، حطه أسأله، حبيب محبوب، مزايل مفارق. قال فوثب الرشيد فجذبني إلى صدره وقال: لله در أهل الأدب! ثم دعا بجارية فقال لها: احملي إلى منزل الكسائي خمس بدر على أعناق خمسة أعبد يلزمون خدمته، ثم قال: استنشدهما، يعني ابنيه، فأنشدني محمد الأمين:
وإني لعفُّ الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكلٍ لا يوافقه شكلي
وشكلي شكلٌ لا يقوم بمثله ... من الناس إلا كلُّ ذي نيقةٍ مثلي
ولي نيقةٌ في المجد والبذل لم يكن ... تأنقها فيما مضى أحدٌ قبلي
وأجعل مالي دون عرضي جُنّةً ... لنفسي وأستغني بما كان من فضلي
وأنشدني عبد الله المأمون:
بكرت تلومك مطلع الفجر ... ولقد تلوم بغير ما تدري
ما إن ملكت مصيبةً نزلت ... إذ لا يُحكّم طائعاً أمري
ملك الملوك عليّ مقتدرٌ ... يعطي إذا ما شاء من يسر
فلرب مغتبطٍ بمرزئةٍ ... ومفجّعٍ بنوائب الدهر
ومكاشح لي قد مددت له ... نحراً بلا ضرعٍ ولا غمر
حتى يقول لنفسه لهفاً: ... في أي مذهب غايةٍ أجري
وترى قناتي حين يغمزها ... غمز الثقاف بطيئة الكسر
فقال: يا علي فكيف تراهما؟ فقلت:
أرى قمري أفقٍ وفرعي بشامةٍ ... يزينهما عرقٌ كريمٌ ومحتد
يسدان آفاق السماء بشيمةٍ ... يؤيدها حزمٌ وعضبٌ مهند
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبي محمد

ثم قلت: يا أمير المؤمنين زرع زكا أصله وطاب مغرسه وتمكنت عروقه وعذبت مشاربه، غذاهما ملك أعز نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم والقدر، علاهما فعليا، وحكّمهما فتحاكما، وعلمهما فتعلما، فهما يطولان بطوله ويستضيئان بنوره وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته، فما رأيت أحداً من أبناء الخلفاء أذرب منهما لساناً، ولا أعذب كلاماً، ولا أحسن ألفاظاً، ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا، فاسأل الله أن يزيدهما بالإيمان تأييداً وعزاً، ويمتع أمير المؤمنين بهما ويمتعهما بدوام قدرته وسلطانه ما بقي ليل وأضاء نهار.
فضمهما إلى صدره وجمع يديه عليهما فلم يبسطهما حتى رأيت دموعه تتحادر على صدره رقةً وإشفاقاً، ثم أمرهما بالخروج.
قال: ثم أقبل علينا وقال: كأنكم بهما وقد نجم القضاء ونزلت مقادير السماء وبلغ الكتاب أجله وانتهى الأمر إلى وقته المحدود وحينه المسطور الذي لا يدفعه دافع ولا يمنع منه مانع، وقد تشتت أمرهما وافترقت كلمتهما وظهر تعاديهما وانقطعت الرقة بينهما حتى تسفك الدماء وتكثر القتلى وتهتك ستور النساء وتمنى كثير من الأحياء أنهم بمنزلة الموتى. قلت: يا أمير المؤمنين أوكائن ذلك؟ قال: نعم. قلت: لأمر رأيته أو رؤيا أريته أو لشيء تبين لك في أصل مولدهما أم لأثر وقع لأمير المؤمنين في أمرهما؟ قال: بل أثر واجب صحيح حملته العلماء عن الأوصياء وحملته الأوصياء عن الأنبياء، عليهم السلام.
قال: وحدث الأصمعي أنه دخل ذات يوم على أمير المؤمنين الرشيد وكان لا يحجب عنه وكان في فرد رجليه خفّ وفي الأخرى جورب لعلة كان يجدها، فسامره ساعة ثم نهض ليخرج فقال له الرشيد: يا أصمعي ماذا تشتهي أن يتخذ لك ليتقدم فيه وتتغدى معنا؟ فقال: أشتهي رقاقاً وجوزلاً شخصاً. فلم يعرف الرشيد ما قاله الأصمعي وكره أن يسأله عنه فتقدم إلى الطباخ أن يتبعه ويسأله من تلقاء نفسه ويوهمه أنه تقدم إليه فيه فلم يعرفه، فقال له: الرقاق معروف والجوزل الفرخ السمين. فمضى الطباخ وعرف الرشيد ذلك وأصلح للأصمعي ما طلبه وعاد فتغدى مع الرشيد. فلما أكل أمر بأن يحمل معه عشرون ألف درهم.
وحدث الأصمعي قال: دخلت ذات يوم على الرشيد فقال لي: اكتب يا أصمعي ولو على تِكّتك أو طرف ثوبك:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك في نعمةٍ ... زاد الذي زادك في الغم
قال: فكتبت البيتين.
قال وقال الأصمعي: بينا أنا ذات يوم قد خرجت في الهاجرة والجو يلتهب ويتوقد حراً إذ أبصرت جارية سوادء قد خرجت من دار المأمون ومعها جرة فضة تستقي فيها ماء وهي تردد هذا البيت بحلاوة لفظ وذرابة لسان:
حرُّ وجدٍ وحرُّ هجرٍ وحرُّ ... أي عيشٍ يكون من ذا أمرُّ
قال فقلت لها: يا جارية ما شأنك؟ فقالت: إني من دار أمير المؤمنين المأمون وأنا أحب عبداً له أسود وإنه قد هجرني ولا أحسن أن أخرج سري إلى أحد.
قال: فمضيت واستأذنت على المأمون، وإذا هو نائم فأذن لي، وقد كان أمر أن لا أحجب عنه على أي حال كان. فدخلت عليه وهو في مرقده فقال: ما جاء بك يا أصمعي في هذا الوقت؟ قلت: يا أ مير المؤمنين تهب لي جاريتك السوداء وعبدك الأسود فلاناً؟ فقال: قد فعلت ذلك وهما لك افعل بهما ما شئت. فخرجت من عنده وأحضرتٌهما وجمعت من أهل الدار من حضر وأعتقتهما وزوجت الجارية من العبد ثم عدت إلى المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إني فعلت كيت وكيت وإني أريد الآن ما أجهزهما به. فأمر لكل واحد منهما بعشرة آلاف درهم وأمر لي بمثل ذلك وخرجت من عنده وعاد هو إلى نومه.
وحدثنا عبد الله بن سلام قال: لما ولد العباس بن الفضل دخل الناس على الفضل بن يحيى يهنئونه به وفيهم أبو النضير، فوقف بين يديه وهو يقول:
ويفرح بالمولود من آل برمكٍ ... بغاة الندى والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله ... .. . . . . . . .
فأُرتج عليه فوقف لا يمكنه أن يجيزه. فقال له الفضل: يا أبا النضير تمم، قال: أعز الله الأمير. قال: ويحك فقل:
.. . . . . . . . . . ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل
قال: هذا والله، أصلح الله الأمير، طلبته فلم أقدر عليه وتعللت بغيره.

قال: وقيل لأبي العيناء: ما بال العمى قد صار في صغاركم وكباركم حتى إنه يلحق الطفل منكم؟ فقال: نعم الطينة الملعونة والدعوة المشؤومة، وذلك أنه سلم بعض الخلفاء رجلاً من آل أبي طالب إلى جدنا الأكبر فقتله ودعا عليه فلحقتنا دعوته فما تراه فهو من تلك الدعوة.
واجتاز أبو العيناء ذات يوم فسمع غناء لم يعجبه فسأل أبو العيناء عن صاحب الغناء فلما قيل له إنه أبو الحمار قال: صدق الله إن أنكر الأصوات لصوت الحمير. وكان عماً لمحمد بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل.
قيل: ولما صدر المعتصم بالله عن بلاد الروم وصار بناحية الرقة قال لعمرو بن مسعدة: يا عمرو أشرت عليّ بالرخجي فوليته الأهواز فقد قعد في سلة الدنيا يأكلها خضماً وقضماً. فقلت: يا أمير المؤمنين فأنا أوجه إليه رسولاً يبعث إليك بالأموال ولو على أجنحة الطير. قال: كلا ولكن اشخص إليه بنفسك كما أشرت به. قال: ففكرت في أن أنزل عن الوزارة وأصير مستحثاً على عامل. فقلت: يا أمير المؤمنين أن أقع إليه. قال: فضع يدك على رأسي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً حتى تلحق به، فوضعت يدي على رأسه وحلفت له، وانحدرت إلى بغداد فسلمت على أهلي وإخواني وأخذت زلالاً فعلّقت عليه الخيش وبسط لي فيه الطبري وملأته بالثلج وسرنا.
فلما صرنا بين دير العاقول ودير هزقل إذا أنا برجل على الشط يصيح: يا ملاح رجل منقطع أريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله! فقلت: احملوه. فقال: يا مولاي هذا رجل من هؤلاء الشحاذين يؤذيك ويقذر عليك زلالك. فقلت: احمله ويلك! فقرب إليه الزلال فحمله في مؤخره. وحضر الغداء فتحوبت أن لا أدعوه فقلت له: هلم. فقام حتى جاء فأكل أكل جائع نهم إلا أنه كان نظيف الأكل، فلما فرغ من الغداء أردت منه ما تفعله العامة بالخاصة أن يقوم فيغسل يده ناحيةً فلم يفعل. فغمزه الغلام وسائر الغلمان فلم يقم. فتناومت عليه فلم يقم. فقلت له: ما صناعتك؟ قال: حائك، جعلت فداك. فقلت: هذا أنا فعلته بنفسي. فقال لي: وأنت فما صناعتك؟ فقلت: كاتب. فقال: الكتاب خمسة، فأيهم أنت؟ فأورد علي شيئاً عجبت منه.
فقلت: عدّهم. قال: كاتب رسائل يجب أن يعرف الوصول والفصول والترغيب والترهيب والجوابات. قلت: نعم. قال: وكاتب خراج يجب أن يعرف المساحة والذراع والأشول والتقسيط، قلت: نعم. قال: وكاتب قاضٍ يجب أن يعرف الحلال والحرام والتأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه والمقالات والاختلافات. قلت: نعم. قال: وكاتب جندٍ يجب أن يعرف الحلي والشيات.
قلت: نعم. قال: وكاتب شرطة يجب أن يعرف الشجاج والجرحات. فأيهم أنت؟ قلت: كاتب رسائل.
قال: فصديق لك تكاتبه في المحبوب والمكروه تزوجت أمه كيف تكتب إليه تهنئةً أو تعزيةً؟ قلت: هو والله إلى التعزية أقرب. قال: فكيف تعزيه؟ قلت: لا أجد إلى ذلك سبيلاً. قال: فلست بكاتب رسائل! قلت: أنا كاتب خراج. قال: فولاك أمير المؤمنين بلدة وأمرك بالنفوذ فخرجت إلى عملك فبثثت عمّالك في العمل فجاء إليك قوم يتظلمون من عامل زاد عليهم في المساحة فخرجت معهم فوقفوا على قراح كأنه قاتل فيئاً كيف تمسحه؟ قلت: اضرب وسطه في طرفيه. قال: تتثنى عليك القطوع. قلت: فكيف أمسحه؟ قال: لست بكاتب خراج! قلت: أنا كاتب قاضٍ. قال: فإن رجلاً خلّف حرّة حاملاً وسرية حاملاً فولدتا في ليلة واحدة الحرة جارية والسرية غلاماً، فلما علمت الحرة بذلك حملتها الغيرة على أن وضعت الجارية في مهد السرية وأخذت الابن، فقالت السرية من الغد: الابن لي، فتحاكمتا في ذلك إلى القاضي وأنت حاضر فقال لك: اقض بينهما، بم كنت تقضي؟ قلت: لا علم لي بذلك. قال: لست بكاتب قاض! قلت: أنا كاتب جند. قال: الله أكبر! تقدم إليك رجلان من أهل عملك أو من أهل عسكرك أسماؤهما واحدٌ يقال لهذا أحمد ولهذا أحمد، هذا مشقوق الشفة من فوق وهذا من أسفل، كيف تحلّيهما؟ قلت: أكتب أحمد الأعلم وأحمد الأعلم. قال: إذاً يأخذ هذا عطاء هذا وهذا عطاء هذا. قلت: فكيف أصنع؟ قال: لست بكاتب جند! قلت: أنا كاتب شرطة. قال: تقدم عليك رجلان قد شج الآخر موضحة وشج الآخر مأمومة كم بينهما من الإبل؟ قلت: لا أدري. قال: لست بكاتب شرطة!

فقلت: فسّر ما قلت. قال: أما الرجل الذي تزوجت أمه فتكتب إليه أن الأقدار تجري بخلاف محابّ المخلوقين، وستر في عافية خير من شانئة في أهلها، والله يختار للعباد، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبور أكرم الأكفاء.
وأما القراح فتمسح اعوجاجه ثم تنظر مبلغ الطرفين فتضرب بعضه في بعض فإذا استوى في يدك عقده رجعت إلى المستوي فضربته فيه حتى يخرج سواء.
وأما الحرة والسرية فيوزن لبنهما فأيهما كانت أحدّ لبناً فالابن لها.
وأما الجند فتكتب هذا أدحم الأعلم وهذا أحمد الأفلج.
وأما الشجة ففي المأمومة ثلاثة وثلاثون من الإبل وفي الموضحة خمسة من الإبل فتردّ عليه ما بين ذلك.
قلت: ألست تزعم أنك حائك؟ قال: أنا حائك كلام قعد بي الدهر فخرجت أريد بعض القرابة فصادفته قد صرف عن العمل فبقيت على هذه الحالة.
قال: فدعوت المزين فنظفه ودعوت له بثلاث خلع وصرت به إلى الرخجي وكلمته في أمره فوهب له خمسين ألف درهم وحمله على ثلاثة من الظهر ورجعت إلى أمير المؤمنين بالأموال، فقال: يا عمرو ما رأيت في طريقك؟ فأخبرته بقصة الرجل. فأطال التعجب منه وقال: ما فعل؟ قلت: يصير إليّ في كل يوم. قال: لما يصلح من الأعمال؟ قلت: للهندسة. قال: فوله. قال عمرو: فنظرت إليه بعد ذلك وهو يركب في موكب عظيم.
البيهقيّ قال البحتريّ: كنت قاعداً مع المتوكل إذ مرت سحابة فقال قل فيها. فقلت:
اذت ارتجاعٍ بحنين الرعد ... جرورة الذيل صدوق الوعد
مسفوحة الدمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد
ورنّة مثل رنين الأسدولمع برقٍكسيوف الهند
جاءت به ريح الصبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد
فأضحت الأرض بعيشٍ رغد ... كأنما غدرانها في الوهد
يلعبن من حبابها بالنرد
ثم أنشدته لمروان بن أبي حفصة:
لما سمعت ببيعةٍ لمحمد ... شفت النفوس وأذهبت أحزانها
بايعت مغتبطاً ولو لم تنبسط ... كفّي لبيعته قطعت بنانها
حتى انتهيت إلى قوله:
رجحت زبيدة والنساء شوائلٌ ... والله أرجح بالتقى ميزانها
فصاح بي صيحة فقال: كذبت وألمت يا عربدة! قل: رجحت قبيحة. ثم قال: أنشدني. فأنشدته للطائي:
لست لربعٍ عفا ولا قدمه ... ولست من كاتب ولا قلمه
فإن من يفخر الملوك به ... ويستعير الكريم من كرمه
ألحقني بالملوك معتصمٌ ... بالله والمسلمون في عصمه
خُلقت من طين مباركةٍ ... فالبرُّ من خيمه ومن شيمه
مازال إحسانه ونعمته ... عليّ حتى غرقت في نعمه
فأسأل الله فضل نعمته ... والأمن من بأسه ومن نقمه
فلما سمعها ارتاح وقال: أحسنت والله وما جزاؤك إلا أن أقطعك من موضعك إلى حيث تبلغ أمنيتك، فسل تعط. قال: ففكرت ساعة ثم قلت: تعطيني فتراً في فتر من قلبك. فقال: أحسنت أحسنت! أنت والله في هذا أشعر من الطائي في شعره. ثم قال: أنشدني. فأنشدته للحسين بن الضحاك:
كم لك لما احتمل القطين ... من زفرةٍ يتبعها الأنين
وعبرةٍ تحدرها الشوؤن ... إني ببغداد لمستكين
حظ الغريب الشوق والشجون ... يا لائمي لكل يومٍ هون
إليك عني إنني مفتون ... الشعر مني كاسدٌ ودون
وحان من تحريكه تسكين ... قد ركبت أربابها الديون
بضاعة أكسدها المأمون ... إمام عدلٍ للتقى أمين
قال: أحسنت يا أبا عبادة فماذا فعل به المأمون بعد إذ هجاه؟ قلت: أعيذك بالله من أن يجسر على هجاء المأمون. قال: فمن القائل فيه:
ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا طريداً مشرّدا
قلت: يا أمير المؤمنين دعاه الموق والحين إلى هذا. قال: لا بأس فإنه قد تلا في هذا الكلام قوله:
رأى اللهُ عبد اللهِ خير عباده ... فملّكه والله أعلم بالعبد
قال فقلت: يا أمير المؤمنين أثقلت ظهري بالفوائد، فقال: إنا نأخذ ونعطي ونأتي بما يحيي المهج.

مساوئ من ذم الأدب

قال بعضهم: كثرة الأدب في غير طاعة الله قائدة الذنوب. وقال: ما أحدٌ زيد في عقله إلا انتقص من رزقه. وأنشد في ذلك:
ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا ... عنان شأوي عما رمت من هممي
أما الدواة فأضنى حبها بدني ... وقلّم المال مني حرفة القلم
والعلم يعلم أني حين أندبه ... لدفع نائبةٍ خلوٌ من العصم
ولآخر، وقيل إنه للخليل بن أحمد:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسرّ به ... إلا تبينت حرفاً تحته شوم
إن المقدم في حذقٍ بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم

مساوئ اللحن
قال يونس بن حبيب النحوي: أول من أسس العربية وفتح بابها ونهج سبيلها أبو الأسود الدئلي واسمه ظالم بن عمرو. فقال له الحجاج: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال: كلا، الأمير أفصح العرب. قال: أقسمت عليك! قال: حرفاً واحداً تلحن فيه. فقال: وما هو؟ قال: في القرآن. قال: ذاك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول لو كان آباؤكم وأبناؤكم، حتى تبلغ: أحب إليكم من الله ورسوله، تقرأها بالرفع. قال فقال له: لا جرم لا تسمع لي لحناً أبداً. فنفاه إلى خراسان وعليها يزيد بن المهلب. فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو وفعلنا وصنعنا واضطررناهم إلى عرعرة الجبل، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ فقيل: ظالم بن عمرو هناك. قال: فذاك إذاً.
قال وقال المأمون وقد سمع من بعض ولده كلاماً أسرع فيه اللحن إلى لسانه: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده ويزين مشهده ويتملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه ويقلّ حجج خصمه بسكنات حكمته، أويسرُّ أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده وأمته ولا يزال أسير كلمته؟ قاتل الله القائل حيث يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وفي الحديث المرفوع: رحم الله عبداً أصلح لسانه.
قيل: وكتب غسان بن رفيع إلى أبي عثمان بكر بن محمد المازني النحوي:
تفكرت في النحو حتى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن
وأتعبت بكراً وأصحابه ... بطول المسائل في كل فن
فكنت بظاهره عالماً ... وكنت بباطنه ذا فطن
خلا أن باباً عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن
وللواو بابٌ إلى جنبه ... من المقت أحسبه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين
أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النصب قالوا لإضمار أن
قال: وكان الوليد بن عبد الملك لحّانة فدخل عليه أعرابي فقال: من ختنَك؟ قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول: من ختنُك؟ فقال: ها هوذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا؟ فقال: النحو الذي كنت أخبرك عنه. فقال: لاجرم لا أصلي بالناس حتى أتعلمه.
وسمع إعرابي رجلاً يقول: أشهد أن محمد رسول الله. فقال: يفعل ماذا؟ قال وقال مولى لزياد: أيها الأمير أخذوا لنا همارَ وهشٍ. فقال له: ما تقول ويحك؟ فقال: أخذوا لنا أيراً " يريد عيراً " . فقال زياد: الأول خير.
قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا. فقال زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضيعت من ميراثك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ولداً مثلك.
قال: وعزم رجل من أهل الشام على لقاء المأمون فاستشار رجلاً من أصحابه فقال: على أي جهة أصلح أن ألقى أمير المؤمنين؟ قال: على الفصاحة، قال: ليس عندي منها شيء وإني لألحن في كلامي كثيراً. قال: فعليك بالرفع فإنه أكثر ما يستعمل. فدخل على المأمون فقال: السلام عليك يا أ مير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا غلام اصفع، فصُفع. قال: بسمُ اللهُ، فقال: ويلك من صبّك على الرفع؟ قال: وكيف لا أرفع من رفع الله! فضحك وقضى حاجته.

قال: واختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز فجعلا يلحنان فقال الحاجب: قُما فقد أوذيتما أميرُ المؤمنين. فقال عمر: أنت والله أشدّ أذاء إليّ منهما.
وعن أبي داود قال: أرسل المعتصم إلى أشناس فطلب منه كلب صيد فوجه به إليه فرده وهو يعرج. فكتب إليه أشناس بشعر قاله:
الكلب أخذت جيدٌ مكسور رجلٍ جبت
ُردَّ جيدٌ كما كلبٌ كنت أخذت
فكتب إليه المعتصم:
الكلب كان يعرجُ يوم الذي به بعثت
لو كان جاء مخبراً خبّر رجلُ كلبٍ أنت
قال: وقال بشر المريسيّ وكان كثير اللحن: قضى لكم الأمراء على أحسن الوجوه وأهنؤها. فقال القاسم التمار: هذا على قوله:
إن سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيءٍ ما كان يرزؤها
فكان احتجاج القاسم أطيب من لحن بشر.
قال: وكان زياد النبطي شديد اللكنة وكان نحوياً فدعا غلامه ثلاثاً فلما أجابه قال: فمن لدن دأوتك فقلت لي إلى أن جيتني ما كنت تصنأ، يريد دعوتك وتصنع.
قال: ومرّ ماسرجويه الطبيب بمعاذ بن سعيد فقال: يا ماسرجويه إني أجد في حلقي بححاً، قال: هو من عمل بلغمٍ، فلما جاوزه قال: تراني لا أحسن أن أقول بلغم، ولكنه قال بالعربية فأجبته بخلافه.
وقال ثمامة: بكر أحمد بن أبي خالد يوماً يعرض القصص على المأمون فمرّ بقصة فلان اليزيدي وكان جائعاً فصحّف وقال: فلان الثريدي، فضحك المأمون وقال: يا غلام ثريدة ضخمة لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً. فخجل أحمد وقال: ما أما بجائع يا سيدي ولكن صاحب القصة أحمق وضع على نسبته ثلاث نقطات كأثافي القدر، قال: دع هذا فالجوع اضطرك إلى ذكر الثريد والقدر. فجاؤوه بصحفة عظيمة كثيرة العُراق والودك فاحتشم أحمد. فقال المأمون: بحياتي عليك إلا عدلت نحوها، فوضع القصص ومال إلى الثريد فأكل حتى انتهى، فلما فرغ دعا بطشت فغسل يده ورجع إلى القصص فمرّ بقصة فلان الحمصي فقال: فلان الخبيصيّ. فضحك المأمون وقال: يا غلام هات جاماً فيه خبيص فإن طعام أبي العباس كان مثبوراً. فجعل أحمد وقال: يا أمير المؤمنين صاحب هذه القصة أحمق فتح الميم فصارت كأنها ثنتان. قال: دع عنك هذا فلولا حمقه وحمق صاحبه متّ جوعاً. فجاؤوه بجام فيه خبيص، فأتى عليه وغسل يده وعاد إلى القصص فما أسقط بحرف حتى فرغ.
حدثنا العباس بن جرير قال: كان للمهدي خصيّ كان معجباً فضمّ إليه معلماً نحوياً يعلّمه القرآن وكان الخصي عجمياً لا يُفصح فقال في هل أتى: يوماً عبوساً كمتريراً. وقال في الجن: نكعد منها مكاعد للسمع، فقال النحوي:
ولثقل الجبال أهون مما ... كلفوني من الخصيّ نجاح
نفّر النحو حين مرّ بلحيي ... ه فألفيته شديد الجماح
قال في هل أتى فأوجع قلبي ... كمتريرا وكدّه بالصياح
وقال رجل من الصالحين: لئن أعربنا في كلامنا حتى ما نلحن لقد لحنّا في أعمالنا حتى ما نعرب. وأنشد في مثله:
أما تراني وأثوابي مقاربةٌ ... ليست بخزٍّ ولا من خزّ كتان
فإن في المجد همّاتي وفي لغتي ... علويةٌ ولسان غير لحّان

محاسن الشعراء
قال الخليل بن أحمد: الشعراء أمراء الكلام يجوز لهم شق المنطق وإطلاق المعنى ومدّ المقصور وقصر الممدود.
وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة: افتتح الشعر بامريء القيس وختم بابن هرمة.
وقال أبو عبيدة: الشعراء في الجاهلية من أهل البادية أهل نجد، منهم: امرؤ القيس، والنابغة، وزهير، ودريد بن الصمة، ومنهم كثيّر في الإسلام، فهؤلاء الشعراء الفحول الذين مدحوا وفخروا وذموا ووصفوا الخيل والمطر والديار وأهلها، وأشعر أهل المدن أهل يثرب وأهل الطائف وعبد القيس، وليس في بني حنيفة شاعر، وأشعر الشعراء ثلاثة: امرؤ القيس، والنابغة، وزهير ثم الأعشى. وأشعر الفرسان ثلاثة: عنترة بن شداد، ودريد بن الصمة، وعمرو بن معدي كرب، وأشعر الشعراء المقلين ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وحصين بن حمام المريّ، وأشعر العرب واحدة طويلة جمعت جودة مع طول ثلاثة: طرفة بن العبد في قوله:
لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد
والحارث بن حلّزة في قوله:
آذنتنا ببينها أسماء
وعمرو بن كلثوم في قوله:
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا
وأشعر أهل زماننا ثلاثة: جرير، والفرزدق، والأخطل.

قيل: وسئل الأخطل: أيكم أشعر؟ فقال: أفخرنا الفرزدق، وأمدحنا وأوصفنا للخمر أنا، وأسهبنا وأنسبنا وأسبنا جرير، وأرجز الرجّاز في الإسلام وقبله العجاج، فإنه فتح أبواب الرجز واستوقف ووصف الديار وأهلها ووصف الخيل والمطر ومدح وذم، فذهب في الرجز مذهب امريء القيس في القصد وهو أرجز الرجاز، وقد قيل أرجز الرجاز ثلاثة: العجاج، وابنه رؤبة، وحميد الأرقط، وقال بعضهم: أبو النجم العجلي، وأجود الأراجيز قول رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
وقول أبي النجم:
الحمد لله الوهوب المجزل
قيل وقال مسلمة بن عبد الملك لخالد بن صفوان: صف لنا جريراً والفرزدق والأخطل. فقال: أصلح الله الأمير! أما أعظمهم فخراً وأبعدهم ذكراً وأحسنهم غزلاً وأحلاهم معاني وعللاً، الطامي إذا زخر والحامي إذا زأر والسامي إذا نظر، الذي إن أهدر قال وإن خطر صال وإن طلب نال، الفصيح اللسان السبّاق في الرهان فالفرزدق. وأما أهتكهم ستراً وأغزرهم بحراً وأرقّهم شعراً، والأغر الأبلق الذي إن طلب لم يُسبق وإن طُلب لم يلحق، الواصف للفرسان الناعت للأظعان بحلاوة وبيان فجرير، وأما أحسنهم نعتاً وأقلهم فوتاً وأمدحهم بيتاً، الذي إن هجا وضع وإن مدح رفع وإن حاز أفظع، البعيد المتان الماضي الجنان الممداح للسلطان فالأخطل. وكلهم، أصلح الله الأمير، طويل النجاد رفيع العماد ذكيّ الفؤاد.
قال: فصف لنا الشعراء العشرة، فقال: قصتهم مفسرة، أما أحسنهم نسيباً وتشبيباً وأشدهم تأليباً فامرؤ القيس. وأما أفحلهم مقالاً وأنبلهم رجالاً وأكرمهم فعالاً فزهير. وأما أرجحهم كلاماً وأنبلهم مقاماً وأشرفهم أياماً فأوس بن حجر. وأما أفصحهم لساناً وأثبتهم بنياناً وأشدهم إذعاناً فالنابغة، وأما أطردهم للصيد وأجحشهم في الكيد وأدرجهم في القيد فعديّ بن زيد.
وأما أوصفهم للسلاح وأنعتهم للقداح والحرب ذات الكفاح فابن مقبل. وأما أوصفهم للسيئين وأكسبهم للمئين وأمدحهم أجمعين فالحطيئة. وأما أهجاهم للرجال وأبذّهم في المقال وأضربهم للأمثال فطرفة. وأما أعفهم عن الكاس وأحضهم على الباس وأصدقهم عند الناس فسلامة بن جندل.
قال: وقال العتابي في ذكر أبي نواس: لو أدرك الخبيث الجاهلية ما فُضّل عليه أحد.
وقال أبو عمرو بن العلاء: أشعر الناس في صفة الخمر ثلاثة: الأعشى والأخطل وأبو نواس.
وقال إبراهيم النظام: كأنما كشف لأبي نواس عن معاني الشعر فاختار أحسنها.
وقال أبو عبيدة: أبو نواس للمحدثين كامريء القيس للأوائل هو فتح لهم هذه الفطن ودلّهم على المعاني.

وفي مدح الشعراء
قال: لما قال حسان بن ثابت للحارث بن عوف المري وهو مشرك:
وأمانة المرّيّ حيث لقيته ... مثل الزجاجة صدعها لم يجبر
قال الحارث للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا محمد أجرني من شعر حسان فوالله لو مزج به البحر لمزجه.
قال: وكان كعب بن مالك ينشد رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
قضينا من تهامة كل ريبٍ ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخبّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لهو أسرع فيهم من السهم في غلس الظلام.
قال: ولما أنشد عبد الله بن رواحة رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
فثبّت اللهُ ما أتاك من حسنٍ ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نُصرا
أقبل عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، متبسماً ثم قال: وإياك فثبت الله، وهو الذي يقول يوم مؤتة:
أقسمت يا نفسِ لتنزلنه ... طائعةً أو لتكَرّهنّه
ما لي أراك تكرهين الجنه
قال: وحدا رجلٌ برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنةً أبينا
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من يقولها؟ قال: أبي. قال يرحمه الله.
مساوئ الشعراء
قيل: ليس أحد من الناس آكل للسحت وأنطق بالكذب ولا أوضع ولا أطمع ولا أقل نفساً ولا أدنى همةً من شاعر. ولذلك قال أبو سعد المخزومي:
الكلب والشاعر في حالةٍ ... يا ليت أني لم أكن شاعرا

هل هو إلا باسطٌ كفه ... يستطعم الوارد والصادرا
قال: ولما قال الهذيل الأشجعي في عبد الملك بن مروان:
إذا ذاتُ دلٍّ كلمته بحاجةٍ ... فهمّ بأن تقضى تنحنح أو سعل
قال عبد الملك: أخزاه الله! فلربما جاءتني السعلة والنحنحة وأنا وحدي في المتوضأ فأذكر قوله فأردها.
قال: ولما قال الشاعر في شهر بن حوشب:
لقد باع شهرٌ دينه بخريطةٍ ... فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر
فحلف لا يمس خريطة حتى مات.
وقال كعب بن جعيل: مكثت دهراً أهجو الناس ولا أُهجى حتى انبرى لي غلام من تغلب فقال:
تسميت كعباً بشرّ العظام ... وكان أبوك يسمّى الجعل
وأنت مكانك من وائلٍ ... مكان القراد من است الجمل
فما رفعت رأسي حتى الساعة.

ذكر من كره الشعر
قال إسحاق بن سليمان الهاشمي. دخلت على المنصور يوماً والإيوان قد غصّ بأهله، فقال: بلغني أنك تقول الشعر. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأنشدني شيئاً منه. فأنشدته قصيدة طويلة فيها مدح له. فلما فرغت قال: يا بني مالك وللمديح إياك وإياه واحذر الهجاء فإنهما لا يشبهانك وعليك من الشعر بالبيتين والثلاثة تقول ذلك تطرباً وتذكر فيه فضلاً وتحبباً.
قال: وقال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: يا ابن أخي إنك قد لهجت بالشعر فإياك والتشبيب فتهجن به كريماً والهجاء فتثير به لئيماً، وإياك والمدح فإنه كسب الخسيس، ولكن افخر بمآثر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك، فإن لم تجد بداً من المديح فقل كما قال الأول:
أحللت رحلي في بني ثعل ... إن الكريم للكريم مَحَل
قيل: وسئل رجل عن الشعر فقال: أسرى مروءة الدني وأدنى مروءة السريّ.
في ذم الشعر
قال الأصمعي: أنشد رجلٌ بشاراً العقيلي بيت الطرماح:
فما للنوى لا بارك الله في النوى ... وهمٌّ لنا منها كهمّ المباين
فقال: إن هذا البيت لو وثبت عليه الشاة لأكلته، يعني إعادته النوى في البيت مرتين، فقلت: صدق بشار، إعادة الأسماء في بيت أكثر من مرة عِيّ.
قال: وكتب محمد بن أبي عون إلى محمد بن عبد الله بن طاهر:
قد بعثنا بزهرة البستان ... بكر ما قد أتى من الريحان
ياسميناً ونرجساً قد بعثنا ... وبعثنا بسوسن البستان
فقرأهما محمد وقال: ثلاث مرات قد. وكتب إليه:
عون دقَّ الإله من فيك أدنا ... ه وأقصاه يا عيي اللسان
حشو بيتيك فيه قدٌّ وقدٌّ ... قدك الله بالحسام اليماني
ومنه مضاحيك الشعر
قيل: دخل رجل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين إني هجوت الروافض.
قال: هات، فقال:
شمساً ورغماً وزيتوناً ومظلمةً ... من أن ينالوا من الشيخين طغيانا
فقال: فسّر. قال: يا أمير المؤمنين أنت في مائة ألف أنت في مائة ألف لا تفهم هذا أفأفهمه وأنا وحدي! فضحك وأمر له بصلة.
الحمدوني قال: أتاني رجل فقال: قلت شعراً أحبّ أن أعرضه عليك، فقلت: هات. فقال:
إن لي حباً شديداً ... ليس ينحيه الفرار
فقلت: نعم هو شعر. فقال:
إن من أفلت منه ... لابسٌ ثوب المخازي
فقلت: ذاك راء وهذا زاي! قال: لا تنقطه. فقلت: فهبني لم أنقطه ذاك مرفوع وهذا مخفوض! قال: يا أحمق أنا أقول لا تنقطه وأنت تعجمه.
قال: وجاء رجل إلى حاجب إبراهيم بن إسماعيل عامل المدينة فقال: أدخلني عليه فإني قد مدحته ولك نصف ما يصلني منه. فقال: أنشدني ما قلت فيه. فقال: لا أفعل. قال: لا أدخلك. قال: فإني أنشدك. قال: هات. قال قلت:
كاد الأمير على تكرّمه ... أن لا يكون لأمه بظر
فقال الحاجب: يا عاض بظر أمه كان يعطيك ستمائة سوط لي منها ثلاثمائة! امض إلى حرق الله وناره.
محاسن المخاطبات
قال: ذكروا أن ابن القرية دخل على عبد الملك بن مروان، فبينا هو عنده إذ دخل بنو عبد الملك عليه، فقال: من هؤلاء الفتية يا أمير المؤمنين؟ قال: ولد أمير المؤمنين. قال: بارك الله لك فيهم كما بورك لأبيك فيك وبارك لهم فيك كما بورك لك في أبيك. فحشا فاه دراً.

قال: وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس وقد أمر له بجوهر نفيس: وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرّك، فوالله لئن أردنا شكرك على إنعامك ليقصرن شكرنا عن نعمتك كما قصر الله بنا عن منزلتك.
قال: ودخل شبيب بن شيبة على المهدي فقال: يا أمير المؤمنين إن الله جل وعز حيث قسم الدنيا لم يرض لك إلا بأرفعها وأشرفها فلا ترض لنفسك من الآخرة إلا بمثل ما رضي لك من الدنيا، وأوصيك يا أمير المؤمنين بتقوى الله فإنها عليكم نزلت ومنكم قُبلت وإليكم تُردّ.
قال: وقال إبراهيم الموصلي للهادي وقد غناه صوتاً أعجبه: إن من كان محله من الانبساط وتقارب الندام محلي جرّأه البسط على الطلب وبعثته المنادمة على الرجاء، وقد نصب لي أمير المؤمنين لقربي منه مشارع الرغبة وحثّني مكان حالي عنده على الكروع في النهل من يده. فقال له: سل حاجتك شفاهاً فإني جاعل فعلي إجابتك إليه حاضراً. فسأله قيمة خمس مائة ألف درهم فأعطاه ألف ألف درهم.
قيل: ودخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الرشيد فقال: كيف حالك؟ فقال:
سوامي سوام المكثرين تجملاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وآمرةٍ بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيءٌ ما إليه سبيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل
فقال الرشيد: هذا والله الشعر الذي صحّت معانيه وقويت أركانه ولذّ على أفواه القائلين وأسماع السامعين، يا غلام احمل إليه خمسين ألف درهم. قال إسحاق: كيف أقبل صلتك يا أمير المؤمنين وقد مدحت شعري بأكثر مما مدحتك؟ قال الأصمعي: فعلمت أنه أصيد للدرهم مني.
قال: وقال المأمون لإبراهيم بن المهدي: شاورت في أمرك فأشاروا عليّ بقتلك. فقال: أما أن يكونوا نصحوك فيما جرت به السياسة وحكمت به الرياسة فقد فعلوا ولكنك تأبى أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله، فإن عاقبت فلك نظير وإن عفوت فليس لك نظير، وإن جرمي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أنطق فيه بعذر وعفو أمير المؤمنين أجلّ من أن يفي به شكر. فقال المأمون: مات الحقد عند هذا العذر. فاستعبر إبراهيم وبكى، فقال له المأمون: ما لك؟ قال: الندم إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام عليّ.
وحدثني سعيد بن مسلم قال: قال المأمون لإبراهيم بن المهدي بعد المؤانسة وإخراج ما كان في قلبه عليه: يا عم ما الذي حملك على منازعة من جرى قدر الله عز وجل له بتمام أمره وإصلاح شأنه؟ قال: طلب صلاح حالي يا أمير المؤمنين وتوفر ما تتسع به يدي على خاصتي وعامتي. قال: فقدر ما شئت وهو لك مشاهرة. قال: إذاً تجدني بحيث تحب ويجري حكمك عليّ وفي كما يجري في أحد عبيدك. وقد قلت في ذلك:
أرى الحر عبداً للذي سيب كفه ... شراه بما قد غاظه غاية الحمد
على أن ملك الحر أسنى ذريعة ... إلى المجد من مال يصان ومن عبد
وإن خُصّ بيع مِلك حرٍ بنعمة ... إذا قوبلت بالشكر قارنها المجد
فقال: لئن كان ذلك كذلك إني لأهل أن أرفعك بمواد نعمتي عليك عن أن يقال هذا فيك أو تمتهنك عين أحد بذلة.
قال: ودخل المأمون ذات يوم إلى الديوان فنظر إلى غلام جميل على أذنه قلم فقال: من أنت يا غلام؟ قال: يا أمير المؤمنين الناشيء في دولتك والمتقلب في نعمتك والمؤمل لخدمتك الحسن بن رجاء. فقال المأمون: بالإحسان في البديهة تتفاضل العقول. يرفع عن مراتب الديوان إلى مراتب الخاصة ويعطى مائة ألف درهم معونة له. ففعل به ذلك.
قال: ودخل يزيد بن جرير على المأمون وكان وجد عليه فقال: أيزيد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين غذيّ نعمتك وخرّيج صنيعتك وغرس يدك الذي لم يشركك فيه مصطنع ولم يسبقك إلى تخريجه أحد، ولم أزل يا أمير المؤمنين بعفوك بعد سخطك راجياً وببصيرة رأيك في الانفراد بردّي إلى ما عودتني واثقاً حتى أقامني الله جل وعز هذا المقام الذي فيه إدراكي أملي ونيلي محبتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يشهرني برضاه كما شهرني بسخطه فعل إن شاء الله! فقال: قد رضي عنك أمير المؤمنين.
قال: ووصف يحيى بن خالد الفضل بن سهل وهو غلام على المجوسية للرشيد وذكر أدبه وحسن مذهبه وجودة معرفته فعمل على ضمه إلى المأمون.

فقال يوماً ليحيى: أدخل إليّ هذا الغلام المجوسي حتى أنظر إليه، ففعل يحيى ذلك، فلما مثل بين يديه وقف وتحير وأراد الكلام فأُرتج عليه وأدركته كبوة، فنظر الرشيد إلى يحيى نظر منكر لما كان تقدم من تفريطه إياه، فانبعث الفضل فقال: يا أمير المؤمنين إن من أبين الدلالة على فراهة المملوك شدة إفراط هيبته لسيده. فقال له الرشيد: أحسنت والله! لئن كان سكوتك لتقول هذا إنه لحسن وإن كان هذا شيء أدركك عند انقطاعك إنه لأحسن وأحسن. ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه مقدماً فيه مبرزاً. فضمه المأمون في ذلك اليوم.
وقال الفضل بن سهل للمأمون وقد سأله حاجة لبعض أهل بيوتات دهاقين سمرقند ووعد تعجيل إنفاذها فتأخر ذلك عليه: يا أمير المؤمنين هب لوعدك تذكراً من نفسك وهنيء سائلك حلاوة نعمتك واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم حاثاً على اصطفاء شكر الطالبين لتشهد القلوب بحقائق الكرم والألسن بنهاية الجود. فقال: قد جعلت إليك إجابة سؤّالي عني بما ترى فيهم وأخذتك بالتقصير فيما يلزم لهم من غير استثمار ولا معاودة في إخراج الصكاك من أخضر المال متناولاً. قال: إذاً لأتحدى معرفتي بما يجب لأمير المؤمنين الهنأُ بما يديم له حسن الثناء، ومن دعائهم طول البقاء.
قال: وقال الفضل بن سهل للمأمون: يا أمير المؤمنين اجعل نعمتك صائنة لماء وجوه خدمتك عن إراقته في غضاضة السؤال. فقال المأمون: والله لا كان ذلك إلا كذلك.
قال: ودخل العتابي على المأمون فقال: يا أبا كلثوم خُبّرت بوفاتك فغمتني ثم جاءتني وفادتك فسرتني. فقال: يا أمير المؤمنين كيف أمدحك أو بماذا أصفك ولا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك! فقال: سلني عما بدا لك. قال: يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة.
قال: وتكلم المأمون يوماً فأحسن فقال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك! إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته، أو في النجم فأنت هرمس في حسابه، أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في علمه، وإن ذكر السخاء كنت حاتماً في جوده، أو الصدق فأنت أبو ذر في صدق لهجته، أو الكرم فأنت كعب بن مامة في إيثاره على نفسه، أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه. فاستحسن قوله وتهلل وجهه.
قال: وقال إبراهيم بن المهدي للمأمون: يا أمير المؤمنين ليس للعافي بعد القدرة عليه ذنب، وليس للمعاقب بعد المِلك عذر. قال: صدقت فما حاجتك؟ قال: فلان. قال: هو لك.
قال: وقال الواثق يوماً لأحمد بن أبي دؤاد وقد تضجّر بكثرة حوائجه: قد أخليت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك والمتوصلين إليك! فقال: يا أمير المؤمنين نتائج شكرها متصل بك وذخائر أجرها مكتوب لك وما لي من ذلك إلا عشق الألسن لخلود المدح فيك. فقال: يا أبا عبد الله والله لا منعتك ما يزيد في عشقك وتقوى به منتك إذ كانا لنا دونك. وأمر فأُخرج له ثلاثون ألف دينار يفرقها في الزوار.
قال: وقدم أبو وجزة السلمي على المهلب بن أبي صفرة فقال: أصلح الله الأمير! إني قطعت إليك الدهناء وضربت إليك أكباد الإبل من يثرب. فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو قرابة أو عشرة؟ قال: لا ولكني رأيتك لحاجتي أهلاً فإن قمت بها فأهل ذلك أنت وإن يحل دونها حائل لم أذمم يومك ولم أيأس من غدك. فقال المهلب: يعطى ما في بيت المال. فوجد فيه مائة ألف درهم فدفعت إليه، فأنشأ يقول:
يا من على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود
عمّت عطاياك من بالشرق قاطبةً ... وأنت والجود منحوتان من عُود
قال: ودخل الكوثر بن زفر على يزيد بن المهلب فقال: أصلحك الله! أنت أعظم قدراً من أن يستعان عليك ويستعان بك، لست تفعل من المعروف شيئاً إلا وهو أصغر منك، وليس من العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل. قال: سل حاجتك. قال: تحملت عن قومي عشر ديات وقد نهكتني. قال: قد أمرنا لك بها وأضعفناها بمثلها. فقال الكوثر: إن ما سألتك هو بوجهي لمقبول منك، وأما ما بدأتني به فلا حاجة لي فيه. قال: ولم وقد كفيتك ذل السؤال؟ قال: لأني رأيت الذي أخذته مني بمسألتي إياك أكثر مما نالني من معروفك فكرهت الفضل على نفسي. قال يزيد: فأنا أسألك بحقك عليّ فيما أملتني له من إنزالك إليّ إلا قبلتها. فقبلها.

مساوئ المخاطبات

قيل: دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب فقال له: إني أكلت من لحوم هذه الجوازيء فطسئت طسأة فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق ولم يزل يربو وينمو حتى خالط الخلب والشراسيف فهل عندك دواء؟ قال: نعم خذ خرفقاً وسلفقاً فرقرقه واغسله بماء روث واشربه. قال: لا أدري ما تقول! قال: ولا أنا أدري ما تقول.
وقال له آخر: إني أجد معمعة في بطني وقرقرة، فقال له: أما المعمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة فهو ضراط لم ينضج.
قيل: وأتى رجل إلى الهيثم بن عريان بغريم له وقد مطله في حق له فقال: أصلح الله الأمير! إن لي على هذا حقاً قد غلبني عليه. فقال له الآخر: أصلحك الله! إن هذا باعني عنجداً وقد استنسأته حولاً وشرطت أن أعطيه مياومة فهو لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني. فقال له الهيثم: أمن بني شيبة أنت؟ قال: لا. قال: فمن بني هاشم؟ قال: لا. قال: فمن أكفائهم من العرب؟ قال: لا. قال: ويلي عليك انزع ثيابه يا حرسي! فلما أرادوا أن ينزعوا ثيابه قال: أصلحك الله! إن إزاري مرعبل. فقال: دعوه فلو ترك الغريب في موضع لتركه في هذا الموضع.
قال: ومر أبو علقمة ببعض الطرق فهاجت به مرة فوثب عليه قوم وأقبلوا يعضون إبهامه ويؤذنون في أذنه. فأفلت من أيديهم وقال: ما لكم تتكأكؤون علي كما تتكأكؤون على ذي جنة؟ افرنقعوا عني! فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه هندي يتكلم بالهندية.
وقال مرة لحجام يحجمه: اشدد قصب الملازم وارهف ظبة المشارط وخفف الوضع وعجل النزع، وليكن شرطك وخزاً ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً ولا ترددن أتياً. فوضع الحجام محاجمه في جونته ومضى.

محاسم المكاتبات
قال: وقال كعب العبسي لعروة بن الزبير: قد أذنبت ذنباً إلى الوليد بن عبد الملك وليس يزيل غضبه شيء فاكتب إليه. فكتب: لو لم يكن لكعب من قديم حرمته ما يغفر له عظيم جريرته لوجب أن لا تحرمه التفيؤ بظل عفوك الذي تأمله القلوب، ولا تعلق به الذنوب وقد استشفع بي إليك فوثقت له منك بعفو لا يخلطه سخط، فحقق أمله فيّ وصدق ثقتي بك مغتنماً للشكر مبتدئاً بالنعمة. فكتب إليه الوليد: قد شكرت رغبته إليك وعفوت عنه لمعوله عليك، وله عندي الذي تحب إن لم تقطع كتبك عني في أمثاله وفي سائر أمورك.
قال: وكتب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى بعض إخوانه: أما بعد فقد عاقني الشك عن عزيمة الرأي، ابتدأتني بلطف من غير خبرة ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب طمعني أوّلك في إخائك وأيسني آخرك من وفائك، فلا أنا في غير الرجاء مجمع لك اطراحاً ولا في غدو انتظار منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي فيك ما أقمنا على ائتلاف وافترقنا على اختلاف.
قال: وسخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم فعزله عن شرطة الكوفة فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: فإن من حفظ نعم الله رعاية حق ذوي الأسنان، ومن إظهار شكر الموهوب له صفح القادر عن الذنوب، ومن تمام السودد حفظ الودائع واستتمام الصنائع، وقد كنت أودعت العريان نعمة من نعمك فسلبتها عجلة سخطك، وما أنصفته إذ غصبته على أن وليته ثم عزلته وخليته، وأنا شفيعه فأحب أن تجعل له من قلبك نصيباً ولا تخرجه من حسن رأيك فيضيع ما أودعته ويتوى ما أفدته. فعفا عنه.
قال: وغضب سليمان بن عبد الملك على أبي عبيدة مولاه فشكا إلى سعيد بن المسيب ذلك، فكتب إليه: أما بعد فإن أمير المؤمنين في الموضع الذي يرتفع قدره عن أن تعصيه رعيته وفي عفو أمير المؤمنين سعة للمسلمين. فرضي عنه.
قال: وطلب العتابي من رجل حاجة فقضى له بعضها وماطله ببعض. فكتب إليه: أما بعد فقد تركتني منتظراً لرفدك وصاحب الحاجة محتاج إلى نعم هنيئة أو لا مريحة، والعذر الجميل أحسن من المطل الطويل، وقد كتبت:
بسطت لساني ثم أوثقت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك مطلق
فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر باليأس موثق
قال: ولما بنى المهدي بريطة ابنة أبي العباس كتب إليه يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري: أدام الله لك جميل عاداته عندك وأوتر ما يجري به القدر لك ولا زالت يد الله تحوطك في المحبوب وتدرأ عنك المكروه، وهنئت بهذه النعمة ومليتها أمناً من زوالها بطول البقاء والمدة. فقالت له ريطة: ما لهذا الكلام ثمن!

فقال: وكيف ونحن أطلقنا بإحساننا إليه وإنعامنا عليه لسانه فينا وسنزيده من الثواب لثنائه علينا.
قال: وأمر الرشيد جعفر بن يحيى أن يعزل أخاه الفضل بن يحيى عن الخاتم ويقبضه إليه قبضاً لطيفاً، فكتب إلى أخيه: قد رأى أمير المؤمنين أن تنقل خاتم خلافته عن يمينك إلى شمالك، فكتب إليه الفضل: ما انتقلت عني نعمة صارت إليك ولا خصتك دوني.
أحمد بن يوسف الكاتب قال: أمرني المأمون أن أكتب إلى الآفاق في الاستكثار من المصابيح في المساجد، فلم أدر كيف أكتب لأنه شيء لم أسبق إليه فأسلك طريقته ومعناه، فأتاني آت في منامي وقال لي: اكتب: فإن فيها أنساً للمجتهدين، واضاء للسائلين، ونفياً لتكامن الريب، وتنزيهاً لبيوت الله عز وجل عن وحشة الظلم. فكتب بذلك.
قال: وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون في رجل من بني ضبة يستشفع إليه في زيادة في منزلته وجعل كتابته تعريضاً: أما بعد فقد استشفع بي فلان يا أمير المؤمنين لتطولك في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته والسلام. فكتب إليه المأمون: قد عرفنا توطئتك له وتعريضك لنفسك وأجبناك إليهما ووافقناك عليهما.
وحدثنا عبد الله بن ميمون قال: تأخر الجاري من الرزق لإبراهيم بن إسحاق الموصلي عنه في أيام المأمون فكتب إليه: يا أمير المؤمنين ما فوق جودك في العاجلة مرتقى لآمالنا ولا إلى غير دولتك متطلع لقلوبنا فلم تتأخر الإفادات عنا ويعسر نيل المحبوب علينا. فقال المأمون: ما سمعت في التصريح والإشارة بالطلب أحسن من هذا، وأمر بإخراج فائته وبجائزة ثلاثمائة ألف درهم.
قال: وأولم المأمون على بعض ولده فكتب إليه إبراهيم بن المهدي: لولا البضاعة تقصر عن الهمة لأتعبت السابقين إلى البر وخفت صحيفتها وليس لي فيها ذكر فبعثت بالمبتدإ به ليمنه وبركته والمختوم به لنظافته وطيبه جراب ملح وجراب أشنان.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى صديق له بعث إليه بهدية: لو كانت التحفة على حسب ما يوجبه حقك بنا أداء حقك ولكنه على ما يخرج من حد الحشمة ويوجب الأنس، وقد بعثت إليك بكذا.
وحدثنا أبو الودغ قال: أول كتاب ورد على المأمون بالخلافة كتاب الحارث بن سباع الخراساني، فإنه كتب إليه: قد أظلنا أمير المؤمنين بخلافته تحت جناح الطمأنينة وبلغنا بها مدى الأمنية، فأدام الله له من كرامته ما يتطأمن له أقاصي وأداني رعيته وجعله أعز خليفة وجعلنا أسمع وأطوع رعيته. فقال المأمون للفضل بن سهل: أتعرف ما قيمة هذا الكلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قال: تلقيك به بالسرور. فأعجبه قوله واستحسنه.
قال: وكتب عبد الله بن طاهر إلى المأمون من خراسان: بعدت داري عن أمير المؤمنين وعن ظل جناحه وعن خدمته وإن كنت حيث تصرفت لا أتفيأ إلا به وقد اشتد شوقي إلى النظر إلى رؤيته المباركة والتزين بحضور مجلسه وتلقيح عقلي بحسن رأيه، فلا شيء عندي آثر من قربه، وإن كنت في سعة من عيش وهبه الله جل ذكره لي به، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في المصير إلى دار السلام لأحدث عهداً بالنعم عليّ وأتهنأ بالنعمة التي أقرها لدي فعل. فأجابه المأمون: قربك إلي يا أبا العباس حبيب وأنا إليك مشتاق وإنما بعدت دارك عن أمير المؤمنين بالنظر لك والتخير لحسن العاقبة، فالزم مكانك واتبع قول الشاعر:
رأيت دنو الدار ليس بنافعي ... إذا كان ما بين القلوب بعيدا

وحدثنا خصيف بن الحارث عن أبي رجاء قال: قدم مع المأمون رجل من دهاقين الشاش وعظمائهم على عدة سلفت من المأمون له من توليته بلداً وأن يضم إليه مملكته، فطال على الرجل انتظار خروج المأمون وأمره له بذلك، فقصد عمرو بن مسعدة وسأله إنفاذ رقعة إلى المأمون من ناحيته. فقال عمرو: اكتب ما شئت فإني أوصله. قال: فتول ذلك عني يكن لك عليّ نعمتان. فكتب عمرو: إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته أو يأذن له في الانصراف إلى بلده فعل إن شاء الله تعالى. فلما قرأ المأمون الرقعة دعا عمراً فجعل يعجبه من حسن لفظها وإيجاز المراد فيها. قال عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال: الكتاب له في هذا في الوقت بما سأل لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه وبجائزة مائة ألف درهم صلة عن دناءة المطل وسماجة الإغفال. ففعل عمرو ذلك.
وحدثنا إسماعيل بن أبي شاكر قال: لما أصاب أهل مكة سنة ثمان ومائتين السيل الذي شارف الحجر ومات تحت هدمه خلق كثير كتب عبد الله بن الحسن العلوي وهو والي الحرمين إلى المأمون: يا أمير المؤمنين إن أهل حرم الله وجيران بيته وألّاف مسجده وعمرة بلاده قد استجاروا بفيء معروفك من سيل تراكمت أحداثه في هدم البنيان وقتل الرجال والنسوان واجتياح الأموال وجرف الأمتعة والأثقال، حتى ما ترك طارفاً ولا تالداً يرجع إليهما في مطعم وملبس، قد شغلهم طلب الغذاء عن الاستراحة إلى البكاء على الأمهات والأولاد والآباء والأجداد، فأجرهم يا أمير المؤمنين بعطفك عليهم وإحسانك إليهم تجد الله مكافئك عنهم ومثيبك عز الشكر لك منهم. قال:: فوجه إلهيم المأمون بالأموال الكثيرة. وكتب إلى عبد الله: أما بعد فقد وصلت شكيتك لأهل حرم مكة إلى أمير المؤمنين فتلافاهم الله بفضل رحمته وأنجدهم بسيب نعمته وهو متبع ما أسلفه إليهم بما يخلفه عليهم عاجلاً وآجلاً إن أذن الله جل وعز في تثبيت عزمه على صحة نيته فيهم. قال: فكان كتابه هذا أسرّ إلى أهل مكة من الأموال التي أنفذها إليهم.
قال أحمد بن يوسف: دخلت على المأمون يوماً ومعه كتاب يعجب به كتبه إليه عمرو بن مسعدة، فالتفت إليّ وقال: أحسبك مفكراً فيما رأيت. قلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المكروه. قال: إنه ليس بمكروه ولكني قرأت كلاماً نظير الخبر خبرني به الرشيد، سمعته يقول: البلاغة التقرب من معنى البغية والتباعد من حشو الكلام ودلالة بالقليل على الكثير، فلم أتوهم أن هذا الكلام يسبك على هذه الصيغة حتى قرأت هذا الكتاب، والله لأقضين حق هذا الكلام، وكان الكتاب استعطافاً على الجند فيه كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من أجناده وقواده في الطاعة والموالاة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند، وقد تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم. قال: فأمر بإعطائهم لثمانية أشهر.
قال: ولما بعث طاهر بن الحسين برأس محمد الأمين كتب إليه: آتى الله أمير المؤمنين من شكره ما يزيد به في نعمته عليه وأياديه لديه، فقد كان من قدر الله جل وعز في إعانة أمير المؤمنين على الظفر بحقه وسلامة الأولياء ووفاة محمد بن الرشيد ما لا دافع له من القضاء في الخلق والاستبداد بالأمر لنفوذ مشيئته فيما أحب من إعزاز وإجلال وموت وحياة، فليهنيء أمير المؤمنين فوائد تطوّل الله عليه وليعزه عن أخيه الرضى بما يؤول إليه أهل الأرض والسماء من الانقراض والفناء. فكان المأمون يقول: والله لسروري بتعزيته أوقع بقلبي من تهنئته.
قال: وكتب إليه الفضل بن سهل: أما بعد فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة فقد فرّق الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة لقول الله جل وعز فيما اقتص علينا من نبإ نوح حيث يقول: إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، ولا صلة لأحد في معصية الله ولا قطيعة فيما كانت القطيعة في ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين: وقد قتل الله جل وعز المخلوع ورداه رداء نكثه وعجّل لأمير المؤمنين ما كان ينتظر من وعده، فالحمد لله الذي رد إلى أمير المؤمنين معلوم حقه، وكبت المكايد له في خفر عهده ونقض عقده حتى رد بذلك أعلام الدين إلى سبيلها بعد دروسها والسلام.

قال: وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر: أما بعد فإن المأمون أحله الله دار كرامته رآك لأكثر الذي أنت له فيه أهلاً وقد جمع الله لك إلى حسن رأيه كان فيك جميل رأيي لما محضته من حسن الطاعة وكرم الوفاء وشكر الإحسان، وقد اتصلت الأخبار بأنك في كفاية من أولياء أمير المؤمنين وأموال خراسان وفي منعة من خاصتك وعامتك عن أن ينالك عدوك أو أحد ممن يخالفك بسوء، فاكتب بشرح ذلك إلى أمير المؤمنين ليعرفه إن شاء الله. فلما وصل كتابه قال عبد الملك لكاتبه إسماعيل بن حماد: ما تقول في هذا الكتاب؟ قال: كتاب تعريض بأنك خارج من طاعته مالك أمر نفسك دونه. قال: فأجبه عنه. فكتب إليه: أما بعد يا أمير المؤمنين فإن حزب الله وإن قلوا وأنصار المؤمنين وإن ضعفوا فهم الغالبون، وما أنا بشيء في ملاقاة عدو أوثق مني بعز دولة أمير المؤمنين، فأما الأيدي فقليلة والأموال فنزرة وفي الله وفي أمير المؤمنين أعظم الغنى. فقبل عذره وحسن موقع كتابه منه.
قال: وكتب أحمد بن إسرائيل إلى الواثق، وقد عزله عن ديوان الخراج وأمر بتقييده ليصحح حساباته: يا أمير المؤمنين بم يستحق الإذلال من أنت بعد الله ورسوله موئل عزه وإليك مفزع أمله، ولم تزل نفسه راجية لابتداء إحسانك إليه وتتابع نعمك لديه، وعينه طامحة إلى تطولك عليه ورفعك منه والزيادة في الضيعة إليه، فهب له يا أمير المؤمنين ما يزينك واعف عما لا يشينك، فما به عنك معدل ولا على غيرك معول. فأمر بإطلاقه.
قال: وكتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من العمل: شكري لك على ما أريد الخروج منه شكر من نال الدخول فيه.
وكتب عليّ بن هشام إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما أدري كيف أصنع، أغيب فأشتاق وألتقي فلا أشتفي ثم يحدث لي اللقاء نوعاً من الحرقة للوعة الفرقة.
وكتب معقل إلى أبي دلف: فلان جميل الحال عند كرام الرجال وأنت إن لم ترتبطه بفضلك عليه غلبك فضل غيرك عليه.
وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد فقد بان لنا من فضل الله جل وعز ما لا نحصيه لكثرة ما نعصيه وما ندري ما نشكر أجميل ما نشر أم قبيح ما ستر أم عظيم ما أبلى أم كثير ما عفا، غير أنه يلزمنا في الأمور شكره ويجب علينا حمده، فاستزد الله من حسن بلائه بشكرك إياه على حسن آلائه.
وكتب رجل إلى أخ له: أوصيك بتقوى الله الذي ابتدأك بإحسانه وأتم عليك نعمه بأفضاله وصبر عليك مع اقتداره ولا يغررك إمهاله فإنه ربما كان استدراجاً، عافانا الله وإياك من الاغترار بالامهال فإنه ربما كان استدراجاً، عافانا الله وإياك من الاغترار بالامهال والاستدراج بالإحسان.
قال: وكتب أبو هاشم الحراني إلى بعض الأمراء: عوضي من أمل الأمير متأخر، والصبر على الحرمان متعذر.
وكتب رجل إلى محمد بن عبد الله: إن من النعمة على المثني عليك أن يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير ولا يحذر أن تلحقه نقيصة الكذب ولاينتهي من المدح إلى غاية إلا وجد في فضلك عوناً على تجاوزها، ومن سعادة جدك أن الداعي لك لا يعدم كثرة المادحين ومساعدة من النية على ظاهر القول.
وكتب رجل إلى أبي عبد الله بن يحيى: رأيتني فيما أتعاطاه من مدحك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر المضيء الزاهر الذي لا يخفى على ناظر، وأيقنت أني حيث أنتهي من القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن إثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
قال: وكتب المهلب بن أبي صفرة إلى عبد الملك بن مروان لما هزم الشراة: أما بعد فإنا لقينا المارقة ببلاد الأهواز وكانت للناس جولة ثم ثاب أهل الدين والمروءة ونصرنا الله جل وعز عليهم ونزل القضاء بأمر جاوزت النعمة فيه الأمل فصاروا ردية رماحنا وضرائب سيوفنا وقتل رئيسهم في جماعة من حماتهم وذوي النيات منهم وجلا الباقون عن عسكرهم، وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها تماماً وكمالاً، والسلام.
وكتب المهلب إلى الحجاج في فتح الأزارقة: الحمد لله الكافي بالإسلام ما وراءه الذي لا تنقطع مواد نعمته حتى ينقطع من خلقه مواد الشكر، وإنا كنا أُعطينا من الله جل وعز على عدونا حالين يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم، فلم يزل الله جل وعز يزيدنا وينقصهم ويعزنا ويخذلهم حتى بلغ الكتاب أجله وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

أخبرنا ابن أبي السرح أن الحجاج أغزى جيشاً فظفروا وأن صاحب جيشه كتب إليه: الحمد لله الذي جعل لأوليائه أمام نصره موعداً قوّى به قلوبهم وقدم إلى أعدائه بين يدي خذلانه إياهم وعيداً أرعب به مفاصلهم وزعزع معه قلوبهم.
فلما بلغ هذا الموضع طوى ما كان نشره من الكتاب ولم يقرأ ما بعده ثم التفت إلى الرسول فقال: غيّرنا هذا الكلام المبتدأ به، إن العدو ولّى من غير حرب! فقال: صدق الأمير صدّق الله ظنه وأصاب أصاب الله رأيه.
قال: وكتب مروان بن محمد إلى عبد الله بن علي يوصيه بحرمة، فكتب إليه عبد الله: يا مائق إن الحق لنا في دمك والحق علينا في حرمك.
وكتب علي، رضوان الله عليه، إلى زياد ابن أبيه: لئن بلغتني عنك خيانة لأشدنّ عليك شدة أدعك فيها قليل الوفر ثقيل الظهر.
قال: وكتب رجل إلى أبي مسلم حين خرج: أحسن الله لك الصحبة وعصمك بالتقوى وألهمك التوفيق، إن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء والعاقبة للمتقين، فسر فيها راغباً إلى الله ورسوله والرضى من هذه الأمة بالكتاب والسنة.
واعلم أن التقوى أسّ ما تبني عليه أمرك، فإن ضعف الأساس تداعى البنيان ودخل الأعداء من كل مكان، فتألف الأعلام من الرجال وسرواتهم وتصفّح عقولهم ومروءاتهم، فكلما ارتضيت رجلاً ففره عن عزائم رأيه واصرف نظرك إلى تصرّف حاله، وإن وجدته على خلاف ما أنت عليه فلا تعجل بإلقاء أمرك إليه فتدخل الوحشة منك والنفور عنك، لكن اقرعه بالحجة في رفق وسقه إلى شرك المحجة في لين حتى يتكشف لك ثوب الظلمة عن النور وتظهر لك وجوه الأمور، فإنه سيكثر أعوانك على الحق ويسهل لك منهاج الطرق. فإذا كثرت العدة من أصحابك وأمكنتك الشدة على أعدائك فحارب الفئة الباغية والأئمة الطاغية الذين أباحوا حمى المسلمين وأجروا عليهم أحكام الفاسقين وقادوهم بجرائر المهن واستذلوهم في البر والبحر.
واعلم أن من عرف الله جل وعز لم ير لأهل البغي جماعة ولا لأئمة الضلالة طاعة. وكلما غلبت على بلدة فامسك عن القتل وأظهر في أهله العدل لتسكن إليك النفوس ويثوب نحوك الناس وينتشر فعلك في الخاصة والعامة فتستدعي أهواءها وتستميل آراءها وتهش إليك من الآفاق نفوس عرانين الكرم ومصابيح الظلَم من ذوي الأحساب الكريمة والبيوت القديمة التي شرفها الإسلام وزينها الإيمان لتزرع بذلك لك المحبة في قلوب العباد ويكونوا لك دواعي في نواحي البلاد. تمم الله لك أمرك وأعلى كعبك.
قال: ولما استقامت المملكة لأبرويز وانقضى ما بينه وبين بهرام جوبين أمر أن تكتب تلك الحروب والوقائع إلى منتهاها ففعلت الكتبة ذلك وعرضته على أبرويز فلم يرض صدره. فقال غلام من أولاد الكتّاب: إن أمر الملك كتبت صدره. فقال: شأنك.
فتناول القلم وكتب: إن الدهر لم يخل في تارات عقبه وتصرفه ووجوه تنقله في حالات من العجائب ولم تنصرم فيه فنونها على طول مداه ولم يزل في تقلب عصريه وصفحات أزمنته وطبقات أحايينه تحدث فيه جلائل الأمور وغرائب الأنباء وتنجم فيه قرون وتعقب فيه أعقاب بعد أسلاف وتعفو آثار، وله في تلونه تصريف أنباء معجبة وأحاديث فيها معتبر وعظة ومختبر، ومن أعاجيب ذلك أمر بهرام بن بهرام ولقبه جوبين، فعرضه على أبرويز فأعجبه ذلك وأمر برفع درجته وتقديمه وتعظيمه.

مساوئ المكاتبات
قال الجاحظ: كتب ابن المراكبي إلى بعض ملوك بغداد: جعلت فداك برحمته.
وقرأت على عنوان كتاب لأبي الحسين السمّري: للموت أنا قبله. وقرأت أيضاً على عنوان كتاب: إلى ذاك الذي كتب إليّ.
وكتب بعضهم إلى ابن له عليل: يا بني اكتب إليّ بما تشتهي. فكتب إليه: أشتهي قلنسوة. فكتب إليه: إنما سألتك أن تخبرني بما تشتهي من الغداء.
فكتب إليه: أشتهي دهن خل وزيت. فكتب إليه: أنزل الله عليك الموت فإنك ثقيل! قال: ونقش بشر بن عبد الله على خاتمه: بشر بن عبد الله بالرحمن لا يشرك. فقال أبوه: هذا والله أقبح من الشرك!
محاسن الخطب
قال: خطب خالد بن صفوان خطبة نكاح فقال: الحمد لله جامعاً للحمد كله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد فقد قلتم ما سمعنا وبذلتم فقبلنا وخطبتم فأنكحنا فبارك الله لنا ولكم.

قال: وخطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز أخته فزوّجه وخطب فقال: الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، وقد زوجتك على ما في كتاب الله جل وعز: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وخطب عبد الله بن جعفر فقال: الحمد لله الذي ليس من دونه احتراز ولا لذاهب عنه مجاز، السميع المنيع ذي الجلال الرفيع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولا سمي له في برهانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم. أما بعد فإن لكل شيء سبباً مضت به الأقدار وأُحصيت فيه الآثار على وقوع أقضيته وحلول مدته، والصهر نسب شابك يجمع المختلف ويقرّب المؤتلف، وفلان بن فلان قد بذل لكم الموجود ووعدكم الوفاء المحمود فأجيبوه إلى ما رغب فيه تحمدوا العاقبة وتذخروا الأجر للآخرة.
وخطب أبو عبيدة خطبة نكاح بالبصرة وحضره أعرابي فقال: الحمد لله أكثر مما حمدتم، وربنا أعظم مما وصفتم، ندع الفصول ونتبع الأصول كفعل ذوي العقول، وقد سمعنا مقالتكم وشفّعنا خاطبكم وقبلنا ما بذلتم، والسلام عليكم.
وخطب أعرابيّ إلى قوم فقال: الحمد لله ولي الأنعام وصلى الله على محمد خير الأنام وعلى آله وسلم. أما بعد فإني إليكم معشر الأكفاء خاطبٌ، وفي سبب الألفة بيننا وبينكم راغب، ولكم عليّ فيمن خطبت أحسن ما يجب للصاحب على الصاحب، فأجيبوني جواب من يرى نفسه لرغبتي محلاً ولما دعتني الطلبة إليه أهلاً. فأجابه أعرابي آخر: أما بعد فقد توسلت بحرمة وذكرت حقاً وأملت مرجواً، فحبلك موصول، وعرضك مقبول، وقد أنكحنا وسلمنا والحمد لله على ذلك.
قال: وكان الحسن البصري يقول في خطبة النكاح بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فإن الله عز وجل جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة والأنساب المتفرقة وجعل ذلك في سنّة من دينه ومنهاج واضح من أمره، وقد تزوج فلان بن فلان بفلانة ابنة فلان وبذل لها من الصداق كذا وكذا، فاستخيروا الله وردوا خيراً.
قال: وحضر المأمون إملاكاً فسأله بعض من حضر أن يخطب فقال: الحمد لله والمصطفى رسول الله، عليه وعلى آله السلام، وخير ما عمل به كتاب الله، قال الله جل وعز: " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسعٌ عليم " ، ولو لم يكن النكاح آيةً منزلة وسنّة متبعة إلا لما جعل لله جل اسمه في ذلك من تأليف البعيد وإدناء الغريب لسارع إليه العاقل المصيب وبادر إليه المختار اللبيب، وفلان من قد عرفتموه في نسب لم تجهلوه يخطب إليكم فتاتكم فلانة ويبذل لها من الصداق كذا، فشفّعوا شافعنا وأنكحوا خاطبكم وقولوا خيراً تحمدوا عليه وتُؤجروا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

مساوئ الخطب
قيل: واستعمل الوليد بن عبد الملك أعرابياً على بعض مدن الشام، فلما صعد المنبر قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، من يهد الله فليس بضال ومن يضلل فأبعده الله. أما بعد فوالله لقد ذكر لي أنكم تأتون الأندرين فتشربون من خمورها، وما الذي عرّضكم أخزاكم الله لما يشين أعراضكم؟ فإن كنتم لا بد فاعلين فليشرب الرجل قعباً أو قعبين أو ثلاثة إن كان طيباً. ولقد بلغني أنكم تأتون بالليل النساء اللواتي قد غاب أزواجهن، وإني أعطي الله عهداً أني لا أجد رجلاً يأتي امرأة ليلاً إلا قطعت ظهره بالسياط، فإذا قدم عليهن أزواجهن فأتوهن حلالاً، وأيما رجل أصاب في بيته رجلاً فليأخذ سلبه. فقال له كاتبه: أيهما يأخذ سلب صاحبه أيها الأمير؟ فقال: أيهما غلب. فكانت المرأة تقول لزوجها: قد أحل لنا الأمير الزناء.
وحكي عن جحا أن أباه قال له: دع ما أنت عليه من الجنون والمجون والخلاعة وترزن حتى أخطب لك بعض بنات أهل الثروة والشرف. فقال: نعم يا أبتاه، فتزيّن وتبخر وصار إلى مجمع الناس فقعد وهو صامت وقد حضر أشراف الناس وعظماؤهم، فقال له أبوه: تكلم يا بني، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأشرك به حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال أبوه: يا بني لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء.
محاسن الأمثال
آتيه في البردين، يعني قبل أن يشتد الحر وبعدما يسكن، والمعنى فيه أيضاً: بالغداة والعشي، قال الشاعر:
يسرن الليل والبردين حتى ... إذا أظهرن رفّعن الظلالا

وقولهم: همك في الأحمرين، يعنون اللحم والخمر.
وقولهم: إنه لطويل النجادين، يريدون كماله وتمامه في جسمه.
وقولهم: إنه لغمز الرداء، أي كثير المعروف. وأنشد الأصمعي:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... غلقت بضحكته رقاب المال
وقولهم: إنه لسبط البنان، إذا كان شجاعاً سخياً.
وقولهم: شديد الجفن، إذا كان صبوراً على السهر.
وقولهم: إنه لطيب الحجزة، إذا كان عفيفاً، قال النابغة:
رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
وقولهم: إنه لطاهر الثياب، أي ليس في قلبه غش، وقد روي في تفسير قول الله جل وعز: وثيابك فطهر، أي طهر قلبك. وأنشد:
ثياب بني عوفٍ طهارى نقيةٌ ... وأوجههم بيض المشافر غرّان
يعنون بثيابهم قلوبهم.
وقولهم: إنه لطيب الأثواب، أي طاهر الأخلاق. قال بعض الأنصار:
ومواعظٌ من ربنا تهدي لنا ... بلسان أزهر طيب الأثواب
وقولهم: تحسبها حمقاء وهي بأحسن، يضرب مثلاً لمن يظن به الجهل فإذا اختبرته وجدته عاقلاً.
وقولهم: من أجدب انتجع، أي من احتاج طلب. ويقال: إن صعصعة ابن صوحان كان يأكل مع معاوية فجعل معاوية يأكل من دجاجة بين يديه، فمدّ صعصعة يده فجذب الدجاجة، فقال له معاوية: انتجعت! فقال: من أجدب انتجع.
وقولهم: من لي بالسانح بعد البارح، يضرب مثلاً لرجل يسيء إليه إنسان فيقال له: احتمل فإنه سيحسن فيما بعد. وأصل ذلك أن رجلاً مرّت به ظباء بارحةً فتطيّر منها فقيل له: لا تتطير فإنها سوف تسنح لك، فقال: من لي بالسانح بعد البارح! وذلك أن العرب كانت إذا خرجت فمرّت بها ظباء عن يمينها قالت: يمن وبركة، فإذا مرت عن يسارها تشاءمت بها وقالت: هذا يوم نحس. والسانح ما جاء عن يمينك. والبارح ما جاء عن يسارك. والقعيد ما جاء من ورائك. والناطح ما استقبلك.

مساوئ الأمثال
قولهم: ذهب منه الأطيبان، يعنون الشباب والطعم. وقالوا: هو الأكل والنكاح.
وقولهم: نعوذ بالله من الأمرّين، يعنون الفقر والهرم.
ويقال: وقيت شرّ الأجوفين، يعنون البطن والفرج.
وقولهم: أماطله العصرين، يعنون الغداة والعشي. وقال الشاعر:
أماطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
وقولهم: أفناه الملوان، يعنون الدهر ومقاساة الغم.
وقولهم: أبلاه الجديدان، يعنون الليل والنهار. وقال الشاعر:
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا ينقصان ولكن ينقص الناس
وقولهم: فلان قصير يد سرباله، أي أنه قليل المعروف. وأنشد الأصمعي:
لا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... قصير يد السربال مثل أبان
وقولهم: إنه لجعد البنان، وهو بخيل.
وقولهم: الحمى أضرعتني لك وإليك، يقول: الحاجة أذلتني إليك ولك.
وقولهم: من مدحنا فليقصد، يقول: من مدحنا فليقل الحق فإن المادح بالباطل غير ممتدح.
وقولهم: إنك تشجّ وتأسو، أي إنك تصلح وتفسد. وتأسو تداوي.
قال الشاعر:
يدٌ تشجُّ وأخرى منك تأسوني
وقولهم: سكت ألفاً ونطق خلفاً، يضرب مثلاً للرجل العيّ الذي يسكته العيّ عن الكلام. والخلف من الكلام الذي يشين صاحبه مثل خلف السوء، يقال: فلانٌ خلفٌ من أبيه إذا كان صالحاً، فإذا كان رديئاً قيل خلف، قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب
وقولهم: شر الرأي الدَّبريّ، يروى ذلك لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو أن يعرف الرجل وجه نجاح حاجته بعد فوت الحاجة.
وقولهم: أحُشّك وتروثني، أي أوليك خيراً وتوليني شراً. والأصل في ذلك أن رجلاً كان يحتشّ لفرسه وفرسه بقربه فراث على رأسه، فقال له: أحُشّك وتروثني! وقولهم: إن الخبيث عينه فراره، أي يتبين الخبث في الخبيث من غير اختبار.
وقد قيل: إن الجواد عينه فراره، أي يتبين فيه الجودة من غير اختبار. يقال: فرس جواد بيّن الجودة.
ونظر أعرابي إلى صياد فقال:
إن الخبيث عينه فراره ... في فمه شفرته وناره
ممشاه ممشى الكلب وازدجاره ... أطلس يخفي شخصه غباره

ويقال: إن رجلاً ضاف امرأة بالبادية وللمرأة ابنة فقالت لها: يا أمه لا تضيفيه فإن الخبيث عينه فراره، فلما أظلم الليل راود المرأة عن نفسها، وكانت عفيفة، فقالت لأمها: لولا حق الضيافة لانقلبت محروباً، فاستحيا الرجل فولّى وهو يقول:
تقول أم عامرٍ للغمر قل ... فإن تقل فعندنا ماءٌ وظلٌ
ولبنٌ تنهل منه وتعل ... أما الذي سألتنا فلا يحل
وقولهم:
خلا لك الجو فبيضي واصفري ... ونقّري ما شئت أن تنقري
قد رفع الفخ فماذا تحذري
قيل: كان طرفة بن العبد البكري مع عمه وهو صغير في بعض أسفارهما فنزلا على ماء فنصب طرفة فخه للقنابر وقعد لها وهنّ يحذرن الفخّ وينفرن مما حوله، فقال:
قاتلكن الله من قنابر ... منتبذاتٍ في الفلا نوافر
وأخذ فخه ورجع إلى عمه. فلما تحملوا أقبلت القنابر تلتقط ما كان ألقاه لهن من الحب، فالتفت فرآهن فقال:
يا لك من حمّرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
وقولهم: لو ترك القطا لنام، كانت حذام بنت الريان ملك معدّ وإن رجلاً من حمير سار إلى أبيها في حمير، فلقيهم الريان في أحياء ربيعة فالتقوا في أرض تدعى المرامة فاقتتلوا يومين وليلتين ثم رجع الحميري إلى عسكره وهرب الريان وسار يومه وليلته، فلما أصبح الحميري ورأى عسكر الريان سار في طلبه، وجعلوا يمرون ويثيرون القطا وجعلت القطا تمر على عسكر الريان، فانتبهت ابنته فقالت لقومها:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلاً لناما
فارتحلوا واعتصموا برؤوس الجبال ورجع القوم، ففي ذلك يقول حميد:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام

محاسن الجواب
قيل: دخل رجل على كسرى أبرويز فشكا عاملاً له غصبه على ضيعة له.
قال كسرى: منذ كم هي في يدك؟ قال: منذ أربعين سنة. فقال: أنت تأكلها منذ أربعين سنة ما عليك أن يأكل منها عاملي سنة! فقال: ما كان على الملك أن يأكل بهرام جوبين الملك سنة واحدة! فقال: ادفعوا في قفاه واخرجوه. فأُخرج، فأمكنته التفاتة فقال: دخلت بمظلمة وخرجت بثنتين. فقال كسرى: ردوه، وأمر برد ضيعته وجعله في خاصته.
ويقال: إن سعيد بن مرة الكندي حين أتى معاوية قال له: أنت سعيد؟ فقال: أمير المؤمنين سعيد وأنا ابن مرة.
قيل: ودخل السيد بن أنس الأزدي على المأمون فقال: أنت السيد؟ فقال: أنت السيد يا أمير المؤمنين وأنا ابن أنس.
وقيل للعباس بن عبد المطلب: أنت أكبر أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو، عليه السلام، أكبر مني وولدت قبله. وقيل: إنه قال وأنا أسنّ منه.
قيل: وقال الحجاج للمهلب: أنا أطول أم أنت؟ فقال: الأمير أطول وأنا أبسط قامة.
قال: ووقف المهدي على امرأة من بني ثعل فقال لها: ممن العجوز؟ قالت: من طيء. قال: ما منع طيئاً أن يكون فيها آخر مثل حاتم؟ فقالت: الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك. فأُعجب بقولها ووصلها.
قال: وقدم وفدٌ من العراق على عمر بن عبد العزيز، فنظر عمر إلى شابٍّ فيهم يريد الكلام، فقال عمر: أولو الأسنان أولى. فقال الفتى: يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن ولو كان كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك، فقال: صدقت، تكلم. قال: يا أمير المؤمنين إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقدمت علينا في بلادنا، وأما الرهبة فقد آمننا الله بعدلك من جورك. قال: فما أنتم؟ قال: وفد الشكر. قال: لله أنت ما أحسن منطقك! وقيل: إنه لما استوسق أمر العراق لعبد الله بن الزبير وجّه مصعب إليه وفداً، فلما قدم عليه الوفد قال: وددت أن لي بكل خمسة منكم رجلاً منهم. فقال رجل من أهل الشام: بل وددت أن لي بكل عشرة منكم رجلاً منهم. فقال رجل من أهل العراق: يا أمير المؤمنين علقناك وعلقت بأهل الشام وعلق أهل الشام آل مروان، فما أعرف لنا ولك مثلاً إلا قول الأعشى:
عُلّقتها عرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعُلّق أخرى غيرها الرجل
فما وجدنا جواباً أحسن من هذا.

وقيل: إنه عزم الفضل بن الربيع على تطهير بعض ولده فأتى الرشيد فقال: يا سيدي قد عزم عبدك على تطهير ولده خدمك فإن رأى أمير المؤمنين أن يزين عبده بنفسه ويصل نعمته هذه بنعمته المتقدمة ويتم سروره فعل متفضلاً على عبده متمنناً بذلك. فقال: نعم. فغدا إليه وقد أصلح جميع ما يحتاج إليه ووضعت الموائد وقعد الناس يأكلون وأقبل الرشيد يدور في داره، فرأى صبياً صغيراً أول ما نطق فقال: يا صبي أيما أحسن داركم هذه أم دار أمير المؤمنين؟ فقال: دارنا هذه أحسن ما دام أمير المؤمنين فيها فإذا صار أمير المؤمنين إلى داره فداره أحسن. فضحك منه الرشيد وتعجب من نجابته ووهب له عشر قريات ومائة ألف درهم.
وقال مسلمة بن عبد الملك: ما شيء يؤتاه العبد بعد الإيمان بالله أحب إليّ من جواب حاضر، فإن الجواب إذا تعقب لم يك شيئاً. وأنشد في مثله في مالك بن أنس صاحب الفقه:
يأبى الجواب فما يراجع هيبةً ... والسائلون نواكس الأذقان
هذا التقي وعز سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان

مساوئ الجواب
قيل: إنه اجتمع عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فذكر عمرو الزبرقان فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنه لمطاع في أدانيه شديد العارضة جواد الكف مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إنه ليعرف مني أكثر من هذا ولكنه يحسدني. فقال عمرو: والله يا نبي الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن لئيم العم أحمق الخال، والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى ولكني رضيت فقلت بأحسن ما أعلم وسخطت فقلت بأسوإ ما أعلم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً.
وذكروا أن الوليد بن عقبة قال لعقيل بن أبي طالب: غلبك أبو تراب على الثروة والعدد. فقال له: نعم وسبقني وإياك إلى الجنة. فقال الوليد: أما والله إن شدقيك لمتوضمتان من دم عثمان. فقال عقيل: ما لك ولقريش وإنما أنت فيهم كمنيح الميسر. فقال الوليد: والله إني لأرى لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لوردوا صعوداً. فقال له عقيل: كلا ما ترغب له عن صحبة أبيك.
قال: وقال المنصور لقواده: صدق القائل أجع كلبك يتبعك. فقال أبو العباس الطوسي: يا أمير المؤمنين أخاف أن يلوّح له رجل برغيف فيتبعه ويدعك.
قال: وقال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان بن الأهتم. قال: إن اسمك لكذب ما أنت بخالد، وإن أباك لصفوان وهو حجر، وإن جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم. فقال له خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار من هاشم. قال: لقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي فجعلتك عبدها وعبد دارها تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا.
قيل: ومرّ الفرزدق بالمربد فرأى خلف بن خليفة الشاعر، فقال للفرزدق: يا أبا فراس من القائل:
هو القين وابن القين لا قين مثله ... لقطع المساحي أو لقدّ الأداهم
فقال الفرزدق: الذي يقول:
هو اللص وابن اللص لا لص مثله ... لقطع جدارٍ أو لطرّ دراهم
قيل: ودخل أبو العتاهية على المأمون حين قدم العراق فأنشده شعراً يمدحه به، فأمر له بمال جزيل وأقبل عليه يحدثه إذ ذكر أبو العتاهية القدرية، فقال: يا أمير المؤمنين ما في الأرض فئة أجهل ولا أضعف حجة من هذه العصابة. فقال المأمون: أنت رجل شاعر وأنت بصناعتك أعلم فلا تتخطها إلى غيرها فلست تعرف الكلام. فقال: إن جمع أمير المؤمنين بيني وبين رجل منهم وقف على ما عندي من الكلام. قال ثمامة: فوجّه إليّ رسولاً، فلما دخلت قال: يا ثمامة زعم هذا أنه لا حجة لك ولا لأصحابك! قلت: فليسل عما بدا له.
فقال المأمون: سله يا إسماعيل. قال: أقطعه يا أمير المؤمنين بحرف واحد.

قال: شأنك. فأخرج أبو العتاهية يده من كمه وحركها وقال: يا ثمامة من حرّك يدي هذه؟ قلت: حركها من أمه زانية. قال: فضحك المأمون حتى فحص برجله وتمرّغ على فراشه وقال: زعمت أنك تقطعه بكلمة واحدة! فقال أبو العتاهية: شتمني يا أمير المؤمنين. قلت: ناقضت يا عاضّ بظر أمه! قال: فعاد المأمون في الضحك حتى خفت عليه من ضحكه وشدة ما ذهب له، ثم قلت: يا جاهل تحرك يدك وتقول من حركها! فإن كنت أنت المحرك لها فهو قولي وإن تكن الأخرى فما شتمتك! فقال المأمون: يا إسماعيل عندك زيادة في الكلام؟ فإن الجواب قد مضى فيما سألت. فما نطق بحرف حتى انصرف.

محاسن المسايرة
قال: فيما يُحكى عن أنوشروان أنه بينا هو في مسيرة له كان لا يسايره أحد من الخلق مبتدئاً وأهل المراتب على مراتبهم، فإن التفت يميناً دنا منه صاحب الحرس وإن التفت شمالاً دنا منه الموبذ فأمره بإحضار من أراد مسايرته. فالتفت في مسيره هذا يمينه فدنا منه صاحب الحرس فقال: فلان. فأحضره. فقال: عرفت حديث أردشير حين واقع ملك الخزر؟ وكان الرجل قد سمع من أنوشروان هذا الحديث مرة فاستعجم عليه وأوهمه أنه لا يعرفه، فحدثه أنوشراون هذا بالحديث وأصغى إليه الرجل بجوارحه كلها، وكان مسيرهما على شاطيء نهر، وترك الرجل النظر إلى موطيء قوائم دابته لإقباله على حديث أنوشروان، فزلّت إحدى رجلي دابته فمالت بالرجل إلى النهر فوقع في الماء ونفرت دابته فابتدرها حاشية الملك وغلمانه حتى أزالوها عن الرجل وجذبوه من تحتها وحملوه على أيديهم، فاغتم لذلك أنوشروان ونزل عن دابته وبُسط له هناك وأقام حتى تغدّى موضعه ذلك ودعا للرجل بثياب من خاص كسوته وألقيت عليه وأكل معه.
وقال: كيف أغفلت النظر إلى موطيء حافر دابتك؟ قال: أيها الملك إن الله جل وعز إذا أنعم على عبد بنعمة قابله بمحنة، وإنه جل ذكره أنعم عليّ نعمتين عظيمتين منهما إقبال الملك عليّ بوجهه من بين هذا السواد الأعظم، والأخرى هذه الفائدة وإقبال هذا الجيش الذي حدّث فيه عن أردشير، حتى لو رحلت من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب فيه كنت رابحاً، فلما اجتمعت عليّ هاتان النعمتان الجليلتان في وقت واحد قابلتهما هذه المحنة، ولولا أساورة الملك وخدمه كنت بعرض هلكةٍ، ولو غرقت حتى أذهب عن جديد الأرض كان الملك قد أبقى لي ذكراً مخلداً باقياً ما بقي الضياء والظلام. فسر بذلك أنوشروان وقال: ما ظننتك بهذه المنزلة! فحشا فمه جوهراً ودراً ثميناً واستبطنه حتى غلب على أكثر أمره.
وحكي عن يزيد بن شجرة الرهاوي أنه بينا هو يسير مع معاوية ومعاوية يحدثه عن خزاعة ويومها وبني مخزوم وقريش، وكل هذا قبل الهجرة وكان يوم إشراف الفريقين على الهلكة حتى جاءهم أبو سفيان فارتفع ببعيره على رايته ثم أومأ بكمه إلى الفريقين فانصرفوا، فبينا معاوية يحدث يزيد بن شجرة بهذا الحديث إذ صك وجه يزيد حجر عائر فأدماه وجعلت الدماء تسيل من وجهه على ثوبه ما يمسحه. فقال له معاوية: لله أنت! أما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا دم وجهك يسيل على ثوبك! فقال: أعتق ما أملك إن لم يكن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري وغطى على قلبي فما شعرت بشيء حتى نبهني له أمير المؤمنين. فقال له معاوية: لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء وأخرجك عن عطاء أبناء المهاجرين وحماة أهل صفين. وأمر له بمائة ألف درهم وزاد في عطائه ألف درهم وجعله بين ثوبه وجلده.
وحكي عن أبي بكر الهذلي أنه كان يساير أبا العباس السفاح إذ تحدث أبو العباس بحديث من أحاديث الفرس فعصفت الريح فرمت طستاً من سطح إلى طريق أبي العباس فارتاع من معه ولم يتحرك أبو بكر لذلك ولم تزل عينه مطابقة لعين أبي العباس. فقال له: ما أعجب شأنك يا هذا! لم ترع مما راعنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله جل وعز يقول: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وإنما للمرء قلب واحد، فلما غمر السرور قلبي بفائدة أمير المؤمنين لم يكن لحادث فيه مجال، وإن الله جل وعز إذا تفرد بكرامة أحد وأحب أن يبقي له ذكرها جعل ذلك على لسان نبيه أو خليفته، وهذه كرامة خصصت بها مال إليها ذهني وشغل بها فكري، فلو انقلبت الخضراء على الغبراء ما أحسست بها. فقال أبو العباس: لئن بقيت لك لأرفعن منك ما لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه العقبان.

وحكي عن قباذ أنه ركب ذات يوم والموبذ يسايره إذ راث دابة الموبذ وفطن قباذ لذلك فغمّ ذلك الموبذ، فقال له قباذ في أول كلام مرّ: ما أول ما يستدل به على سخف الرجل؟ قال: أن يعلف دابته في الليلة التي يركب الملك في صبيحتها. فضحك قباذ وقال له: لله أنت ما أحسن ما ضمّنت كلامك بفعل دابتك! وبحق ما قدمتك الملوك وجعلت أحكامهم في يدك! ووقف ودعا له بدابة من خاص مراكبه وقال: تحول من هذا الجاني عليك إلى ظهر هذا الطائع لك. وحكي عن معاوية بن أبي سفيان أنه بينا هو يسير وشرحبيل بن السمط يسايره إذ راث دابة شرحبيل وساءه ذلك. فقال معاوية: يا أبا يزيد إنه كان يقال إن الهامة إذا عظمت دلت على وفور الدماغ وصحة العقل. قال: نعم يا أمير المؤمنين إلا هامتي فإنها عظيمة وعقلي ضعيف ناقص، فتبسم معاوية وقال: كيف ذاك لله أنت؟ قال: لإعلافي دابتي مكوكين من شعير. فتبسم معاوية وحمله على دابة من مراكبه.
ويقال: إن سعيد بن سلم بينا هو يساير موسى الهادي وعبد الله بن مالك أمامه والحربة بيده فكانت الريح تسفي التراب الذي تثيره دابة عبد الله في وجه موسى وعبد الله في خلال ذلك يلحظ موضع مسير موسى فيطلب أن يحاذيه فإذا حاذاه ناله من ذلك التراب ما يؤذيه حتى إذا كثر ذلك من عبد الله قال موسى لسعيد: أما ترى ما لقينا من هذا الخائن في مسيرنا هذا؟ فقال له سعيد: والله يا أمير المؤمنين ما قصر في الاجتهاد ولكنه حرم حظ التوفيق.

مساوئ المسايرة
ذكر عن عبد الله بن الحسن أنه بينا هو يساير أبا العباس السفاح بظهر مدينة الأنبار وهو ينظر إلى بناء قد بناه إذ قال أبو العباس: هات ما عندك يا أبا محمد. وهو يستطعمه الحديث بالأنس منه. فأنشده:
ألم تر حوشباً أمسى يبنّي ... بناءً نفعه لبني بقيله
يرجّي أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليله
فتبسم أبو العباس وقال: لو علمنا لاشترطنا حق المسايرة. فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين بوادر الخواطر وأعقال المشايخ. قال: صدقت خذ في غير هذا.
وذكر عن المدائني قال: بينا عيسى بن موسى يساير أبا مسلم في منصرفه عن أبي جعفر في اليوم الذي قتل فيه إذ أنشد:
سيأتيك ما أفنى القرون التي مضت ... وما حلّ في أكناف عادٍ وجرهم
ومن كان أسنى منك عزاً ومفخراً ... وأنهض بالجيش اللُّهام العرمرم
فقال أبو مسلم: هذا مع الأمان الذي أعطيت. فقال عيسى: عتق ما يملك إن كان هذا لشيء من أمرك وما هو إلا خاطر. قال: فبئس والله الخاطر!
محاسن المسامرة
قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مال كثير قد شق عنه البدر شقاً وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله، وكان كثيراً ما يحدثني، فقال: هل علمت من أول من سنّ هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هذا عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة.
فقال: سأخبرك، كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين الملك ملك الروم، وكانت تطرّز بالرومية وكان طرازها أبا وبنا وروحا قديشا. فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه عليه وكان فطناً، فبينا هو ذات يوم إذ مرّ به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية ففُعل ذلك فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وهي تحمل في الأواني والثياب وهما تعملان بمصر وغير ذلك مما يطرّز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله وأهله تخرج منه هذه القراطيس فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرّزت بشرك مثبت عليها! فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان، وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرّز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك وأن يأخذ صنّاع القراطيس بتطريزها بصورة التوحيد: وشهد الله أنه لا إله إلا هو. وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير. وكتب إلى عمّال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وُجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.

فلما أُثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه فاستشاط غضباً وكتب إلى عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الخلتين أيتهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية. وكانت عظيمة القدر.
فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية. فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً. فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية. فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهّمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي. ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام.
فينقش عليها مِن شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً، فأُحب أن تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه وتجعل ذلك هدية بررتني بها ونبقى على الحال بيني وبينك.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال: احسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب. إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم.
وجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به. فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه. فقال: ويحك من؟ قال: الباقر من أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم! قال: صدقت ولكنه أرتج عليّ الرأي فيه.
فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إليّ محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته وأزح علته في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه واحتبس الرسول قبله إلى موافاته عليّ. فلما وافى أخبره الخبر فقال له عليّ: لا يعظمنّ هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله جل وعز لم يكن ليطلق ما يهددك به صاحب الروم في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والأخرى وجود الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع يضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الثلاثة الأصناف التي العشرة منها عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب سنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.
وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب، رحمه الله، بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية: نوش خر، أي كل هنئياً. وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً. والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس.

ففعل عبد الملك ذلك. وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهددوا بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها وأن تبطل وترد إلى موضع العمل حتى تعاد على السكك الإسلامية. ففعل عبد الملك ذلك وردّ رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ويقول: إن الله جل وعز مانعك مما قدرت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار الأرض بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية.
فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب. فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت به إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام. وامتنع من الذي قال وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم.
قال: ثم رمى الدرهم إلى بعض الخدم وقال: عليّ بالخازن. فأقبل الخازن. فقال: ائتني بالجبل. فأتاه بحُقّ فيه خاتم ياقوت يتّقد كأنه مصباح، فقال للخادم: ضع لنا هذا على هذا الدرهم الذي معك وليكن على مقدار إصبعي. ثم قال: أتعرف هذا الخاتم؟ فقلت: لا يا سيدي.
قال: إن ملك الترك كان غزا في زمن أبي مسلم سمرقند وعليها عامل له يقال له صبيح بن إسماعيل ومع ملك الترك قائد لملك الصين كان جليلاً عنده عظيم القدر بمنزلة ولي العهد أمدّه به لصهرٍ كان بينهما في سبعين ألف رجل، وإن صبيح بن إسماعيل ظفر بعسكر التركي وهزمه وغنم عامة ما فيه وأسر رجاله كافة وأسر القائد الصيني فيمن أسر فكان هذا الخاتم في إصبعه فأخذه منه وبعث به إلى أبي مسلم فبعث به أبو مسلم إلى أبي العباس فأعجب به إعجاباً شديداً ودعا له من يبصره من الجوهريين والمقومين وسألهم عن قيمته فلم يحسنوا أن يقوموه، فلم يزل مرفوعاً في خزانته إلى أن مات، فلما أخرج ما كان في خزانته من الجواهر والذخائر لتباع أُخرج هذا الخاتم فنودي عليه وطلبه المنصور وعيسى ابن موسى وتزايدا عليه فبلغ به المنصور أربعين ألف دينار وحرص على شرائه واشتدت عليه مزايدة عيسى إياه فيه، فلما رأى عيسى أن ذلك قد أغاظه أمسك عن مزايدته فاشتراه المنصور بأربعين أفل دينار، فما ظنك بشيء يشتريه المنصور بهذه الجملة في ذلك الزمان وكان الدرهم أعز من الدينار في زماننا؟ فلم يزل في خزانته إلى أن ولي المهدي فأخرجه ووهبه لي من دون أخي الهادي، وذلك أنه جعل ولايه العهد له فأرضاني عن ولاية العهد بهذا الخاتم وبأشياء أخر، فلما ولي الهادي طلب مني الخاتم فمنعته ولجّ فيه لجاجاً شديداً وبعث إليّ سعيد ابن سلم الباهلي يدعوني فعلمت لماذا يدعوني فأخذت هذا الخاتم وأخرجته من إصبعي، فلما توسطت الجسر قلت لسعيد: انظر إلى هذا الخاتم، ثم رميت به في دجلة. ومضى سعيد إلى الدار فأخبر الهادي بما كان مني. فبعث بالغواصين إلى الموضع الذي ألقيت فيه الخاتم فطلبوه أشد طلب فلم يقدروا عليه. فلما صار الأمر إلينا بعثنا بالغواصين فأخرجوه فها هوذا عندي. ثم قال: يا علي أتعبناك بذكر هذه الأموال وقد عوضناك لإصغائك إلينا بخمسين ألف درهم. فحملت بين يدي.
وحكي بعد ذلك أن هذا الخاتم صار إلى المأمون فوهبه لبوران ابنة الحسن بن سهل ذي الرياستين ثم صار إلى المعتصم ثم إلى المعتز والمستعين فنقشه المستعين ثم صار كل خليفة ينقش عليه اسمه حتى نقصت قيمته، وهو الآن عند الخليفة المقتدر بالله.

مساوئ المسامرة

علي بن محمد بن سليمان الهاشمي قال: حدثني أبي عن سليمان بن عبد الله قال: وفدت على أبي العباس، فكان يدعوني في كل ليلة مقامي عنده ويعقب بين أصحابه وأهل الأقدار والأدب ومن يحضر بابه فيسامرونه، فإذا كانت الليلة التي يحضره فيها سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة المخزومي وجدّته أم هانيء بنت أبي طالب، وكانت قد كبرت سنّه وشهد عامة سلطان بني أمية، وكانت السن قد أرعشته، فقال له: يا سعيد حدّث عن بني أمية فإنك لا تزال تحدث عنهم وعن جوهرهم. فقال: يا أمير المؤمنين حضرت الجمعة ونحن مع الوليد بن يزيد فمضينا نريد الجمعة فإذا سرادق قد ضُمّت إليه سرادقات ومدت الحجر في جنبتيه ووضع المنبر وأخذ الناس يتطوعون وينتظرون الفريضة، فلما زالت الشمس أذّن المؤذن فأذنه بالصلاة، فإذا أصوات الملاهي والمعازف والمزامير مقبلة من مضربه نحونا، فما راعنا إلا به على هذا الذي يسميه اللعابون الداربازي عليه غلالة وإزار مصبوغان بالزعفران لا يواريان عورته متشح بإزار وهو متخلق في فمه مزمار حتى أشرف علينا وهو يقول: طوط طوط. وحكاه الشيخ برعشته، فضحك أبو العباس حتى استلقى على فراشه وضرب مرافقه برجليه.

محاسن الإغضاء
حُكي عن بهرام جور أنه خرج يوماً لطلب الصيد فاحتمله فرسه حتى دفع إلى راعٍ تحت شجرة وهو حاقن. فقال للراعي: احفظ عليّ عنان فرسي حتى أريق ماء. فأخذ بركابه حتى نزل وقبض على عنان الفرس، وكان عنانه ملبساً ذهباً، فوجد الراعي غفلة من بهرام فأخرج من خفه سكيناً فقطع به أطراف اللجام، فرفع بهرام رأسه فنظر إليه فاستحيا ورمى بطرفه إلى الأرض وأطال الاستبراء ليأخذ الراعي حاجته من اللجام، وجعل الراعي يفرح بإبطائه عنه حتى إذا ظن أنه قد فرغ وأخذ من اللجام حاجته قال: يا راعي قدّم إليّ فرسي فإنه سقط في عينيّ شيء. وغمض عينه لئلا يوهمه أنه يتفقد حلية اللجام، فقرب الراعي منه فرسه فركبه. فلما ولى قال له الراعي: أيها العظيم كيف آخذ إلى موضع كذا وكذا مكاناً بعيداً؟ قال بهرام: وما سؤالك عن هذا الموضع؟ قال: هناك منزلي وما وطئت هذه الناحية قط غير يومي هذا ولا أراني أعود إليه أبداً. فضحك بهرام وفطن لما أراده الراعي وقال: أنا رجل مسافر وأنا أحق بأن لا أعود إلى ما ها هنا أبداً. ثم مضى، فلما نزل عن فرسه قال لصاحب مراكبه: إن معاليق اللجام وهبتها لسائل مرّ بي فلا تتهم أحداً.
وحكي عن أنوشروان أنه قعد في يوم نيروز أو مهرجان ووضعت الموائد ودخل وجوه الناس وكسرى بحيث يراهم ولا يرونه. فلما فرغ الناس من الطعام وجاؤوا بالشراب في آنية الفضة وجامات الذهب فشرب الأساورة وأهل الطبقة العالية في آنية الذهب. فلما انصرف الناس ورفعت الموائد أخذ بعض أولئك القوم جام ذهب فأخفاه في قبائه وأنوشروان يلحظه فصرف وجهه عنه، وافتقد صاحب الشراب الجام فصاح: لا يخرجن أحد من الدار حتى يُفتش! فقال كسرى: لا يعرضنّ لأحد. وانصرف الناس. فقال صاحب الشرب: إنا قد فقدنا بعض آنية الذهب. فقال الملك: صدقت، أخذها من لا يردها ورآها من لا يخبرك بها.
وحكي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قعد للناس في يوم عيد ووضعت الموائد وبدر الدراهم للجوائز والصلات. فجاء رجل من الجماعة فقعد على كيس فيه دنانير والناس يأكلون. فصاح به الخدم: تنحّ فليس لك هذا الموضع! فسمع معاوية وقال: دعوا الرجل يقعد حيث أحب. وأخذ الكيس وقام فلم يجسر أحد أن يدنو منه. فقال الخدم: أصلح الله الأمير! إنه قد نقص من المال كيس فيه دنانير! فقال: أنا صاحبه وهو محسوب عليّ لكم.
وأحسن من هذا ما فعله جعفر بن سليمان بن عليّ وقد عثر برجل أخذ درّة رائعة ثمينة من بين يديه فطلب بعد أيام فلم يوجد فباعها الرجل ببغداد، وقد كانت وصفت لأصحاب الجوهر فأُخذ وحمل إلى جعفر، فلما رآه وبصر به استحيا منه وقال: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها؟ قال: نعم. فقال: لا تعرضوا له. فباعها الرجل بألوف الدنانير.
مساوئ الإغضاء
قال: بعث زياد إلى رجال من بني تميم وجمع العرفاء فقال: أخبروني بصلحاء كل ناحية. فأخبروه. فاختار منهم رجالاً فضمّنهم الطريق وحدّ لكل واحد منهم حداً، فكان يقول: لو ضاع بيني وبين خراسان شيء لعلمت من أخذه. وكان يدفن النباش حياً وينزع أضلاع اللصوص.

قيل: وقال عبد الملك للحجاج: كيف تسير في الناس؟ قال: أنظر إلى عجوز أدركت زياداً فأسألها عن سيرته ثم أعمل بها. قال عوف الأعرابي: فأخذ والله بسيء أخلاقه وترك أحسنها.
قال: واختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: أصلح الله الأمير! هذا يدل عليّ بخاصة زعم أنها له منك. فقال: صدق وسأخبرك، إن كان الحق لك عليه قضيت عليه وقضيت عنه، وإن كان الحق له عليك أخذتك به أخذاً عنيفاً.

محاسن التأني
قال بعض الحكماء: التؤدة يمن وفي اليمن النجح. وأنشد في ذلك القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من حرم الرفق فقد حرم الخير.
ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر ... وفي الرواح على الحاجات والبكر
لا تضجرنّ ولا يعجزك مطلبها ... فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني وجدت، وفي الأيام تجربةٌ، ... للصبر عاقبةً محمودة الأثر
وقلّ من جدّ في أمرٍ يحاوله ... فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعائشة، رضي الله عنها: عليك بالرفق فإن الرفق لا يخالط شيئاً إلا زانه ولا يفارق شيئاً إلا شانه، وخلق الله جلّ وعز السموات والأرض في ستة أيام ولو شاء جل وعز قال لها كوني فكانت، وفي المثل: رب عجلة تهب ريثاً، يقول: رب عجلة يراد بها صلاح الأمر فتفسده حتى لا يصلح إلا بعد مدة طويلة، فكأنها كانت ريثاً. وهذا قريب من قول بزرجمهر: إن شراً من التواني الاجتهاد في غير حينه. وأنشدنا ابن حمزة:
الخرق شؤمٌ والأناة سعادةٌ ... فاستأن حلمك في أمورك تسلم
وكان يقال: إن من الحزم الأناة والتثبيت فإن العجلة لا تزال تورث أهلها حسرة وندامة. وأنشد:
الرفق يمنٌ والأناة سعادةٌ ... فاستأن في رفقٍ تلاق نجاحا
مساوئ العجلة والحدة
قيل: سأل المأمون أحمد بن أبي خالد عن أخلاق أبي عباد ثابت الكاتب فقال: هو يا أمير المؤمنين أحدّ من سيف سعيد بن العاص وأنزق من مجنون البكرات، قال: ما أتبين ذلك فيه. قال: لموضع الخلافة وعلى ذاك فإن حركته تحرك. فأراد المأمون أن يمتحنه فدخل عليه فعرض ما معه من الحوائج فأمره أن يوقع فيها ثم خرج. فلما صار بالباب قال: ردوه. فرجع. فقال: افعل في الأهوازيين ما قلت لك ولا تعرض فيه رقعة. قال: نعم. ثم خرج. فلما صار بالباب قال: ردوه. فأتاه الرسول فقال: ارجع. فرجع. فقال: قل لعمرو بن مسعدة أخّر أمر أبي دلف حتى آمرك بما أريد. ثم خرج. فلما صار بالباب قال: ردوه. فأتاه الرسول فقال: ارجع. فتناول الدواة وقال: الساعة والله أضرب بها وجهك القبيح يا ابن الخبيثة! قال الغلام: ما ذنبي؟ قال: ينبغي أن تقول قد ذهب إلى النار. ورجع فقال: ارفع في غدٍ فيما تعرض قصة الهاشميّين. قال: نعم. ثم قال: والله لا أرجع بعدها! فضحك المأمون حتى أمسك بطنه وقال: انطلق راشداً.
قال: وقعد المأمون ذات يوم وأبو عباد يكتب بين يديه إذ دخلت شعرة بين سنّي القلم فأهوى لإخراجها بأسنانه ثم كتب فإذا هي على حالها، فأهوى إليها ثانية فقطع طرفها وبقي أصلها ثم كتب فإذا هي قد أعمّت حروفه، فأخذ القلم فاتكى عليه بأسنانه وكسره وقال: لعنك الله ولعن من يراك ولعن من أنت له! فضحك المأمون وقال: بحقّ قيل فيك ما قيل.
محاسن المكافأة
قال بعض الحكماء: لا يكونن سلاحك على عدوك أن تكثر سبّه وشتمه فإنك إنما تخبر عن خبره فيك وعجزك عنه، ولكن عامله بالكظم وساتره بالحيلة، فإن أقدمت أقدمت مع الفرصة وإن غلبت على الظفر لم تغلب على ستر العجز.
وقيل: الأدب الصبر على كظم الغيظ حتى تملك الفرصة.

وقال أبو عمرو بن العلاء: لما قدم عبد الملك المدينة خطب فقال: يا أهل المدينة إنا والله ما نحبكم ما ذكرنا ما فعلتم بنا ولا تحبّونا ما ذكرتم ما فعلنا بكم! وإنما مثلنا ومثلكم كمثل حية كانت في جحر إلى جنبها خباء رجل فوثبت عليه فلسعته فقتلته فجاء أخو المقتول يطلب بثأر فقالت له الحية: لا تقتلني حتى أؤدي إليك دية أخيك. ففارقها على ذلك وعاهدها فكانت تؤدي إليه في كل يومين مالاً، فلما استوفى أكثر الدية قال: والله لو قتلتها كنت قد أدركت ثأري وأخذت الدية. فعمل فأساً وحددها، فلما خرجت إليه أهوى إليها بالفأس فأخطأها ورجعت إلى جحرها فأُسقط في يده. فقالت: والله ما الثأر أدركت ولا الدية استوفيت! فقال: تعالي أعاقدك أن لا ينداك مني مكروه حتى أستوفي منك الدية. فقالت: أما ما رأيت قبر أخيك تجاهك وذكرت أنا الضربة فلن أثق بك ولن تثق بي. ثم أنشده:
ألا هل لنا مولىً يحب صلاحنا ... فيعذرنا من مرة المتناصره
وأنشد في مثله:
ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت فأزمعوا أن يظلموني
فلست بصابرٍ إلا قليلاً ... فإن لم ينتهوا راجعت ديني
ولآخر:
إياك من ظلم الكريم فإنه ... مرُّ مذاقته كطعم العلقم
إن الكريم إذا رآك ظلمته ... ذكر الظلامة بعد نوم النُّوَّم
فجفا الفراش وبات يطلب ثأره ... أنفاً وإن أغضى ولم يتكلم

محاسن الشدة
ذكروا أن جندب بن العنبر كان شديد البأس وأن عوانة بن زيد عيّره يوماً فقال:
هل يسود الفتى إذا قبح الوج ... ه وأمسى تراه غير عتيد
وإذا ما تكلم القوم يوماً ... في الندى قال قولاً غير سديد
وكان جندب فيه دمامة مع إمساك غير أنه كان ليثاً في الحرب، فأجابه:
ليس زين الفتى الجمال ولكن ... زينه الضرب بالحسام التليد
وكان جندب عائفاً فقال: والله لا تموت حتى تنصر عليك ظعينة. وإن عوانة خرج يوماً يتصيد على فرسه ومعه قوسه فسار غير قليل إذ عرضت له جارية قد حملت وطباً من لبن فهمّ بها فدنا فقال: تمكّنيني طائعة أو تُقهرين؟ فقالت: لا إحداهما. فنزل إليها فأخذت ساعديه بإحدى يديها فما زالت تعصرهما حتى تركتهما وما يستطيع أن يحركهما ثم كتفته بوتر قوسه وشدت حبل الفرس في جيده ثم قالت: خذ بنا نحو محلة جندب. فمرّ يقود الفرس في جيده حبل. فلما قارب الحي بصر بجندب مقبلاً فناداه: أيها المرؤ الكريم انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً! فذهب مثلاً، فأطلقه.
ومنهم كليب بن شؤبوب الأزدي كان أخبث أهل زمانه في قطع الطريق وحده، وكان كثير الغارة على طيء، فدعا حارثة بن لأم الطائي رجلاً من قومه يقال له عبرم، وكان شجاعاً، فقال له: أما تستطيع أن تكفينا هذا؟ قال: نعم. فأرسل العيون حتى علم مكانه فانطلق إليه حتى وجده نائماً في ظل أراكة وفرسه مشدودٌ عنده، فنزل عبرم ورجل معه فمشيا حتى أخذ كل واحد منهما بإحدى يديه، فانتبه ونزع يده اليمنى فقبض على حلق صاحب اليسرى وهو عبرم فما زال يخنقه حتى قتله. وقد كان أعدّ قوماً فلحقوه وهم عشرة فوجدوه قتيلاً، وأخذوا كليباً فكتفوه وساقوه، وأنشأ خوذة بن عبرم يرثي أباه ويقول:
إلى الله أشكو أن أؤوب وقد ثوى ... قتيلاً وأودى سيد القوم عبرم
فمات ضياعاً هكذا بيد امريءٍ ... لئيمٍ فلو أدمي لما كنت أثلم
ولكن ثوى لم يكلم السيف جيده ... ولا ناله رمحٌ ولم يرق الدم
فأنت ابن شؤبوبٍ فيا لهفتا له ... وما جزّ من أظفاره منك أكرم
سأسقيك قبل الموت كأساً مزاجها ... ذعافٌ من السم النقيع وعلقم
فأجابه كليب:
أخوذة إن تفخر وتزعم بأنني ... لئيمٌ ويأبى لي قتالي عبرم
فأقسم بالبيت المحرم من منىً ... وبرّ يميني صادقاً حين أقسم
لضبٌّ بقفرٍ من قفارٍ وضبعةٍ ... خموعٌ ويربوع الفلا منك أكرم
ألا عجباً من فخر هذا وأمه ... سواديةٌ والجد علجٌ مكدّم
أتوعدني بالمنكرات وإنني ... صبور على ما ناب جلد مصمم

واعلم أني ميتٌ لا محالةً ... فلا جزعاً إن كنت ذلك تعلم
فأراد خوذة قتله فمنعه أصحابه حتى يذهبوا به إلى حارثة. فلما انتهوا إليه قال له حارثة: يا كليب أنت أسير. فقال: من ير يوماً ير به! فذهبت مثلاً. فدفعه إلى خوذة فخنقه حتى مات.
ومنهم هدبة بن خشرم قتل ابن عم له يسمى زيادة بن زيد فحبس ليقاد به، فلم يزل محبوساً حتى شبّ ابن المقتول فدخل عليه السجن وهو يلاعب صاحباً له بالشطرنج فقيل له: قم إلى القتل! فقال: حتى أفرغ من لعبتي. فلما فرغ خرج وجعل يهرول. فقيل له: ما بالك تأتي الموت هكذا؟ فقال: لا آتيه إلا شداً. فلقيه عبد الرحمن بن حسان فقال: أنشدني. فأنشده:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اطلاع النفس بين الجوانح
وقبل غدٍ يا لهف نفسي على غدٍ ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إذا راح أصحابي وخُلّفت ثاوياً ... بداويةٍ بين المتان الضحاضح
قال: ثم أقعد ليقاد فنظر إلى أبويه فقال:
أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً منكما بادٍ لشرّ
لا أرى ذا الموت يبقي أحداً ... إن بعد الموت دار المستقرّ
ثم نظر إلى امرأته فقال لها:
لا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
وكوني حبيساً أو لأروع ماجدٍ ... إذا ضنّ أغساس الرجال تبرُّعا
فمالت زوجته إلى جزار فأخذت مديته فقطعت بها أنفها وجاءته مجدوعة فقالت: أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟ فرسف في قيوده وقال: الآن طاب الموت. فلما قُدّم ليقاد بابن عمه وأخذ ابن زيادة السيف فضوعفت له الدية حتى بلغت مائة ألف درهم، فخافت أم الغلام أن يقبل ابنها الدية ولا يقتله فقالت: أعطي الله عهداً لئن لم تقتله لأتزوجنه فيكون قد قتل أباك ونكح أمك! فقتله.
قال: ولما واقع طلحة والزبير عثمان بن حنيف عامل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، على البصرة خرج حكيم بن جبلة العبدي فشدّ عليه رجل من أصحاب طلحة فقطع رجله، فزحف إلى رجله حتى أخذها ورمى بها قاطعها فقتله، ويقول: يا رجل لا تراعي، فإن معي ذراعي. ثم حبا إلى المقتول فاتكأ عليه. فقيل له: يا حُكيم من ضربك؟ فقال: وسادتي.
وعن معاذ بن الجموح قال: سمعت الناس يوم بدر يقولون: أبو الحكم لا يخلصنّ إليه. يريدون أبا جهل. فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطننت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبّهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضحة النوى. قال: وضربني عكرمة بن أبي جهل على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي فأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها حتى طرحتها.
قيل: ولما حمل رأس محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور من مدينة الرسول، عليه وعلى آله السلام، قال لمطير بن عبد الله: أما تشهد أن محمداً بايعني؟ قال: أشهد بالله لقد أخبرتني أن محمداً خير بني هاشم وأنك بايعت له. قال: يا ابن الزانية أنا قلت؟ قال: الزانية ولدتك. قال: يا ابن الزانية الفاعلة أتدري ما تقول؟ قال: التي تعني خير من أمك. فأمر به فوتّد في عينيه فما نطق.
قيل: وقدم أعرابي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يستحمله فقال: خذ بعيراً من إبل الصدقة. فنظر إلى بعير منها فتعلق بذنبه ونازعه البعير فاقتلع ذنبه. فقال عمر: هل رأيت أشدّ منك؟ قال: نعم، خرجت بامرأة من أهلي أريد بها زوجها فنزلت منزلاً أهله خلوف، فدنوت من الحوض فإذا رجل قد أقبل ومعه ذود له فصرف ذوده إلى الحوض وأقبل نحو المرأة ولا أدري ما يريد، فلما قرب منها ساورها فنادتني فلما انتهيت إليه كان قد خالطها فجئت أدفعه فأخذ رأسي فوضعه بين ذراعه وجنبه فما استطعت أن أتحرك حتى قضى ما أراد، ثم قام فاضطجع وقالت: نعم الفحل هذا لو كانت لنا منه سخلة. فأمهلت حتى امتلأ نوماً ثم قمت إليه فضربت ساقه بالسيف فأطننتها، فوثب فهربت وغلبه الدم فرماني بساقه فأخطأني وأصاب بعيري فقتله. فقال عمر: فما فعلت المرأة؟ فقال: هذا حديث الرجل. فكرر عليه مراراً كل هذا يقول هذا حديث الرجل.

أقسام الكتاب
1 2 3 4