كتاب : المحب والمحبوب و المشموم و المشروب
المؤلف : السري الرفاء

بشار :
يا قَّرةَ العينِ إني لا أسمِّيكِ ... أكني بأخرى أسمِّيها وأعنيكِ
أخشى عليكِ من الجارات حاسدةً ... أو سهمَ غيرانَ يرميني ويرميكِ
لولا الرقيباتُ إذ ودَّعت رائحةً ... قبَّلتُ فاكِ وقلتُ : النفسُ تفديكِ
يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مختبرٍ ... إلا شهادةَ أطرافِ المساويكِ
قد زرتنا زورةً في الدهر واحدةً ... باللهِ لا تجعليها بيضةَ الديكِ
يا رحمةَ اللهِ حلّي في منازلنا ... حسبي برائحةِ الفردوسِ من فيكِ
ابن الطثرية :
تكنَّفني الواشونَ من كلِّ جانبٍ ... ولو كانَ واشٍ واحدٌ لكفاني
إذا ما جلسنا مجلساً نستلذُّهُ ... تواشوا بنا حتى أملُّ مكاني
نويفع بن لقيط :
حننتُ ولم تحننْ أوانَ حنينِ ... وقلَّبت خلفَ الركبِ طرفَ حزينِ
يشوق الحمى أهلُ الحمى ويشوقني ... حمىً بينَ أفخاذٍ وبينَ بطونِ
عبيد الله بن قيس :
ظعائنٌ من قشيرٍ عشنَ في سعةٍ ... من المعيشةِ أترابٌ مبادينُ
أعارهنَّ فتورَ الطرفِ في زججٍ ... أدمُ الظباءِ المرابيعُ المشادينُ
عروة:
لا تزالُ الديارُ في برقةِ النج ... دِ لسعدى بقرقرى تبكيني
تيَّمَ القلبَ ظبيةٌ ذاتُ خشفٍ ... من ظباءٍ ليستْ بذاتِ قرونِ
فتحيلتُ أن أرى وجهَ سعدى ... فإذا كلُّ حيلةٍ تعييني
فتنكرتُ ثمَّ جئتُ إلى البا ... بِ على غرةٍ فلمْ يعرفوني
قلتُ لمّا ولجتُ في سدَّةِ البا ... بِ لسعدى مقالةَ المسكينِ
افعلي بي يا ربَّةَ الخدرِ خيراً ... ومنَ الماء جرعةً فاسقيني
إنما شهوتي رضابكِ إن شئ ... تِ بما شئتِ جرعة تغنيني
فاشمأزَّتَ عنِ المقالِ وقالتْ ... كلَّ يومٍ بعلةٍ تأتيني
العباس :
لو كنت عاتبةً لسكَّنَ عبرتي ... أملي رضاكِ وزرتُ غيرَ مراقبِ
لكنْ صددتِ فلم تكنْ لي حيلةٌ ... صدُّ الملولِ خلاف صدِّ العاتبِ
ذو الرمة:
لقد ْ كنتُ أخفي حبَّ ميٍّ وذكرها ... رسيسُ الهوى حتى كأنْ لا أريدها
فما زالَ يعلو حبُّ ميّةَ عندنا ... ويزدادُ حتى لمْ نجدْ ما نزيدها
أعرابي :
أمسَّ العينَ ما مسَّتْ يداها ... لعلَّ العينَ أن يبرا قذاها
يقولُ الناسُ : ذو رمدٍ معنّى ... وما بالعينِ من رمدٍ سواها
الأحوص :
يا موقدَ النارِ بالعلياءِ من إضم ... أوقد فقد هجتَ قلباً دائمَ السقمِ
يا موقدَ النارِ أوقدها فإنَّ لها ... سناً يهيجُ فؤادَ الهائمِ السدمِ
بشامة :
سقى العلمَ الفردَ الذي في ظلا لهِ ... غزالانِ مكحولانِ قد سبياني
أردتهما ختلاً فلم أستطعهما ... ورمياً ففاتاني وقد قتلاني
ذو الرمة :
خليليَّ أدّى الله خيراً إليكما ... إذا قسمتْ بينَ العباد أجورُها
بميٍّ إذا أدلجتما فاطردا الكرى ... وإن كان آلى أهلها لا نطورُها
يقرَّ بعيني أنْ أراني وصحبتي ... نعنّي المطايا نحوها ونجيرُها
ابن الطثرية :
إذا ما الريحُ نحو الأثلِ هبَّت ... وجدتُ الريحَ طيبةً جنوبا
وماذا يمنعُ الأرواحَ تسري ... بريّا أمِّ عمروٍ أن تطيبا
نصيب :
أيا صاحبَ الخيماتِ من بطنِ أرثدٍ ... إلى النخلِ من ودَّانَ ما فعلتْ نعمُ
أسائلُ عنها كلَّ ركبٍ لقيتهم ... ومالي بها من بعد مكثفهمُ علمُ
أنشد ثعلب :
هجرتك لمَّا أن هجرتكِ أصبحتَ ... بنا شمَّتاً تلكَ العيونُ اللوامحُ
فلا يفرحِ الأعداءُ بالهجرِ ربمَّا ... أطالَ المحبُّ الهجرَ والقلبُ بارحُ
وتغدو النَّوى بينَ المحبَّينَ والهوى ... مع القلبِ مطويٌّ عليه الجوانحُ
أبو دهبل :
ومغتربٍ بالمرجِ يبكي لشجوه ... وقد غابَ عنه المسعدونَ على الحبِّ
إذا ما أتاهُ الرِّكبُ من نحو أرضها ... تنشَّقَ يستشفي برائحةِ الرِّكبِ
عبيد الله بن عبد الله عتبة بن مسعود :
ألا منْ لنفسٍ لا تموتُ فينقضي ال ... عناءُ ولا تحيا حياةً لها طعمُ
تجنَّبتُ إتيانَ الحبيبِ تأثُّماً ... ألا إنَّ هجرانَ الحبيبِ هو الإثمُ

فذقْ هجرها قد كنتَ تزعمَ أنَّهُ ... رشاد ألا يا ربما كذبَ الزعمُ
ذو الرمة :
وقد كنتُ من ميٍّ إذ الحيُّ جيرةٌ ... على بخلِ ميٍّ ميِّتَ الشوقِ ساهيا
أقولُ لها في السرِّ بيني وبينها ... إذا كنتُ ممن عينه العينُ خاليا
تطيلينَ ليًّا وأنتِ مليَّةٌ ... وأحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التقاضيا
وله :
ألا ربَّما سؤتُ الغيورَ وبرَّحتْ ... بي الأعينُ النجلُ المراضُ الصحائحُ
وساعفتُ حاجاتِ الغواني وراقني ... على بخلِ رقراقا تهنَّ الملائحُ
جرير :
ولقد تسقَّطني الوشاةُ فصادفوا ... مذلاً بسرِّكِ يا أميمَ ضنينا
فارعيْ كما نرعىْ بغيبٍ وصلكمُ ... وإذا ضننتِ بنائلٍ فعدينا
آخر :
ألمْ تعلمي يا أملحَ الناسِ أننَّي ... أحبُّكِ حبّاً مستكناًّ وباديا
أحبُّكِ ما لو كانَ بينَ قبائلٍ ... من الناسِ أعداءٌ لجرَّ التصافيا
كثيِّر عزَّة :
فو اللهِ ما أدري أطائفُ جنةٍ ... تأوَّبني أمْ لم يجدْ أحدٌ وجدي
عشيَّةَ ما أعدي بدائي صاحبي ... ولم أرَ داءً مثلَ دائي لا يعدي
وكانَ الهوى خدنَ الشبابِ فأصبحا ... وقد غادراني في مغانيهما وحدي
ذو الرِّمة :
سلوا الواجدينَ المخبرينَ عن الهوى ... وذو البثِّ أحياناً يبوحُ فيصرحُ
أتقرحُ أكبادُ المحبينَ كالذي ... أرى كبدي من حبِّ ميَّةَ تقرحُ
أنينٌ وشكوى بالنهارِ شديدةٌ ... عليَّ وما يأتي به الليلُ أبرحُ
المجنون :
ألا حبَّذا يومٌ تهبُّ به الصَّبا ... لنا وعشيَّاتٌ تدلَّتْ غيومها
بنعمانَ إذ أهلي بنعمانَ جيرة ... لياليَ إذ يرضى بدارٍ مقيمها
أيا جبليْ نعمانَ باللهِ خليَّا ... سبيلَ الصَّبا يخلصْ إليَّ نسيمها
فإنَّ الصَّبا ريحٌ إذا ما تنفستْ ... على نفسِ محزونٍ تجلَّتْ غمومها
أجدْ بردها أوتشفِ منى حرارةً ... على كبدٍ لم يبقَ إلاَّ صميمها
تذكَّرتُ وجدَ الناعجيَّاتِ بالضحى ... ولذَّةَ دنيا قد تقضّى نعيمها
ألا إنَّ أدوائي بليلى قديمةٌ ... وأقتلُ أدواءِ المحبِّ قديمها
أبو رجاء العطاردي:
إلى اللهِ أشكو ثمَّ أشكو إليكُما ... وهلْ تنفعُ الشَّكوى إلى منْ يزيدُها
حرارتِ شوقٍ في الفؤادِ وعبرةً ... أظلُّ بأطرافِ البنانِ أذُودها
ويحنُّ فؤادي من مخافةِ بينكمْ ... حننَ المزجَّى وجهةً لا يريدُها
آخر:
فإنْ كنتمُ ترجونَ أنْ يذهبَ الهوى ... يقيناً ويروى بالسَّرابِ فينقعا
فردُّوا هبوبَ الريحِ أو غيِّروا الهوى ... إذا حلَّ الواذَ الحشا فتمنَّعا
الأحوص:
أصاحِ ألمْ تحزنكَ ريحٌ مريضةٌ ... وبرقٌ تلا لا بالعقيقينِ لامعُ
فإنَّ غريبَ الدارِ مما يشوقهُ ... نسيمُ الرياحِ والبروقُ اللوامعُ
وقد ثبتَتْ في القلبِ منها مودَّةٌ ... كما ثبتتْ في الرَّاحتينِ الأصابعُ

باب
صفة طول الليل وقصره
وصفة السماء والأهلَّة والنجوم
ختمنا به الكتاب جحظة:
وليلٍ في كواكبهِ حرانٌ ... فليسَ لطولِ مدَّتهِ انتهاءُ
عدمتُ محاسنَ الإصباحِ فيهِ ... كأنَّ الصُبح جودٌ أو وفاءُ
البسامي:
كأنَّ الصبحَ يطليني بدَجْلِ ... فما يجلو الظلامَ عن الضياءِ
فليتَ الشمسَ تمكثُ لي قليلاً ... ففيها كلّما فنيتْ فَنائي
نظر إلى قول ابن الدمينة - لقيس بن ذريخ:
نهاري نهارُ الناسِ حتَى إذا دنا ... لِيَ الليلُ هزَّتني إليكِ المَضاجعُ
أُقضَّي نهاري بالحديثِ وبالمُنى ... ويَجمعُني والهمَّ بالليلِ جامِعُ
ابن المعتزَّ:
عهدي بها ورداءُ الوصلِ يَجمعُنا ... واللَّيلُ أطولهُ كاللَّمحِ بالبَصرِ
فالآنَ ليلي مُذ بانوا ... فديتُهمُ ليلُ الضريرِ فصُبحي غيرُ منتظرِ
كشاجم:
ينامُ اللَّيلَ أسهرهُ ... وأشكُوهُ ويشكرُهُ
وليلُ الصبَّ أطولُهُ ... على المعشوقِ أقصرهُ
كثيرُ الذنبِ إلاَّ أنَّ ... )م( فَرْطِ الحُبِّ يغفرُهُ

أكاتمُ حبَّهُ الواشِي ... نَ والعبراتُ تُظهرهُ
وأذكُرُ خالياً حُجَجي ... وأَنْسى حينَ أُبصرُهُ
وقال آخر:
يا ليلُ مالكَ من صَباحْ ... أمْ ما لنجمِكَ من براحْ
ضَلَّ الصباحُ طريقَهُ ... واللّلُ ضلَّ عن الصباحْ
صبراً على مضَضِ الهوى ... فالصبرُ مفتاحُ النجاحْ
ابن المعتز:
مالي أَرى الليلَ مسبلاً شعراً ... عن غرَّةِ الصبْحِ غيرَ مفروقِ
كشاجم:
ألا ربَّ ليلٍ بتُّ أرعى نجومهُ ... فلم أغتمِضْ فيهِ ولا الليلُ غمَّضا
كأنّ الثريّا راحةٌ تشبرُ الدجى ... لتعلمَ طالَ الليلُ لي أم تعرَّضا
فأعجِبْ بليلٍ بين شرقٍ ومغربٍ ... يقاسُ بشبرٍ كيفَ يرجى لهُ انْقِضا
ابن المعتز:
ما بالُ ليلي لا يُرى فجرُهُ ... وما لدَمعي مُسبلاً قطرُهُ
أستودعُ اللهَ حبيباً نأى ... ميعادُ دَمعي أبداً ذكرهُ
بشّار:
أقولُ وليلتي تزدادُ طولً ... أما للَّيلِ بعدهمُ نهارُ
جفَتْ عَيني عنِ التغميضِ حتى ... كأنَّ جُفونها عنها قصارُ
كأنَّ جفونها خُزمتْ بشوكٍ ... فليسَ لوسنةٍ فيها قرارُ
ومنه أخذ المتنبي قوله:
بعيدة ما بينَ الجفونِ كأنَّما ... عقدتمْ أعالي كلِّ هدبٍ بحاجبِ
أحمد بن المعذَّل:
ألا ما لوجهِ الصبحِ داجٍ قناعهُ ... وما بالُ أرواقَ الدُجى لا تقدَّدُ
هل الغورُ مسدودٌ؟ أم النجمُ غائرٌ؟ ... أمِ الصبحُ مكبولٌ؟ أم الليلُ سرمدُ
أطالَ عليَّ الليلَ حتى كأنَّهُ ... حسيرٌ بهيرٌ أو أسيرٌ مقيَّدُ
خالد:
ربَّ ليلٍ أمدَّ من نفسِ العشَّ ... اقِ طولاً قطعتهُ بانتحابِ
ونعيمٍ ألذَ من نظرةِ المعش ... وقِ بدَّلتهُ بطولِ العِتابِ
بشار:
خليليَّ ما بالُ الدجى ليسَ يبرحُ ... وما بالُ ضوءِ الصبحِ لا يتوضَّحُ
أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقهُ ... أمِ الدَّهرُ ليلٌ كلُّهُ ليس يبرحُ
في قصر الليل إبراهيم بن العباس:
وليلةٍ إحدى اللَّيالي الزُهرِ ... قابلتُ منها بدرَها ببدرِ
لمْ تكُ غيرَ شفقٍ وفجرِ ... حتَّى تولَّتْ وهي بكرُ الدهرِ
آخر:
يا ليلةً جمعتنا بعدَ فرقتنا ... وبتُّ من صبحِها لمَّا بدا فرِقا
لمّا خلوتُ بآمالِي بها قصَرتْ ... وكادَ يسبِقُ منها فجرُهَا الشفَقَا
المهلبيِ:
قد قصُرَ الصبحُ عندَ ساهِرهْ ... كأنَّ حادِي الصَّباحِ صاحَ بهْ
كأنَّما الليلُ راكبٌ فرساً ... منهزماً والصَّباحُ في طلبهْ
آخر:
وليلةٍ منَ القصِرْ
عشاؤُهَا مع السَحَرْ
تُقضّى ولم يَقضَ الوطَرْ
والشعراءُ يصفون أيامَ السرور و المتعة وليالي الوصل والألفة بالقصر، وساعات الغمِّ وأوقات الوحشة بالطول .وحقيقة ذلك لطول الليل: مراعاته؛ وكل ليل لا يراعى قصير.
في صفة الأهلةِ والسماءِ والنجومِ أنشدَ أبو عمرو بن العلاء للعرب:
دأبنَ بنا وابنُ اللَّيالي كأنَّهُ ... حسامُ جَلتْ عنهُ العيونُ صقيلُ
فما زالتِ الأيَّامُ تفصلُ دونهُ ... إلى أنْ أتتكَ العيسُ وهو ضئيْلُ
أعرابي، وعليه عوَّل أكثر المحدثين في تشبيه الهلال:
لقدْ سرَّني أنَّ الهِلالَ عشيَّةً ... بدا وهو محقورُ الحِبارِ دقيقُ
أضرَّتْ بهِ الأيَّامَ حتى كأنَّهُ ... سِوارٌ لواهُ باليدينِ رفيقُ
ابن المعتز:
في ليلٍ ليلةَ أكلَ المُحاقُ هلالها ... حتى تبدَّى مِثلَ وقفِ العاجِ
والصبحُ يتلو المشتري فكأنَّهُ ... عريانُ يمشي في الدُجى بسِراجِ
العلوي:
ما للهِلالِ ناحلاً في المغربِ
كالنُّونِ قد خُطَّتْ بماءِ الذهبِ
أفارقتهُ الشَمسُ منْ تعتُّبِ
فراحَ نضواً كالمريضِ الوصبِ
كأنَّما حلَّ بِهِ ما حلَّ بي
منْ الضَنى عندَ فُراقِ زَينَبِ
ابن المعتز في محقهِ وأبدع فيه:
ما ذقتُ طعمَ النومِ لو تَدرِي ... كأنَّ أحشائي على جَمرِ
في قمرٍ مُسَترِقٍ نِصفَهُ ... كأنَّهُ مجرَفَةُ العِطرِ
وقال في الهلالِ إذا بدت دارته:

وقدْ بدتْ فوقَ الهِلالِ كرَتَهْ ... كهامةِ الأسودِ شابتْ لحيتُهْ
العلوي في الهلال والزهرة وأحسن فيها:
لاحَ الهِلالُ فويقَ مغرِبهِ ... والزُهرةُ الزَّهراءُ لمْ تغِبِ
فهوى دوِنَ مغيبَها فهوتْ ... تَبكي بِدمعٍ غيرِ مُنسكبِ
فكأنَّها أسماءُ باكيةً ... عندَ انفِصامِ سوارِهَا الذهبي
كُشاجم:
انظٌرْ إلى نورِ الهِلا ... لِ بدى لِعين المُبصِرِ
أو ما تراهُ يلوحُ في ... جوِّ السماءِ الأخضرِ
كشعيرةٍ من فضَّةٍ ... قدْ رُكِّبتْ في خنجَرِ
وكان ابن أبي البغل جالساً، وعنده ابن بحرٍ فكتب على درج:
المرءُ مثل هِلالِ الأُفقِ تبصِرُهُ ... يبدو ضَئيلاً ضَعيفاً تمَ يتَّسقً
فكتب ابن بحر تحته:
يزدادُ حتى إذا ما تمَّ أعقبَهُ ... صرفُ اللَّيالي بِنقصٍ ثم ينمَحِقُ
العلوي:
تأمَّلْ نحولي والهِلالَ إذا بدا ... لليلَتهِ في أُفقِهِ أيُّنا أضنى
على أنَّهُ يزدادُ في كُلِّ ليلةٍ ... نموَّاً وقلبي بالضنى أبداً يفنى
ابن المعتز:
وكأنَّ البدرَ لمّا ... لاحَ مِنْ تحتِ الثُريَّا
ملكٌ أقبلَ في التّ ... اجِ يُفدَّى ويُحيَّا
العلوي:
أبا المعمَّرِ قدْ قطَّعتَ أحشائي ... وزدتَني في الهَوى داءً على دائي
بقيَّةَ الحُسنِ ما أبقيتَ منْ جسدي ... بقيَّةً لم تبشِّرُها بإِفناءِ
ما أنْسَ لا أنْسهُ في العينِ حينَ بدا ... يحكيهِ في الدِّرعِ عينُ الشمسِ بالماءِ
حكى الحَمائِلَ فوقَ الدِّرعِ منطقةُ ال ... جوزاءِ تَحكيهِ في حُسنٍ ولألاءِ
والشمسُ والبدرُ مشغُولانِ قدْ شغِلا ... بِوصفهِ عندَ إصباحي وإمسائي
قَدْ انقضتْ دولةُ الصيامِ وقدْ ... بشَّرَ سُقمُ الهِلالِ بالعيدِ
يتلو الثُريا كفاغِرٍ شرِّهٍ ... يفتحُ فاهُ لأكلِ العنقُودِ
ذو الرَّمة:
ورَدتُ اعتسافاً و الثُريَّا كأنَّها ... على قِمَّةِ الرَأسِ ابنُ ماءٍ محلِّقُ
ابن الطثرية:
إذا ما الثُريَّا في السَّماءِ كأنَّها ... جمانٌ وهى مِنْ سلكِهِ فَتبدَّدا
أبو قيس ابن الأسلت
وقد لاحَ في الصُبحِ التُريَّا لمن رأى ... كعنقودِ ملاَّحيَّةٍ حينَ نوَّرا
عمر بن أبي ربيعة، ونعوت التشبيهات أربعة قريبٌ بعيدٌ ومصيبٌ ومخطئٌ وقد دخلت فيها:
أحسنُ النَّجمِ في السماءِ الثُريَّا ... والثُريَّا في الأرضِ خيرَ النِّساءِ
آخر:
خليليَّ إني للثُريَّا لحاسِدُ ... وإني على ريبِ الزمانِ لواجدُ
أيجمعُ منها شملُها وهي سبعةُ ... ويبعدُ منْ أحبَبتُهُ وهو واحِدُ
والعرب تسميها النجم وقال بعضهم :
على إثِرْ حيٍّ لا يرى النجمَ طالِعاً ... مِنِ اللَّيلِ إلا وهو قفرٌ منازلُهٌ
وقال أبو عثمان المازني: ما شبه الليل أحد تشبيه كعبٍ:
وليلةِ مُشتاقٍ كأنَ نُجومَها ... تفرَّقنا منها في طَيالسةٍ خُضرِ
ابن المعتز:
ومصباحُنا قمرٌ مُشرِقٌ ... كترسِ اللُّجينِ يشقُّ الدُجى
العلوي:
والليلُ منْ لألاءِ قَمْرائه ... ينشرُ منه علمٌ مذهبُ
ابن المعتز:
والصبحُ ملتبسُ كعينِ الأشهلِ
التنوخي:
كأنَّ الدجى لما استنارتْ نُجومُهُ ... رِداءٌ موشّ، أو كِتابٌ منمَّقُ
ابن المعتز:
واللَّيلُ مُشمطُّ الذرا ... والصُبحُ حينَ حبا وشبّا
العلوي:
رُبَّ نهارٍ أمسَتْ أصائلُهُ ... تُرشفُ مَن شمسِهِ صُباباتِ
قضيتُ فيهِ والشمسُ ناعِسةٌ ... من جزعي نومةَ العشيّاتِ
التنوخي:
وأصفرُ الجوِّ قدْ لاحَتْ كواكِبهُ ... فيهِ كدرٍّ على الياقُوتِ منثورِ
ابن المعتز:
وأرى الثُريَّا في السماءِ كأنَّها ... قمرٌ تبدَّتْ في ثيابِ حِدادِ
العلوي:
رُبَّ ليلٍ وهتْ لآلي دموعِ ... فيهِ حتى وهَتْ لآلي الثُريَّا
ورِداءُ الدجى لبيسٌ داريسٌ ... في يدِ الفجرِ وهو يطويهِ طيَّا
وهبوبُ الضياءِ منْ أُفقِ المشر ... قِ يذرو الظلامَ شيئاً فشيَّا
الصولي:
ونجومُ اللَّيلِ تحكي ... ذهباً في لا زوردِ

ابن المعتز:
ولاحةِ الشِّعرى وجوزاؤُها ... كمثلِ زجٍّ جرَّهُ رامِحُ
ولهُ:
كأنَّ سماءنا لمّا تجلَّتْ ... خلالَ نِجومها غبَّ الصباحِ
رياضُ بنفسجٍ خضلٍ ندَاهُ ... تفتَحَ بينهِ نورِ الأقاحِ
التنوخي:
رُبَّ ليلٍ كتجَنِّي ... كِ مقيم ليسَ يذهبْ
ونجومِ اللَّيلِ وقفٌ ... كلآلٍ لم تثقَّبْ
وله:
واللَّيلُ كالحلَّةِ السوداءِ لاحَ بها ... منَ الصباحِ طرازٌ غيرُ مرقومِ
ولهُ:
والجوُّ مشتملٌ منْ فوقِ سندسِهِ ... بأرجوانٍ على الآفاقِ منشورِ
كأنَّهُ روضةٌ خضراءُ لابسةٌ ... منَ الشقيقِ قميصاً غيرَ مزرورِ
العلوي:
ها إنِّها الجوزاءُ في أُفقها ... واهيةٌ ناعِسةٌ تسحبُ
نِطاقُها واهٍ لَدى أُفقها ... ينسلُّ منها كوكبٌ كوكبُ
آخر:
كأنَّما الجوزاءُ لمّا طلَعتْ ... حوتٌ على لُجَّةِ بحرٍ قد طفا
آخر:
وشالتِ الجوزاء منها باليدِ ... فَعلَ البغيِّ لوَّحتْ بالمَعضدِ
العلوي:
واللّيلُ راسٍ كالحليمِ المُحتبي
غضبانُ إنْ ناجيتَهُ لمْ يجبِ
ونجمُهُ قدْ لاحَ فوقَ مرقبِ
ذا حيرةٍ كالدَّيدبانِ المُرتبي
يشكُو إلى الأفقِ انسِدادَ المذهبِ
والجوُّ منْ شعاعِهِ ذو طُنبِ
حتى بدا الفجرُ كمثلِ اللَّهبِ
يمحو الدُجى محو الرِضى للغضبِ
شيئاً فشيئاً كاعتذارِ المذنبِ
ابن المعتز:
والصبحُ حيٌّ في مشارِقهِ ... واللَّيلُ يلفظُ آخرَ النَّفسِ
آخر:
كأنَّهُنَّ دُررٌ منظُومةٌ ... بَدَّدها في الجوِّ رامٍ إذ رمى
أرقُبها حتى كأنّي عاشِقٌ ... يرقبُ أنْ تغفي عيونَ الرُقبا
آخر، في الأفقِ و النجومِ:
كأنَّهُ ياقوتةٌ أو مقلةٌ ... زرقاءُ أو قحفُ قواريرٍ أكبّ
وأقبلتْ أنجُمهُ كأنَّها ... نورُ أقاحٍ أو ثغورٌ أو حبَبْ
آخر:
يا ليلةً قدْ بِتُّها ساهِراً ... كأنَّني من قلقٍ أرصدُ
في كلِّ وجهَ أمَّه فَجرُهُ ... بابُ دجىً من دونِهِ موصَدُ
والنجمُ والجوزاءُ قد أقبلا ... كفارسٍ في كفَّهِ مطردُ
لبعضهم:
ولاحَ لنا الهلالُ كشطرِ طوقٍ ... على لبَّاتِ زرقاءِ اللِّباسِ
آخر:
وكأنَّ الهِلالَ نونُ لُجينٍ ... غرِقتْ في صحيفةٍ زرقاءِ
تمَّ كتابُ المحبِّ بحمدِ اللهِ تعالى ومنهِ، ويتلوهُ، إن شاء الله تعالى كتابِ المشموم.
والحمد للهِ وحده، وصلاتهُ وسلامهُ على سيدنا محمدٍ وآلهِ وأصحابهِ. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

كتاب المشموم
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الربيع كاسمه، ربيع القلوب، ونزهة العيون، وفرحة النفوس، وجلاء الصدور، وفسحة الآمال، وحركة الأجرام المصمتة، ونمو الجماد، كأنك شاهدت به العالم وسر الخلق، وعاينت الهيولى وتركيب البنية فيها والطينة وحدوث الصورة لها؛ ورأيت البسيط وتأليفه، والمفرد وازدواجه، وأبصرت نفخ الأرواح في الأشباح، وكيف تخرَّقت منافسها، وتحلَّلت محارقها؛ فأحسست الجوهر وحلول العرض فيه، والأشخاص وتنوعها، وكيف فتقت الأرض بالصدع حتَّى تأخذ زينتها، وتلبس البسيطة زخرفها من كل زوج بهيج ونشر أريج. فهي خصيبة الجناب، دمثة التراب، مهاد وثير للهاجع، وشعار كبير لليقظان الرائح. والشَّمس عوض من الصِّلاء، والهواء خلف من الغذاء، وصفحة السماء ريَّا تكاد رقة تقطر، وغضارة تمطر، وأوضاح الكواكب نيرة تزهر، كأنهن عيون زرق في البراقع، وأنوار الأقاحي على رياض بنفسج، أوْ نثر جمان في عرضة فيروزج، كأنما دراريهما شرر متقاذف والجو رمادها، أوْ خرائد سوافر والهواء حدادها، أوْ شذور ذهب أحمر على بساط زبرجد أخضر. والجو يبهى رقة وصفاء، وطلعة القمر لألاؤها كأنها ماويَّة عسجد سراة العشاء، وكأنه موجة مكفوفة والبر بحر من فيض قمرائه، والظلمة فجر من أشعة أضوائه، والشَّمس غرة مطلعها مرآة مصقولة في كف الأشل. أوْ كما تهتز الصحيفة الجلواء، أوْ كترس يقلبه كميٌّ رامح. فإذا كربت للمغيب، وعادت مذهبة الفرقد، ونفضت على أطراف الجدران ورس الأصيل كالملاء المعصفر، مدَّت على الأفق الغربي سطر ذهبي من شفق الغروب وجاديّ المغيب؛ فخلت السماء فرشاً كحليّاً مفروشاً أحد الطرفين بالذهب المنسوج والعبير الممزوج، وموصولاً أحد الطرفين بالإبريز المسبوك والوشي المحبول. يميع زبرجها في خضرة الأرض الأريضة والفضاء العريضة، منصدعة سهولها ووعورها، متَّسقة بطنانها وظهورها بجواهر الأزاهير خارجة من أكنة الصدف، وأنوار النوار ضاحكة خلال السدف، والتربة حلة وحرير، والنبات روضة وغدير، والقطر لؤلؤ نثير، وما بين ماحله وأفنان مكمّمه قد جرى في عودها الماء. وأشجار ذات جمم لم تمشطها النساء، وقرارة تطّرد كأنها فيضة مكروب، أوْ بثة مكظوم، أوْ نفثة مصدور، أوْ كما يتنفس الحزين الواجم، والمغتاظ الكاظم. وخدود عشب يضمّخها ثراها.
وأمواهٌ يصلُّ بها حصاها ... صليلَ الحليِ في أيدي الغواني

والصارم الهندواني. وظواهر الأطواد، وأقبال الأجلاد بعد العري والعطول فضفاضة الأردية، سابغة الذيول، في مقطعات الحلل، ومصنوعات الحلي، وقلل الجبال متوجة تميل في أطراف الأعشاب أجيادها، وتروق بكسوة الخضرة أجسادها. وعلى كل قنّة شاهقة، وشعفة شامخة غمام مكلل بالمرجان والدرر؛ وبكل سفح برد مهلل بقُراضة الفضة والتبر؛ مفصلات ألواذها وضواحيها، وهضباتها وأعاليها؛ بسيح نطفة زرقاء وفيض ثغرة سجراء، ورصف مترع ملآن، ومستنقع مفعم ريان. ففي كل قلتٍ ندوة كوكب، وعلى كل ثعبٍ هالة قمر، وبكل غدير طفاوة شمسٍ. فإذا نزلت في المذانب والقريان من الشعاف والمصدان انسرحت خلال رملٍ محقوقفٍ ونقاً مستدير، وأفضيت من عواقل الريود وفدر العصم وصحم الأراوي إلى أصورة المها، وأقاطيع الوحوش رواجع إلى السهول والأوعار، بعد أن كانت قواطع إلى المهامه لقفار، مختلطات الأسراب بالآجال هملاً بلا راع، وبدداً دون والٍ عليها ساع. بها العين والآرام يمشين خلفةً، والجآذر والغزلان ينادين صرمةً مؤتلفات جيرةً، وكن أبعاداً، وجميعاً، وكن أفراداً، فمن ثَمَّ جؤذر أحم السوارين، ومن هنا شادن أدعج الناظرين، حواضنها مولَّعة خنساء ومُغزل أدماء، بين صوارٍ للبقر حور العيون بابليَّات النظر، متولّجة مطافيلها بكل وِهاديّ المراتع يحرجُ كأنه مناط وشاح أوْ معلّق دملُج؛ كأنما هتكن سجوف الرقم والكلل عن ذوات الأهداب والوُطف وحور المقل؛ عينٌ كوانس كالعين الأوانس، لا يسكنّ إلاَّ بمنجاةٍ من الريب. وفرق الظباء ملاطمهنَّ شيمٌ كأن بلادهن سماءٌ تكشفت عن كواكبها غيومٌ من أُدمان الظباء الخواذل؛ لاوياتٌ السوالف كأنهن صفح المناصل، سواكن كل قذف فلاةٍ وبلدةٍ وسمية الثرى غداةٍ، معتادات كل مرتاد الندى خضل مستحلسٍ بعميم النبت مكتهلٍ؛ يراعي كل أحقب ذي سفعةٍ، أوْ أخطب ذي خطةٍ، ومسحَّجٍ عاري الصبيين ومرنِّ الضحى بين جدَّتين وكل أم ساجي الطرف وسنان ينوء من ضعاف فواتر، تستودعه الحمى وتنص إليه جيدها بالمناظر، أوْ مخرفٍ فردٍ بأعلى صريمةٍ عاطفٍ تتصدى لأحوى مدمع العين في فينان من الظل وارف. فواحم المدارى مؤلّلات حدادها كأنهن أقلام بلحظها يردن نطاف المصانع، مطّردة كالسيوف القواطع، عواقد أمهاتها من سحمِ القرون عقائص، كأنها ملوية الأسورة، أوْ مثنية الأهلة، كما سمعت الأول:
وقفتُ على العفر في ربعهمْ ... فخلتُ على رأسِ كلِّ هلالا
إذا قلت هل يرجعُ الظاعنو ... نَ تمثَّلَ لي كلُّ ترنٍ ألالا
وورق الحمائم عواطل في قلائد وعقود، وعوار في معمدات وبرود. وكل طروب الضحى هتوف العشا، تترنم خلال أوراق الغصون كما تقطع الكرائن، تحت الستائر، أصوات الأغاني واللحون، فيلتقي شتات المتيم بين اللحون.
يصلنَ بنوْحي نوحهنَّ وإنَّما ... بكيتُ لشجوي لا لنوحِ الحمائمِ
والنهار معتدل المزاج حره وبرده، ومستقيم ميزان ليله ونهاره. ولا قر يجمد، ولا حر يلفح. والماء فضة بلا ذهب، والشَّمس نور بلا لهب، وقد انحطَّت عن لفحة الهجير ووقدة الشِّعرى العبور، وارتفعت عن خصر الشتاء؛ وكوكب الجرباء تطلع في قميص شعاعٍ مذهب الزبرج، ويتساقط ضياؤها خلل الأوراق كاللؤلؤ المدحرج. والأعشاب غبَّ قطارها كالعروس تحت نثارها:
ذهبٌ حيثما ذهبنا ودرٌّ ... حيثُ درنا وفضةٌ في الفضاء
والجو مغيم وهو من تلألؤ الزهر مشمس. والليل مظلم وهو من تضاحك الأنوار مقمر. والريح سجواء الهبوب، تغازل الأرواح رقَّة، وتقرص الأبشار خفَّة، كأنها ذيل الغلالة المبلول، أوْ نفس المستهام العليل، فإذا اشتدت عصفتها، ومعجت هبَّتها حسبتها خرقاء ذات نيقة، وهوجاء جدّ رقيقة، نسجت على ظهور الكثبان ومتون الغدران مالا تنمِّقه الصوانع في صفحة القضيم، ولا تقدِّره الخوالق على فراء الأديم ببديع النَّسج في الكثيب، وتمحوه بإقبالها إلى الأدبار.
والفصل متحبَّب شمائله، متلوِّن خلائقه. بينا البرق ضاحكاً استحال باكياً، ووجه السماء مستبشراً راح ترفضُّ دموعه مستعبراً يختال الغصن الرويّ بقدِّه، والورد الجنيُّ بخده.
وترى الرياضَ كأنهنَّ عرائسُ ... يُنقلنَ من حمراءَ في صفراءِ
إذا لحظتَ زاهرَ الشجْراءِ ... وجدته مُصفرَ السماءِ
وإن شممت أرجَ الفضاءِ ... ألفيتهُ مُعنبرَ الهواءِ

يجري سلسال الماء على رضراض الحصباء مطَّرداً كأنه سبيل لجين ممدَّد، أوْ صفيح مجرَّد، أو متن يمان مهنَّد. حتَّى إذا ضربت الريح متنه تحلَّق وجهه، وتحزَّز جريه، فانجابت أقذاؤه وصفت كأنه حلق الجواشن مصقولاً حواشيها، أو متون المبارد مجلوّاً نواحيها:
ما إن يزالُ عليه طيرٌ كارعٌ ... كتطلُّعِ الحسناءِ في المرآةِ
والشَّمس يحسر مرة لثامها، وتارة يسيل غمامها؛ فهي تسفر وتنتقب، وتبرز وتحتجب طلاع فتاة تشرق اغتراراً، وتخاف اشتهاراً:
شمسٌ تُطالعنا فتمنحُنا ... نوراً يلاحظُنا بلا لهبِ
والخلاف يعقد على القضبان سموط درِّه، ويفتح ختام الربيع بمفترِّ ثغره. معندم القشر، معنبر النَّشر، مرصَّع قشره بنور كأنه لؤلؤ ولاف. والشقائق مصفوفة على الضواحي مطارده، منظومة في سفوح الجبال قلائده، ينشر جمَّته سوداء، وحلَّته حمراء، متمايلاً على قاماته الرشاق، متهادياً خلال الرياح بقضبانه الدقاق، كأنه سبج قرنت به عقيقاً، أو فحم أشعلت به حريقاً أو أقداح ياقوت قرارتها سحيق مسك أذفر، أو زنجيَّة قامت في معصفرة على ساق أخضر، تتهاداه الرياح فينثني ثمَّ يستوي كأنه سكران طافح، أو كما جرَّ رمحه رامح. وسقيط الطلّ عليها كأنه مواقع الدموع في خدود الخرائد، أو سقوط الفرائد من مناط القلائد في ترائب الولائد:
شقائقُ يحملنَ النَّدى فكأنَّها ... دموعُ التصابي في خدودِ الخرائد
والورد يقدم من خلل الربيع الباكر، وخصاص الريحان الزاهر، يحكي في معرض شجرة نسيم سحره؛ يحمرُّ خجلاً ويصفرُّ وجلاً، أوْ يبيضُّ جذلاً؟ ما بين أحمر كالحياء شيبت به الخدود، أوْ أصفر كالمحبّ أضرَّ به الصدود، أوْ أبيض كالنجوم مطالعها السعود:
وذي لونينِ نشرُ المسكِ فيه ... يروقُ بحُمرةٍ فوقَ اصفرارِ
كَمعْشوقيْنِ ضمَّهما عناقٌ ... على حدثانِ عهدٍ بالمزارِ
والنَّارنجُ تطلعُ بينَ الأغصانِ متَّقدةَ القشرِ بخالصِ العِقيان، أرجوانيَّة اللَّون، كما غمست بالدم قبيعة حسام مهنَّد، أو كأنها شموس عقيق في قباب زبرجد، أو الرّاح صرفاً، أو كخدٍّ مورَّد، أو كمرآةٍ مخروطة من الياقوت على صوالجة زمرُّد، أو حقاق مرجان مترعات من الدرّ في ملاحفها الخضر، أو كبَّة جمر محذوفة من جاحم النار، أو أنهار مضرَّجة ممسَّكة الحافات والأقطار:
أتتْ كلَّ مشتاقٍ بريّا حبيبهِ ... فهاجتْ له الأشواقَ من حيثُ لا يدري
والأترجُّ متهدِّلٌ من الأشجار أشباه نواهد الأبكار كالشمس معرضةً في ورس الأصائل، أو قناديل ذهبية نيطت بخضر السلاسل:
تخالُ بها في اخضرار الغُصو ... ن نواهدَ بين مُلاءِ القصبْ
والأقحوان ضاحك عن مباسم الثغور من كلَّة الخدور؛ تبدو أوراقه كافوريَّة الظَّهر والبطن، ولؤلؤيَّة البهجة والحسن:
تُذكرنا ريَّا الأحبَّةِ كلّما ... تنفَّسُ في جُنحٍ من اللَّيلِ باردِ
والبنفسج يأرج بذكاء الورد، ويعرض بصبغة اللاَّزوَرْد، أو قرص التجميش في صحن الخدّ:
كأنَّها فوقَ طاقاتٍ ضعُفنَ بها ... أوائلُ النَّارِ في أطرافِ كبريتِ
والنّرجسُ الغضُّ يزهو في مقاطعهِ ... كأنَّهنَّ عيونٌ مالها هدُبُ
أو أجفان فضَّة أحداقها من ذهب، أو أقداح ياقوت مخروطة من لؤلؤ رطب، أو فصوص درٍّ أبيض حول مصوغ تبر أصفر على قضيب زبرجد أخضر، أو رواصد عيون الرقباء لزيارة الأحبَّاء، أو كواكب تألَّقت في صفاء هواء على صحن سماء:
طَلعن نُجوماً خلالَ الريا ... ض ما بينَ زُهرةَ والفرقدِ
سهرنَ قياماً على ساقها ... ونمنَ وقد قطفتها يدي
والسّوسن مسبوكة ورقاته، متراكبة طبقاته، كأنه شقق صينيّ الحرير الممهّد على قدود رابية من خضر الزبرجد. ليِّن المسِّ، عبق المشمّ، خضل الورق، كأنه من رقَّته وشاح ولنفحته نضاح، كهدب الوشي المبلول أو نسيم السّحر المطلول.
كأنَّ أوراقه في كل شارقةٍ ... على الميادين أذنابُ الطواويسِ
والآذريون يشدّ الليل أزراره، ويفتح الصبح أبصاره كأنه كأس عقيق بقرارة مسك سحيق، أو نقطة مسك في خدّ متيَّم، أو إيماض بارقة في غيم أسحم، أو دارة سبج في صحيفة زبرجٍ:
أزرارُ ديباجٍ إذا الليلُ دجا ... وهنَّ في الصبح عيونٌ ساميهْ

والجلَّنار مشبع الصبغة قانئ الحمرة مضرَّج بالدَّم كمنحر البدن، أو قوارير خمر عاقرت ساحة الدنِّ:
يدعو إلى وردةٍ مورَّدةٍ ... حمراءَ مصبوغةِ القواريرِ
إذا وَنَتْ في الأكفِّ حَثْحَثَها ... للسيرِ نطَّاقةُ المزاميرِ
فثارَ لِلَّهو والهوى رهجٌ ... تحسبه وقعةَ المغاويرِ
فكم قتيلٍ على الكؤوسِ بها ... وكم جريحٍ بجنبِ مأسورِ
حتَّى إذا خلف الاعتدال الربيعيّ الاعتدال الخريفيّ، فانثنت القضبان متساقطة والثمار متهدّلة والفواكه يانعة متلوِّنة الأصباغ منفوضة الأزهار، وعادت بعد بشاعتها شهية، وغبَّ مماتها فخمة متصلة أنابيبها بالأفنان أعطافها وحواشيها، كأنها أشربة واقعة دون أوانيها؛ قد أماعها الحر بلفحاته، وعقدها القرُّ بنسماته، وأنضجتها الشَّمس، وصبغها القمر، فهي ظروف هواء على صبابات نور، أوْ أوعية ملاء من الضرب المنثور، طالعك الزعفران غريب الوجه والبنان أنيق الوقت والأوان في أغشية المصمت الأزرق، كأنها نصول السهام أوْ تخطيطات الألفات على الأكمام. فإذا وهت حروفها واتسع بأعاليها فتوقها، زافت كألسنة الحيات مذعورة، أوْ أعراف الخيل منشورة، أوْ شوك الإبر مضمّخات بصفرة فاقعة، أوْ حمرة قانية، كأنهنَّ حياء تحمرُّ أوْ مخافة تصفرُّ:
حُمْراً وصفراً في تراكيبها ... كأنها تخجلُ أو تُذعرُ
قد ذكرنا بعض نعوت الربيع في صدور المقالة قولاً منثوراً، ونحن متبعوها بجميع صفات فصله وسحائبه وبروقه ورعوده وأنهاره وغدرانه ومصانعه وملاءته وأزاهير فضائه وسجسج هوائه شيئاً فشيئاً مبوّباً مرتَّباً؛ وبالله الحول والقوة والتوفيق.

الباب الأول
الربيع
أنشد علي الأسواري هذه المقطوعة:
أوائلُ رسلٍ للرَّبيعِ تقدَّمتْ ... على حسن وجهِ الأرض خيرَ قدومِ
فراقتْ لها بعدَ الممات حدائقٌ ... كواسٍ وكانتْ مثل ظهر أديمِ
كأنَّ اخضرارَ الرَّوضِ والنَّورُ طالعٌ ... عليه سماءٌ زُيِّنت بنجومِ
إذا افتضَّها لحظُ البصير بلحظةٍ ... توهَّمها مفروشةً برقومِ
تردَّتْ بظلٍّ دائمٍ وتضاحكتْ ... بضحكِ بروقٍ في بكاءِ غيومِ
فأوردها فحلُ السَّحاب عرائساً ... ضعافَ القِوى من مرضعٍ وفطيمِ
كمثلِ نشاوى الرَّاح يلثمُ دائباً ... إذا الرّيحُ جادتْ بنتها بنسيمِ
الخليع:
ضحكت ضواحي الأرض لمَّا رقرقتْ ... ظهرانهنَّ مدامعُ الأنواءِ
فترى الرّياضَ كأنَّهنَّ عرائسٌ ... يُنقلنَ من صفراءَ في حمراءِ
البسَّامي:
أما ترى الأرضَ قد أعطتكَ زهرتَها ... بخضرةٍ واكتسى بالنَّوْرِ عاريها
فللسماءِ بكاءٌ في جوانبها ... وللرَّبيعِ ابتسامٌ في نواحيها
الزاهي وأحسن فيه:
هذا الربيعُ وهذه أنوارُه ... طابتْ لياليه وطابَ نهارهُ
درِّيَّةٌ أنوارهُ فضيَّةٌ ... أنهارهُ ذهبيَّةٌ أشجارُهُ
متأرِّجٌ نشواتهُ متبلّجٌ ... ضحواتهُ ومتبرِّجٌ أسحارُهُ
والماءُ فضيُّ القميصِ مفروزٌ ... ببنفسجٍ واللازوردُ شعارُهُ
والسَّروُ ممدودُ القوام كأنَّه ... قدُّ القناةِ يصفهُ أنهارُهُ
وترنَّمتْ عجمُ الطّيورِ كأنَّها ... سربُ القيان ترنَّمتْ أوتارُهُ
فاشربْ على ورد الخدودِ بجنبهِ ... وردُ الربيع تحُفُّهُ أنوارُهُ
من كلِّ أحورَ كالقضيب منعَّمٍ ... قد شدَّ خوطَ قوامه زنَّارُهُ
يسقيكَها من كفِّه وبطرفه ... أضعافَ ما قدْ أسكرتْه عُقارُهُ
متدلِّلٌ من عقدهِ بدرُ الدجى ... متهلِّلٌ وظلامُه أزرارُهُ
الصنوبري:
إنْ كانَ في الصيفِ ريحانٌ وفاكهةٌ ... فالأرضُ مستوقد والجوّ تنُّورُ
وإن يكنْ في الخريفِ النخلُ مختَرفاً ... فالأرض محصورةٌ والجوُّ مأسورُ
وإن يكنْ في الشتاء الغيمُ متَّصلاً ... فالأرض عريانةٌ والجوُّ مقرورُ
ما الدَّهرُ إلاَّ الربيعُ المستنيرُ إذا ... جاء الربيعُ أتاكَ النَّورُ والنُّورُ
فالأرض ياقوتةٌ والجوُّ لؤلؤةٌ ... والنَّبتُ فيروزجٌ والماءُ بلُّورُ
لا تعدمُ الأرض كأساً من سحائبه ... فالنبتُ ضربانِ سكرانٌ ومخمورُ

فيه جنى الورد منضودٌ مورَّدةٌ ... به المجالسُ والمنثور منثورُ
هذا البنفسجُ هذا الياسمينُ وذا ال ... نِّسرينُ ذا سوسنٌ بالحسنِ مشهورُ
حيثُ التفتَّ فقمريٌّ وفاختةٌ ... وبلبلٌ ووراشينٌ وزرزورُ
يطيبُ حولَ صحاريهِ المقامُ كما ... تطيبُ في غيرهِ الحاناتُ والدُّورُ
في كلِّ ظهرٍ علونا فيه دَسْكرةٌ ... وكلِّ بطنٍ هبطنا فيه ماخورُ
تباركَ اللهُ ما أحلى الربيع فلا ... يغررْ مقايسهُ بالحسن تغريرُ
مَن شمَّ ريحَ نحياتِ الربيع يقلْ ... لا المسك مسك ولا الكافورُ كافورُ
آخر:
هذا الربيعُ من الجنانِ هديَّةٌ ... ونديمُ كأسكَ من نتاجِ الحورِ
لك نزهتانِ محاسنٌ ومناقبٌ ... إنْ لم تلذَّ فلستَ بالمعذورِ
فالوردُ في خُضر القُموعِ كأنَّه ... وردُ الخدودِ بخُضرةِ التَّعذيرِ
آخر:
قهقهَ نورُ الربيع فاستبشرْ ... واكتستِ الأرضُ مطرفاً أخضرْ
ترى ربيعاً نوَّارهُ ذهبٌ ... ماءُ لجينٍ حصباؤه جوهرْ
عطَّل صبّاغُه الخدودَ بما ... ورَّدَ من صبغها وما عصفرْ
لابسُ قميصٍ من العقيق على ... غلائلٍ من زبرجدٍ أخضرْ
الخبزأرزي:
هذا الربيعُ من الجنَّات مسترقٌ ... ففيه من صفة الجنَّات تمثيلُ
فالوردُ من وجنة المعشوق صِبغتُه ... والطيبُ من نكهةِ المعشوق معلولُ
وردُ الخُدود مصونٌ ليس يقطفهُ ... إلاَّ العيونُ ووردُ الرَّوض مبذولُ
طيبوا فما طيبُ هذا الفصل مُدَّغمٌ ... يخفى ولا فضلُ هذا اليومِ مجهولُ
أمَّا النَّهارُ فر حرٌ ولا خصرٌ ... والليلُ لا قصرٌ فيه ولا طولُ
فلا البنانُ عن التجميش منقبضٌ ... ولا العناق لكرب الحرِّ مملولُ
طاب الهواءُ لتعديل الهواءِ به ... فللَّذاذاتِ في الأرواحِ تعديلُ
فشيِّعوا يومَكم واستقبلوا غدهُ ... فقسمةُ العيش تعجيلٌ وتأميلُ
وما انتظاركمُ والعيشُ مقتبلٌ ... والوردُ مُبتسمٌ والروضُ مطلولُ
غيره:
اخضرَّتِ الأرضُ واصفرَّت وقد لبستْ ... ثوبَ النضارةِ أشجارُ البساتينِ
والروضُ مبتهجٌ والماءُ مطّردٌ ... والنَّورُ مفترشٌ وسطَ الميادينِ
والوردُ أطيبُ شمَّاماً ورائحةً ... من مسك تُبَّتْ أوْ من عنبر الصينِ
أما ترى الطيرَ غنَّتْ وقد طربتْ ... تحكي بنغمتها وزنَ الدَّساتينِ
الصنوبري:
أما ترى جواهرَ الأنواءِ ... ألَّفها مؤلِّفُ الأنداءِ
ما شئتَ من ياقوتةٍ حمراء ... فيها ومن ياقوتةٍ صفراءِ
قدْ فُصِّلتْ بدرَّةٍ بيضاء ... زهراءَ مثلِ الزَّهرةِ الزَّهراءِ
فإن لحظتَ زاهرَ الشَّجراءِ ... ألفيتهُ معصفرَ السماءِ
وإنْ شممتَ أرجَ الفضاءِ ... وجدتَهُ معنبرَ الهواءِ
في ذهبِ التُربُ لجينُ الماءِ ... يجري على زمرُّد الحصباءِ

الباب الثاني
البرق
أنشد لبعض العرب، وهو نادرٌ ما قيل:
ألا يا سنا برقٍ علا قُللَ الحِمى ... ليهنكَ من برقٍ عليَّ كريمُ
لمعت اقْتذاءَ الطيرِ والقومُ هجَّع ... فهيجتَ أوجاعاً وأنتَ سليمُ
آخر، وهو من البديع:
نارٌ تُجدِّدُ للعيدانِ نضرتَها ... والنَّارُ تلفح عيداناً فتحترقُ
أعرابي:
وكمْ دونَ ليلى منْ بريقٍ كأنَّه ... سُيَيْفٌ ولكن لم يسلَّ من الغمدِ
يضيءُ ويخفى تارةً فكأنَّه ... تقطُّعُ لمعِ النَّارِ في طرفِ الزندِ
أنشد الجاحظ لحميد بن ثور:
أرِقتُ لبرق آخر اللَّيل يلمعُ ... سرى موهناً دوني يهبُّ ويهجعُ
خفا كاقتذاء الطير والليلُ ضاربٌ ... بأرواقهِ والصبحُ قد كادَ يسطعُ
وأنشد أيضاً:
أشاقكَ برقٌ أخرَ الليل لامعٌ ... وكلُّ حجازيٍّ لهُ البرقُ شائقُ
سرى كاحتساء الطير والليلُ دونه ... وأعلامُ سلمى كلُّها والأسالقُ
جحظة:
ألا أيُّها البرقُ الذي صابَ ودقُه ... وسارتْ به في الجانبينِ الجنائبُ
إذا أنتَ روَّيتَ المطيرة مثلما ... روينا به خمراً فحقُّكَ واجبُ
آخر:

ربَّ ليلٍ أرِقتُ فيه لبرق ... ضاحكٍ في ظلام ليلٍ عبوسِ
لاحَ في أفقهِ فخلتُ سناه ... لهباً ساطعاً بأعلى وَطيسِ
آخر:
أرقتُ لبرق سَرى موهِناً ... خفياً كغمزِكَ بالحاجبِ
كأنَّ تألقَه في السما ... يدا كاتبٍ أوْ يدا حاسبِ
وأما قول امرئ القيس:
أصاحِ ترى برقا أريك وَميضَهُ ... كلمعِ اليدين في حَبِيٍّ مكلَّلِ
فتفسيره قول الكميت:
كما انتظر المُسنِتونَ الربي ... عَ أومضَ برقاهُ ثمَّ اسْتطارا
وإذا أومض البرق مثنى مثنًى فهم لا يشكون في الغيث، ويشدون الرحال للنجعة وتتبع مساقط القطر ومواقع الكلأ. وعلى ذكر البرق فقد هفا أبو الفتح عثمان بن جني في تفسير قول المتنبي:
تبلُّ خديَّ كلَّما ابتسمت ... من مطر برقهُ ثناياها
وبيانه قول ابن الرومي:
وواضحٍ باردٍ به شنبٌ ... يعرقُ من شامَ برقَه مطرهْ
ينبت لألاؤه عذوبَتَه ... وليس يُخفي نسيمه خصرهْ
وذكر أبو الفتح أيضاً، في آخر كتاب المعرّب في القوافي، في قول بعض الخوارج يذكر الحجاج بن يوسف:
ولا الحجاج عَينيْ بنتِ ماء ... تُقلِّبُ طرفَها حذرَ الصُّقور
أنه ذليل. وحمله على معنى قول الله عز وجل: )ينظرون من طرف خفي(. أي نظراً بذلٍّ واستكانة؛ واستشهد به عليه.
وهذا البيت قد أنشده الرواة في كتب المعاني، وفسروه مصححاً: أن طيور الماء منسلقة الأجفان بلا أهداب. وكان الحجاج منسلق الأجفان بلا أهداب.
آخر:
وبدا لهُ من بعد ما انْدملَ الهوى ... برقٌ تتابعَ موهِناً لمعانهُ
يبدُو كحاشية الرِّداء ودونه ... صعبُ الذرا متمنِّعٌ أركانهُ
فالنَّارُ ما اشتملتْ عليه ضُلوعهُ ... والماءُ ما سحَّت بهِ أجفانهُ
عروة:
ألا لا أريدُ السَّيرَ إلاَّ مُصاعداً ... ولا البرقَ إلاَّ أن يكونَ يَمانيا
على مثلِ ليلى يقتلُ المرءُ نفسه ... وإنْ كنت من ليلى على اليأسِ ثاويا
ابن المعتز:
إذا تفرَّى البرقُ فيها خلتَه ... بطن شجاع في كثيب يضطَربْ
وتارةً تبصِره كأنَّه ... أبلقُ مالَ جلُّه حين وثبْ
وتارةً تخالهُ إذا بدا ... سلاسلاً مصقولةً من الذهبْ
وأخذ البيت الأول من قول عروة:
ألمْ تأرقْ لبرق باتَ يسري ... بأكنافِ الأراكةِ مستطيرِ
تكشفَ عائذٍ بلقاءَ تنفي ... ذكورَ الخيلِ عن ولدٍ صغيرِ
وأنشد أبو الفرج الأصفهاني لبعض إماء العرب:
أتربَيَّ من عُليا تميم بن عامرٍ ... أجدَّا البكا إنَّ التفرُّقَ باكرُ
أتربَيَّ عاقتني نوًى عن نواكما ... وشعبُ هوًى قد بانَ لي متشاجرُ
ألا تريانِ البرقَ باتَ كأنَّه ... روامحُ شقرٌ تتقيهِ الحوافرُ
فما مكثُنا دامَ الجميلُ عليكُما ... بنعمانَ إلاَّ أن تُردَّ الأباعرُ
الحسن بن وهب:
أما ترى البارقَ اليماني ... حقّاً يقيناً لقدْ شَجاني
ذكَّرني عارِضيْ سعادٍ ... تلكَ التي فاقتِ الغَواني
ففاضَ دمعي وأسلمتْهُ ... للوجدِ عينانِ تذرِفانِ
حبيبةٌ لي مُنعتُ منها ... فلا أراها ولا تَراني
وقد استعار أبو تمام لفظ البرق، وركَّب من البرق معنى اخترعه فقال:
برقٌ إذا برقُ غيثٍ باتَ مختطفاً ... للطَّرف أصبحَ للأعناقِ مختطفا
إلاَّ أن في لفظه كلفة. ولسهولة الألفاظ، وائتلاف مراتبها، والتحام أجزائها، وتناسب أبعاضها مدخلٌ في جودة الشعر، وبراعة النظم. ألا ترى فيما أنشده الرواة كم بين قول امرئ القيس:
كأنِّيَ لم أركبْ جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيليَ كُرِّي كرة بعد إجفالِ
وبين قول عبد يغوث الحارثي:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري نفسي عن رِجاليا
ولم أسبأِ الزقَّ الرويّ ولم أقلْ ... لأيسار صدقٍ عظِّموا ضوءَ نارِيا
وقال عبد الله بن المعتز في قول أبي تمام:
جعلتَ الجودَ لألاءَ المساعي ... وهل شمسٌ تكونُ بلا شُعاعِ
كاد البيت يكون جيداً لو لم يقلْ لألاء.
وعلى هذا أنشد خالد بن كلثوم بشار بن برد قول المجنون:

ألا إنَّما ليلى عصا خيزرانةٍ ... إذا غَمزوها بالأكفِّ تَلينُ
فقال بشار: لو كان قال: عصاً من زُبْدٍ لكان جافياً من بعد ذكر العصا. هلاّ قال كما قلت:
وحوراءِ المدامعِ من معدٍّ ... كأنَّ حديثها ثمرُ الجنانِ
إذا قامتْ لسُبحتها تثنَّتْ ... كأنَّ عظامَها من خيزُرانِ
ابن الدمينة:
ذكرتكِ والنَّجمُ اليَمانيّ كأنَّه ... وقد عارضَ الشِّعْرى قريعُ هِجانِ
فقلتُ لأصحابي ولاحتْ غمامةٌ ... بنجدٍ ألا للهِ ما تريانِ
فقالوا نرَى برقاً تقطَّعَ دونَهُ ... من الطَّرفِ أبصارٌ إليه رَواني
فكمْ شامَ ذاكَ البرقَ من متردِّدٍ ... حبيبٍ وجفنا عينيهِ هملانِ

الباب الثالث
الغيم والرَّعد والمطر
العلوي الحمَّاني:
باتتْ سَواريها تمخَّ ... ضُ في رواعِدها القواصفْ
فكأنَّ لمعَ بُروقها ... في الجوِّ أسيافُ المثاقفْ
ثمَّ انبرتْ سُحباً كبا ... كيةٍ بأربعةٍ ذوارفْ
التنوخي في الرعد:
ورعدةٍ كقارئٍ مُتعتعٍ ... أوْ خاطبٍ لجلجَ لمَّا أن خطبْ
كأسدٍ يزأرُ أوْ جنادلٍ ... تصطكُّ أوْ أمواجِ بحرٍ تصطخبْ
ابن هرمة، في تشبيهه، وأحسن:
ألمْ تأرقْ لضوءِ البرْ ... قِ في أسحمَ مّاحِ
كأعناقِ نساء الهن ... دِ قد شيبتْ بأوضاحِ
الحسين بن مطير الأسدي:
مُستضحكٌ بلوامعٍ مستعبرٌ ... بمدامع لم تمرِها الأقذاءُ
فله بلا حُزن ولا بمسرَّةٍ ... ضحكٌ يؤلفُ بينهُ وبكاءُ
غرٌّ محجَّلةٌ دوالحُ ضُمِّنتْ ... حملَ اللّقاحِ وكلُّها عذراءُ
سحمٌ فهنَّ إذا كظمنَ فواحمٌ ... وإذا ابتسمنَ فإنَّهنَّ وِضاءُ
آخر:
ومصابُ غادية تسحُّ ... ذوارفَ الدمعِ الهَمولِ
وتقاطرتْ منشورةً ... أشباهَ أعرافِ الخيولِ
ابن المعتز:
نثرتْ أوائلها حَياً فكأنَّه ... نقطٌ على عجلٍ ببطنِ كتابِ
أوس بن حجر:
يا هلْ ترَى البرقَ لمَّا شبَّ أرَّقني ... في عارضٍ مستطيرِ المزنِ لمَّاحِ
تهدي الجنوبُ بأولاه وناءَ بهِ ... أعجازُ مزن بسحّ الماءِ دلاّحِ
كأنَّ ريِّقَه لمَّا علا شطِباً ... أقرابُ أبلقَ ينفي الخيلَ رمَّاحِ
دانٍ مسفٌّ فويق الأرض هيدَبُه ... يكادُ يدفعهُ من قامَ بالرَّاحِ
ينفي الحصى عن جديدِ الأرض مبتركاً ... كأنَّه فاحصٌ أو لاعبٌ داحِ
كأنَّما فيه لمَّا الرعدُ فجَّرهُ ... دهمٌ مطافيلُ قد همَّت بإرشاحِ
فمنْ بنجوتهِ كمنْ بعقوته ... والمستكنُّ كمنْ يمشي بقرْواحِ
والسحاب إذا ألَّفته الصَّبا وألقحته الجنوب، ومرَته الشمال، فالمطر سحٌّ طبق. ولهذا قال الهذلي عبد بني الحسحاس:
مَرَته الصَّبا وزَهَتْه الجنو ... بُ وانْتَجفتهُ الشَّمال انْتِجافا
وهذا على طبع البقاع. ألا ترى أن أبا كبير جعل الشمال قاشعة السحاب فقال:
فتركتهمْ جَزَراً كأنَّْ سحابةً ... صابتْ عليهم وَدْقُها لم يُشملِ
وجعلها النابغة مستدرة مستديمة فقل:
أوْ مثلُ أُسود الطلِّ ألْثَقها ... يومُ رذاذٍ منَ الجوزاءِ مشمولُ
وبه اقتدى البحتري فقال:
قلْ للسَّحابِ إذا ما حدتْهُ الشَّمألُ ... وسرى بليلٍ ركبُهُ المتحمِّلُ
وأغزر السحاب ما نشأ عن يمين القبلة. ويقولون: إنها لا تسودُّ إلاَّ من ريِّها.
أخبرني أبو سعيد عن أبي بكر بن دريد قال: كان معقِّر بنُ حمار البارقي في الصحراء، فسمع راعدةً فقال لابنته: ما ترين؟ فقالت: أراها حمَّاء عقاقةً كأنها حولاء ناقة. ثمَّ سمع أخرى فقال: ما ترين؟ فقالت: أراها كأنها لحمٌ ثنتٌ منه مسيكٌ ومنهرتٌ. فقال: وائلي بي إلى قفلةٍ فإنها لا تنبتُ إلاَّ بمنجاةٍ من السيل.
البحتري:
ذاتُ ارتجازٍ بحنينِ الرعدِ ... مجرورةُ الذيلِ صدوقُ الوعدِ
مسفوحةُ الدمعِ بغير وجد ... لها نسيمٌ كنسيمِ الوردِ
ورنَّةٌ مثلُ زئيرِ الأُسدِ ... ولمعُ برقٍ كسيوفِ الهندِ
جاءتْ بها ريحُ الصَّبا من بعدِ ... فانتثرتْ مثلَ انتثارِ العقدِ
فراحتِ الأرضُ بعيشٍ رغدِ ... مِن وشيِ أنوار الرُّبا في بُردِ

كأنَّما غدرانُها في الوهدِ ... يلعبنَ من حَبابِها بالنَّردِ
آخر:
أقبلَ كالذَّودِ رعت شواردُهْ
حتَّى إذا ما ارتجزتْ رواعدُهْ
وأذهبتْ ببرقِها مطاردُهْ
عادتْ بما سرَّ الثرى عوائدُهْ
وانتثرتْ في روضِها فرائدُهْ
منظومةً من شكره قلائدُهْ
أخر:
غيثٌ أذابَ البرقُ شحمةَ مزنهِ ... والرِّيحُ تنظمُ منه حبَّ الجوهرِ
وُّما طارتْ به ريحُ الصَّبا ... من بعدِ ما انغمستْ به في العنبرِ
ويُضيءُ تحسبُ أنَّ ماءَ غمامهِ ... قمرٌ تقطَّع في إناءٍ أخضرِ

الباب الرابع
في الغدران والجداول
وتدريج الرياح إيّاها وتركيب السماء والنجوم فيها
الصنوبري في وصفه النهر وأجاد:
والعَوَجانُ الذي كلفتُ بهِ ... قد سُوِّيَ الحسنُ فيه مُذ عرَّجْ
ما أخطأ الأيمَ في تعوُّجه ... شيئاً إذا ما استقامَ أو عوَّجْ
تُدرِّجُ الريحُ متنهُ فترى ... جوْشنَ ماءٍ عليه قد درّجْ
إنْ أعنقتْ بالجنوبِ أعنقَ في ... لطف وإن هملجتْ به هملجْ
من أينَ طافتْ شمسُ النهارِ بهِ ... حسبتَ شمساً من جوفه تخرُجْ
ابن المعتز:
على جدولٍ ريَّانَ لا يقبلُ القذى ... كأنَّ سواقيهِ مُتونُ المباردِ
الناجم:
أحاطتْ أزاهيرُ الربيع سَويةً ... سِماطيْنِ مصطفَّينِ تستنبتُ المرْعى
على جدولٍ ريَّانَ كالسهم مرسَلاً ... أو الصارمِ المسلولِ أوْ حيَّةٍ تسعى
آخر:
كَسَيبك اللجينِ يجري على اليا ... قوتِ والدرِّ بين تلكَ النواحي
فوقَ رضراضِ دُرِّهِ يتلوَّى ... جريُ سلسالهِ النقي الضواحي
الصنوبري:
في ذهبِ الترب لُجينُ الماء ... يجري على زمرُّد الحصباءِ
منِ استواءٍ منهُ والتواء ... كما نفضتَ جونةَ الحوَّاءِ
ابن رومي:
وماءٍ جلتْ عن حرِّ صفحته القذى ... من الريح معطارُ الأصائلِ والبكرْ
له عبقٌ مما تسحب فوقه ... نسيم الصبا يجري على النور والزهرْ
ابن المعتز في الغدير وأحسن:
وإذا الرِّياحُ مسحنَ وجهَ غديرهِ ... صفَّيْنه ونفيْنَ كلَّ قذاةِ
ما إنْ يزالُ عليه ظبيٌ كارعٌ ... كتطلُّعِ الحسناءِ في المرآةِ
العلوي الحمَّاني:
بَرّيّةٌ شتواتُها ... بحريَّة منها المصائفْ
دُرّيّةُ الحصباء كا ... فوريّةٌ منها المشارفْ
وكأنَّما غدرانها ... فيها عشورٌ في مصاحفْ
آخر:
بأكنافِ الثويَّةِ من عُذيبٍ ... حسانٌ هنَّ جنَّاتُ النَّعيمِ
وتخفقُ وسطها الغُدرانُ ليلاً ... ومن حصبائها زهرُ النُّجومِ
ابن طباطبا العلوي:
كم ليلةٍ ساهرتُ أنجمَها لدَى ... عَرَصاتِ ماء أرضُها كسمائها
قد سُيِّرت فيها النجومُ كأنها ... فلكُ السماء يدورُ في أرجائها
لججٌ قدحتُ اللحظَ في جَنَباتها ... والبرقُ يقدحُ تارةً في مائها
أحسنْ بها لججاً إذا التبسَ الدجى ... كانت نجومُ اللَّيل من حَصبائها
وترجَّحت فيها السماءُ ولم تزلْ ... خضراؤها ترتجُّ في خضرائها
والبدرُ يخفقُ وسطَها فكأنَّه ... قلبٌ لها قد ريعَ في أحشائها
اللبادي المصري:
وبِتنا على النِّيلِ في ليلةٍ ... هَرَقْراقةٍ طلقةٍ مُشرقهْ
وقد طلعَ البدرُ من جانب ... فصاغَ على وسطهِ منْطقهْ
فساذجةٌ بسكونِ الرياحِ ... فإنْ خفقَت خِلتَها مُحرقهْ
آخر:
والنيلُ يجري فوقَ رَض ... راضٍ من الجزعِ الظَّفاري
مُتلوِّناً لونين ما ... بينَ اللجينِ إلى النُّضارِ
آخر:
والبدرُ في أُفقِ السَّماء كأنَّه ... قدْ سلَّ الماء سيفاً مُذهبا
آخر:
والماءُ بين صَقي ... ل الأعلى وبين المدرَّجِ
يُدني إلى ذهب الرَّ ... اح لازوردَ البنفسجِ
المفجَّع البصري:
على جدولٍ ريَّانَ ينسابُ متنُهُ ... صقيلاً كمتن السَّيفِ وافى مجرَّدا
إذا الريحُ ناغتْهُ تحلَّقَ وجهُهُ ... دُروعاً وِضاءً أو تحزَّز مِبردا
أبو فراس:
والماءُ منحطٌّ من التلاعِ ... كما تُسلُّ البيضُ للقراعِ

ابن المعتز:
إذا كُظَّ الفراتُ بماء مدٍّ ... أغصَّ به حلاقمَ كلِّ نهرِ
وقوله في ماء المد عجيب:
أما ترَى المدَّ قدْ ... أتاكَ بماءٍ مُصندلِ
وهذا من فوارد شعره كقوله:
تميلُ من سَكَرات النوم قامتُه ... كمثلِ ماشٍ على دُفٍ بتخنيثِ
وكقوله:
وكأنَّ السقاةَ بين النَّدامى ... ألِفاتٌ بين السُّطورِ قيامُ
وكقوله:
والبدرُ يأخذُهُ غيمٌ ويتركُهُ ... كأنَّه سافرٌ عن خدِّ مَلطومِ
وكقوله:
في قمرٍ مُسترقٍ نصفُه ... كأنَّه مِجرفةُ العطرِ
آخر:
وجدولٍ كالحسام لاحَ على ... جلدةِ وشْي لمّاعةِ الذَّهبِ
كأنَّه والمُدودُ تتبعُه ... سلْخ حُبابٍ من كثرةِ الحَبَبِ
ابن المعتز:
وروضةٍ كأنَّها ... جلدُ سماء عاريَهْ
كأنَّما أنهارُها ... بماءِ وردٍ جاريَهْ
آخر:
وكأن درعاً مُفزَعاً من فضةٍ ... ماءُ الغدير جرتْ عليهِ شمألُ
وعلى ذكر المياه وقرارتها أحسن الصنوبري في صفة البركة:
يا حسنَها من بركة أُفردتْ ... بالحُسنِ إحساناً من الواهبِ
كأنَّما الأعينُ في قَعرها ... راسبةٌ إثر القَذى الرَّاسبِ
بين بساتينَ مَيادينُها ... من سارقٍ للُّبِّ أوْ غاصبِ
ما بين مصبوغٍ بلا صابِغ ... وبين مخضوب بلا خاضبِ
وجدولٍ ينسلُّ من جدولٍ ... مثلَ انْسلالِ المُرهف القاضبِ
والطيرُ من مستبشرٍ ضاحك ... فيه ومن مكتئبٍ نادبِ
وصادحٍ أُنساً إلى حاضرِ ... وهاتفٍ شوقاً إلى غائبِ
وله أيضاً في البركة والفوَّارة:
وبركةٍ منظرُها يطربُ ... للماءِ فيها ألسنٌ تعربُ
تحسبُها من طولِ تَرجيعها ... دائمةً تُنشدُ أو تخطبُ
كأنَّ فواراتها وسطها ... إذا ترامتْ لعبٌ تلعبُ
من يمنةٍ فيها ومنْ يسرةٍ ... قنطرةٌ واقفةٌ تذهبُ
علي بن الجهم:
صحونٌ تسافرُ فيا العيونُ ... وتَحسرُ من بُعد أقطارِها
إذا أُوقدتْ نارُها بالعرا ... قِ أضاءَ الحجازَ سَنا نارِها
وقُبةُ ملكٍ كأنَّ النجو ... مَ تُصغي إليها بأسرارِها
وفوَّارةٌ ثأرُها في السَّما ... ءِ فليستْ تقصّرُ عن ثارِها
ترُد على المُزن ما أنزلتْ ... على الأرض من صوبِ أقطارِها
لها شُرُفاتٌ كأنَّ الرَّبي ... عَ كساها الرياضَ بأنوارِها
فهن كمُصطبحاتٍ خرجْ ... نَ لفصْح النَّصارى وإفطارِها
فمنْ بين عاقصةٍ شعرَها ... ومصلحةٍ عقْد زنَّارِها

الباب الخامس
جريِ الماء بين الخُضر
أبو فراس وأحسن في تشبيهه:
والماءُ يفصلُ بينَ زه ... ر الرَّوضِ في الشطَّينِ فصْلا
كبساطِ وشيٍ جرَّدتْ ... أيدي القيونِ عليهِ نصْلا
آخر:
كلبْسِكَ خَفتانَ وشيٍ بدا ... بياضُ الغِلالة من شرجهِ
آخر:
وجدولٍ كالمِبْرد المجلي ... على رياضٍ وثرًى ثريّ
الناجم:
انظرْ إلى الرَّوضِ الذك ... يِّ فحسنُهُ للعينِ قرَّهْ
وكأنَّ خضرتَهُ السَّما ... ءُ ونهرهُ فيها المجرَّهْ
النامي:
وكأنَّما الرَّوضُ السَّماءُ وزهرُهُ ... فيها المجرَّةُ والكؤوسُ الأنجمُ
أبو فراس:
وكأنَّما الغُدُرُ الملاءُ تحفُّها ... أنواعُ ذاك الرَّوض والزهرِ
بسطٌ من الدِّيباجِ بيضٌ فُرْوِزتْ ... أطرافُها بفراوزٍ خُضرِ
الباب السادس
تفتُّح الأنوار والأكمَّة
لبعضهم:
أكمَّةُ نُوَّار تبدَّتْ كأنَّها ... صماماتُ وشيٍ حرةُ البطنِ والظهرِ
ودائعُ للنَّيروزِ فيها كنينةٌ ... من الفضَّة البيضاءِ أوْ خالص التبرِ
كما زرَّتِ الحسناءُ فضلَ جيوبِها ... على الدُّرِّ والمرجانِ في واضحِ النحرِ
المعوَّج:
حقاقٌ منَ النوَّار مزرورةُ العُرا ... على قطع الياقوت واللؤلؤِ الغضِّ
فهنَّ على الأغصانِ أجفانُ فضَّةٍ ... وبالأمسِ كانتْ مُطبقاتٍ على الغمضِ
البحتري:
وقدْ نبَّه النَّيروزُ في غَلس الدُّجى ... أوائلَ وردٍ كنَّ بالأمسِ نُوَّما

يفتِّقها بردُ النَّدى فكأنَّه ... يبثُّ حديثاً كانَ قبلُ مكتَّما

الباب السابع
باكورة الخلاف
الباخسرواني:
أوَّلُ ثَغر الرَّبيع مُبتسماً ... نَوْرُ خلافٍ درٌّ مضاحكُهْ
قضبانُه الفاتناتُ في لمعٍ ... منْ لؤلؤ وُضَّحٍ مسالكُهْ
بشيرُ صدقٍ جاءَ الربيعُ بهِ ... يُخبر أن زينَت ممالكُهْ
آخر:
عودُ خِلاف أتى وفاقا ... بينَ الملاهي بلا خِلافِ
مرصَّعٌ قشرهُ بنوْرٍ ... أُلِّفَ من لؤلؤ وِلافِ
أبو عبادة:
هذا الربيعُ كأنَّما أنوارُهُ ... أولادُ فارسَ في ثيابِ الرُّومِ
وترى الخِلافَ كشاربٍ من قهوة ... ثملٍ إلى شُرب المُدامة يومي
الباب الثامن
سقط الطلّ على الورق
الصنوبري:
طالَعنا حاجبُ الغَزالة في ... قَميص نَوْر مذهَّب الزبرجْ
وخيلَ سقطُ النَّدى المفرَّقُ في ... جوانبِ البيتِ لؤلؤاً دُحرجْ
غيره:
كأنَّ طلوعَ الورد والطلُّ فوقهُ ... لثاتٌ عليها درُّ ثغر مفلَّجِ
ابن الرومي:
تروقُكَ النَّورةُ منها الناكسهْ ... بعينِ يَقظى وبجيدِ ناعسهْ لؤلؤةُ الطلِّ عليها قارسهْ
أبو عبادة:
وفي أُرجوانيٍّ من النَّوْر أحمرٍ ... يُشاب بإفرندٍ من الأرضِ أخضرِ
إذا ما النَّدى وافاه ليلاً تمايلتْ ... أعاليهِ من درٍّ نثيرٍ وجوهرِ
إذا قابلتها الشَّمسُ ردَّ ضياءها ... عليها صقالُ الأرجوانِ المنوَّرِ
إذا غازلتْها الريحُ خلتُ التفاتةٌ ... لعلوةَ في جاديِّها المتعصفرِ
كأنَّ سقوطَ الطلِّ فيها إذا انْثنى ... إليها سقوط اللؤلؤ المتحدِّرِ
ابن الرومي:
لدى رَوضة فيها من النَّورِ أعينٌ ... تُرقرقُ دمعاً بل ثغورٌ تبسَّمُ
كمستبشرٍ مستعبرٍ بعد فرقةٍ ... لبينِ خليطٍ قوَّضوا ثمَّ خيَّموا
ابن المعتز، وهو من بديعه:
فرسانُ طلٍّ على خيل من الشجرِ ... تحثُّهنَّ سياطُ الريح في السَّحرِ
ما شئت منْ حَركات وهي واقفةٌ ... نخالُها سائراتٍ وهي لم تسرِ
آخر:
وتجلَّتِ الأشجارُ من أنوارها ... جنْسينِ بين مفضَّضٍ ومذهَّبِ
انظرْ إلى الحبِّ المنظَّمِ فوقَها ... والى ندًى من فوقهنَّ محبَّبِ
الأخيطل الأهوازي:
وإذا النميمةُ للرياحِ جرتْ ... ما بينهنَّ وخانها الصبرُ
طلعتْ كمعتنقٍ ومفترقٍ ... يُدني الهوى ويباعدُ الهجرُ
ملأتْ مداهنَها السَّماءُ ندًى ... أعناقُها من يِقْله صعرُ
أبو عبادة:
ولا زالَ مخضرٌّ من الرَّوض يانعٌ ... عليهِ بمحمرّ من النَّور جاسدِ
يذكِّرنا ريَّا الأحبَّةِ كلّما ... تنفَّسَ في جُنح من اللَّيل باردِ
شقائقُ يحملنَ النَّدى فكأنَّها ... دموعُ التَّصابي في خدود الخرائدِ
السروي:
غَدَونا على الرَّوضِ الذي طلَّه النَّدى ... سُحيراً وأوداجُ الأباريقِ تُسفكُ
ولم أرَ شيئاً كانَ أحسنَ منظراً ... من الرَّوضِ يجري دمعهُ وهو يضحكُ
آخر:
رأيتُ الرياضَ الزهرَ يونَقُ نوْرُها ... مدبَّجةَ الأرجاءِ موشيَّةَ الحفلِ
وقد أحدقتْ بيضُ الولائد بينها ... بغُدرانها غبَّ المروي عن الوبلِ
حواضنُ للعيدانِ في رونقِ الضُّحى ... يشُبْن شجى الألحان بالشَّكل والدلِّ
الباب التاسع
اهتزاز الأوراق بالأغصان
العلوي الحماني، وهو من أحسن التشبيه:
وكأنَّما أنوارُها ... تهتزُّ في نكباءَ عاصفْ
طُررُ الوصائفِ يلتقي ... نَ بها إلى طُررِ الوصائفِ
آخر:
وترى الغُصون ترفّ بالأ ... وراق مسبَلةَ الإزارِ
كقدودِ غلمانٍ رشا ... قٍ فوقها طُررُ الجواري
آخر:
وترى الغُصون تروقُ في أوراقِها ... مثلَ الوصائفِ في صنوفِ حريرِ
والوردُ في خُضر القُموع كأنَّه ... وردُ الخدود بخُضرةِ التعذيرِ
الباب العاشر
تثنِّي الأغصان وتعانقها
ابن مكلِّم الذئب:
شموسٌ وأقمارٌ من الزّهر طُلَّعُ ... لذي اللَّهوِ في أكنافها متمتَّعُ

كأنَّ عليها مِن مُجاجةِ طلِّها ... لآلئَ إلاَّ أنها هيَ أنصعُ
نَشاوى تًثنِّيها الرِّياحُ فتنثني ... فيلثمُ بعضٌ بعضَها ثمَّ ترجعُ
أحسن في هذا الوصف، واستوفاه، واستجاده أبو عبادة:
كأنَّ العذارى تمشَّتْ بها ... إذا هبَّتِ الريحُ أفنانَها
تعانَقُ للقُرب شَجْراؤها ... عناقَ الأحبَّةِ أسكانَها
آخر:
ويومٍ حجبَ الغيمُ ... به الشَّمسَ عن الأرضِ
بنوعين من القطرِ ... بمعقود ومُرْفَضِّ
إذا هبَّت الريحُ ... تدانى البعضُ من بعضِ
آخر:
وكأنَّها عند التع ... طُّف مُصغيانٌ للسرارِ
لنسيمِ ريحٍ كالمغا ... زلِ للغونِ وكالمداري
الأُخيطل الأهوازي:
حُفَّت بسرو كالكقيانِ تلبَّست ... خُضر الثياب على قوامٍ مُعتدلْ
فكأنَّها والريحُ تخطر بينها ... تنوي التَّعانقَ ثمَّ يمنعُها الخجلْ
آخر:
والسَّرو تحسبُه العيونُ غوانياً ... قدْ شمَّرتْ عن ساقِها أثوابَها
فكأنَّ إحداهنَّ من نفحِ الصّبا ... خودٌ تلاعبُ مَوْهناً أترابَها

الباب الحادي عشر
طلوع الشَّمس من خَلَل الأوراق
المعوج:
كأنَّ شُعاعَ الشّمس في كلِّ غُدوة ... على ورقِ الأشجار أوَّلَ طالعِ
دنانير في كفِّ الأشلِّ يضمُّها ... لقبضٍ وتَهوي من فُروج الأصابعِ
المتنبي:
فسرتُ وقد حجبْن الشَّمسَ عنِّي ... وجِئنَ من الضياءِ بما كَفاني
وألقى الشرقُ منها في ثيابي ... دنانيراً تفرُّ من البَنانِ
النَّامي:
سماءُ غصونٍ تحجبُ الشمسَ أن تُرى ... على الأرضِ إلاَّ مثل نثرِ الدراهمِ
وخُلّطَ في القضبانِ حتَّى كأنَّها ... أليفُ عناقٍ للخدود النَّواعمِ
الباب الثاني عشر
تناثر النوَّار وغَشَيانه الأنهار
ابن لنكك:
ما كانَ منظوماً على الأغصانِ ... من كُسوة الياقوت والمرْجانِ
أصبحَ منثوراً على القيعانِ ... فالأرضُ من هديَّةِ القُضبانِ
تحتَ أكاليل من العقْيانِ ... تُدعى إلى نُزهتها العينانِ
أبو عبادة:
سَرى البرقُ يلمعُ في مُزنةٍ ... تجرُّ إلى الأرض أشطانَها
تُريكَ اليواقيتَ منثورةً ... وقد جلَّلَ النَّورُ ظهرانَها
العلوي:
وترى الأرضَ تُشبه الجوّ ليلاً ... وترى الجوَّ كالسَّماء نَهارا
وترى النَّورَ كالنثار إذا ما ... طيَّرتْه الصَّبا برفقٍ فطارا
كالدَّنانيرِ والدراهمِ ينفي النَّ ... قدُ منهنَّ روبجاتٍ نُضارا
المفجع:
النَّورُ منتثرٌ في كلِّ شارقة ... يغشى الجداولَ غشياناً فيغطيها
والماءُ من خَلَلِ النوَّار تحسبُه ... زرقَ العيونِ وبيضُ النبتِ يبديها
الناجم:
كأنَّما النَّورُ يغشى الماءَ مُنتثراً ... والريحُ تتركه كالسَّيف ذي الشطبِ
براقعٌ من قُباطيِّ مقطعةٌ ... وتحتَها حدٌ زرقٌ بلا هدبِ
الباب الثالث عشر
تنزُّه العين في الربيع
شاعرٌ:
حظُّ عينٍ وحظُّ سمع ربيعا ... ن وتغريدُ بلبل وهزازِ
في حِلاء من الزَّمان ووجه الأ ... رضِ مُكسى وشائعَ النُّوارِ
بابْيضاض محذَّقٍ باخضرارٍ ... واصفرار مبطَّنٍ باحمرارِ
كلّما أشرقتْ شموسُ الأقاحي ... خلتَ إحدى الشّموس شمسَ نهارِ
ابن المعتز:
قد نسجَ الرَّوضُ حلَّةَ الزهرِ ... فالعينُ محسودةٌ على النَّظرِ
الصنوبري:
فللظَّهرِ من حَلَب منظرٌ ... تُثابُ العيونُ على حجّهِ
وقد نظمَ الزهرُ سِمْطَيْه مِن ... سِنانِ قُويقَ إلى زجهِ
حبيب:
يا صاحبيَّ تقصَّيا نظريكُما ... تَرَيا وجوهَ الأرض كيفَ تصوَّرُ
تَرَيا نهاراً مشمساً قد شابهُ ... زهرُ الرّبا فكأنَّما هو مقمرُ
الناجم:
يومٌ شعاعُ شمسهِ ... مِن مذهبٍ لم ينسجِ
والريحُ سجواءُ جرتْ ... على هواء سجسجِ
فالعينُ من نزهتها ... خِلالَ عرسٍ مُبهجِ
والنَّورُ في غُدرانه ... درٌّ على فيروزجِ
الباب الرابع عشر
رقَّة النسيم

ابن المعتز، وهو من بديعه:
يا رُبَّ ليلٍ سحرٌ كلُّهُ ... مُفتضحِ البدرِ عليلِ النَّسيمْ
تلتقطُ الأنفاسُ بردَ النَّدى ... فيه فتَهديهِ لحرِّ الهمومْ
وأنشد أبو الفرج الأصفهاني لأعرابي:
وجوٍّ زاهرٍ للريحِ فيهِ ... نسيمٌ لا يَروعُ التربَ وانِ
وفسره أبو الفرج في كتاب الأغاني تفسيراً غريباً.
أنشد:
باحَ الظَّلامُ ببدرها وَوَشت ... فيها الصَّبا بمواقع القطرِ
أبو عبادة:
ورقَّ نسيمُ الروضِ حتَّى كأنَّما ... يجيء بأنفاس الأحبَّةِ نُعَّما
فما يحبسُ الرَّاحَ التي أنت خلُّها ... وما يمنعُ الأوتارَ أنْ تترنَّما
آخر:
ونسيمٍ يبشِّرُ الأرضَ بالقَطْ ... ر كذيلِ الغِلالةِ المبلولِ
ووجوهُ البلادِ تنتظرُ الغي ... ثَ انتظارَ الحبيبِ ردَّ الرَّسولِ
آخر:
يُحرِّكُ أغصانَ الرياض نسيمُها ... بمسجورةِ الأنفاس طيبةِ البردِ
أعرابي:
وما ريحُ قاعٍ عازب صَيِّبِ النَّدى ... وروضٍ من الكافور درَّتْ سحائبُهْ
فجاءَتْ سُحَيراً بين يومٍ وليلةٍ ... كما جرَّ من ذيلِ الغِلالةِ ساحبُهْ
ابن الرومي:
وأنفاسٌ كأنفاس الخُزامى ... قبيلَ الصُّبحِ بلَّتها السماءُ
تنفَّسَ نشرُها سحَراً فجاءتْ ... به سَحَريَّةُ المسرى رخاءُ
آخر:
يُهدي التنسُّمُ طيبَها لأُنوفنا ... فنظلُّ في طيبٍ ولم نتطيَّبِ
آخر:
كأنَّ حمامَ الأيكِ نشوانُ كلَّما ... ترنَّم في أغصانه وترجَّحا
ولاذَ نسيمُ الروض من طول سَيْره ... حَسيراً بأطراف الغصون مطلَّحا
إسحاق الموصلي:
يا حبَّذا ريحُ الجنوب إذا جرتْ ... في الصبحِ وهي ضعيفةُ الأنفاسِ
قدْ حُمِّلت بردَ الندى وتحمَّلتْ ... عَبَقاً من الجَثْجاث والبَسْباسِ
ماذا يَهيج من الصَّبابةِ والهوى ... للصَّبِّ بعد ذهولهِ والياسِ
ابن الرومي:
تُذكِّرني الشبابَ صباً بليل ... رسيسُ المسِّ لاغبةُ الركابِ
أتتْ من بعد ما انْسحبتْ مَليّاً ... على زَهر الرُّبا كلَّ انْسحابِ
وقد عبقتْ بها ريحُ الخُزامى ... كريح المسكِ ضُوِّعَ بانْتهابِ

الباب الخامس عشر
الشَّقائق
الأُخيطل الأهوازي:
هذي الشَّقائق قد أبصرتْ حمرَتها ... فوقَ السَّوادِ على أعناقها الذلُلِ
كأنَّها دمعةٌ قد غسَّلتْ كحُلاً ... جادتْ به وقفةٌ من وجنتَيْ خَجِلِ
آخر:
وشقائقٍ خجِلتْ ملاحةُ خدّه ... فلهُ التعصفُر مشفقٌ وشفيقُ
يرنو بأرقطِهِ إلى محمرِّه ... فاللَّحظُ جزعٌ والجفونُ عقيقُ
كشاجم:
أما الظَّلامُ فقد رقَّت غلائلهُ ... والصُّبحُ حين بدا بالنُّورِ يختالُ
فانظرْ بعينك أغصانَ الشَّقائق في ... فُروعها زهرٌ في الحُسن أمثالُ
من كلِّ مشرقةِ الألوانِ ناضرةٍ ... لها على الغُصن إيقادٌ وإشعالُ
حمراءَ من صبغةِ الباري بقُدرته ... مصقولةٍ لم ينلْها قطّ صقَّالُ
كأنَّها وجناتٌ أربعٌ جُمعتْ ... وكلُّ واحدةٍ في صحنِها خالُ
السروي:
جامٌ تكوَّنَ من عقيقٍ أحمر ... مُلئتْ قرارتُه بمِسك أذفرِ
خرطَ الرَّبيعُ مِثاله فأقامهُ ... بين الرياضِ على قضيبٍ أخضرِ
ترنو إليه من الجوانِب كلّها ... حدقٌ خُلقنَ من النهار الأنورِ
والرِّيحُ تتركهُ إذا هبَّتْ بهِ ... متمايلاً كالطَّافح المتكسِّرِ
فتراهُ يركعُ ثمَّ يرفعُ رأسَهُ ... مُتحيِّراً كالعاشق المتحيِّرِ
العلوي:
وعقيقٍ من الشَّقائق فيه ... سَبَجٌ حلَّ وسطَه واسْتدارا
فهو وصفاً كمثلِ زنجيَّةٍ قدْ ... لبستْ من مُعصفراتٍ إزارا
وعلى نحرِها من الوَدْعِ عقدٌ ... صارَ حولَ السوار طوْقاً مُدارا
نِيطَ بين اسوِدادِها واحمرارِ المِرْ ... طِ أعجبْ بصبغهِ كيفَ صارا
آخر:
اشربْ على وجهِ الشَّقائق خمرةً ... هي كالشَّقائق حمرةً في الكاسِ
أو ما ترى أوراقَها محمرَّةً ... في رأسِ مخضرٍّ به ميَّاسِ

جَزعٌ وياقوتٌ وخُوطُ زبرجدٍ ... نعمتْ بنظرتهِ عيونُ النَّاسِ

الباب السادس عشر
البنفسج
ابن المعتز:
ولازورديَّةٍ أوفتْ بزُرقتها ... بينَ الرياض على زُرق اليواقيتِ
كأنَّها فوقَ طاقاتٍ ضَعُفن بها ... أوائلُ النَّار في أطرافِ كبريتِ
وهذا من نادر التشبيه وبديعه.
وليس يعدله قول المهلبي:
بنفسجٌ بذكيِّ المسك مخصوصُ ... ما في زَمانك إذ وافاهُ تَنغيصُ
كأنَّما شُعَلُ الكبريت منظرُهُ ... أوْ خدُّ أغيدَ بالتجْمِيشِ مقروصُ
وقد لطف ابن كَيْغلغ واستوفاه في استعارته لمعناه:
لمَّا اعْتنقنا للوداعِ وأعربتْ ... عبراتُنا عنَّا بدمعٍ ناطقِ
فرَّقنَ بينَ محاجرٍ ومعاجرٍ ... وجمعنَ بينَ بنفسجٍ وشقائقِ
واستعاره أبو تمام في قوله:
لها من لوْعة البينِ الْتِدامٌ ... يُعيدُ بنفسجاً وردَ الخُدود
وقوله الْتِدامٌ أحد ما أُخذ على أبي تمام.
وقد ذكره ابن مقبل:
وللفؤاد وجيبٌ تحتَ أبهرِهِ ... لدْمُ الغلام وراءَ الغيب بالحَجَر
الباب السابع عشر
الورد
محمد بن عبد الله بن طاهر:
أمَا ترى شجراتِ الورد مُظهرةً ... لنَا بدائعَ قد رُكِّبن في قُضُبِ
أوراقها حمرٌ أوساطها حممٌ ... صفرٌ ومن حولها خُضر من الشطبِ
كأنَّهنَّ يواقيتٌ يطيفُ بها ... زمرُّدٌ وسطَه شذْرٌ من الذهبِ
وليس على هذا الوصف مزيدٌ.
البسَّامي:
مَداهنٌ من يواقيتٍ مركَّبةٌ ... على الزمرُّدِ في أوساطِها الذهبُ
كأنَّها حينَ لاحتْ من مَطالعها ... صبٌّ يُقبِّل صبّاً وهو مُرتقبُ
خافَ الملالَ إذا طالتْ إقامتُهُ ... فصارَ يظهرُ أحياناً ويحتجبُ
المهلبي في أحمره وأبيضه:
قَراحُ ورد مونَق نبتُه ... بالحُسنِ والبهجةِ منعوتُ
مُبيضَّه فيهِ ومُحمرُّهُ ... كأنَّه درٌّ وياقوتُ
ابن المعتز:
أتاكَ الوردُ مُبيضاً مَصوناً ... كمعشوقٍ تكنَّفهُ صدودُ
كأنَّ وجوهه لمَّا توافتْ ... نجومٌ في مطالعها سُعودُ
بياضٌ في جوانبهِ احمرارٌ ... كما احمرَّتْ من الخجلِ الخدودُ
آخر في ذي اللونين:
وذي لونين نشرُ المسك فيهِ ... يروقُ بحُمرة فوقَ اصفرارِ
كمعشوقَيْن ضمَّهما عناقٌ ... على حَدَثان عهٍ بالمزارِ
وافتُصد عبد الله بن طاهر، فأنفذ إليه أبو دلف أطباق ورد وكتب:
تبسَّم الوردُ في وجهي فقلتُ لهُ ... ماذا فقال أبو العبَّاس مُفْتَصَدُ
فقلتُ للوردِ قمْ فانهضْ إلى ملكٍ ... عليهِ مثلُك في أيَّامهِ بُرَدُ
وعلى هذا كتب الحسن بن وهب في يوم مطر وأجاد:
هَطَلتنا السماءُ هطْلاً دِراكاً ... جاوز المِرزَمان فيهِ السِّماكا
قلتُ للبرق إذ تألَّقَ فيهِ ... يا زِنادَ السماء من أوْراكا
أحبيبٌ نأيْتَه فبَكاكا ... أمْ هو العارضُ الذي اسْتَبْكاكا
أمْ تشبَّهتَ بالأميرِ أبي العبَّا ... سِ في جُودهِ فلستَ هُناكا
علي بن الجهم:
لم يضحكِ الوردُ إلاَّ حينَ أعجبَهُ ... حسنُ الرياش وصوتُ الطَّائر الغرِدِ
بدا فأبدتْ له الدُّنيا محاسِنها ... وراحتِ الرَّاحُ في أثوابها الجدُدِ
وبالدَتْه يدُ المشتاق تسندُهُ ... إلى الترائبِ والأحشاء والكبِدِ
بين النديميْنِ والخلَّين مضجعُهُ ... وسيرُهُ من يد موصولةٍ بيدِ
ابن أبي البغل:
تمتَّعْ بذا الوردِ القليلِ بقاؤهُ ... فإنَّكَ لم يَفْجأْكَ إلاَّ فناؤه
وودِّعهُ بالتَّقبيلِ والشّمِّ والبُكا ... وداعَ حبيب بعد حَوْل لِقاؤه
حبيبٌ إذا ما زارنا قلَّ لبثُهُ ... وإنْ هو عنَّا غابَ طالَ جفاؤه
إسحاق الموصلي:
زائرٌ يُهدي إلينا ... نفسَهُ في كلِّ عامِ
حسنُ الوجه ذكيُّ النَّش ... رِ حامٍ للمُدامِ
فإذا جاءَ أدرنا الرَّا ... حَ جاماً بعد جامِ
وإذا ولَّى أشرنا ... بتحيَّات السَّلامِ
ابن المعتز:
أهلاً بزائر عامٍ مرَّةً أبداً ... لو كانَ من بَشَرٍ قد كانَ عطَّارا

كأنَّما صَبَغتهُ وجْنتنا خجلٍ ... قد حلَّ عقدَ سراويلٍ وأزرارا
فلو رآهُ حبيسٌ فوقَ صومعةٍ ... لقالَ في مثل هذا أدخلُ النَّارا
الناشئ:
قُضُب الزَّبرجد قد حملنَ شقائقاً ... أثمارُهنَّ قُراضةُ العِقبانِ
وكأنَّ قطرَ الطلِّ في أهدابهِ ... كحلٌ مَرَته فواترُ الأجفانِ
آخر:
الوردُ أحسنُ منظراً ... تتمتَّعُ الألحاظُ منهُ
فإذا تولَّى حينُه ... وردُ الخدود ينوبُ عنهُ

الباب الثامن عشر
الأُقحوان
أبو عبادة:
ومن لؤلؤٍ في الأُقحوانِ مُنظّم ... على نكَتٍ مُصفرةٍ كالفرائدِ
يذكِّرنا ريَّا الأحبَّةِ كلّما ... تنفَّس في جنحٍ من اللَّيلِ باردِ
آخر:
كلّ يوم بأُقحوانٍ جديدٍ ... تضحكُ الأرضُ من بكاء السَّماءِ
وسطَها جُمَّةٌ من الشَّذْر حُفَّت ... بثُغور من فضَّةٍ بيضاءِ
طلّها القطرُ فهي تنضاعُ نشْراً ... عنبريّاً تُثيرهُ في الفضاءِ
الناجم:
وشذورٍ من خالصِ التبرِ ضُمَّتْ ... ضمَّةً حولها ثغورُ الأقاحي
يتضاحكْنَ عن مُؤشر دُرٍّ ... عبقاتٍ معنبراتِ الرِّياحِ
طالعاتٍ فويقَ ساقٍ دقيقٍ ... مُتثَنٍّ من سُكرهِ وهو صاحِ
الواسطي في
الأقحوان
والورد:
أرى أُقحواناتٍ يُطفنَ بناصعٍ ... من الوردِ مخضرِّ العيون نَضيدِ
تُميِّلُها ريحُ الصَّبا فكأنَّها ... ثغورٌ وهَتْ شوقاً للثْمِ خدودِ
الباب التاسع عشر
النَّرجس
ابن المعتز:
وعُجنا إلى الروض الذي طلَّهُ النَّدى ... وللصبح في ثوبِ الظَّلامِ حريقُ
كأنَّ عيونَ النَّرجس الغضِّ بينه ... مداهِنُ دُرٍّ حَشوهُنَّ عقيقُ
إذا بلَّهنَّ القطرُ خلتَ دموعَها ... بكاءَ جفون كحلُهُنَّ خلوقُ
ابن الرومي، في تفضيله على الورد:
للنَّرجسِ الفضلُ المبينُ لأنَّهُ ... زهرٌ ونَوْرٌ وهو نبتٌ واحدُ
هذي النجومُ هي التي ربَّتْهما ... بِحيا السَّحابِ كما يُربِّي الوالدُ
تَحكي مصابيحَ السَّماءِ وتارةً ... تحكي مصابيحَ الوجوهِ تُراصدُ
فانظرْ إلى الولَديْن من أوفاهما ... شبهاً بوالدهِ فذاكَ الماجدُ
أينَ الخدودُ من العيونِ نَفاسةً ... ورئاسةً لولا القياسُ الفاسدُ
وقال أبو محمد المهلبي يوماً لندمائه: هاتوا أحسن ما رويتم في النَّرجس. فأنشد بعضهم قول المعذَّل:
أما ترى الشَّمسَ قد لانتْ عريكَتُها ... وقد تورَّقتِ الأشجارُ والقُضُبُ
والنَّرجسُ الغضُّ لا حانتْ مقاطعهُ ... كأنَّهنَّ عيون ما لها هُدُبُ
فإنَّها فضةٌ تعلو زُمرُّدةً ... خضراءَ يضحكُ منها ناظرٌ ذهبُ
وأنشد الثاني قول ابن الرومي:
يا نرجسَ الدُّنيا أقمْ أبداً ... لتوفّر الأفراحِ والنخَبِ
درَّ الجفونِ إذا مَثَلت لنا ... ذهبَ العيونِ زبرجدَ القُضُبِ
وأنشد الثالث قول البسَّامي:
تَرنو بأحداقِها إليكَ كما ... تَرنو إذا خافتِ اليعافيرُ
مثلَ اليواقيت قدْ نُظِمنَ على ... زبرجدَ بينهنَّ كافورُ
وأنشد الرابع قول الناشئ:
أخصُّ الصّفات التي ... تناوَلَها عن كثَبْ
عيونٌ بلا أوجه ... لها حدَقٌ من ذهبْ
وأنشد الخامس قول ابن أبي البغل:
كأنَّما نرجسُهُ الغضُّ النَّدي
سُموطُ درٍّ في عُقود عَسجدِ
قد رُكِّبتْ في قُضُب الزَّبرجدِ
وأنشد هو:
كأنَّما النَّرجسُ في روضهِ ... إذا ثنتْهُ الرِّيحُ من قُربِ
أقداحُ ياقوتٍ تُعاطيكَها ... أناملٌ من لؤلؤٍ رطْبِ
واختاره على الجميع.
عبد الله بن طاهر:
ثلاثُ عيون من النَّرجسِ ... على قائمٍ أخضرٍ أملسِ
كياقوتةٍ بين درٍّ علا ... زبرجدةً مُنية الأنفسِ
يذكِّرني ريحُهنَّ الحبي ... بَ فيُنغصُني لذَّةَ المجلسِ
وأحسنُ ما في الوجوهِ العيو ... نُ وأشبهُ شيءٍ من النَّرجسِ
الصنوبري، وأحسن في تشبيهه:
يا مُهديَ النَّرجس أهديتَهُ ... ذا مُقلٍ ما أخطأتْ مُقلتي
أهديتَهُ أشبه شيءٍ بها ... في شدَّةِ الحيرةِ والصفرةِ

وقد ملُح السروي في تشبيهه لمَّا ذمَّه:
انظرْ إلى نرجس تبدَّتْ ... صُبحاً لعينيكَ منه طاقَهْ
واذكرْ أسامي مُشبِّهيهِ ... بالعينِ في دفترِ الحماقَهْ
وأيُّ حسنٍ يُرى لطرفٍ ... من يَرَقانٍ يحلّ ماقَهْ
كرايةٍ رُكِّبتْ عليها ... صفرةُ بيضٍ على رُقاقهْ
ابن المعتز:
عيونٌ إذا عاَنْتَها فكأنَّما ... مدامعُها من فوق أجفانها درُّ
محاجِرُها بيضٌ وأحداقُها صفرُ ... وأجسامُها خضرٌ وأنفاسُها عطرُ
إسحاق بن محارب:
تأمَّلْ من خِلال الشكِّ وانظرْ ... إلى آثارِ ما صنعَ المليكُ
جفونٌ من لُجين ناضراتٌ ... كأنَّ حِداقَها ذهبٌ سبيكُ
على قُضُب الزَّبرجد مُخبراتٌ ... بأنَّ اللهَ ليسَ لهُ شريكُ
العلوي:
ونرجسٍ ذي نظرٍ ما غضَّهْ
حثَّ على اللَّهو الفتى وحضَّهْ
فتَّ الرَّبيعُ مسكَهُ ورضَّهْ
زبرجدٌ وذهبٌ وفضَّهْ
من زهرةٍ بالطلِّ ريَّا غضَّهْ
مخضرَّةٍ مصفرَّةٍ مبيضَّهْ
كأعينٍ دموعُها مُرفَضَّهْ
ليستْ تُرى من حولنا مُنفَضَّهْ
مثلُ نجومٍ لا تُرى مُنقضَّهْ
وعُذرةُ اللَّهو بها مُفتضَّهْ
وقول الشاعر في ذكر النَّرجس سقط:
كأنَّ وَهْيَ الدَّمعِ من محجرها ... درٌّ على وردٍ وَهى من نَرجس
وكذلك قول التنوخي:
أما ترى الرَّوضَ قدْ لاقاكَ مبتسماً ... ومدَّ نحو النَّدامى للسَّلام يَدا
فأخضرٌ ناضرٌ في أبيضٍ يَقَقٍ ... وأصفرٌ فاقعٌ في أحمرٍ نُضِدا
مثلُ الرَّقيبِ بدا للعاشقين ضُحًى ... فاحمرَّ ذا خجلاً واصفرَّ ذا كَمَدا
وقول الآخر أقرب:
فأسبلتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسَقَتْ ... ورداً وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَدِ

الباب العشرون
الياسمين والخُرَّم
واللَّيْمو واللُّفَّاح وورق العصفُر والباقليّ والنَّبقِ
أنشد في الياسمين:
رقَّةُ الياسمين والبهجةُ النَّض ... رَةُ والمنظرُ الرقيقُ الأنيقُ
كسوةٌ من عوارضٍ عبقاتٍ ... أُنفاتٍ بها النَّعيمُ شريقُ
ابن الرومي في الخُرَّم:
وخُرَّمٍ في صبغةِ الطيالسهْ ... تحكي الطواويسَ غدتْ مُطاوسهْ
كأنَّما تلكَ الفروعُ المائسهْ ... تغمسُها في اللازوردِ غامسهْ
آخر في اللَّيْمو:
حبَّذا اللَّيمونُ حسناً ... وذكاءً ونضارَهْ
رامَ أنْ يُشبههُ النَّا ... رنجُ حسناً واسْتِدارهْ
لونُه والعَرفُ والشَّكْ ... لُ فمنهُ مُستعارَهْ
ابن الرومي، في اللُّفَّاح:
وما أمسَ لا أنسَ لُفَّاحةً ... حبوتُ بها مُستكيناً حزينا
حكَتْ طيبَ نشرِكِ بين المِلا ... حِ وصُفرة وجهيَ في العاشقينا
العلوي في ورق العصفر:
ريحانةٌ في اصفرارِ مُهديها ... شبَّهتُها بعدَ فِكرتي فيها
أحبَّةً لم تُصخْ لعاذلها ... تسدُّ آذانها بأيديها
الصنوبري في الباقليّ:
فُصوصُ زمرُّدٍ في غُلفِ دُرٍّ ... بأقماع حكتْ تقليمَ ظُفرِ
وقد خاطَ الرَّبيعُ لها ثياباً ... بديع اللَّون من خُضر وصُفرِ
آخر:
ونباتُ باقِلاّءَ يُشبه وردُهُ ... بُلقَ الحمام مُقيمةً أذنابَها
كشاجم، واستوفى في وصفه:
وباقِلاءٍ حَسنِ المُجرَّدِ
مسكِ الثرى شهدِ الجنى غضٍّ نَدي
كالعقدِ إلاَّ أنَّه لم يُعقدِ
أوْ الفصوصِ في أكفِّ الخُرَّدِ
أو كبناتِ اللؤلؤِ المنضَّدِ
في طيِّ أصدافٍ من الزبرجدِ
مفروشةٍ بالكُرسفِ المُزبَّدِ
حبَّاتُ درٍّ قُمِّعتْ بإثمِدِ
الباب الحادي والعشرون
الشَّاهِسْفَرَم والنَّمَّام
أنشد:
لم يكنِ النَّمَّامُ نمَّاما ... بل كانَ للأسرارِ كتَّاما
لكنَّه نمَّ على نشرِهِ ... فأوسعَ الأنفَ تَشْماما
آخر:
شمَّ أنفي وحنَّ قلبي غَراما ... نشرَ نمَّامه الطريِّ الجنيِّ
نُزهةُ العين خُضرةً وتراه ... نُزَهَ الأنفِ بالمِشَمِّ الذَّكيِّ
في الشَّاهِسْفَرَم:
وخُوطٍ من الرَّيحان أخضرَ ناعمٍ ... لهُ ورقاتٌ فوقَ ساقٍ له لَدْنِ

له نفحاتٌ يملأُ الأنفَ نشرُها ... مضمَّخةٌ بالمسكِ من صيِّب المُزنِ
وفيه:
ضَمرتُ كالضَّيْمُرانِ ... من حُبِّ حور حسانِ
يذكِّرني نشرُهُ ... طيبَ نسيمِ الجِنانِ

الباب الثاني والعشرون
الخِيِريّ
ابن الرومي:
خِيريُّ وردٍ أتاكَ في طَبقهْ ... قدْ ملأ الخافِقين من عَبقهْ
قدْ خلعَ العاشقون ما صنعَ اله ... جْرُ بألوانهم على وَرَقهْ
ابن المعتز:
من خيَّرَ الخِيريَّ بالوردِ ... فهو من القومِ على بُعدِ
في آخرِ المجلس هذا يُرى ... وذا على العينينِ والخدِّ
الباب الثالث والعشرون
السُّوسَن
الأُخيطل الأهوازي:
سَقياً لأرض إذا ما نِمتُ أرَّقني ... بعدَ الهدوءِ بها قرعُ النَّواقيسِ
كأنَّ سوسَنَها في كلِّ شارقةٍ ... على الميادينِ أذنابُ الطَّواويسِ
وله فيه:
وكأنَّ سوسَنَها سبائكُ فضَّةٍ ... غضّ النبات فأزرقٌ أوْ أقمرُ
حُملتْ سَقيطُ الطلِّ في ورقاتهِ ... فكأنَّهُ متبسِّمٌ مستعبِرُ
الصنوبري:
حلبتُ درَّ السُّرور في حلبِ ... مِن رياض تدعو إلى الطَّربِ
كأنَّما السّوسنُ الأنيقُ بها ... أسنَّةٌ والشَّقيقُ كالعذبِ
ابن المعتز:
والسّوسنُ الآزاذُ منشورُ الحللْ ... كقطنٍ قد مسَّهُ بعضُ البللْ
الباب الرابع والعشرون
النَّارَنْج
أنشد:
سَقياً لأيَّامنا ونحنُ على ... رؤوسنا نعقدُ الأكاليلا
في جنَّة ذُلِّلت لقاطفها ... قطوفُها الدانياتُ تذليلا
كأن نارنجها يلوحُ على ... أغصانها حاملاً ومحمولا
سلاسلٌ من زبرجد حملت ... من ذهبٍ أحمرٍ قناديلا
أنشد:
وأشجارِ نارنجٍ كأن ثِمارها ... حقاقُ عقيق قد مُلئن من الدُرِّ
تُطالعنا بين الغصون كأنها ... خدودُ غوانٍ في ملاحفها الخضرِ
أتت كلَّ مشتاق بريَّا حبيبه ... فهاجت له الأشواقَ من حيثُ لا يدري
ابن لنكك:
وأغصانٍ مُفوَّفةٍ حِسانٍ ... ومنها ما يُرى كالصَوْلجانِ
كأن بها ثُديّاً ناهداتٍ ... غلائلُها صُبغن بزعفرانِ
آخر:
وحسنِ نارَنْجةٍ قد شفَّ منظرها ... كأنها سَفنٌ قد مسَّها الذهبُ
آخر:
وذكيَّةٍ في صُفرة الدينارِ ... مجدولةِ الحافاتِ والأقطارِ
يُغني عن المصباح ضوءُ شُعاعها ... فكأنما هي كُبّةٌ من نارِ
آخر:
كأنما
النارنج
ُ لما بدتْ ... أغصانه في الورق الخُضرِ
زمردٌ أبدى لنا أنجماً ... معجونةَ من خالصِ التبرِ
إذا تحيينا بها خِلتنا ... نستنشقُ المسكَ من النَّشرِ
آخر:
ونارنجٍ رأيتُ على غُصون ... كرمَّان النُهود على القدودِ
له من أحمر الياقوتِ لونٌ ... وإما شئتَ من ذهب الصعيدِ
آخر:
حدائقُ أشجارٍ كإقبال دولةٍ ... عليكَ أو البُشرى أتتْ بفقيدِ
أنارت بنارَنجٍ لِريَّاه في الحشا ... مواقعُ وصلٍ من فؤادِ عميدِ
إذا ما حنى أغصانه فكأنها ... صوالجةُ الأصداغ فوقَ خدودِ
آخر:
رياضٌ من النارَنْج كالأمن والمُنى ... جُمعن ومثلُ النوم بعد التسهُّدِ
يُجلّي العشا عن ناظريْ كلِّ ناظرٍ ... ويجلو الصَّدى عن قلب ذي اللوعة الصَّدي
فمن أخضرٍ غضِّ النبات كأنه ... مشاربُ مينا أوْ حقافُ زُمرُّدِ
ومن أحمرٍ كالأُرجوان إذا بدا ... أو الراح صرفاً أو كخدٍّ مورَّدِ
ومن أصفرٍ كالصبِّ يبدو كأنه ... كُراتٌ أُديرتْ من خلاصة عسجدِ
إذا لاحَ في أشجاره فكأنه ... شموسُ عقيقٍ في قبابِ زبرجدِ
الباب الخامس والعشرون
الأُتْرُجِّ
ابن دريد:
جسمُ لُجينٍ قميصه ذهبٌ ... زُرَّ على لُعبةٍ من الطيبِ
فيه لمن شمَّه وأبصرهُ ... لونُ محبٍّ وريحُ محبوبِ
السروي:
مُتهدِّلاتٌ في الرياض كأنها ... فوقَ الغصون نواهدُ الأبكارِ
وإذا الصَّبا وردتْ بِنشر نسيمها ... وردتْ بمسكةِ جونةِ العطَّارِ
المفجع:
تخالُ بها في اخضرار الغُصو ... نِ نواهدَ بين مُلاء القصبْ

لها ورق كَرِقاق الفرن ... د فوقَ غصونٍ دقاقِ القُضُبْ

الباب السادس والعشرون
الآذَرْيون
ابن رشيد:
أحسنْ ب
الآذريون
ِ من رَيْحانةٍ ... على الرياحين جميعاً زاهيهْ
أزرارُ ديباجٍ إذا الليلُ دجى ... وهنَّ في الصبحِ عيون ساميهْ
كأنها مداهنٌ من ذهب ... مُشرّقاتٌ وسطهن غاليهْ
آخر:
تحملُ آذريونَةً ... مكانَ سيف المُجتلي
كأنَّما سوادُها ... في وسط وردٍ شكلِ
خالٌ على وجنتهِ ... حُفَّ بورد الخجلِ
آخر:
وحُمِّلَ آذَرْيونةً فوقَ أُذنه ... ككأس عقيقٍ في قرارتها مسلُ
العلوي:
وأشرقَ آذَرْيونُها فكأنها ... صِماماتُ وشي هُيِّئت للمخازنِ
ابن المعتز:
سَقْياً لروضاتٍ لنا ... بكل نَورٍ حاليهْ
عيونُ آذريونها ... والشَّمسُ فيها كاليهْ
مداهنٌ من ذهب ... فيها بقايا غاليهْ
وفي الباب ضروب تستقبل الشَّمس وتدور معها حيث دارت. ومعرفة العرب بذلك معرفة عيان ومشاهدة.
قال الحطيئة في القصيدة التي أولها:
عفَا مُسحلان من سُليمى فحامرُهْ
ولم يأتِ مفعلان في شيء من العربية إلاَّ هذا، وحرف آخر وليس لهما ثالث.
بمُسْتأسدِ القُريانِ حُوٍّ تلاعهُ ... فنوَّارهُ نيلٌ إلى الشَّمسِ زاهرهْ
وقال الأعشى:
ما روضةٌ منْ رياضِ الحزنِ معشبةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلُ
يُضاحكُ الشَّمسَ منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزَّرٌ بعميمِ النَّبتِ مكتهلُ
يوماً بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذ دنَا الأُصلُ
وقال ذو الرمة:
حوَّاءُ قرحاءُ أشراطيَّةٌ دَكَفت ... فيها الذهابُ وحفَّتها البراعيمُ
قالوا في تفسير قرحاء: في وسطها نوَّارة بيضاء تضاحك الشَّمس. وذكر ذلك المحدثون، منهم الصنوبري. وحسبك به وصافاً للأنوار والأزهار والأعشاب، وأيام الدجن والسحاب والشَّمس والجداول؛ وذاكراً من أحوالها، ومثيراً من سرائرها ودقائق محاسنها بأحسن ديباجة، وأرق كسوة، وأغض لفظ، ما لم يذكره أبو نواس في الخمر والطرد، وابن حازم في القناعة، وأبو عبادة في الخيال، والعلوي في السماء والنجوم، بل امرؤ القيس في صفة الخيل والنابغة في الاعتذار، والأعشى في الخمر، وزهير في المدح، والشماخ في وصف الحمر والأعيار وابن مقبل في وصف القداح، وذو الرمة في وصف الفلوات والمناهل والحرات والهواجر والحرابيّ، وعوران قيس في خصائصهم التي بها يكلفون، وفي أساليبهم التي بسلوكها يلهجون.
وقال الصنوبري:
وتدورُ مائلة تجاهَ الشَّمسِ ما ... دارتْ فتحسبُها تدورُ بكوكبِ
قال ابن الرومي:
وضحكتُها كالوردِ جاءتهُ ديمةٌ ... بكتْ فوقهُ حتَّى تضاحكَ عابسُهْ
تصلِّي لقرنِ الشَّمسِ ميلاً رؤوسُها ... إليهِ إذا يتبعِ الريحَ مائسُهْ
التنوخي:
قدْ لاحَ في الروضِ آذريونُ مبتسماً ... كالتّبرِ شيبَ بمسك فيهِ مذرورِ
كأنَّه وشعاع الشَّمسِ يضحكُهُ ... خيلانُ خدّ معنَّى القلبِ مهجورِ
آخر:
شموسٌ لها في حينِ مَطلعِ شمسها ... طلوعٌ وفي حينِ الغُروبِ غُروبُ
تَفتَّحَ إنْ لاحتْ سروراً بضوئها ... كما سُرَّ بالرَّأي المُصيبِ مُصيبُ
وتنضمُّ إنْ جاءَ الظَّلامُ كأنَّه ... رقيبٌ عليها والضياءُ حبيبُ
التنوخي:
آذريونٌ لاحَ في الحدائقِ
مُلتهباً مثلَ التهابِ البارقِ
كأنَّه عند ذُرورِ الشَّارقِ
نُقطةُ مسكٍ فوقَ خدِّ العاشقِ
أو جزعةٌ في ذهبِ المخانقِ
أوْ مُزنةٌ سوداءُ في بوارقِ
تبسمُ الشَّمس ابتسامَ الوامقِ
سرورَ مُشتاقٍ بقُربِ شائقِ
ووجه مهجورٍ بطيفِ طارقِ
ثمَّ سرَى عند الظَّلامِ الغاسقِ
مُنقبضاً كمثل طرفٍ خافقِ
أو كحبيبٍ من رقيبٍ رامقِ
الباب السابع والعشرون
البهار
الفضل بن إسماعيل:
كلُّ الرَّبيعِ مواخيرٌ ومنتزهٌ ... فالنَّورُ مُختلف والرَّوضُ مُشتبهُ
ترى البهارَ صفوفاً في جوانبهِ ... كأنَّه أعينٌ تُغفي وتنتبهُ
آخر:

ما ترى صبغَة البهار أُعيرتْ ... صفرةَ المُستهامِ ريعَ بهجرِ
ورقاتٌ مشرَّقاتٌ تجلَّتْ ... حشوُ نُوارِها وذائلُ تبرِ
ابن المعتز:
وحلَّقَ البهارُ فوقَ الآسِ ... جُمجمةً كهامةِ الشَّماسِ

الباب الثامن والعشرون
الجُلَّنار
أبو فراس، وأجاد في وصفه:
جُلَّنارٌ مشرقٌ ... على أعالي شَجَرهْ
كأنَّ في رؤوسهِ ... أحمرهُ وأصفرهْ
قُراضةً من ذهب ... في خرَقٍ مُعصفرهْ
آخر:
طلعَ الجُلَّنار في وجنة المع ... شوق يحمرُّ خجلةً وحياءَ
كزجاجٍ مُلئنَ من حُمرة الخمْ ... رة صِرفاً إلى السُّقاة مِلاءَ
ابن المعتز:
وجُلَّنارٍ كاحمرار الورد ... و مثلِ أعرافِ ديوكِ الهندِ
وفي وصف الرمان هذا عجيب:
ولاحَ رُمَّانُنا فزيَّننا ... بينَ صَحيح وبينَ مفتونِ
كأنَّه حُقَّةٌ وإن فُتحت ... فصرَّةٌ من فُصوص ياقوتِ
وكلُّ مصفرَّةٍ معصفرةٍ ... تفوقُ في الحسنِ كلّ منعوتِ
الباب التاسع والعشرون
التفَّاح
الرَّقي:
وتفَّاحةٍ غضَّةٍ ... عقيقيَّةِ الجوهرِ
تندَّت بماءِ الرَّبيعِ ... في روضِها الأخضرِ
فجاءتْ كمثل العروسِ ... في لاذِها الأحمرِ
ذكرتُ بها الجُلَّنارَ ... في خدِّكَ الأزهرِ
فملتُ سروراً بها ... إلى القدحِ الأكبرِ
وأنتَ لها حاضرٌ ... وإنْ كنتَ لمْ تحضرِ
آخر:
تفَّاحةٌ تُذكر صَفو الودِّ ... وتبعث النَّفسَ لحفظ العهدِ
كأنَّها مقطوفةٌ من خدّ ... نسيمُها يحكي نسيمَ الوردِ
ابن المعتز:
تفَّاحةٌ معضوضةٌ ... كانتْ رسولَ القُبَلِ
كأنَّ فيها وجنةً ... تنقَّبتْ بالخَجَلِ
تناولتْ كفِّي بها ... ناحيةً من أملي
لستُ أُرجِّي غيرَ ذا ... يا ليت هذا دامَ لي
ابن المعذَّل:
تفَّاحةٌ من عند تفَّاحه ... بالمِسك والعنبر نفَّاحهْ
ما مسَّها طيبٌ ولكنَّها ... باشرَها بالكفِّ والرَّاحهْ
آخر:
فديتُ من حيَّا بتفاحةٍ ... من خِلَعِ التوْريدِ من وَجنتهِ
نسيمُها يُخبرُني أنَّها ... تسترقُ الأنفاسَ من نَكهتهِ
لمَّا حكتْ لونينِ من حُسنهِ ... قبَّلتُها شوقاً إلى وجنتهِ
الصنوبري:
فتناولتُ منه صادقةَ الري ... ح تُسمَّى صديقةَ الأرواحِ
وشَّحتْها يداهُ من خالصِ التب ... ر بسطر يجولُ جَوْلَ الوشاحِ
كُسِيتْ صبغةَ الملاحة لمَّا ... صُبغتْ صبغةَ الخدودِ الملاحِ
آخر:
تخالُ تفَّاحتها ... في لونِها وقدِّها
تناولَتْها كفُّها ... من صدرِها وخدِّها
الباب الثلاثون
السَّفرجل
أنشد:
لكَ في السَّفرجلِ منظرٌ تَحظى بهِ ... وتفوزُ منه بشمِّه ومَذاقهِ
هو كالحبيبِ سَعِرتَ منهُ بحُسنه ... متأمِّلاً وبلثمه وعِناقهِ
يَحكي لك الذهبَ المُصفَّى لونُه ... وتزيدُ بهجتُه على إشراقهِ
فالشّطرُ في أعلاه يحكي شكلُه ... ثديَ الكعابِ إلى مدارِ نِطاقهِ
آخر:
سَفَرجلاتٌ خرطُها ... مثلُ الثديِّ النهَّدِ
زُهرٌ حكتْ بلونِها ... صبغةَ ماء العسجدِ
آخر:
إنَّما هيَّجَ البَلا ... حين عضَّ السَّفرجلا
ولقدْ قامَ لحظُهُ ... لي على القلبِ بالْغَلا
كشاجم:
ململماتٌ ككُراتِ التِّبرِ
مُعتنقاتٌ لدقيقِ الخصرِ
مُشتملاتٌ بثيابٍ صفرِ
بنكهةِ العطرِ وفوقَ العطرِ
يزُرْننا في العصرِ بعدَ العصرِ
آخر:
إنَّ السَّفرجلَ ريحانٌ وفاكهةٌ ... يَحظى المشمُّ به والذوقُ والنظرُ
يحكي وذيلة تبر أوْ لهيبَ لظًى ... شبَّتْ ضُحًى وشعاعُ الشَّمسِ مُنتشرُ
الباب الحادي والثلاثون
الآس
الأُخيطل الأهوازي:
للآسِ فضلُ بقائهِ ووفائهِ ... ودوامُ نضْرتهِ على الأوقاتِ
الجوُّ أغبرُ وهو أخضرُ والثَّرى ... يبسٌ ويبدو ناضرَ الورقاتِ
قامتْ على قُضبانهِ ورقاتُهُ ... كنِصال نبلٍ جدَّ مؤتَلِقاتِ
الناجم:

قُضبانُ آسٍ لُويتْ ... بخُضرةٍ أعطافُها
تبزل عن ديباجة ... مونَقَةٍ أفوافُها
منصوبةٌ أوراقُها ... مُرهفةٌ أطرافُها
كأصبعٍ داعيةٍ ... من شدَّةٍ تخافُها
وكتب الخبزأرزي إلى صديق أهدى إليه آساً وورداً:
أبدعتَ في كلِّ المكارمِ سابقاً ... حتَّى لقد أبدعتَ في إهدائكا
أتحفْتني بالوردِ قبلَ أوانهِ ... في قضبِ آس غضَّةٍ كإخائكا
فالوردُ عن نَفَحات ودِّكَ مخبرٌ ... والآسُ يخبرُ عن دوامِ وفائكا
فاسلمْ ونشرُ الرَّوضِ حسنُ ثنائكا ... واعمرْ وعمرُ الآسِ طولُ بقائكا

الباب الثاني والثلاثون
اللَّيْنَوْفَر
أنشد:
وبركةٍ حُفَّتْ بلَيْنَوْفَرٍ ... ألوانهُ بالحسنِ مَنعوتهْ
نهارُه ينظرُ من مقلةٍ ... ساجيةِ الألحاظِ مَبهوتهْ
وإنْ بدا اللَّيلُ فأجفانهُ ... في لُجَّة البركةِ مسبوتَهْ
كأنَّما كلُّ قضيبٍ لهُ ... يحملُ في أعلاهُ ياقوتهْ
التنوخي:
خُذها إليكَ من الغزال الأحورِ ... يحكي تنسُّمُها نسيمَ العنبرِ
أهدى السُّرورَ غداةَ أهدى شادنٌ ... طرباً إليكَ تحيَّةَ اللَّيْنَوْفَرِ
متوسِّطاً في لونه مُتعصفِراً ... أحسنْ بمنظرهِ وطيبِ المخبرِ
أضحى يغارُ على مَلاحة حُسنه ... فيظلُّ يستُرُها وإنْ لمْ تُسترِ
ينضمُّ ضمَّ العاشقيْنِ تلاقياً ... من بعدِ طول تفرُّقٍ وتحسُّرِ
وإذا تفتَّحَ مُكرَهاً أبدى لنا ... لوناً يمثَّلُ في فُصوص الجوهرِ
وكأنَّما أوراقُه مَصقولةً ... شققُ الحرير التستَريِّ الأخضرِ
ونِحالُه الراؤونَ نجماً ساطعاً ... لبسَ الحدادَ على فراقِ المشتري
ألِفَ المياهَ تشاكُلاً بلقائهِ ... فمتى يُفارقْ شكلَه لم يُبصرِ
فيعومُ طوراً ثمَّ يرفعُ رأسَه ... بتَجَنُّبٍ وتأوُّدٍ وتكسُّرِ
الباب الثالث والثلاثون
الزَّعفران
أنشد:
ألقى القناعَ وماطَ النقبَ من ذهب ... مثلَ القبائل شتَّى قُمنَ في نسقِ
كأنَّه ألسنُ الحيَّات قد شُدِختْ ... رؤوسُها فاكتستْ من حُمرة العَلَقِ
من لابسٍ حُمرةً من وجهِ ذي خجلٍ ... ولابسٍ صفرةً من وجهِ ذي فَرَقِ
الباداني:
ووردُ الزَّعفران أرادَ يَحكي ... صَبايا قد بكرْن على احتشامِ
طوالعَ من خلالِ الأرض حُمّاً ... كما طلعَ النصالُ من السِّهامِ
حَبالى بالثَّلاث وهنَّ أيمٌ ... ولم تُنكحْ بحلٍّ أوْ حرامِ
كتخطيفِ المطرَّزِ في كمامٍ ... بلامٍ ثمَّ لامٍ ثمَّ لامِ
وقال غيره:
وكأنَّ وردَ الزَّعفران مَضاحِكٌ ... قد جمَّعتْ لَعَس المُقبَّلِ واللَّمى
أوْ أنصلٌ فوقَ التُّرابِ شريدةٌ ... قد فارقتْ بعد الرِّمايةِ أسهُما
آخر:
والزَّعفرانُ الغضُّ أبدى لنا ... إبريسماً طاقاتُهُ تُنشرُ
حُمراً وصُفراً في تراكيبها ... كأنَّها تَخجلُ أو تُذعرُ
الرقي:
بدا الزَّعفرانُ لدى روضةٍ ... فظلَّ النَّسيمُ بها ينسِمُ
فأوراقُهُ مُصمَتٌ أزرقٌ ... وطاقاتهُ فيه إبْريسِمُ
الباب الرابع والثلاثون
مشموم الطّيب
وما تستعمله العرب، وتنفرد به العجم؛ والكلام في مفرده ومركبّه، ومخلوقه ومصنوعه، وجامده وذائبه، ومتماسكه ومائعه، وما كانت صمغ شجر ينتفض، أوْ عرق عود ييبس، أوْ قذف حيوان يقلِس، أوْ طفاوة بحر تزفر، أوْ معروف المنبت أوْ مجهول المعدن؛ واشتقاق مشهوره، وإيراد ما صرَّفته الشعراء من معانيه وتشبيهاته. والله الميسِّر للمراد، وبه الحول والقوة.
المسك
فالمسك سمِّي مسكاً لأنه يمسكه الغزال في سرَّته. والميم والسين والكاف تضعها العرب على حبس الشيء وارتباطه والمنع من استرساله وتساقطه. والمساكة البخل وحبس المال. ورجل مسيك. والمَسك: الجلد لإمساكه ما فيه. والمأسوكة: التي أخطأت خافضتها فأصابت من مسكها غير موضع الخفض. والمَسَكة سوار من قرن أو عاج لتماسكه. قال أبو وجزة يصف الحمير في وردها الماء، وهو من نادر تشبيهات العرب:

حتَّى سلكنَ الشَّوى منهنَّ في مَسَكٍ ... من نَسْل جوَّابةِ الآفاقِ مِهْداجِ
أي إذا أدخلنَ قوائمهنَّ في الماء فصار لها بمنزلة المَسْك.

العنبر
العين والباء والراء تضعها العرب لجواز الشيء ومصبِّه وقلة تمكُّنه ولُبثه، وهو متصل ونونه زائدة، كأنه عبر البحر بنفسه. وهو يجيء طفاوة على الماء لا يدري أحد معدنه. وعبرت الرؤيا: أخرجتها من حال النوم إلى حال اليقظة، كعبور البحر من جانب إلى جانب. وناقة عُبْرُ أسفارٍ، أي يقطع بها الطريق ويُعبر.
والعنبر سمكة في البحر، والعنبر التُرس، والعنبر اسم قبيلة. والعنبرة شدَّة الشتاء. وسميت الشِّعرى العَبور لأنها عبرت المجرة، والاعتبار بالشيء إنَّما هو التمثل بين حاليه، والعِبرة على فِعلة نوع منه كالركبة والقعدة والعَبرة الدمعة لعبورها العين وخروجها من الجفن.
وعلى ذكر العنبر وخروجه وعبوره، فإن ثلاثة أشياء لا يعرف أحد معدنها. أحدها العنبر، وهو يجيء طفاوة على وجه الماء، والثاني المومياي بأرض فارس، ومعناه موم آي، أي شمع الماء. ولا يدري أحد من أين يجيء أوْ ينبع. وله بيت مقفل على بابه، وعليه حرس عدول يفتحونه كل سنة بأمر السلطان وحضور المشايخ. وفي مجرى الماء حوض نُصبت عليه مصفاة كالغربال يجري فيها الماء إلى خارج، فيبقى المومياي فيجمد ويؤخذ إلى الخزانة.
والكهربا نوع من الخرز الأصفر يطفو على بحر الغرب وبحر طبرستان، ولا يعرف معدنه والعنبر الأشهب ليس هو من قول الأعشى في شيء:
وبَنو المُنذرِ الأشاهبُ بالحي ... رةِ يمشونَ غُدوةً كالسّيوفِ
وإنّما الشهبة للونه.
الكافور
هو فاعول، من الكَفر وهو التغطية، كالنّاقور من النّقر، والقاموس من القَمس. تقول قَمَسته في الماء أي غططته. وهو ماء جوف شجر مكفور؛ فيفرِزونه بالحديد، فإذا خرج وانتفض إلى ظاهره، وضربه الهواء انعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار والنبات. والكافور الطَّلع. والكَفْر القرية، والكَفِرُ العظيم من الجبال. قال الشاعر:
تَطلَّعُ ريَّاهُ من الكَفِراتِ
والكافر البحر. والكافر الليل. والكافر الساتر نعمة الله تعالى عليه. والكافر الزَّارع لتوريته الحبَّ في الأرض. قال:
وكافرٍ ماتَ على كُفرهِ ... وإنَّما الجنَّةُ للكافرِ
والكفَّارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة، والنُّذور الكاذبة كالمغفرة من أخذها من الغفر فإنه ستر الذنب، ومن أخذها من قول العرب: اصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، أي أحمل له، فإنه حمل الذنب عن المُذنب، وترك مؤاخذته به. يقال: كفَّر الرجل يُكفِّر إذا وضع يده على صدره. قال جرير:
فإذا سمعتَ بحربِ قيسٍ بعدَها ... فَضَعوا السِّلاحَ وكفِّروا تكْفيرا
العود
اسمه اشتقاقه، كقول المُحدَث:
يا حسَناً اسمُهُ له صفةٌ ... فَمَن يُسمِّيه فهو واصِفُهْ
وهو شجر فيه عرق العود كالمَرخ في أصل الصنوبر، والعَفص في شجر البلّوط؛ وهما حرَّاق المِقدحة. فإذا حمله البحر وقد أدرك، وجرفه الماء، أخذوه ودفنوه، فبقي العود كالذهب الإبريز على النار، وتفتَّت ما سواه وبلي.
وعلى ذكر العود أنشد الباهلي في أبيات المعاني:
ولستُ بزُمَّيلَةٍ نأْنَأٍ ... جبانٍ إذا ركبَ العودُ عودا
ولكنَّني أجمعُ المؤنسا ... تِ إذا ما الرِّجالُ اسْتخفّوا الحديدا
إذا ركب القوس السهم. وقد ألغزه بعض العرب، أنشد الباهلي:
وميِّتةٍ بعثتْ ميِّتاً ... فولَّى حَثيثاً هو الجاهِدُ
طَليعةُ حيٍّ إلى حيَّةٍ ... يُرجّي النجاةَ بها الشاهِدُ
يريد القوس والسهم في النزع والإرسال. والحيُّ والحيَّة: القانص والوحشية. والمؤنسات في الحرب: السيف والرمح والجحفة، كالمحلاّت في السِّلم وهي: القِدر والفأس والدلو والزند والشَّفرة. قال المؤمّل المحاربيّ في ذكر العود يصف أخوين:
داودُ محمودٌ وأنتَ مُذمَّمٌ ... عجباً لذاكَ وأنتما من عودِ
ولربَّ عودٍ قد يُشقُّ لمسجدٍ ... نصفاً وسائرهُ لحُشِّ يَهودي
فالحشُّ أنتَ لهُ وذاكَ لمسجدٍ ... شتَّانَ موضعُ مَسلح وسُجودِ
ومنه أخذ أبو دلف العجلي قوله:
قد تخرجُ الدرَّتان من صدفهْ ... والدرُّ يختارُه الذي عرَفهْ

واحدةٌ لم يُحطْ بقيمتها ... وأختها دونَ قيمةِ الصدفهْ

الند
ُّ
الندُّ مصنوع كالزجاج غير مخلوق. وهو العود المُطرى بالمسك والعنبر والبان. وفيه وجهان: أحدهما أنه فعل ماض من ندد، مثل مرر فجعلوه اسماً كأنه ندَّ عن جملة الطيب. أي شذَّ وتفرَّق. وقالوا: طيرٌ يناديد وأناديد، أي متفرقة. والوجه الثاني مصدر بمعنى المفعول. وإن شئت جعلته فعَلاً متحركة العين: ندَداً بمعنى مندود به أي مُشهر مُسمع بصفته. يقال: ندَّدت الرجل، أي شهرت به، كالكرع وهو ماء السماء، بمعنى مكروع فيه، وكالجلد بمعنى المجلود، والنَّفض والقبض بمعنى المنفوض والمقبوض. وإن شئت جعلته فعْلاً بتسكين العين بمعنى المفعول؛ تقول: هذا درهم ضرب، أي مضروب، وهذا وزن سبعة، أي موزون سبعة.
الغالية
وهي مسك وعنبر يعجنان بالبان. وقيل: إن معاوية بن أبي سفيان شمَّها من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فوصفها له فقال: هذه غالية. ويقال إن مالك بن أسماء بن خارجة شم من أخته هند بنت أسماء بن خارجة رائحة غالية واستطابها، فقال: علِّميني كيف تعملين طيبك؟ فقالت: لا أفعل هذا. تريد أن تعمله جواريك. هو لك عندي متى ما أردته. ثمَّ قالت: ما تعلمته إلاَّ من شعرك حين وصفته فقلت:
أطيبُ الطيبِ طيبُ أُمِّ أبانٍ ... فأرُ مسكٍ بعنبر مسحوقُ
خلَطتهُ بعودها وببانٍ ... فهو أحوى على اليدينِ سريقُ
ويقال: تغللت بالغالية أي جعلتها في أصول الشَّعر من الغلل وهو الماء الجاري يتغلل في أصول الأشجار. وتغلَّيت طليت بها الجلد من الغَيل وهو الماء يجري على وجه الأرض. ويقال: تضمَّخت بالطيب وتنغَّمت به واغتسلتُ به: جعلته كالغسل. قال الفرزدق:
وإنِّي من قومٍ يكونُ غسولُهم ... قِرى فأرةِ الداريِّ يُضربُ بالغسلِ
قال أبو عبيدة: تلغَّمت المرأة بالطيب إذا جعلته على ملاغمها وهي ما حول الفم. قال الفرزدق:
سقتْها خروقٌ في الملاطمِ لم تكنْ ... عِلاطاً ولا مخبوطةً في الملاغمِ
قال الأصمعي: قالت العرب للمخبَّل: ما شِعرك إلاَّ علاط وخباط.
وقد ارتقنت ورقنت، وتردَّعت، واجتسدت. وتقول: تبخَّرت، واكتبيتُ وتعطَّرت ووجدتُ ريَّا الطيب، وحمَرته، وفوغته، وفغمته. وقد تضوَّع وسطع. وهو النَّشر والأرَج والعرف والبنَّة.
قال الراجز:
ترعى الخُزامى هَنَّةً وهَنَّةً ... في روضةٍ مُعشبةٍ مُغنَّهْ
فهيَ إذا راحتْ عَشِيَّهُنَّهْ ... شممتَ من أرواحهنَّ بَنَّهْ
وأنشد سلمة:
أتاني عنْ أبي أنسٍ وعيدٌ ... ومعصوبٌ به خبَّ الركابُ
وعيدٌ تخدجُ الآرامُ منهُ ... ويكرهُ بنَّةَ الغنمِ الذئابُ
وأنشد:
وإذا الدرُّزانَ حُسنَ وجوهٍ ... كانَ للدرِّ حسنُ وجهكِ زَيْنا
وتزيدينَ أطيبَ الطيبِ طيباً ... إنْ تَمَسّيه أين مثلُكِ أينا
وأخبرني أبو الفرج الأصبهاني بإسناده، وكان عنده راوية ديوان كثيّر أن كثيّراً خرج من عند عبد الملك بن مروان، وعليه مِطرف، فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست ناراً في رَوثةٍ، فتأفف كثيّر في وجهها، فقالت: من أنت؟ فقال: كثيّر عزة. فقالت: أنت القائل في عزّة:
فما روضةٌ زهراءُ طيبة الثَّرى ... يمجُّ النَّدى جثجاثها وعَرارها
بأطيبَ من أردانِ عزَّةَ موهناً ... وقدْ أُوقدتْ بالمندلِ الرطب نارُها
فقال كثيّر: نعم. فقالت: لو وُضع المجمر اللَّدن على هذه الرَّوثة لطيَّب رائحتها. هلاّ قلت كما قال امرؤ القيس:
ألمْ ترَياني كلَّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طيباً وإنْ لمْ تطيَّبِ
فناولها المطرف، وقال لها: استُري عني هذا.
آخر:
عجبتُ لمن يُطيِّبني بمسكٍ ... وبي يتطيَّبُ المسكُ الفَتيتُ
النامي:
وطيبٍ قد أخلَّ بكل طيبِ ... يُحيّينا برائحةِ الحبيبِ
يظَل الذَّيلُ يستُره ولكنْ ... تنمُّ عليه أزرارُ الجيوبِ
إذا ما شمَّ أنفٌ حنَّ قلبٌ ... كأنَّ الأنفَ جاسوسُ القلوبِ
آخر:
أجِلْ عيْنيك في عيني تراها ... مُشرَّبةً نَدى وردِ الخدودِ
ويقال: صاكَ به الطيبُ، وعبق به، وردع به، وعتك به.
قال:
فبتُّ فيهِ معانِقاً صنَماً ... يرشحُ مِسكاً وعنبراً وعبقا

لو شئتُ أنشأتُ من ذوائبهِ ... ليلاً ومن نُور وجهه فلَقا

باب
ما جاء في الأثر من استعمال الطيب
قال صلى الله عليه وسلّم: حُبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجُعلت قرَّة عيني في الصلاة.
وقال صلى الله عليه وسلّم: مثل الجليس الصالح كمثل المداريِّ إلاَّ يُحْذِكَ من عطره يعلقك من ريحه. ومثل الجليس السوء كمثل القين إلاَّ يحرقكَ بشرره يُؤذك بدخانه.
وقال صلى الله عليه وسلّم: خير طيب الرجال ما ظهر عرفه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه.
وقال صلى الله عليه وسلّم: جنِّبوا مساجدكم الصبيان والمجانين والشراء والبيع والأصوات، وجمِّروا لكل جمعة.
وقال صلى الله عليه وسلّم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وليخرجنَ إذا خرجنَ تفِلاتٍ.
وقال صلى الله عليه وسلّم في أهل الجنة: ومجامرهم الألُوَّة.
وقال صلى الله عليه وسلّم: لا يبولون ولا يتغوَّطون. إنّما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك.
باب
أسماء المسك
المسك، والأناب، والصِّوار القطعة منه، والفأرة والنافجة ما فيه، واللَّطيمة، والفِتاق، والشَّذو. ولون المسك يُسمى الدكنة، لأنه يضرب إلى الغُبرة، والأصهب لأنه يضرب إلى الحُمرة. قال الفرزدق:
كأنَّ تريكةً من ماءِ مُزنٍ ... بهِ أرْيُ الأَنابِ مع المُدامِ
وقال أبو الأخزر:
يعبقُ داريُّ الأَنابِ الأدكنِ ... منه بجلدٍ طيِّبٍ لم يدرَنِ
آخر:
فقالَ أَعطَّارٌ ثوى في رِحالنا ... وليس بمَوْماةٍ تباعُ اللَّطائمُ
وقال الأعشى:
إذا تقومُ يَضوعُ المسكُ أصورةً ... والعنبرُ الوردُ من أردانِها شمِلُ
بشَّار:
إذا نفخَ الصِّوارُ ذكرتُ سُعدى ... وأذكرُها إذا لاحَ الصِّوارُ
الأحوص:
كأنَّ فأرةَ مسكٍ في ذوائِبِها ... صهباءَ ذاكيةٌ من مسكِ دارينا
كثيّر عزَّة:
مسائحُ فَوْدَيْ رأسه مسبغلَّةٌ ... جرى مسكُ دارينَ الأحمُّ خلالَها
الراجز:
كأنَّ حشوَ القرطِ والدمالجِ ... نافجةٌ من أطيبِ النوافجِ
ابن الخطيم:
طرقتكَ بينَ مُسبحٍ ومُكبرٍ ... بحطيمِ مكَّةَ حيث سالَ الأبطحُ
فحسبتُ مكَّةَ والمشاعرَ كلّها ... ورحالَنا باتتْ بمسكٍ تنفحُ
آخر:
أجدَّ بعمرَة غُنيانُها ... فتهجرَ أمْ شانُنا شانُها
وعمرةُ من سرواتِ النِّسا ... ءِ تنفحُ بالمسكِ أردانُها
العرجيّ:
سقى ورعى اللهُ الأوانسَ كالدُّمى ... إذا رُحن جنحَ اللَّيل معتجراتِ
تضوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ أن مشتْ ... به زينبٌ في نسوَة عطراتِ
ابن أبي عُيينة:
بفرسٍ كأبكارِ الجواري وتربةٍ ... كأنَّ ثَراها ماءُ وردٍ على مسكِ
ومما صرَّفه الشعراء من معانيه:
جرى دمعي فباحَ عليه سرِّي ... كحاوي المسكِ دلَّ عليهِ نفحُ
أبو تمام:
باتتْ على التَّصريدِ إلاَّ نائلاً ... إلاَّ يكنْ ماءً قَراحاً يُمذقِ
نزراً كما استكرهتَ عائرَ نفحةٍ ... من فأرةِ المسكِ التي لم تُفتقِ
أبو عبادة:
ظعائنُ أظْعنَّ الكرى عن جفوننا ... وعوَّضْننا منها سُهاداً وأدمُعا
وحاولنَ كِتمانَ التَّرحُّل في الدُّجى ... فباحَ بهن المسكُ لمَّا تضوَّعا
كشاجم:
هي طيبٌ والطيبُ والحبُّ شيبٌ ... مسرعٌ للملوكِ والعشَّاقِ
المتنبي، في معناه وأبدع:
فإن نفُقِ الأنامَ وأنتَ منهمْ ... فإنَّ المسكَ بعضُ دمِ الغزال
وقد صرف هذا المعنى بين الورد والعنب، وأجاد فيه، قال:
فإنْ يكُ سيَّارُ بنُ مكرمٍ انْقضى ... فإنَّكَ ماءُ الوردِ إنْ ذهبَ الوردُ
وقال:
فإنْ تكنْ تغلبُ الغلباءُ عنصُرَها ... فإنَّ في الخمر معنًى ليس في العنبِ
ويقول العرب في الشيء المضنون به: كالمسك إن خبَّأته عبق، وإن عرضْته نفق.
جميل:
كأنَّ خزامى عالجٍ في ثيابِها ... بُعيدَ الكرى أوْ فأر مسك تُذبَّحُ
الراجز:
كأنَّ بين فكِّها والفكِّ ... فأرةَ مسكٍ ذُبحتْ في سكِّ

ذُبحت أي شُقَّت. ومنه اشتقاق الذَّبيح لأنه تذبح أوداجه أي تُشق وفيه وجهان آخران. أحدهما أن يكون من الذُّبحة، وهو وجع في الحلق. والثاني أنه من الذُّبح، وهو نور أحمر، لتضرُّج المذبوح بالدم. قال الراعي:
لها فأرةٌ ذفراءُ كلَّ عشيَّةٍ ... كما فتقَ الكافورَ بالمسكِ فاتقُهْ
آخر:
وكأنَّ الأَرْيَ المشورَ مع الخم ... ر بفيها يشوبُ ذاكَ فتاقُ
ابن قيس الرُّقيّات:
شبَّ بالأثْل من كثيرةَ نارُ ... شرَّفتنا وأينَ منها المزارُ
أوقدَتْها بالمسكِ والعنبر الرَّط ... بِ فتاةٌ يضيقُ عنها السِّوارُ
وكتب الصنوبري إلى بعض ممدوحيه يستهدي مسكاً:
اسلمْ أبا القاسمِ المقسومَ مذهبُهُ ... بينَ المهى والنُّهى أقسامَ ترتيبِ
يا بنَ المآثرِ يا تربَ البصائر يا ... بدرَ المنابرِ يا شمسَ المحاريبِ
الطيبُ يُهدى وتُستهدى طرائفُهُ ... وأشرفُ النَّاسِ يُهدي أشرفَ الطيبِ
والمسكُ أشبهُ شيءٍ بالشَّبابِ فهبْ ... بعضَ الشَّبابِ لبعض المعشر الشيبِ
ما زلتَ ذا أدبٍ في الجودِ مُنتسب ... أكرمْ بذي أدبٍ من غيرِ تأديبِ
وأنشد أبو علي دعبل في كتابه في الشِّعر:
لو كنتُ أحملُ خمراً حينَ زرتكمُ ... لم يُنكر الكلبُ صاحبُ الدَّارِ
لكنْ أتيتُ وريحُ المسك يَفعمُني ... وعنبرُ الهند مَشبوبٌ على النَّارِ
فأنكرَ الكلبُ ريحي حينَ أبصرَني ... وكانَ يعرفُ ريحَ الزفتِ والقارِ
وفي إنكار الكلب قال الآخر:
وإنِّي إذا ما الكلبُ أنكرَ أهلهُ ... مُفدًّى وحينَ الكلبُ جذلانُ نائمُ
وفي معناه قال طفيل:
أُناسٌ إذا ما أنكرَ الكلبُ أهلهُ ... حمَوْا جارَهم من كلِّ شنعاءَ مُظلعِ

باب
أسماء العود
العود والقُطْر والمندليّ والشَّذا والألُوَّة والألَنْوج واليلَنْجوج والكِباء والمِجمَر والبخور والغار والهضمة والوقص.
قال الأحوص:
صاحِ هلْ أبصرتَ بالخَبْ ... تينِ من أسماءَ نارا
موهناً شُبَّت لعينيْ ... كَ ولم توقدْ نَهارا
كتَلالي البارقِ اللَّم ... احِ في المُزنِ استطارا
شبَّها الموقدُ يُذْكي ... ها يَلَنْجوجاً وغارا
امرؤ القيس:
كأنَّ المُدامَ وصوب الغما ... مِ وريح الخُزامى ونشرَ القُطرْ
يُعلُّ به بردُ أنيابها ... إذا طرَّب الطائرُ المُستحرْ
كثيِّر:
ووضعنَ فوقَ مجامرٍ أدخلنَها ... تحتَ المجاسدِ والمطارفِ عودا
العجير:
إذا ما مشتْ نادى في ثيابِها ... ذكيُّ الشَّذا والمندليُّ المطيَّرُ
المطيّر مقلوب. أراد المطرَّى، فقدم الياء.
ومن أبيات الكتاب:
مروانُ مروانُ أخو اليومِ اليمي
أراد اليوم، فأخر الواو فقلبتها كسرة الميم ياء، كميعاد وميزان.
قال القطامي:
ما اعتادَ حبُّ سُليمى حينَ مُعتادِ ... ولا تقضَّى بَواقي دنها الطَّاري
وأخبرني أبو سعيد قال: أخبرني أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في كتاب الزَّاهر في بيت متقدم: أن نُؤاسيه أصله نؤاوسُه من الأوس وهو العطيَّة؛ فأخر الواو إلى موضع اللام، وكسر السين فقُلبت الواو ياء.
المندليُّ: منسوب إلى مندل: قرية من قرى الهند. وإن جعلته عربياً فهو من النَّدْل، وهو التناول. قال:
يمرُّونَ بالدَّهنا خِفافاً عيابُهمْ ... ويخرجنَ من دارينَ بُحرَ الحقائبِ
على حين ألهى النَّاس جُلُّ أمورِهم ... فندْلاً زُريقَ المال نَدْلَ الثعالبِ
أخذ معنى البيت الأول أبو العتاهية فقال في الرشيد:
إنَّ المطايا تشتكيكَ لأنَّها ... قطعتْ إليكَ سباسباً ورِمالا
فإذا وردنَ بنا وردنَ مُخفَّةٍ ... وإذا رجعنَ بنا رجعنَ ثِقالا
وألمَّ ابن الرومي فقال:
تُرحَّل آمالاً إلى بابِ قاسمٍ ... فيرجعنَ آمالاً عراضَ المباركِ
حسان بن ثابت:
هلاّ دفنتمْ رسول اللهِ في سفطٍ ... من الألُوَّةِ والكافورِ منضودِ
وأنشد ابن الأعرابي:
فجاءَتْ بكافورٍ وعودِ ألُوَّةٍ ... شآميَّةٍ تُذكى عليها المجامرُ
آخر:

وتُدني على المَتنين وحْفاً نباتهُ ... تعلِّلهُ باناً ذكياً ومِجمرا
الأعشى:
وإذا ما الدُّخانُ شُبِّه في الآ ... نفِ يوماً بشتوةٍ أهضاما
حميد بن ثور:
لا تصطَلي النَّارَ إلاَّ مِجمراً أرِجاً ... قد كسَّرتْ من يلنجوجٍ له وَقَصا

باب
ما صرَّفته الشعراء من معانيه
ولا ذنبَ للعودِ القَماريِّ أنَّه ... يُحرَّقُ إن دلَّتْ عليه روائحُهْ
أبو تمام:
وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ ... طُويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
لولا اشتعالُ النَّار فيما جاوزتْ ... ما كانَ يُعرف طيبُ عرفِ العودِ
محمد بن مسلمة:
فجلستُ في قصر كريمٍ زورُهُ ... للمندليِّ به عجاجٌ قسطلُ
فتَّقنَ كلَّ لطيمة هنديَّةٍ ... فنُحورهنَّ بها تعلُّ وتنهلُ
ابن المعتز وأبدع:
إذ جعلنا الوردَ الجنيَّ علينا ... مطراً والغمامَ مسكاً وندّا
ومنه أخذ المتنبي فقصَّر عنه:
قد صدقَ الوردُ في الذي زعما ... أنَّكَ صيَّرتَ نثرهُ دِيَما
ابن الرومي، في لفظه كَزازةٌ:
كأنَّها وعنانُ الندِّ يشملُها ... شمسٌ عليها ضباباتٌ وأدخانُ
باب
أسماء العنبر
العنبر والذكيّ وخضّم والورد.
قال بشار:
لقدْ كانَ ما بيني زماناً وبينَها ... كما كانَ بينَ المسكِ والعنبرِ الوردِ
ومنه أخذ البحتري قوله:
وجدتُ نفسكَ من نفسي بمنزلةٍ ... هي المُصافاةُ بينَ الماءِ والرَّاحِ
العرجيّ:
يشبُّ متونُ الجَمر بالمسك تارةً ... وبالعنبرِ الهنديِّ والنَّدُّ ساطعُ
المرار:
عبقَ العنبرُ والمسكُ بها ... فهي صفراءُ كعرجونِ القمرْ
وعراجين القمر أشد اصفراراً من سائر العراجين.
غيلان بن حُريث الراجز:
بيضٌ تَعاطى من جنيٍّ عنبرةٌ ... والمسكَ صرفاً شَذَباً مُكسَّرهْ
يا رُبَّ خودٍ طفلةٍ معطَّرهْ ... تميسُ في أثوابها المشهَّرهْ
إنْ زُرتها محجوبةً مخدَّرهْ ... وجدتَ من خلفِ الجدارِ الخَمَرهْ
باب
ما وصفه الشعراء من أحواله
الغساني:
أنسيمُ ريقكِ أُختَ آلِ العنبرِ ... هذا أمِ استنشاقةٌ من عنبرِ
ونظامُ درٍّ ما أرى أمْ لمحةٌ ... من بارقٍ أمْ لمعةٌ من جوهرِ
كشاجم:
مزاجكِ للمَثْنى من الزِّيرِ والصَّبا ... من الرِّيح والصَّافي الرحيقِ من الخمرِ
فلو كنتِ لحناً كنتِ تأليفَ مَعبَدٍ ... ولو كنتِ وقتاً كنتِ تعريسةَ الفجرِ
ولو كنتِ ورداً كنتِ ورداً مُضاعفاً ... ولو كنتِ طيباً كنتِ من عنبرِ الشِّحرِ
الصنوبري:
يا صاحبَ المجمر ما حاجَتي ... إلى بخورٍ جاءَ من مجمرِ
خدُّكَ فوقَ النَّارِ في صبغهِ ... وفوكَ فوقَ المسك والعنبرِ
آخر:
وإذا مجلسٌ تضمَّن شَرباً ... واستَحثّوا من المُدامِ كُؤوسا
ذكَروا منكَ أنَّهن عَدموا العن ... برَ رطباً لديهمُ ويَبيسا
كرمُ النَّفسِ والخلائق والعِر ... ضِ فحيَّا بكَ الجليسُ جَليا
وأما الندُّ فإنه من صنعة العطارين، وليس له اسم، كأنه ندَّ عن سائر الطيب. قال ابن الرومي:
سمِّيَ ندّاً لأنَّه أبداً ... تندُّ في الخافقَيْنِ أخبارُهْ
تندُّ أرواحُه فتظهرُ من ... أقصى قصيِّ البلادِ آثارُهْ
كأنَّه ذكرُك الذي حلفَ ال ... معروفُ أنْ لا ينامَ سُمَّارُهْ
ذاكَ الذي أشبهتْ روائحهُ ... روائحَ الروضِ فاحَ نُوَّارُهْ
الأحوص:
إذا خبتْ أُوقدتْ بالندِّ فاشتعلتْ ... ولم يكنْ عِطرها قسطٌ وأظفارُ
باب
ما يكون فيه الطيب
الجؤنة والقسيمة. وما يسحق عليه: الصَّلايَة والمداك. واللَّطيم الذي سُحقت عليه اللَّطيمة. والفِهر: الحجر الذي يسحق به الطيب. وسحقتُ الطيب وسهكتُه. وسديَ المسك: ابتلَّ. وجُنِي الطيب: أُخذ ما كان منه.
قال الأعشى:
إذا هنَّ نازلنَ أقراهنَّ ... وكانَ المِصاعُ بما في الجُؤَنْ
عنترة العبسي:
وكأنَّ فأرةَ تاجرٍ بقسيمةٍ ... سبقتْ عوارضُها إليكَ من الفمِ
الأغلب العجلي:
ذوَهجٍ كوهجِ اليَحْموم

مثلُ مَدَاكِ العُرسِ اللَّطيم
الأعشى في معناه:
كأنَّ رُضاباً من الزنجَبي ... لِ والمسكِ فيها إذا ما يبِس
قال المفضل: اللطيم جمع لطيمة، وهي العِير التي تحمل المسك. وهذا البيت قد فسره غيره على غير هذا الوجه.

باب الذي تستعمله البادية
طيب الأعراب
القَرَنفل الزنجبيل الزَّرنب المَلاب السَّخاب القُسط اللُّبْنى وهي المَيْعة والرَّامك والشَّاهريَّة. قال الأعشى:
كأنَّ القَرَنفلَ والزنجبيلَ ... باتا بفِيها وأرْياً مَشورا
آخر:
يا بأَبي كنتِ وفوكِ الأشنبُ ... كأنَّما ذُرَّ عليه زَرْنَبُ أوْ زنجبيلٌ عاتقٌ مُطيَّبُ
آخر:
ربَّ مهاةٍ طفلةٍ كَعابِ ... بدتْ كقرنِ الشَّمس من سخابِ
للعيد في كواعبٍ أترابِ ... مضمَّخاتِ الصدرِ والأقرابِ بخالصِ الجاديِّ والمَلابِ
السِّخاب قلادة ينظمونها. يقال للصبي يمرثُ سِخابه.
قال أبو نواس:
عبِقَت أكفُّهم بهم فكأنَّما ... يَتنازعون بها سِخابَ قرنفلِ
النَّمر بن تولب:
تربَّبها الترعيبُ والمحضُ خلْفةً ... ومسكٌ وكافورٌ ولُبنى تَأكَّلُ
خلف بن خليفة:
إنَّ لك الفضلَ على صُحبتي ... والمسكُ قد يَصطحبُ الرامِكا
حتَّى يظلَّ الشَّذوُ من لونه ... أسودَ مصبوغاً به حالِكا
أنشد الأصمعي:
فإنْ كنتَ قيناً فاعترفْ بنَسيئةٍ ... وإنْ كنتَ عطَّاراً فأنتَ المخيَّبُ
أفينا تَسومُ السَّاهريَّةَ بعدما ... بدا لكَ من شهر المُلَيساءِ كوكبُ
ويقولون: أنَمُّ من الطِّيب. كما يقولون: أخفى من الليل.
قال البحتري:
فكانَ العبيرُ بها واشياً ... وجرسُ الحُليِّ عليها رَقيبا
وقال المتنبي:
أزورُهمْ وسوادُ اللَّيل يشفعُ لي ... وأنثني وبياضُ الصُّبحِ يُغري بي
وقال ابن المعتز:
لا تلقَ إلاَّ بليلٍ من تواصلُه ... فالشَّمسُ نمَّامةٌ واللَّيلُ قوَّادُ
وأخذه ابن المعتز من قول العرب: هو أنمُّ من صبح، وأقود من ليل. ويقولون: الليل أخفى للوَيْل.
الراجز:
اللَّيلُ أخفى والنَّهارُ أوضحُ
وقال آخر:
اللَّيلُ للويلِ أخفى ... والدَّمعُ للوجدِ أشفى
ما يعرفُ الليلَ إلاَّ ... إلفٌ يعانقُ إلفا
باب
أسماء الزَّعفران
الزَّعفران، والجاديّ، والجِساد، والجسد، والرَّيهُقان، والمردقوش، والرّدان، والكُركم، والعبير، والأيدع، وورق الزَّعفران الفَيْد والرِّقان، والخَشيف، والرَّقوب، والشوران: العُصفر بلغة حِميَر. ويقال للحصّ الورَس، وللبقَّم العندم. والبقَّم أحد أسماء الأربعة على فعَّل. وليس في العربية لها خامس. ونقط العصفر والزَّعفران والمتخذ منهما الخَلوق والخِلاق.
وأنشد اللحياني في كتاب النوادر:
ومُنسدلاً كقرونِ العرو ... سِ تُوسعُه زنبقاً أوْ خِلاقا
ويُروى: تحلَّى به زنبقٌ أوْ خِلاقُ. أي تحلَّى هو بالزنبق.
غيره:
أنحنَ القرونَ فعقَّلْنَها ... كعقلِ العسيفِ غرابيبَ مِيلا
ومثله أنشد الأصمعي في الأبيات:
أسلموه في دمشقَ كما ... أسلمتْ وحشيَّةٌ وَهَقا
وأنشد ابن السكيت للحطيئة:
فلما خشيتُ الهونَ والعيرُ مُمسكٌ ... على رغْمه ما أمسكَ الحبلَ حافرُهْ
ومن أبيات الكتاب:
ترى الثورَ فيها مُدخلَ الظلّ رأسَه ... وسائرُه بادٍ إلى الشَّمس أجمعُ
وأنشدني يحيى في الأبيات:
وصارَ الجمرُ مثلَ تُرابها
آخر:
حوراً ولهواً لاهياً متيَّمُهْ ... تزْدَجُّ بالجاديِّ أو تَلَغَّمهْ
آخر:
ومُسمعةٍ إذا ما شئتُ غنَّت ... مضمَّخةِ الترائبِ بالرِّقانِ
حميد بن ثور:
فأخلسَ منهُ البقلُ لوناً كأنَّه ... عليلٌ بماءِ الرَّيْهُقان ذهيبُ
الحطيئة:
إذا النومُ ألهاها عن الزادِ خِلتَها ... بُعيدَ الكرى باتتْ على طيِّ مُجسَدِ
أنشد أبو عمرو:
يُشوِّفها النِّساءُ مشمِّراتٍ ... يفوحُ بها مع العرَقِ الخَشيفُ
وقال الأعشى:
فبتُّ كأنِّي شاربٌ بعد هجعةٍ ... سُخاميَّةً حمراءَ تُحسبُ عَنْدَما
الراجز:

وارْتَقنتْ بالزَّعفرانِ تَنْقُطهْ ... يشرقُ منها جيدُها ومعلَطُهْ
وقال الأعشى:
مُبتلَّةُ الخلقِ مثلُ المها ... ةِ لم ترَ شمساً ولا زمهريرا
وتبردُ بردَ رِداء العرو ... سِ بالصَّيفِ رقرقتَ فيه العبيرا
الراجز:
قد كنتُ حذَّرتكِ نَقطَ العصفر ... في اللَّيل حتَّى تُصبحي وتُبصري
إنِّي زعيمٌ لكِ أن تزَحَّري ... بحائلِ اللونِ قبيحِ المنظرِ
أنشد ثعلب في الأبيات:
قد بكَرَ المركوَّ ساقٍ يُفعمُهْ ... مختلطٌ عشرِقُه وكُرْكُمهْ وريحُه تدعو على مَن يظلِمهْ
وأنشد الأصمعي:
يظلُّ يومَ وردِها مزعفرا ... وهي خَناطيلُ تجوسُ الخُضَرا
وأنشد:
قد علِمتْ إنْ لم أجدْ مُعينا ... لأخلطنَّ بالخَلوقِ الطِّينا
وعلى ذكر الخَلوق قول البحتري عجيب فيه:
أرجْنَ عليَّ اللَّيلَ وهو مُمسَّكٌ ... وصبَّحنا بالصُّبحِ وهو مُخلَّقُ
والقابية التي تجني الزعفران. وقد قبت تقبو قبواً.
أنشد ثعلب:
دَوامِكُ حين لا يخشينَ ريحاً ... معاً كبنانِ أيدي القابِياتِ
وأنشد ابن السكيت:
وكلُّ طِمِرَّةٍ تهوي جميعاً ... سنابلُها كأيدي القابِياتِ
والقبْو الضمُّ، لأن الجاني يضم أنامله، وأهل المدينة يسمون الضمَّة في الإعراب القبْوة. ومنه القَباء لانضمام أطرافه.
وفي ذكر الزَّعفران قال الصنوبري:
تاهَ بالخدِّ والعِذارِ الجديدِ ... من همَمْنا لوصلهِ بالسجودِ
قلتُ يا سيّدي أرى شعَراتٍ ... كنمالٍ دببنَ في العاجِ سودِ
فتثنَّى وقالَ مهلاً فهذا ... زعفرانُ الهوى بوردِ الخدودِ
وفي اللفظ قد أحسن القائل:
رأيتُ أقماراً كمثلِ الدُّمى ... يكدْنَ بالأردافِ يسقطنَ
يلقطنَ ورداً هنَّ والمُصطفى ... أحسنُ ممَّا كنَّ يلقطنَ
والشعراء يصفون الشَّمس عند مغيبها باصفرار اللون، وأنها كالمُلاء المعصفر على أطراف الجدران؛ وكأنما نفضت ورْساً على الأصائل.
قال ابن المعتز:
مثلُ شمس الأصيل تسحبُ ثوباً ... صبغتْهُ بزعفرانِ الأصيلِ
أخذه من أبي تمام حيث يقول:
حُطَّتْ إلى تربةِ الإسلام أرحلُها ... والشَّمسُ قد نفضتْ ورْساً على الأُصلِ
وأخذه أبو تمام من مسلم:
فلمَّا انْتضى اللَّيلُ الصَّباحَ وصلتهُ ... بحاشيةٍ من لونهِ المتورِّدِ
وأخذه مسلم من العتابي:
أجدَّ ولما يجمعِ اللّيلُ شملَه ... فما حلَّ إلاَّ وهو وردُ المغاربِ
وأخذه العتابي من ذي الرمة:
حتَّى إذا اصفرَّ قرنُ الشَّمس أو كرَبتْ ... أمسى وقد جدَّ في حَوْبائه القَرَبُ
أخذه من أبي ذؤيب:
بأرْيِ التي تأرِي إلى كلِّ مغربٍ ... إذا اصفرَّ لِيطُ الشَّمسِ حانَ انقلابُها
وأخذه أبو ذؤيب من الراجز:
لا تخبُزا خبزاً وبُسّا بَسّا ... ملساً بذودِ الحَدَسيِّ مَلْسا
نوَّمتُ عنهنَّ غُلاما جِبْسا ... لمَّا تغطَّى فروةً وحِلْسا
من غدوةٍ حتَّى كأنَّ الشَّمسا ... في الأُفق الغربيِّ تُكسى وَرْسا
وهذه أبيات في قوارير ماء الورد:
ومُخطَفاتٍ كالعَذارى الحورِ ... مشمِّراتِ القُمْص كالمنثورِ
كلُّ فتاةٍ نشأتْ بحورِ ... تختالُ في دُوَّاجِها القصيرِ
حاسرةً عن أرِجٍ حسيرِ ... مثل نسيمِ الأرَجِ الممطورِ
وفيه أيضاً:
بعثتَ بها عذراءَ حاليةَ النحرِ ... مشمِّرةَ الجلباب جوريَّةَ النجْرِ
مضمَّنةً ماءً صفا مثلَ ودِّها ... فجاءتْ كذوبِ الدّرِّ في جامدِ الدُّرِّ
تم كتاب المشموم. ويتلوه إن شاء الله كتاب المشروب.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم.

كتاب المشروب
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
سقى الله سِرب المها وغزلانها، وأحداج سلمى وأظعانها، حيث يُسمع نداء الحاديين، وتُقَوِّضُ خيامُ الوادِيَيْن، فالنواعج تنص هواديها للسُّرى، والهوادج تسبل سجوفها للنوى.
ملء العيون جمالاً والقلوب هوىً ... والسفر أُنساً وملءُ الشمسِ تبديدا

بل سقى الله شرخ الشباب، ومألف الأحباب سقاءً يتولى مقاليد أمرها الصبا، فشقّت البروق لها جيوباً، ولطمت الرعود عليها خدوداً أزمان وجه الصبا طلق، وعيشة الشبيبة رغدٌ، والأحبة جيرةٌ، والشمل جميعٌ، والحياة غضةٌ، والزمان ربيعٌ، أحُلُّ جنات الشباب ألفافاً، وأركض في ميدان البطالة سادراً وأضرب في عمرة اللهو لاهياً تمرُّ الليالي والسنون ولا أدري، وتُجاريني الأيام في سَننِ الغيّ، فأجري من سُكرٍ إلى سكر، وأغدو من خُمارٍ إلى خمر، أجتليها حوليّة الميلاد، حمراء صافيةً، بمزاج غادية، من كفِّ غانية، حوراء هيفاء، غيداء لفّاء، ذات فرعِ واردٍ، وفمٍ بارد، وثدي ناهدٍ، وقدٍّ مائدٍ، لاثت حمرتها على قنوان النخيل، أو هدل العناقيد، وجلت عجرتها عن محاجر أغَنَّ، ولدته الظباء رِبْعيّةً وأرضعته الآرام وحشيّةً. فالقمر البدر يطلع من أسرَّتها، وقرن الشمس يشرق في سُنة وجهها، لها وجنتان تنافس فيها تفاحتان، وجيدٌ كأنه إبريق فضة، أو عنُق ظبية أُفلتت من شبكة القانص، وكأن أنفها قصبة دُرّ، أو حسام مهند، وقامتها جدل عنانٍ، أو خوط خيزران، قد ضُمّت إلى مِرطها لفّاوين يُقْعدانها إذا قامتْ ويجذبانها من ورائها إن تقدمت. سهلٌ خدّاها، بردٌ ثناياها، ناهدٌ ثدياها، فَعْمٌ ساعداها، منى النفس وهواها. أتناولها من كفها مخضّبة الأطراف كأنها أقلام لُجينٍ قُمِّعت ذهباً، تسحب أذيال شعاعها، وتجر رداء تلألئها فشاربها يكرع في ضياء الشمس أو يغِبُّ في نور القمر، حتى إذا سارت في البدن حُمَيّاها، وفغمت الخياشيمَ ريّاها كستِ الوجه نضرة النعيم، وألبست الخد حمرة التوريد، ومنحته صدق الحس، وذكاء الحدس، ورقّة البشَرة، وبِلّة الجلد القاحل، والجوف القفر الماحل، واحمرت الوجنتان، وماجت من الرطوبة الحدقتان، وقدحت زند الهوى في القلب الصلد، صبت لصوت الحمام، ولمعان البرق، وبكاء الغمام، ومعاهد الأحبة، وغادرت الجسم الخصيب الجناب رخيّ البال، ناعم الخواطر، حسن الظن، والعروق فاتحةٌ أفواهها لرضاع كاساتها كما تفتح الفراخ مناقيرها لزقِّ أمهاتها، وهي تسير في تجاويفها مسير القَطر في البلد القفر، وتتغوّر في أغوارها وأورادها تغوُّر الماء في خَلَلِ الكثيب، لا سيّما إذا استحثها السقاة بصوت الناي والعود، حيث السماء جلواء، والأرض خضراء، والماء صقيل الجِلباب، دمث التراب، والهواء فضفاض القميص، سلسال الندى، رَضراض الحصى، قد تضرجت خدود ورده، وتأوّدت قدود سروِه، وانتبهت جفون نُوّاره، وتبسمت ثغور أقاحيه، ومالت قامات الشقائق منثورة مطاردها، منظومة قلائدها، فكأنا في جنة الخلد، نُسقى خمرها من أكف حورٍ عينٍ، وإن شئت تعاطيتها معتّقة نضت جِدّة الدهر، وأَبلت شِرّة العمر، ومشى عليها الدهر وهو مقيد، فأذابت حوباءها، وأفنت أجزاءها، فلم تبق منها إلا أرواح بلا أشباح، حتى إذا بزلوها وثبتْ تِبريّة اللون، عطرية النشر وثوب الحية من الرمضاء، أو توقُّد المريخ في الظلماء، يناولنيها أحور أجيد، أغنٌّ أغيد، مُسبل العِذاريْن، مورّد الخدّين، أرقُّ من الهواء، وأصفى من زلال الماء، وأبهى من بدر السماء، مُتخنّثُ الأعطافِ دلالاً، مُنثني القدِّ اختيالاً، ذو حاجبٍ مُزجّجٍ، وطَرْفٍ أدعج، وثغر مفلّجٍ، وكفلٍ يترجرجُ
يغدو عليَّ بريقِه وبكأسهِ ... فيعلُّني بالكاسِ بعدَ الكاسِ

فحين دبت في باطن الأعضاء، والتبست بمحاني الأحشاء سخّنت النار الطبيعية، وألهبت الحرارة الغريزية، وتحدّرت في أعماق الجسد تحدُّر العذب البارد على الكبد الحرّى، وسرت في أقطاره، وتمشت في مفاصله، فغلّت عادية البرد، وكسرت غائلة الرطوبة، وطردت الرياح، وشدت العصب، وأمّنت من وهْيِ توتيره، واسترخاء تركيبه، وأحمت بواطن الجوانح، وكوامن الأوردة، وبَذْرَقَتْ بالطعام إلى غور البدن، وقسمته بالسوية من بيت الغذاء، وهي غسول الجسم من عفونات الأخلاط، ونضوح المعدة من غوامض الأدواء، ثم أسلمت إلى وثارة المهاد، ولذة الرقاد الذي هو قوت النفس، وجِمام الأعضاء، وغذاء الروح، وراحة الجوانح، وبه تتم أفعال الطبيعة، ويجود الهضم، وتجوَّد أسباب الشهوة، لا سيما حين الجو دكْنٌ، ووجه الأرض أسمط، والقطر مرجَحِنٌّ سحائبه، معنقٌ لألواذ الجبال وسفوح الأطواد هيادبه؛ ترفَضُّ دموعه كأنها أعراف الخيل منشورةً، أو سلوك الجمان منثورةً، والجو في ممسّك طرازه قوس قزح يبكي بلا حزن، كما يضحك من غير فرح، فلهفي على شرخ الشباب، وريعان الحداثة، لقد سلبتنيه الأيام سلباً، وأخذته من يدي غصباً أغضّ ما كان عوداً، وأنضر ما كان غصناً، حين الأيام ليّنة الأجياد مواتية، والحظوظ من الملاهي متوافية، فيا بؤس الدهر الخؤون، والزمن الظلوم، كيف يمزج صفوه بالكدر، ونعيمه بالغِيَر حتى لا تقع مسرته إلا بالمساءة ممتزجةً، ولا تحدث طماعيته إلا إلى الكراهية مزدوجةً، بينا أجول في أفياء الشبيبة، وأميسُ في أردية الغرارة، بمرتع من العيش رغيد، وسعي على صدر الزمان حميد، إذ نزع إلى لئيم عادته، ودنيء سجيّته، فأبدلني من السكون قلقاً، ومن الرخاء ضيقةً، ومن السعة غمةً، ومن الأنس وحشةً
فأصبحتُ من ليلى الغداةَ كناظر ... مع الصبح في أعقابِ نجمٍ مغرِّبِ
لا جرم أن حال الأنس مستحيلة، وسطوة الحوادث مستطيلة، ومشاهد السرور عافية، ومعاهد البهجة بالية، ومشارع الدنيا متكدرة، ومحاسنها متنكِّرة. والطرف مخفوض بعد انبساطه، ومحزونٌ عقيب اغتباطه، قد جفت ألبان العاني والأقداح، وجفَتْ عن أحبتها الكؤوس والراح، والقلب يتقلب على أحر مساً من الجمر، وأشد لذعاً من الخمر، ترى العيش حماماً، والشمس ظلاماً، والحياة غراماً.
ما كنتُ أوفي شبابي كنهَ غرّتِهِ ... حتى مضى فإذا الدُّنيا له تَبَعُ
وعلى تذكار أيام الشبيبة، وزمان الشرب والبطالة قصَرنا هذا الجزء على نعت الخمر، واختلاف أنواعها وأحوالها، وعدد أساميها، وتحقيق اشتقاقاتها من اللغة، وسرقات الشعراء في معانيها، والله الموفق، وبيديْه المعونة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأول ذلك أن الخمر مؤنثة، وجميع أسمائها، إما علامةً أو سماعاً، وربما ذكّروا الخمر في الشعر. قال الأعشى وذكَّرها، ثم رجع إلى التأنيث :
وكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإسفَن ... طِ ممزوجةٌ بماء زُلال
وقد يكون أن تلقى الهاء تشبيهاً بكحيل لأنها معتّقة، فهي مفعول بها في الأصل، كما يقال معقَّد وعَقيدٌ، والتأنيث في كلام العرب على ضربين: تأنيث حقيقي، وهو ما تحته فَرْجٌ، وتأنيث مجازي، وهو ضربين: منه ما له علم من الأعلام الثلاثة: الهمزة والتاء والألف المقصورة. ومنه ما لا علم في ظاهره، وإنما يؤخذ سماعاً كالنعل والعصا والشمس والأرض، إذا صغّرته زدت في مصغره الهاء كشميسة، ونُعيلة، وأريضة، إلا ثمانية أسماء كالحرب والدِّرع والقوس، تقول: حُريبٌ، ودُريعٌ، وقُويسٌ، ومن أمثالهم: تركته خبرَ قُويسٍ سهماً. وإنما صغروها بغير هاء لاشتهارها عندهم بالتأنيث. واحتيج إلى إفراد المؤنث لأنه فرع على المذكر، تقول: هو قائمٌ وقائمةٌ، كما أن الصفة فرع على الموصوف، والفعل فرع على الاسم، والعجمة فرع على العربية، والتعريف فرع على التنكير؛ وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّبَ المذكر على المؤنث لأنه أخف، كما قالوا: القمرين للشمس والقمر، والأبويْن للأب والأم .
والعرب تجترئ على تذكير مؤنث لا علم للتأنيث في لفظه، قال الأعشى :
أرى رجلاً منكم أَسيفاً كأنَّما ... يضمُّ إلى كشحيْهِ كفّاً مُخضّبا
وقال طفيل الغنوي :
فيهنَّ أحوى من الرِّبعيّ حاذلةٌ ... والعينُ بالإثمدِ الحاريِّ مكحولُ
وقال امرؤ القيس:

بَرهْرهةٌ رَخصةٌ رُؤدةٌ ... كخُرعوبةٍ البانةِ المنفطرْ
وهم يوردون الاسم المذكر مخبراً عنه بالتأنيث. قال:
وأنتَ لمّا ظهرتَ أشرقَتِ ال ... أرضُ، وضاءتْ لنورِك الأفقُ
أنّث الأفق لأنه يريد به الناحية. كما يذكرون المؤنث مخبراً عنه بالتذكير، قال الله تعالى: " السماء منفطرٌ به " قالوا: المعنى السقف، والله أعلم. قال امرؤ القيس:
........... ... كخرعوبة البانةِ المنفطرْ
أي الغصن، أما قول الشاعر:
أكثرُ ما أسمعُ منها بالسّحرْ ... تذكيرُها الأنثى وتأنيثُ الذكرْ
والسَّوءةُ السواءُ في ذِكرِ القمرْ
فليس من هذا القبيل، وإنما يصف امرأةً لثغاء تُدخل بعض الكلام في بعض.
وقال أبو نواس:
أهيفُ، إن قلتُ: يا فديتُك، قُلْ ... موسى، يَقلْ من رُطونة: موثى
محتلقٌ فاترُ الشمائلِ قد ... خالط منه المجونُ تخنيثا
وأنشد الباهلي في الأبيات:
وما ذكرٌ فإن يكبرْ فأنثى ... شديدُ الأزمِ ليس له ضُروسُ
يريد القراد، وهو ذكر، ثم يسمى إذا كبر حَلَمةً وحَمْنانةً.
وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني بالموصل أنهم لم يقولوا في صفات الله عز وجل علامةً لأن الهاء مشهورة عندهم بعلم التأنيث، وهي إخبار عن قلة الدوام والثبات. قال النمر :
وكلُّ خليلٍ عليهِ الرّعاث ... والحُبُلات كذوبٌ مَلِق
وقال آخر
وإن حلفتُ لا النأيُ ينقضُ عهدَها ... فليس لمخضوب البنانِ يمينُ
وقال المتنبي :
أبداً تستردُّ ما تَهب الدنيا ... فيا ليتَ جودَها كان بُخلا
فكفتْ فرحة تورثُ الغمَّ ... وخلٌّ يغادرُ الوجدَ خلاّ
شِيمُ الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنَّثَ اسمها الناسُ أمْ لا
أبو العباس يقول: إنهم أرادوا به الداهية، وقد تكون الهاء داخلة للمبالغة والتوكيد كنسّابة ومِطْرابة ولُجَجة.

الخمر:

اسم ثلاثي، وهو أعدل الكلام، حرف يبتدأ به، وحرف تُحشى به الكلمة، وحرف يوقف عليه؛ وفتحوا أوله، لأن أول الحروف يحرّك حركةً ضروريةً، والفتح أخف الحركات، فهي حظه إلى أن يحدث مانع؛ وسكّنوا الحرف الأوسط تخفيفاً لكثرة استعمالها، لأن الحركات أبعاض الحروف، بل تُجريها العرب مجرى الحروف في مواضع. ألا ترى أنهم أجازوا صرف هند اسم امرأة معرفة، فإذا تحرك الأوسط منه مُنع الصرف البتة، كقولك فدْمٌ، إذا جعلتها اسماً فصارت الحركة في منع الصرف بمنزلة الياء من زينب، والألف من عناق، كما يجرون الحروف مجاري الحركات، قالوا لم يسعَ ولم يرمِ ولم يغزُ، فحذفوا أواخر هذه الحروف للجزم كما تحذف الحركات من لم يخرجْ ولم يجلسْ؛ وأما لم يكُ ولم يُبَلْ ولا يَدْرِ فحذفوا أواخرها تخفيفاً، لأن الشيء إذا كثر استعماله يتأول بالحذف أكثر. وقال الفرّاء في المُشكل: الأصل في ايْش أيُّ شيءٍ فحذفوا ياء وهمزة شيء وبنوهما كلمة واحدة. لما كان الشيء عبارة عن كل معنى، لأن أعم الأسماء شيء، ثم الجوهر أخص منه، إذ كان كل جوهر شيئاً، وليس كل شيء جوهراً، ثم الجسم أخص منه، إذ كان كل جسم جوهراً، وليس كل جوهر جسماً، ثم الحيوان أخص منه، إذ كل حيوان جسم، وليس كل جسم حيواناً، ثم على ذلك: الناس أخص من الحيوان، إذ كل ناس حيوان، وليس كل حيوان ناساً، ثم الرجل أخص منه، إذ كل رجل إنسان، وليس كل إنسان رجلاً، ثم زيدٌ أخص من رجل، ولذلك صار علماً، والأسماء على ثمانية أضرب: أسماء الأجسام كالحجر والمدَر، وأسماء الصفات وهو ما كان حلياً أو نسباً أو إشارةً كالأحمر والطويل والقرشيّ، والصناعات تجري مجراها نحو البقال والهبْرقيّ، وأسماء الإشارة نحو هذا وأولئك، وأسماء الأحداث كالقيام والقعود، ومن هذا القسم اشتُقت أسماء الأفعال، فما تصرّف منها وصدر عنها الأفعال، فهي المصادر، والأسماء الأعلام كزيد وعمرو، وأسماء الأمكنة وأصلها الجهات الست خلف وقدّام، وفوق وتحت، ويسرة ويمنة، وما ضارعها، وأسماء الأزمنة كالشهور والدهر، وأسماء الفاعلين كقائم وقاعد، وأسماء المفعولين كمضروب ومقتول. ودخول الألف واللام على الخمر لتعريف الجنس، كقولهم: أهلك الناسَ الدينارُ والدرهمُ، أي هذا الجنس هو الذي أهلكهم، ودخلت اللام وحدها للتعريف، والهمزة دخلت لسكون اللام، يدلك على ذلك إيصالهم حرف الجر إلى ما بعد حرف التعريف، نحو: عجبتُ من الرجل، فتعود الحركة فيه إلى ما بعد حرف التعريف، ولو كان الألف واللام بأجمعهما للتعريف لما كان يجاوز حرف الجر إلى ما بعده، ثم إن التنكير ضدٌّ للتعريف، وهو بحرف واحد كالتنوين في آخر الاسم، وكذلك التعريف بحرف واحد، وجعلوا حرف التعريف واحداً لأنهم أرادوا خلطه بما بعده، ومزجه به كما أُحدث فيه من انتقال المعنى حيث يضعف عن انفصاله عما بعده فيُعلم بذلك أنهم قد اعتزموا على خلطه به، وسكّنوه لأن تسكينه أبلغ وأشد في إضعافهم إياه، وإعلامهم الحاجة إلى ما اتصل به لأن الساكن أضعف من المتحرك، وأشد افتقاراً إلى ما يتصل به، واختاروا اللام لأنهم أرادوا إدغام حرف التعريف فيما بعده، لأن الحرف المدغم أضعف من الحرف الساكن غير المدغم، وجعلوها في أول الكلام. والزيادات تقع آخر الكلام لأنهم صانوه وشحّوا عليه حتى جعلوه للحاجة إليه في موضع لا يحذف منه حرف صحيح البتة، واللام حرف صحيح، فاحتاطوا عليه بأن جعلوه في الأول ليبعد عن الحذف والاعتلال.

باب أسماء الخمر
الخمر الشَّمول العتيق العاتِق المعتَّقة الراح القَرْقَف الخَنْدَريس الرحيق القهوة المُدام المُدامة السَّبيئة المُشَعْشَعة الصِّرف المُزَّة العُقار الخَمْطة المُصْطار الإسْفنْط المذا المقدّي المُصَفَّق العَرَق الجِرْيال السُّخاميّة الخُرْطوم الكُمَيْت الصَّهْباء السَّلْسَل السَّلْسال السُّلاف السُّلافة الزَرَجون العانِيَّة الماذِيّة أم زَنبق الحانِيّة الدِرياق المِزر الشَّموس الفَيْهَج الغَرَب الحُمُيّا السُّكْرُكَة الصَّرْخد البِتْع القِنْديد الخَلَّة الكَسِيس والنبيذ كل ما يُنبذ. وأما الباذِق والمُثلَّث وهو السيكي.

والداذي أعجمية، والكلام فيها وفي السُّكر والنديم، والإبريق والكرائن، والماخور والناجود، والراقود والراووق، والفِدام والأقداح، وما تنوع منها، والشرب وألوانه، والتغمُّر والطفوح والبرض والريّ والرشف بأطراف الثنايا، وضم الشفتين، والكروع فيه، وفتح اللهوات حتى يسوغ المشروب دفعاً، ويحيزه جرعاً، يقع آخر الباب مستقصىً إن شاء الله.

الخمر
فأما الخمر فاشتقاقها من ثلاثة أشياء، أحدها من خمرت الشيء، أي غطيته، كأنها تغطي عقولَ الناس الشاربين، والخمرة السّجادة لأنها تخمر موضعها من الأرض، والخِمار المِقنَعة لأنها تخمر الرأس، والخمر ما واراك من الشجر، والخَمير الذي للعجين فعيلٌ بمعنى فاعل، أي خامرٍ فطورتَه، وهو مثل قدير وقادر؛ وغدير عند بعضهم بمعنى غادر، كأنه يغدر بالناس، يكون فيه ماء مرةً، ومرةً يخلو، وإليه ذهب الكميت:
ومن غدرِهِ نبزَ الأولو ... ن إذا لقَّبوه الغديرَ الغديرا
وهذا مما يستدل به على معرفتهم بالاشتقاق. قال حسان:
وشقَّ له من اسمه كي يجلَّهُ ... فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمّدٌ
ومن ذهب مذهب الاشتقاق من المُحدَثين قوم، فأحسنهم أبو نواس:
بكرَ العلاءَ ثلاثةٌ ما منهمُ ... إن حصّلوا إلا أغرُّ رفيعُ
سادَ الربيعُ وسادَ فضلٌ بعدَه ... وعلتْ بعباسِ الكريمِ فروعُ
عبّاسُ عبّاسٌ إذا احتدمَ الوغى ... والفضلُ فضلٌ والربيعُ ربيعُ
وفي غدير وجه آخر أغرب من الأول، وهو أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، كأنه ماء أغدره السيل، أي تركه. ويقال أغدرْتُه وغادرتُه بمعنى واحد. قال:
في هجمةٍ يغدُرُ منها القابضُ ... سُدسٌ ورُبْعٌ تحتها فرائضُ
أي يترك. فغديرٌ بمعنى مُغدرٍ، وهو ماء غدير في العربية، كضمير بمعنى مُضْمر، وحديث بمعنى مُحدَث، وعَقيد بمعنى مُعْقَد، وعتيق بمعنى مُعتَق، ونَضيج ومُنضَج، وسليم للديغِ بمعنى مُسلَمٍ للهلاك في أحد القولين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خمِّروا آنيتَكم وأوْكوا أسقيتكم، وضُمّوا مواشيكم " أي غطوها. ومن أمثال العرب في لفظه " اليوم خمرٌ وغداً أمر " و " خامري أمَّ عامرٍ " و " العوان لا تعلّم الخمرة " و " هو يدُبّ الضرّاءَ ويمشي الخمرَ " وتقول العامة " سيكون لهذا السُّكر خُمارٌ " وأنشد الأصمعي:
وداهيةٍ جرَّها جارمٌ ... جعلتَ رداءَكَ فيها خِمارا
أي حللت رؤوس القوم بالضرب وعمّمت لا غير، لأن الضرب يأخذ محلاً من الرأس لا كله، ومثله غشّيته، وهو في:
غشَّيْتُهُ وهو في جَأْواءَ باسلةٍ ... عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا
وقال آخر:
سقيتُ سهامَ الموتِ بالبيضِ فحلَها ... وجللتُه بالبأسِ والصارمِ الهِندي
وأراد بالرداء السيف، لأنه بحمائله وقرابه يُرتدى، وهو أيضاً ثقلٌ على العاتق فسموه به، قال الشاعر:
ليستْ عليهمْ إذا يغدونَ أرديةٌ ... إلا جيادَ قسيّ النبعِ والّلجمِ
ومنه قول فقيه العرب: " من أراد البقاء ولا بقاء فليُكْرِ العشاء، وليباكر الغداء وليخفف الرداء " معناه يخفف ظهره من ثقل الديون. والعرب تصف الكاهلَ والعنق والعاتق والمنكب بالوَثاقة والشدة، والنهوض بالأعباء، والاستقلال بالشدائد والاضطلاع بالأثقال. قال عمر بن أبي ربيعة:
إنَّ لي حاجةً إليكِ فقالتْ ... بين أُذني وعاتِقي ما تريدُ
أي أحملها وأقوم بقضائها.
وقال أبو عبادة:
وألقيتُ أمري في مهمِّ أمورِهِ ... ليحملَ رَضوى ما تحمّلَ كاهِلُهْ
وقال الآخر في الرداء:
إذا ما الثّريّا أطلعتْ من عِشائها ... طِلاعَ عروسٍ في ثيابِ جلاءِ
تبلدْتُ من علمي بما البينُ صانعٌ ... وإن ردائي ليس لي برداءِ
فإنه يريد الرداء بعينه، وهو كقول المرّار:
كأنَّ الثريّا أطلعتْ من عِشائِها ... بوجهِ فتاةِ الحيِّ ذاتِ المجاسِدِ

يقال رداء ومِردى مثل عِطاف ومِعطف، وقولهم به خُمار هو فترة الرجل عقيب سُكره وصحوه، لأنه يجري مجرى الأدواء مثل الصُّداع والرُّعاف. وكان الضم أولى به لأن الفتح شغلوه بالأسماء الخفية كالذَّهاب والكلام، والكسر بالعيوب كالحِران والجِماح فلم يبق إلا الضم فجعلوه للأدواء. قال أبو عمرو الشيباني: السَّواف من أدواء الإبل بالفتح، وأنكره الأصمعي فضمه، ولم يقولوا: به نُباذٌ لأن النبيذ ليس من كلام العرب فلم يستعملوه، وقالوا: خَمر فهو مَخمور. قال:
......... ... كصدودِ المخمورِ شمَّ الشَّرابا
وخمَّر فهو مخمر. قال امرؤ القيس:
......... ... كما ذعرتْ كأسُ الصَّبوحِ المُخمَّرا
والوجه الثاني من الاشتقاق أنه لطيب رائحتها، وذكاء نشوتها سميت خمراً. تقول: وجدتُ خَمرَةَ الطيب، أي رائحته. قال الراجز:
يا رُبَّ خَوْدٍ طَفْلَةٍ مُعطَّرهْ ... مُعجبةٍ بحُسنِها مُشمِّرهْ
إن جئتَها محجوبةً مخدّرهْ ... وجدتَ من خلفِ الجدار الخَمرَهْ
والوجه الثالث أنه من خامَرَني الهمُّ أي خالطني، وداءٌ مخامِرٌ، أي مخالط للبدن، كأنها تخامر الأبدان والعقول أي تخالطها. قال:
أتيناهُ زُوّاراً فأعتدَنا قِرَىً ... منَ البَثِّ والداءِ الدخيلِ المُخامرِ
وليس لأحد أن يقول إنه يرجع كل اشتقاقه إلى التغطية، لأنه إن سِير في الاشتقاق هذه السيرة بطلت فوائد أبوابه وأنواعه، وإنما يكون اختلافه بزيادة معنىً على آخر. وعلى هذا أسسه العلماء من القدماء، حتى قالوا في البحر إنه من البحر، أي ملحٌ، وماءٌ بحرٌ أي ملحٌ، ومياه البحار أملاح. قال نصيبٌ:
وقد عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزادَني ... إلى ظَمأي أنْ أبحرَ المَشربُ العَذبُ
وقيل إنه سمي بذلك لبعد قعره وانشقاق عمقه، ومنه بحرتُ الناقة، أي شققت أذنها، فهي بَحيرة، ومنه تبحَّر فلان في العلم. وقيل إنه سمي بحراً لغلظ مائه وكدورته وتغيره. ومنه سمي دمٌ باحرٌ، أي ثخين أسود. وفي الحديث: " دمُ الحيضِ أسود بحراني " . قال العجاج:
من ناقعِ الجوفِ وبَحراني
وقالوا في المسيح صلوات الله عليه إنه لم يكن يمسح ذا عاهة إلا أبرأه، فهو على هذا فَعيل بمعنى فاعل، وقال غيره إنه فَعيلٌ بمعنى مفعول كأنه ممسوحُ باطن القدم لا يتخامص، وكذلك كان. وقال غيره سمي المسيح لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة. وقيل إنه سمي المسيح لحسنه. تقول العرب: به مِسحةٌ من جمال، أي براعة. قال: البيت لامرأةِ ذي الرمة من قصيدة تهجو فيها ميّة صاحبة ذي الرمة:
على وجهِ ميَّ مِسْحةٌ من مَلاحةٍ ... وتحتَ الثيابِ الخزيُ لو كان باديا
والمسيحة القطعة من الفضة، قال الأنماري:
كأنَّ مسيحتي ورقٌ عليها ... نمتْ قِرطيهما أذنٌ جذَيمُ
وهذا وإن كان أصله كله يرجع إلى المسح فقد اختلفت أنواعه، وعُقل من كل نوع فائدة جديدة كالدرع والمِدْرعة والدُّرَاعة، وأصل الكلمة درع إلا أنه عُقل من صنعة كل لفظة فائدة قائمة بنفسها.
الشَّمول
قال الأصمعي: سميت شَمولاً لأن لها عصفة كعصفة الشَّمال، وقد بين هذا ابن الرومي في قوله:
تنفّسُ كالشَّمولِ ضُحىً شمالٌ ... إذا ما فُضَّ عن فيها الختامُ
وتكون على هذا فعولاً بمعنى فاعل، مثل قتول بمعنى قاتل. تقول: شملت الريح إذا هبت شمالاً. وقال أبو عمرو الشيباني: سمّيت شَمولاً لأنها تشمل بريحها الناس، أي تعم، من الشِّمال، وهو كيس يُجعل فيه ضرع الشاة. أنشدنا أحمد بن يحيى:
ستعلمُ إنْ دارتْ رحى الحربِ بينَنا ... عِنانُ الشِّمالِ منْ يكونَنَّ أضرعا
يريد بعنان الشمال شبهه به. قيل إنه أراد معانة أمر مشؤوم. وقيل إن دارت الحرب بيننا مدارها انهزمتَ لأن المنهزم يأخذ عن شماله. وقيل سميت شَمولاً لأنها تشتمل على عقل صاحبها. ويقال: فلان حسن الشَّمْلة مثل القمصة، أي حسن الاشتمال بالثوب، وقالوا مشمولةً أيضاً، فتكون

الشمول
فعولاً بمعنى مفعولٍ كحلوبٍ بمعنى محلوب، لأنها يشملها الناس أي يحُفّونها للشرب. قال الأقيشر:
وأنتِ لو باكرتِ مشمولةً ... صِرفاً كلونِ الفرسِ الأشقرِ
العَتيق والعاتق

اشتقاقها من ثلاثة أشياء. فالأول أن العتيق هي القديمة، كأنها سبقت وتقدمت على وجه الدهر، من قولهم عتقت الفرس أي سبقت. وقال أعرابي في نعت فرس:
هذا أوانُ عِتقةِ الشقراءِ
ويقال: فلان مِعتاق الوسيقة، إذا طرد طريدةً أنجاها، وسبق بها. قالت الخنساء:
حامي الحقيقةِ معتاقُ الوسيقةِ نس ... الُ الوديقةِ، جلدٌ غيرُ ثِنيانِ
والوجه الثاني أنها لرقتها سميت عتيقاً، من العتق وهو حسن الوجه ورقّته. وتقول العرب: عَتُقَ فلانٌ بعد استعلاجٍ، أي رقّ وجهه، وحسنت بشرته، وذهبت كدرته. قال أبو النجم:
وأرى البياضَ على النساءِ جهارةً ... والعِتقُ أعرفهُ على الأدماءِ
وقال لبيدٌ:
....... ... أو عاتقٍ كدمِ الذبيحِ مُدامِ
فهذا يريد بالعتق الحُسن لأنه شبهها في حمرتها بالدم الطري، والعاتق من القِدم، يضرب لونها إلى الصفرة، وتغلب الورسية عليها، وقد أحسن من قال في عتق الخمر:
له خلقٌ على الأيامِ يصفو ... كما رَقّتْ على الدهرِ العُقارُ
ويقال امرأة عاتقٌ أي بِكر، من العِتق بروعتها وجمالها.
وقال كثيّر:
أجني دماً يا أمَّ عمروٍ هرقتِه ... بكفِّكِ يومَ السترِ إذْ أنتِ عاتِقُ
والبيت العتيق فعيل بمعنى مُفعَل، أي أُعتِق من ملك الجبابرة. والثالث أنه فعيل بمعنى فاعل، أي عاتق الميلاد، متقادم الوجود. وقالوا: العتيق والعاتق التي لم يفض ختامها مشبهة بالعاتق من النساء وهي العذراء التي لم تمسّ.

الراح
اشتقاقها من ثلاثة أشياء: أحدها من ارتياح صاحبها، وما يجده في نفسه من هِزّة السرور، وخفة النشاط، وهي الأريحية. قال أبو عبادة:
وما باتَ مطويّاً على أريحيّةٍ ... بعِقبِ النّوى إلاّ امرؤٌ باتَ مُغْرَما
ويقال: فلان يَراح للمعروف إذا أخذته الأريحية، وأراح الرجل إذا رجعت إليه نفسه، وراحَ الشجر يَراح وتروَّح إذا انفطر بالورق. قال:
وأكرِمْ كريماً إنْ أتاكَ لحاجةٍ ... لعافيةٍ إنَّ العضاةَ تَروَّحُ
وقال:
ولستُ برهلٍ مثلَك احتلمتْ بهِ ... عَوانٌ نأتْ عن فحلِها وهي حاملُ
وقال طُفَيل:
وخادعَ المجدَ أقوامٌ لهمْ شرفٌ ... راحَ العضاةه بهم والعرقُ مدخولُ
ومثله قول زفر بن الحارث:
وقد ينبتُ المرعى على دِمنِ الثّرى ... وتبقى حَزازتُ النفوسِ كما هيا
ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراءَ الدمن " . وفي المثل: " الحنظلة خضرٌ أوراقها، مرّ مذاقها " . وفي الحديث: " لم يُرح رائحةَ الجنة " أي يجد ريحها. قال الكسائي: هو من أرحتُ. وقال غيره: لم يَرَحْ من راحَ يَراحُ إذا وجد الريح. ويقال: أتانا وما في وجهه رائحة دم. وهو من قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
فقامتْ كئيباً ليسَ في وجهِها دمٌ ... من الحزنِ تُذري عبرةً تتَحدرُ
هذا في الحزين، وقد يصفون بذلك القتيل. قال زهير:
التاركُ القرنَ مصفرّاً أناملُه ... يميدُ في الرمحِ ميدَ المائحِ الأسِنِ
وقال خداشُ بن زهير:
قد أتركُ القرنَ مصفرّاً أناملُهُ ... كأنما قد كساهُ اللونَ جاديُّ
وقال ابن خطّار بضده:
همْ يضربونَ الكبشَ يبرقُ وجههُ ... على صدرِه من الدماءِ سبائبُ
والوجه الثاني أنها سميت راحاً من طيب الرائحة. يقال روّحت الشي، ودهنٌ مُرَوَّح أي مطيّب. وفي الحديث أنه أمر بالإثمد المروَّح أي المطيّب. وقال أبو زيدٍ: أرْوَحَني الصيد إرواحاً، وأنشاني إنشاء إذا وجد ريحَك ونشرك. ويوم راحٌ شديد الريح، ويوم طيب الريح. والوجه الثالث: سميت راحاً لشدتها وقوتها وسورة حميّاها، من قولهم أقرحُ راحٌ أي حصانٌ ذكرٌ. والراح تحصُّن الفرس واشتداده، والراحة العشية الشديدة الريح. والراحة بطن الكف. وتشبيه ذي الرمة بهذا جيد حيث قال:
ودوٍّ ككفِّ المُشتري غيرَ أنّهُ ... بساطٌ لأخماسِ المراسيلِ واسعُ
شبهها في انخراقها بكف المشتري لأنه يبسطها للصفقة. وقول جرير:
ألستُم خيرَ منْ ركبَ المطايا ... وأندى العالمينَ بطونَ راحِ
الواهب يعطي ببطن كفه ويرد بظهرها. وألفه ألف تقرير لا استفهام ليصح المدح. وقد أجاد إبراهيم بن العباس الكاتب في نعت بطنها وظهرها:

لفضلِ بنِ سهلٍ يدٌ ... تقاصرَ عنها المثلْ
فباطنُها للنّدى ... وظاهرُها للقُبلْ
ومنه أخذ ابن الرومي:
أقاتلتي حججتِ البيتَ إنّي ... حججتُ فتى المروءةِ والسلامُ
فلي في بطنِ راحتهِ ارتواءٌ ... ولي في ظهرِ راحتِهِ استلامُ
وكرره بأخصر من هذا اللفظ:
........... ... له راحةٌ فيها الحطيمُ وزمزمُ
وأما قول المتنبي في بطن المِجن وظهره:
في مثل ظهرِ المِجَنِّ متّصلٌ ... بمثلِ بطنِ المجنِّ قَردَدُها
فهو في كتاب أبي الفتح عثمان بن جني رحمه الله، وقال في قول المتنبي:
لو مرَّ يركضُ في سطورِ كتابةٍ ... أحصى بحافرِ مُهرِهِ ميماتِها
إنه شبه حافر الفرس بصورة الميم، وهو كما تراه، ولو أراد ذلك المتنبي لما كرر قوله:
أوّلُ حرفٍ من اسمِهِ كُتبت ... سنابكُ الخيلِ في الجلاميدِ
يريد العين، وصورة العين والحافر واحدة.
القَرْقَف
وهو اسم لها موضوع، وليس له أصل يشتق منه، ويُحمل عليه، وأنكر أبو عمرو قول من يقول لأنها تُقرقف بمعنى تُرعد الشاربين. قال الرُّقاشي:
ما اكتحلتْ مقلةٌ برؤيتِها ... فمسَّها الدهرَ بعدَها رمدُ
الأحوص:
نعمَ شعارُ الفتى إذا بردَ الس ... ليلُ سُحَيْراً وقرقفَ الصَّرِدُ
زيّنَها اللهُ في العيونِ كما ... زُيِّنَ في عينِ والدٍ ولدُ
وإنما الوجه أن يكون في خروجها من البِزال وتلونها وتكفّيها سَمْوُها، ثم استمر عليها الاسم في جميع أحوالها كالخطاب الخارج على سبب، ثم تُجُوِّز به في غيره، كتسمية شهر الصوم شهر رمضان لوقوع فرضه في شدة الرمضاء، ثم ثبت هذا الاسم له ولو وقع في صميم الشتاء، وآنفِ كواكبِ الجرباءِ، أو زمانَ شيبانَ وملحانَ، أو أيام العجوز.
من عادتهم وضع الاسم على مقتضى معناه، كالنَّزَوان والغلَيان والطيَران. لما كان المعنى الحركة والانزعاج فتحوا عين الفعل، وإذا كان بخلافه أسكنوها، مثل حوْذان؛ فكأنهم سموها قرقفاً في حال بزلها لقرقفتها في خروجها وسيلانها. قال أبو نواس:
تتلوى عندَ المسيلِ من الدّ ... نِّ تلوِّي حبائلِ الفتّالِ
وقال ابن المعتز:
فأخرجَ بالمِبزالِ منها سبيكةً ... كما فتلَ الصواغُ خَلخالَهُ فَتلا
الخَنْدَريس
هي القديمة. قال الفراء: حِنطةٌ خندريس أي قديمة، ونونه وياؤه زائدتان، والخدرسة القِدم، وهي فنعليل مثل عنتريس من العترسة، وهي الشدة والصلابة، وعنقفير من العقفرة وهي الدهاء والنكارة. وأما زنجبيل وعندليب فهو فَعلليل، وليس في العربية فَنعليل وفَعْلَليل سوى هذه الكلمات. ومن المكرر على اختلاف زمهرير وعرطليل وقفشليل ومنجنيق على مذهب من يقول منجقتُهُ، ومن قال: بيننا حروب عون تفقأ منها العيون، فمرةً نُجنَقُ ومرة نُرشَق، فهذا مفعليل. وقال:
فنعمْنا والعينُ حيٌّ كميتٍ ... بخطابٍ كلذةِ

الخندريس
ِ
الرحيق
هو صفوة الخمر، وعليه علماء اللغة، ولم يذكروا له أصلاً يرجع إليه. وقوله تعالى: " يُسقون من رحيق مختوم ختامه مسك " فمعناه آخر رائحته مسك والله أعلم. وقال الناجم:
رحيقٌ كصفوِ الماءِ هبّتْ به الصِّبا ... ففاضَ على حصبائهِ يَترقرقُ
يودُّ حشا الصديانِ لو كان وسطَهُ ... على ما بهِ من غلّةِ الصدرِ يغرقُ
ابن الرومي:
وشفوفُ البدنِ النا ... عمِ في الثوبِ الرقيقْ
ورحيقٌ كحريقٍ ... في أباريقِ عقيقْ
إنّ من ورّد خدّ ... يك لصبّاغٌ رفيقْ
القهوة
قال الكسائي: سميت قهوةً لأنها شاربها يُقهي، أي تذهب شهوته للطعام. يقال: أقهى الرجل وأقهمَ إذا ذهبت شهوته للطعام، ويقال: استَيْقَه الرجل إذا أطاع. قال الأعشى:
معتقةٌ قهوةٌ مُزّةٌ ... لها زبدٌ بين كوبٍ ودنْ
المُدام والمُدامة

هي مُفعَل ومُفعلة كمُكرم ومُكرمة، من أدمتُها الظرفَ أي أسكنتُها. قال الأصمعي: أُديمت الظروفَ أي أُسكِنَتْها، وأُبقيت فيها، ومنه دوامُ الشيء إنما هو سكونه حتى لا ينزعج ولا يبرح، والماء الدائم الساكن، وفي الحديث: " لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه " فهو الراكد لا يجري. ودوّمَ الطائر إذا سكّن جناحيه في الهواء فلم يحركهما. ويقال: أدمتُ القِدرَ أي سكّنتها ودوّمتها. قال الجعدي:
يفورُ علينا قدرُهم فنديمُها ... ونفثأُها عنا إذا حَميُها غَلا
يعني بالقدر الحرب، كقول الآخر:
قدرينِ لم يُسْتَثَرْ وقودُهما ... بالمرخِ تحتَ العَفارِ تضطرِبُ
لا بالجفائن ينزلان ولا ... بالشيحِ يذكي ضرامَهُ اللهبُ
يعني الحربين. ولها وجه آخر من الاشتقاق يكون من الدوام وهو الدوار الذي يأخذ الإنسان في الرأس عند انتشائه وسُكره. قال الشاعر:
عساكر تغشى النفسَ حتى كأنني ... أخو سكرةٍ دارتْ بهامتيَ الخمرُ
والعرب تسمي الشعاعات الممتدة كالخيوط نُصب عين السكران والصديان السمادير والهاء التي في المدامة للمبالغة والتأكيد، وكما دخلت في كريمٍ وكريمة. وفي الحديث: " إذا أتاكم كريمةُ قومٍ فأكرموه " ، وكذلك الهاء في خليفة للمبالغة وهو خليف. وأنشد أبو حاتم السجستاني في كتاب المذكر والمؤنث لأوس بن حجر:
إنْ منَ القومِ موجودٌ خليفتُهُ ... وما خَليفُ أبي وهبٍ بموجودِ
وجمع خليفة خلائف وجمع خليف خُلَفاء، وتكون من دوام السرور بها. قال الناجم:
عُقارٌ عقورٌ للرجالِ مُدامةٌ ... تُديمُ المنى راحٌ تُريح الجوانحا

السبيئة
سميت سبيئة لأنها تُسبأ أي تُشرى. قال:
أغلي السِّباءَ بكلِّ أدكنَ عاتقٍ ... أو جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها
وسبيئة فعيلة لمعنى مفعولة، فلما جعلها اسماً أدخل الهاء عليها. وفعيل إذا كان بمعنى مفعول حذفت الهاء منه لأن الصفة فرع والعدل فرع والتأنيث فرع فوجب حذف أحدهما لا الأفرع. وقال الأعشى:
وسَبيَّةٍ مما تُعتّقُ بابلٌ ... كدمِ الذبيحِ سلبتُها جرياً لها
وتكون من سبأتُ الجلد إذا سلخته بالنار، وانسبأ الجلد انسلخ، كأن الشمس والنار طبختها فصفّتها من أوشابها وأدرانها، وأُخرجت بالعصر من قشورها. قال أبو الشيص:
طبخَتْها الشِّعرى العبورُ وحثّتْ ... نارَها بالظهائرِ الجوزاءُ
المُشَعْشَعة
يقال شعشعتُ الخمرَ أي مزجتها كأنها ترقّ بالمزج، فشبهت بالشعاع في دقته. والشعاع الطويل. يقال: عنقٌ شعشاعٌ وشعشعان أي طويل.
وأنشد الخليل في كتاب العين:
في شَعشعانٍ عُنُقٍ يَمخورِ
وقال الراجز، أنشده الأصمعي في الأبيات:
لا عيشَ إلا كلُّ صهباء عقلْ ... تناولَ الحوضَ إذا الحوضُ شُغلْ
بشَعشعانيٍّ صُهابي هدلْ ... ومنكباها خلفَ أوراكِ الإبلْ
وقال الراجز:
بكلٍ شعشاعٍ كجذعِ المزدرعْ ... فيلقُها أجردُ كالرمحِ الضَّلِعْ
وقال عمرو بن كلثوم:
مشعشعةٌ كأنَّ الحصَّ فيها ... إذا ما الماءُ خالطَها سَخينا
الصِّرف
اشتقاقها من شيئين، أحدها لشدة حُمرتها شبهت بالصِّرف، وهو صبغ أحمر تُصبغ به الجلود، قال كلحبة:
كُميتٌ غيرُ مُحلفةٍ ولكنْ ... كلونِ الصِّرفِ علَّ بهِ الأديمُ
وقال حبيب:
قدْ صرّفَ الراؤونَ حُمرةَ خدِّهِ ... وأظنُّها بالريقِ منهُ ستُقطبُ
أي حمّروها بالنظر. والوجه الثاني أن
الصرف
الخالص من شيء. يقال كذب صِرف أي خالص، كأنها خالصة من الماء والمزج. قال الخليع:
سكرَ الشيخُ مُعرِّفْ ... فاسقِهِ الكأسَ وصَرِّفْ
لا يروعنكَ من المج ... دورِ وجهٌ مُتحشِّفْ
إنَّ في مأكمتهْ ... متعةً للمُتعفِفْ
صرّف: أي اسقه صرفاً بلا مزاج يُسرع السكر إليه.
المُزَّة
سميت لطعمها، والمَزازة طعم من الحلو والحامض، وتكون من المِزّ وهو الفضل. تقول: هذا أمزُّ من هذا أي أفضل منه كأنها لفضلها على سائر الأشربة سميت بذلك. وضُم أولها لأنها فُعلة وهو ما يأخذه الشارب من الشراب المُزّ مثل الفُرقة وهو ما يحمله الفارق، والجُرعة وهو ما يجترعه الرجل من الماء.
المُزّاء

هو فُعّال من المِزّ وهو بناء المبالغة مثل حُسّان وكُرّام، والهمزة التي فيه زائدة لإرادة بناء فُعّال كوُضّاء وقُرّاء. والهمزات التي تقع آخر الكلام أربع: همزة أصلية كهمزة قُرّاء وأجزاء، وهمزة منقلبة عن ياء مثل همزة رداء بدلالة أنك تقول هو حسن الرِّدْية، وهمزة منقلبة عن واو مثل همزة كساء بدلالة أنك تقول هو حسن الكسوة وهمزة لإلحاق بناء ببناء مثل حرباء وعَلباء ألحقتا ببناء سِربال. قال الأخطل:
بِئسَ الصُّحاةُ وبئسَ الشَّربُ شَرْبُهمُ ... إذا جرى فيهمُ المُزاءُ والسُّكرُ
العُقار
اشتقاقها من شيئين. قال الأصمعي من عُقْرِ الحوض وهو مقام الشاربة التي تلزمه، كأنها عاقرت الدن أي لازمته، ويقال ناقة عَقِرة إذا كانت لا تشرب إلا من ذلك الموضع قال امرؤ القيس:
فرماها في فرائِصِها ... بإزاءِ الحوضِ أو عُقُرِهْ
ويكون من العَقر وهو القطع. يقال عقرتُ الفرس فهو عَقير، ومنه امرأة عاقر لانقطاعها من الولاد، وعواقر النساء، وهو في الإبل: مصرّمات النوق. كأنها تعقر شاربيها بالسُّكر.
قال أبو الشيص:
عُقارٌ عوقرتْ في كأ ... سِها خوفاً من العقرِ
وقال أبو نواس:
تأخذُنا تارةً ونأخذُها ... فنحنُ فرسانُها وصَرعاها
والعَقاراء على فَعالاء اسم موضع، وليس من العُقار في شيء. وأنشد أبو الحسن الأعرابي لحميد بن ثور:
رَكودُ الحُميّا طَلّةٌ شابَ ماءَها ... بها من عَقاراء الكرومِ رَبيبُ
وبيضة العُقر آخر البيض ثم ينقطع. وقالوا: بيضة العُقر بيضةٌ يبيضها الديك في آخر عمره. قال بشار:
قدْ زُرتِنا زورةً في الدهرِ واحدةً ... باللهِ لا تجعليها بيضةَ الدِّيكِ
وقال أبو نعامة:
فديتُكَ في دبرهِ نَهيكُ ... وكان فيما مضى ينيكُ
فلا تعجبْ لذاكَ منهُ ... فربّما باضتِ الديوكُ
وهو القائل:
ما للبغيضِ سِنانٍ ... وللظباءِ المِلاحِ
أليسَ زانٍ خصيّ ... عاد بغير سلاحِ
وهو القائل:
دنيا دنتْ من جاهلٍ ونأتْ ... عن كلِّ ذي أدبٍ لهُ حجرُ
سلَحتْ على أربابِها حتى إذا ... وصلتْ إليَّ أصابَها الحَصرُ
والمتنبي ينظر إليه في قوله:
أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبتهِ ... فسرَّهمْ وأتيناهُ على الهرَمِ
الخَمْطة
هي الحامضة، يقال خمِطَ اللبن إذا أخذ شيئاً من الريح. قال الهذلي:
كُميتٌ كلونِ الصِّرفِ ليستْ بخَمطةٍ ... ولا خَلّةٍ يكوي الشُّروبَ شِهابُها
والخمط ضرب من الأراك يؤكل فيلذعُ اللسان، وخمطتُ اللحم خمطاً وهو خَميط، إذا شويته حتى يبس. والحِمطيط ما تكرر لام الفعل منه. قال المتلمس:
إني كأني أبو قابوسَ مُرفلَةً ... كأنّها سَلخُ أبكارِ المخاريطِ
كأنَّ ألوانَها والشمسُ ماتعةٌ ... عندَ الغزالةِ ألوانُ الحماطيطِ

المصطار
هو مُفْتَعل من صار، وخروج الشيء من حال. تقول: صار الطين خزفاً فكأنها صارت إلى حموضتها عن خمريتها، وانصار الشيء أي مال، قال العجاج:
وكفَلٍ ينصار لانصيارها ... على اليمينِ وعلى يسارِها
وصرتُ الشيءَ وأصرتُه أي عطفْتُه. قال الشاعر:
أُجشّمها مفاوزَهُنَّ حتى ... أصارَ سَديسَها مَسَدٌ مَريجُ
والأصوَر المائل العنق، كذا قال أبو الرمة:
على أنّني في كلِّ سيرٍ أسيرُهُ ... وفي نظري منْ نحوِ أرضِك أَصْوَرُ
وذكر الحسن البصري رحمه الله العلماء فقال: تنعطف عليهم بالعلم قلوب لا تصورُها الأرحام أي لا تميلها. وقال المحدث البندنيجي:
هي الجآذرُ إلاّ أنها حُورُ ... كأنها صُورٌ لكنَّها صُورُ
صُرتُ الشيء وصوّرته أي قطعته بضرب من التقدير، ومثله النبلة الحجر الذي ينتبله الرجل من الأرض للاستنجاء. وفي الحديث: " اتقوا الملاعن وأعدوّ النَّبَل " . وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: " فَصُرْهُنَّ إليك " أي اقطعهن، واحتج بقول الخنساء:
.............. ... لظلّتِ الشُّمُّ منها وهي تَنصارُ
وفي صفات الله عز وجل المُصوِّر، وهو مثل الخالق لأن الخلق تقدير الشيء للمقطع.
قال زهير:
ولأنتَ تفري ما قدرتَ وبع ... ضُ القومِ يخلقُ ثم لا يَفري
وقال ابن هرمة:

ولا يَئِطُّ بأيدي الخالقينَ ولا ... أيدي الخوالقِ إلاّ جيّدُ الأدمِ
وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى في الأبيات:
وقد أزرى الخوالقُ بالفواري ... وقدْ وقعَ الغبوقُ على الصَّبوحِ
وأمّا مصطار فإن أصله مُصَتيَّر فقُلبت تاء مفتعل طاء، لأن التاء لينة المخرج، فلم توافق الصاد لشدة مخرجها، وأُبدلت طاءً فاتفقا، وكان أخف على اللسان، وأعذب في اللفظ، وللصاد أخوات يتغير بناء الأفعال عندها، وهن الدال والذال والطاء والزاي. وهن في الصلابة والإشباع كالصاد، ومثله مُصطَبر، وأصله مُصْتَبَر ومُطَّلَب مثله. فإذا خلا الحرف من هذه الحروف بقي على حاله مثل مستار، أصله مُستَيرٌ. قال أبو وجزة:
أشكو إلى الله العزيزِ الجبارْ ... ثمَّ إليكَ اليومَ بُعدَ المُستارْ
وحاجةَ الحيِّ وقطَّ الأسعارْ
واخترت الشيء فهو مُختار وأنا مختار، ويتبين الفاعل من المفعول بقرينة، قال الراجز:
بحسبِ مُجتلِّ الإماءِ الخُرَّمِ
هو مُجْتَلِلل، من اجتلَّ البعر أي لقطه، فأدغم إحدى اللامَين في الأخرى؛ وقال في المُصطار وتحوِّلها إلى الحموضة: عفص
سقَوْني من المُصطارِ كأساً نَسيمُها ... عصارةُ خَرنوبٍ ومشربُها عَفصُ
وتصغير المصطار مُصيِّر لأن الحرف خماسي بزيادتين، وهما الميم والطاء المنقلبة عن التاء، فاحتجتَ أن تحذف حرفاً لتخف فكانت التاء أولى بالحذف لأن الميم يدل على معنى، وما تكافأ الزيادتان فيه فأنت بالخيار في حذف أيهما شئت. يقال في تصغير حَبَنْطى وهو من خُرِط بطنُه، حُبَيْط وحُبَيْنط.

الإسفنط
أخبرني أبو الفتح عثمان بن جني إفْعَنْل من السفَط وهو الرائحة الطيبة، وقال: إن كان عربياً فهو من فوائت الكتاب مثل ما ذكره أبو إسحق الزجاج كدُرداقِس وهَنْدَلِع وشَمَنْصير، وإن كان أعجمياً فلا شيء على سيبويه.
في شعر القدماء قال الأعشى:
وكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإس ... فنطِ ممزوجةٌ بماءٍ زُلالِ
المُصَفَّق
يقال صفقتُ الشراب أي مزجته، وأصل الصفْق وقعُ الشيء على شيء، ومنه الصفقة ضرب اليد على اليد. وفي الحديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء " ويقال أصفقتَ الغنمَ إذا لم تحلبها في اليوم والليلة إلا مرةً وهي الوجبة.
المَقَدِّي
هو ضرب من الأشربة بتشديد الدال والياء.
قال عمرو بن معد يكرب:
.............. ... وهمْ شَغلوهُ عن شُربِ المقدّي
وأصله من قَدِيَ الطعام يَقدى قَدىً وقَداوةً إذا كان طيب الريح، وقدرٌ قَديَّةٌ إذا كانت طيبة الريح، وأتانا قاديةٌ من الناس، وهم أول من يطرأ عليك. والقِنداوة الجريء الصدر، ويقال: بيني وبينه قِدى رمح وقيد رمح أي قدره.
قال الشاعر:
وإنّي إذا ما الموتُ لمْ يكُ دونَهُ ... قِدى الرمحِ أحمي الأنفَ أنْ أتأخرا
العرَق
هو الممزوج قليلاً مثل العِرق. يقال فيه عِرقٌ من الماء ليس يكثر؛ ومنه العَرَقة الطُّرّة تُنسج على جوانب الفسطاط؛ وجرى الفرس عرَقاً أو عرَقتين أي طلقاً؛ والعرَقة الخشبة تُعرض على الحائط بين اللَّبِن. ولهذا وجه آخر من الاشتقاق وهو العراق، وهو جلد يُجعل أسفل القربة متثنياً ثم يُخرز، كأن المزاج باشر أعلاها قليلاً. وسميت العراق لانخفاضها عن أرض نجد قليلاً؛ وقالوا من كثرة عروق الشجر فيها، قال الهذلي:
نغدو ونتركُ في المزاحفِ منْ ثَوى ... ونُمرُّ في العَرَقاتِ منْ لم يُقتَلِ
أي نأسرهم بالحبال. وقال الطائي:
وندمانٍ يزيدُ الكأسَ طيباً ... سقيتُ وقدْ تغوّرتِ النجومُ
رفعتُ برأسِهِ وكشفتُ عنهُ ... بمُعرَقةٍ مَلامةَ منْ يلومُ
الجِرْيال
قال الأصمعي الحمرة. قال الأعشى:
إذا جُرّدتْ يوماً حسِبتُ خميصةً ... عليها وجريالَ النضيرِ الدُّلامِصا
وهي فِعيال من الجرَل. يقال أرضٌ جَرِلة فيها حجارة غليظة. والجراوِل الحجارة واحدتها جَرْوَلة. قال جرير:
مِن كل مُشْتَرِفٍ وإنْ بَعُدَ المدى ... ضَرِمِ الرقاقِ مُنافِرِ الأجرالِ
ومثاله من العربية الكِرياس وهو الكنيف من أعلى السطح، والشِّرياف ورق الزرع إذا طال وكثر حتى يُخاف فساده. والدِّرياق لغة في التِّرياق وأمّ سِرياح من أسماء النساء.
قال الشاعر:

إذا أمُّ سِرْياحٍ غدَتْ في ظعائنٍ ... جوالسَ نجداً فاضَتِ العينُ تدمَعُ
وقال بعض العلماء في قول الأعشى:
وسبيئةٍ مما تُعتّقُ بابلٌ ... كدمِ الغزالِ سلبتُها جِريالَها
أي شربتُها حمراء وبُلتها صفراء بيضاء. وإنما الشعراء الذي ذكروا منازعة الشرب حُمرة الخمر عبروا عن مواقعها في العين والوجه. قال أبو ذؤيب، وقيل لأبي نواس:
ترى شَربها حُمرَ الحِداقِ كأنّهم ... أُسارى إذا ما سارَ فيهمْ سُوارُها
وقال أبو نواس وقيل لأبي ذؤيب:
ترى وجوهَهم حمراً إذا شرِبوا ... العينُ تلمعُ كالبيضِ المَصاليتِ
وقال مسلم بن الوليد:
خلَطْنا دماً منْ كرمةٍ بدمائِنا ... فأظهرَ في الألوانِ منّا الدمَ الدمُ
وقال ابن الرومي وقيل لعبد الصمد:
يُنازعُها الخدُّ جِريالَها ... فتُهديهِ للعينِ يومَ الخُمارِ
عبد الصمد بن المعذل:
بدا فكأنّهُ قمرٌ ... على أزرارِهِ طَلَعا
وقد خلعتْ عليه الخمرُ من أثوابِها خِلَعا
وقال أبو نواس:
كأسٌ إذا انحدرَتْ في حلْقِ شاربِها ... رأيتَ حُمرتَها في العينِ والخدِّ
وقال الحسن بن وهب:
وردةُ اللونِ في خدودِ النَّدامى ... وهيَ صفراءُ في خدودِ الكؤوسِ
وقال ابن الرومي:
هي الورسُ في بيضِ الكؤوسِ وإنْ بدَتْ ... لعينَيْكَ في بيضِ الوجوهِ فَعندَمُ
السُّخامية
قال أبو عمرو:

السخامية
هي اللينة في الحلْق، السهلة المساغ. يقال: ريش سُخام أي لين. قال جندل:
كأنّهُ بالصحصانِ الأنجلِ ... قُطنٌ سُخامٌ بأيادي غُزَّلِ
ويقال شعر سُخام أي لين، ويقال أسود مأخوذ من السُّخام وهو الفحم يقال: سَخَّم الله وجه أي سوّده. وقول جندل قطن سُخام بأيادي غُزل يريد ها هنا اللين. وأياد جمع يد لم أسمع إلا في هذا البيت، وبيت آخر لعدي بن زيد:
ساءَها ما تأمَّلَتْ في أيادينا ... .......
وقال عوف:
كأنّي اصطحبتُ سُخاميّةً ... تفسّأ بالمرءِ صِرفاً عُقارا
ومثل السخامية في العربية اللُّباخية للمرأة، والخُدارية للعُقاب، والصُّفارية طير، والجُمالية للناقة.
الخُرطوم
قال الأصمعي
الخرطوم
أول ما يسيل منها كالخرطوم في إسالتِه واسترساله. وقال الخليل في السَبَطانة إنها على فَعَلانة لاسترسالها وسبوطتها من الشَّعر.
وقال ذو الرمة:
كأنه في الضحى ترمي الصعيدَ بهِ ... دبّابةٌ في عظامِ الرأسِ خُرطومُ
وسمعت بعض أهل العلم يقول في قوله عز وجل: " سنَسِمُهُ على الخُرطوم " سنعاقبه على شرب الخمر، وأما في كتب التفسير فإنه يسمه على الأنف، وخصّه بذلك لأنه معظم جمال الوجه، فالنكال به أشنع، وعليه أظهر وأشهر. ومن كلام العرب: نضّر الله وجهه، وهذا ما كسبت يداك. وقول ذي الرمة في الخرطوم من صواب التشبيهات:
كأنَّ أنوفَ الطيرِ في عَرَصاتِها ... خراطيمُ أقلامٍ تَخُطُّ وتَعجُمُ
الكُمَيْت والكُمتَة
قال أبو عمرو الشيباني: سميت كميتاً للونها. والكُمتة بين السواد والشقرة. يقال فرس كميت للذكر والأنثى، والتصغير الذي في كميت تصغير تقريب لأن عرفه وذنَبَه أسودان فقرب بينهما كقول أوس:
دانٍ مُسفُّ فُويقَ الأرضِ هَيدبُهُ ... يكادُ يدفعُهُ مَنْ قامَ بالراحِ
أراد تقريب المسافة. ومثله قول الشاعر:
صفحتُ بنظرةٍ فرأيتُ منها ... تُحيتُ الخِدرِ واضعةَ القِرامِ
وقال الشاعر في ذكر الكميت:
وكمْ منْ مُوعِدٍ لي ليسَ يدري ... ألونُ الوردِ جلدي أمْ كُميتُ
أي يتهددني من بعيد، ولا يتجرأ على الدنو مني فيتأمل حقيقة لوني. قال النابغة:
وما حاولتُما بقيادِ خيلٍ ... يُصانُ الوردُ منها والكُميتُ
وقال أعرابي:
أُرجِّلُ جُمّتي وأجرُّ ثوبي ... وتحملُ شِيّتي أفقٌ كُميتُ
أُمشّي في سراةِ بني عُطيفِ ... إذا ما رابَني أمرٌ أبيتُ
الصهباء

قال الأصمعي تكون من عنب أبيض، فلا تكون قانية الحمرة إنما يشوبها بياض؛ وصهباء صفة في الأصل لا تنصرف في معرفة ولا نكرة لأنها بُنيت على حرف التأنيث، وصارت العلة تقوم مقام علتين فزالت عن حد التمكُّن؛ وحد التمكن الذي يستحق به الاسمُ الصرفَ أن يدل على ما تحته من النوع ثم خروجه عن هذه الشريطة على أنحاء شتى، منه التعريف والعجمة والصفة والعدل والجمع الذي لا مثال له في الواحد، وأن تجعل الاسمين اسماً واحداً، والتأنيث لغير فرق، وزيادة الألف والنون في آخره. فمتى كان في الاسم منها اثنان، أو تكرر واحد فيه مُنع الصرف. والصُّهبة في الشعر حُمرة يخالطها بياض، ورجل أصهب، ورجال صُهْب. فإن جعلت الصهباء اسماً لمسمى جمعتَه على صَهباوات، وفي المذكّر أُصاهب كحدراء وحدراوات، وأحمد وأحامد. وقالت العرب في صفات على هذه البنية ما قلنا. وذهبت بها مذاهب الأسماء لا الصفات. قالوا في أدهم وهو القيد أداهم، وفي أبطح أباطح كأنهم لما دلت على ذات الشيء أجروها مُجرى الأسماء. قال الشاعر:
أوعدَني بالسجنِ والأداهم ... رِجلي ورِجلي شَثنَةُ المَناسِمِ
وقالوا في أبرق أبارق، وهو صفة، وأنشد الأصمعي لابن الطثرية:
قِفا نَثنِ أعناقَ الهوى بمُرنَّةٍ ... جنوبٍ تُداوي غِلَّ شوقٍ مُماطلِ
بمنحدرٍ منْ فرعِ برقاءَ حّطَّهُ ... مخافةُ بينٍ من خليطٍ مُزايلِ
وقال الأعشى:
وصهباءَ طافَ يهوديُّها ... وصلى على دنّها وارتسمْ
صلى دعا، وقد انتقل بالشرع إلى هذه الأفعال المخصوصة، وانتقال الكلام من ثلاثة أوجه مثلما انتقل من وضع إلى وضع كقولهم وَذْرٌ ووَدْعٌ استغنوا عنه بترك.
وأنشد الجاحظ في كتاب الحيوان:
ومُركِضةٍ صريحيٍّ أبوها ... يهانُ بها الغلامةُ والغُلامُ
وحُكي أن يونس بن حبيب قال: هذا من الكلام المتروك، استُغني بالغلامة عن الجارية، ومنه ما انتقل من وضَعٍ إلى شرع كالصلاة والزكاة والحج. ومنه ما انتقل من وضع إلى عُرف كالدابّة تقع على كل ما يدب على ظهر الأرض، ثم انتقل بالعُرف إلى هذه البهيمة المركوبة حتى لا يعقل بمجرد اللفظ غيرها.
السَّلسل
قال الأصمعي هي السهلة في الحلق. يقال ماء سلسل أي سهل الممر في اللهوات. قال أوس بن حجر:
وأَشرَنيهِ الهالكيُّ كأنّهُ ... غديرٌ جرتْ في مَننهِ الريحُ سلسلٌ
و

السلسل
الماء جرى في صبب، وتسلسل الماء في الحلق. وكان أصل سلسل في التقدير سلَّل فأبدل من إحدى اللامات سيناً فرقاً بين فَعلل وفَعَّل، وإنما أُبدل سيناً دون سائر الحروف لأنه ليس فيه إلا سين ولام مضعّفة فجعلوا السين سينَيْن فاعتدل الحرف بسين مرتين، وهذا الحكم في الأسماء والأفعال واحد. وكذلك تململ أصله تمَلَّل فجعلوا بين اللامَيْن ميماً تعديلاً وتخفيفاً، وفي الأسماء كَبكبٌ وسَبسبٌ وعَرعر وهو كثير، وفَدفد. قال الأصمعي: السُّلاسل الماء السهل في الحلق. قال أبو عبيد: السَّلاسل رمل ينعقد بعضه على بعض، وبه سُميت السِّلسلة وقال أبو عبادة:
سَقاني القهوةَ السَّلسلْ ... شبيهُ الرَّشأ الأكحَلْ
مَزجْتُ الراحَ منْ فيهِ ... بمثلِ الراحِ أوْ أفضَلْ
عذيري مِن تثنّيهِ ... إذا أدبرَ أوْ أقبَلْ
ومِنْ وَردٍ بخدّيْهِ ... إذا جَمّشتُهُ يخجَلْ
السَّلسال
هي في معنى السلسل، ولكنهم أشبعوا فتحة السين فجعلوها ألفاً، وهو فَعْلاء؛ لمثل ذلك قالوا الكلكل ثم أشبعوا فتحة الكاف فجعلوها ألفاً، فقالوا: كَلكال. أنشد سيبويه:
......... ... أقول إذا خرَّتْ على الكَلْكالِ
وكذلك قول عنترة:
ينباعُ منْ ذي غضوبٍ جَسرةٍ ... زيّافةٍ مثلِ الفنيقِ المُكْدَمِ
وأراد ينبع فأشبع فتحة الباء فجعلها ألفاً. وقال بعضهم: هو من انباع كقول الآخر:
يجمعُ حِلماً وأناةً معاً ... ثُمتَ ينباعُ انبياعَ الشجاعِ
سمعت أبا علي الفارسي بحلب يقول في بيت ابن هَرْمة:
وكنتَ من المعائبِ حين تُرمى ... ومن ذمِّ الرجالِ بمُنتزاحِ
أراد بمنتزح فأشبع الفتحة فجعلها ألفاً. ويُشبعون الضمة فيجعلونها واواً وأنشد:
وإنني حيثما يَثني الهوى بَصري ... من حَوْثما سلكوا أدنو فأنظورُ
ويُشبعون الكسرة فيجعلونها ياء، وأنشد:

لمّا نزلْنا نَصَبْنا ظِلَّ أخبيةٍ ... وفارَ للقومِ باللحمِ المراجيلُ
السُّلافة
قال الأصمعي هي فُعالة، والعرب تضعها على ما يفضُل من الشيء ويؤخذ منه، كالمُجاجة لما يُمَجّ، والنُّقاوة لما يُنتقى، والسُّلافة لما يُسلف ويُقدّم من الخمر أولاً سيلاناً، كما أن الفِعالة نضعها لما يشتمل على الشيء كالعِمامة لاشتمالها على الرأس، والغِشاوة لإحاطتها بالعين، والولاية، وهو كثير. والسُّلْفة أول ما يصل إلى الفم من الطعام، والسَّلَف ما تقدّم من ثمن المبتاع، وناقةٌ سَلوف تكون أول الإبل، والسُّلاف مقدمة الجيش، وأنشد الأصمعي:
يُعقِّدُ سِحرَ البابلينَ طرفُها ... مِراراً ويسقينا سُلافاً منَ الخمرِ
كما نشأتْ في الصيفِ مُزنةُ صيِّفٍ ... فضمَّنَتِ الأكوارَ باقيةَ النشْرِ
يعقّد من عُقد السحر. قال حبيب:
.......... ... والنافثاتُ في عُقَدِهْ
النفْث التفل في عقد السحر. قال أبو نواس:
أطوفُ بدارِكْم في كلِّ يومٍ ... كأنَّ بدارِكم خُلقَ الطَّوافُ
ولولا حبُّكمْ للَزِمْتُ بيتي ... ففي بيتي لي الراحُ السُّلافُ
الزَّرَجون
قال أبو عبيد:

الزرجون
الخمر، وقالوا شجرتها، وقيل هو فارسي معرب وهو زَرْكون أي لون الذهب، ومثاله فَعَلول وبَرَهوت وادٍ فيه أرواح الكفار، وقَرَبوس السرج، والحَلَزون دابة في الرمث، والعَرَبون الزَّرَبون. وأما عَسَطوس الذي ذكره الخليل في شواذ الأبنية كطوبالة فليس من قبيل ما ذكرناه. وقال المأمون:
ذهبٌ في ذهبٍ يس ... عى بها غصنُ لُجينِ
فأتتْ قرّةَ عينٍ ... في يَدْ قرّةِ عينِ
قمرٌ يحملُ شمساً ... مرحباً بالزاهرَيْنِ
مرحباً بالراحِ والر ... يحانِ والرائحتين
العانِيَّة
منسوبة إلى عانات. قال أبو نواس:
........... ... من خمرِ قُطْرَبُّلٍ أو خمرِ عاناتِ
والنسبة إلى كل جمعٍ أن يُرد إلى واحده، ثم ينسب. تقول في الفرائض فَرضيّ، وفي البنات بَنَوي، وفي الصبيان صَبَوي، وإلى عانات عانيِّ، وإلى أذرِعات أذْرَعيّ، وكذلك النسبة إلى كل جمع في آخره ألف وتاء، أو واو ونون بحذف آخره. تقول في النسبة إلى مسلمين مُسلميٍّ، وأنشد أبو العباس:
إنكِ لو صاحبْتِ في المطيِّ ... لكانَ أدنى عيشِكِ الرّخيِّ
أنْ تدلكي الوجهَ بأذرَعيِّ
يخاطب امرأته يقول: لو كنت على المطي لكان أرخى عيش لك أن تنعسي نعاساً، وتستيقظي منه على رحلك الأذرعي فتدلكي به وجهك. وكذلك إلى نسبت إلى المثنى، تقول في مُسلمَيْن مُسلميٌّ، وكذلك إن جعلت الجمع والمثنى اسماً لواحداً؛ لو سميت الرجل بقولك الزيدون فقلت هذا زيديٌّ، وفي رامتين راميّ، وفي فلسطين ويبرين فِلسطيّ ويبريّ. وعلى هذا مذهب من يقول فلسطون ويبرون، فإنما أسقطوا أواخرها لأنها زيادة وقعت بمعنى فاستُغني عنها في النسب. ومع هذا لو أثبتّ لكان في الاسم رفعان ونصبان إذا قلت قلسطونيّ ويبرونيّ، وكذلك في النصب والخفض، وكما حذفوا هاء التأنيث استغناءً عنها في النسب فقالوا كوفيّ وبصريّ، وقالوا في حذف هذه الهاء إنها تجيء للتوحيد، تقول تمرة وتمر، وياء النسب تجيء للتوحيد فحذفت الهاء لئلا يجتمع حرفا معنىً بمعنىً. تقول: العربُ والعَرَك، فإذا وحّدته تقول عربيّ وعَرَكيّ، وشددوا ياء النسب فرقاً بينها وبين ياء الإضافة، وكان التخفيف أولى بها لأن التخفيف على حرف واحد، فلو شددوها لكان خلافاً. والعاني الأسير، فكأن الخمر عُنّيت أي حُبست. قال الهذلي:
............. ... وعَنَّتْها الزقاقُ وقارُها
وقال أبو نواس:
وبينا تراها في الندامى أسيرةً ... إذا قد سرَتْ فيهم فصاروا لها أسرى
وبيت أبي تمام مثله، وهو من ذوات المعاني:
وضعيفةٍ فإذا أصابتْ فرصةً ... قُتلتْ، كذلك قُدرةُ الضعفاءِ
والعَنِيّة أخلاط تُنقع في أبوال الإبل، وتُترك حيناً يُطلى بها الإبل من الجرب. قال أوس:
كأنَّ كُحَيْلاً مُعْقَداً أو عَنِيّةً ... على رَجْعِ ذِكراها من الليتِ واكِفُ

وقال الشعبي: " لأن أتعنّى بعَنِيّةٍ أحب إلي من أن أقول في مسألة برأي " ويقال للرجل إذا كان جيد الرأي: عَنِيَّتُهُ تشفي الجرب، والمُعَنّى الفحل المحبوس في العُنّة.
قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
قطعتَ الدهرَ كالسَّدِم المُعنّى ... تهدَّرُ في دمشقَ فما تَريمُ
ويقال لم تَعْنِ بلادُنا شيئاً، أي لم تنبت، وعنتِ الأرض أنبتت.
الماذِيَة
قال بعضهم هي السهلة في الحلق. ودرع مادية أي ليّنة سهلة، وهذا قول الأصمعي في كتاب السلاح. وهم يصفون الدروع باللين في السرد، وسهولة الحجم لتضأل في طيّها وتخف في حجمها.
قال امرؤ القيس:
تفيضُ على المرءِ أردانُها ... كفيضِ الأتيِّ على الجَدجدِ
وقال أبو عمرو الشيباني: الدرع الماذيّة البيضاء، ومنها قالوا: عسلٌ ماذِي أبيضُ بكثرة الرونق وشدة البريق واللألاء والصفاء. قال أعرابي:
مُدَّرِعاً لأمةً مُضاعفةً ... كالنهيِ وفّي سِرارَهُ الرَّهَمُ
والنهي إذا امتلأ وتحيّر الماء ضربته الريحُ فجابت أقذاءه وصفّت أرجاءه. قال:
وسابغةٍ من جيادِ الدرو ... عِ تسمعُ للسيفِ فيها صَليلا
كمتنِ الغديرِ زهَتْهُ الدَّبورُ ... يجرُّ المدجّجُ منها فُضولا
وأنشد أبو تمام في القبائل للعرب:
علينا دِلاصٌ من تراثٍ محرّقٍ ... كلونِ السماءِ تحاكي نُجوما
شبّه حمالة الدرع بلون السماء، ومساميرها التي تشد الحلقَ بالنجوم وهي القتير فتكون كقول الهجيمي أنشده الأصمعي:
وعليَّ سابغةٌ كأنَّ قتيرَها ... حَدَقُ الأساودِ لونُها كالمِجولِ
ومنه المذيّ وهو ما يخرج من ماء الصُّلب لسهولة مخرجه أو بياضه. يقال مَذى. ومن أمثالهم: كلّ ذكَرٍ يمذي وكل أنثى تَقْذي. كما أن الوَدْي من وَدى أي سال، ومنه الوادي، وإذا أُخذت

الماذية
من لون بياض الدرع كالصهباء، وإذا أخذت من السهولة كانت كقول القائل:
فتجري ما تُحِسَّ لها حَسيساً ... إذا مرَّتْ بمُزْدَرِد البُصاقِ
وتشديد الماذيّة والسخاميّة كالخُرْثيّ والبُجْريّ للداهية، والعُبْريّ لما نبت على شط النهر من السّدر؛ والجُلذيّ: الشديد من الإبل.
الشَّموس
قال
الشموس
فَعال من شِماس الدابة ونَفارها، لأنها تشمس بشاربها، وتحدث فيه الطيش والزهو والخفة والنزق. قال بشار:
هاتِها كالشُّواظِ تجمحُ في الرأ ... سِ جِماحَ الحصانِ حدَّ الشَّموسِ
ويجوز أن تكون سُميت شموساً لشماسها من مزاج الماء. قال أبو نواس:
وكأنَّ فيها من جنادبِها ... فرَساً إذا سكّنتَهُ رَمَحا
وقال أيضاً:
بينَ المُدامِ وبينَ الماءِ شَحناءُ ... تنقدُّ غيظاً إذا ما مسّها الماءُ
ومنه الشمس لأن الأبصار تشمس عنها. وقال الأصمعي:
ومَولىً كأنَّ الشمسَ بيني وبينهُ ... إذا ما التقَيْنا لستُ ممنْ أعاتبُهْ
وهذا من الشعر الذي جاد لفظه ومعناه. وقال عنترة:
إذا أبصرتِني أعرضتِ عنّي ... كأنَّ الشمسَ من قِبلي تَدورُ
ومنه أخذ المتنبي وفيه سوء عبارة:
كأنَّ شُعاعَ عينِ الشمسِ فيهِ ... ففي أبصارِنا عنه انكسارُ
وقال الحِمّانيّ فبالغ وجعلَ العيون رُمْداً لشدة صدودها:
كما صُدّتْ عن الشمسِ ... سراعاً أعينُ الرُّمدِ
وأَشمسْنا دخلنا في الشمس، وشمَسَ يومُنا إذا كان ذا شمس.
وفي صفة الشَّموس قال لقيط:
جرَّتْ لِما بيننا حبلَ الشموسِ فلا ... يأساً مُبيناً ترى منها ولا طَمعا
وقال مزرّد وهو من أبيات المعاني:
ظلِلْنا نُصادي أُمَّنا عن حَمِيتِها ... كأهلِ الشَّموسِ كلُّهم يتودَّدُ
فجاءتْ بها صفراءَ ذاتَ أسرّةٍ ... تكادُ عليها ربّةُ النَّحْيِ تكمدُ
يريد شمسة طلبها.
وقال النابغة:
شُمسٌ موانعُ كل ليلةِ حُرّةٍ ... يُخلفْن ظنَّ الفاحشِ المغيارِ
تقول العرب للمملّك بامرأته ليلة إهدائها إليه: ليلةٌ شيباء أم ليلة حرّة. فليلة شيباء التي يغلب فيها الزوج المرأة فيطؤها، وليلة حرّة التي تمتنع فيها على الزوج.
وأنشد:
بثُّ في دِرعها وباتَ ضَجيعي ... في بصيرٍ وليلةٍ شيباءِ
البصير الطريقة من الدم، يعني أنه افتضها. وقال الآخر:

وكنتُ كليلةِ الشيباءِ همَّتْ ... بمنعِ الشَّكرِ أتأمها القبيلُ
وفي ذكر الشمس قول الراجز من بديع الشعر:
وقدْ تعاللتُ ذميلَ العنسِ ... بالسَّوطِ في دَيمومةٍ كالتُّرسِ
إذْ عرّجَ الليلُ بروجَ الشمسِ
وقال الآخر:
إنْ سر... عدد ملمّسا ... لو بطحوا الشمسَ لكانتْ أشمُسا
أو حبسوها احتبسَتْ عن المسا
والشمس شيء من حلي العرب. قال ابن ميّادة:
وجيدٍ حُلِيُّ الشَّذرِ منهُنَّ شامِسُ
وقال ابن مناذر:
جاءتْ ترفّل في ثيا ... بِ اسكندرانيةٍ حسانِ
شمسٌ على وجهها شُموسٌ ... تزفُّها أشمسٌ ثمانِ
وليس على قول الصنوبري مزيد على حسنه وإحسانه:
ويومٍ يكللهُ بالشموسِ ... صفاءُ الهوى في صفاءِ الهواءِ
بشمسِ الجنانِ وشمسِ الدنانِ ... وشمسِ القِيانِ وشمسِ السماءِ
الفَيْهَج: قال: الفيهج اسم موضوع غير مشتق، ومثاله حرف واحد يشبهه وهو سَيْهج للريح الشديدة، وهما حرفان، واختلف أولهما؛ بالعكس منهما في اختلاف آخره تَنوّم وتنوّر، وليس لهما ثالث.
قال:
ألا سَقّياني فَيهجاً جَدَريّةً ... بماءِ سحابٍ يسبقُ الحقُّ باطلي
الفيهج الياء والهاء من حروف الزوائد، فإن جعلت الهاءَ أَولى بالزيادة فهو من أفاج الرجل إفاجة إذا أسرع، ومنه الفيج كأنها سُميت بذلك لإسراعها في عقول الشاربين.
قال الشاعر:
الفيجُ علقمةُ الكبريُّ خبّرَنا ... أنَّ الربيعَ أبا مروان قد حضرا
فقلتُ للنفسِ هاتا مُنيةً قدرَتْ ... وقدْ توافقُ بعضُ المنيةِ القدَرا
وتفاجَّت الناقة إذا فجَحت رجليها لتبول. وقيل لأعرابي: تعرف لقاح الناقة؟ قال: أرى العين هاجّاً، والسَّنام راجّاً، وأراها تَفاجَّ كأنها تبول.
الغَرَب
قال:

الغرب
اشتقاقها من شيئين، من الغَرْب وهو الحدّ، يقال سيفٌ دقيق الغرْب أي الحد، والغُراب أيضاً، وفي وصف بعضهم هو أحدُّ غرْباً، وأغربُ سَكباً، كأنها لحدّتها وسَورتها سميت بذلك. والثاني سميت غرباً لغُربتها وغروبها في الخوابي. وأكثر ما تضع العرب الغين والراء والباء على تواري الشيء وغيبته وبعده واستخفائه، ومنه غربت الشمس أي غابت، الغُراب لغُربته عن الناس والعمران، وهم يسمون الذئب والغراب أصرمين لانصرامهما عن الناس، والغرَب الفضة لغيبتها في المعدن. وعلى هذا يكون اسم الخمر فعَلاً بمعنى مفعول أي مُغَربة في الأوعية والخوابي، كالطَّرَح بمعنى المطروح، والقبَض للمال المقبوض، والنفَض للورق المنفوض، كما أن المفعول يقع بمعنى فعَلٍ كقولهم ماله مجلودٌ أي جَلَدْ.
قال جرير:
.............. ... بلغَ العزاءَ وأدركَ المجلودا
ومما يقوي هذا الاشتقاق أن الطاء واللام والعين ضدّه، تصفه العرب بالظهور والبروز وخروج الشيء من حجابه. تقول طلعت الشمس خرجت من حجابها، والطلع طلع النخل لظهوره، ورجل طُلَعة قُبَعة، ومنه طليعة الجيش أول ما يظهر، وطلْعة الإنسان. وطُويلع اسم ماء لطلوعه وظهوره قليلاً قليلاً. قال لبيد:
............كما ... دَعدعَ ساقي الأعاجمِ الغَرَبا
وقال الأعشى:
إذا انكبَّ أزهرُ بينَ السُّقاةِ ... ترامَوْا بهِ غَرَباً أو نُضارا
وتقول العرب هل من مُغرَّبةِ خبَرٍ؟ أي خبر جاء من مكان بعيد.
الحُمَيّا
قال هم تارةً يجعلون الحميّا الخمر كما قال الهجيمي:
ألا رُبَّ ندمانٍ كرامٍ تركتُهم ... بكأسِ الحُمَيَّا بعدَ إغرابِهم عنّا
وتارةً يجعلونها سَورة الخمر، فيقولون سارت فيهم حميّا الكأس، وسميت بذلك لمنعها جانبَها وشدتها. وأصل الكلمة حمي ثم بنوها مصغرة بناء حُبَيْلى حُميّا فأدغموا إحدى الياءين في الأخرى فصارت حميا على وزن ثُريّا، وتكبيرها ثَرْوى وهي المرأة الكثيرة الولد. وسمي الرجل ثروان، والمال الثريّ: الكثير، والثريان المطر وندى الأرض. وقال جرير:

" إني لأدع الرجَز مخافة أن يستفرعني، وإني لأراه كآثار الخيل في اليوم الثري " والحُميا وردت مصغرة كاللجين والكُعيت وتصغيرها تصغير تعظيم لشدتها، وعقرها للشاربين، وسطوها بعقولهم، واشتقاقها يوجب ذلك لأن الحِمى المكان الممنوع، وحَميتُ المريضَ منعته شهوته، ولهذا قالوا حِمىً ومَحْمِيَة، وهو أحمى أنفاً من النمر، وإذا وصف الشاعر الممدوحَ بالشمم فإنه يريد به سيداً ذا أنفة، أخبرني به أبو سعيد السيرافي قراءةً عليه في كتاب الجمهرة عن أبي بكر بن دريد. قال السهمي:
في كفِّهِ خيزرانٌ ريحُه عَبِقٌ ... منْ كفِّ أروعَ في عِرنينه شَمَمُ
وقال المحدث:
أشمُّ طويلُ الساعدَيْنِ كأنّما ... يناطُ نِجادا سيفِهِ بلواءِ
وتقول العرب فلانٌ حامي الحِمى أي مانع لحوزته، والحامي عندهم هو الفحل الذي حمى ظهره من الركوب، فكانوا إذا بلغت إبل أحدهم عدداً ما فقأ لها عين الفحل يريد طرد العين عنها، والغارات والسُّواف. قال:
فقأتُ لها عينَ الفحلِ تَعيُّفاً ... وفيهنَّ رعلاءُ المسامعِ والحادي
أم زنْبَق: قال: العرب توجه الأمومة والأبوة والبنوة لغير المواليد، فيقولون: أم العيال لرئيس القوم، وأم الطريق لمعظمه.
قال كثير:
.............. ... تَخصُّ بهِ أمُّ الطريقِ عيالَها
وأم القرى مكة، قالوا في تفسير قوله تعالى: " النبيُّ الأمّيّ " إنه من أم القرى مكة، والثاني إنه كما ولدته أمه لا يخط ولا يقرأ، وهذا دلالة على بهور معجزته وظهور آيتها، وسلامتها من نوازع الشُّبَه، وخوالج الشكوك وخوالج الظنون، لأن العلم الذي تحدى به العربَ القرآنُ وهو من جنس كلامهم، ونمط خطابهم، ونحت أوضاعهم، ومؤتلف من حروفهم، وهم فرسان الكلام وأمراء النظام، عليهم تهدلت فروعه، وفي خواطرهم تساقطت قطوفه، يرتجزون بالمتْح على الرَّشاء، ويُقصِّدون بالخد في الأرض، ويرتجلون المزدوج بلقط الحصى، ويقتضبون المسجوع بميل العصا، ويتكاثرون بهدل الشفاه، ورحابة الأشداق، وطول العذبات، وسلق الخصم بالألسنة الحداد، والسواعد الشداد، والمفاخرة بالسلاطة واللدد، والذلاقة في اللَّقَن، والمجاراة فيه إلى أبعد أشواطه، وأقصى أطلاقه، جراء المذكِّيات الغِلاب، وأبى سبحانه عليه، صلى الله عليه وسلم، الكتابةَ والخط بالقلم إبراءً لإعلامه، وتنزيهاً لمعجزاته، واستصرافاً للآذان النافرة، واستمالةً للصدور الواغرة لأن صاحب الخط يقيِّد هواجس فكره، وخواطر خلَده بمجاري قلمه، فيكون أقدر على التأليف والوضْع، وأقوى على التصنيف والجمع، وأقهر للعويص الممتنع، والأبيّ المُعتاص، وأمكن من تسخير الألفاظ للنظم، وتذليل الكلِم للرصْف من الأمّيّ الذي هو أعزل اليد من سلاح الكتابة، وعاطلُ البنان من حليّ الخطّ، وإنما يعرف أصداءَ الحروف دون صورها، ويتبين أجرامها سوى أمثلتها، فينشئ خاطرُه، ويخترع فكره الخطاب.

فإذا استمر نسقاً مطّرداً أو سَنناً منتظماً أوهى سلك ما نظم، وحلّ عقد ما ألّف، وعاد في هدم بنائه، وثلْم تأسيسه وأجزائه، فأرسل مرْعيّهُ هملاً، وحلّ معقوده بدداً، فيكون ساقياً مظمئاً ومورداً مُخْمِساً لكثرة شواغله، وزحمة أعدائه التي تفرّق بالَه، وتوزع ذهنه، وتقسم لبّه، من تثمير مال، أو در فتح معيشة، أو دفع مضرة، أو حيازة منفعة، أو كدح على عيال، أو مباراة حاسد، أو مكاثرة عدو، أو منافسة في مكرمة أو منقبة، أو اغتنام محمدة أو مثوبة، أو فرار من سبّ ومذمّة، أو جارٍ يحميه، أو طارق يضيفه، أو أسير يستنقذه، أو شاعر ينتجعه. فإذا كانت الحال كما وصفنا، سليمةً لا تعاب، وخالصة لا تشاب، صار المعجز باهراً ظاهراً، ومالكاً للقلب قاهراً، وقادحاً في العقل العقيم، والطينة اليابسة، والفهم العاقر والحد الكليل، يزيد في اليقين روح الاستبانة، وبرد السكون والاستنامة، وثلج الصدور، وعزَّ المعرفة، وطمأنينة العلم، واستطالة الفهم، وعاد أوضح برهاناً، وأصدع بياناً من أن يترك للمُتعلل تعلّةً، وللمرتاب عُقلةً، وللشاك استرابةً، وهو صلى الله عليه وسلم يتحداهم به مثنىً ووحداناً، ويقرّعهم فُرادى وأشتاتاً، لا يألو جهداً في تسفيه أحلامهم، وتبكيت أصنامهم، يدعوهم إلى أن يأتوا بسورةٍ من مثله، وهم يسمعونه عذب المسموع، سهل الموضوع، باللفظ الجزل، ومُتشابه الرصف، ومُتلاحم أجزاء الأول والآخر واتفاق قرائن الأوسط الطرفين، ينظم أبهة الفخامة إلى رقة الحلاوة، ويجمع رصانة الجزالة، ومهابة الجلالة إلى بهجة الرشاقة، ومحبة القبول ومبادئ خارجةً عن معهود مبادئ القريض المُقَصّد والمسجوع المُرجَّز، والخُطب في الحمالات، وإصلاح ذات البين، والتشبيب بالحاجّات، ومقاطع مفارقة لمألوف مقاطيع الأقاصيع من الطوال في المجامع العظام، والمشاهد الكرام، يزيده مرور الأيام والليالي جدّةً وطراوة، ويكسبه كرور الشهور والأعوام رونقاً وطلاوةً، لا يمجّه السمع، ولا ينبو عنه القلب، ولا يُبليه كثرة الدرس والقراءة، ولا تُخلقه شدة التلاوة والإعادة على ما في الحديث المعاد، والكلام المكرر من الثقل الفادح على الآذان، والأذى المبرح المجحف بالنفوس؛ يقصّ أخبار الأمم السالفة، ويعبّر عن أنباء المِلل، وعقائد النِّحل، ويترجم عن الجلود المتمزقة، والرمم البالية، والمثُلات النازلة، والعبر المنتقمة بخفة حجمه، ويسير جُرمه، مكررةً مرةً بعد أخرى وكأنها لغرابتها مبتدأةً، مرددةً ثانيةً غِبَّ أولى وكأنها لطلاوتها متنكرة؛ فأقرّ جماهيرهم بالعجز خاضعين، وبخع صناديدهم بالاستسلام مذعنين، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر. فارقوا سعة السلم إلى ضنك الحرب، وخرجوا عن التدافع بالقول إلى التدافع بالراح، بل إلى التمانع بالزجاج، إلى التطاعن بأطراف الأسنة والرماح، وأثاروا كامن العداوة، وهيّجوا ساكن التِّرة، وقدحوا بزند القتال وهو صالد، وأذكوا نار الملحمة وهي خامدة، ودعوا بشعارها الهيجاء، وشنوا الغارة الشعواء، وأخلّوا برعي مسارحهم، ووِرد مناهلهم، وإلف داراتهم وخططهم، وخبط أكلائهم ومناجعهم، والاستدراء بأفياء الخيام، والاختباء بأفنية البيوت، والشرب في مجالس العشيّ، والتشاور في ساحة الأندية، واستئمار الأزلام الملمة على المسلمين، يومض البرق ولا يشام، ويصوب القَطر ولا ينتجع، ويكثف المرعى ولا أكولة، ويدعو الشعب ولا رائد، والحمى عورة، والفضاء بلا حجارة الخرصان، وأبواب القِباء خلاء، لا تسدّها قرون الخيل، وهم في فرٍّ لا يُشق غباره، وفي كرٍّ لا يُنادى وليده. يطلب الأخ عند أخيه الثأر المُنيم، ويَجرُم الابنُ إلى قتل أبيه، وفَرْي أوداجه، والولوغ في دمه. مسَّ الطيب وشرب الخمر، ومعاطاة النديم، ويفردُ لمّته، ويشد المآزر دون إتيان النساء، ويترك جمّته السوداء شعثاء، وغسولها المسك والماورد، وقد غسل أصولها بدهن البان والمصون. فهو لابس مع البُردَيْن ثوب المحارب، وغامس يده في عطر مَنْشِمٍ، ومشمر ذيل الراكب بعد أن كان أجوى في الحي رَفِلاً، ومُبسط المشية في اليوم الخِصر، وقد احتجز خدمة سيفه، وخفر فضول لأمته بنجاده، وتنكّب قوسه، واعتقل رمحه، واستجنّ حجفته، وفرط للحصان عنانه في انتهاك حرمة عشيره، وسبي داريَّ حريمه، وغزوه في عقر داره، ويضيعه بالخِسف والصغار، وانتساف الدار. قد اعتاض خُمسَ الإسلام

من مِرباع الجاهلية، واختار الصفايا لرسول رب العالمين دون السيد المعمم، وفضول المقاسم لبيت المال دون سواد المقاتلة، وسَرعان العدي، وفوض أمر الحكم وأمر النشيطة لواضع الشريعة ولبس وقارَ الإيمان ووضع طرفه الأشوس بعبادة الرحمن بعد أن كان غارزاً رأسه، مُصعِّراً خذَّه، يضع سيفه مكان سوطه، وسوطه مكان قوله. هذا والتربة والهواء واحد، وهم فوضى شركاء في النَّعم والأسنان، والأمزجة والبلدان، ومحاني البرق والزادات، والمطاعم والأغذية يحتبلون على الشرائع وينتصبون في القُتَر، ويضربون النيبَ على العراقيب، ويرومون الضبَّ في وَجاره بمرداته، ويأكلون الكُشى بالأكباد، ويدرجون بحيث ينتعل كل شيءٍ ظلَّه، ويستضيف الطائر الضبَّ في وَجاره، بادين نواشر عارينَ أشاجع، وتضمهم الجزيرة التي لا يشقّها بحر، ولا يجتابها نهر، يتحالفون يداً على من سواهم، ويتجاورون حرباً على من عاداهم، والعدد كأعظم ما عُهد توافراً، والحصا والجماجم كأكثر ما يكون تكاثراً. فلما جاء أمر الله وقع البأس بينهم، وتخاذلوا غِبَّ تناصرهم، وتآكلوا بعد تآزرهم، وظهر الحق وهم كارهون، " ويأبى الله إلاّ أنّ يتمَّ نورَه ولو كره الكافرون " فسبحان الجبار القهار الذي تفرد بالقوة القاهرة، والقدرة الغالبة، ووصل خلقه بوهن المعجزة، وضعف المقدرة، الفعال لما يشاء، لا رادَّ لأمره، الحَكّام لما يريد، ولا مُعقِّب لحكمه، جلّ ثناؤه وعزّ سلطانه.
ثم رجع الكلامُ إلى أمّ زنبق؛ وأم الجيش اللواء، وأبو مالك الجوع، قال:
أبو مالك يعتادُنا في الظهائرِ ... يجيءُ فيُلقي رحلَهُ عندَ جابرِ
وأبو يحيى الموت، وأبو البيضاء الحبشيّ، وأبو الجعد الذئب، وأنشد الخليل في كتاب العين: أخشى أبا الجعدِ وأمّ عمرو. والجعدة من أولاد المعز، وسمي الذئب أباه وهو يأكله على سبيل التهكّم، وأبو البيضاء سمّوا به الأسود ليتطيّروا به، وكذلك أبو يحيى وأبو دِثار الكِلّة.
قال الشاعر:
لَنعمَ البيتُ بيتُ أبي دِثارٍ ... إذا ما خافَ بعضُ القومِ بعضا
أي خاف بعضهم قرصَ البعوض. وأبو السريع العرفج لسرعة اشتعال النار فيها.
قال الراجز:
لا تعدلَنَّ بأبي السريعِ ... إذا غدَتْ نَكباءُ بالصقيعِ
وابنة السّرى الناقة، وابنة الدهر وبناتُه حوادثُه، وبنت المِعى البعر. قال الشاعر:
............... ... ومُصَّمغاتٍ من بناتِ مِعاها
وقال الشاعر:
أبنتُ البناتِ عن الأمهاتِ ... ببعضِ السيوفِ تُروّي الصَّدى
أي نحرت الناقة فشققت جوفها، ونثرت الأبعار عن الأمعاء، وقال ابن المعذَّل:
وبنتُ المنيةِ تنتابُني ... هُدوّاً وتطرقُني سُحرةً
وقال المتنبي:
أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ ... فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحامِ

وابنة الجبل الحية، ويقال لها صَمّي صمام، أي لا تجيب الراقي.
وقال امرؤ القيس:
بُدِّلتُ من وائلٍ وكِندةَ عَدْ ... وانَ وفهماً صَمّي ابنةَ الجبلِ
ويقال إن ابنة الجبل الصدى. أنتَ ابنةُ الجبل مهما يُقَلْ تَقُلْ، أي أنت كالصدى كل ما تسمعه تعيده.
وقال أبو عبيدة بنت الجبل الحصاة، ويقال صَمّتْ حصاةٌ بدمٍ، وذلك إذا اشتدت الحرب، كأنه كثر الدم حتى إذا وقعت حصاة فيه لم يسمع لها صوت.
قال الكميت:
وإيّاكمُ إياكُمُ ومُلمةٌ ... يقولُ لها الكانونُ صَمّي ابنةَ الجبلْ
وابن جلاءٍ البارز المكشَّف.
قال القُلاخ:
أنا القُلاخُ بنُ جُنابِ بنِ جلا ... أبو خَناثيرَ أقودُ الجملا
وأما العجّاج فإنه جعله ابنَ أجلى، قال:
بهِ ابنُ أجلى وافقَ الإصحارا
وابنُ السبيل المسافر، وابن قُمير الليلة القمراء، وابن الماء طائر.
قال ذو الرمة:
وردتُ اعتسافاً والثُّريا كأنَّها ... على قمةِ الرأسِ ابنُ ماءٍ مُحَلِّقُ
وأبناءُ سمير الليل والنهار، وابن النعامة خطُّ أسفل القدم.
قال عنترة:
فيكونُ مركبُكِ القَعُودَ ورَحلَهُ ... وابنُ النعامةِ يومَ ذلكَ مَركبي
أي أُؤسر وأُجنَب. وابن جمير الليلة المظلمة السوداء. قال:
وكأني في فحمةِ ابنِ جَميرٍ ... في نقابِ الأسامةِ السَّرداحِ
هذا لص، أي كأنّي في جرأتي على الليل واقتحاميه للتلصص والغارة في جلد أسد. وقال آخر:
نهارُهمُ ليلٌ بَهيمٌ وليلُهمْ ... وإنْ كانَ بدراً فحمةُ ابنِ جَميرِ
هم لصوص يكمنون النهار. وفي ذكر اللصوص هذا البيت ظريف:
نهقَ الحمارُ فقلتُ: أيمنُ طائرِ ... إنَّ الحمارَ من النجاحِ قريبُ
ومن أمثالهم في الابن: ابنُك ابنُ بُوحِكَ يشرب من صَبوحك. وفي البُوح قولان أحدهما أنه الفَرج، والثاني جمع باحة وهي ساحة الدار. ومثله ابنُك من دَميِّ عَقِبَيْك يُخاطب به الطير، أي ابنك من ولدتَه لا من تبنّيته.
وأما أم زنبق في أسماء الخمر فإن العرب تضع الأم تسميةً لمعظم الشيء الذي تأوي إليه أطرافه، كأنها لصفائها سُميت بذلك. وقال بعض الشعراء يصف عينَيْ جارح:
يُقلِّبُ عينينِ في رأسِهِ ... كأنَّهما قطرتا زَنبقِ
لصفائها وطرحها القذى. وزنبقُ النون زائدة، ومثاله فَنْعل. يقال زَبقَ شعرَه يزبق زبقاً إذا نتفه، وزبقتُ الرجلَ إذا حبسته، والزابوقة الحبس. وجندل مثله من الجدل، وهو استحصان الشيء واستحكامه في تداخل أجزائه. ومنه الجَدالة الأرض، والجدل في الكلام منه أيضاً، من الجَدالة وهي الأرض، لأن كل واحد من المتجادلين يجهد أن يجدل صاحبَه أي يصرعه.
الحانِيَّة
قال هي منسوبة إلى الحانة حيث تباع الخمر. قال أبو نواس:
يا رُبَّ صاحبِ حانةٍ نبَّهتُه ... فبعثتُهُ منْ نومةِ المُتزمّلِ
عرفتْ ثيابَ الطارقينَ كلابُهُ ... فيبِتْنَ عن سَنَنِ الطريقِ بمَعزِلِ
وقال:
إلى بيتِ حانٍ لا تُهرُّ كلابُهُ ... عليَّ ولا يُنكرْنَ طولَ ثيابي
وقال علقمة:
كأسٌ عتيقٌ منَ الأعنابِ عتّقَها ... لبعضِ أربابِها حانيّةٌ حومُ
وهو من الحين وهو الوقت يتحيّنها الناس لشربها وابتياعها. يقال تحيّنتُ غفلة الناس، أي طلبت وقت غَرْبِهم، وحنيتُ الشاةَ إذا جعلت لها حلبةً واحدةً في اليوم والليلة كالوجبة.
قال المخبّل:
إذا أُفِنَتْ أروى عيالَك أَفنُها ... وإنْ حنِيَتْ أروى على الوطْبِ حينُها
والحَين الأجل لأنه موقّت بوقت.
الدِّرْياق
قال: سميت الخمر درياقاً لأنها شفاء من داء الغم كما يُتداوى ب

الدرياق
من اللدغ، قال ابن المعتز:
ولقدْ علمتُ بأنَّ شربَ ثلاثة ... ترياقُ همٍّ مُسرعٌ بنجاتي
وقال آخر:
فَعِلّلاني بها صهباءَ صافيةً ... إنَّ الشرابَ لهمِّ النفسِ دَفّاعُ
وقال آخر:
إذا دخلَتْ قلباً ترحَّلَ همُّهُ ... وطابَتْ لهُ دنياهُ واتسعَ الضنكُ
وقال أبو نواس:
صفراءُ لا تنزلُ الأحزانُ ساحتَها ... لو مسَّها حجرٌ مستْهُ سَرّاءُ
وقال أبو سعدٍ المخزومي:
شفاءُ ما ليسَ لهُ شفاءُ ... عذراءُ تختالُ بها عذراءُ
المِزْر

قال: سميت مِزْراً لأنها تُتَمَزَّر، أي تُشرب قليلاً قليلاً، يقال تمَزَّرت الشراب أي توتحته قليلاً. وقال أبو العتاهية:
........... ... اشربِ الخمرَ ولا تُمزّرِ
وأنشد الأموي في ذكر الخمر:
تكونُ بعدَ الحسوِ والتمزُّرِ ... في فمهِ مثلَ عصيرِ السُّكرِ
السُّكْرُكَة
قال

السكركة
سينها زائدة، والكَرِك الأحمر، كأنها للونها سميت بذلك، ولست أعرف فيها شاهداً.
الصَّرْخَد
قال و
الصرخد
اسم للخمر موضوع، وحروفها أصلية كلها. قال:
كأنَّ الكرى سقاهُم صَرخديةً ... عُقاراً تمشّتْ في الشوى والقَوائمِ
إذا منزلٌ منهُ تجاوزنَ طاسماً ... ترامينَ بالأيدي لآخرَ طاسمِ
ومنه أخذ أبو نواس قوله:
رَكْبٌ تساقَوا على الأكوارِ بينهمُ ... كأسَ الكرى فانثنى المَسقيُّ والساقي
كأنَّ أعناقَهم والنومُ واضعُها ... على المناكبِ لمْ تُعدَل بأعناقِ
وقال الشاعر:
ولذٍّ كطعمِِ الصرخديِّ تركتُهُ ... بأرضِ العِدا منْ خشيةِ الحَدثانِ
ومُبدٍ لي الشحناءَ بيني وبينَهُ ... دعوتُ وقدْ طالَ السُّرى فدعاني
يريد في البيت الأول النوم وفي الثاني الكلب.
البِتْع
قال
البتع
نبيذ العسل، وهو شديد، يصهر شاربه باليسير ويعقُره. واشتقاقها من البَتع وهو شدة العنُق ويوصف بشدته وغلظه وغلبته الأسدُ، وبقوته يصهر ويفترس.
قال لبيد بن ربيعة العامري:
غُلبٌ تَشذّرُ بالذُّحولِ كأنَّها ... جِنُّ البَديِّ رواسياً أقدامُها
وقال جرير:
ومَقامةٍ غُلبِ الرقابِ كأنّهم ... جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ
القِنْديد
قال
القنديد
مثاله فِعليل، وهو في الأصل فَعْل: قَنْد، وهو عُصارة قصب السكّر، ثم ألحقوا فَعلاً ببناء فعليل، وكسرت فاء فِعْلة لتقع في أبنية كلام العرب كالسِّحتيت والغِربيب والصِّنْتيت والصِّنديد، والخِنْذيذ والنِّحْرير والشِّمطيط، والقِرْطيط والصِّهْميم والعِرنين، والحِلْتيت، والعِبْديد لمن وحّد العباديد، وهم فعلاء. لذلك ألا ترى أن الرعدَ هو خفَقة السحاب وتضاغُط أجزائه، وتدافُع أجرامه، فبنوا من فَعلٍ فِعْليلاً للمتخوّف يرعد جبناً ومخافةً، قالوا: رِعْديد. قال لبيد:
ما إنْ أهابُ إذا السرادقُ عمَّه ... قَرعُ القِسِيِّ وأرعشَ الرِّعديدُ
وقال الأعشى:
ببابلَ لم تُعصرْ فصارتْ سُلافةً ... تُخالطُ قِنديداً ومِسكاً مُختَّما
وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني أن حَزيران إذا أدخلته في أبنية العرب زدتَ في أوله همزة لأنه ليس في كلام بناء حَزيران فقلت احزيران مثل اشهيباب، ومثل قَنْدٍ وقِنديد عِفر للداهي المنكر. وقالوا في الأوصاف: " وقد تكون العَفارة في أولاد الطهارة " . فألحقوا فِعلاً بفعيل فقالوا عِفريت على بناء كِبريت وسبريت. قال الشاعر:
عَفاريتاً عليَّ وأكلَ مالي ... وجُبناً عنْ أُناس آخرينا
وليس في أبنية العرب فِعليل، وإنْ كان الأصل فَعلاً، كأنهم ذهبوا مذهب قِسيّ وسدرات. وقد رفضوا فَعْلولاً أيضاً إلا حرفاً واحداً وهو صَعْفوق، وروي خَرْنوب وهي لغة رديئة؛ وأما ما أنشده الخليل في كتاب العين:
في شَعشعان عُنُقٍ يَمخورِ
فإنه يَفعول، وياؤه زائدة وهو كمخرتِ السفينةُ إذا جرتْ، واستطالة العنق منه، ومثله يَعفور. ولاختصاص الياء بالزيادة أولاً في العنق في الأكثر قال يَستعور وهو في أبنية الكتاب أنه يَفتعول وفيه خلاف.
الخَلّة
قال الخلّة الحامضة كأنها تَخُلُّ اللسان وتقرضه وتلدغه بحموضتها، ومنه سمي الخلُّ لحموضته. ويقال: خلَّ الرجلُ لسانَ الفصيل إذا شقّه لئلا يرضع أمّه.
قال امرؤ القيس:
............... ... كما خَلَّ ظهرَ اللسانِ المُجِرْ
وخلَلْتُ الكساءَ شددته بخِلال، والخَلُّ الطريق في الرمل لشقته على الأقدام. والخَلّ القليل اللحم، والخَلّ والخمر الخير والشر. ويقال ما فلانٌ بخَلٍّ ولا خمر أي لا خير فيه ولا شر عنده.
قال النمر بن تولب:
هلاّ سألتِ بعادياءَ وبنتهِ ... والخلِّ والخمرِ الذي لم يُمنَعِ
وقال الآخر:
أفي اللهِ أنّي مغرمٌ بكِ هائمٌ ... وأنّكِ لا خَلٌّ لديكِ ولا خمرُ
وقال الهذلي في الخَلّة:

كُميتٍ كلونِ الصّرفِ ليسَ بخَلَّةٍ ... ولا خمطةٍ يكوي الشَّروبَ شِهابُها
الكُسَيْس
قال

الكسيس
السكّر وهو خمرُ اليمن. قال:
فإنْ يُسقَ من أعنابِ وَجٍّ فإنّنا ... لنا العينُ تجري من كَسيسٍ ومنْ خمرِ
وهو فَعيلٌ من الكَسّ، كالمَسيس من المسّ، وهَزيز الريح من الهز، والرسيس من الرسّ. والكَسَس قِصَر الأسنان. ويقولون في الحرب صار الأكسُّ كالأرْوَق أي يقبض شفته فتبدو أسنانه. قال:
فداءٌ خالتي لبني تَميمٍ ... إذا ما كانَ كَسَّ القومِ رَوقُ
وأما الباذق والنبيذ والمثلث والداذيّ فأعجمية. فالنبيذ فَعولٌ بمعنى مفعول أي مَنبوذ، والنَّبْذ هو الشيء اليسير، وجلست نُبذةً أي ناحيةً، والنِّبذ يكون مصدراً بمعنى المفعول كالسَّكب بمعنى المسكوب، والحَشْر بمعنى المحشور. ونابذتُه أي ناصبتُه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما قال: معي تُميراتٌ نبذتُها في الماء، ثمرةٌ طيبة وماء طهور، إنما أفردهما عيناً وحكماً. والباذِق إنما هو باذَه فعرّبوا آخره. والمثلّث هو السيكيّ ذهب ثلثاه وبقي واحد. والداذيّ والداذ نبتٌ في المواضع المعروفة يُجعل في الشراب تقويةً له.
باب في
آلات الشراب وتوابعه
وأوصافه واشتقاقه:
السُّكر
يقال سَكِرَ الرجلُ سُكراً وهو سَكران وساكر، وهو من سَكَرتُ الماءَ إذا سددتُ جريَه لأنّ السُّكرَ يسدّ منافس الرأس بالبُخارات الفاسدة الصاعدة وسَكَرتِ الريحُ سُكوراً سكنتْ بعد الهبوب.
قال أوس:
فليستْ بطَلقٍ ولا ساكرَهْ
والنَّديم
فَعيل بمعنى مُفاعلٍ مُنادم، والنَّدمان أكثر مُنادمةً وملازمةً من النديم؛ لأن زيادة اللفظ توجب زيادة المعنى ويقال رجلٌ رحيم ولا يقال رحمان لأنه بناء المبالغة. وفي الدعاء يا رحمان الدنيا ورحيمَ الآخرة، لأن رحمته في الدنيا عمّت المؤمن والكافر والفاسق والناسك؛ ورحمته في الآخرة تخصّ المؤمنين والمسلمين دونهم. وتكثير اللفظ مع تقليل المعنى لم يرد في العربية إلا في حرف واحد. قال مَجدْتُ الدابةَ علفتُها ملء بطنها، وأمجدتُها علفتُها نصفَ بطنها.
الإبريق
هو إفْعيلٌ من البرق، والإبريق المرأة الحسناء البرّاقة. قال الشاعر:
دِيارُ إبريقِ العَشيِّ خَوزلُ
والإبريق السيف يقال: سيفٌ إبريقٌ وإصليت.
وأنشد أبو العباس:
لقد أتيتُمْ بأباريقِكمْ ... كأنّنا دونَ بَني الأَسْلَعِ
واللهِ لا ذُقْتمْ بها قطرةً ... على سبيبٍ وهيَ لمْ تُكْرَعِ
أي جئتم بسيوفكم طامعين حتى كأنا دون بني الأسلع، وهم حيّ حاربوهم فلم يقوموا لهم. والله لا ذقتُم بها قطرةً أي لا ذقتم بسيوفكم من دمائناً قطرةً، وهي تعني سيوفهم لم تكرع في دمائكم. وسمي السيف إصليتاً لانصلاته، وإبريقاً للمعانه وبريقه. والسيف بنفسه مشتق من شيئين، أحدهما ما أخبرني به أبو سعيد السيرافي عن أبي بكر بن دريد أنه من السَّواف وهو داءٌ يصيب الإبل فتهلك منه، كأن السيف سبب للهلاك. والثاني أنه من السِّيف وهو شاطئ البحر كأنه يطول كهيئة السِّيف. كما شبهوه بالعقيقة وهي البُرقة المستطيلة في الغيم.
قال عنترة:
وسيفي كالعقيقةِ وهي كمعي ... سلاحي لا أفلَّ ولا فُطارا
ففيه تشبيهان الاستطالة والتلألؤ. فأما ما قول الآخر:
كأنّهُ لمّا تَرَهْيَأَ ساطعاً ... هنديّةٌ تهتزُّ حينَ تُنتضى
ففيه ثلاثة معانٍ استطالة البرقِ وتلألؤه وحركته.
الكأس
وهي الإناء بما فيه من الخمر، كالسَّجْل وهو الدلو بما فيه، وكذلك القلم يُسمى مَبريّاً وإلا فهو قصبة. والرمح يُسمى به ما دام عليه سنانه وإلا فهو قناة. والمائدة ما كان طعام وإلا فهي خِوان، والأريكة ما كانت على السرير وإلا فهي حجَلة ويقال كاسَ البعيرُ إذا عقرْتَه فمشى على ثلاث قوائم.
قال الشاعر:
فظلّتْ تكوسُ على أذرُعٍ ... ثلاثٍ وغادرْتُ أخرى خَضيبا
وكأس اسم أَمَةٍ لمشيها. قال الشاعر:
فقلتُ لكأسٍ ألجِميها فإنّما ... نزلنا الكثيبَ من زرودٍ لنفزَعا
أي لنغيث، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم لقومٌ تَقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع " .
الماخور

قال هو بيت الريبة، من مَخرتِ السفينةُ إذا جرت تَمخر، فسمي بذلك لما يجري فيه من الفساد، وبنات مَخْرٍ سحائب يأتين من قبُل الصيف منتصباتٍ لجريِها في الهواء وانسحابها.
قال طرفة:
كبناتِ المَخْرِ يمأدْنَ إذا ... أنبتَ الصيفُ عساليجَ الخَضِرْ
فهو فاعولٌ من المَخر، كالصاقور فأس عظيمة تُكسر بها الحجارة وهو فاعولٌ من الصقر ضربُ الحجارةِ بعضها ببعض؛ والجارود من الجَرْد.
قال الشاعر:
........ ... كما جرّدَ الجارودُ بكرَ بنَ وائلِ
والصاروج دخيلٌ في العربية لاجتماع الصاد مع الجيم في كلمة، وليس في كلامهم صَرج، وأما الصنج والصَّنجة ففارسي معرب.

الناجود
كل إناء يُجعل فيه الشراب من جَفنة أو غيرها، وهو فاعول من النَّجْد، وهو الطريق المرتفع، والنُّجود ما يُنجد به البيتُ لارتفاعه على العاتق. ومنه استنجدَني فلانٌ فأنجدتُه، أي غلّبته على خصمه وجعلته تحته.
قال زهير:
شَجَّ السُّقاةُ على ناجودِها شَبِماً ... من ماءِ لِينةَ لا طَرْقاً ولا رَنِقا
وقد يسمون الشراب ناجوداً حسب تسمية الشيء باسم غيره إذا كان مجاوراً له، أو كان لسبب.
الراقود
حُبٌّ كهيئة الإردَبَّة، وهو فاعولٌ من رقْد، وهو جبل لاستحصافه وصلابته.
قال ذو الرمة:
تَفُضُّ الحصى عن مُجْمَراتٍ وقيعةٍ ... كأَرْحاءِ رَقْدٍ زَلَّمتْها المَناقرُ
وقال القطامي:
استودعوها رواقيداً مُقيَّرةً ... دُكنَ الظواهرِ قدْ بُرنسنَ بالطينِ
ويسمون الإبريق تامورةً.
قال الأعشى:
وإذا لَها تامورةٌ ... مرفوعةٌ لشرابِها
الراووق
المِصفاة وهو فاعول، من راقَني الشيء أعجبني، وشيء رائق ورقراق الشرابِ لأنه يروق العيون. والرقراقة المرأة الرقيقة البشرة، الرائقة الحسن.
قال ذو الرمة:
........... ... وأقبلن رقراقاتُهنَّ الملائحُ
وروْقَ الشبابِ أوله، وغلمان روقَةٌ حِسان النواظر، والرُّواق فُعال منه. ورَيّق الغيثُ أوله، والشباب أيضاً، وهو فَعيلٌ أصله رَيْوِق، فقُلبت الواو ياءً ثم أدغمت إحداهما في الأخرى، ومثله سيدٌ وأصله سَيْوِد، وللفرّاء فيه قول آخر، ورجلٌ رَيّق إذا كان على الريق لم يُطعم شيئاً. وفي ذكر الريق قد أحسن ابن أحمر:
.......... ... وقدْ يدوِّمُ ريقَ الطامعِ الأملُ
أي يبلّه.
الفِدام
كِرباسةٌ تُشدّ على فم الإبريق وهو فِعال من قولهم لم صبغٌ مُفدّم إذا كان خاثراً مُشبعاً، والفَدْم منه مأخوذ. قال الهذلي:
ولا بطلاً إذا الكماةُ تزيّنوا ... لدى غَمراتِ الموتِ بالحالكِ الفَدْمِ
يريد الدم لخثورته يسوَدّ. والغُمَر القدح الصغير من قولهم تغمّر الرجل دون الري أي فيه حاجة. والصحن القدح الكبير يروّي العشرين كأنه شُبه بالصحن. وصحنْتُ بين القوم أصلحت بينهم. والعُسّ أكبر من الغُمر والتِّبْن أكبر الأقداح. أبو عمرو: والكِتْن القدح. قال الأصمعي: المِصحاة إناءٌ لا أدري من أي شيء هو، وقد بيّنه أوس بن حجر:
إذا سُلَّ مِن غمدٍ تأكّلَ أثرُهُ ... على مثلِ مصحاةِ اللجينِ تأكُّلا
والقَعْبُ القدحُ الصغير. ولهذا وصفوا الحافر بالتعقيب.
قال عوف:
لها حافرٌ مثلُ قعبِ الوليدِ ... يتخذُ الفأر فيهِ مَغارا
والرَّفْد القدح الكبير لأنه يرفد شاربه.
قال الأعشى:
رُبَّ رِفْدٍ هرَقْتُهُ ذلك اليو ... مَ وأسرى من معشرٍ أقتالِ
وجُمام القدح ملؤه، وقدحٌ جَمّام، وقد أجمَمتُه. قال أبو الهذلي:
متكئاً يقرعُ أبوابَهُ ... كالقدحِ والجَفنةِ والقَروِ
وقال الكسائي هو القدح.
وقال الأعشى:
أرمي به البيدَ إذا هجَّرتْ ... وأنتَ بين القروِ والعاصرِ
ويقال مزجت الشراب وشعشعته وصفّقته وأعرقته فهو مُعرَق، وأخفستُه فهو مُخفَس، وقطَبتُه وأنا قاطب، وأقطبته فأنا مُقطِب إذا أكثرت مزاجه. قال:
......... ... يقطّبهُ بالعنبرِ الوردِ مُقطِبُ
وأصل القَطبِ الجمع، والقُطوب في الوجه منه.
قال:
......... ... يَشلُّ بناتِ الأخدريِّ ويُقطِبُ
أي يطرد ويجمع، وجاؤوا قاطبةً أي جميعاً، وقُطب الفلك منه. قال:
........ ... قَطيبانِ شتّى من حليبٍ وحازِرِ

والشعراء يصفون الشراب وأرجَه، ونشرَ الأعطاف والبشرات، وطيبة النكهة، وسلامةَ الريق بجميع أنواع الطيب سوى الكافور. وقول الله تعالى: " مِزاجُها كافوراً، عيناً يشرب بها عبادُ الله " فإن الكافور نهر في الجنة. وتقول كأن القرنفل على أنيابه، والزنجبيل باتَ فيه، والمسكَ شِيبَ بجوانبه، والعنبرَ يُستنشق منه. وتقول في الخمر مِسكيّةٌ وَرديّة إلى غير ذلك.
قال الغساني:
أَنسيمُ ريقِكِ أختَ آلِ العنبرِ ... هذا أمِ استنشاقةٌ من ْ عنبرِ
وقال حبيب:
يُهدي إليكَ نسيمَهُ فكأنّما ... شِيبَتْ جوانبُهُ بمسكٍ أذفرِ
وقال المرار:
أَناةٌ كأنَّ المسكَ دونَ شِعارِها ... يُقطّبُه بالعنبرِ الوردِ مُقطِبُ
وقال الأعشى:
إذا تقومُ يَضوعُ المسكُ أَصوِرَةً ... والعنبرُ الوردُ من أردانِها شَمِلُ
قال الفراء: تغمّرت الشرابَ، وتمقَقتُه وتوّتحته وتمزّرته شربته قليلاً قليلاً. ونَئِفَ من الشراب ارتوى، وأمغد أكثر من الشرب ونقعت نقوعاً، وبضعتُ بضوعاً رَويتُ. ويقال للمعاود للأمر: شرابٌ ناقع. والغُبْجة والنُّغْبة الجرعة، فإن غُصَّ بالشراب قيل شرقتَ وجئزت، وشَجيتَ بالعظم، وغصصت بالطعام، وسَففت الدواء سفّاً، وسَفَتَّه سَفْتاً، وسَفِهتَه سفَهاً إذا أكثرت فلا تروى، والسفاهة في الناس ترجع إلى هذا. قال ذو الرمة:
وأخضرَ مُوشيِّ القميصِ نصبتهُ ... على خصرِ مِقلاتٍ سفيهٍ جَديلُها
أي خفيف هافٌّ مضطرب. والبَغَر والبَحَر في الماء كالبَشَم في الطعام. الإعظار أن يكظَّهُ الشرابُ ويثقل في جوفه، والترشُّف الشربُ بالمصّ، ومن أمثالهم: الشربُ أروى، والرَّشفُ أنفع. ويقولون: ليسَ الريُّ عن التشافِّ أي شرب شفافة الشراب وعيرت امرأة زوجها فقالت: إنّ شربك لاستشفاف، وإنَّ ضَجعتكَ لانجعاف، وإن شملتكَ لالتفاف، وإنك لتشبع ليلةَ تُضاف، وتأمن ليلةَ تخاف. والتبرّض التقلّل منه، والتخبب الامتلاء، والمُجدَّح الشرابُ المخوَّض. وصفحتُه صفَحاً أي سقيته أيّ شرابٍ كان. والعَفْقة الشربة، تعفّقتُه تعفّقاً أي شربت، وافتغمت ما في الإناء شربته كله. والزَّغلة المجَّة من الشراب، والمُجاجة الفَضلة التي تُمجّ، والنَّضْح والنَّشْح دون الريّ. قال ذو الرمة:
........... ... وقدْ نَشحْنَ فلا رِيٌّ ولا هضمُ
وقال زهير:
.......... ... فلا فَوتٌ ولا دركُ
وقال عنترة:
.......... ... لا ممعنٍ هرباً ولا مُستسلمِ
وفي كلامهم: لا قتيلٌ فيودى ولا أسيرٌ فيُفدى. وقالت سلمى في صخر: لا حيٌّ فيُرجى، ولا ميت فيُنسى. وقال حاجب: ما القعقاع برطبٍ فيُعصر ولا يابسٍ فيُكسر. ورجلٌ سِكّير كثير السُّكر، وثَمِلٌ ومُنتشٍ ونشوان. والخِمّيرُ الكثير الشربِ للخمر، وسكران مُلْتَخٌّ ومُلْطَخّ إذا اختُلط عليه أمره. والطافح والدِّهاق والمُفعَم والمُتأَق والرَّيّان الممتلئ، والطافح المرتفع، ومنه سكرانُ طافحٌ أي ملأه الشرابُ حتى ارتفع، والمُغربُ والمسجور والساجر.
قال النمر:
إذا شاءَ طالعَ مسجورةً ... ترى حولَها النبعَ والسماسا
والمُفرَم المملوء بالماء. قال ابن قتيبة في كتاب إصلاح الغلط على أبي عبيد: لا أدري من أي شيءٍ أخذ عبد الملك في خطابه الحجّاج لما شكاه أنس: يابنَ المُستفرِمة بعجم الزبيب، وهو من قول امرئ القيس:
مستفرماتٍ بالحصى جَوافِلا ... ...........

الباب الأول
التعريش والعناقيد
إبراهيم بن المهدي:
منابتُ كرمٍ تظلُّ النبي ... طُ تعملُ منهُ عريشاً عريشا
إذا أنتَ قابلْتَها خِلتَها ... مطارفَ خُضراً كُسينَ النقوشا
الباذاني:
وعناقيدَ تراها ... إذْ تمايلْنَ مَميلا
رُكِّبَتْ فيها لآلٍ ... لم تُثَقَّبْ فَتجولا
كالثُّريا قد أرادتْ ... عندَ إسفارٍ أُفولا
ابن المعتز:
حتى إذا حَرُّ آبٍ فارَ مِرجلُهُ ... بفائرٍ من هجيرِ الشمسِ مُستعِرِ
ظلّتْ عناقيدُها يخرجْنُ من ورقٍ ... كما احتبى الزِّنجُ في خضرٍ منَ الأُزُرِ
الناجم:
مُعرشٌ للكرومِ منتشِرٌ ... أوراقُهُ الخضرُ دونَ مرآها
فكلُّ كَرمٍ هوَ السماءُ دجىً ... وكلُّ عنقودةٍ ثُريّاها

الخباز البلدي:
مُعرشٌ مالَتْ عناقيدُه ... منْ كِللِ الأوراقِ تحتَ الحجبْ
ترُدُّ عينَ الشمسِ مطروفةً ... عنْ حَلَكٍ في متنِها أوْ جرَبْ
منظومةٌ حباتُ أعنابِهِ ... نَظماً بلا سِلكٍ جرى في الثُّقبْ
كأنَّها الماءُ وقدْ لُفَّ في ... طحلبِهِ الأخضرِ تحتَ الحبَبْ
أنشد:
يحملْنَ أوعيةَ المُدامِ كأنّما ... يحملنَها بأكارعِ النَّغرانِ
ابن المعتز:
أقرَّ عروشَها بثرىً وطَيٍّ ... وأنهارِ كحيّاتٍ سَوارِ
وسقّفَها العريشُ فحمّلتْهُ ... عناقيداً كآثارِ الجَواري
ابن لنكك:
انظر إلى الكرمِ العريشِ على دعائمِهِ المُسَنَّدْ
حبّاتُهُ سَبَجٌ نُظمْنَ بخُضرِ أوراقِ الزَّبرجَدْ
بينَ المُبدَّدِ والمُسَرَّدِ في المُرَجَّلِ والمُجَعَّدْ
مُتهَدّلاتٌ كالثُّديِّ كواعبٌ منها ونُهَّدْ
آخر:
تَهفو عنا قيدُها مُهدَّلةً ... من قُضُبٍ ثَرَّةٍ مغارسُها
مثلَ القناديلِ من معالِقِها ... وخُضُر أوراقِها ملابِسُها

الباب الثاني
نبذها وإيداعها الدنان
القطامي:
استودَعوها رواقيداً مُقيَّرةً ... دُكْنَ الظواهرِ قد بُرْنِسْنَ بالطينِ
كأنّهن وقد صُفّفْنَ في نسَقِ ... مُستوسَقاتُ نَبيطٍ في تبابينِ
ابن المعتز:
فأودَعها الدّنانَ مُسنّداتٍ ... وأسلمَها إلى شمسِ النهارِ
وألبسَها قلانسَ مُعلَماتٍ ... وصاحبَها بصيرٍ وانتظارِ
أبو نواس:
ودنانٍ مُسنَداتٍ ... مَعلَماتٍ بمدادِ
أنفذوهُنَّ بطعنٍ ... مثلِ أفواهِ المَزادِ
ابن المعتز:
ودنانٍ كمثلِ صف رجالٍ ... قد أُقيموا ليرقصوا وسَتبَنْدا
وأباريقَ قد صَغونَ إلى المب ... زالِ والعلجُ يقصدُ الدنَّ قَصدا
ابن لنكك:
صُفّيتْ في الدنانِ أو في الخوابي ... فهيَ مصفوفةٌ كسطرِ الكتابِ
في ضُحى الطينِ أو دُجى القارتَنمي ... ذاتُ لونٍ مثل العقيقِ المُذابِ
نُصبَ عينِ الهجيرِ تغلي عليهِ ... غلياناً بشدةٍ والتهابِ
ابن المعتز:
فطافَ قاطفُها فيها وأسلمَها ... إلى خوابيَ قدْ عُمِّمْنَ بالمَدَرِ
الباب الثالث
إدراكها وعتقها
كشاجم:
ألستَ ترى الظلامَ وقد تولّى ... وعنقودَ الثريّا قد تَدلّى
فدونَكَ قهوةً لم يُبقِ منها ... تقادُمُ عهدِها إلا الأقلاّ
بزلْنا دَنَّها والليلُ داجٍ ... فصيَّرتِ الدُّجى شمساً وظِلاّ
الخليع:
حتى إذا الدهرُ أبقى من سُلالتِها ... جزءَ الحياةِ وقدْ ألوى بأجزاءِ
فُضَّتْ خواتيمُها في نعتِ واصفِها ... عن مثلِ رقرقةٍ في عينِ مَرْهاءِ
أبو نواس:
نتيجةُ كرمةٍ منْ بيتِ راسٍ ... تضيءُ الليلَ مضروبَ الرُّواقِ
أتتْ من دونِها الأيامُ حتى ... تَفانى جسمُها والروحُ باقِ
ابن المعتز:
من كُميتٍ كأنّها أرضُ تِبرٍ ... في نواحيهِ لؤلؤٌ مغروسُ
أسكنوها الدنانَ من عهدِ عادٍ ... كظلامٍ فيها نهارٌ حبيسُ
أبو نواس:
تَحيَّرْتُ والنجومُ وقفٌ ... لم يتمكَّنْ بها المدارُ
فلم تزلْ تأكلُ الليالي ... جُثمانَها ما به انتصارُ
حتى إذا ماتَ كلُّ ذامٍ ... وخلصَ السِّرُّ والنِّجارُ
عادَتْ إلى جوهرٍ لطيفٍ ... عِيانُ موجودِهِ ضِمارُ
ابن المعتز:
مُعتّقةٌ صاغَ النهارُ لرأسِها ... أكاليلَ دُرٍّ ما لمنظومِها سِلكُ
جرَتْ حركاتُ الدهرِ فوقَ سكونِها ... فذابَتْ كذَوبِ التِّبْرِ أخلصَهُ السَّبكُ
وأدركَ منها الغابرونَ بقيّةً ... من الروحِ في جسمٍ أضرَّ بهِ النَّهْكُ
فقدْ خفيَتْ من صفوِها فكأنّها ... بقايا يقينٍ كادَ يُذهبُهُ الشكُّ
أبو نواس:
وسُلافٍ كأنّما كلُّ شيءٍ ... يتمنّى مُخيّراً أنْ يكونا
أكلَ الدهرُ ما تجسَّمَ منها ... ثمّ أبقى لُبابَها المكنونا
فإذا ما اجتليتَها فهباءٌ ... تمنعُ الكفَّ ما تبيحُ العيونا
الخليع:

وقد ألِفتُ حِجرَ الدنانِ وليدةٌ ... كما ألِفَ الولدانُ حِجرَ الحواضِنِ
فقد أخذْتُ من ريحِها وصفائِها ... وقوّتِها والطعمِ كلَّ المحاسنِ
أبو نواس:
قهوةٌ عُمِيَ عنها ... ناظِرا رَيبِ المَنونِ
عُتّقتْ في الدنِّ حتى ... هيَ في رِقّةِ ديني
ثمَّ شُجّتْ فأدارَتْ ... فوقَها مثلَ العيونِ
حَدَقاً ترنو إلينا ... لم تُحَجَّرْ بجفونِ
إسحق بن الصباح:
حبسوها في الدنِّ عاماً فعاما ... فهْيَ نورٌ قد قنّعوها ظلاما
طبختْها الشِّعرى العَبورُ وأذكَتْ ... نارَها في قرارِها الأعواما
فهيَ في دنِّها شعاعٌ نَضيدٌ ... تَحسرُ العينَ أو نسيماً رُكاما
فإذا ما اجتليتَها فهيَ شمسٌ ... أشعروها من الزجاجِ غَماما
ابن مناذر:
ما من لذاذةِ نفسٍ أو مَطالبها ... إلا وثُلمتُها تنسدُّ بالراحِ
حمراءُ محبوسةٌ في الدُّنِّ مُذْ زمنٍ ... رهينةً بينَ وِعرانٍ وأقداحِ
نورٌ مُصاصٌ بلا شَوبٍ ولا كدَرِ ... ولا هباءٍ على حافاتِ أقداحِ
تَسورُ في الراحِ منها سَورةٌ عجبٌ ... تسطو عليهِ إلى أنْ يسكرَ الصاحي

الباب الرابع
خروجها بالبزال
أبو نواس:
فَضَضْتُ خِتامَها والليلُ داجٍ ... فدرَّتْ دَرَّةَ الودَجِ الطَّعينِ
بكفِّ أغنَّ مُخْتَضِبٍ بَناناً ... مُذالِ الصُّدغِ مضفورِ القرونِ
لنا منهُ بعينيهِ عِداتٌ ... يخاطبُنا بها كسرُ الجفونِ
كأنَّ الشمسَ مقبلةٌ بشمسٍ ... إلينا في قلائدِ ياسمينِ
أخذ البيت الثالث من قول ذي الرمة:
ولم يستطعْ إلفٌ لإلفٍ تحيّةً ... منَ القومِ إلاّ أنْ يُسلِّمَ حاجبُهْ
وأخذ من أبو نواس الرقاشي حيث يقول:
وفي غمزِ الحواجبِ مُستراحٌ ... لحاجاتِ المحبِّ إلى الحبيبِ
ابن المعتز:
بُزلَتْ كمثلِ سَبيكةٍ فدْ أفرغَتْ ... أو حيّةٍ وثبَتْ منَ الرَّمضاءِ
وتوقَّدتْ في ليلةٍ من قارِها ... كتوقّدِ المَرّيخِ في الظَّلماءِ
أبو نواس:
ثم توجّأْتُ خصرَها بشَبا الأشفى فجاءَتْ كأنّها اللهبُ
فاسْتَوْسَقَ الشُّربَ للنَّدامِ وأجراها علينا اللُّجينُ والغَرَبُ
الصنوبري:
ما زالَ يقبضُ روحَ الدنِّ مِبزلُهُ ... كما تغلغلَ سِلكُ الدرِّ في الثَّقبِ
وأمطرُ الكأسُ ماءٌ من أبارقِهِ ... فأنبتَ الدرُّ في أرضٍ من الذهبِ
وسبّحَ القومُ لمّا أنْ رأوا عجباً ... نوراً من الماءِ في نارٍ منَ العِنبِ
ابن المعتز:
مُسنَّدةٌ قامتْ ثلاثينَ حجّةً ... كواضعةٍ رِجلاً وقدْ رفعَتْ رِجْلا
فأخرجَ بالمبزالِ منها سَبيكةً ... كما فتلَ الصَّواغُ خَلخالَهُ فَتلا
آخر:
ومُدامةٍ فُتلتْ فأش ... بَهَ فَتلُها فتلَ السواري
لي من زُجاجتِها ومن ... ها لَمحتا نورٍ ونارِ
الباب الخامس
خروجها من الإبريق وصفات الإبريق
آخر:
سعى إلى الدنِّ بالمبزالِ ينقُرُهُ ... ساقٍ توشّحَ بالمنديلِ حينَ وثَبْ
لمّا وَجاها بدَت صفراءَ صافيةً ... كأنّما قدَّ سَيراً منْ أديمِ ذهَبْ
أبو نواس:
فقام كالغصنِ قد شُدّتْ مناطقُهُ ... ظبيٌّ يكادُ من التهييفِ ينعقِدُ
فاستلَّها من فمِ الإبريقِ صافيةً ... مثلَ السِّنانِ جرى واستمسكَ الجسدُ
الخليع:
يا طيبَها قهوةً حمراءَ صافيةً ... كدمعِ مفجوعةٍ بالإلفِ مغيارِ
كأنَّ إبريقنا والخمرُ في فمهِ ... طيرٌ تناولَ ياقوتاً بمنقارِ
أحمد بن أبي كامل:
اشربْ فقد شرَّدَ ضَوْ ... ءُ الصُّبحِ عنا الظُّلَما
وانبسطَ النورُ على ... وجهِ الثرى مُبتسما
كأنّما أطلعَ ما ... ءُ المزنِ فيه أنجُما
وصوّبَ الإبريقُ في ال ... كأسِ مداماً عندما
كأنّهُ إذْ مجَّهُ ... مُقهقِهٌ يبكي دما
والبة بن الحباب في الإبريق:
إبريقُنا مُصَلٍّ ... يضحكُ في صلاتِهْ
يكِبُّ ثمّ يُقعي ... كالظبيِ في فَلاتِهْ
يمجُّ كلَّ شيءٍ ... يمرُّ في لَهاتِهْ
ومنه أخذ أبو نواس قوله:

من ماثلٍ فُدِّمتْ مكاحلُهُ ... يقلسُ في الكأسِ بيننا الذهَبا
الناجم فيه:
وليلةٍ للراحِ في دَيجورِها ... صُبحٌ وللإبريقِ ضِحكٌ مُختلفْ
شبّهتُها مُثاقفاً مدَّ إلى ... مُثاقفٍ شمالَهُ وقد وقَفْ
البسّامي:
إبريقُهم بينهُمُ ضاحكٌ ... باكٍ كإنسانٍ حزينٍ فَرِحْ
مُنتصبٌ كالخِشفِ منْ رَبوةٍ ... مُلثّمٌ بالقَزِّ أو مُتّشِحْ
أبو عطاء:
منْ أباريقِ ملاءٍ رُذَّمٍ ... والذي في الكفِّ ملثومٌ أغَرْ
مثلُ خِشفِ القفرِ أقعى خائفاً ... رَميةَ القانصِ لمّا أنْ حَذَرْ
وكفرخِ الماءِ في عُبطتِهِ ... حاذَرَ الصقرَ فأهوى فنقَرْ
عمارة:
أباريقٌ مُفدّمةٌ بقَزٍّ ... أوِ الكتّانِ أو خِرَقِ الحريرِ
جرتْ عذباتُهنَّ لنا اهتزازاً ... كألويةٍ خفَقْنَ على أميرِ
ابن المعتز:
كأنّها حينَ مجّتْ ... في الكأسِ ريقةَ خمرَه
أمٌّ تعاهدُ فرخاً ... بغرّةٍ بعد غُرَّهْ
أخذه من أبو نواس:
ترى إبريقَنا والطيرُ سامِ ... لهُ فرخانِ منْ دُرٍّ وسامِ
إذا ما زَقَّ فرخاً من سُلافٍ ... تعاهدَ آخراً بعدَ الفِطامِ
البسامي:
ترى أبا ريقَهمْ مُفدّمةً ... يَعلُّها الفتيةُ المغاويرُ
كالطيرِ حامَتْ على شرائِعِها ... فابتلَّ من وِرْدِها المناقيرُ
الحسن بن وهب:
إبريقُنا كالغزالِ يخشعُ ما ... قامَ فإنْ خرَّ ساجداً ضحِكا
الموصلي:
أباريقُهمْ زُهُرٌ مِلاءٌ كأنّها ... ظِباءٌ بأعلى الرقمتَيْنِ قِيامُ
وقد شربوا حتى كأنَ جلودهُمْ ... من اللَّينِ لم يُخلقْ لهنَّ عِظامُ

الباب السادس
حمرتها
ابن ميادة وأجاد لفظاً ومعنىً:
ومُعتّقٌ حُرِمَ الوقودَ سُلافَةً ... كدمِ الذبيحِ تمجُّهُ أوداجُهُ
ضمِنَ الكرومُ له أوائلَ حملِهِ ... وعلى الدنانِ تَمامُهُ ونِتاجُهُ
الأقيشر:
فأنتِ إذْ باكرْتِ مشمولةً ... صِرفاً كلونِ الفرسِ الأشقرِ
رُحتِ وفي رِجليكِ ما فيهما ... وقدْ بدا هَنْكِ من المئزرِ
ابن المعتز:
وخَمّارةٍ من بناتِ المجوسِ ... ترى الزقَّ في بيتِها شائِلا
وزَنّا لها ذهَباً جامداً ... فكالَتْ لنا ذهباً سائلا
أحمد بن أبي طاهر:
ورقيقةِ الحجراتِ با ... ديةِ القدى ذوب العقيقِ
في بردِ كافور الريا ... حِ، وحرّ نائرة الحريقِ
سَلسالة شرباتُها ... يفتحن أفواهَ العُروقِ
زقَّ الطيورُ فراخَها ... لصَبوحها أو للغَبوقِ
بكر بن خارجة:
بِتْنا بمارَتِ مريمٍ ... سُقياً لمارَتِ مريمِ
ولقسِّها محيي المُتَي ... مِ بعدَ نومِ النوَّمِ
وليُوشَعٍ ولخمرة ... حمراءَ مثل العَندمِ
ولفتيةٍ حَفوا بها ... يعصونَ لومَ اللُوَّمِ
يسقيهمُ ظبيٌ أغنٌّ لطيفُ خلْقِ المِعصمِ
يرمي بعينيهِ القلو ... بَ كمثلِ رميِ الأسهُمِ
الخباز البلدي:
شربتُ دماً أريقَ من الفصيدِ ... بلا شَقِّ الحديدةِ والحديدِ
فقمتُ أجرُّ رِجلَيْ مُستكينٍ ... تضرّعَ من قيامٍ للقعودِ
الأخطل:
سُخاميةٌ كوِداجِ الحمارِ ... يغرقُ في عُرفهِ المِبضَعُ
يغبُّ دماً قانِياً صِبغُهُ ... بهِ للمُتيّمِ مُستمتَعُ
قال عبد الملك بن مروان للأقيبل القيني صِف لي الخمر فأنشأ يقول:
كُمَيتُ إذا شُجَّتْ وفي الكأسِ وردةٌ ... لها في عِظامِ الشاربينَ دَبيبُ
تُريكَ القذى من دونِهِ وهيَ دونَهُ ... لوجهِ أخيها في الإناءِ قُطوبُ
فقال عبد الملك: لقد رابني وصفك لها، فقال الأقيبل: لئن رابك وصفي لها فقد رابني معرفتك بها. ووصف النظّام الخمر والقدح فقال: هواءٌ بلا هباء، مُحلولِكٌ يضمّه موج من الماء مكفوف.
أنشد الأسواري:
وإنّي وإيّاها لكالخمرِ والفتى ... متى يستطيعُ منها الزيادةَ يزدَدِ
وقال عبد الملك بن مروان للأخطل: صِف لي الخمر! فقال: أولها صداع، وآخرها خمار. فقال: ما يعجبك منها؟ قال: إن بينهما طربةٌ لا يعدلها مُلكُك، وأنشأ يقول:

إذا ما نَديمي علَّني ثمَّ علَّني ... ثلاثُ زُجاجاتٍ لهنَّ هَديرُ
خرجتُ أجرُّ الذيلَ منّي كأنّني ... عليكَ أميرَ المؤمنينَ أميرُ
اليعقوبي:
تناولتُها والليلُ وَحْفٌ جناحُهُ ... بسجفٍ من الظلماءِ في الأرضِ مُسبَلُ
موردةً لا الوردُ يعطيكَ لونَها ... ولا الدمُ من أوداجِ أدماءَ مُغزِلِ
ومنطقةَ الجوزاءِ شدّتْ بخصرِها ... نجوماً كحبّاتِ الجُمانِ المُفصَّلِ
وفي الأفقِ الغربيِّ مسائلةُ الطُّلى ... نجومُ ثُريّاها كقُرطٍ مُسلسَلِ
أُشاربُهنَّ الكأسَ مَلأى رَويّةً ... لِهمِّ الخليّ الخالعِ المُتغزِّلِ
تَسورُ حُميّاها إلى الرأسِ عَنوةً ... وتَسري دبيبَ السمِّ في كلِّ مَفْصِلِ

الباب السابع
صفرتها
أنشد:
وصفراءَ منْ ماءِ الكرومِ شربتُها ... على وجهِ صفراءِ الترائبِ غَضَّةِ
تَبدتْ وفضلُ الكأسِ يلمعُ فوقَها ... كأُتْرجَّةٍ زينَتْ بإكليلِ فِضَّةِ
ابن المعتز:
وزعفرانيّةٍ في اللونِ تحسَبُها ... إذا تأمّلتَها في ثوبِ كافورِ
كأنَّ حَبَّ سَقيطِ الطَّلِّ بينهما ... دمعٌ تحدَّرَ منْ أجفانِ مهجورِ
الأخيطل الأهوازي:
وعاتقٍ شابَ مَفرِقاها ... لمْ تَدرِ ما الليلُ والنهارُ
أذابَ أجزاءَها الليالي ... فطارَ من نارِها الشرارُ
ثمَّ اجتلاها السقاةُ صَفواً ... تَحوزهُ الأعينُ النضارُ
تَخالُ في وجهِها اصفراراً ... وهوَ على الأوجهِ احمرارُ
أخذ البيت الثالث من قول أبي تمام:
وغدوتُ تخطوني العيونُ ضُؤولةً ... منْ بعدِ أبّهةٍ لديكِ وخالِ
العلوي:
ومُدامةٍ يسعى بها ... رَشاً أغنُّ المُنتطَقْ
تحكي غُلالةَ خدِّهِ ... بلْ خدُّهُ منها أرقْ
ذهبيةٍ في كأسِها ... كالشمسِ تهوي في الأفقْ
ابن المعذّل:
مُعتّقةً شمسُ الظهائرِ لاذُها ... تغادرُها في لونِ شمسِ الأصائلِ
كأنَّ عليها من أكاليلِ مزجِها ... بقايا نجومٍ طالعٍ وأوافِلِ
تجرُّ ذيولاً من تلالي شعاعِها ... كأنَّ عليها صافياتِ الغلائلِ
أبو السمط مروان:
ألا عاطِني صفراءَ أو ذهبيّةً ... تجورُ على الندمانِ جَوراً بلا قصْدِ
تردُّ خَلِيَّ القلبِ يذكرُ ما مضى ... وتقدحُ زندَ الحُبِّ في الحجرِ الصلدِ
ويهتزُّ عودُ العيشِ أخضرَ ناضراً ... ويبتلُّ جلدُ الأشيبِ القاحلِ الجَلْدِ
ووَرسيّةٌ في كأسِها ذهبيّةٌ ... ولكنّها ورديةُ اللونِ في الخدِّ
الباب الثامن
رائحتها
أبو نواس:
ومُقعَدٍ قومٍ قد مضى من شرابِنا ... وأعمى سقَيْناهُ ثلاثاً فأبصرا
وأخرسَ لم ينطِقْ ثلاثينَ حجّةً ... أدَرْنا عليهِ الكأسَ يوماً فهَمَّرا
شراباً كأنَّ العنبرَ الوردَ نُشْرُهُ ... ومسحوقَ هِنديٍّ من المِسكِ أذفَرا
من القِرَباتِ القُرِّ من أرضِ بابلٍ ... إذا شمَّها الحانيُّ في الدارِ كبَّرا
ابن الرومي:
تَلقاكَ في رِقّةِ الشرابِ وفي ... نشرِ الخُزامى وحُمرةِ الشَّفَقِ
لهُ صَريحٌ كأنّهُ ذهبٌ ... ورغوةٌ كاللآلئِ النَّسَقِ
الحسن بن وهب:
وقهوةٍ صافيةٍ ... كالمِسكِ لمّا نَفحا
شربْتُ من دِنانِها ... من كلِّ دَنٍّ قَدحا
فَعُدتُ لا تحملُني ... أعوادُ سَرجي مرَحا
من شدّةِ الكِبْرِ الذي ... على فؤادي طفَحا
أبو نواس:
وشمطاءَ حلَّ الدهرُ منها بنَجوةٍ ... دلفْتُ إليها فانتزعتُ حَنينَها
كأنَّا حُلولٌ بينَ أكنافِ روضةٍ ... إذا ما سلبْناها منَ الليلِ طينَها
السروي:
وورديةٍ مِسكيّةٍ في نسيمِها ... أُبيحَتْ لنا والنجمُ في الأفقِ راكِضُ
عطفْتُ عليها والصباحُ مُسرَّبٌ ... سَراياهُ في الظلماءِ والليلُ ناهضُ
ومُكِّنتِ الكاساتُ منها كمثلِ ما ... تمكّنُ مِن وردِ الخدودِ العَوارضُ
أبو نواس:
جاءَتْ بجامتِها من بيتِ خَمّارِ ... رُوحٌ من الخمرِ في جسمٍ من القارِ

فالريحُ رِيحُ الذكيّ الأذفرِ الداري ... والبردُ بردُ الثَّرى واللونُ للنارِ
المتنبي:
سُهادٌ لأجفانٍ وشمسٌ لناظرٍ ... وسُقمٌ لأبدانٍ ومِسكٌ لناشِقِ
أبو نواس:
نحنُ نُخفيها فيأبى ... طيبُ ريحٍ فيفوحُ
فكأنَّ القومَ نُهبى ... بينهمْ مِسكٌ يفوحُ
البحتري:
ولها نسيمٌ كالرياضِ تنفَّسَتْ ... في أوجهِ الأرواحِ والأنداءِ
وفواقعٌ مثلُ الدموعِ تردّدتْ ... في صحنِ خدِّ الكاعبِ العذراءِ
الخليع:
سلَبْنا غطاءَ الطينِ عنها بسُحرةٍ ... فضاعَتْ بمسكٍ في الخياشمِ ساطعِ
وسلَّسها الحانيُّ في الكأسِ فانجلَتْ ... بلونٍ كلونِ التِّبرِ أصفرَ فاقعِ

الباب التاسع
مزجها والحباب
ابن المعتز:
فلمّا صبَّها في الكأسِ سارَتْ ... كما سارَ الشجاعُ إلى الجبانِ
وقدْ لبسَتْ خِماراً من حُبابٍ ... كَسِلْخِ الأَيْمِ أو دُرِّ الجُمانِ
فخِلتُ الكأسَ مركزَ أُقحوانٍ ... وتُربتُهُ سحيقَ الزعفرانِ
الثرواني:
خَليليَّ مِن تَيْمٍ وعِجلٍ هُدِيْتُما ... أضيفا بحثِّ الكأسِ يومي إلى أمْسي
وإن أنتما حَييّتُماني تحيةً ... فلا تعدوا ريحانَ قَلاّيةِ القَسِّ
وبالسوسنِ الآزاذِ فالوردِ فارِميا ... بنِسرَينكُمْ في الشرق أو مغربِ الشمسِ
وإن قُلتما لا بدَّ من شُربِ دائرٍ ... ولم تَعداني في مِطالٍ ولا حبْسِ
فمِنْ قهوةٍ حيريّةٍ جابريّةٍ ... عتيقةِ خَمسٍ أو تزيدُ على خمسِ
ذخيرةِ فيروزٍ ليومِ صَبوحِهِ ... ونَيروزِهِ في خيرِ أشربةِ الفُرسِ
تجرُّ على قَرعِ المزاجِ إزارَها ... وتختالُ منه في مُصبّغةِ الورسِ
أنشد:
ماشِلةٌ في قميصِ تِبرٍ ... للدرِّ من فوقِها خِمارُ
ياقوتةٌ حفَّها شعاعٌ ... وجذوةٌ شابَها شرارُ
أحمد بن أبي فنن:
أستلُّ منْ تحتِ الزبَدْ ... مُدامةً مثل الوقَدْ
أطيبَ في الكأسِ إذا ... جاءتك منْ ريحِ الولَدْ
عدي بن زيد:
باكَرَتْهُنَّ قَرقَفٌ كدمِ الجوْ ... فِ تُريكَ القَذى، كُميتٌ رحيقُ
ثم نادتْ ألا اصبحوني فقامت ... قَينةٌ في يمينها إبريقُ
قدمتْهُ على عُقارٍ كَعينِ الدّ ... يكِ صَفّى سُلافَها الراووق
مُزّةٌ قبل مزجِها فإذا ما ... مُزجتْ لذَّ طعمَها من يذوقُ
فطفا فوقَها فقاقيعُ كاليا ... قوتِ حمرٌ يزينُها التصفيقُ
ثم كان المِزاجُ ماءَ سحابٍ ... لا جَوٍ آجنٌ ولا مَطروقُ
والشعراءُ يمدحون ماء المطر للمزاج، ويصفونه بالصفاء والرقة، والخصر والشيم، وأنه عذب نمير، قد فصّلته الشمال، فأعلاه سلسال، وظاهره رقراق، وقراره حصباء ورضراض، وأن موقعه على صَمّانة رصَف، ومصابه في قَلْتٍ على سفح جبل، أو نُقرة في طود شاهق، وبين ألواذ الهضاب في عجمة الرمل، ومحاني المذانب، وأهضام الأوداء وبطون الشعاب، وأجواف الغُدران، وأنه غريضٌ استدرّته الريح، ومرَتْه الصبا عن متون الغوادي الغر، وفَضيض من صوب السواري السود، وقد نسجتها الزعازع، وصفّقتها العواصف، فسلسلت أجزاءه، وجابت غثاءه وأقذاءه، وأن مستنقعه ثنيّة قذفٌ، وأرض مَجْهَل، ومرْتٌ مُضلّة، حيث لا يرى القائف عيناً ولا أثراً، ومَصاد رعْن، لا تحوم عليه الفُتخُ، ولا تخوضه الأكرع، ولا تُصدّيه الأنفاس بسر غير مطروق، ونطفة زرقاء، وجمّة سجراء.
كما سمعت زهيراً يقول:
شجَّ السقاةُ على ناجودِها شبماً ... من ماءِ لينةَ لا طَرْقاً ولا رَنَقا
وقال مسلم:
وماءٍ كعينِ الديكِ لا يقبلُ القذى ... إذا درجتْ فيه الصبا خِلتَهُ يعلو
قصرْنا به باعَ الشَّمولِ وقد طفتْ ... فألبسَها حِلماً وفي حلمِها جهلُ
ويشبهون به ريق الأحبة، وأنّ مشربه خَصِر، ومسقاه شَبِم، وملثَمه عذب، وأنه بارد المقبَّل، لذيذ المكرع، طيب المراشف، كقول البولاني:
فما نطفةٌ من حَبِّ مُزنٍ تقاذفَتْ ... به حَسَنَ الجوديِّ والليلُ دامسُ
فلما أقرّتْهُ اللصابُ تنفّستْ ... شمالٌ لأعلى مَتنِهِ فهو قارسُ

بأطيبَ من فيها وما ذقتُ طعمَهُ ... ولكنني فيما ترى العينُ فارسُ
أبو تمام في المزاج:
ولعابُ بنتِ غمامتينِ مزجتُهُ ... بلُعابِ قلبِ قطافِ غرسٍ مُونقِ
حمراءَ من حلَبِ العصيرِ كسوتُها ... بيضاءَ من حلَبِ الغَمامِ الرقْرَقِ
أخذ لفظه من قول مسلم:
صفراءُ من حلَبِ الكرومِ كسوتُها ... بيضاءَ من حلَبِ الغَمامِ البُجَّسِ
ابن المعتز:
قهوةٌ زوّجَتْ بماءِ سحابِ ... فكسا وجهَها نِقابُ حَبابِ
مثلَ نَسجِ الدروعِ أو مثلَ مِي ... ماتٍ تدانَتْ بها سطورُ الكتابِ
وتراها في كأسِها مثلَ شمسٍ ... طلعَتْ في مُلاءةٍ من سَرابِ
فإذا صادفَتْ فؤاداً حَلِيّاً ... لم تدَعْهُ فرداً بلا أحبابِ
إسحاق بن الصباح:
كلُّ عَروسٍ حسنٍ وجهُها ... زهَتْ فبالخمرِ أَزاهيها
الحليُ منها، مُستعارٌ لها ... والخمرُ عمّى حَليَها فيها
ابن المعتز:
سرَيْتُ فيها بخيولٍ شُقرِ ... سِياطُها ماءُ السحابِ الغُرِّ
آخر:
عن عُقارٍ شهباءُ تحسبُها ... شِيبَتْ بمسكٍ في الدنِّ مفتوتِ
للماءِ فيها كتابةٌ عَجَبٌ ... كمثلِ نقشٍ في فَصِّ ياقوتِ
آخر:
واكتسَتْ من فضّةٍ زرَداً ... خِلتُها من تحتها ذهَبا
كمنَتْ في الدنِّ قلَّدها ... فارسٌ من لؤلؤٍ حَبَبا
ابن المعتز:
أحداقُها فضّةٌ مُجوّفةٌ ... نواظرٌ ما لهُنَّ أشفارُ
يلمعُ فيها من كلِّ ناحيةٍ ... كوكبُ نورٍ إليكَ نَظّارُ
الرقاشي:
ترى كأسَها عند المزاجِ كأنّما ... نثَرْتَ عليهِ حَلْيَ رأسِ عَروسِ
فتَهتكُ أستارَ الضميرِ عنِ الحشا ... وتُبدي من الأسرارِ كلَّ حَبيسِ
السروي:
مثلُ ذَوْبِ العَقيقِ حتى تبدَّتْ ... واكتسَتْ منْ حَبابِها إكليلا
تلزَمُ الماءَ حينَ يُرسل فيها ... مثلما يلزَمُ الخليلُ الخليلا
آخر:
ونارٍ قد حَناها سَراعاً بسُحرةٍ ... متى ما تُرِقْ ماءً عليها تَوَقَّدِ
يجولُ حَبابُ الماءِ في جنَباتِها ... كما جالَ دمعٌ فوقَ خدٍّ مُورَّدِ
آخر هو ابن المعتز:
حمراءُ لو قيلَ ما احمرَّتْ موردةٌ ... طافَتْ عليها فسرَّتْ كلَّ مهمومِ
كأنَّ في كأسِها، والماءُ يقرعُها ... أكارعَ النملِ أو نقشَ الخواتيمِ
آخر:
إذا ما الماءُ أمكنني ... وصفوُ سُلافةِ العِنبِ
سبكتُ الفضةَ البيضا ... ءَ فوقَ قُراضَةِ الذهبِ
آخر:
ينصبُ حرَّ جِسمِها بردُ ثلجٍ ... فهي نارٌ إنْ لم تكن ذاتَ مزجِ
اُغْزُ واحجُجْ إلى المُدامِ فهذا ... يومُ غزوٍ إلى المُدامِ وحَجِّ
المتلمس:
كأني شاربٌ يومَ استقلّوا ... وحَثَّ بهمْ وراءَ البيدِ حادِ
عُقاراً عُتِّقتْ في الدنِّ حتى ... كأنَّ حبَابَها حدَقُ الجَرادِ
أبو نواس:
كلُّ ليالي السودِ مُذْ قابلْتُهُ ... عندي كبيضِ ثلاثةِ التشريقِ
ابن المعتز:
وبيضاءُ الخمارِ إذا اجتلَتْها ... عيونُ الشربِ صفراءُ الإزارِ
جَموحٌ في عَنانِ الماءِ تَنزو ... إذا ما راضَها برقُ النهارِ
أخذ معنى البيت الأول من أبي نواس حيث يقول:
فللخمرِ ما زَرَّتْ عليهِ جُيوبُها ... وللماءِ ما دارتْ عليهِ القلانِسُ

باب في
فضلات الكؤوس
أنشد:
كأنَّ الكؤوسَ بفَضلاتِها ... مُتوَّجةٌ بأكاليلِ نورِ
جيوبٌ من الوشيِ مَزورةٌ ... يلوحُ عليها بياضُ النحورِ
آخر:
وكأنما الأقداحُ مُترعةَ الحشى ... بينَ الشَّروبِ كواكبُ الجَوزاءِ
وكأنّها ياقوتةٌ فَضَلاتُها ... مَخروطةٌ من فضةٍ بيضاءِ
المُعوَّج:
تُعاطيكَ كأساً غيرَ ملأى كأنّها ... إذا مُزجَتْ أحداقُ دِرعٍ مُزرَّدِ
كأنَّ أعاليها بَياضُ سَوالفٍ ... يلوحُ على تَوريدِ خدٍّ مُورَّدِ
الناجم:
إنَّ الكؤوسَ على الخطوطِ مِلاءُ ... حُمْرُ الحشا أطواقُهُنَّ وِضاءُ
وكأنَّها وجهُ العروسِ المُجتلى ... وعلى الجبينِ عِصابةٌ بيضاءُ
رجعٌ إلى نعتِ المزاج:

لا عيشَ إلا منْ كفِّ ساقيةٍ ... ذاتِ دلالٍ في طرفِها مرَضُ
كأنّما الكأسُ حينَ تمزجُها ... نجومُ ليلٍ تعلو وتنخفضُ
آخر:
وساقيةٍ كأنَّ بمَفرِقَيْها ... أكاليلاً على طبقاتِ ورْدِ
لها طيبُ المُنى وصفاءُ لونٍ ... وحُمرةُ وَجنةٍ ومذاقُ شَهَدِ
أحمد بن أبي فنن:
ماذا انتظارُكَ باللذات والطربِ ... قُلْ للسُّقاة ألحّوا الكأسَ بالنُّجبِ
وأفرِغوا الماءَ في راحٍ مُعتّقةٍ ... ما أحسنَ الفضّةَ البيضاءَ في الذهَبِ

الباب العاشر في
صفائها وصفاء الكأس عليها
ابن المعتز وأحسن:
خَليليَّ قدْ طابَ الشرابُ المُبرَّدُ ... وقدْ عُدتُ بعدَ النُّسكِ والعَودُ أحمدُ
فهاتِ عُقاراً في قميصِ زجاجةٍ ... كياقوتةٍ في دُرّةٍ تتوقَّدُ
يصوغُ عليها الماءُ شُباكَ فضةٍ ... لها حلَقٌ بِيضٌ تُحَلُّ وتُعقَدُ
علي بن جبَلَة:
رقَّتْ لطول بَياتِها ... فالعينُ عنها خافِيهْ
وتُريكَ رِقَّتُها كأنَّ الكأسَ منها خاليهْ
حتى إذا ولدَ الظلا ... مُ الصُّبحَ سقطاً ناحيَهْ
ناديتُ نَدماني بِهِمْ ... من خبلِ سُكرٍ ما بِيَهْ
من مُقعسٍ في مَشيِهِ ... والكأسُ فيهِ ماشيَهْ
ومُلجلجٍ بلسانِهِ ... يحكي لِساناً ثانيَهْ
وقد أحسن القائل في قوله:
له خُلْقٌ على الأيامِ يصفو ... كما تصفو على الزمنِ العُقارُ
وقد نظر إلى قول بشار:
فدعِ التبخُّتَ عن أخيكَ فإنهُ ... كسَبيكةِ الذهبِ الذي لا يُكلَفُ
ابن لنكك:
كأنّما الكأسُ على كفِّهِ ... موصولةٌ بالأنملِ الخمسِ
ياقوتةٌ حمراءُ قد صُيِّرَتْ ... واسطةٌ للبدرِ والشمسِ
قد زهقَتْ نفسي من حُبِّهِ ... وآفةُ النفسِ من النفسِ
أبو نواس:
فأُرسلتْ من فمِ الإبريقِ صافيةٌ ... كأنّما أخْذُها بالعقلِ إغفاءُ
رقَّتْ على الماءِ حتى ما يُمازِجُها ... لَطافةً، وجفا عن شكلِها الماءُ
أبو عبادة:
أهدى إليَّ خليلٌ ... سُلَيْلَ مِسكٍ ونَدِّ
أرقُّ من لفظِ صَبٍّ ... يشكو حرارةَ وَجْدِ
كأنّهُ إنْ تجئْنا ... بلا انتظارٍ لوعْدِ
فاخلعْ عليَّ سروراً ... بكونِكَ اليومَ عندي
الموصلي:
ألا سَقَّنيها قهوةً بابليةً ... كمثلِ شعاعِ الشمسِ بل هي أفضلُ
فقد نطقَ الدُّرّاجُ بعدَ سُكوتِهِ ... ووافى كتابُ الوردِ أنّي مُقبلُ
كُشاجِم:
هتفَ الصبحُ بالدُّجى فاسْقِنيها ... قهوةً تتركُ الحليمَ سَفيها
لستُ أدري لرقةٍ وصَفاءٍ ... هيَ في كأسِها أمِ الكأسُ فيها
الصنوبري:
في إناءٍ كالثلجِ أُودعَ ناراً ... كلما أُطفئَتْ بثلجٍ تأجَّجْ
أحمرٌ فوقَهُ من الحَبَبِ الأبيضِ دُرٌّ على عتيقٍ مُدحرَجِ
ألمّ في البيت الأول بقول ابن الرومي في المروحة:
أراني إذا رَوحُ المَراوحِ مسَّني ... أُحِسُّ بنارٍ في فؤادي تأجَّجُ
ولا عجبٌ من حرِّ هذي وبردِ ذا ... كذا كلُّ نارٍ رُوِّحَتْ تتوهجُ
الناجم: أروح من ظاهر وأحرق من باطن.
بكر بن النطاح:
كأسٌ صفَتْ وصفَتْ منها زجاجتُها ... كأنّها لاشتباهِ اللونِ جَوفاءُ
لبعض الشاميين:
تُخفي الزجاجةُ لونَها فكأنّهم ... يجدون رَيّاً من إناءٍ فارغِ
ابن المعتز:
فأخرجَ بالمبزالِ منها سَبيكةً ... كما فتلَ الصّواغُ خَلخالَهُ فَتلا
وجاءَ بها كالشمسِ يأكلُ نورُها ... زُجاجتَها من كفِّ شاربِها أكْلا
وله:
وعروسٍ زُفَّتْ على بطنِ كفٍّ ... في قميصٍ مُنقَّشٍ من زُجاجِ
فهيَ بعدَ المِزاجِ توريدُ خَدٍّ ... وهيَ مثلُ الياقوتِ قبلَ المِزاجِ
أبو نواس:
أقولُ لمّا تقاربا شبَهاً ... أيُّهما للتشابُهِ الذهبُ
هما سَواءٌ وفَرْقُ بينِهما ... بأنَّ ذا جامدٌ ومُنسكبُ
ابن المعتز:
منْ لي على رغمِ الحسودِ بقهوةٍ ... بِكْرٍ رَبيبةٍ حانةٍ عذراءِ
مُخٌّ من الذهبِ المُذابِ تضمُّهُ ... كأسٌ كقشرِ الدرّةِ البيضاءِ
الصنوبري:

وحاملٌ جسماً من النورِ قدْ ... صُيِّرتِ النارُ لهُ روحا
إذا سقانا منحَ الكأسَ منْ ... صِفاتِهِ ما ليسَ ممنوحا
من خدِّهِ لوناً ومن ريقِهِ ... طعماً ومن نكهتِهِ ريحاً
ابن المعتز:
وندمانٍ سقيتُ الكأسَ صِرفاً ... وأُفقُ الليلِ منسدلُ السُّجوفِ
صفَتْ وصفَتْ زجاجتُها عليها ... كمعنىً دقَّ في جسمٍ لطيفِ
الصنوبري:
عُقارٌ إذا رُدّيَتْ بالزجاجِ ... تردّى الزجاجُ لها بالبَهاءِ
فيأتي الإناءُ لها حاملاً ... وتُحسَبُ حاملةً للإناءِ
تَثنّى بِحَرٍّ كحرِّ الفِراقِ ... وتبدو ببردٍ كبردِ اللقاءِ
لها حببٌ ما طفا في الإناءِ ... حسبتَ النجومَ طفَتْ في الإناءِ
فتلكَ التي ما عراها النديمُ ... فعُرِي عن لُبسِ ثوبِ البقاءِ
أبو عبادة:
طرقَتْنا تلكَ الهديةُ والصهباءُ من خيرِ ما تبرّعْتَ تُهدي
واقتصَرْنا على التي فاجأَتْنا ... وردةٌ عندما استُشِفَّتْ لِوردِ
لبسَتْ زُرقةَ الزجاجِ فجاءَتْ ... ذهباً يستنيرُ في لازَورْدِ
الموصلي:
وصافيةٍ تغشى العيونَ رقيقةٍ ... رهينةِ عامٍ في الدنانِ وعامِ
أدرْنا بها الكأسَ الرويَّة بيننا ... منَ الليلِ حتى انجابَ كلُّ ظلامِ
فما ذرَّ قرنُ الشمسِ حتى كأنَّنا ... من العيِّ نحكي أحمدَ بن هشامِ
الناجم:
وقهوةٍ كشعاعِ الشمسِ صافيةٍ ... مثلِ السرابِ تُرى من رِقّةٍ شَبَحا
إذا تعاطيتَها لم تُدرِ من فرحٍ ... راحاً بلا قدَحٍ أعطيتَ أمْ قَدَحا
ابن أبي البغل:
وكأسٍ لُجينٍ صوَّرَ القينُ بينَها ... ثلاثَ قِيانٍ قد لبسْنَ المَجاسِدا
عرفتُ لها وزناً فلمّا ملأتُها ... منَ الراحِ كانَ الوزنُ بالراحِ واحدا
كذاكَ الهَيولى أنتَ واجدُ حِسِّهِ ... ولستَ لهُ باللمسِ بالكفِّ واجِدا
السروي:
عُنِيَتْ بالمُدامةِ الشعراءُ ... وصفوها وذاكَ عندي عَناءُ
كيفَ تحصيلُ علمِها وهيَ موتٌ ... وحياةٌ وعلّةٌ وشفاءُ
فهي في باطنِ الجوانحِ نارٌ ... وهيَ في ظاهرِ المَحاجرِ ماءُ
حلوةٌ مزّةٌ فما أحدٌ يد ... ري أداءٌ خصوصُها أمْ دواءُ
أبو تمام:
وكأنَّ بهجتَها وبهجةَ كأسِها ... نارٌ ونورٌ قُيِّدا بوِعاءِ
أو دُرّةٌ بيضاءُ بِكْرٌ أُطبقَتْ ... حبَلاً على ياقوتةٍ حمراءِ
التنوخي:
وراحٍ من الشمسِ مخلوقةٍ ... بدَتْ لكَ في قدحٍ من نهارِ
هواءٌ ولكنّهُ ساكنٌ ... وماءٌ ولكنهُ غيرُ جارِ
إذا ما تأمّلتْها وهيَ فيهِ ... تأملتَ ماءً مُحيطاً بنارِ
فهذي النهاية في الإبيضاضِ ... وهذي النهايةُ في الإحمرار
وما كانَ لي في الحُكمِ أن يُوجَدا ... لفرطِ تَنافيهِما والنِّفارِ
ولكنْ تجاورَ سَطحاهما البسيطانِ فائتَلَفا بالجِوارِ
كأنَّ المديرَ لها باليمينِ ... إذا مالَ بالسَّقيِ أو باليسارِ
تدرَّعَ ثوباً من الياسمينِ ... لهُ فرْدٌ كُمٌّ من الجُلّنارِ

الباب الحادي عشر في
شعاعها وتلألئها
أبو نواس:
أدنى سراجاً وساقي الخمرِ يمزجُها ... فصارَ في البيتِ كالمصباحِ مِصباحُ
كِدنا على علمِنا ... للشكِّ نسألُهُ أراحُنا نارُنا أم نارُنا راحُ
يُديرُها مُستعيرٌ خُلْقَ جاريةٍ ... على تَرائبِهِ والنَّحرِ أوضاحُ
يكادُ يجرحُ قلبي طرْفُ مُقلتِهِ ... بلْ كلُّ أطرافِهِ للقلبِ جَرّاحُ
فالدرُّ مَضحكُه والقوسُ حاجبُهُ ... والسهمُ عيناهُ والأشفارُ أرماحُ
الناشئ:
يا رُبّما كأسٍ تناولتُها ... تسحبُ ذيلاً من تَلاليها
كأنّها نارٌ ولكنّها ... مُنَعِّمٌ، واللهِ، صالِيها
الحسن بن رجاء:
وقهوةٍ في كأسِها ... منْ غيرِ نارٍ سُرجُ
تمزجُها قُبلةُ منْ ... يَحسُنُ منهُ الغَنَجُ
نازَعنِيها في غنِجٌ ... في مُقلتيهِ دَعَجُ
كأنَّ روحي طرَباً ... بروحِهِ تمتزجُ
بِتْنا على مُلهِيَةٍ ... كلٌّ بكلٍّ لَهِجُ

يهذي فواتاً ساعةً ... وساعةً يعتلجُ
ليسَ على العاشقِ في ... حِلّةِ هذا حرَجُ
أبو نواس:
وكأسٍ كمصباحِ السماءِ شربتُها ... على قبلةٍ أو موعدٍ بلقاءِ
أتَتْ دونَها الأيامُ حتى كأنها ... تَساقُطُ نَوْرٍ من فُتوقِ سَماءِ
أخذه من قول جرير:
تُجري السِّواكَ على أغرَّ كأنّهُ ... برَدٌ تَحدَّرَ من مُتونِ غَمامِ
آخر:
وكأسٍ سبَتها التَّجرُ من أرضِ بابلٍ ... كرِقّةِ ماءِ الدمعِ في الأعينِ النُّجلِ
كأنَّ بقايا ما عفا من حَبابِها ... عيونُ الدُّبا من تحتِ أجنحةِ النملِ
وشُجّت فقالت بالمزاج فأُبرزَتْ ... كألسنةِ الحيّاتِ خافَتْ من القَتْلِ
ابن الرومي:
أبصرتُهُ والكأسُ بينَ فمٍ ... منهُ وبينَ أناملٍ خمسِ
فكأنّهُ والكأسُ في فمِهِ ... قمرٌ يُقبِّلُ عارضَ الشمسِ
الصنوبري:
إلاّ تَقُمْ تُشعِلِ السراجَ فقُمْ ... بشُعلةٍ في إنائِها تُسْرَجْ
ما زوَّجَ الماءُ بنتَ عاشرةٍ ... أرقَّ منها في العينِ أو أبهجْ
آخر:
تغشى بياضَ عينِ شاربِها ... فتخالها بيمينِ مُختضِبِ
دارَتْ وعينُ الشمسِ غائبةٌ ... فحسبْتُ عينَ الشمسِ لم تغِبِ
التنوخي:
باتَ يسقيني وأحسو ... ذهباً للهَمِّ مُذهِبْ
وردةً ضاحكةً عنْ ... أقحوان حين يٌقطَبْ
لو أدرْناها على مَيْتٍ لكادَ الميتُ يطرَبْ
صُبِّبَتْ في الكأسِ منها ... كالشُّعاعِ المُتصوِّبْ
أبو نواس:
وكأسٍ كفَتقِ الصُّبحِ باتَتْ تَرُوقُني ... على وجهِ معبودِ الجمالِ رخيمِ
إذا قُلتُ علِّلْني بريقِكَ أقبلَتْ ... مراشفُهُ حتى يُصبْن صَميمي
المتنبي:
سقَتْني بها القُطْرُبُّليَّ مَليحةٌ ... على كاذبٍ من وعدِها ضوءُ صادقِ
سُهادٌ لأجفانٍ لناظرٍ ... وسُقمٌ لأبدانٍ ومِسكٌ لناشقِ
وأغيدُ يهوى نفسَهُ كلُّ عاقلٍ ... أديبٍ ويهوى جسمَهُ كلُّ فاسِقِ
يُحدِّثُ عمّا بينَ عادٍ وبينَهُ ... وصُدغاهُ في خَدَّيْ غلامٍ مُراهقِ
أديبٌ إذا ما جَسَّ أوتارَ مِزهَرٍ ... بلا كلِّ سَمعٍ عن سواه بعائقِ
أبو عبادة:
ألا ربّما كأسٍ سقاني سُلافَها ... رَهيفُ التَثَنّي أوضحُ الثغرِ أشنَبُ
إذا أخذَتْ أطرافُهُ ضوءَ نارها ... رأيتَ اللجينَ بالمُدامةِ يُذهَبُ
كأنَّ بعينيهِ الذي جاءَ حاملاً ... بكفّيهِ منْ ناجودِها حينَ تُقطَبُ
لأسرعَ في عقلي الذي بِتُّ مَوْهناً ... أرى من قريبٍ لا الذي كنتُ أشربُ
أبو الشيص:
يطوفُ علينا بها أحْوَرُ ... يداهُ من الكأسِ مخضوبتانِ
غزالٌ تَميس بأعطافِهِ ... قَناةٌ تعطَّفُ كالخَيزرانِ
آخر:
وصفراءَ قبلَ المزجِ بيضاءَ بعدَهُ ... كأنّ شعاعَ الشمسِ يلقاك دونَها
ترى العينَ تستعفيكَ من لمعانِها ... وتَحسُرُ حتى ما تُقِلُّ جفونَها
البسامي:
ذُدْ بماءِ العينِ والعنبِ ... خَطراتِ الهمِّ والنُّوَبِ
قهوةً لو أنّها نَطقَتْ ... ذكرَتْ ساماً أبا العرَبْ
وهيَ تكسو كفَّ شاربِها ... دِستباناتٍ من الذهَبِ
أبو نواس:
إذا عَبَّ فيها شاربُ القومِ خِلتَهُ ... يُقبّلُ في داجٍ من الليلِ كوكبا
يرى حيثُما كانتْ من البيتِ مشرِقاً ... وما لم يكن فيهِ من البيتِ مغرِبا
أخذه من قول الخليع:
كأنّما نُصْبَ كأسِهم قمرٌ ... يكرعُ في بعضِ أنجمِ الفلَكِ
آخر هو أبو نواس:
وكأنَّ شاربَها لفرطِ شعاعِها ... بالليلِ يكرعُ في سنا مقباسِ
وألذُّ من إنعامِ قُبلةِ عاشقٍ ... وافَتْهُ بعدَ تمنُّعٍ وشِماسِ
أبو نواس:
قال ابغني المصباحَ قلتُ لهُ اتَّئِدْ ... حسبي وحسبُكَ ضوءُها مِصباحا
فسكبْتُ منها في الزجاجةِ شَربةً ... كانتْ لهُ حتى الصباحِ صَباحا
وخَمريّاتُ أبو نواسٍ ونُعوتُها في جملة الشعر كالقرحة في جبهة الأدهم، والرُّقمة في ذراع الحمار، والشامة في الجلد.

الباب الثاني عشر في
الشرب واستطابته
وتغنم السرور واستدفاع الغم به

أنشد:
اشرَبْ هنيئاً على وَردٍ وتَوريدِ ... ولا تدَعْ طِيبَ موجودٍ بمفقودِ
نحنُ الشهودُ وخَفقُ العودِ خاطِبُنا ... فزوّجِ ابنَ غَمامٍ بنتَ عنقودِ
كأساً إذا أبصرَتْ في القومِ مُحتشِماً ... قالَ السرورُ له: قُمْ غيرَ مطرودِ
أما ترى الحُسنَ والإحسانُ قد جُمِعا ... فاشرَبْ فإنّكَ في عرسٍ وفي عيدِ
الحسين بن الضحاك:
عاقِرْ عُقارَكَ واصطَبحْ ... وامزُجْ سرورَكَ بالقدَحْ
وافرَحْ بيومِكَ إنّما ... عُمرُ الفتى يومُ الفرَحْ
ابن المعتز:
شرِبْنا بالصغيرِ وبالكبيرِ ... ولم نحفلْ بأحداثِ الدهورِ
فقدْ ركضَتْ بنا خيلُ الملاهي ... وقد طِرْنا بأجنحةِ السرورِ
أنشد الجاحظ لغيره:
أرى للكأسِ حقاً لا أراه ... لغيرِ الكأسِ إلاّ للنديمِ
هو القُطبُ الذي دارتْ عليهِ ... رحى اللذاتِ في الزمنِ القديمِ
أبو نواس ويُروى لغيره:
ما العيشُ إلاّ في جنونِ الصِّبا ... فإنْ تولّى فجنونُ المُدامِ
كأساً إذا ما الشيخُ والى بها ... خمساً تردّى برداءِ الغلامِ
أخذه من حسان:
إنْ شرخَ الشباب والشعَرَ الأسودَ ما لم يُعاصَ كانَ جنونا
وفي الحديث: الشباب شعبةٌ من الجنون.
العتبيّ:
قالتْ: عهدْتُكَ مجنوناً فقلتُ لها: ... إنَّ الشبابَ جنونٌ بُرؤُهُ الكِبَرُ
العطوي:
لمّا رأيتُ الدهرَ دهرَ الجاهلِ ... ولم أرَ المحزونَ غيرَ العاقلِ
شربْتُ صِرفاً من كرومِ بابلِ ... فصرتُ من عِقلي على مراحِلِ
بشار:
ذَريني أشُبْ همي براحٍ فإنّني ... أرى الدهرَ فيهِ غُمّةٌ ومَضيقُ
وما أنا إلاّ كالزمانِ إذا صحا ... صحوْتُ، وإنْ ماقَ الزمانُ أموقُ
القُطامي:
ألا عَلِّلاني، كلُّ حيٍّ مُعلَّلُ ... ولا تعداني الشرَّ والخيرُ مُقبِلُ
فإنّكما لا تدريانِ أما مضى ... منَ الدهرِ، أمْ ما قدْ تأخرَ، أطولُ
ابن همّام:
قُومي اصبَحيني فما صِيغَ الفتى حَجراً ... لكنْ رهينةُ أجداثٍ وأرماسِ
رَوِّي عظامي فإنَّ الدهرَ مُنتكِسٌ ... أفنى لُقَيْماً وأفنى مُلكَ هُرْماسِ
اليومَ خمرٌ ويأتي في غدٍ خبَرٌ ... والدهرُ ما بينَ إنعامٍ وإبآسِ
فاشرَبْ على حدَثانِ الدهرِ مُرتفِقاً ... لا يصحبُ الغمُّ قَرْعَ السِّنِّ بالكاسِ
وأخبرني أبو عبد الله المزرباني عن الناجم أن ابن الرومي كان يستعقل قول ابن مقبل:
ما أطيبَ العيشَ لو كانَ الفتى حجَراً ... تنبو الحوادثُ عنهُ وهوَ مَلمومُ
وقيلَ للأعشى: ما تشتهي؟ فقال: صهباء صافيةً تمزجها غانيةٌ من صوبٍ غادية؛ فاتصل هذا الخبر بالعَطَويّ، فقال: أشتهي غلاماً أحور، وطبخاً أغبر، وشراباً أحمر. واتصل بالخليع فقال: أشتهي أعين الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحسّاد. وقيل لامرئ القيس: ما تشتهي؟ فقال: بياضَ رُعبوبة. بالشحم مكروبة، وبالطيب مشبوبة. وقيل لطرفة: ما تشتهي؟ فقال: مشرباً هنيئاً، ومطعماً شهياً، ومركباً وَطِيّاً.
ديك الجن:
ظلَّتْ مطايا الملاهي وهيَ واجِفةٌ ... وظلَّلتْنا مطايا الوردِ والآسِ
باكرْتُها قبلَ إسفارِ الضحى بيدي ... فما تبلَّجَ حتى نكَّستْ راسي
منظور بن زَبّان:
ألا لا أبالي اليومَ ما صنعَ الدهرُ ... إذا ما نأتْ عني مُلَيْكةُ والخمرُ
وما منهما إلاّ شديدٌ فِراقُهُ ... فِراقُ النَّدامى والمُخدّرةُ البِكْرُ
أبو عبادة:
ولا أريحيّةَ حتى يُرى ... طَروبُ العشيّةِ نَشوانَها
وليستْ مُداماً إذا أنتَ لمْ ... تُواصِلْ معَ الشربِ إدمانَها
شبيبةَ لهوٍ تَلافيتُها ... فسايرتْ بالراحِ رَيعانَها
يزيد بن معاوية:
أقولُ لصحبٍ ضمّتِ الكأسُ شملَهُمْ ... وداعي صباباتِ الهوى يترنّمُ
خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذّةٍ ... فكلٌّ وإنْ طالَ المدى يتصرَّمُ
ألا إنَّ أهناَ العيشِ ما سمحتْ بهِ ... صُروفُ الليالي والحوادثُ نُوَّمُ
قال:
ناديتُ في الدَّيرِ بني علقَما ... أسقيهُم مشمولةً عندَما

أقسام الكتاب
1 2 3