كتاب : المرقصات و المطربات
المؤلف : ابن سعيد الأندلسي

لما مات عبد المجيد بن عبد الوهاب خرج إبن مناذر إلى مكة وترك النسك وعاد للمجون والخلع، وقال في هذا المعنى شعراً كثيراً حتى كان إذا مدح أو فخر لم يجعل إفتتاح شعره ومباديه إلا المجون، وحتى قال في مدحه للرشيد:
هل؛ عندكم رخصة عن الحسن البصريّ في العشق وغبن سيرينا
إنّ سفاهاً بذي الجلالة والشيبة أن لا يزال مفتونا
وقال أيضاً في هذا المعنى:
ألا يا قمر المسجد هل عندك تنويل
شفاني منك أن ... نولتني شم وتقبيل
سلا كل فؤادي و ... فؤادي بك مشغول
لقد حملت من حبك ... ما لا يحمل الفيل
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني إبن مهرويه قال: حدثنا العباس بن الفضل الربعي قال: حدثني التوزي قال: قال إبن مناذر ليونس النحوي يعرّض به: أخبرني عن جبل أتنصرف أو لا، وكان يونس النحوي يعرّض به: أخبرني عن جبل أتتصرف أم لا، وكان يونس من أهلها فقال له: قد عرفت ما أردت يا إبن الزانية، فأنصرف إبن مناذر فأعدّ شهوداً يشهدون عليه بذلك وصار إليه وسأله: هل تنصرف جبل، وعلم يونس ما أراد فقال له: الجواب ما سمعته أمس.
أخبرني الحسن قال: حدثنا يعقوب إن إسرائيل قال: حدثني إسحق بن محمد النخعي قال: حدثني إسحق بن عمرو السعدي قال: حدثني الحجاج الصواف وخبرني الحسن بن علي أيضاً قال: حدثني إبن مهرويه قال: حدثني إسحق بن محمد قال حدثني أمية بن أبي مروان قال: حدثني حجاج الصوّاف الأعور قال: خرجت إلى مكة فكان جير أي في الطريق إبن مناذر وكان لي ألفاً وخدناً وصديقاً، فدخلت مكة فسألت عنه فقالوا لا يبرح المسجد، فدخلت المسجد فألتمسته فوجدته بفناء زمزم وعنده أصحاب الأخبار والشعراء يكتبون عنه، فسلمت وأنا أقدّر أن يكون عنده من الشوق إليّ ما عندي، فرفع رأسه فرّد السلام رداً ضعيفاً ثم رجع إلى القوم يحدثهم ولم يحفل بي، فقلت في نفسي أتراه ذهبت معرفتي، فبينا أنا أفكر إذ طلع أبو الصلت بن عبد الوهاب الثقفي من باب ني شيبة داخلاًَ المسجد فرفع رأسه نظر إليه ثم أقبل علي فقال: أتعرف هذا فقلت نعم هذا الذي يقول فيه من قطع الله لسانه:
إذا أنت تعلقت ... بحبل من أبي الصلت
تعلقت بحبل وا ... هن القوة منبت
قال: فتغافل عني وأقبل عليهم ساعة ثم أقبل عليّ فقال: من أي البلاد أنت، قلت من أهل البصرة، قال وأين تنزل منها، قلت بحضرة بني عائش الصوّافين، قال: أتعرف هناك إبن زانية يقال له جاج الصواف، قلت نعم، تركته ... أم إبن زانية يقال له إبن مناذر.
فضحك وقام إليَّ فعانقني.
قال مؤلف هذا الكتاب رحمه الله: ولإبن مناذر هجاء في حجاج الصوّاف على سبيل العبث وهو قوله:
أن إدعاء الحجاج في العرب ... عند ثقيف م أعجب العجب
وهو إبن زانٍ لألف زانية ... وألف علج معلهج الحسب
ولو دعاه داعٍ فقال له ... يا الأم الناس كلهم أجب
إذاً لقال الحجاج لبيك من ... داع دعاني بالحق لا الكذب
ولو دعاه داعٍ لقال له ... من المعلي في الؤم قال أبي
أبوه زان والأم زنية ... بنت زناه مهتوكة الحجب
تقول عجّل ل... ... أتركه في استي إن شئت أو ركب
من جامعني فيهما فاوسعني ... رهزاً دراكاً أعطيته سلبي
هم حرى الوصال فأبتغوا الحرى ... قضيب حمار أقضي به أربي
أحب ... الحمار وأبأبي ... فيشة ... الحمار وابأبي
إذا رأته قالت فديتك يا ... قرّة عيني ومنتهى طلبي
إذا سمعت النهيق هاج حري ... شوقاً إليه وهاج لي طربي
يأخذني في أسافلي وحري ... مثل إضطرام انار في الحطب
شكت إليَّ نسوة فلن لها ... وهي نادي بالويل والحرب
كفني قليلاً قالت وكيف وبي ... في جوف صدعي كحكمة الجرب
أرى ... الرجال من عصب ... ليت ... الرجال من خشب
خبرني الحسن بن علي قال:

حدثني أحمد بن محمد الرازي أبو عبيد الله قال: حدثني أبو بجير قال: كان إبن مناذر يجلس إلى إسكافي بالبصرة فلا يزال يهجوه بالأبيات فيصيح من ذلك ويقول له: أنا صديقك فأتقِ الله وأبقِ على الصداقة وإبن مناذر يلح، فقال الإسكاف: فإني أستعين الله عليك وأتعاطى الشعر، فلما أصبح غدا عليه إبن مناذر كما كان يفعل فأخذ يعبث به ويهجوه، فقال الإسكافي:
كثرت أبوّته وقلّ عديده ... ورومى القضاء به فراش مناذر
عبد الصبيريين لم تك شاعراً ... كيف إدعيت اليوم نسبه شاعر
فشاع هذان البيتان بالبصرة ورواهما أعداؤه وجعلوا يتناشدونهما إذا رأوه، فخرج من البصرة إلى مكة وجاور بها كان هذا سبب هربه من البصرة.
أخبرني عمي قال: حدثنا الكرّاني عن أبي حاتم قال: قال إبن مناذر: ما مرّ بي شيء قط أشد عليّ مما مرّ بي من قول أبي العسعاس فيّ:
كثرت أبوته وقل عديده ... ورمى القضاء به فراش مناذر
أنظر بكم صنف قد هجاني في هذا البيت قبحه الله ثم منعني من مكافأته أني لم أجد له نباهة أغضها ولا شرفاً فأهدمه ولا قدراً فأضعه.
أخبرني عمي قال: حدثني اكرني قال: حدثني بشر بن دحية الزيادي أبو معاوية فقال: سمعت إبن مناذر يقول أن الشعر ليسهل عليّ لو شئت أن لا أتكلم إلا بشعر لفعلت.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس ين ميمون طابع قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت إبن مناذر بمكة وهو يتوكأ على رجل يمشي معه وينشد:
إذا ما كنت أشكوها ... إلى قلبي لها شفعا
ففرّق بيننا دهر ... يفرّق بين ما إجتمعا
فقلت إن هذا لا يشبه شعرك فقال إن شعري برد بعدك.
أخبرني عيسى بن الحسين اورّاق قال: حدثنا ابو أيوب امدني قال: حدثنا بعض أصحابنا أن محمد بن عبد الوهاب الثقفي تزوج إمرأة من ثقيف يقال لها عمارة، وكان إبن مناذر يعاديه فقال في ذلك:
لما رأيت القصف والشاره ... والبز قد ضاقت به الحاره
والآس لمن ذا قيل أعجوبة ... محمد زوج عمّارة
لا عمّر الله بها ربعه ... فإن عمّارة بذكاره
ويحك فرّي وأعصبي فاك لي ... فهذه أختك فرّاره
قال: فو الله ما لبثت عنده إلا مديدة حتى هربت وكانت لها أخت قبلها متزوجة إلى بعض أهل البصرة فتركته وهربت منه فكانوا يعجبون من موافقة فعلها قول إبن مناذر.
قال أبو أيوب: وحدثت أن أمية وأسمه خالد، وهو الذي يقول فيه أبو نواس:
أيها المقبلان من حكيمان ... كيف خلفتما أبا عثمان
وأبا أمية المهذب وألما ... جد المرتجى لريب الزمان
كان خطب امرأة من ثقيف ثم من ولد عثمان بن أبي العاص فرّد عنها وتصدّى للقاضي أن يضمنه مالاً من أموال اليتامى فلم يجبه إلى ذلك ولم يثق به، فقال فيه إبن مناذر:
ابا أمية لا تغضب عليّ فما ... جزاء ما كان فيما بيننا الغضب
إن كان ردّك قوم عن فتاتهم ... ففي كثير من الخطاب قد رغبوا
قالوا عليك ديون ما تقوم بها ... في كل عام بها تتحدث الكتب
وقد تفعم من خمسين غايتها ... مع أنه ذو عيال بعدما إنشعبوا
في التي فعل القاضي فلا تجدن ... فليس في تلك لي ذنب ولا ذنب
أردت أموال اليتامى تضمنها ... وما يضمن إلا من له نشب
عن الأغاني مجلد تاسع جزء 17 و18 صفحة 9 - 10 * * *

نسب المتوكل الليثي وأخباره مع الجارية أميمة
هو المتوكل بن عبد الله بن نهثل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر بن عوف بن عامر من شعراء الإسلام، وهو من أهل الكوفة. كان في عصر معاوية وغبنه يزيد ومدحهما ويكنى أبا جهمة، وقد إجتمع مع الأخطل وناشده عند قبيضة بن والق ويقال عند عكرمة بن ربعي الذي يقال ه الفياض فقدّمه الأخطل. وهذه القصيدة التي في أولها الغناء قصيدة هجا بها عكرمة إبن الربعي وخبره معه يذكر بعد.
أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن سعد الدمشقي عن الزبير بن بكار عن عمه. وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال:

حدثني هرون بن محمد عبد الملك قال: أخبرني هرون بن مسلم قال: حدثني حفص بن عمر العمري عن لقيط بن بكير المحاربي قال: قدم الأخطل الكوفي فنزل على قبيصة بن والق فقال المتوكل ن عبد الله الليثي لرجل من قومه: إنطلق بنا إلى الأخطل نستنشده ونسمع من شعره فأتياه فقالا أنشدنا يا أبا مالك فقال: إني لخاثر يومي هذا، فقال له المتوكل: أنشدني أيها الرجل فوالله لا تنشدني قصيدة إلا أنشدتك مثلها أو أشعر منها من شعري. قال ومن أنت، قال أنا المتوكل، قال: أنشدني ويحك من شعرك، فأنشده:
للغانيات بذي المجاز رسوم ... فببطن مكة عهدهن قديم
فبمنحر البدن المقلد من منى ... حلل تلوح كأنهن نجوم
لا تنهِ عن خلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
والهمّ إن لم تمضهِ لسبيله ... داءٌ تضمنه الضلوع مقيم
غنّى في هذه الأبيات سائب خائر من رواية حماد عن أبيه ولم يجنسه. قال: وأنشده أيضاً:
الشعر بّ المرء بعرضه ... والقول مثل مواقع النبل
منها المقصر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل
قال: وأنشده أيضاً:
إننا معشرٌ خلقنا صدوراً ... من يسوّي الصدور بالأناب
فقال له الأخطل: ويحك يا متوكل، لو نبحت الخمر في جوفك كنت أشعر الناس.
قال الطوسي: قال الأصمعي: كانت للمتوكل بن عبد الله الكناني امرأة يقال لها رهيمة ويقال أميمة وتكنى أم بكر فأقعدت فسألته الطلاق فقال: ليس هذا حين طلاق، فأبت عليه فطلقها. ثم أنها برئت بعد الطلاق فقال في ذلك:
طربت وشاقني يا أم بكر ... دعاء حمامة تدعو حماما
فبتّ وبات مي لي نجيباً ... أعزي عنكِ قلباً مستهاما
إذا ذكرت لقلبك أم بكر ... يبيت كأنما إغتبق المداما
خدلجة ترف غروب فيها ... وتكسو المتن ذا خصل شحاما
أبى قلبي فما يهوى سواها ... وإن كانت مودتها غراما
ينام الليل كل خلي همٍ ... ويأتي العين منحدر سجاما
على حين أرعويت وكان رأسي ... كأن على مفارقه ثغاما
سعى الواشون حتى أزعجوها ... ورث الحبل فأنجذم إنجذاما
فلست بزائل ما دمت حياً ... مسراً من تذكرها هياما
ترجيها وقد شحطت نواها ... ومنّتك المنى عاماً فعاما
خدلجة لها كفل وثير ... يتوء بها إذا قامت قياما
مخضرة ترى في الكشح منها ... على تثقيل أسفلها إنهضاما
إذا إبتسمت تلألأ ضوء برقٍ ... تهلهل في الدجنة ثم داما
وإن قامت تأمل راثياها ... غمامة صيف ولجت غماما
إذا تشي تقول دبيب شولٍ ... تعرّج ساعة ثم إستقاما
وإن جلست فدمية بيت عيدٍ ... تصان ولا تُرى إلا لماماً
فلو أشكو الذي أشكو إليها ... إلى حجر لراجعني الكلاما
أحب دلوّها وتحب نأبي ... وتعتام التنائي لي إعتياماً
كأني من تذكر أم بكرٍ ... جريج أسنةٍ يشكو كلاما
تساقط انفساً نفسي عليها ... إذا شحطت وتغتم إغتماما
غشيت لها منازل مقفرات ... عفت إلا الأباصر والثماما
ونؤيا قد تهدم جانباه ... ومبناه بذي سلم خياما
صليني وأعلمي إني كريم ... وأن حلاوتي خلطت غراما
وإني ذو مجامحة صليبٌ ... خلقت لمن يماسكني لجاما
فلا وأبيك لا أنساكِ حتى ... تجاوب هامتي في القبر هاما
والقصيدة التي فيها الغناء المذكور في أول خبر المتوكل يقول أيضاً في امرأته هذه ويمدح فيها حوشيا الشيباني ويقول فيها:
إذا وعدتك معروفاً لوته ... وعجّلت التجرم والمطالا
لها بشرٌ نقي اللون صافِ ... ومتن خطَ فأعتدل إعتدالا
إذا تمشي تأود جانبها ... وكاد الخصر يخزل إنخزالا

تنوء روافدها إذا ما ... وشاحاها على المتن جالا
فإن تصح أميمة قد تولت وعاد الوصل صرماً وأعتلالا
فقد تدنو النوى بعد إغتراب ... بها وتفرّق الحي احلالا
تعبس لي أميمة بعد أنسٍ ... فما أدري أسخطاً أم دلالا
أبيني لي فربّ أخ مصاف ... رزئت وما أحب به بدالا
أصرمٌ منك هذا أم دلال ... فقد عني الدلال إذاً وطالا
أم إستبدلت بي ومللت وصلي ... بوحي لي به ودعي المحالا
فلا وأبيك ما أهوى خليلاً ... أقاتله على وصلي قتالا
وكم من كاشح يا أم بكر ... من البغضاء يأتكل أتكالا
لبثت على قناع من أذاه ... ولو لا الله كنت له نكالا
ووما يغني به من هذه القصيدة قوله:
أنا الصقر الذي حدّثت عنه ... عتاق الطير تتدخل إندخالا
رايت الغانيات صدفن لما ... رأين الشيب قد شمل القذالا
فلم يلووا إذا رحلوا ولكن ... تولت عيرهم بهم عجالا
غنّى فيه عمر الوادي خفيف رمل عن الهاشمي وذكر حبش أن فيه لإبن محرز ثاني ثقيل بالوسطى وأحسبه مضافاً إلى لحنه في أول القصيدة.
وقال الطوسي: قال أبو عمرو الشيباني: هجا معن بن جمل بن جعونة بن وهب أحد بني لقيط ن يعمر المتوكل بن عبد الله الليثي وبلغ ذلك المتوكل فترفع على أن يجيبه ومكث معن سنين يهجوه والمتوكل معرض عنه، ثم هجاه بعد ذلك وهجا قومه من بني الديل هجاء قذعاً إستحيا منه وندم.
ثم قال المتوكل لقومه يعتذر ويمدح يزيد بن معاوية:
خليليّ عوجا اليوم وأنتظراني ... فإن الهوى والهم أمّ أبان
هي الشمس يدنو لي قريباً عيدها ... أرى الشمس ما أسطعيها وتراني
* نأت بعد قرب دارها وتبدلت بنا بدلاً والدهر ذو حدثان
هاج الهوى والشوق لي ذكر حرة ... من المر حجنات الثقال حصان
غنّى في هذه الأبيات إبن محرز من كتاب يونس ولم يجنسه.
قال: سيعلم قومي أنني كنت سورة ن المجد إن داعي المنون دعاني
ألا رب مسرور بموتي أو أتى ... وآخر لو أنعي له لبكاني
خليليّ ما لام أمرؤ مثل نفسه ... إذا هي قامت فاربعا ودعاني
ندمت على شتمي العشيرة بعدما ... تغنى بها عودٌ وحنّ يماني
قلبت لهم ظهر المجن وليتني ... رجعت بفضل من يدي ولساني
على أنني لم ارمِ في الشعر مسلماً ... ولم أهجء إلا من روى وهجاني
همُ بطروا الحلم الذي من سجيتي ... وبدلت قومي شدة بليان
ولو شئتم أولاد وهبٍ نزعتم ... ونحن جميع شملنا إخوان
نهيتهم أخاكم عن هجائي وقد مضى ... له بعد حول كامل سنتان
فلجّ ومنّاه رجال رايتهم ... إذا صارموني يكرهون قراني
وكنت أمرأ يأبى لي الضيم إنني ... صرومٌ إذا الأمر المهم عناني
وصول صرومٍ لا أقول لمدير ... هلم إذا ما أغتشتني وعصاني
خليليّ لو كنت أمرأ بنى سقطه ... تضعضعت أو زلت بي القدمان
أعيش على بغي العداة ورغمهم ... وآتي الذي أهوى على الشنآن
ولكنني ثبت المريرة حازم ... إذا صاح طلابي ملأت عناني
خليليّ كم من كاشح قد رميته ... بقافية مشهورة ورماني
فكان كذات الحيض لن تبق ماءها ... ولم تنقِ عنها غسلها لأوان
ثم أنه يقول فيها ليزيد بن معاوية:
أبا خالد حنّت إليك مطيتي على بعد منتاب وهول جنان
أبا خالد في الأرض نأي ومفسح ... بذي مرة يرمي به الرجوان
فكيف ينام الليل حرّ عطاؤه ... ثلاث لرأس الحول أو مأتان
تنأت قلوصي بعد إسآدي السرى ... إلى ملك جزل العطاء هجان
ترى الناس أفواجاً ينوبون بابه ... لبكر من الحاجات أو لعوان
عن الأغاني 11 - 12 مجلد سادس * * *

ولإبن زيدون قوله في المرقص:
أضحى تنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
من مُبلغ الملبسينا بإنتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي قد كان يضحكنا ... أنساً بقربهم اد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغَصّ فقال الدهر آمينا
فأنحل ما كان معقوداً بأنفسنا ... وأنبت ما كان موصولاً بأيدينا
بالأمس كنا وما يخشى تفقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم أعاديكم ... هل نال حظاً من العتبى أعادينا
لم نعقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلد غيره دينا
كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه ... وقد يئسنا، فما لليأس يغرينا
بنتم وبنا فما إبتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
كاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى، لو لا تآسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سواداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلقٌ من تآلفنا ... ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فنون الوصل دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليُسقَ عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيّرنا ... إذ طالما غيّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا إنصرف عنكم أمانينا
ثم قال:
يا ساريّ البرق غادِ القصر فاسقِ به ... من كان صِرف الهوى والود يسقينا
وأسأل هنالك هل عنّى تذكرنا ... إلفاً تذكره أمسى يعنّينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حياً كان يحيينا
وبيت مثلك كأن الله أنشأه ... مسكاً وقد أنشأ الله الورى طينا
أو صاغ ورقاً محضاً وتوجّه ... من ناصع إبداعاً وتحسينا
إذا تأوّد آدته رفاهية ... تدمى العقول وأدمته البُرى لينا
كانت له الشمس ظِئراً في تكلله ... بل ما تجلى بها إلا أحايينا
كأنما نبتت في صحن وجنته ... زُهر الكواكب تعويذاً وتزيينا
ما ضرّ روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جناه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياةً تملأنا بزهرتها ... مثنى ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... فقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا إنفردتِ وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
* * *
يا جنة الخلد أبدِ لنا بسلسَلها ... والكوثر العذب زقوّماً وغِسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غضّ من أجفان واشينا
سِران في خاطر الظلماء تكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو في إن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدِل بمشربه ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق جمال أنت ككبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا إختياراً تجنينا عن كثبٍ ... لكن عدتنا على كسره عوادينا
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح من شمائلنا ... سيما إرتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا

فما إستعضنا خليلاً عنك يحبنا ... ولا إستفدنا حبيباً منك يغنينا
ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أولي وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا
وفي الجواب شفاءٌ لو شفعتِ به ... بيضَ الأيادي التي ما زالت ولينا
ولإبن زيدون في ولاّدة مقطعان حسان، كقوله:
وأهاً لعطفك والزمان كأنما ... صُبغت نضارته ببرد صباك
والليل مهما طال قصَّر طوله ... هاتي، وقد غفل الرقيب، وهاكِ
أما مني نفسي فأنت جميعها ... يا ليتني أصبحت بعض مناك
يدني مثالكِ حين شطَّ به النوى ... وهمٌ أكاد به أقبِّل فاكِ
وله:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضعِ ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعاً حظه مني ولو بُذلت ... لي الحياة بحظي فيه لم أبعِ
وله أيضاً:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً ... والأفق طلقٌ ووجه الروض قد راقا
ولنسيم إعتلالٌ في أصائله ... كأنما رقّ لي فأعتل إشفاقا
والنهر عن مائه الفضيّ مبتسمٌ ... كما حللتَ عن اللبات أطواقا
يومٌ كأيام لذاتٍ لنا إنصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر سرَّاقا
نلهو بما يستميل العين من زَهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقى ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
وردٌ تألق في ضاحي متابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سرى ينافحه نيلوفرٌ عبقٌ ... وسَنان نبّه منه الصبح أحداقا
كلٌ يهج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك لم يعدُ عنا الصدر إن ضاقا
لو كان وفيّ المنى في جمعنا بكم ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكَّن اله قلباً عن ذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خقاقا
و شاء حملي نسيم الريح حين هفا ... رافاكم بفتىً أضناه ما لاقى
كان التجازي بمحض الود مذ زمنِ ... ميدان أنسٍ جربنا فيه إطلاقا
الآن أحمد ما كنا لعهدكمُ ... سلوتُم وبقينا نحن عشاقا
وإني لمفتون بهذا الشطر الحزين:
سلوتُم وبقينا نحن عشاقا
فقد أجاد الوزير إبن زيدون في نظمه وغزله وكان في مقدمة شعرا الحب في عصره شهادة الشعراء الأقدمين ما ذكر في درواوينهم التي لا مجال لذكرها. وله:
أيها الرائح المغذ تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق
إقرِ عني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق
وإذا ما شئت عني فقل نض ... و هوى ما أظنه اليوم باق
ضاع قلبي فأنشده لي بين جمع ... ومني عند بعض تلك الحداق
وأبكِ عني فطالما كنت من قب ... ل أعير الدموع للعشاق
ثم يقول:
أيها الراكب الميّمم أرضي ... إقر بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضِ ... وفؤادي مالكيه بأرض
قدر البين بيننا فأفترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بيننا بإفتراق ... فعسى بإجتماعنا سوف يقضي
وقال أحدهم:
وما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حالٍ ... مخافة فرقة أو لإشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي ... وتسخن عينه عند التلاقي
ومن الشعراء من يتوجع على عهده قبل الفراق، كقول الشريف:
هل عهدنا بعد التفرق راجع ... أو غصننا بعد التسلب مورق
شوق أقام وأنت غير مقيمة ... والشوق بالكلف المعني أعلق

ما كنت أحظى في الدنو فكيف بي ... واليوم نحن مغرب ومشرق
وقال الأرجاني في ألم:
رحلوا: أمام الركب نشر عبيرهم ... ووراءهم نفس المشوق الصادي
فكان هذا من وراء ركابهم ... حاد لها وكأن ذلك هادي
لله موقف ساعة يوم النوى ... بمنى وأقمار الحدوج بواد
لما تبعت وللمشيع غاية ... أظعانهم وقد إمتلكن قيادي
أتبعتهم عيني وقلبي واقفاً ... فوق الثنية والمطي غواد
كيف السبيل إلى التلاقي بعدما ... ضرب الغيور عليه بالأسداد
والحي قد ركزوا الرماح بمنزل ... فيه الظباء ربائب الآساد
وعد المنى بهم فقلت لصاحبي ... كم دون ذلك من عدي وعواد
عهدي بهمُ بوجرة جيرة ... سقيت عهودهُم بصوب عهاد
فاليوم من نفس النسيم إذا سرى ... نبغي شفاء علائل الأكباد
ولأحدهم:
يا موقفاً بالبان لم تثمر لنا ... غير الصبابة والأسى شجراته
هل نفرت لا نفرت غزلانه ... أو صوحت لا صوحت باناته
عهدي به يلوي الديون قضاته ... وتصيد ألباب الرجال مهاته
فاليوم لا جيرانه جيرانه ... قدماً ولا فتياته فتياته
يا حادي الأظعان في آثارهم ... قلب تقطعه جوى حسراته
ولقد يرى ثبت الحصاة فماله ... أمست تذوب على البعاد حصاته
وقال الصغرائي:
لعمرك ما يرجى شفائي والهوى ... له بين جسمي والعظام دبيب
أجلك أن أشكو إليكِ وأنطوي ... على كمدي إن الهوى لعجيب
وآمل برءاً من هوى خامر الحشا ... وكيف بداء لا يراه طبيب
نصيبك من قلبي كما قد عهدته ... وما لي بحمد الله منك نصيب
وما أدعي إلا إكتفاء بنظرة ... إليك ودعوى العاشقين ضروب
وما بحت بالسر الذي بيننا ... ولكنما لحظ المحب مريب
وقال إبن الأحنف:
إليك أشكو رب ما حل بي ... من صد هذا التائه المعجب
صب بعصياني ولو قال لي ... لا تشرب البارد لم أشرب
إن قال لم يفعل وإن سيل لم ... يبذل وإن عوتب لم يعتب
* * * قال إعرابي:
شكوت فقالت كل هذا تبرماً ... بحبي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قالت لشد ما ... صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدلو فتقصيني فابعد طالباً ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة عرفونها ... إشيروا بها وأستوجبوا الشكر من ربي
وهذه القصيدة إنتقيناها من كتاب " مدامع العشاق " وقد أجاد في هذا المعنى من شعراء العصر حافظ بك إبراهيم حين قال:
كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم
ما أنت في دنياك أول عاشق ... رامية لا يحنو ولا يترحم
أهرمتني يا ليل في شرخ الصبا ... كم فيك ساعات تشيخ وتهرم
لا أنت تقصر لي ولا أنا نقصر ... أتعبتني وتعبت، هل من يحكم
لله موقفنا وقد ناجيها ... بعظم ما يخفي الفؤاد ويكتم
قالت مَن الشاكي تسائل سربها ... عني ومن هذا الذي يتظلم
فأجبتها وعجبن كيف تجاهلت ... هو ذلك المتوجع المتألم
أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لو لا عيونك حجة لا تفحم
أسلمت نفسي لهوى وأظنها ... مما يجشمها الهوى لا تسلم
وأتيت يحدوني الرجاء ومن أتى ... متحرماً بفنائكم لا يحرم
أشكو لذات الخال ما صنعت بنا ... تلك العيون وما جناه المعصم

لا السهم يرفق بالجريح ولا الهوى ... يبقي عليه ولا الصبابة ترحم
لو تنظرين إليه في جفون الدجى ... متململاً من هول ما يتجشم
يمشي إلى كنف الفراش محاذراً ... وجلاً يؤخر رجله ويقدم
يرمي الفراش بناظريه وينثني ... جزعاً ويقدم بعد ذاك ويحجم
فكأنه واليأس ينف نفسه ... للقتل فوق فراشه يتقدم
رشقت به في كل مدية ... وأنساب فيه بكل ركن أرقم
فكأنه في هوله وسعيره ... وادٍ قد أطلعت عليه جهنم
هذا وحقك بعض ما كابدته ... من ناظريك وما كتمتك أعظم
قالت أهذا أنت ويحك فأتئد ... حتى مَ في الغرام وتتهم
إنا سمعنا عنك ما قد رأينا ... وأطال فيك وفي هواك اللوّم
أصغت إلى قول الوشاة فأسرفت ... في هجرها وجنت عليّ وأجرموا
حتى إذا يئس الطبيب وجاءها ... أني تلفت تندمت وتندموا
وأتت تعود مريضاً لا بل أتت ... مني تشيع راحلاً لو تعلم
وقال إبن المعتز:
إيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته ... وبشرب الراح من راحته
كلما إستيقظ من سكرته ... جذب الزق إليه وأتكا
وسقاني أربعاً في أربع
ما لعيني غشيت بالنظر ... أنكرت بعدك ضوء القمر
وإذا ما شئت فاسمع خبري ... غشيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بانٍ مال من حيث إلتوى ... مات من يهواه من فرط الجوى
خفق الحشاء موهون القوى ... كلما فكّر في البين بكى
ويحه يبكي ... لما لم يقعِ
ليس لي صبر ولا لي جلدٌ ... يا لقومي عذلوا وأجتهدوا
أنكروا شكواي مما أجد ... مثل حالي حقه أن يشتكا
كمد اليأس ... وذل الطمع
كبد جرّى ودمع يكف ... أصرف الدمع فلا ينصر
أيها المُعرض عما أصف ... قد نما حبي بقلبي وزكا
لا تقل في الحب أني مدعي
عن " مدامع العشاق " للأستاذ زكي مبارك وقال إبن الرومي:
هل الملالة إلا منقضى وطرِّ ... من متعة يطِّبي من غيرها وطر
وفيك أحسن ما تسمو النفوس له ... فأين يرغب عنك السمع والبصر
وقال إبن عنين:
خبروها بأنه ما تصدى ... لسلوٍ عنها ولو مات صدا
واسألوها في زورة من خيالٍ ... إن تكن لم تجد من الهجر بدا
ظبية تخجل الغزالة وجهاً ... وبهاءً وتفضح الغصن دا
وقال أو الأسود الدؤلي:
أبى القلب إلا أم عمرو وحبها ... عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفند
كبرد اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد
وقال صردر:
ولقد عرضت على السلو جوانحي ال ... حرّى فلم يرهن دار مقام
كيف السلو وليس يسلك مسمعي ... إلا حنين أو بكاء حمام
وقال إبن الزيات:
لم يزدني العذل إلا ولعا ... ضرني أكثر مما نفعا
ذهبت بالقلب عين نظرت ... ليتها كانت وإياه معا
كل يوم لي منها آفة ... تركتني للهوى متبعا
وقال الأبيوردي:
أرى كل حب غير حبك زائلاً ... وكل فؤادٍ غير قلبي ساليا
إذا إستخبر الواشون عما أسره ... حمدت سلوى أو ذممت التصابيا
أيذهل قلب أنت سر ضميره ... فلا كان يوماً عنك يا علو ساليا
وقال العزّي:
يا خليلي لو ملكت فؤادي ... جاز أن يملك الصواب عناني
ظالمي من أراد إصاف نفسي ... من هواها وآمري من نهاني
قد تورطت في نعسف شوقي ... حيث لا يعرف السلّ مكاني

وقال الطغرائي:
خليليّ هل من مسعد أو معالج ... فؤاداً به ذاء من الحب ناكس
وهل ترجوان البرء مما أكنه ... فإني وبيت الله منه لآيس
سرى حيث لا يدري الضمير مكانه ... ولا تهتدي يوماً إليه الهواجس
إذا قلت هذا يوم أسلو تراجعت ... عقابيل من أسقامه ووساوس
* قال إبن الأحنف:
سكوتي بلاءُ لا أطيق إحتماله ... وقلبي ألفو للهوى غير نازع
وأقسم ما تركي عتابك عن قيلي ... ولكن لعلمي أنه غير نافع
وإني إذا لم الزم الصبر طائعاً فلا بد منه مكروهاً غير طائع
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعةٌ ... فلا خير في ودٍ يكون بشافع
وله:
لعمري لقد جلبت نظرتي ... إليك عليّ بلاءً طويلاً
فيا ويح من كلفت نفيه ... بمن لا يطيق إليه السبيلا
هي الشمس مسكنها في السماء ... ولن تستطيع إليك النزولا
*
قال سعيد بن حميد:
أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدةٌ ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حُصَّلوا فناهم التحصيل
لئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن عليّ منك عويل
ولتفجعنّ بمخلص لك وامقٍ ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشاكله لديّ خليل
وليذهبن بهاء كل مروةٍ ... وليفقدن جمالها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... باق عليه من الوفاء دليل
ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول
وقوله:
أفي الحق أني قد قضيت ديونكم ... وإن ديوني باقيات كما هي
فوا أسفي، حتام أرعى مضيَّعاً ... وآمن خوّاناً وأذكر ناسيا
وما زال أحبابي يسيئون عشرتي ... ويجفونني حتى عذرت الأعاديا
وقال أحدهم:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفرج ما ألقى من الهم
قد كان صرمٌ في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم
ولما بقيت ليبقين جوى ... بين لجوانح مضرعٌ جسمي
فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم إفعلي ما شئتِ عن عِلم
وقال الشريف الرضي يعاتب إحدى الجميلات:
يا صاحب القلب الصحيح أما إشتفى ... ألم الجوى من قلبي المصدوع
أأسأت بالمشتاق حين ملكته ... وجزيت فرط نزاعه بنزوع
هيهات لا تتكلفنَّ لي الهوى ... فضح التطبع شيمه المطبوع
كم قد نصبت لك الحبائل طامعاً ... فنجوت بعد تعرّض لوقوع
وتركتني ظمآن أشرب غلتي ... أسفاً على ذاك اللمى الممنوع
قلبي وطرفي منك هذا في حمى ... قيظٍ وهذا في رياض ربيع
كم ليلة جرّعته في طولها ... غصص الملام ومؤلم التقريع
أبكي ويبسم والدجى ما بيننا ... حتى أضاء بثغره ودموعي
ثقلى أنامله التراب تعللاً ... وأناملي في سنَي المفروع
قمرٌ إذا إستخجلته بعتابه ... ليس الغروب ولم يعد لطلوع
لو حيث يُستمع السّرار وقفتما لعجبتما من عزه وخضوعي
أبغي هواه بشافع من غيره ... شر الهوى ما نلته بشفيع
* من قول زهير:
يا هاجرين وحقكم ... هوَّنتم ما لا يهون
قلتم فلانٌ قد سلا ... ما كان ذاك ولا يكون
وحياتكم وهي التي ... ما مثلها عندي يمين
ما خنت عهدكم كما ... زعم الوشاة ولا أخون
يا من يظن بأنني ... قد خنته غيري الخئون
لو صحَّ ودك صح ظنك ... بي وبان لك اليقين

يا قلب بعض الناس كم ... تقسو عليّ وكم ألين
يا ويلتاه لمن يخا ... طب أو لمن يشكو الحزين
قد ذلَّ من كان المع ... ين له الدمع المعين
وله:
يا أعز الناس عندي ... كيف خنت اليوم عهدي
سوف أشكو ك بعدي ... فعسى شكواي تجدي
إين مولاي يراني ... ودموعي فوق خدي
أقطع الليل أقاسي ... ما أقاسي فيه وحدي
ليتني عندك يا مولا ... ي أو ليتك عندي
ثم قال:
من لي بقلب أشتيه ... من القلوب القاسية
إني لأطلب حاجةً ... ليست عليك يخافيه
أنعم عليّ يقبلة ... هبةً وإلا عارية
وأعيدها ك لا عدم ... تَ بعينها وكما هيه
وإذا أردت زيادة ... خذها نفسي راضية
عسى يجود لنا الزما ... ن خلوةٍ في زاوية
أو ليتني ألقاك وحدك ... في طريق خاليه
وله:
يا من تبدل في الهوى ... يهنيك صاحبك الجديد
إن كان أعجبك الصدو ... د كذلك أعجبني الصدود
وأعلم يأني لا أري ... د إذا رأيتك لا تريد
وأنا القريب فإن تعيَّ ... ر صاحبي فأنا البعيد
*
سأعرض عمن راح عني معرضاً ... وأعلن سلواني له وأشيعه
وأحجب طرفي عنه فهو رسوله ... وأحجب قلبي عنه فهو شفيعه
وكيف ترى يني لمن لا يرى لها ... ويحفظ قلبي في الهوى من يضيعه
وأقسمت لا تجري دموعي على أمريء ... إذا كان لا تجري عليَّ دموعه
فإن خان طرفي ما حوته جفونه ... ولو خان قلبي ما حوته ضلوعه
ومن قوله:
هو حظي قد عرفته ... لم يحل عما عهدته
فإذا قصّر من أهوا ... هُ في الحب عذرته
غير أني لي في الح ... ب طريق قد سلكته
لو أراد البعد عني ... نور عيني ما تبعته
إن قلبي وهو قلبي ... لو تجنى ما صحبته
كل شيء من حبيبي ... ما خلا الغدر إحتملته
أنا في الحب غيورٌ ... ذاك خلقي لا عدمته
أبصر الموت إذا أبص ... ر غيري من عشقه
وقال البحتري:
خليليَّ ربع عَزة فأعقلا ... قلوصيكما ثم إبكيا حيث حلتِ
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت
فقد حلفت جهداً بما نحرت ه ... قريشٌ غداة المأزمين وصلت
أناديك ما حج وكبرت ... بفيفا غزال وفقةٌ وأهلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها ... كناذرة نذراً فأوقت وحلت
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وُطَّنت يوماً لها النفس ذلت
ولم يلق إنسانٌ من الحب ميعه ... تعم ولا ماءَ إلا تجلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها الصم زلت
صفوحاً ما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت
أباحت حمى لم يره الناس قبلها ... وحلت تلاعا لم تكن قبلُ حلت
فليت قلوصي عند عزة قُيدت ... بحبل ضعيف غُر منها فضلت
وغودر في الحي المقيمين رحلها ... وكان لها باغ سواي قبلت
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وكنت كذات الظلع لما تحاملت ... على ظلعها بعد العثار إستقلت
أريد الثواءَ عندها وأظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلي وأما بالنوال فضنت
يكلفها الغيران شتمي وما بها ... هواني ولكن للمليك إستدلت

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما إستحلت
و الله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم و أكثرت إلا أقلت
فإن تكن اعتبي فأهلاً ومرحباً ... وحقت لنا العتبى لدينا وقلت
وإن تكن الأخرى فإن وراءنا ... منادح لو سارت بها العيس كلت
فلا يبعدن وصلٌ لعزة أصبحت ... يعافيه أسبابه قد توت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلت
ولكن أنيلي وأذكري من مودة ... لنا خلة كانت لديكم فطلت
فإني وإن صدّت لمئنٍ وصادقٌ ... عليها بما كانت إلينا أزلت
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى ... ولا شامتٌ إن نعل عزة زلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي ... بعزة كانت عمرة فتجلت
فأصبحت قد أبللت من دنف بها ... كما أدنفت هيماء ثم إستبلت
فو الله ثم الله ما حل قبلها ... ولا بعدها من خُلة حيث حلت
وما مر من يوم عليّ كيومها ... وإن عظمت أيام أخرى وجلت
وأضحت بأعلى شاهق من فؤاده ... فلا القلب يسلوها ولا العين ملت
فيا عجباً للقلب كيف إعترافه ... وللنفس لما وطنَّت كيف ذلت
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ظل ... تبوأ منها للمقبل أضمحلت
كاني وإياها سحابة ممحل ... رجاها فلما جاوزته إستهلت
فإن سال الواشون فيمَ هجرتها ... فقل نفس حر سليَّت فتسلت
وقال أحد الظرفاء:
ماتت لفقد الظاعنين ديارهم ... فكأنهم كانوا بها أرواحا
ولقد عهدت بها فهل أرينه ... مغدى لمنتجع الصبي ومراحا
بالنافثات النافثات نواظراً ... والنافذين اسنة وصفاحا
وأرى العيون ولا كأعين عامر ... قدراً مع القدر المتاح مُتاحا
متوارثي مرض الجفون وإنما ... مرض الجفون بأن يكن صحاحا
من كان يكلف بالأهلة فليزر ... ولدي هلال رغبة وبراحا
لا عيب فيهم غير شح نسائهم ... ومن السماحة أن يكن شحاحا
طرقته في أترابها فجلت له ... وهناً من الغرر الصباح صباحا
أبرزن من تلك العيون أسنة ... وهززن من تلك القدود رماحا
يا حبذا ذاك السلاح وحبذا ... وقتٌ يكون الحسن فيه سلاحا
* وقال إبن الرومي:
زارت على غفلة من الحرس ... تهدي إليّ اليلام في الغلسٍ
أني تجشمت نحو أرحلنا الهو ... ل ولم ترهبي أذى العسس
قالت ترامى بنا إليك من الشو ... ق مُغِيص بالبارد السلس
كم زفرة لي تبيتت تنهض أحشا ... ئي ودمع عليك منبجس
وأنت لاه غيرنا ولنا ... منك هوى ممسك على النفس
عجبت من ذلتي ومن قلبك القا ... سي علينا وخلقك الشكس
لا تأمنن الهوى وسطوته ... وأخشى رداه ومنه فأحترس
ومن قول جميل عاشق بثينة:
ما دنا البين بين الحي وأقتسموا ... حبل النوى فهو في أيديهم قِطع
جادت بأدمعها ليلى وأعجلني ... وشك الفراق فما أبقى وما أدع
يا قلب ويحك ما عيشي بذى سلم ... ولا الزمان الذي قد مرّ مرتجع
أكلما بان حيّ لا تلائمهم ... ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علقني بهوى عنهم فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع
وقال أحدهم:
تجب فانّ الحب داعية الحبَ ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
إذا لم يكن في الحبَ عتب ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب

نفكر فإن حدثت أنّ أخا هوى ... نجاساً فأرجو النجاة من الحبّ
وأطيب أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالتحريش فيه وبالعتب
وقيل أن هذه الأبيات غناء لعلية بنت المهدي وكانت تأمره أن يقول الشعر في المعاني التي تريدها لأي من الشعراء.
عرّضن للذي تحب بحب ... ثم دعه يروضه إبليس
فلعل الزمان يدنيك منه ... أن هذا الهوى جليل نفيس
صابر الحب لا يصرفك فيه ... كم حبيب تجهم وعبوس
وأقل اللجاج واصبر على الجهد فإن الهوى نعيم وبوس
لأحدهم:
سلام على النازح المغترب ... تحية صب به مكتئب
غزال مراتعه بالبليح ... إلى دير زكي فقصر الخشب
أيا من أعان على نفسه ... تخليفه طائعاً من أحب
سأستر والستر من شيمتي ... هوى من أحب بمن لا أحب
وقال:
أتاني كتابك يا سيدي ... وفيه العجائب كل العجب
أتزعم أنك لي عاشق ... وأنك بي مستهام وصب
فلو كان هذا كذا لم تكن لتتركني نهزة للكرب
وأنت ببغداد ترعى بها ... نبات اللذاذ مع من تحب
فيا من جفاني ولم أجفه ... ويا من شجاني بما في الكتب
كتابك قد زادني صبوة ... واسعر قلبي بحر اللهب
فهبني نعم قد كتمت الهوى ... كيف بكمان دمع سرب
ولو لا إتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي الناجيات النجيب
معيدو للفرزدق يفاخر بها في وصد بني هاشم:
هذا الذي تعرف لبطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا أين خبر عباد الله كلهم ... هذا التقي نقي الظاهر العلم
هذا إبن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم ألا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
الله شرّفه قدماً وعظمه ... جري بذاك له في لوحة القلم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأوّلية هذا أو له نعم
من يشكر الله يشكر أوليّة ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
ينمي إلى ذروة الدين التي قصرت ... عنها الأكف وعن إدراكها القدم
من جده دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له الأمم
مشقة من رسول الله نعته ... طبت مغارسه والخيم والشيم
ينشق ثوب الدجى عن نور غرته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
من معشر حبهمو دين وبغضمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم
مقدم بعد ذكر الله ذكرمو ... في كل بر ومحتوم به الكلم
أن عد أهل التقى كانوا أثمتهم ... أو قيل من خير اهل الأرض قيل همو
لا يستطيع جواد بعد جودهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
يستدفع الشر والبلوى بحبهم ... ويسترب به الإحسان والنعم
فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فقال:
اتحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد ... وعيناً له حولاه بادٍ عيوبها
فبلغ شعره هشاماً فوجه فأطلقه: " أخبرنا " عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن الهيثم بن عديّ قال أخبرنا أبو روح الراسي قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق ولي مالك بن المنذر شرطة البصرة فقال الفرزدق:
يبغض فينا شطة المصرانني ... رأيت عليها مالكاً عقب الكلب
قال فقال مالك عليّ به فمضوا به إليه فقال:

اقول لنفسي إذ تغص بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مالك
وقيل في المرقص:
أعلل قلبي في الغرام وأكتم ... ولكن حالي عن هواي يترجم
فلو فاض دمعي قلت جرح مقلتي ... لئلا يرى حالي العذول فيفهم
وكنت خلياً لست أعرف ما الهوى ... فأصبحت صباً والفؤاد متيم
رفعت إليكم قصتي أشتكي بها ... غرامي ووجدي كي ترقوا وترحموا
سطرتها من دمع عيني لعلها ... بما حل بي منكم إليكم تترجم
رعى الله وجهاً بالغرام مبرقعا ... له البدر عبد والكواكب تخدم
على حسن ما رأيت مثيلها ... ومن ميلها الأغصان عطفاً تعلم
وأسألكم من غير حمل مشقة ... زيارتنا إن الوصال معظم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونها ... فلي الوصل مني والصدود جهم
فأخذت الجارية الكتاب وأعطته إلى سيدها. فلما قرأت ذاك الكتاب هاج منها الوجد والغرام وكتبت له أيضاً تقول:
يا من تعلق قلبه بجمالنا ... أصبر لعلك في الهوى تحظى بنا
لما علمنا أن حبك صادق ... وأصاب قلبك ما أصاب فؤادنا
زدناك فوق الوصل مثله ... لكن منع الوصل من حجابنا
وإذا تجلى الليل من فرط الهوى ... تتوقد النيران في أحجابنا
وجت مضاجعنا الجنوب وربما ... قد برح التبريح في أجسامنا
الفوض في شرع الهوى كتم الهوى ... لا ترفعوا المسبول من أستارنا
فلما فرغت من شعرها طوت الكتاب وأعطته إلى الخادمة فأخذته وخرجت من عندها. فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت إلى الحمام وقد إنزعجت منه فوقعت منها الورقة دون إنتباه. فبينما كان بعض الخدم يمشي في تلك الجهة وقع نظره على الورقة فأخذها وقدمها إلى الوزير فلما قرأها وفهم فحواها هاج منه الغيظ والغضب وجاء إلى إبنته ورد لائماً مندداً. ثم أمر بعض الخدم بإيعادها وأخذ مكان لها يكون بعيداً في البرية. فلما علمت بذلك زاد منها القلق وكتبت قبل ذهابها هذه الأبيات على باب حجرتها.
بالله يا دار مر الحبيب ضحى ... مسلماً بإشارات يحيينا
أهديه منا سلاماً زاكياً عطراً ... لأنه ليس يدري أين أمسينا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنا ... لما مضوا بي سريعاً مستخفينا
في جنح ليل وطير الأيك قد عكفت ... على الغصون تباكينا وتنعينا
وقال عنها لسان الحال وأحربا ... من التفرق ما بين المحبينا
لما رأيت كؤوس المر قد ملئت ... والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر متذراً ... وأنكم الآن ليس الصبر يسلينا
ولما فرغت من شعرها ركبت وساروا بها يقطعون القفار حتى وصلوا إلى مكان منفرد أمام شاطيء نهر فنصبوا لها خيمة ووكلوا بها عض الخدم.
لما أظلم الظلام تذكرت حالها وكيف فارقت أطلال الحبيب فسكبت العبرات وأنشدت تقول:
جن الظلام وهاج الوجد بالسقم ... والشوق حرك ما عندي من الألم
ولوعة البين في الأحشاء قد سكنت ... والفكر صيرني في حالة العدم
والوجد أقلقني والشوق أحرقني ... والدمع باح بسر أي مكتتم
وليس لي حالة في العشق أعرفها ... من رق عودي ومن سقمي ومن ألمي
جحيم قلبي من النيران قد سعرت ... ومن لظى حرها الأكباد في نقم
ما كنت أملك نفسي أن أودعهم ... يوم الفراق فيا قهري ويا ندمي
يا من يبلغهم ما حل بي وكفى ... إني صبرت على ما خط بالقلم
أقسمت لا حلت عنهم في الهوى أبداً ... يمين شرع الهوى مبروة القسم
يا ليل سلم على الأحباب مخبرهم ... وأشهد بعلمك أني فيك لم أنم

أما أنس الوجود فإنه بعد كتابة الأبيات وإرسالها إلى محبوبته ورد صبر إلى ثاني الأيام وقصد بيتها. فسأل عنها الخادمة فأعلمته بالخبر وأطلعته على ما كتبت من أبيات على الباب فلما قرأ تلك الأبيات زاد منه الوجد والقلق وسار في عرض القفار لا يرتاح إلى سمير ولا يلذ له الكلام. إلى أن رأى رجلاً أهداه إلى مكانها فبينما هو سائر إلى حبيبته وقع نظره على حمام يهزأ منه الأيك فهاج منه لاعج الغرام وأنشد:
يا حمام الأيك أقريك السلام ... يا أخا العشاق من أهل الغرام
أنني أهوى غزالاً أهيفاً ... لحظه أقطع من حد الحسام
في الهوى أحرق قلبي والحشا ... وعلا جسمي نحول وسقام
ولذيذ الزاد قد حرمته ... مثل ما حرمت من طيب المنام
وأصطباري وسلوى رحلا ... والهوى بالوجد عندي قد أقام
كيف يهنا العيش لي من بعدهم ... وهم روحي وقصدي والمرام
أما حبيبته ورد فإنها بينما كانت تخطر حول خيامها إذ رأت موكباً حافلاً عن بعد فدنت منه فإذا في وسطه أمير خطير فلما وقع نظره عليها عجب من رائق جمالها وهاله ما رأى فيها من شدة الضعف والهزال فسألها عن حالها وما ألم بها. فأعلمته القصة على التمام وما جرى لها أولاً وآخراً. فرق لها قلبه وبعث فاسترضى أباها وأرسل من يأتي بأنس الوجود. فما مضى إلا القليل حتى صادفوه قريباً من خيام محبوبته. فلما جاءوا به إليها مالت غليه كغصن البان فضمها إلى صدره وأنشد:
ما أحيلاها ليلات الوفا ... حيث أمسى لي حبيبي منصفا
نصب السعد لنا أعلامه ... وشربنا منه كأساً قد صفا
وأجتمعنا وتشاكينا الأسى ... وليلات تقضت بالجفا
ونسينا ما مضى يا سادتي ... وعفا الرحمن عما سلفا
وعاشا معاً في ألذ عيش وأهنأ بال، وكان لا يفارقها لحظة واحدة، وهكذا تذوق لذة الحب بعد العذاب الأمر..
وما أحلى الهناء بعد الشقاء.
وهذه الأبيات المختارة لعدة شعراء من شعراء الحب في المرقص من الشعر والغز والوصف والشكوى والحنين لأشهر العشاق والغرام في العصور الغابرة. وقد إنتقيناها نظراً لأهميتها وتتناسب مع مواد الرقصات المطربات.
لأحد العشاق يخاطب بها معشوقته:
أميرة الحسن حلي قيد أسراك ... واشفي بعذب اللمى تعذيب مضناك
أميرة الحسن لم أدرِ الغرام ولا ... حر الجوى بل ما شاهدت رؤياك
أميرة الحسن خافي الله وأعدلي ... بالحكم إن كان رب الجمال ولاك
أميرة الحين أمري غير منكتم ... عن الأنام فكيف اليوم يخفاك
يذوب جسمي ويفنى الصبر إن عبرت ... دقيقة لا أرى فيها محياك
لو كنت أكتب ما يلقون من ورق ... وصفاً بحسنك ما حصلت معناك
إن تنكري عند قاضي الحب سفك دمي ... فلي عليكِ شهود منك خدّاك
سأكتم احب حتى ينقضي اجلي ... وتنتهي أدمعي من جفني الباكي
وإن حكى لك وجدي النسيم وما ... لقيت بعد النوى فأصغي إلى الحاكي
ثم قال.
كيف السبيل وما نسيت هواكم ... يوماً ولا أنساه طول زماني
إن غبتم عني فرسم جمالكم ... ما زال مطبوعاً على أعياني
تبكي عيوني في الصباح وفي المسا ... والدمع قرّح بعدكم أجفاني
روحي فداكم يا كرام فواصلوا ... وتكرموا فالنوم قد جافاني
يفني الزمان ولا أخون عهودكم ... أبداً ولو قاسيت كل هوان
نارٌ بقلبي لا يزال سعيها ... متأججاً من جمرة الهجران
أصبوا إليكم كلما برق سري ... أو ناح طير الأيك في الأغصان
مسكين هذا الشاعر العاشق لم يذق حلاوة حب أو ثمرة غرام...
قال أحدهم والحب كواه بناره:
يا جميل العشاق بالله خبروا ... إذا إشتد عشق بالفتى كيف يصنع
يصبر على هواه ثم يكتم أمره ... ويصبر في كل الأمور ويخضع

فكيف يداري الهوى والهوى قاتل الفتى ... وفي كل يوم قلبه يتقطع
فإن لم يجد أمراً لكتمان سره ... ما له يا زين سوى الموت أنفع
هذا العاشق كان متألماً وفي قلبه حب ونار لا تخمد إلا بوصال حبيبه: لأبي نواس:
نضت عنها القميص لصب ماء ... فورد خدها فرط الحياء
وقابلت الهواء وقد تعرت ... بمعتدل أرق من الهواء
ومدت راحة كالماء منها ... إلى ماء معد في إناء
فلما أن قضت وطراً وهمت ... على عجل إلى أخذ الرداء
رأت شخص الرقيب على التداني ... فأسبلت الظلام على الضياء
وغاب الصبح منها تحت ليل ... وظل الماء يقطر فوق ماء
فسبحان الإله فقد براها ... كأحسن ما تكون من النساء
قال الرقاشي:
أتسلوها وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا فرار
وقد تركتك صباً مستهام ... فتاة لا تزور ولا تزار
ولت وأنثنت فيها وقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
قال أبو مصعب:
أما والله لو تجدين وجدي ... لما وسعتك في بغداد دار
أما يكفيك أن العين عبرى ... ومن ذكراك في الأحشاء نار
تبسمت بغير ضحك وقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
قال أبو نواس:
وخرداً أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زيّن السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التخميش وأنحلل الأزار
فقلت الوعد سيدتي فقالت ... كلام الليل يمحوه النهار
لأحد العشاق:
أفدي بروحي من شبهت طلعتها ... بطعة الشمس فأغتاظت لتشبيهي
وأعرضت وهي غضبى فأعتذرت لها ... عذراً قالت العذر جانيه
قالت الشمس عرف مثل طرفي ذا ... إن كنت تفهم معنى من معانيه
أو هل بها مثل خدي في تورده ... أو هل لها مثل قدّي في تثنيه
فقلت دونك فأقتضِ بلا حجٍ ... هذا لساني الذي أخطأ عضيه
فتبسمت وأنثنت ثم قالت ... هذه خدعة لمرض ألم ك والعض بشفيه
أختالت وتمايلت ثم قالت هذا ليس ك ... هذه المحاسن واورد لمن يعرف معانيه
* * * هذه الأبيات هي للجعبري رحمه الله، ونحن أخذناها عن كتاب: " مملكة الجمال " للأستاذ قراعة محمود.
ندعي أن الخيال أجمل من الحقيقة، لأننا تلحظ دائماً في الخيال الراقي روعة من نسمات الحقيقة.
أنظر إلى الجعبري مثلاً وهو يقول:
ناعس الطرف كحيل المقل ... رق في وص حلاه غزلي
رق يا منية قلبي كرماً ... فعذولي من نحولي رق لي
يا خلي البال لا تلم ... لا تلمني في هواه يا خلي
أنا عن محبوب قلبي لم أحل ... لا ولا أصغي لقول العذل
يا أهيل الحي رقوا وأرحموا ... مغرماً أضحى قتيل المقل
أنا مأسور ومعي مطلقٌ ... في هوى الظبى الغرير الأكحل
ريقه السلسال ما أعذبه ... ما أحيلاه وما أشهاه لي
في سويدا القلب أضحى نازلاً ... ما خلا منه ولم يرتحل
غارب الأغصان لما أن بدا ... وأختفى بدر الدجى من خجل
بعيون فأتكأت قد رمت ... لسهام فأصابت مقلي
قدّه العسال ما أرشقه ... ولماه قد حوى من عسل
كم حوى في ثغره من درر ... ولكم بالريق أشفى غلل
أترى بعد التجني والجفا ... بوصال هجري يسمح لي
* * *

تجد الشاعر قد ذكر في خياله الكثير من الحقائق التي لو ذكرها كذا جافة من غير أن يعمد إلى الخيال في تشبيهاته، وأستفارته، وكتاباته، لما كان لقوله التأثير الذي تلقيه في أنفسنا عند سماع هذا الشعر الذي هو الشعور صيغَ في قالب خيالي ليعبر عن حقائق نفسية هي في نفسها جمال، ولكن جمالها في التي نقلت إليها هذه المعاني! ولنعد إلى الجعبري مرة اخرى، لنتبين صلة الخيال بالحقيقة في شعره ولنختار منها هذه المرة قوله:
مليح ناعس الطرف ... رشيق القد والعطف
غزال قد سبى عقلي ... بذاك الخصر والردف
وورد فوق خديه ... يشوقني إلى القطف
وآض عذاره المسكي ... كنقش الغيد في الكف
وطيب بطيب نكهته ... واسكر من شذ العرف
فما أبهاه من بدر ... بدا في غاية اللطف
بنار الهجر أحرقني ... وفي هجرانه حتفي
متى بوصاله أحظى ... ونيران الجفا تطفي
وقد أصبحت ذا سقم ... ولكن ريقه يشفي
أموت بحبه وداً ... وأحيا منه بالرشف
ومن وجدي به نمت ... دموعي بالذي اخفي
وقد باحت بأسراري ... فقلت لأدمعي كفي
وقلت لعاذل دعني ... فبعض اللوم لي يكفي
فمحبوبي له قدٌ ... رشيقٌ زايد الظرف
وإن لم أحظَ من حبي ... بوصل منه وا لهفي
أو أنظر إلى قوله:
زاد الغرام بمهجتي ... والوجد أسهر مقلتي
والقلب ذاب من القلا ... الدمع باح بقصتي
ولهيب نار جوانحي ... قد أشعلت من حرقتي
قد قل صبري بعدكم ... والبعد غيَّر حالتي
وغدوت بين خيامهم ... كالهائم المتلفت
ناديتهم سحراً وقد ... هاجت بلابل لوعتي
أحباب قلبي قد كفى ... ما قد جرى من عبرتي
كم ذا أعلل بالملتقى ... قلبي بقرب أحبتي
إن كان عز الملتقى ... يا مهجتي فتفتتي
يا ليتهم رفقوا فقد ... رق العذول لرقت
عساهم أن يسمحوا ... بعد البعاد بزورة
صلاح الدين الصفدي:
إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
لآخر:
سألتها عن فؤادي أين موضعه ... فإنه ضل عني مسراها
قالت لدينا قلوب جمة جمعت ... فأيها أنت تعني قلت أشقاها
لبعضهم:
وخالٌ قد تضمنه عذارٌ ... تروق العين إن نظرت إليه
كشحرور تخبي في سياج ... مخافة باشق يسطو عليه
إبن نباتة:
وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه
شفق العذار بخدّه ورآه قد ... تعست لواحظه فدبّ عليه
ولله در القائل:
يا محرقاً بالنار وجه محبه ... مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوار حي وأشفق على قلبي لأنك فيه
إبن نباته:
فديتك أيها الرامي بقوس ... ولحظ يا ضنى قلبي عليه
لقوسك نحو حاجبك إنجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه
الشيخ حسين الدجاني:
إذا لم يكن معنى حديثك لي يروي ... فلا مهجتي تشفي ولا كبدي يروي
نظرت ولم أنظر سواك أحبه ... ولولاك ما طاب الهوى الذي يهوى
ولما إجتلاك القلب في خلة المرضى ... وشاهد قال الناس ضلت به ألا هو
لعمرك ما ضلّ المحب ولا غوى ... ولكنهم لما عموا أخطأوا الفتوى
ولو شهدوا معنى جمالك مثلما ... شهدت بعين القلب ما أنكروا الدعوى
خلعت عذاري في هواك ومن يكن ... خليع عذار في الهوى سره نجوى
ومزّق أثواب القار تهتكاً ... عليك وطابت في محبتك البلوى

فما في الهوى شكوى ولو مزّق الحشا ... وعارٌ على العشاق أن يظهروا الشكوى
وما علموا في الحب داء سوى الجوى ... وعندي أسباب الهوى كلها أدوا
مال الدين بن مطروح:
ذكر الحمى فصبا وكان قد أرعوى ... صب على عرش الغرام قد إستوى
تجري مدامعه ويخفق قلبه ... مهما جرى ذكر العتيق مع اللوى
وإذا تالق بارق من بارق ... فهناك ينشر من هواه ما إنطوى
فخذ أحاديث الهوى عن صادق ... ما ضلّ بي شرع الغرام وما غوى
وبمهجتي رشأ أطالت عذلي ... فيه الملام وقد حوى ما قد حوى
قالوا أفيه سوى رشاقة قده ... وفتور عينيه وهل موتي سوى
ما أبصرته لشمس إلا وأكتست ... خجلاً ولا غصن النقا إلا إلتوى
يروي الأراك محاسناً عن وجهه ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى
الأمير مجاهد:
ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوماً إليّ فقلت من ألم الجوى
لِمَ لا تميل إليّ يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة اللوى
مجنون ليلى:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا ... وأيام لم يعدى على الناس عاديا
ويوم كظل الرمح قصرّت ظله ... بليلى والهاني وما كنت لاهيا
فيا ليل كم من حاجة لي مهمة ... إذا جيتكم يا ليل لم أدر ما هيا
خليليّ ألا تبكيان فأرتجي ... خليلاً إذا أجريت دمعي بكى ليا
فما أشرف الإيقاع إلا صبابة ... ولا أنشد الأشعار إلا تداويا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن ألا تلاقيا
لحى الله أقواماً يقولون أننا ... وجدنا طول الدهر للحب شافيا
وله:
خليليّ لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى وما قضى ليا
قضاها لغيري وأبتلاني بحبها ... هلا بشيء غير ليلى إبتلانيا
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف القى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد إنقضت ... فما للنوى يرمي بليلى المراميا
فلو كان واشٍ باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت أتانيا
وقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل ... بي النقص والإبرام حتى علانيا
فيا رب سوء الحب بيني وبينها ... يكون كفافاً لا عليّ ولا لي
فما طلع النجم الذي يهتدى به ... ولا الصبح إلا هيجا ذكرها لي
وله:
فإن تمنعوا وطيب حديثها ... عليّ فلن تحموا عليّ القوافيا
فأشهد عند الله أنني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها لي
وقد لامني اللوّام فيها جهالة ... فليت الهوى باللائمين مكانيا
فما زادني الناهون إلا صبابة ... وما زادني الواشون إلا تماديا
قضى الله بالمعروف منها لغيرنا ... وبالشوق مني والغرام قضى لي
وله:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... قد عشت دهراً لا أعد اللياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالليل خاليا
تراني إذا صليت يمممت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلِ ورائيا
ثم قال:
يقولون ليلى أهل بيتي عدوة ... وأفديك يا ليلى نفسي وما لي
يقولون ليلى بالعراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
يقولون سوداء الجبين دميمة ... ولو لا سواد المسك ما كان غاليا
لعمري لقد أبكيتني يا حمامة العقيق وأبكيت العيون البواكيا
خليليّ ما أرجو من العيش بعدما ... أرى حاجتي تشرى ولا تشترى ليا
وتحرم ليلى ثم تزعم أنني ... قتلت لليلى أخوة ومواليا
فلم أرَ مثلينا خليلاً صبابة ... أشد على رغم العداة تصافيا

إذا سرت في أرض الفضاء رأيتني ... أصانع رجلي إن ليلى حذائيا
يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن ... شمالاً ينازعني الهوى شماليا
وله:
ألا أيها الركب اليمانيون عرّجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا
ألا أيها الواشي بليلى ألا ترى ... إلى من تشيها أو لمن أنت واشيا
فيا رب إن صيرت ليلى هي المنى زدني بعينيها كما زدتها لي
وإلا فبغّضها إليَّ وأهلها ... فإني بليلى د لقيت الدواهيا
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كنت من ليلى على النار طاويا
ليليّ هيّا وساعداني على البكا ... فقد صغرت نفسي ورب المثانيا
خليليّ لو كنت الصحيح وكنتما ... سقيمين لم أفعل كفعلكما بيا
خليلي إن ضنّوا بليلى فقبا ... لي النعش والأكفان وأستغفرا ليا
الشاب الظريف:
لي من هواك قريبة وبعيدة ... ولك الجمال بديعة وغريبة
يا من أعيذ جماله بجلاله ... حذراً عليه من العيون تصيبه
إن لم تكن عيني فإنك نورها ... أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه
هل حرمة أو رحمة لمتيم ... قد قل فيك نصيره ونصيبه
ألف القصائد في هواك تغزلاً ... حتى كأن بك النسيب نسيبه
هب لي فؤاداً بالغرام تشبه ... واستبق فؤاداً بالصدور تشبيه
لم يبق لي سراً أقول تذيعه ... عني ولا قلب أقول تذيبه
كم ليلة قضيتها متسهداً ... والدمع يجرح مقلتي مسكوبة
والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندي وأبعد من رضاك مغيه
والحر قد رقت علي عيونه ... وجفونه وشماله وجنوبه
هي مقلة سهم الفراق يصيبها ... ويسح وابل دمعها فيصوبه

- " الحاجري "
-
علمتم بأني مغرم بكم صب ... عذبتموني والعذاب بكم عذب
والفتم بين السهاد وناظري ... فلا دمعتي ترقا ولا زفرتي تخبو
خذوا في التجني كيف شئتم فأ ... نتم أحبة قلبي لا ملال ولا عتب
صدودكم وصل وسخطكم رض ... وجوركم عدل وبعدكم قرب
لكم في فؤادي منزل مترفع ... عن العتب لم تحلله سعدى ولا عتب
ولما سكنت القلب لم يبق موضع ... بجسمي إلا ود لو أنه قلب
إذا أفتر جادت بالمدامع مقلتي ... كذا ومض البرق منه تنهل السحب
مني سهدت عيني لغير جمالكم ... فلا برحت عندي مدامعها سكب
بمن يطلب الأنصار قلبي وأنتم ... مع الوجد أعوان على قتلي حزب
عسى أوبه بالشعب أعطى بها المنى ... كما كان قبل البين يجمعنا الشعب
وما ذات رح بان عنها فأصبحت ... بذي الإيك ثكلى دأبها النوح والندب
بأشواق من قلبي إليكم فليتني ... قضيت نحبي أو ليت لم يكن الحب
وبي ظمأ يفني الزمان وينقضي ... وليس له يوماً سوى حبكم حسب
- " البهاء زهير "
-
رسول الرضا أهلاً وسهلاً ومرحبا ... حديثك ما أحلاه عندي وأطيبا
فيا مهدياً ممن أحب سلامه ... عليك سلام الله ما هبت الصبا
ريا محسناً جاء من عند محسن ... ويا طيباً أهدى إلى القلب طيبا
لقد سرني ما قد سمعت من الرضا ... وقد سرني ذاك الحديث وأطربا
وبشرت باليوم الذي فيه نلتقي ... ألا أنه يوم يكون له نبا
فعرض إذا حدثت بالبان والحمى ... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
ستكفيك من ذاك المسمى إشارة ... ودعه مصوناً بالجلال حجبا
شر لي بوصف واحد من صفاته ... تكن مثل سمي وكني ولقبا

وزدني من ذاك الحديث لعلني ... أصدق أمراً كنت فيه مكذبا
سأكتب مما قد جرى في عتابنا ... كتبا بدمعي للمحبين مذهبا
عجبت لطيف زار بالليل مضجعي ... وعاد ولم يشف الفؤاد المعذبا
فأوهمني أمراً وقلت لعله ... رأى حالة لم يرضها تجنبا
وما صد عن أن يرتب وإنما ... رآني قبلاً في الدجى فتهيبا

" - حسن بن محمد البوريني - "
أما ينقضي هذا الغرام من القلب ... أما ينطوي هذا الملام عن الصب
ألا حاكم بيني وبين عواذلي ... فيسألهم ماذا يريدون من عتبى
ألا راحم في الحب أشكو ظلامتي إليه فقد زادت يد البين في حربي
ألا ساعة أخلو به فأبثه ... لواعج نيران أقامت على قلبي
- " البهاء زهير "
-
وهو من أكابر الشعراء ومن مشاهير العشاق
أأحبابنا ماذا الرحيل الذي دنا ... لقد كنت منه دائماً أتخوف
هبوني قلباً إن رحلتم أطاعني ... فإني بقلبي ذلك اليوم أعرف
وبالبيت عيني تعرف النوم بعدكم ... عساها بطيف منكم تتآلف
قفوا زودوني إن مننتم بنظرة ... تعلل قلباً كاد بالبين يتلف
عالوا بنا نسرق من العمر ساعة ... فنجني ثمار الوصل فيها ونقطف
وإن كنتم تلقون في ذاك كلفة ... دعوني أموت وجداً ولا تتكلفوا
أحبابنا إني على القرب والنوى ... أحن إليكم حيث كنت وأعطف
وطرفي إلى أوطانكم متلفت ... وقلبي على أيامكم متأسف
وكم ليلة بتنا على غير ريبةٍ ... يحف بنا فيها التقي والتعفف
تركنا الهوى لما سلونا بمعزل ... وبات علينا للصبابة مسرف
ظفرنا بما نهوى من الأنس وحده ... ولسنا إلى ما خلفه نتطرف
سلوا الدار عما يزعم الناس بيننا ... لقد علمت إني أعف وأظرف
وهل آنست من وصلنا ما يشيننا ... ويكره منا العفاف ويأنف
سوى خصلة إستغفر الله أنها ... ليحلو لنا ذاك الحديث المزخرف
حديث يخال الدوح من طرب به ... لما إهتز من أعطافه بتقصف
لحا الله قلباً بات خلواً من الهوى ... وعيناً على ذكر الهوى ليس تذرف
وإني لأهوى كل من قيل عاشق ... ويزداد في عيني جلالاً ويشرف
وما العشق في الإنسان إلا فضيلة ... تدمث من أخلاقه وتظرف
يعظم من يهوى ويطلب قربه ... فتكثر آداب له وتلطف
الشاب الظريف: فلو لا الحب لم يصل إلى صف الشعراء والحب صيرّه وشاعراً حتى غدا في مقدمة شعراء العشق:
أتراك بالهجران حين فتكت في ... قلبي بما يحن فتكتفي
عاهدتني ألا تخون ولمت في ... طلبي وفاءك بالعهود ولم تفِ
إن جال طرفي في سواك فلا غفا ... أو حال قلبي عن هواك فلا غفي
أنا صابر بل شاكر في الحب إن ... أخلفت عهد الوصل أو لم تخلف
لكنت أهوى وفاك إذا ... حييت نيل تشرف وترشف
وأبث وجدي في الهوى بتوصل ... وتوسل وتطفلٍ وتلطف
تالله لم أتق في وجدي وقد ... نادى هواك جوى ولم أتوقف
إني لنائي عرضاً عن عاذلي ... إن عازلي أو عنّ فيك معنفي
وأهيم منك بمرسل ومسلسل ... ومورد ومجعد ومهفهف
لو زرتني يا منيتي ومنيتي ... ورحمت فرط تلهبي وتلهفي
لرايت طرفاً ليس ينكره البكا ... وشهدت جسماً بالضنا لم يُعرف
لم تخل من قلب المحب وحق ما ... ترضى به وبغير ذا لم احلف
إلا هواك وأنت فيما أدعي ... أدرى بأني عنه لم أك أنكفي

قد جار جار الحب في قلبي ولم ... أرَ في الصبابة من صفا من منصف
يزيد بن معاوية: كان دينه ودنياه الغرام والكأس، وهو يعد في طليعة شعراء العشق:
فقلت أستغفر الرحمن من زللٍ ... إن المحب قليل الصبر والجلد
قد خلقني طريحاً وهي قائلة ... تأملوا كيف فعل الظبي بالأسد
قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزدِ
فقال خلفته لو مات من طمأٍ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت صدقت الوفا في الحب شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت علي كبدي
وأسترجعت سألت عني فقيل لها ... ما فيه من رمقٍ دقت يداً بيد
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد
وأنشدت بلسان الحال قائلة ... من غير كره ولا مطل ولا مدد
والله ما حزنت أختٌ لفقد أخ ... حزناً عليه ولا أمٌ على ولدِ
هم يحسدوني على موتي فوا أسفي ... حتى على الموت لا أخلو من الحسد
مجنون ليلى:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجداً على وجد
رعى الله من نجد أناساً أحبهم ... فلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودي
سقى الله نجداً والمقيم بأرضها ... سحاب وادٍ خاليات من الرعد
إذا هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على غصن بان أو غصون من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولك أكن ... جلوداً وأبديت الذي ما به الوعد
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وإن البعيد يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشفِ ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
إبن نباتة:
وضعت سلاح الصبر عنه فماله ... يقاتل بألحاظ من لا يقاتله
وسال عذار فوق حديه جائرٌ ... على مهجتي فليتقِ الله سائله
شاكر الصلاح:
وقائلة ما بال دمعك أسود ... وقد كان مبيضاً وأنت نحيل
فقلت لها جفت دموعي من البكا ... وهذا سواد العين فهو يسيل
الحاجري:
ولما إبتلى بالحب رق لشكوتي ... وما كان لو لا الحب ممن يرق لي
أحب الذي هام الحبيب بذكره ... ألا فأعجبوا من ذا الغرام المسلسل
إبن سيف القيرواني:
وإني وإن أخرت عنكم زيارتي ... لعذر فإني في المحبة أول
فما الود تكرار الزيارة عامداً ... ولكن على ما في القلوب المعول
هبة الله بن الفضل:
زار الخيال نحيلاً مثل مرسله ... فما له شفاني منه الضم والقبل
ما زارني قط إلا كي يوافقني ... على الرقاد فيلقيه وهو يرتحل
أبو الحسن التهامي:
ولم أنسَ ضمي للحبيب على رضا ... ورشفي رضاباً كالرحيق المسلسل
ولا قوله لي عند تقبيل خدَّه ... تنقل فلذات الهوى بالتنقل
الزمخشري:
أصبوا إلى الشرق إن كانت منازلها ... في جنب الغرب خوف القيل والقال
أقول في الخد خالٌ حين أذكرها ... خوف الوشاة وما في الخد من خال
أبو يزيد البسطامي:
قاتل الناس باللواحظ حتى ... أذهب الله حسنه والجمال
طلعت ذقنه وعيناه كلت ... وكفى الله المؤمنين القتال
الشاب الظريف:
تلعب الشعر على ردفه ... أوقع قلبي في العريض الطويل
يا ردفة جرت على خصره ... رفقاً به ما أنت إلا ثقيل
زين الدين بن الوردي:
شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام إستحلا
فأتى السيف والسنان فقالا ... حدنا دون ذاك حاشا وكلا
عبد العزيز الأنصاري:
يا نظرة ما جلت طلعته ... حتى إنقضت وأدامتني على وجل
أعاتب إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي خلق الإنسان من عجل

إبن قلاقس:
نقل فادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه ابداً لأول منزل
عبد الله الحزامي المصري:
إن شئت تنظرني وتنظر حالتي ... قابل إذا هب النسيم قبولا
فتراه مثل رده ولطافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا
فهو الرسول إليك نبي ليتني ... كنت أتحدث مع الرسول سبيلا
صدح الدين الصفدي:
أفدي حبيباً له في كل جارحة ... مني جراح سيف اللحظ والمقل
تقول وجنته من تحت شامته ... لي أسوة بإنحطاط الشمس عن زحل
لسان الدمشقي الخضيرة:
إذا أيقنت من خلٍ وداداً ... فزره ولا تخف منه الملالا
وكن كالشمس تطلع كل يوم ... ولا تك في محبة هلالا
إبن هاني:
لا تلمني عاذلي حين ترى ... وه من أهوم فلومي مستحيل
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
إبن عبدون:
قالوا إصطبر أيها المضني فقلت لهم ... كيف إصطباري وقد ضاقت بي الحيل
الصبر لا شك محمودٌ عواقبه ... وإنما خيفتي أن يسبق الأجل
أمريء القيس:
ولما رأتني في السباق تعطفت ... عليّ وعندي من تعطفها شغل
أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصلي حين لا ينفع الوصل
إبن زيدون:
لو ه صفرة شانت محاسنه ... فقلت ما ذاك من غيب به نزولا
عيناه مطلوبة في ثأر من قتلت ... فلست تلقاه إلا خائفاً جلا
عنترة العبسي:
و كان قلبي معي ما إخترت غيركم ... ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا
لكنه راغب في من يعذبه ... فليس يقبل لا لوماً ولا عذلا
الأمير منجك:
لما صفت مرأة وجهك أيقنت ... عيناي أني عدت فيك خيالا
وظننت أهدابي بوجهك عارضاً ... وحسبت إنساني بخدك خالا
إبن قلاقس:
لو كان لي من أحب عواذل ... لسعيت في تشتيتهم وتوصلي
لكن حبوبي تعشق نفسه ... وغدا العذول فما تكون تحيلي
الحاجري:
بروحي ومالي ذلك الرشأ الذي ... غدا مسكه فوق السوالف سائلا
دري خد أني أجن بحبه ... فأظهر لي قبل الجنون سلاسل
عمر إن الوسودي:
وأمر ما لاقيت من ألم الهوى ... قرب الحبيب وما إليه وصول
كالميس في البيداء يقتلها الظمأ ... والماء فوق ظهورها محمول
صلاح الدين الصفدي:
يا آمري بالبعد عمن شنى ... سقماً وفي فيه شفاء غليلي
من يستطيع الصبر أو يرضى به ... عن مثل ذاك المرشف المعسول
ولآخر في زنجي:
يكون اخال في وجه قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف بلام مشغوف على من ... يراها كلها في العين خالا
ولله در من قال:
يا رب إن العيون السود قاتلتي إن عاشقها ما زال مقتولا
إني تعشقتها عمداً على خطر ... ليقضي الله أمراً كان مفعولا
عمر بن الفارض:
نشرت في موكب العشاق أعلامي ... وكان فلبي بلى في الحب أعلامي
وسرت فيه ولم أبرح بدولته ... حتى وجدت ملوك العشق خدامي
ولم أزل منذ أخذ العهد في قدمي ... لكعبة الحسن تجريدي وإحرامي
وقد رماني هواكم في الغرام إلى ... مقام حب شريف شامخ سام
جهلت أهلي فيه أهل نسبته ... وهم أعز أخلائي وألوامي
قضيت فيه إلى حين إنقضى أجلبي ... شهري ودهري وساعاتي وأعوامي
ظن العذول بأن العذل يوقفني ... نام العذول وشوقي زائد نامي
إن عام إنسان عيني في مدامعه ... فقد أمد فإحسان وإنعام
يا سائقاً عيس أحبابي على مهلٍ ... وسر رويداً فقلبي بين آلام
سلكت كل مقام في محبتكم ... وما تركت مقاماً قط قدامي

وكنت أحسب أني فد وصلت إلى ... أعلى وأغلى مقام بين أقوامي
حتى بدا لي مقام لم يكن أربي ... ولم يمر بأفكاري وأوهامي
إن كان منزلي في الحب عندكم ... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
الشريف الرضي:
خلياني بلوعتي وغرامي ... يا خليليّ وأذهبا بسلام
فلا زلت في العز المنيع ورفعة ... ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل
عمر بن الفارض:
هو الحب فأسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما إختاره مضنى به وله عقل
وعش خالياً فالحب راحته عنا ... فأوله سقمٌ وآخره قتل
لكن لدى الموت فيه صبابة ... حياة لمن أهوى عليّ بها الفضل
نصحتك علماً بالهوى والذي ارى ... مخالفتي فأختر لنفسك ما يحلو
فإن شئت أن تحيا سعيداً فمت به ... شهيداً وإلا فالغرام له أهل
فمن م يمت بالحب مات بغيره ... دون إجتناء النجل ما جنت النحل
تمسك بأذيال الهوى وأخلع الحيا ... وخل سبيل الناسكين وإن جلوا
وقل لقتيل الحب وفيت حقه ... وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل
تعرض قوم للغرام وأعرضوا ... بجانبهم عن صحتي فيه واعتلوا
رضوا بالأماني وأبتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما إبتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظنوا في السير عنه وقد كلوا
وعن مذهبي لنا إستحبوا للعمى على ... الهوى حسداً من عند أنفسهم ضلوا
أحبه قلبي والمحبة شافعي ... لديكم إذا شئتم بها إتصل الحبل
عسى عطفة منكم عليّ بنظرة ... فقد تعبت بيني وبيتكم الرسل
أحبابي أنستم أحسن الدهر أم ما ... فكونوا كما شئتم أنا ذلك الجل
إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن ... بعادٌ فذاك الهجر عندي هو الوصل
وما الصد إلا الود ما لم يكن قلى ... وأصعب شيء غير إعراضكم سهل
وتعذيبكم عذبٌ لدي وجوركم ... ليّ بما يقضي الهوى لكم العدل
وصبري صبر عنكم وعليكم ... أرى أبداً عندي مرارته تحلو
أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي ... يضركُم لو كان عندكم الكل
الفاتح النحاس:
كحل بعينيك أم ضرب من الكحل ... ورد بخديك أم صبغ من الخجل
قضيب بانٍ إذا ما ميله ... دعص من الرمل أم ضرب من الرلامل
يفتر عن سمط در في عقيق فمٍ ... عذب المراشف ممنوع من القبل
أقسمت ما روضة بالنيرين إذا ... سحت عليها شؤون العارض الهطل
شقت شقائقها إيدي الربيع وقد ... ماست حدائقها كالشارب الثمل
يوماً بأحسن من ورد الخدود على ... بان القدود ولا من نرجس المقل
وقائل وشموس الراح قد افلت ... فينا وشمس مدير الراح لم تمل
هذا هو الحب لو لا كثرة الرقبا ... ولذة العيش لو لا سرعة الأجل
مجنون ليلى:
ألا أيها القلب اللجوج المعذل ... أفق عن طلاب الغيد إن كنت تعدل
أفق قد أفاق العاشقون وإنما ... تماديت في ليل ضلال مضلل
تعزّ بصبرٍ وإستعن بجلاله ... فصبرك فيما لا يدانيك أجمل
سلا كل ذي ود علمت مكانه ... وأنت بليلى مستهامٌ موكل
فقال فؤادي ما إحترمت ملامة ... إليك ولكن أنت باللوم تعجل
أعلل نفسي بالحديث وبالمنى ... فعل إلى أيام ليلى تعلل
لحي الله من باع الخليل بغيره ... فقلت أجل حاشاك إن كنت تفعل
وقلت لها بالله يا ليلى أنني ... أبر وأوفي بالعهود وأوصل
هبي أنني أذنبت ذنباً علمته ولا ذنب يا ليلى فصفحك أجمل

فإن شئت هاتي نار عيني خصومة ... وإن شئت حلماً إن حلمك أعدل
نهاري نهارٌ طال حتى مللته ... وحزني إذا ما جن ليلي أطول
وكنت كذباح العصافير ذائباً ... وعيناه من وجد عليهن تهمل
فلا تنظري ليلى إلى العين وأنظري ... إلى الكف ماذا بالعصافير تعمل
* * *

الجارية ريا مع عتبة " بن الحباب "
هو عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري: وصاحبته هي ريا بنت الغطريف السللي. علقها بمسجد الحزاب يوم منتزه، وأصل ذلك أن عبد الله بن معمر القيسي حين دخل المدينة قال: بينما قد زرت صلى الله عليه وسلم ليلاً وجلست إذا أنا بشخص ينشد بصوت شجي ولا أراه:
أشجاك نوح حمائم السدر ... فأهجن منك بلابل الصدر
يا ليلة طالت على دنفٍ ... متوقد كتوقد الجمر
ما كنت أعلم أنني كلفٌ ... حتى تلفت وكنت لا أدري
فالبدر يشهد أنني كلفٌ ... مغري بحب شبيهة البدر
وفي رواية صاحب الأصل تقديم وصدر الذي قبله ما كنت أحسب أنني شجن فتبعت الصوت فرأيت شاباً حرّقت الدموع خدّه، فقال لي: أجلس أحدثك أنا فلان، كنت يوماً بمسجد الأحزاب إذا ينسوه يتنزهن، فيهن جارية لم أرَ مثلها، وقفت عليّ وقالت ما تقول في وصل من يطلب وصلك، ثم مضت فلم أعرف خبرها، ثم غشي عليه ساعة فلما أفاق أنشد:
أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... تراكم تروني في القلوب على البعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي
ولست ألذ العيش حتى أراكمولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد فشرعت في تسليته، فقال: هيهات أو يؤب القارظان مثل مشهور أصله إن أخوين خرجا يجتنيان القرظ نبت معروف يعلم لهما خبر، قال عبد الله: فلما طلع الصبح قلت له قم بنا إلى مسجد الأحزاب فأنشد:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النوى طربا
ما أن يزال غزال فيه يظلمني ... يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخبر الناس أن الأجر هيَّمه ... أو أنه طالب للأجر محتسبا
لو كان يبغي ثواباً أتى ظهراً ... مضمخاً بفتيت المسك مختضبا
فمضينا إلى المسجد فحين صلينا الظهر أقبل النسوة ولم ترَ الجارية فيهن، فقلن له: ما ظنك بطالبة وصالك، فقال وأين هي، قلن له مضى بها أبوها إلى السماوة فأنشد:
خليليّ ريا قد أجد بكورها ... وسارت إلى أرض السماوة عيرها
خليليّ قد غشيت من كثرة البكا ... فهل عند غيري عبرة أستعيرها
فقلت له قد وردت بمال جزيل أريد به الحج، وقد عزمت على أن أبذله في حاجتك فه لك أن تسير معي إلى قومها وأبيها؛ فقال نعم، فسافرنا إلى أن وافينا إياها، ففرش لنا الا نطاع ونحر لنا النحائر، فحلفنا ألا نأكل له طعاماً أو يقضي حاجتنا، فقال أذكروها فأعلمناه بخطبه عتبة، فقال مَن عتبة، فقلنا من الأنصار، قال ذاك إليها فقلنا له أخبرها، فدخل عليها وأعلمها فشكرت عتبة فقال قد نمى إليّ أمرك معه وأقسم لا أزوجك به، فقالت أن الأنصار لا يردّون رداً قبيحاً فإن كان ولا بد فاغلظ عليهم المهر، فقال لهم نعم ما أشرت به، ثم خرج فقال قد أجبت ولكن على ألف دينار وخمسة آلاف درهم هجرية ومائة من الأبراء والخز أكراس من العنبر، فضمنا له ذلك وقلنا له إذا أحضراها أجبت قال فأحضرنا ذلك، فأولم أربعين يوماً ثم أخذناها ومضينا، فحين قاربنا المدينة خرج علينا خيل كثيرة حسبناهم بأمر أبيها فقاتلناهم زمانا، فجاءت طعنة في نحر عتبة فسقط ودمه يفور، فجاءتنا النجدة فإذا هو ميت، فحين علمت الجارية بموته جاءت حتى إنكبت عليه وأنشدت:
تصبرت لا أني صبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة
ولو أنصفت روحي لكانت إلى الردى ... أمامك من دون البرية سابقة
فما أحد بعدي وبعدك منصفٌ ... خليلاً ولا نفسٌ لنفس موافقة

ثم شهقت فماتت فواريناهما معاً. قال عبد الله: فأقمت سبع سنين ثم رجعت إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لا أبرح أو أزور عتبة، وجئت فإذا أنا بشجرة عليها ألوان من الورق قد نبتت على القبر، فسألت عنها فقالوا شجرة العريسين.
*

أخبار الصمة وصاحبته ريا
هو أبو مالك الصمة بن عبد الله بن مسعود بن رقاش القشيري التغلبي من بني ربيعة، كان أديباً شجاعاً عارفاً بأيام العرب ووقائعها ومواضعها وكثيراً ما يسند إليه إبن دريد والأصمعي، قال الفوّار والوزير أنه أدرك أوائل الإسلام.
و " ريا " هي بيت مسعود ن رقاش أيضاً، كانت ذات ظرافة وفراسة ومعرفة وحسن نشأت مع الصمة صغيرين وكانا يتذاكران الأدب وملح الأشعار فأعجب بها وتمكنت منه ولم يكن عندها منه مقدار ما عنده منها، فلما شكا ما يجد منها إلى بعض أصدقائه أرشده إلى تزوجها، فخطبها إلى عمه، فأنعم على مائة من الإبل، فمضى الصمة إلى أبيه فأعطاه تسعاً وتسعين فأبى مسعود إلا التمام وعد الله إلا ذلك وحلف كل على ما قال وأقفلوا الأمر فحملت الصمة الأنفة على أن خرج عنهما إلى العراق.
فقالت الريا ما رأيت رجلاً أضاعه أبوه وعمه ببعير إلا بالصمة لما عندها من العلم بحبه لها، فلما طال عليه الأمر وتنازعه الشوق والشهامة المانعة له من العود بلا طلب مرض حتى أضناه السقم، وقيل أتى كاهناً بالعراق فسأله عما أضمر فأخبره أنه لا يتزوج بها أبداً فضعف، والصحيح كما حكاه صاحب قوت القلوب في أخبار المحب والمحبوب أنه قدم رجل يقال له غاوي بن رشيد بن طلابة المذحجي على مسعود فخطب منه ريا وأمهرها ثلثمائة ناقة برعائها، فزوجه بها فحملها إلى مذحج الصمة ذلك فلزم الوساد وطال امره، فدخل عليه رجل كان يألفه فعنفه وسلاه فأنشد:
أمن ذكر دار بالرقاشين أعصفت ... به بارحات الصيف بدأ ورجعا
حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وسعياً كما معا
فما حسنٌ أن يأتي الأمر طائعاً ... وتجزع إن داعي الصبابة اسمعا
كأنك لن تسمع وداع مفارقٍ ... ولم ترَ شعبي صاحبين تقطعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
الرفاشين إسم وادٍ بين نجد واليمن كانت تنزله بنو ربيعة، والبارحات رياح معلومة صيفية تستبشر بها العرب والضمير يعود على الوادي.
وفي قوت القلوب أعصفت بها سانحات الصيف يريد بالدار، والسانحات أيضاً لكنها لا تخص الصيف فيشكل التعيين هنا وقوله وسعياً كما هو معطوف على قوله ونفسك باعدت يريدان السعي والنفس أبعداه عن المحبوبة وغلط في قوت القلوب حيث أعرب وسعييكما نصبا بالياء على أنه معمول باعدت عطفاً على مزارك.
وقوله فما حسن أن يأتي المر وبكت عيني اليمنى البيتين قد إستعارهما المجنون وباقي الشعر واضح ويقال أن في القصيدة طولاً:
ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وجالت بنات الشوق تحتي نزعا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... رجعت إلى الإصغاء ألوي وأجزعا
وأذكر أيام الحمى ثم إنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خلِ عينيك تدمعا
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكراك ما كففت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرى لو أنه ... تضمنه صم الصفا لتصدعا
ولما طالت عليه دعا له صاحبه العراقي بطيب حاذق، فما تأمله قال إنما يشكو العشق لا غيره وأرى أن يلزم النزهة والفرح نحو البساتين ليتشاغل عما هو فيه أخرجه صاحبه مع بعض اخدم إلى الثغور، فبينا هو يوماً على شاطيء هر وقد جدّ به اكرب إذ سمع امرأة تنادي إبنتها يا ريا فسقط مغشياً عليه فأحتملوه إلى بستان هناك وأضجعوه، فلما أفاق أنشد: ّتعَزّ بصبر لا وجدك لا ترى سنام الحمى إحدى الليالي الغواير
كأن لساني من تذكري الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
ولم يزل يرددها حتى قضى، ولما وصل خبره إلى الريا داخلها من الوجد ما أمسكت معه عن الطعام والشراب وجعلت تبكي حى ماتت، ومن لطيف شعه قوه:
ألا من لعين لا ترى قلل الحمى ... ولا جبل إلا ثال إلا إستهلت

ألا قاتل الله الحمى من محله ... وقاتل دنيانا بها كيف ولت
غنينا زماناً باللوى ثم أصبحت ... يراق الهوى من أهلها قد تخلت
فما وجد أعرابية قذفت بها صروف اللوى من حيث لم تك ضنت
تمنت أحاليب الرغاء وخيمة ... بند ولم يقدر بها ما تمنت
إذا ذكرت نجد وطيب ترابها ... وبرد الحصى من أرض نجد أرنت
ومنه:
أرى الدهر بالتفريق والبين مولعاً ... وللجمع ما بين المحبين آبيا
فأفٍ عليه من زمان كأنني ... خلقت وإياه نطيل التعاديا

أخبار كعب وصاحبته ميلاء
هو أبو خثعم كعب بن مالك أو عبد الله أو خثعم بن لأبي بن رباح بن ضمرة طائي من عرب الحجاز يُعرف بالمخيل، وكان جوَّاداً سخياً شجاعاً، ملوف الصورة.
و " ميلاء " هي بنت لأبي بن رباح أصغر أخواتها كانت أجمل نساء الحجاز، وكان كعب قد خطب إلى عمه أخت ميلاء، وكانت تسمى أم عمرو فزوّجه بها فشغف بها شديداً وألفها طويلاً، وأنه دخل عليها يوماً فوجدها قد نضت ما عليها وهي عريانة فسرَّته حين نظر إليها، فقال: أنشدك الله هل تعلمين امرأة أحسن منك فقالت: نعم أختي ميلاء، فقال: ومن لي بأن أنظرها، فأخبأته وأرسلت إليها فحضرت، فلما رآها وقعت من قلبه موقعاً أدى إلى زوال عقله من العشق، فأنطلق في طلبها فأستعرضها وشكا إليها ما لقي من جبها، فأعلمته أنها أعظم من ذلك في حبه، وشعرت أختها فتبعتها فرأتهما يتشاكيان المحبة فمضت إلى أخوتها وكانوا سبعة فأخبرتهم بذلك، وقالت: أما أن تزودوا كعباً من ميلاء، أو تغيبوها عني.
فلما علم أخوتها به هرب إلى الشام مكث بها أياماً، وأن شامياً خرج يريد الحج فضلت به الطريق فأسترشده امرأة وكانت بالتقدير المحتوم ميلاء وإلى جانبها أختها فأنشد الشامي متمثلاً:
أفي كل يومٍ أنت من بارح الهوى ... إلى الشمّ من أعلام ميلاء تاظر
بعمشاء من طول البكاء كأنما ... بها حرّ نا طرفها متحادر
منى المنى حتى إذا قلت المنى ... جرى وأكف من دمعها متبادر
كما أرفض سلك يعد ما ضم ضمة ... بخيط الفتيل اللؤلؤ المتناثر
قلت: وهذا الشعر قاله كعب حين علق ميلاء قبل وقوعه إلى الشام والمنصف تبع الشيرزي في أنه قاله بالشام وأصل الحال غلط الشيرزي في قوله الشم فإنه قرأها إلى الشام بدليل أن الشامي لما أنشد الشعر سألته ممن الرجل قال: من الشام، قالت: أو تعرف صاحب الشعر. قال: هو أعرابي إسمع كعب إنه يحتمل أن معرفتها من ذكر إسمها ويكون ما ذكر صحيحاً.
ولما أخبرها بإسم الأعرابي أقسما عليه أن لا يبرح حتى ينظره أخوتها فإنهم يكرمونه، ثم سألاه هل تروي له غير ذلك، قال: نعم وأنشد:
خليليَّ قد رضت الأمور وقستها ... بنفسي وبالفتيان كل مكان
ولم أخفِ يوماً للرفيق ولم أجد ... خلياً ولا ذا البث يستوان
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو لا الناس قد قفياني
منوعان ظلامان ما ينصفانني ... بدلهما والحسن قد خلياني
يطيلان حتى يعلم الناس أنني ... قضيت ولا والله ما قضياني
خليليّ أما أم عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
بلينا بهجران ولم يرَ مثلنا ... من الناس إنسانان يهتجران
أشد مصافاة وأبعد عن قلى ... وأعصى لواشٍ حين يكتنفان
يبين طرفانا الذي في نفوسنا ... إذا إستعجمت بالمنطق الشفتان
فو الله ما أدري أكل ذوي هوى ... على شكلنا أم نحن مبتليانِ
فلا تعجبا مما بي اليوم من هوى ... فبي كل يوم مثل ما ترياني
خليلي عن أي الذي كان بيننا ... من الوصل أو ماضي الهوى تسلاني
وكنا كريمي معشرٍ حم بيننا ... هوى فحفظناه بحسن صيان
نذود النفوس الحائمات عن الهوى ... وهن بأعناق إليه ثواني
سلاه بأم العمر يشفي فقد بدا ... به السقم لا يخفى وطول هوان

فما زادنا بعد المدى نقص حده ... ولا رجعنا ن عملنا بيان
خليليّ لا والله ما لي بالذي ... تزيدان من هجر الصديق يدان
ولا لي بالهجر إعتلاق إذا دا ... كما أنتما بالبين معتلقان
ولا لاهياً يوماً إلى الليل كله ... يبيض لطيفات الخصور رواني
يمنيننا حتى يرعن قلوبنا ... ويخلطن طلاً ظاهراًبليان
أعينيّ يا عينيّ حتّام أنتما ... بهجران أم العمر تختلجان
فما أنتما إلا عليّ طليعة ... على قرب إعتدائي كما ترياني
لو أن أم العمر أضحت مقيمة ... بمصر ودوني الشحر شحر عمان
إذن لرجوت الله يجمع بيننا ... وإنا على ما كان ملتقيان
من البيض نجلاء العيون كلاهما ... مقيم وعيشي ضارب جران
أفي كل يوم أنت رام بلادها ... بعينين إنساناً هما غرقان
إذا ذرفت عيناي قالت صحابتي ... لقد ولعت عيناك بالهملان
ألا فأحملاني بارك الله فيكما ... إلى حاضر الروحاء ثم ذراني
هذا ما نقله الجلّ: وأخرج هنا عن الأغاني ن قوله ولا لاهياً يوماً إلى آخر القصيدة لم ينشده الشامي قلت وقوله ففي كل يوم أنت رام وقوله: ألا فأحملاني البيتان مسروقان من كلام عروة بن حزام.
ثم نزل وجاء أخوتهما فأكرموه ودلوه على الطريق بعد أن إستخبروا منه عن كعب وموضعه، ثم توجهوا في طلبه وضعفت ميلاء على ما رواه في نهاية الأدب بصداع أصابها.
فلما حضروا بكعب زل ناحية، وصادف وقد وفاتها رأى الناس عند البيت مجتمعين، فأحس قلبه بالشر. فقال لصبي بأزاء البيت الذي هو فيه من أبوك.
قال كعب وكان تركه صغيراً حين مضى إلى الشام فقال له ما إجتماع الناس على طنب هذا البيت قال: على خالتي ميلاء ماتت الساعة.
فلما سمع ذلك وضع يده على قلبه واستند إلى طنب البيت، وحُرك فوجد ميتاً فدفنوه إلى جانبها.
رحمة الله عليهما.

القسم الثاني
فيمن جهل إسمه أو إسم محبوته أو شيء من سيرته أو مآل حقيقته
ختمناه بصنف لطيف القوانين في ذكر عقلاء المجانين، ونحن وإن كنا قد ذكرنا من هذا النوع فيما سلف بعضاً لكنهم إنما نقصوا شيئاً مما ذكرنا بالنسبة إلى هذا الكتاب لقلة فحصه وإلا فهم مشهورون كثيراً بخلاف من يأتي بعد، وستقف على كثير منهم كامل النسب.
والأسباب أذكره إن شاء الله تعالى لكنه غير قوي الشهرة ولم أتبعه في التنويع بأن أقول نوع فيمن نزل به الحال ونحو ذلك إذ لا طائل فيما صنع ولا فائدة فيما نوِّع ووضع وإنما الأولى أن يذكر المشاهر ثم أهل الجاهلية كما وقع ترتيبه هنا وهؤلاء القوم كثيرون.
فمنهم سامة بن لؤي بن غالب القرشي مشهور
قال في النزهة نحر يوماً لضيوف مائة من الإبل فأكلوا قليلاً وبقي الغالب عاتبه أخوه كعب في ذلك وقال له لو بقيت عليها الحاجة كان أولى فغضب منه ورحل مستخفياً فنزل على أزديِّ فنظرت إليه زوجته فوقع من قلبها، وهي من قلبه وزوجها يرصدهما فلم يستطيعا أن يعرّف كل منهما الآخر ما عنده فأستاك أسامة ورمى السواك فأخذته وأمتصته ففطن زوجها لذلك فعزم على قتله فسم له قدحاً من لبن وقدمه إليه فغمزته فأراقه ثم ركب وسار فهوت ناقته في الخميلة إلى عرفجة لترعاها فلما جذبتها خرجت حية فضربت ساق سامة فمات لوقته وبلغ الأزدية فلم تزل تبكيه حتى ماتت.
ولو لا في هذه الحكاية من الإعتبار بمصادفات الأقدر لم أوردها إذ لا مناسبة لها بهذا المعيار.
ومنهم عمرو بن عوف وبيا
هوى جارية إسمها بيا فشغف بها طويلاً فخطبها إلى أهلها فلم يجيبوه وزوجوها من غيره، فلما شعر زوجها بحال عمرو معها رحل بها حتى نزل اليمن يبني الحرث بن كعب وطال الحال على عمرو فطاش عقله وطار لبه فأشار عليه أصدقاؤه أن بقصد مكة فيتعلق بأستار الكعبة ويسأل الله أما جمعه عليها أو صرف قلبه عنها ففعل.

فبينما هو يطوف في الموسم إذ رآه شخص من بني الحرث فوقعت بينهما إلفة فأخبره بالحال وغياب المرأة فأعلمه بمكانها فقال عمرو: هل لك في صنيعة يحسن شكرها قال نعم قل، فقال عمرو: ليتخلف كلٌ منا أصحابه بعد النفر ثم نسير إلى مكان يقرب منها وتمضي أنت فتعلمها بمكاني ففعلا، ومضى به الرجل حتى جعله قي بيته وذهب فأعلم بيا فكانت تأتيه فيتحادثان ويتشاكيان ما لقيا من الوجد، فانكر زوجها غشيانها المنزل من غير عادة وحسن حالها بعد ما كانت فيه من الضجر فأظهر لها سفراً يغيب فيه عشراً، ثم عاد بعد ليلتين وقد فرشت لعمرو بساطاً أمام البيت وتحادثا فنام كلٌ على طرف من البساط آمناً، فنبه عمراً فثار عليه بالسيث فقال من ينجيني منك يا عمرو وأنا لم اهرب هنا إلا منك، فقال: يا إبن العم، والله لم يكن بيننا أكثر من الحديث وإنما غلب عليّ حبها من الصغر.

مجنون بني عامر مع ليلاه
هو على ما يقوله من صحح نسبه وحديثه قيس وقيل مهديّ والصحيح قيس إبن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
ومن الدليل على أن إسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت من لا أحصي يقول إسم المجنون قيس بن الملوح.
وأخبرني بن محمد الخزاعي قال: حدثنا الرياشي وأخبرني الجوهري عن عمر إبن شبة أنهما سمعا الأصمعي يقول وقد سئل عنه لم يكن مجنوناً ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي النميري.
وأخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن إن شبة عن الخزاعي قال: حدثني أيوب عن عبابة قال: سألت بني عامر بطناً طناً عن مجنون بني عامر فما وجدت أحداً يعرفه.
وأخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن الحرث عن المدائني عن إبن دأب قال قلت لرجل من بني عامر أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئاً، قال: أوقد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين، إنهم كثر، فقلت: ليس هؤلاء أعني إنما أعني مجنون بني عام الشاعر الذي قتله العشق، فقال هيهات، بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها السخيفة عقولها الصلعة رؤوسها، فأمر نزار فلا ثم قال: أخبرني الحسين بن يحيى وأبو الحسن الأسدي قالا: حدثنا حماد إبن إسحق عن أبيه قال إسم قيس بن معاذ أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وأخبرني أبو سعيد علي بن زكريا العدوي قال: حدثنا حماد بن طالوت إن عباد أنه سأل الأصمعي عنه فقال لم يكن مجنوناً بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه كان يهوى إمرأة من قومه يقال لها ليلى وإسمه قيس بن معاذ. وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن إسمه قيس بن الملوح.
قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن انه رآه ولقيه وسأله عن إسمه ونسبه فذكر أنه قيس بن الملوح، وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح وحدّث أن أباه مات قبل إختلاطه فعقر على قبره ناقته وقال في ذلك:
عقرت على قبر الملوح ناقتي ... بذي السرح لما أن جفاه الأقارب
وقلت لها كوني عقيراً فإنني ... غداً راجلٌ أمشي وبالأمس راكب
فلا يبعدنك الله يا إبن مزاحمٍ ... فكل بكأس الموت لا شك شارب
وذكر إبراهيم بن المنذر الحزاسي وأبو عبيدة معمر بن المثنى أن إسمه البحتري إبن الجعد. وذكر مصعب الزبيري والرياشي وأبو العالية أن إسمه الأقرع بن معاذ، وقال خالد بن كلثوم إسمه مهدي بن الملوح.
وأخبرني الأخفش عن السكري عن أبي زيد الكلابي قال: ليلى صاحبة المجنون هي ليلى بنت سعد ن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب إبن ربيعة إبن عامر بن صعصعة.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا أبو قلابة الرشاقي قال: حدثني عبد الصمد بن المعزل قال: سمعت الأصمعي وقد تذاكرنا مجون بني عامر يقول لم يكن مجنوناً إنما كانت به لوثة وهو القائل:
أخذت محاسن كل ما ... ضنت محاسنه بحسنه
كاد الغوال يكونها ... لو لا الشوى ونثوز قرنه
وأخبرني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي قال:

حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا الأصمعي قال: سالت أعرابياً من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العمري فقال: أيهم تسألني فقد كان فينا جماعة رموا بالمجنون، فعن أيهم تسأل، فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى، فقال كلهم كحان يسبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم إبن الحرث المجنون:
ألا أيها القلب الذي لجّ هائماً ... وليداً بليلى لم تقطع تمائمه
أفق قد افاق العاشقون وقد آن ... لك اليوم أن تلقى طبيباً تلائمه
أجدك لا تنسيك ليلى ملمةً ... تلمّ ولا عهد يطول تقادمه
قلت: فأنشدني غيره منهم فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون:
ألا طالما لاعبت ليلى وقادتي ... إلى اللهو قلب للحسان تبوع
وطال إفتراء الشوق عني كلما ... زفت دموعاً تستجد دموع
فقد طال إمساكي على الكبد التي ... بها من هوى ليلى الغداة صدوع
فقلت: أنشدني لغير هذين ممن ذكرت فأنشدني لمهدي بن الملوح:
لو أن لك الدنيا وما عدلت به ... سواها وليلى حائن عنك بينها
لكنت إلى ليلى فقيراً وإنما ... يقود إليها ودّ نفسك حينها
قلت له: فأنشدني لن بقي من هؤلاء فقال: حسبك فو الله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.
أخبرني محمد بن خلف وقيع قال: حدثنا أحمد بن الحرث الخزار قال: قال إبن الأعرابي كان معاذ بن كليب مجنوناً وكان يحب ليلى وشركه في حبها مزاحم بن الحرث العقيلي، فقال مزاحم يوماً للمجنون:
كلانا معاذ بحب ليلى ... بفيّ وفيك من ليلى التراب
شركتك في هوى من كان حظي ... وحظك من مودتها العذاب
لقد خبلت فؤادك ثم ثنّت ... بعقلي فهو مخبول مصاب
قال: فيقال أنه لما سمع هذه الأبيات إلتبس وخولط في عقله، وذكر أبو عمر الشيباني أنه سمع في الليل هاتفاً يهتف بهذه البيات فكانت سبب جنونه.
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحق قال: أنشدت أيوب عن عبابة هذين البيتين:
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
هذي شهور الصيف عنا قد إنقضت ... فما للنوى ترمي ليلى المراميا
وسألته عن قائلهما فقال جميل، فقلت له أن الناس يروونهما للمجنون، فقال وما المجنون، فأخبرته فقال: ما لهذا حقيقة ولا سمعت به.
وأخبرني عمي عن عد الله بن شبيب عن هرون بن موسى القروي قال: سالت أبا بكر العدري عن هذين البيتين فقال هما لجميل ولم يعرف المجنون، فقلت هل معهما غيرهما قال نعم وأنشدني:
وإني لأخشى أن أموت فجاءة ... وفي النفس حاجات إليك كما هي
وإني لينسيني لقاؤك كلما ... لقيتك يوماً أن أبثك ما بيا
وقالوا به داءٌ عياءٌ أصابه ... وقد علمت نفسي مكان دوائيا
وأنا أذكر مما وقع من أخباره جملاً مستحسنة متبرئاً من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا أقدمت هذه الشريطة برثت من عيب طاعن ومتبع للعيوب.
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعة من الرواة ونسخت ما لم اسمعه من الروايات وجمعت في سياقه خبره ما إتسق ولم يخلف، فإذا إختلف نسبت كل رواية إلى راويها.
فمن أخبرني خبره أحمد بن عبد اعزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وغبراهيم بن أيوب عن إبن قتيبة ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وإبن دأب وهشام بن محمد الكلبي وإسحق بن الجصاص وغيرهم من الرواة.
قال أبو عمرو الشيباني وأبو عبيدة: كان المجنون يهوى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتكنى أم مالك وهما حينئذ صبيان فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه.
قال ويدل على ذلك قوله:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابةٍ ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

في هذين البيتين للأخضر الجدِّي لحن من الثقيل الثاني بالوسطى ذكره محمد إبن عبد الزيات والهشامي.
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحق عن أبيه عن أيوب بن عبابة، ونسخت هذا الخبر بعينه من خط هرون بن عبد الملك الزيات قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثني أبو عتاب البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: بينا إبن أبي مليكة بؤذن إذ سمع الأخضر الجدّي يغني من دار العاصي ن وائل:
وعلقتها غرَّاء ذات ذوائب ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولن تكبر البهم
قال: فأراد أن يقول حيّ على الصلاة فقال حيَّ على البهم حتى سمعه أهل مكة فغدا يعتذر إليهم.
وقال إبن الكلبي: حدثني معروف المكي والمعلي بن هلال وإسحق بن الجصاص قالوا: كان سبب عشق المجنون ليلى أنه ذات يوم على ناقة له كريمه وعليه حلتان من حلل الملوك فمر بامرأة من قومه يقال لها كريمة وعندها جماعة نسوة يتحدثن فيهن ليلى فأعجبنه جماله وكماله فدعونه إلى النزول والحديث فنزل وجعل يحدثهن وأمر عبداً له كان معه فعقر لهن ناقته وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك إذ طلع عليم فتى عليه بردة من برد الأعراب يقال له منازل يسوق معزى، فلما رأينه اقبلن وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:
أأعقر من جرّا كريمة ناقتي ... ووصلي مفروش لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحليّ ولم أكن ... إذا جئت صوت تلك الخلاخل
متى ما إنتظلنا بالسهام نضلته ... وإن نرمِ عشقاً عندها فهو ناضلي
قال: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة أخرى ومضى متعرضاً لهنّ فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته وعندها جويريات يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره فقال أي لعمري، فنزل وفعل ما فعله بالأمس فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفه واستملحها.
فبينا هي تحدثه إذ أقبل فتى من الحي فدعته وسايرّته سراراً طويلاً ثم قالت له إنصرف، ونظرت إلى وجه المجنون وقد تغير وأنتقع لونه وشق ليه فعلها فأنشأت تقول:
كلانا مظهرٌ بغضاً ... وكلٌ عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثم هوى دفين
فلما سمع البيتين شهق شهقة شديدة وأغمى عليه، فمكث على ذلك ساعة ونضحوا الماء على وجهه، وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني هرون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم عن هشام بن محمد بن موسى المكي عن محمد بن سعيد المخزومي عن أبي الهيثم العقيلي قال: لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها خطبها وبذل إليها خمسين ناقة حمراء، وخطبها ورد بن محمد العقيقلي وبذل لها عشراً من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيروها بينكما فمن إختارت تزوجته، ودخلوا إليها وقالوا: والله لئن لم تختاري ورداً لنمثلن بكِ.
فقال المجنون:
ألا يا ليل إن ملكت فينا ... خيارك فأنظري لمن الخيار
ولا تستبدلي مني دنياً ... ولا يوماً إذا حبّ القتار
يهوول في الصغير إذا رآه ... وتعجزه ملماتٌ كبار
فمثل تأيمٍ منه نكاحٌ ... ومثل تمول منه إفتقار
فأختارت ورداً فتزوجته على كرهٍ منها.
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة بن خزيم المري قال:

خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون فدللت عليه وعلى محلته فلقيت أباه شيخاً كبيراً وحوله أخوة المجنون مع أبيهم رجالاً فسألتهم عنه فبكوه وقال الشيخ أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعاً وإنه عشق امرأة من قومه والله ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما فزوجها غيره وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدثان كما يتحدث الفتيان إلى الفتيات وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة فتعرض عنه وتقبل على غيره وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه فظنت به ما هو عليه من حبها فأقبلت عليه يوماً وقد خلت فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكلٌ عند صاحبه مكين
وأسرار الملاحظ ليس تخفى ... إذا نطقت بما تخفي العيون
غنّت في الأول عريب خفيف رمل وقيل أن هذا الغناء لشارية والبيت الأخير ليس من شعره.
قال: فخرَّ مغشياً عليه ثم أفاق فاقداً عقله، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقه ولا يمشي إلا عارياً ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله فإذا ذكرت ليلى أنشأ يحدث عنها ولا يخطيء حرفاً، وترك الصلاة، فإذا قيل له ما لك لا تصلي لم يرد حرفاً، وكنا نحبسه ونقيده فيعض لسانه وشفتيه حتى خشينا عليه فخلينا سبيله، فهو يهيم.
قال الهيثم: فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير وجعدة والحريش وحبيب وعبد الله فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه فأجابه إلى ذلك، فلما أراد الرواح جاءه قرمة فأخبروه خبره ليلى وإن أهلها إستعدوا السلطان عليه فأهدر دمه إن أتاهم فأضرب عما وعده له بقلائص فلما علم بذلك وأتى بالقلائص ردّها عليه وأنصرف.
وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرواة أن المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج قال له: أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غداً فأربي في أصحابك وأتجمل في عشيرتك وأفخر بقربك، فجاءه رهط من رهط ليلى وأخبروه بقصته، أنه لا يريد التجمل به وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم ويفضحهم في امرأة منهم يهواها وأنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم فأعرض عما أجابه إليه معه وأمر له بقلائص فردّها وقال:
وددت قلائص القرشي لما ... بدا لي النقض منه للعهود
وراحوا مقصرين وخلفوني ... إلى حزن أعالجه شديد
قال: ورجع آيساً فعاد إلى حاله الأولى.
قال: فلم تزل تلك حاله إلا أنه غير مستوحش إنما يكون في جنبات الحي منفرداً عارياً لا يلبس ثوباً إلا خرقه ويهذي ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة ولا يجيب أحداً إن سأله عن شيء، فإذا أحبوا أن يتكلم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى فيقول: بأبي هي وأمي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم ويأتيه أحداث الحي فيحدثونه عنها وينشدونه فيجيبهم جواباً صحيحاً وينشدهم أشعاراً.
ومن شعره:
أيا ويح من أمسى تخلس عقله ... فأصبح مذهوباً به كل مذهب
خلياً من الخلان إلا معذراً ... يضاحكني من كان يهوى تجني
الغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى من جامع أغانيه.
ومن شعره أيضاً:
إذا ذكرت ليلى عُقلت وراجعت ... روائع عقلي من هوىً متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة ... ولا الهم إلا بإفتراء التكذيب
وشاهد وجدي دمع عيني وحبها ... برى اللحم أنحاء عظمي ومنكبي
وقال:
تجنبت ليلى أن يلح بك الهوى ... وهيهات كان الحب قبل التجنب
ألا إنما غادرت يا أمَ مالك ... صدىِّ أينما تذهب به الريح يذهب
الغناء لإسحق خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لإبن جامع هزج من رواية الهشامي وهي قصيدة طويلة.
ومما يغني فيه منها قوله:
فلم أرَ ليلى بعد موقف ساعة ... يخيف مني ترى جمار المحصب

ويبدي الحصى منها إذا قذفت به من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب

ألا إنما غادرت يا أمَ مالك ... صدى إينما تذهب به الريح يذهب
فيه ثقيل أول مطلق بإستهلال ذكر إبن المكي أنه لأبيه يحيى، وذكر الهشامي أنه للواثق، وذكر حبش أنه لإبن محرز وهو في جامع أغاني سليمان منسوب إليه.
أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون:
فو الله ثم الله إني لدائب ... أفكر ما ذنبي إليها وأعجب
ووالله ما أدري علامَ قتلتني ... وأي أموري فيك يا ليل اركب
أأقطع حبل الوصل فالموت دونه ... أم أشرب رنقاً منكم ليس يشرب
أم أهرب حتى لا أرى لي مجاوراً ... أم أصنع ماذا أم أبوح فأغلب
فأيهما يا ليلَ ما ترتضيه ... فإني لمظلوم وإني لمتعب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر ن شبة قال: ذكر هشام بن الكلبي ووافقه في روايته أبو نصر أحمد بن حاتم وأخبرنا الحسن بن علي قال: حدثني إبن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح عن هشام بن الكلبي عن أبيه أن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته إجتمعوا إلى أبي ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرحم وقالوا له أن هذا الرجل لهالك وقبل ذلك ففي اقبح من الهلاك بذهاب عقله وإنك فاجع به أباه وأهله فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فو الله ما هي أشرف منه ولا لك مثل مال أبيه وقد حكمك في المهر وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلان أمها أنه لا يزوجه إياها أبداً وقال: أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأتهِ أحد من العرب وأسم إبنتي بميسم فضيحة، فأنصرفوا عنه.
وخالفهم لوقته فزوجّها رجلاً من قومها وأدخلها إليه فما أمسى إلا وقد بنى بها، وبلغه الخبر فأيس منها حينئذ وزال عقله جملة فقال الحي لأبيه: أحجج به إلى مكة وأدعِ الله عزّ وجل له ومره أن يتعلق بأستار الكعبة فيسأل الله أن يعافيه مما به ويبغضها إليه فلعل الله يخلصه من هذا البلاء، فحج به ابوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحاً في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشياً عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللون ذاهلاً فأنشأ يقول:
عرضت على قلبي العزاء فقال لي ... من الآن فأيأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح نائياً ... فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أطراب الفؤاد وما يدري
دعا بإسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
دعا بإسم ليلى ضلل الله سعيه ... وليلى بأرضٍ عنه نازحه قفر
وقال:
أيا حرجات الحي حين تحملوا ... بذي سلم لا جادكنّ ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى ... بلين بلا لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة ... كما يندم المغبون حين يبيع
فقدتك من نفس شعاع فإنني ... نهيتك عن هذا وأنت جميع
فقرّبتِ لي غير القريب فأشرقتإليك ثنايا ما لهن طلوع وذكر خالد بن جميل وخالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته بل أن يختلط أن تستزيره ليلة وجدت فرصة لذلك، فمكث مدة يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوّفه، فأتى أهلها ذات يوم والحي خلوف فجلس إلى نسوة من أهلها حجرة منها بحيث تسمع كلامه فحادثهن طويلاً ثم قال: ألا أنشدكنّ أبياتاً أحدثتها في هذه الأيام، قلن بلى، فأنشدهنّ:
يا للرجال لهمَّ بات يعروني ... مستطرف وقديم كاد يبليني
من عاذري من غريم غير ذي عسرٍ ... يأتي فيمطلني ديني ويلويني
لا يبعد النقد من حقي فينكره ... ولا يحدثني إن سوف يقضيني
وما كشكري شكر لو يوافقني ... ولا مناي سواه لو يوافيني
أطعته وعصيت الناس كلهم ... في أمره وهواه وهو يعصيني
قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته، وجعلن يتضاحكن وهو يبكي، فأستحيت ليلى منهنّ ورقّت له حتى بكت وقامت فدخلت بيتها وأنصرف هو.
في الثلاثة الأبيات الأول من هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود، قالا في حبرهما:

هذا وكان للمجنون أبنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه فوقف عليهما يوماً وهما جالسان فقالا: يا أبا المهدي ألا تجلس، قال لا بل أمضي إلى منزل ليلى فأترسمه وأرى آثارها فيه فاشفي بعض ما في صدري، فقالا له: نحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى فوقف بها طويلاً يتتبع آثارها ويبكي، ويقف في كل موضع منها ويبكي ثم قال:
يا صاحبيّ ألما بي بمنزلة ... قد مر حين عليها أيما حين
لا خير في الحب ليست فيه قارعة ... كأن صاحبها في نزع موتون
إني أرى رجعات الحب تقتلني ... وكان في بدئها ما كان يكفيني
إن قال هذا له مهلاً فإن لهم ... قال الهوى غير هذا القول يغنيني
ألقى من الحي ثارات فتقتني ... وللرجاء بشاشات فتحييني
الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل من جامع غنائه: وقال هشام بن الكلبي عن غبن مسكين أن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر بن عقيل يقال له معاذ وكان يدعى المجنون وكان صاحب غزل ومجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير فمرّ بإمرأة من بني عقيل يقال لها كريمة وكانت جميلة عاقلة معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى الجلوس والحديث وعليه حلتان فاخرتان وطيلسان وقلنسوة، فنزل يحدثهن وينشدهن وهنّ أعجب شيء به فيما يري، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى فأقبل غلام شاب حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم، فلما رأى ذلك من فعلهن غضب فقام وتركهن وهو يقول:
أأعقر من جرّا كريمة ناقتي ... ووصلي مفروش لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحلي ولم أكن ... إذا جئت أرض صوت تلك الخلاخل
قال: فقال له الفتى: هلمّ نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك ثم ما شئت فأفعل. وقال:
إذا ما إنتضلنا في الخلاء نضلة ... وإن يرم رشقاً عندها فهو ناضل
وقال إبن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضاً لهن فألقى ليلى جالسة بفناء بيتها وكانت معهن يومئذ جالسة ود علق بقلبها وهويته وعندها جويرات يحدثنها فوقف يهن وسلم فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره قال: أي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس. فأرادت أن تعلم لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض ن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه وأستملحها. فبينا هي تحدثه إ أقبل فتى من الحي فدعته فسارّته سِراراً طويلاً ثم قالت له إنصرف.
ونظرت إلى وجه المجنون فرأته قد تغير وأنتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً ... وكلٌ عند صاحبه مكين
تبلغا العيون مقالتينا ... وفي القلبين ثم هوى دفين
فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة فأغمي عليه، فمكث ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق. وتمكن حب واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.
حدثني عمي عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال: حدثنا أبو العالية عن أبي تمامة الجعدي قال: لا يُعرف فينا مجنون إلا قيس إبن الملوح، قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك ليلى قال: طرقتنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدم فبعثني أبي إلى منزل أبي ليلى وقال لي أطلب منه أدماً، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به فقال: ما تشاء، فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا فأرسلني أبي نطلب منك أدماً، فقال: با ليلى، أخرجي إليه ذلك النحى فأملئي له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعب فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث فألهي بالحديث وهي تصب السمن وقد إمتلأ القصب ولا نعلم جميعاً وهو يسيل حتى إستنقعت أرجلنا في السمن.

قال: فأتيتهم ليلة ثانية أطلب ناراً وأنا متلفع ببردٍ لي، فأخرجت لي ناراً في عطية فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما إحترقت العطبة خرقت من بردي خرقة وجعلت النار فيها، فلما إحترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبقَ عليّ من البرد إلا ما وارى عورتي وما أعقل ما أصنع وأنشدني:
أمستقبلي نفح الصبا ثم شائقي ... ببرد ثنايا أم حسان شائق
كان على أنيابها الخمر شجّها ... بماء الندى من آخر الليل عائق
وما ذقته إلا بعيني تفرساً ... كما شيم في أعلى السحابة بارق
ومن الناس من يروي هذا الخبر لنصيب ولكن هكذا روي في الخبر.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الملك بن محمد القرشي عن عبد الصمد إبن المعذل قال: سمعت الأصمعي يقول: وتذاكرنا مجنون بني عامر قال: هو قيس بن معاذ العقلي، قم قال: لم يكن مجنوناً إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
أخذت محاسن كل ما ... ضنّت محاسنه بحسنه
كاد الغزال يكونها ... لو لا الشوى ونشوز قرنه
قال، وهو القائل:
ولم أرَ ليلى بعد موقف ساعة ... بخيف مني ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصا منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال: حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذاً وبشر بن الفضل جميعاً ينشدان هذين البيتين وينسبا أنهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنما ... تقطع اعناق الرجال المطامع
وداينت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع
وحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا أبو خليفة عن إبن سلام قال: قضى عبد الله إبن الحسن بن الحصين بن الحر العنبري على رجل من قومه قضية أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحمل عليه وأنصرف مغضباً، ثم لقيه في طريق فأخذ بلجام بغلته وكان شديداً أبداً، ثم قال له: أيه يا أبا عبد الله:
طمعت بليلى أن تريع وإنما ... نقطع أعناق الرجال المطامع
فقال عبد الله:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهود عدول عند ليلى مقانع
خلِ عن البغلة قال الصولي في خبره هذا والبيتان للبعيث. هكذا قال، لا أدري أمن قوله هوام حكاية عن أبي خليفة.
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري عن عبد الله بن خلف الدلاّل قال: حدثنا زكريا بن موسى عن شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما إختلط عقل قيس بن الملوح وترك الطعام والشراب مضت أمه إلى ليلى فقالت لها إن قيساً قد ذهب حبكِ بعقله وترك الطعام والشرب، فلو جئته وقتاً لرجوتِ أن يثوب إليه عقله، فقالت ليلى: أما نهاراً فلا آمن قومي على نفسي، ولكن ليلاً، فأتته ليلاً فقالت له: يا قيس، إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي وتركت المطعم والمشرب، فأتقِ الله وأبقِ على نفسك. فبكى وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيشٍ فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
قال: بكت معه، وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودعته وأنصرفت فكان آخر عهده بها.
أخبرنا إبن الرزبان قال: قال القحدمي لما قال المجنون:
قضاها لغيري وأبتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى إبتلاني
سلب عقله.
الغناء لحكم ثقيل أول وقيل أنه لإبن الهزير وفيه لمتيم خفيف ثقيل أول من جامع أغانيه. وحدثني جحظة بهذا الخبر عن ميمون بن هرون أنه لما بلغه أنه قال هذا البيت بُرص.
أخبرني الحسن بن علي القرشي عن عائشة قال: إنما سمِّي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خلعا ... في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالفؤاد لهافأصبحا في فؤادي ثابتين معا حدثنا وكيع عن إبن يونس قال: قال الأصمعي: لم يكن المجنون مجنوناً إنما جنته العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني ... نعم بي من ليلى الغداة جنون

لياليَّ يزها بي شبابٌ وشدّة ... وغذ بي من خفض المعيشة لين
أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحق بن محمد بن أبان قال: حدثني عن بن سهل عن المدائني أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال لم يكن مجنوناً وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنون بليلى موكلٌ ... ولست عزوفاً من هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكيت صبابةً ... لتذكارها حتى يبل البكا الخدّا
أخبرني عمر بن جميل العتكي قال، حدثنا إبن شبة قال: حدثنا عون بن عبد الله العامري قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنوناً إنما كانت به لوثه وسهو أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبثه ... جماعة أعدائي بكت لي عيونها
أرى النفس ن ليلى أن تطيعني ... فقد جنّ من وجدي بليلى جنونها
أخبرني إبن المزبان قال: قال العتبي إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناسٌ علّ مجنون عامر ... يروم سواً قلت أني بيا
وقد لامني في حب ليلى قرابتي ... أخي وأين عمي وإبن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة ... بنفسي ليلى من عدوٍ وماليا
ولو كان في ليلى شذاً من خصومة ... لألويت أعناق الخصوم الملاويا
أخبرني هاشم الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال: قال بن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنوناً لصدقت ولكن قوله لما زُوّجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
يا ويح من أمسى يخلس عقله ... فأصبح هذهوباً به كل مذهب
خليعاً من الخلان إلا مجاملاً ... يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ... عوازب قلبي من هوى متشعب
قال: وأنشدنا له أيضاً:
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان فيك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن قد فهمت وعندكم عقلي
أخبرني إبن المزربان عن محمد بن الحسن بن دينار الأحول عن علي بن المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة أن صاحبة مجنون بني عامر التي كلف بها ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن الحريش وكنيتها أم مالك. وقد ذكر هذه الكنية المجنون في شعره فقال:
تكاد بلاد الله يا أم مالكٍ ... بما رحبت يوماً عليّ تضيق
وقال أيضاً:
فإن الذي أملت من أم مالكٍ ... أشاب قذالي وأستهام فؤاديا
خليليّ إن دارت على أم مالك ... صروف الليالي فأبغيا لي ناعيا
وقال أبو عمرو الشيباني: علق المجنون ليلى بنت مهدي ن سعد بمن بني الحريش وكنيتها أم مالك، فشهر بها وعُرف خبره فحٌجبت عنه، فشق ذلك عليه، فخطبها إلى أبيها فردّه وأبي أن يزوجه إياها، فأشتد به الأمر حتى جن وقيل فيه مجنون بني عامر، فكان على حاله يجلس ي نادي ومه فلا يفهم ما يحدّث به ولا يعقله أحد إلا إذا ذكرت ليلى.
وأنشد له ابو عمرو:
الا ما لليلى تُرى مشجعي ... بليل ولا يجري بذلك طائر
بلى أن عجم الطير تجري إذا جرت ... بليلى ولكن ليس للطير زاجر
أزالت عن العهد الذي كان بيننا ... بذي الأئل أم قد غيرتها المقادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة ... ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدري بأية حلة ... وأي مرامٍ أو خطار أخاطر
وتالله أن الدهر في ذات بيننا ... علي لها في كل حال لجائر
فلو كنت إذا أزمعت هجري تركتني ... جميع القوى والعقل مني وافر
ولكن أيامي بحقل عنيزة ... وبالرضم أيامٌ جناها التجاور
وقد أصبح الود الذي كان بيننا ... أماني نفس والمؤمل حائر
لعمري لقد رنقت يا أم مالك ... حياتي وساقني إليك المقادر
قال أبو عمرو:

أخبرني بعض الشاميين قال: دخلت أرض بني عامر فسألت عن المجنون الذي قتله احب فخبروني عنه أنه كان عاشقاً لجارية منهم يقال لها ليلى ربي معها ثم حجبت عنه فأشتد ذلك عليه وذهب عقله فأتاه أخوان من إخوانه يلومونه على ما صنع بنفسه فقال:
يا صاحبيّ ألما بي بمنزلةٍ ... قد مرّ حين عليها أيما حين
في كل منزلة ديوان معرفة ... لم يبق باقية ذكر الدواوين
إني أرى رجعات الحب تقتلني ... وكان في بدئها ما كان يكفيني
الغناء لإبن جامع خفيف ثقيل.
أخبرني هاشم الخزاعي عن الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غُيبت عن ناظره فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جارية في عشيرتك فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها، وكان كلما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوماً فقال:
يا للرجال لهمّ بات يعروني ... مستطرف وقديماً كان يعنيني
على غريم مليء غير ذي عدمٍ ... يأتي فيمطلني ديني ويلويني
لا يذكر البعض من ديني فينكره ... ولا يحدثني أن سوف يقضيني
وما كشكري شكرٌ لو يوافقني ... ولا منيّ كمناه إذ يمنيني
أطعته وعصيت الناس كلهم ... في أمره ثم يأبى فهو يعصيني
خيري لمن يبتغي خيري ويأمله ... من دون شرّي وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعفٍ ... ولا أقول أخي من لا يواتيني
في هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمر الشيباني: حدثني رياح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدث الفتيات إلى الفتيان، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه وأعتنوا بأمره إجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلاً، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء:
فوا كبداً من حب من لا يحبني ... ومن زفرات ما لهن فناء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد ... ولم يك عندي إذ أبيت إباء
أتاركتي للموت أنت فعيتٌ ... وما للنفوس الخائفات بقاء
ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس يهين، فأقلوا من ملامكم فلست بسامع فيها ولا مطيع لقول قائل.
أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وإبن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز بم صالح عن أبيه عن إبن وأب عن رباح بن حبيب العامري أنه سأله عن حال المجنون وليلى فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيمة بن الحريش وكانت من أجمل النساء واظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً واملحهن شكلاً، وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صبابهن، فبلغه خبرها ونعتت له فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس افضل ثيابه ورجل جمته ومسّ طيباً كان عنده وأرتحل ناقة كريمة برحل حسن وتقلد سيفه وأتاها فسلم فردت عليه السلام وأخفت المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا وكل واحد منهما مقبل على صاحبه مجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا فأنصرف إلى أهله فبات أطول ليلة شوقاً إليها حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم إنصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى وأجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري الحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد ثبتت في القلب منك محية ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع
عروضه من الطويل والغناء لإبراهيم الموصلي رمل الوسطى عن عمرو، قال: وأدام زيارتها وترك من كان يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى إنصرف.

خرج ذات يوم يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء فتطير منها وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جزى ... بجد القوى والوصل أعسر حاسر
صديع العصا صعب المرام إذا إنتحى ... لوصل أمريء جذب عليه الأواصر
ثم سار إليها في غد فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه وانه يخاف تغير عهدها وأنتكائه، وبكى فقالت: لا ترعَ، حاشا الله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك إن شاء الله. فلم يزل عندها يحدثها بقية يومه ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه.
جاءها يوماً كما كان يجيء وأقبل يحدثها فأعرضت عنه وأقبلت على غيره بحديثها تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعاً شديداً حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً ... وكلٌ عند صاحبه مكين
فسرى عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك، والذي عندي أكثر من الذي عندك، وأعطي الله عهداً إن جالست بعد يومي هذا رجلاً سواك حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذلك.
قال: فأنصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً واقرهم عيناً وقال:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لديّ ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل
محاجبها حب الأولى منّ قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
أخبرني ابو جعفر بن قدامى عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعة فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من بني ثقيف موسر فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون. ثم نمي إليه طرف منه لم يتحققه فقال:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتها ... وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العلا ... لأفقر مني إنني لفقير
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتيني بالطلاق بشير
وقال أيضاً:
ألا تلك ليلى العامرية أصبحت ... تقطع إلا من ثقيف حبالها
هم حبسوها محبس البدن وابتغى ... بها المال أقوامٌ ألا قلّ ما لها
إذا ما إلتفت والعيس صعرٌ من البرا ... بنخلة جلت عبرة العين حالها
قال: وجعل يمر ببيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليها ويقول إذا جاوزه:
الا أيها البيت الذي لا أزوره ... وإن حله شخص إليّ حبيب
هجرتك إشفاقاً وزرتك خائفاً ... وفيك عليّ منك رقيب
ساستعتب الأيام لعلها ... بيوم سرور في الزمان تؤوب
الغناء لعريب ثاني ثقيل بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:
كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلى العامية أو يراح
قطاة غزّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
عروضه من الوفر. الغناء لإبن المكي خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحق وفيه خفيف ثقيل لسليمان مطلق في مجرى البنصر وفيه لإبراهيم رمل بالوسطى في مجراها عن الهشامي.
قال: لما نقلت إلى الشقفي قال:
طربت وشاقتك الحمول الدوافع ... غداة دعا بالبين أسحم نازع
شحافاه نعباً بالفراق كأنه ... حريب سليب نازح الدار جازع
فقلت ألا قد بين الأمر فأنصرف ... فقد راعنا بالبين قبلك رائع
سقيت سموماً من غرابٍ فإنني ... تبينت ما خبرت مذ أنت واقع
ألم ترَ أني لا محب ألومه ... ولا ببدل بعدهم أنا قانع
وقد يتناءى الإلف من بعد غلفه ... ويصدع ما بين الخليطين صادع
وكم من هوى أو جيرة قد الفتهم ... زماناً فلم يمنعه للبين مانع
كأنه غداة البين ميت جوبة ... أخو ظمأ سدّت عليه المشارع
تخلس من أوشال ماء صبابة ... فلا الشرب مبذول ولا هو ناقع
وبيض تطلى بالبعير كانما ... نعاج الملا جيبت عليها البراقع

تحملهن من وادي الأراك فأومضت ... لهن بأطراف العيون المدامع
فما رضن ربع الدار حتى تشابهت ... هجائنها والجون منها الخواضع
وحتى حملن الحور من كل جانب ... وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما إستوت تحت الخدود وقد جرت ... عبير وسك بالعرانين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا ... من الصيف يوم لافع الحر مانع
فلما لحقنا بالخمول تباشرت ... بنا مقصرات غاب عنها المطامع
تعرضين بالدل المليح ران يرد ... جناحهن مشغوف فهن موانع
فقلت لأصحابي ودمعي مسبلٌ ... وقد صدع الشمل المشتت صادع
أليلى بأبواب الخدور تعرضت ... لعينيّ أم قرن من الشمس طالع
أخبرني عيسى بن الحسين الورَّاق قال. حدثنا الهيثم بن فرَّاس قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عدي أن أبا المجنون حج به ليدعو الله عز وجل في الموقف أن يعاقبه فسار معه غبن عمه زياد بن كعب بن مزاحم فمرّ بحمامة تدعو على أيكة فوقف يبكي فقال له زياد: أي شيء هذا ما يبكيك ايضاً، سر بنا نلحق الرفقة فقال.
أن هتفت يماً بوادٍ حمامة بكيت ولم يعذرك بالجهل عاذر
دعت ساق حرّ بعدما علت الضحى ... فهاج لك الحزان إن ناح طائر
نعيّ الضحى والصبح في مر حجنة ... كثاف الأعالي تحتها الماء حائر
كأن لم يكن بالغيل أو بطن أيكة ... أو الجزع من تول الأشاءة حاضر
يقول زياد إذ رأى الحي هجروا ... أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقادم حاجتي ... ملم على أوطان ليلى مناظر
أخبرني إبن أبي الأزهر عن محمد بن عبد الله البكري عن موسى بن جعفر إبن أبي كثير، وأخبرني عمي عن إبن شبيب عن الهروي عن موسى بن جعفر عن إبن أبي كثير. وأخبرني إبن المرزبان عن إبن الهيثم عن العمري عن العتبي، قالوا جميعاً: كان المجنون وليلى وهما صبيان يعيان غنماً لأهلهما عند جبل في بلادهما يقال له التوباد، فلما ذهب عقله وتوحش كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذاكر أيام كان يطيف هو وليلى به جزع جزعاً شديداً فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشأم فإذا ثاب إليه عقله رأى بلد لا يعرفه فيقول الناس الذين يلقاهم بأبي أنتم اين التوباد من أرض بني عامر فيقال له وأين أنت من أرض بني عامر، أنت بالشأم، عليك بنجم كذا فأمه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن فيرى بلاداً ينكرها وقوماً لا يعرفهم فيسألهم عن التوباد وارض بني عامر فيقولون وأين أنت من أرض بني عامر، عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال في ذلك:
وأجهشت للتوباد حين رأيته ... وكبّر الرحمن حين رآني
وأذرفت له دمع العين حين عرفته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرة ... وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدا ... فراقك والحيان مجتمعان
سجالاً وبهتاناً ووبلاً وديمةً ... وسحاً وتسجلماً وتنهملان
أخبرني عمي عن إبن شبيب عن هرون بن موسى القروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: قال المجنون:
خليليّ لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وأبتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى إبتلانيا
سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هرون عن إسحق الموصلي أنه لما قالهما برص.
قال موسى بن جعفر في خبره المذكور: وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحاً يصيح يا ليلى، في ليلة ظلماء، أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت، فقال: ما سمعت شيئاً، قال: والله هاتف يهتف ليلى.
ثم أنشأ يقول:
اقول لأدنى صحابيَّ كليمة ... أسرت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في أرض الفضاء رأيتني ... أصانع رحلي أن تميل حباليا

يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن ... شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا
وقال إبن شبيب: وحدثني هرون بن موسى قال: قلت لعرير بن طلحة المخزومي: مَن اشعر الناس ممن قال شعراً في منى ومكة وعرفات فقال: أصحابنا القرشيون. ولقد أحسن المجنون حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا بإسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً في صدري
فقلت له: هل ترون للمجنون غير هذا، قال نعم وأنشدني له:
أما والذي أرسى تبيراً مكانه ... عليه السحاب فوقه يتنصب
وما سلك الموماة من كل حسرة ... طليح كجفن السيف تهوي فتركب
لقد عشت من ليلى زماناً أحبها ... أخا الموت إذ بعض المحبين يكذب
أخبرني محمد بن يزيد عن حماد عن أبيه قال: كانت كنية ليلى أم عمرو، وأنشد للمجنون:
أبى القلب إلا حبه عامرية ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضر
الغناء لعريب ثقيل أول، وقال حبش فيه لإسحق خفيف ثقيل.
أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة قال: خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته وكان جميلاً فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
ألا أن ليلى كالمنيحة أصبحت ... تقطع إلا من ثقيف حبالها
فقد حبسوها محبس البدن وابتغى ... بها الريح أقوام تساحت مآلها
خليليّ هل من حيلة تعلمانها ... يدني لنا تكليم ليلى إحتيالها
فإن أنتما لم تعلماها فلستما ... بأول باغٍ حاجة لا ينالها
كأن مع الركب الذين إغتدوا بها ... غمامة صيف زعزعتها شمالها
نظرت بمفضى سيل جوشن إذ غدوا ... تخب بأطراف المخادم آلها
بشافية الأحزان هيج شوقها ... مجامعة الآلاف ثم زيالها
إذا إلتفتت من خلفها وهي تعتلي ... بها العيس جلى عبرة العين حالها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر أحمد بن حاتم قال: وأنشدناه امبرد للمجنون فقال:
وأحبس عنك النفس والنفس صبةً ... بذكراك والممشى إليك قريب
مخافة أن تسعة الوشاة بظنة ... وأحرسكم أن يستريب مريب
فقد جعلت نفسي وأنت إجترمته ... وكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل ... لك الدهر مني ما حييت نصيب
أما والذي يبلى السرائر كلها ... ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن يصطفي الناس خلةً ... لها دون خلان الصفاء حجوب
ذكر يحيى المكي أنه لإبن سريج ثقيل أول، وقال الهشامي أنه من منحول يحيى إليه.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال: إسحق الموصلي وأخبرني به محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحق عن أبيه قال: حدثني سعيد بن سليمان عن أبي الحسن الببغا قال: بينا أنا وصديق لي من قريش بالبلاط ليلاً إذ يظل نسوة في القمر، فسمعت إحداهن تقول: أهو هو، فقالت لها الأخرى معها: أي والله إنه لهو، فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخٍ بعائدة ... كما عهدت ولا أيام ذي سلم
فقلت لها يا عز كل مصيبة إذا وطنت يوماً لها النفس ذلتَ ثم مضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت إلى منزلي فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فألتفت فقال لي: المرأة التي كلمتها تدعوك.

فمضيت معها حتى دخلت داراً واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير وقد ثنت لي وسادة جلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها فقالت لي: أنت المجيب، قلت نعم، قالت: ما كان أفظ جوابك وأغلظه، فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت ثم قالت: لا والله، ما خلق الله خلقاً أحب إليّ من إنسان كان معك، فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن وعليّ أن آتيك به في الليلة القابلة.
فأنصرفت فإذا الفتى بابي فقلت: ما جاء بك قال: ظننت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أعرف لك خبراً فظننت أنك عندها فجلست أنتظرك، فقلت له: وقد كان الذي ظننت، وقد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة.
فلما أصبحا هيأنا وانتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار ودخلنا معها فإذا رائحة طيبة ومجلس قد أعد ونضد فجلسنا على وسائد قد ثنيت وجلست ملياً، ثم أقبلت عليه فعاتبته ملياً ثم قالت:
وأنت الذي أخبرتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم
وابرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمى وأنت سليم
فلو كان قولٌ يكلم الجلد قد بدا ... بجلدي من قول الوشاة كلوم
هذه الأبيات لآمنة امرأة إبن الدمينة وفيها غناء لإبراهيم الموصلي ذكره إسحق ولم يجنسه. وقال الهشامي هو خفيف رمل وفيه لعريب خفيف ثقيل أول ينسب إلى حكم الوادي وإلى يعقوب. قال: ثم سكنت وسكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ... وفي بعض هذا للمحب عزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني ... فحبك من قلبي إليك أداء
فالتفتت غليّ فقالت: ألا تسمع ما يقول قد خبرتك، فغمرته إن كف فكف، ثم أقبلت عليه وقالت:
نجاهلت وصلي حين جدت عمايتي ... فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته ... نصيب وإذ رأيي جميع موقر
ولكنما آذنت بالصرم بغتة ... ولست على مثل الذي جئت أقدر
فقال:
لقد جعلت نفسي وأنت إجترمته ... وكنت أعز الناس عنك تطيب
قال: فبكت ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك بعدها خير. ثم إلتفتت إليّ وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك ولا يفي به عنك.
وهذا البيت الأخير للمجنون وإنما ذكر هذا الخبر هنا وليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
وقيل إن هذا الشعر للمجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرَّها فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
الغناء ليحيى المكي خفيف ثقسل بالوسطى عن عمرو وفيه رمل ينسب إلى إبراهيم وإلى أحمد بن المكي، وقال حبش فيه خفيف ثقيل لسليم.
وقال الهيثم بن عدي في خبره: حدثني عبد الله بن عياش الهمداني قال: حدثني رجل من بني عامر قال: مطرنا مطراً شديداً في ربيع إرتبعناه ودام ثلاثاً ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي فرأيت رجلاً جالساً حجرة وحده فقصدته فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي، فوعظته وكلمته طويلاً وهو ساكت لم يرفع رأسه إليّ.
ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه ابداً وحرقته:
جرى الدمع فأستبكاني السيل إذ حرى ... وفاضت له من مقلتيَّ غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه ... يكون بوادٍ أنت فيه قريب
يكون أجاجاً دونكم فإذا أنتهى ... إليكم نلتقي طيبكم فيطيب
أظل غريب الدار في أرض عامرٍ ... ألا كل مهجور هناك غريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى ... إليّ وإن لم آتة لحبيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيب
وأول هذه القصيدة وفيه غناء:
ألا أيها البيت الذي لا أزوره ... وهجرانه مني إليه ذنوب
هجرتك مشتاقاً وزرتك خائفاً ... وفيّ عليك الدهر منك رقيب

سأستعطف الأيام فيك لعلها ... بيوم سرور في هواك تثيب
هذه الأبيات في شعر محمد بن أمية مروية ورويت ههنا للمجنون وفيها لعريب ثقيل أول ولعبد الله بن العباس ثاني ثقيل ولأحمد بن المكي خفيف ثقيل:
وأفردت أفراد الطريد وباعدت ... إلى النفس حاجات وهن قريب
لئن حال يأس دون ليلى لربما ... أتى اليأس دون الأمر وهو قريب
ومنيتني حتى إذا ما رأيتني ... على شرف للناظرين يريب
صددت وأشمت العدو بصرمنا ... أثابك يا ليلى الجزاء مثيب
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا مهدي إبن سابق قال: حدثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مرّ في توحشه فصادف حي ليلى راحلاً ولقيها فجأة فعرفها وعرفته فصعق وخرّ مغشياً على وجهه وأقبل فتيان من حي ليلى أخذوه ومسحوا التراب عن وجهه وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له وقفة فرقت لما رأته به وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به ولكن يا فلانة لامة لها: إذهبي إلى قيس فقولي له ليلى تقرأ عليك السلام وتقول لك أعزز عليّ بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلاً إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه.
مضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها فأفاق وجلس وقال: ابلغيها السلام وقولي لها: هيهات، إن دائي ودوائي أنت وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازماً وبلاء طويلا.
ثم بكى وأنشأ يقول:
أقول لصحابي هي الشمس ضوؤها ... قريب ولكن في ناولها بُعد
لقد عارضتنا الريح منها بنفحة ... على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشياً عليّ وقد مضت ... أناة ولا عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي بعولة ... يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبقَ إلا الجلد والعظم عارياً ... ولا عظم لي إن دام ما بي ولا جلد
أدنياي ما لي في إنقطاعي ورغبتي ... إليك ثواب منك دين ولا نقد
عديني بنفسي أنت وعداً فربما ... جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
وقد يبتلى قوم ولا كبليتي ... ولا مثل جدي في الشفاء بكم جد
غزتني جنود الحب من كل جانب ... إذا حان من جند أقول أتى جند
وقال أبو نصر أحمد بن حاتم: كان أبو عمرو المدني يقول: قال نوفل بن مساحق: عن المجنون أن سبب نوحشه أنه كان يوماً بضرية جالساً وحده إذ ناداه مناد من الجبل:
كلانا يا أخيّ يحب ليلى ... بفيِّ وفيك من ليلى التراب
لقد خبلت فؤادك ثم ثنت ... بقلبي فهو مهمومٌ مصاب
شركتك في هوى من ليس تبدي ... لنا الأيام منه سوى إجتناب
قال: فتنفس الصعداء وغشي عليه وكان هذا سبب توحشه، فلم يُرَ له أثر حتى وجده نوفل إبن مساحق.
قال نوفل: قدمت البادية فسألت عنه فقيل لي توحش وما لنا به عهد ولا ندري إلى أين صار. فخرجت يوماً أتصيد الأروى ومعي جماعة من أصحابي حتى إذا كنت بناحية الحمى إذا نحن بأراكة عظيمة قد بدا منها قطيع من الظباء فيها شخص إنسانُ يرى من خلل تلك الأريكة، فعجب أصحابي من ذلك، فعرفته وأتيته وعرفت أنه المجنون الذي أخبرت عنه، فنزلت عن دابتي وتخففت من ثيابي وخرجت أمشي رويداً حتى أتيت الأراكة فأرتقيت حتى صرت على أعلاها وأشرفت عليه وعلى الظباء فإذا به وقد تدلى الشعر على وجهه فلم أكد أعرفه إلا بتأمل شديد وهو يرتعي في ثمر تلك الأراكة، فرفع رأسه فتمثلت ببيت من شعره:
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت ... مزارك من ليلى وشعبا كما معا
قال: فنفرت الظباء وأندفع في باقي القصيدة ينشدها، فما أنسى نغمته وحسن صوته وهو يقول:
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع إن داعي الصبابة إسمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برولجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا

معي كل عز قد عصى عازلاته ... بوصل الغواني من لدن أن ترعرعا
إذا راح يمشي في الرداءين أسرعت ... إليه العيون الناظرات التطلعا
قال: ثم سقط مغشياً عليه فتمثلت بقوله:
يا دار ليلى قد درست ... إلا الثمام وإلا موقد النار
ما تفتأ الدار من ليلى تموت كذا ... في موقف وقفته أو على دار
أبلى عظامك بعد اللحم ذكركها ... كما ينحت قدح الشوحط الباري
فرفع رأسه إليّ وقال: من أنت حياك الله، فقلت أنا نوفل بن مساحق، فحياني فقلت له: ما أحدثت بعدي في يأسك منها، فأنشدني يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... عليَّ يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير جرم غير أني أحبهاوإن فؤادي رهنها وأسيرها ثم قال: سنحت له ظباء فقام في أثرها حتى لحقها فمضى معها:
حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح عن إبن الكلبي قال لما قال مجنون بني عامر: قضاها لغيري وأبتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى إبتلانيا نودي في الليل أنت المتسخط لقضاء الله والمعترض في أحكامه، وأختلس عقله فتوحش منذ تلك الليلة وذهب مع الوحش على وجهه. وهذه القصيدة التي قال فيها هذا البيت من أشهر أشعاره، والصوت المذكور بذكره أخبار المجنون ههنا منها وفيها أيضاً عدة أبيات يغني فيها.
فمن ذلك قال:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهراً أعد اللياليا
أراني إذا صليت يممت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراكٌ ولكن حبها ... كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق إسمها ... وأشبهه أو كان منه مدانيا
وقال:
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عني قد إنقطعت ... فما للنوى يرمي بليلى المراميا
وقال:
فلو كان واشٍ باليمامة بيته ... وداري بأعلى حضرموت إهتدى ليا
وماذا لهم لا أحسن الله حفظهم ... من الحظ في صريم ليلى حباليا
فأنت الذي إن شئت أشقيت عيشتي ... وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
وأنت الذي ما من صديق ولا عدى ... يرى نضو ما أبقيت إلا رثى ليا
أمضروبة ليلى على أن أزورها ... ومتخذ ذنباً لها أن ترانيا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني ... أصانع رجلي أن تميل حياليا
يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن ... شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا
أحب من الأسماء ما وافق إسمها ... وأشبهه أو كان منه مدانيا
هي السحر إلا أن للسحر رقيةً ... وإني لا ألفي لها الدهر راقيا
وأنشد أبو نصر للمجنون وفيه غناء وقال:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضر
أبا القلب إلا حبها عامرية ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
الغناء لعريب ثقيل أول، وذكر الهشامي أن فيه لإسحق خفيف ثقيل.
أخبرني محمد إبن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: أنشدني جماعة من بني عقيل للمجنون يرثي أباه ومات قبل إختلاطه وتوحشه فعقر على قبره ورثاه بهذه الأبيات:
عقرت على قبر الملوح ناقتي ... بذي السرح لما أن جفته أقاربه
وقلت لها كوني عقيراً فإنني ... غداة غد ماش وبالأمس راكبه
فلا يبعدنك الله يا إبن مزاحم ... وكل أمريء فالموت لا بد شاربه
فقد كنت طلاّع النجاد ومعطي الجياد وسيفاً لا تفل مضاربه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال:

حدثنا عبد الله بن شبيب عن الحزامي عن محمد بن معن قال: بلغني أن رجلاً من بني جعدة بن كعب كان أخاً وخِلاً للمجنون مرّ به يوماً وهو جالس يخط في الأرض ويعبث بالحصى سلم عليه وجلس عنده فأقبل يخاطبه ويعظه ويسليه وهو ينظر إليه ويلعب بيده كما كان وهو مفكر قد غمره ما هو فيه، فلما طال خطابه إياه قال: يا أخي: أما لكلامي جواب، فقال له: والله يا أخي ما علمت أنك تكلمني، فأعذرني فإني منا ترى مذهوب العقل مشترك اللب.
وبكى ثم أنشأ يقول:
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان منك فإنه شغلي
وأديم حظ محدثي ليرى ... إن قد فهمت وعندكم عقلي
الغناء علوية. وقال الهيثم: مر المجنون يراد في أيام الربيع وحمامه يتجاوب فأنشأ يقول:
ألا يا حمام الأيك ما لك باكياً ... أفارقت إلفاً أم جفاك حبيب
دعاك الهوى والشوق لما ترنمت ... هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوب ورقا قد أذن لصوتها ... فكل لكل مسعد ومجيب
الغناء لرداد ثقيل أولمطلق في مجرى الوسطى.
وقال خالد بن حمل: حدثني رجال من بني عامر أن زوج ليلى وأباها خرجا في أمر طرق الحي إلى مكة فأرست ليلى بأمة لها إلى المجنون فدعته فأقام عندها ليلة فأخرجته في السحر وقالت له: سر إليّ في كل ليلة ما دام القوم سفراً، فكان يختلف إليها حتى قدموا.
وقال فيها في آخر ليلة لقيها وودعته:
تمتع بليلى إنما أنت هامة ... من إلهام يدنو كل يوم حمامها
تمتع إلى أن يرجع الركب أنهم ... متى يرجعوا يحرم عليك كلامها
وقال الهيثم: مض المجنون قبل أن يختلط فعاده قومه ونساؤهم ولم تعده ليلى فيمن عاده فقال:
ألا ما لليلى لا تُرى عند مضجعي ... بليل ولا يجري بها لي طائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت ... بليلى ولكن ليس للطير زاجر
أحالت عن العهد الذي كان بيننا ... بذي الرمث أم قد غيبتها المقابر
الغناء لسليم ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
ومن قوله:
فو الله ما في القرب لي منك راحة ... ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدري بأية حيلة ... وأي مرام أو خطار أخاطر
ووالله إن الدهر في ذات بيننا ... عليّ لها في كل أمر لجائر
فلو كنت إذا زمعت هجري تركتني ... جميع القوى والعقل مني وافر
ولكن أيامي يجفل عنيزة ... وذي الرمث أيام حناها التجاور
فقد أصبح الود الذي كان بيننا ... أماني نفس أن تخبر خابر
لعمري لقد أرهقت يا أم مالك ... حياتي وساقتني إليك المقادر
أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمو الشيباني ن أبيه قال: قال حدثني بعض ني عقيل قال: قيل للمجنون: أي شيء رأيته أحب إليك، قال ليلى، قيل دع ليلى فقد عرفنا ما لها عندك ولكنت سواها، قال: والله ما أعجبني شيء قط فذكرت ليلى إلا سقط من عيني وأذهب ذكرها بشاشته عندي، غير أني رأيت ظبياً مرة فتأملته وذكرت ليلى فجعل يزداد في عيني حسناً، ثم وهرب منه فتبعته حتى خفيا عني وجدت الذئب قد صرعه وأكل بعضه رميته بسهم فما خطأت مقتله وبقرت بطنه فأخرجت ما أكل منه ثم جمعته إلى بقية شلوه ودفنته وأحرقت الذئب وقلت في ذلك:
أبى أن تبقى لحي بشاشة ... فصبراً على ما شاءه الله لي صبرا
رأيت غزالاً يرتعي وسط روضة ... فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا
فيا ظبي كل رغداًَ هنيئاً ولا تخف ... فإنك لي جارٌ ولا ترهب الدهرا
وعندي لكم حصن حصين وصارم ... حسام إذا أعملته أحسن الهبرا
فما راعني إلا وذئب قد إنتحى ... فأعلق في أحشائه الناب والظفرا
ففوقت سهمي في كوم غمزتها ... فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا
فأذهب غيظي قتله وشفى جوى ... بقلبي إن الحر قد يدرك الوترا
قال أبو نصر:

بلغ المجنون قبل توحشه أن زوج ليلى ذكره وعضهه وسبته وقال: أو بلغ من قدر قيس بن الملوح أن يدعي محبة ليلى وينوه بإسمها، فقال ليغيظه بذلك:
فإن كان فيكم بعل ليلى فإنني ... وذي العرش قد قبلت فاها ثمانيا
وأشهد عند الله إني رأيتها ... وعشرون منها إصبعاً من ورائيا
أليس من البلوى التي لا ثوى لها ... بأن زوجت كلباً وما بذلت ليا

- دلال ووصال
-
يا ذا الذي يخطر في مشيته ... قد صففَ الشعر على جبهته
وسرح المئزُر من خلفه ... ودقق البان على وقرته
قلبي على ما كان من شفوته ... صب ٌ بمن يهوى على جفوته
يختلق السخطة لي ظالماً ... أحوج ما كنت إلى رحمته
أكلما حدّد لي موعداً ... أخلفه التنغيص من علته
أضمر في البعد عتاباً له ... فإن دنا أنسيت من هيبته
مبتلٌ تثنيه أعطافه ... أميس خلق الله في خطرته
يحار رجع الطرف في وجهه ... وصورة الشمس على صورته
مهفهفٌ ترتج أردافه ... يتيه بالحسن على جيرته
ينتسب الحسن إلى حسنه ... والطيب يحتاج إلى نكهته
وليلة قصَر في طولها ... بالكرخ إن مُتعتُ من رؤيته
في مجلس يضحك تفاحة ... بين الرياحين إلى خضرته
ما أن يرى خلوتنا ثالثٌ ... إلا الذي نشرب من خمرته
خمرته في الكأس ممزوجةٌ ... كالذهب الجاري على فضته
فتارة أشرب من يقه ... وتارة أشرب من فضلته
وكلما عضض تفاحة ... قبلت ما يفضل من عضته
حتى إذا ألقى قناع الحيا ... ودار كسر النوم في مقلته
سرت حُميا الكأس في رأسه ... وديتِ الخمرة في وجنته
فصار لا يدفع عن نفسه ... وكان لا يأذن في قبلته
دب له إبليسُ فأقتاده ... والشيخ ناعٌ على لعنته
عجبتُ من إبليس في تيهه ... وخبث ما أظهر من نبتته
تارة على آدم في سجدةٍ ... وصار قوّاداً لذريته
وله:
- دموع الفراق
-
أبت عيناي بعدك أن تناما ... وكيف ينام من ضمن السقاما
بكيت من الفراق لما ألاقي ... وراجعت الصبابة والغراما
وعدت إلى العراق برغم أنفي ... وفارقت الجزيزرة والشآما
على شط الشآم وساكنيه ... سلامُ مسلم لقي الحماما
مذكرةٌ مؤنثةٌ مهاةٌ ... إذا برزت تشبهها غلاما
تعاف الماء والعسل المصفى ... وتشرب من فتوتها المداما
تقول لسيفها يا سيف أبشر ... ستُروى من دم وتُقدّ هاما
وقائلة لها من وجه نصح ... علامَ قتلتِ هذا المستهاما
فكان جوابها حُسن مسنٍ ... أأجمعُ وجه هذا الحراما
لقد ربحت تجارة كل صبٍ ... تهاديه حبيبته السلاما
وقول بشار:
يا رب إني قد عرضت بهجرها ... فإليك أشكو ذاك يا رباه
مولاة سوء تستهين بعبدها ... نعم الغلام وبئست المولاه
طل ولكني حرمت نعيمه ... ووصاله إن لم يغثني الله
يا رب إن كانت حياتي هكذا ... ضراً عليّ فما أريد حياه
الشعر والغناء لها خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.
وقد ذكر إبن حرداذبه أن الشعر والغناء لبشار وإنه هوى جارية تغني فتعلم الغناء من أجلها وقال الشعر، ولم يزل يتوصل إليها بذلك حتى صار مقدماً بين المغنين وأن هذا الشعر له فيها والصنعة أيضاً.
أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال: حدثني محمد بن صالح بن شيخ بن عمير عن أبيه قال: حجب طل عن علية فقالت وصحفت إسمه في أول بيت:
يا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل لديك سبيل
متى يلتقي من ليس يقضي خروجه ... وليس لمن يهوى إليه دخول

عسى الله أن نرتاح من كربة لنا ... فيلقى إغتباطاً خلة وخليل
عروضه من الطويل والغناء لعلية.
حدثني أبو عبد الله أحمد بن الحسين الهشامي قال: قالت علية في طل وصحفت إسمه في هذا الشعر وغنت فيه:
سلم على ذاك الغزال ... الأغيد الحسن الدلال
سلم عليه وقد له ... يا غل ألباب الرجال
خليت جسمي ضاحياً ... وسكنت في ظل الحجال
وبلغت مني غاية ... لم أدرِ فيها ما إحتيال
الشعر والغناء لعلية خفيف رمل، وذكر غير هذا أن الغناء لأحمد بن المكي في هذه الطريقة.
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني ميمون بن هروق عن محمد بن علي بن عثمان الشطرنجي أن علية كانت تقول الشعر في خادم لها يقال له رشا وتكني عنه، فمن شعرها فيه وكنّت عنه بزينب، وكانت مولعة به:
وجد الفؤاد بزينبا ... وجداً شديداً متعباً
أصبحت من كلفي بها ... أدعى سقيماً كنصبا
ولقد كتبت عن إسمها ... عمداً لكي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا
قالت وقد عزَّ الوصال ... ل ولم أجد لي مذهبا
والله لا نلت المود ... ة أو تنال الكوكبا
هكذا ذكر ميمون بن هرون وروايته فيه عن المعروف بالشطرنجي ولم يحصل ما رواه هذا الصوت شعره لأبن رهيمة المدني والغناء ليونس الكاتب ولحنة من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وهو من زيانيب يونس المشهرات وقد ذكرته معها، والصحيح أن علية غنت فيه لحناً من الثقيل الأول بالوسطى.
حكى ذلك إبن المكي عن أبيه وأخبرني به ذكاء عن القاسم بن زرزور. أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني الحسين بن يحيى الكاتب أبو الجماز قال: حدثني عبيد الله بن العباس الربيعي قال: لما علم من عليه أنها تكنى عن رشا بزينب قالت:
القلب مشتاق إلى ريب ... يا ربما هذا العيب
قد تيمت قلبي فلم أستطع ... إلا البكايا عالم الغيب
خبأت في شعري إسم الذي ... أردته كالخبء في الجيب
قال: وغنت فيه لحناً من طريقة خفيف الرمل الأول فصحفت إسمها في ريب، قال: وكانت لأم جعفر جارية يقال لها طغيان فوشت بعلية إلى رشا وحكت عنها ما لم تقل فقالت علية:
لطغيان خف من ثلاثين حجة ... جديد فلا يبل ولا يتخرق
وكيف بلا خف هو الدهر كله ... على قدميها في الهواء معلق
فأخرقت خفاً ولم تبلِ جورباً ... وأما سراويلاتها فتمزق
قال: وحلف رشا أن لا يشرب النبيذ سنة فقالت:
قد تبت الخاتم في خنصري ... إذ جاءني منك تجنيك
حرمت شرب الراح إذ عفتها ... فلست في شيء أعاصيك
فلو تطوعت لعوضتني ... منه رضاب الريق من فيك
فيازينباً قد أرقت مقلتي ... أمتعني الله بحبيك
غنت فيه علية هزجاً.
أخبرني جحظة ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا ميمون بن هرون قال: حدثني الحسين بن إبراهيم بن رياح قال: قال لي محمد بن إسمعيل بن موسى الهادي: كنت عند المعتصم وعنده مخارق وعلوية ومحمد بن الحرث وعقيد فتغنى عقيد وكنت أضرب عليه.
وقال:
نام عذالي ولم أنم ... وأشتفى الواشون من سقمي
وإذا ما قلت ألمٌ ... شك من أهواه في ألمي
فطرب المعتصم وقال: لمن هذا الشعر والغناء فأمسكوا، فقلت لعلية، فعرفت غلطتي وأن القوم أمسكوا عمداً، فقطع بي وتبين حالي فقال: لا ترع يا محمد فإن نصيبك فيها مثل نصيبي.
الغناء لعلية خفيف رمل وقد قال قومٌ أن هذا اللحن للعباس بن أشرس الطنبوري مولى خزاعة وأن الشعر لخالد الكاتب.
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني أحمد بن يزيد قال: حدثني أبي قال: كنا عند المنتصر فغناه بنان لحناً من الرمل الثاني وهو خفيف الرمل.
وقيل:
يا ربة المنزل بالبرك ... وربة السلطان والملك
تحرجي بالله قتلنا ... لسنا من الديلم والترك

فضحكت فقال لي: ممّ تضحك، قلت من شرف قائل هذا الشعر وشرف من عمل اللحن فيه وشرف مستمعه، قال: وما ذاك، قلت: الشعر فيه للرشيد والغناء لعلية بنت المهدي وأمير المؤمنين مستمعه.
فأعجبه ذلك وما زال يستعيده.
حدثني إبراهيم بن محمد بن بركشة قال: سمعت شيخاً يحدّث أبي وأنا غلام فحفظت عنه ما حدثه به ولم أعرف إسمه قال: حدثني إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: عملت في أيام الرشيد لحناً وهو:
سقياً لأرض إذا نمت نبهني ... بعد الهدّو بها قرع النواقيس
كأن سوسنها في كل شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس
قال: فأعجبني مراراً وعملت على أن أباكر به الرشيد فلقيني في طريقي خادم لعلية بنت المهدي فقال: مولاتي تأمرك بدخول الدهليز لتستمع من بعض جواريها غناء أخذته عن أبيك وشكّت فيه الآن، فدخلت معه إلى حجرة قد أفردت لي كأنها كانت معدة فجلست وقدّم لي طعام وشراب فنلت حاجتي منهما.
ثم خرج خادم فقال لي: تقول لك مولاتي أنا أعلم أنك قد غدوت إلى أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث فاسمعنيه ولك جائزة سنية تتعجلها، ثم ما يأمر به لك بين يديك ولعله لا يأمر لك بشيء ولا يقع الصوت منه بحيث توخيت فيذهب سعيك باطلاً. فأندفعت فغنيتها إياه ولم تزل تستعيده مراراً، ثم أخرجت إلي عشرين ألف درهم وعشرين ثوباً وقالت: هذه جائزتك، ولم تزل تستعيده مراراً.
وقال إسمعيل بن عمار يخاطب إحدى الجواري:
هل من شفاء لقلب لج محزون ... صب يغيب إلى ريم إبن رامين
إلى ربيحة إن الله فضلها ... بحسنها وسماع ذي أفانين
وهاج قلبي منها مضحك حسن ... ولثغة بعدرائي وفي سين
نفسي تأبى لكم إلا طواعية ... وأنت تأبين لوماً أن تطيعيني
وتلك قسمة ضيزى قد سمعت بها ... وأنت تتلينها ما ذاك في الدين
إن تسعفيني بذاك الشيء أرضَ به ... وإن ضننت به عني فعينيني
أنت الطبيب لداء قد تلبس بي ... من الجوى فأنفثي في فيّ وأرقيني
نعم شفاؤك منها أن تقول لها ... أضنيتني يوم دير الملح فأشفيني
يا ربُ إن إبن رامين له بقرٌ ... عينُ وليس لنا إلا البراذيني
لو شئت أعطيته مالاً على قدر ... يرضى به منك عين الربرب العين
لا أنس سعدة والزرقاء يوم هما ... بالبلح شرقية وق الدكاكين
يغنيان إبن رامين على طرب ... للمسجعي تشتيت المحبين
أذاك أنعم أم يوم ظللت به ... فراشي الورد في بستان شورين
يشوي لنا الشيخ شورين دواجنه ... بالجرد تاجٍ وشجاع الشعانين
تسقي طلاء لعمران يعقبه ... يمشي الأصحاء منه كالمجانين
تنزل أقدامنا من بعد صحتها ... كأنها ثقلاً تقلعن من طين
نمشي وأرجلنا مطوية شللاً ... مشي الأوز التي تأتي من الصين
أو مشي عميان عمٌ لا دليل لهم ... سوى العصي إلى يوم السعانين
في فتية من بني تيم لهوت بهم ... تيم بن مرة لا تيم العديين
حمر الوجوه كانا من تحشمنا ... حسناء شمطاء وافت من فلسطين
يا عائذ الله لو لا أنت من شجتي ... لو لا إبن رامين لو لا ما يمنيني
في عائذ الله بيت ما مررت به ... إلا وجئت على قلبي بسكين
يا أسد القبة الخضراء أنت لنا ... أنس لأنك في دار إبن رامين
ما كنت أحسب الأسد تؤنسني ... حتى رأيت إليك القلب يدعوني
لو لاك تؤنسني بالقرب ما بقيت ... نفسي إليك ولو مثلت من طين
وقال أحد الشعراء:
أشارت طرف العين خيفة أهلها ... إشارة محزون ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيب المسلم
وأبرزت طرفي نحوها لأجيبها ... وقلت لها قول إمريء غير مفحم
هنيئاً لكم قتلي وصفو مودتي ... وقد سيط في لحمي هواك وفي دمي

لأحدهم:
يا هند أن الناس قد أفسدوا ... ودك حتى عزني المطلب
يا ليت من يسعى بنا كاذباً ... عاش مهاناً في أذى يتعب
شبيه ذنباً كنت أذنبته ... قد يفغر الله لمن يذنب
وقد شجاني وجرت دمعتي ... إن أرسلت هند وهي تعتب
ما هكذا عاهدتنا في منى ... ما أنت إلا ساحرٌ تخلب
حلفت لي بالله لا نبتغي ... غيرك ما عشت ولا نطلب
*

أقسام الكتاب
1 2