كتاب : الشعر والشعراء
المؤلف : ابن قتيبة الدينوري

فإِنَّكَ يا عامِ ابنَ فارِسِ قُرْزُلٍ ... عَنِ القَصْد إِذْ يَمَمْتَ ثَهْلانَ جائِرُ
ومن جيد الشعر قوله:
وما الأَرْضُ إِلاَّ قَيْسُ عَيْلَانَ أَهْلُها ... لَهُمْ ساحَتَاها سَهْلُها وحُزُومُهَا
وقد نال آفاقَ السَّمواتِ مَجْدُنا ... لنا الصَّحْوُ من آفاقِها وغُيُومُهَا
وله:
ونَسْتَلِبُ الأَقْرانَ والجُرْدُ كُلَّحٌعلى الهَوْلِ يَعْسِفْنَ الوَشِيجَ المُقَوَّمَا
ونَحْنُ صَبَحْنَا حَىَّ أَسْمَاءَ غارَةٌ ... أَبالَ الحَبَالَى غِبُّ وَقْعَتِنَا دَمَا
وكان عامر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: تجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأمر من بعدك وأسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفني عامراً واهد بني عامر " . فانصرف وهو يقول: لأملأنها عليك خيلا جرداً، ورجلاً مرداً، ولأربطن بكل نخلةٍ فرساً، فطعن في طريقه، فمات وهو يقول: غدةٌ كغدة البعير، وموتٌ في بيت سلوليةٍ!! ويكنى أبا علي، وهو الذي نافر علقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري، حين أهتر عمه عامر بن مالكٍ ملاعب الأسنة، ولعلقمة يقول الأعشى:
إِنْ تَسُدِ الحُوصَ فلم تَعْدُهُمْ ... وعامِرٌ سادَ بنى عامِرِ
والحوص، ولد الأحوص بن مالك بن جعفر بن كلاب ويقال لهم الأحوص أيضاً.
ومن جيد شعره قوله:
فإِنِّى وإِن كُنْتُ ابنَ فارِسِ عامِرٍ ... وسَيَّدِها المَشْهُورِ في كُلِّ مَوْكِبِ
فما سَوّدَتْنِى عامِرٌ عن وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُو بِأُمٍّ ولا أَب
ولكِنَّنى أَحْمِى حِمَاها وأَتَّقِى ... أَذَها وأَرْمِى مَنْ رماها بمَنْكِبِ

مالك ومتمم ابنا نويرة
هما من ثعلبة بن يربوع.
وكان مالك فارس ذي الخمار، وذو الخمار فرسه، وفيه يقول:
مَتى أَعْلُ يَوماً ذا الخِمَارِ وشِكَّتِى ... حُسامٌ وصَدْقٌ مارِنٌ وشَلِيلُ
وقتله خالد بن الوليد في الردة وتزوج امرأته وقتل من قومه مقتلةً عظيمةً، ولهذا السبب كان سخط عمر بن الخطاب على خالد بن الوليد. ولمالك عقبٌ.
ودخل متممٌ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: ما أرى في أصحابك مثلك! قال: يا أمير المؤمنين، أما والله إني مع ذلك لأركب الجمل الثفال، وأعتقل الرمح الشطون، وألبس الشملة الفلوت، ولقد أسرتني بنو تغلب في الجاهلية، فبلغ ذلك أخي مالكاً، فجاء ليفديني، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقوني له بغير فداءٍ.
قال أبو محمد: ولما استشهد زيد بن الخطاب يوم مسيلمة ودخل متممٌ على عمر بن الخطاب فقال له: أنشدني بعض ما قلت في أخيك، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
وكُنِّا كنَدْمانَىْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي ومالِكاً ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لم نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
فقال له عمر: يا متمم، لو كنت أقول الشعر لسرني أن أقول في زيد ابن الخطاب مثل ما قلت في أخيك، قال متمم: يا أمير المؤمنين، لو قتل أخي قتلة أخيك ما قلت فيه شعراً أبداً، فقال عمر: يا متمم، ما عزاني أحدٌ في أخي بأحسن مما عزيتني به.
وهذه القصيدة من أحسن ما قال وفيها يقول:
أَبَى الصَّبْرَ آياتٌ أَرَاها وأَنَّني ... أَرَى كُلَّ حَبْلٍ دُونَ حَبْلِكَ أَقْطَعَا
وأَنى متى ما أَدْعُ باسْمِكَ لا تُجِبْ ... وكُنْتَ جَدِيراً أَنْ تُجِيبَ وتَسْمَعَا
فما شارِفٌ عَيْسَاءُ رِيَعتْ فرَجَّعَتْ ... حَنِيناً فأَبْكى شَجْوُهَا البَرْكَ أَجْمَعَا
ولا وَجْدُ أَظْآرٍ ثَلاَثٍ رَوَائمٍ ... رَأَيْنَ مَجَرّاً من حُوَارٍ ومَصْرَعَا
يُذَكِّرْنَ ذا البَثِّ القَدِيمِ بِدَائِهِ ... إِذَا حَنَّتِ الأُوَلى سَجَعْنَ لها مَعَا
بأَوْجَدَ مِنِّى يَوْمَ قام لمالِكٍ ... مُنَادٍ فَصِيحٌ بالفِرَاقِ فأَسْمَعَنا

وكان لمتممٍ ابنان: إبراهيم وداوود، وكانا شاعرين خطيبين: ودخل إبراهيم على عبد الملك بن مروان، فقال له: إنك لشنخفٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، إني من قومٍ شنخفين، والشنخف: الجسيم من الرجال. قال: وأراك أحمر قرفاً، قال: الحسن أحمر يا أمير المؤمنين.
ومما سبق إليه مالكٌ وأخذه الناس منه قوله:
جَزَيْنَا بَنى شَيْبَانَ أَمْسِ بقَرْضِهَمْوعُدْنا بمِثْلِ البَدْءِ والعَوْدُ أَحْمَدُ
فقال الناس: العود أحمد، وقال بعض المحدثين:
وأَحْسَنَ فيما كان بَيْني وبَيْنَهُ ... فإِنْ عاد بالإِحْسان فالعَوْدُ أحْمَدُ
وكان صرد بن جمرة، الذي شرب مني عبد أبي سواج الضبي، عم مالكٍ ومتممٍ ابني نويرة، وكان صرد يختلف إلى امرأة أبي سواجٍ، فقال لها يوماً: أريد أن تقدي لي سيراً من است أبي سواج! فقالت: أفعل، وعمدت إلى نعجة فذبحتها وقدت من باطن إليتها سيراً ودفعته إليه، فجعله صرد في نعله، وكان يقول إذا رأى أبا سواج:
بِتُّ بِذِي بِلِّيَّانْ ... وفي نَعْلِى شِرَاكانْ
قُدَّا مِنَ اسْتِ إِنْسَانْ
فلما أكثر علم أبو سواج أنه يعرض به، فطرح ثوبه وقال لمن حضر: أنشدكم بالله! هل ترون بأساً؟ قالوا: لا، ثم أمر أبو سواج عبداً له أن يواقع أمةً له كان زوجه إياها، وأن يفرغ من منيه في عس، ففعل، فقال لامرأته: والله لتسقينه صرد أو لأقتلنك، فبعثت إلى صرد فأقام عندها، فلما استسقى حلبت له على لك المنى فشربه، فمات فتميم تعير بشرب المنى، وقد أكثر الشعراء في ذلك، قال الشاعر:
أَتَحْلِفُ لا تَذُوقُ لنا طَعَاماً ... وتَشْرَبُ مَنْى عَبْدِ أَبى سُوَاجِ
شَرِبْتَ رَثِيَّةً فحَبِلْتَ عنها ... فما لك راحَةٌ دُونَ النِّتَاجِ
ومالكٌ هو القائل:
سَأَهْدِى مِدْحَةً لِبَنِى عَدِىٍّ ... أَخُصُّ بها عَدِىَّ بَنِى جَنَاب
تُراثَ الأَحْوَصِ الخَيْرِ ابنِ عَمْروٍ ... ولا أَعْنِى الأَحاوِصَ من كِلاَب
أَتَيْنَا حَىَّ خَيْرِ بنى مَعَدٍّ ... هُمُ أَهْلُ المَرَابِعِ والقِبَابِ
شُرَيْحٌ والفَرَافِصَةُ بنُ عَمْروٍ ... وإِخْوَتُهُ الأَصَاغِرُ لِلرِّبَاب

خفاف بن ندبة
هو خفاف بن عمير بن الحرث بن الشريد السلمي، وأمه ندبة سوداء، وإليها ينسب، وهو من أغربة العرب، وهو ابن عم خنساء بنت عمرو بن الشريد الشاعرة، هو القائل:
كِلاَنَا يُسَوِّدُهُ قَوْمُهُ ... على ذلِكَ النَّسَبِ المُظْلِمِ
يعني السودان، ويكنى أبا خراشة، وأسلم وبقي إلى زمن عمر، وله يقول عباس بن مرداس السلمي، وكان يهاجيه:
أَبَا خرَاشَةَ إِمَّا كُنْتَ ذَا نَفَرٍ ... فإِنَّ قَوْمِىَ لم يَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ
وخفافٌ هو قاتل مالك بن حمار، سيدٌ بني شمخ بن فزارة، وفي ذلك يقولك
إِنْ تَكُ خَيْلِى قد أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فعَمْداً على عَيْنِى تَيَمَّمْتُ مَالِكَا
أَقُولُ له والرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِى أَنَا ذلِكَا
وشهد خفافٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة ومعه لواء بني سليم، ومما يسأل عنه من شعرٍ قوله:
فلم يَكُ طِبَّهُمْ جُبْناً ولكِنْ ... رَمَيْنَاهُمْ بثالِثَةِ الأَثَافِى
خنساء بنت عمرو
هي تماضر بنت عمرو بن الشريد، وكان دريد بن الصمة خطبها، وذلك أنه رآها تهنأ إبلا لها فهويها، فردته وقالت: أتراني تاركةً بني عمي كأنهم عوالي أشباح ومرتثةً شيخ بني جشم؟ ففي ذلك يقول دريد:
حَيُّوا تُمَاضر وارْبَعُوا صَحْبِى ... وقِفُوا فإِنَّ وُقُوفَكُمْ حَسْبِى
أَخُنَاسُر فد هامَ الفُؤَادُ بِكُمْ ... وأَصابَهُ تبْلٌ مِنَ الحُبِّ
ما إِنْ رَأَيْتُ ولا سَمِعْتُ به ... كَالْيَومِ هانِىءَ أَيْنُقٍ جُرْبِ
مُتَبَذِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الهنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ

فخطبها رواحة بن عبد العزي السلمي، فولدت له عبد الله، وهو أبو شجرة، ثم خلف عليها مرداس بن أبي عامر السلمي، فولدت له زيداً ومعاوية وعمراً.
وهي الجاهلية كنت تقول الشعر في زمن النابغة الذبياني، وكان النابغة تضرب له قبةٌ حمراء من أدمٍ بسوق عكاظٍ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصيرٍ، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السلمية فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت إنك أشعر الجن والإنس، فقال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك! فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا بن أخي، إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي:
فإِنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذِي هو مُدْرِكي ... وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ واسِعُ
ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء والله ولاذا خصيين.
وكان أخوها صخر بن عمرو شريفاً في بني سليم، وخرج في غزاة فقاتل فيها قتالا شديداً، وأصابه جرح رغيبٌ، فمرض من ذلك فطال مرضه، وعاده قومه، فكانوا إذا سألوا امرأته سلمى عنه قالت: لا هو حي فيرجى، ولا ميتٌ فينسي، وصخرٌ يسمع كلامها، فشق عليها، وإذا قالوا لأمه: كيف صخرٌ اليوم؟ قالت أصبح صالحاً بنعمة الله، فلما أفاق من علته بعض الإفاقة عمد إلى امرأته سلمى فعلقها بعمود الفسطاطٍ حتى ماتت وقال: غيره بل قال: ناولوني سيفي لأنظر كيف قوتي وأراد قتلها، وناولوه فلم يطق السيف، ففي ذلك يقول:
أَهُمُّ بأَمرِ الحَزْم......... ... ............البيت
وأول الشعر:
أَرَى أُمَّ صَخْرٍ ما تَمَلُّ عِيَادتى ... ومَلّتْ سُلَيْمَى مَضْجَعى ومَكانِى
وما كُنْتُ أَخْشَى أَن أَكُونَ جِنَازَةً ... عليكِ ومَنْ يَغْتَرُّ بالحَدَثَانِ
فأَيُّ امْرِىءٍ ساوَى بأُمٍّ حَلِيلَةً ... فلا عاشَ إِلاَّ في أَذىً وهَوَانِ
أَهُمُّ بأَمْرِ الحَزْمِ لو أَسْتَطِيعُهُ ... وقد حِيلَ بَيْنَ العَيْرِ والنَّزَوَانِ
لَعَمْرِى لَقَدْ أَنْبَهْتِ مَنْ كان نائماً ... وأَسْمَعْتِ مَنْ كانَتْ له أُذُنَانِ
ولَلْمَوْتُ خَيْرٌ من حَيَاةٍ كأَنَّها ... مَحِلَّةَ يَعْسُوبٍ برَأْس سِنَانِ
ثم نكس بعد ذلك من طعنته فمات، فكانت أخته خنساء ترثيه، ولم تزل تبكيه حتى عميت.
ودخلت خنساء على أم المؤمنين عائشة، وعليها صدارٌ لها من شعر فقالت لها عائشة رضي الله عنها: يا خنساء إن هذا لقبيحٌ، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لبست هذا، قالت: إن له قصةً: قالت: فأخبريني، قالت: زوجني أبي رجلا، وكان سيداً معطاءً، فذهب ماله، فقال لي: إلى من يا خنساء.؟ قلت: إلى أخي صخرٍ، فأتيناه، فقسم ماله شطرين، فأعطانا خيرهما، فجعل زوجي أيضاً يعطي ويحمل، حتى نفد ماله، فقال: إلى من؟ فقلت: إلى أخي صخر، فأتيناه، فقسم ماله شطرين، فأعطانا خيرهما، فقالت امرأته: أما ترضى أن تعطيها النصف حتى تعطيها أفضل النصيبين؟ فأنشأ يقول:
والله لا أَمْنَحُها شِرارَهَا ... ولو هَلَكْتُ مَزَّقَتْ خِمَارَهَا
وجَعَلَتْ من شَعَرٍ صِدَارَهَا
فذلك الذي دعاني إلى أن لبست هذا حين هلك.
وكانت تقف بالموسم فتسوم هودجها بسومةٍ، وتعاظم العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخرٍ ومعاوية ابني عمرو، وتنشدهم فتبكي الناس.
وكان أبوها يأخذ بيدي ابنيه صخرٍ ومعاوية ويقول: أنا أبو خيري مضر، فتعترف له العرب بذلك، ثم قالت الخنساء بعد ذلك: كنت أبكي لصخرٍ من القتل، فأنا أبكي له اليوم من النار.
ومما سبقت إليه قولها:
أَشَمُّ أَبْلَجُ تَأَتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأَنَّهُ عَلَمٌ في رأسِه نَار
وفيها تقول:
مِثْلَ الرُّدَيْنِىّ لم تَكْبَرْ شَبيبَتُهُ ... كأَنَّه تحتَ طَىّ الثَّوْب إِسْوَارُ
لم تَرَهُ جارَةٌ يَمْشِى بساحَتِها ... لرِيبَةٍ حينَ يُخْلى بَيْتَه الجارُ
فما عَجُولٌ لَدَى بَوٍّ تُطِيفُ به ... قد ساعَدَتْها على التَّحْنانِ أَظْآر

أَوْدَى به الدَّهْرُ عنها فَهْىَ مُرْزِمَةٌ ... لها حَنِينَانِ إِصْغارٌ وإِكْبَارُ
تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حتَّى إِذا ذَكَرَتْ ... فإِنما هىَ إِقْبالٌ وإِدْبارُ
يَوْماً بأَوْجَعَ منى يومَ فارَقَنِى ... صَخْرٌ وللدَّهْرِ إِحْلاءٌ وإمْرارُ
؟؟

المساور بن هند
وكنيته أبو الصمعاء هو المساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي وقيس بن زهيرٍ جد المساور هو صاحب الحرب بين عبسٍ وفزارة، وهي حرب داحسٍ والغبراء، وكان المساور يهاجي المرار الفقعسي ويهجو بني أسدٍ، قال الشاعر:
شَقِيَت بَنُو أَسَدِ بِشِعْرِ مُسَاوِرِ ... إِنَّ الشَّقِىَّ بكُلِّ حَبْل يُخْنَقُ
وهو القائل للمرار:
ما سَرَّنى أَنَّ أمي من بنى أَسَدٍ ... وأَنَّ ربىَ يُنْجِينِى مِنَ النارِ
وأَنَّهم زَوَّجُونى من بَناتِهمُ ... وأَنَّ لىِ كلَّ يَوْمٍ أَلْفَ دِينارٍ
فقال له المرار:
لَسْتَ إلى الأُمِّ من عبْسٍ ومن أَسَدٍ ... وإنما أنْتَ دِينَارُ بن دِينَارِ
وإنْ تَكُنْ أَنْتَ من عَبْسٍ وأُمِّهِمِ ... فأُمُّ عَبْسِكُمُ من جارَةِ الجَارِ
وقال له الحجاج: لم تقول الشعر بعد الكبر؟ قال: أسقي به الماء، وأرعى به الكلأ، وتقضي لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته، وعمر طويلا.
وهو القائل:
بَلِيتُ وعِلْمِى في البِلادِ مَكانَهُ ... وأَفَنى شَبَابى الدَّهْرُ وهْوَ جَدِيدُ
وأَدْرَكَنى يوْمٌ إِذَا قُلْتُ قد مَضَى ... يَعُودُ لَنا أَو مِثْلُهُ فَيَعُودُ
وأَصْبَحْتُ مِثْلَ السَّيفِ أَخْلَقَ جَفْنهُ ... تَقَادُمُ عَهْدِ القَيْنِ وهْوَ جَدِيدُ
أَلَمْ تَعْلَمُوا يا عَبْسُ لو تَشْكُرُوننىإِذَا الْتَفَّتِ الذُّوَّادُ كَيْفَ أَذُودُ
أَلَمْ تَعلَمُوا أَنى ضَحُوكٌ إِليكمُ ... وعِنْدَ شَدِيدَاتِ الأُمُور شَدِيد
وهلك المساور بعمان.
ضابىء بن الحرث البرجي
هو ضابيء بن الحرث بن أرطاة، من بني غالب بن حنظلة، بن البراجم، وكان استعار كلباً من بعض بني جرول بن نهشلٍ، فطال مكثه عنده، فطلبوه فامتنع عليهم، فعرضوا له فأخذوه منه، فغضب ورمى أمهم بالكلب، واسم الكلب قرحان فقال:
تَجَشَّمَ دُونى وَفْدُ قُرْحانَ شُقَّةً ... تَظَلُّ بها الوَجْناءُ وهْىَ حَسيرُ
فأَرْدَفْتَهُمْ كلْباً فراحُوا كأَنما ... حَبَاهُمْ بتاجِ الهُرْمُزَان أَمِيرُ
وقَلَّدْتُهُمْ ما لو رَمَيتُ مُتَالِعاً ... به وهو مُغْبَرٌّ لكادَ يَطِيرُ
فيا راكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ... ثُمَامَةَ عَنَّى والأُمُورُ تَدُورُ
فأُمَّكُمُ لا تَتْرُكُوها وكَلْبَكُمْ ... فإِنَّ عُقُوقَ الوالِداتِ كبيرُ
فإِنَّكَ كَلْبٌ قد ضَرِيتَ بما تَرَى ... سَمِيعٌ بما فَوْقَ الفِرَاشِ خَبِيرُ
إِذا عَثَّنَتْ من آخِرِ اللَّيْلِ دُخْنَةً ... يَبيتُ لها فَوْقَ الفِرَاشِ هَريرُ
فاستعدوا عليه عثمان بن عفان، فحبسه، وقال: والله لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي لأحسبنه نزل فيك القرآن، وما رأيت أحداً رمى قوماً بكلبٍ قبلك، ومثل ها قول زهيرٍ، ورمى قوماً بفحلٍ إبلٍ حبسوه عليه، فقال:
ولَوْلاَ عَسْبُهُ لَرَدَتُمُوُه ... وشَرُّ مَنِيحَةٍ أَيْرٌ مُعَارُ
إِذَا طَمَحَتْ نِسَاؤُكُمُ إِليه ... أَشَظَّ كأَنَّه مَسَدٌ مُغَارُ
وكان أراد أن يفتك بعثمان بن عفان، فقال في الحبس:
هَمَمْتُ ولم أَفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنى ... تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكِى حَلاَئِلُهْ
ولم يزل في حبس عثمان إلى أن مات.
ومن شعره في الحبس قوله:
ومَنْ يَكُ أَمْسْىَ بالمَدينَةِ رَحْلُهُ ... فإِنى وقَيَّاراً بها لَغَرِيبُ
وما عاجِلاتُ الطَّيْرِ تُدْنِى من الفَتَى ... رَشَاداً ولا عن رَيْثِهنَّ يَخِيبُ

ورُبَّ أُمُورٍ لا تَضِيرُك ضَيْرَةٌ ... ولِلْقَلْبِ من مَخْشَاتِهِنَّ وَجِيبُ
ولا خَيْرَ فيمَنْ لا يُوَطِّنُ نفْسَهُ ... على نائِباتِ الدَّهْرِ حينَ تَنُوب
وفي الشَّك تَفْرِيطٌ وفي الجَزْم قُوَّةٌ ... ويُخْطِىءُ في الحَدْسِ الفَتَى ويُصِيب
ولَسْتَ بِمُسَتْبقٍ صَدِيقاً ولا أَخاً ... إِذَا لم تُفِدْهُ الشىءَ وهْوَ قَرِيبُ
ولما قتل عثمان رضي الله عنه جاء عمير بن ضابيء فرفسه برجله، فلما كان زمن الحجاج وعرض أهل الكوفة ليوجههم مدداً للمهلبن عرضه فيهم، وهو شيخٌ كبيرٌ، فقال له: اقبل مني بديلاً، قال: نعم، فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي رفس عثمان وهو مقتولن فرده فقتله، وفي ذلك يقول الشاعر:
تَخَيَّرْ فإِمَّا أَنْ تَزُورَ ابنَ ضابِىءٍعُمَيْراً وإِمَّا أَن تَزُورَ المُهَلَّبَا
هُما خُطَّتَا خَسْف نَجَاؤُكَ منهما ... رُكُوبُك حَوْلِياً منَ الثَّلْجِ أَشْهَبَا
وأخو ضابيء معرض بن الحرث: ومما سبق إليه ضابيء فأخذ منه قوله في الثور:
يُساقِطُ عَنْهُ رَوْقُه ضَاريَاتِها ... سِقَاطَ حَدِيدِ القَيْنِ أَخْوَلَ أخْوَلاَ
أخذه الكميت فقال:
يُساقِطُهُنَّ سِقَاطَ الحَدِي ... دِ يَتْبَعُ أَخْوَلَهُ الأَخْوَلُ
يقال: تساقطت النار أخول أخول، أي قطعاً قطعاً.

مالك بن الريب
هو من مازن تميمٍ، وكان فاتكاً لصا، يصيب الطريق مع شظاظٍ الضبي الذي يضرب به المثل، فيقال ألص من شظاظٍ ومالكٌ الذي يقول:
سَيُغْنِينى المَلِيكُ ونَصْلُ سَيْفِى ... وكَرَّاتُ الكُمَيْتِ على التَّجَارِ
وحبس بمكة في سرقةٍ، فشفع فيه شماس بن عقبة المازني، فاستنقذه وهو القائل في الحبس:
أَتَلْحَقُ بالرِّيْبِ الرِّفاَقُ ومالِكٌ ... بمَكَّةَ في سِجْنٍ يُعَنِّيه راقِبُهْ
ثم لحق بسعيد بن عثمان بن عفان، فغزا معه خراسان، فلم يزل بها حتى مات.
ولما حضرته الوفاة قال:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِى هل أَبِيتَنَّ لَيْلَةًبجَنْبِ الغَضَا أُزْجِى القِلاَصَ النَّواجِيا
فلَيْتَ الغَضَا لم يَقْطَعِ الرَّكْبُ عُرْضَهُولَيْت الغَضَا مَاشَى الرِّكابَ لَيَاليَا
أَلَمْ تَرَنِى بعْتُ الضَّلاَلَة بالهُدَى ... وأَصْبَحُتْ في جَيْش ابنِ عَفَّانَ غازِيَا
لَعَمْرِى لَئِنْ غالَتْ خُرَاسَانُ هَامَتِىلَقَدْ كُنْتُ عَنْ بابَىْ خُرَاسَانَ نائِيَا
فيَا صَاحِبَى رَحْلِى دَنَا المَوْتُ فاحْفِرَا ... برابِيَةٍ إِني مُقِيمُ لَيَاليَا
وخُطَّا بِأَطْرَافِ الأَسِنَّةِ مَضْجَعِى ... ورُدَّا على عَيْنَىَّ فَضْلَ رِدَائِيَا
ولا تَحْسُدَانى بارَكَ اللهُ فيكُمَا ... مِنَ الأَرْضِ ذاتَ العَرْضِ أَنْ تُوسِعَالِيَا
تَذَكَّرْتُ مَنْ يَبْكِى علىَّ فلم أَجِدْسِوَى السَّيْفِ والرُّمْحِ الرُّدَيْنِىِّ باكِيَا
وقال يهجو الحجاج: "
فإِنْ تُنْصِفُوا يا آلَ مَرْوَانَ نَقْتَرِبْ ... إِلَيْكُمْ وإِلاَّ فأْذَنُوا بِبعَاد
فِنَّ لَنَا عَنْكُمْ مَزَاحاً ومَزْحلاً ... بِعِيسٍ إلى رِيح الفلاةِ صَوَادِ
فماذَا عَسَى الحجَّاجُ يَبْلُغُ جَهْدُهُ ... إِذا نَحْنُ جاوَزْنَا قَناةَ زِيَادِ
فلولا بَنُو مَرْوَانَ كان ابنُ يُوسُفٍ ... كما كانَ عَبْداً من عَبِيدِ إيَادِ
زَمَانَ هو العَبْدُ المُقِرُّ بذِلةِ ... يُرَاوِحُ صِبْيَانَ القُرَى ويُغَادِى
وليس له عقبٌ.
ومما سبق إليه فأخذ عنه قوله:
العَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا ... والحُرُّ يَكْفِيهِ الوَعِيدُ
وقال آخر:
العَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا ... والحُرُّ تَكْفِيهِ الإِشارَهْ
وقال ابن مفرغٍ:
العَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا ... والحُرُّ تَكْفِيهِ المَلاَمهْ
وقال بشار:
الحُرُّ يُلْحَى والعَصَا للعَبْدِ ... ولَيْسَ للمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ

ابن أحمر الباهلي
هو عمرو بن أحمر بن فراص، بن معن بن أعصر، وكان أعور، رماه رجلٌ يقال له مخشي بسهمٍ، فذهبت عينه، فقال:
شَلَّتْ أَنامِلُ مَخْشِىٍّ فلا جَبَرَتْ ... ولا اسْتَعانَ بِضَاحِى كَفِّهِ أَبَدَا
أَهْوَى لها مِشْقَصاً حَشْراً فَشَبْرَقَهاوكُنْتُ أَدْعُو قَذَاها الإثْمِدَ القَرِدَا
وعمر تسعين سنةً، وسقى بطنه فمات، وفي ذلك يقول:
إلَيْكَ إلَهَ الحَق أَرْفَعُ رَغْبَتِى ... عِيَاذاً وخَوْفاً أَنْ تُطِيلَ ضَمَانِيَا
فإِنْ كان بُرْءًا فاجْعَلِ البُرْءَ نِعْمَةًوإِنْ كان فَيْضاً فاقْضِ ما أَنْتَ قاضِيَا
لِقاؤُكَ خيْرٌ من ضَمَانٍ وِفتْنَةٍ ... وقد عِشْتُ أَيَّاماً وعِشْتُ لَيَاليَا
أُرَجِّى شَبَاباً مُطْرَهِماً وصِحَّةً ... وكيف رجاءُ المرءِ ما ليس لاقِيَا
وكيف وقد جَرَّبْتُ تِسْعِينَ حِجَّةً ... وضَمَّ فُؤَادى نَوْطَةٌ هِىَ ماهِيَا
وفي كُلِّ عامٍ يَدّعُوَانِ أَطِبَّةً ... إلىَّ وما يُجْدُونَ إلاّ الهَوَاهِيَا
فإِنْ تَحْسِمَا عِرْقاً من الدَّاءِ تَتْرُكَا ... إلى جَنْبِهِ عِرْقاً من الدّاءِ ساقِيَا
فلا تَحْرِقَا جِلْدِى سَوَاءٌ عَلَيْكما ... أَداوَيْتُما العَصْرَيْنِ أَم لا تُدَاوِيَا
شَرِبْتُ الشُكاعَى والتْدَدْتُ أَلِدَّةً ... وَأَقْبَلْتُ أَفْواهَ العُرُوقِ المَكَاوِيُا
شَرِبْنَا وداوَيْنا وما كان ضَرَّنَا ... إِذَا اللهُ حَمَّ القَدْرَ أَلاَ تُدَاوِيَا
وقد أتى ابن أحمر في شعره بأربعة ألفاظٍ لا تعرف في كلام العرب سمي النار ماموسة، ولا يعرف ذلك قال:
تَطَايَحَ الطَّلُّ عن أَعْطافِها صُعُداً ... كما تَطَايَحَ عن مامُوسَةَ الشَّرَرُ
وسمي حوار الناقة بابوساً، ولا يعرف فقال:
حَنَّتْ قَلُوصِى إلى بابُوسِها جَزَعاً ... فما حَنيِنُكِ أَمْ ما أَنْتِ والذِّكَرُ
وفي بيتٍ آخر يذكر فيه البقرة:
وبَنَّسَ عنها فَرْقَدٌ خَصِرُ
أي تأخر، ولا يعرف التبنيس وقال:
وتَقَنَّعَ الحِرْباءُ أُرْنَتَهُ ... مُتَشَاوِسَا لوَريدِهِ نَقْرُ
قال: الأرنة ما لف على الرأس، ولا يعرف ذلك في غير شعره.
وقالوا: هو أكثر بيت آفاتٍ، قال:
تُمشِّى بأَكْنافِ البَليخِ نِساؤُنا ... أَرامِلَ يَسْتَطْعمْنَ بالكَف والفَمِ
نَقَائِذَ بِرْسامٍ وحُمَّى وحَصْبَةٍ ... وجُوعٍ وطاعُونٍ ونَقْرٍ ومَغْرَمِ
وقال أبو عمرو بن العلاء: كان ابن أحمر في أفصح بقعةٍ من الأرض أهلاً، يذبل والقعاقع، يعني مولده قبل أن ينزل الجزيرة ونواحيها.
وأخذت العلماء عليه قوله في وصف امرأة:
لم تَدْرِ ما نَسْجُ اليَرَنْدَجِ قَبْلَها ... ودِرَاسُ أَعُوصَ دارِسٍ مُتَجَدِّدِ
واليرندج جلودٌ أسودٌ، فظن أنه شيءٌ ينسج، ودراس أعوص، أي لم تدارس الناس عويص الكلام، وقوله دارسٍ متجدد، يريد أنه يخفي أحياناً ويتبين أحياناً.
ابن مفزع الحميرى
هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، حليفٌ لقريش، يقال إنه كان عبداً للضحاك بن عبد عوفٍ الهلالي فأنعم عليه، ويقال سمي أبوه مفرغاً لأنه كان خاطر على شر سقاء لبنٍ، فشربه حتى أتى عليه، ولما ولي سعيد بن عثمان بن عفان خراسان استصحبه، فلم يصحبه، وصحب عباد بن زياد بن أبي سفيان، فلم يحمده، وكان عبادٌ طويل اللحية عريضها، فركب ذات يومٍ وابن مفرغٍ معه في موكبه، فهبت الريح فنفشت لحيته، فقال ابن مفرغٍ:
أَلاَ لَيْتَ اللُّحَى كانَتْ حَشيشاً ... فَنُعْلِفَها دَوَابَّ المُسْلِمِينَا
وقال أيضاًً:
سَبَقَ عَبَّادٌ وصَلَّتْ لِحْيَتُهْ ... وكان خَرَّازاً تَجُورُ فَرْيَتُهْ
فبلغ ذلك عباداً فجفاه وحقد عليه، فقال ابن مفرغٍ بعد انصرافه عنه:
إنَّ تَرْكِى نَدَى سَعِيدِ بْنِ عُثْما ... نَ فَتَى الجُوِدِ ناصِرِى وعَدِيدِى
اتِّباعِى أَخا الرَّضاعَةِ واللُّؤْ ... مِ لَنَقْصٌ وفَوْتُ شَأْوٍ بَعيدِ

ُلْتُ واللَّيْلُ مُطْبِقٌ بعُرَاهُ ... لَيْتَنِى مُتُّ قَبْلَ تَرْكِ سَعِيدِ
فأخذه عبيد الله بن زيادٍ فحبسه وعذبه، وسقاه التربذ في النبيذ، وحمله على بعيرٍ، وقرن به خنزيرةً، فأمشاه بطنه مشياً شديداً، فكان يسيل منه ما يخرج على الخنزير فتصىءٌ، فكلما صاءت قال ابن مفرغٍ:
ضَجَّتْ سُمَيَّةُ لمَّا مَسَّها القَرَنُ ... لا تَجْزَعي إنَّ شَرِّ الشِيمَةِ الجَزَعُ
وسمية: أم زيادٍ، فطيف به في أزقة البصرة وأسواقها، والناس يصيحون خلفه أين جيست لما يسيل منه، وهو يقول:
آبَسْت نَبيذ اسْت ... عُصَارات زَبيبَسْت
سُمَيَّه رُوسَفِيدَسْت
فلما ألح عليه ما يخرج منه قيل لابن زياد: إنه لما به، فأمر به، فأنزل، فاغتسل، فلما خرج من الماء قال:
يَغْسِلُ الماءُ ما فعَلْتَ وقَوْلِى ... راسِخٌ منك في العِظَامِ البَوَالِى
ثم دس إليه غرماءه يقتضونه ويستعدون عليه، ففعلوا ذلك، فأمر ببيع ما وجد له في إعطاء غرمائه، فكان فيما بيع له غلامٌ كان رباه يقال له بردٌ، كان يعدل عنده ولده، وجاريةٌ له يقال لها الأراكة، فقال ابن مفرغٍ:
يا بُرْدُ ما مَسَّنا دَهْرٌ أَضَرَّ بنا ... من قَبْلِ هذا ولا بِعْنَا له وَلَدَا
أَمَّا الأَرَاكُ فكانَتْ من مَحارِمِنا ... عَيْشاً لَذِيذاً وكانَتْ جَنَّةً رَغَداً
ولولا الدَّعِىُّ ولولا ما تَعَرَّضَ لى ... مِنَ الحوادِثِ ما فارَقْتُها أبَدَا
وقال في قصيدةٍ له، وهي أجود شعره:
وشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنى ... من بَعْدِ بُرْدِ كُنْتُ هامَهْ
أَو بُومَةً تَدْعُو الصَّدَى ... بَيْنَ المُشَقَّرِ واليَمَامَهْ
وأول الشعر:
أَصَرَمْتَ حَبْلَكَ من أُمامَهُ ... من بَعْدِ أَيَّامٍ بِرامَهْ
ثم إن عبيد الله بن زيادٍ أمر به فحمل إلى سجستان إلى عباد بن زياد، فحبس بها، فكان مما قال في الحبس قوله:
حَىِّ ذَا الزَّوْرَ وانْهَهُ أَن يَعُودَا ... إِنَّ بالباب حارِسِينَ قُعَودَا
مِن أَساوِيرَ لا يَنُونَ قِيَامَا ... وخَلاخِيلَ تُسْهِرُ المَوْلُودَا
وطَمَاطيمَ من سَبَابِيجَ غُتْمٍ ... يُلْبِسُونى مع الصَّبَاحِ قُيُودَا
لا ذَعَرْتُ السَّوَامَ في غَلَسِ اللَّ ... يْلِ مُغِيراً ولا دُعيتُ يَزيدَا
يَوْمُ أُعْطَى من المَخافَة ضَيْماً ... والمَنَايَا يَرْصُدْنَنِى أَنْ أَجيدَا
وكان الحسين بن علي رضي الله عنه تمثل بهذين البيتين الآخرين حين بلغته بيعة يزيد بن معاوية، فعلم من حضر أنه سيخرج عليه.
وقال ابن مفرغٍ لمعاوية:
أَلا أَبْلِغْ مُعاوِيَةَ بنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغِلَةً عنِ الرَّجُلِ اليَمَانِى
أَتَغْضَبُ أَن يُقالَ أَبُوك عَفٌّ ... وتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أبوك زَانِ
وأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ من زِيادٍ ... كإِلِّ الفيلِ من وَلَدِ الأَتَانِ
وأَشْهَدُ أَنَّها حَمَلَتْ زِيَاداً ... وصَخْرٌ من سُمَيَّةَ غَيْرُ دَانِ
وإنما أخذ:
وأَشهد أن إِلَّكَ من زياد
من حسان بن ثابتٍ، قال حسان:
وأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ من قُرَيْشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ من وَلَدِ النَّعَامِ
وقال أيضاً:
إِنْ زِيَاداً ونافعاً وأَبا ... بَكْرَةَ عِنْدِى من أَعْجَبِ العَجَبِ
إِنْ رِجالا ثَلاَثَةً خُلِقُوا ... من رِحْمِ أُنْثَى مُخالِفِى النَّسَب
ذا قُرَشِىٌّ كما يَقُولُ وذا ... مَوْلَى وهذا ابْنُ عَمِّهِ عَرَبُى
فلما طال حبسه بعث رجلاً أنشد على باب معاوية، واليمن أجمع ما كانت بباب معاوية، قوله:
أَبْلِغْ لَدَيْكَ بنى قَحْطانَ قاطِبَةً ... عَضَّتْ بأَيْرِ أَبيها سادَةُ اليَمَنِ
أَمْسَى دَعِىُّ زِيادٍ فَقْعُ قَرْقَرَةٍ ... يا لَلْعَجَائِبِ يَلْهُو بابْنِ ذي يَزَنِ

فدخل أهل اليمن إلى معاوية فكلموه، فوجه رجلاً على البريد في إطلاقه، فصار إلى سجستان، فبدأ بالحبس فأطلقه، وقرب إليه دابةً من بغال البريد فلما استوى عليها قال:
عَدَسْ ما لِعَبِّادٍ عليكِ إِمارَةٌ ... نَجَوْتِ وهذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
طَلِيقُ الذي نَجِّى منَ الحَبْسِ بَعْدَما ... تَلاَحَمَ في دَرْبٍ عليكِ مَضِيق
ذَرِى وتَنَاسَىْ ما لَقِيتِ فإِنَّهُ ... لِكُلّ أُنَاسٍ خَبْطَةٌ وحَريقُ
قَضَى لَكِ حَمْحَامٌ بِأَرْضِكِ فالْحَقِى ... بأَهْلِكِ لا يُؤْخَذْ عليك طَريقُ

سليك بن سلكة السعدى
هو منسوبٌ إلى أمه سلكة، وكانت سوداء، واسم أبيه عمرو بن يثربي، ويقال عمير، وهو من بني كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميمٍ، وهو أحد أغربة العرب، وهجنائهم وصعاليكم ورجيلائهم، وكان له بأسٌ ونجدةٌ، وكان أدل الناس بالأرض، وأجودهم عدواً على رجليه، وكان لا تعلق به الخيل، وقالت له بنو كنانة حين كبر: إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك؟ فقال: اجمعوا لي أربعين شاباً وابغوني درعاً ثقيلةً، فأخذها فلبسها، وخرج الشباب، حتى إذا كان على رأس ميلٍ أقبل يحضر، فلاث العدو لوثاً، واهتبصوا في جنبتيه فلم يصحبوه إلا قليلا، فجاء يحضر منتبذاً حين لا يرونه، وجاءت الدرع تخفق في عنقه كأنها خرقةٌ.
وكان سليكٌ يقول: اللهم إنك تهيىء ما شئت لمن شئت إذا شئت، اللهم إني لو كنت ضعيفاً لكنت عبداً، ولو كنت امرأةً لكنت أمةً، اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، فأما الهيبة فلا هيبة، فأصابته خصاصةٌ شديدةٌ، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرةً من بعض من يمر عليه، فيذهب بإبله، حتى إذا أمسى في ليلةٍ من ليالي الشتاء قرةٍ مقمرةٍ، اشتمل الصماء ونام، فبينا هو كذلك جثم عليه رجلٌ، فقال: استأسر، فرفع سليكٌ رأسه فقال: إن الليل طويلٌ وإنك مقمرٌ! فذهبت مثلا، وجعل الرجل يلهزه ويقول: يا خبيث استأسر، فلم يعبأ به، فلما آذاه ضمه سليكٌ ضمةً ضرط، منها وهو فرقه! فقال سليكٌ: أضرطاً وأنت الأعلى! فذهبت مثلا، ثم قال له: ما شأنك؟ فقال: أنا رجل فقير، خرجت لعلي أصيب شيئاً، قال: انطلق معي، فخرجا فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما، فأتوا جوف مراد، وهو باليمن، فإذا فيه نعمٌ كثيرٌ، فقال سليكٌ لهما: كونا مني قريباً حتى آتي الرعاء فأعلم لكما علم الحي أقريبٌ هو أم بعيدٌ، فإن كانوا قريباً رجعت إليكما، وإن كانوا بعيداً قلت لكما قولا أحي به إليكما، فأغيرا على ما يليكما، فانطلق حتى أتي الرعاء، فلم يزل بهم يتسقطهم حتى أخبروه خبر الحي، فإذا هو بعيدٌ، فقال لهم السليك: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فرفع عقيرته، يتغنى:
يا صاحَبي أَلاَ لاَ حَىَّ بالواِدى ... إِلاَّ عَبِيدٌ وآمٍ بَيْنَ أَذْوَادِ
أَتَنْظُرَانِ قَلِيلا رَيْثَ غَفْلَتِهمْ ... أَمْ تَعْدُوَانِ فإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِى
فلما سمعا ذلك اطردا الإبل فذهبا بها.
قال أبو عبيدة: بلغني أن السليك رأته طلائع جيشٍ لبكر بن وائل جاؤوا ليغيروا على تميمٍ، ولا يعلم بهم، فقالوا: إن علم السليك بنا أنذر قومه، فبعثوا إليه فارسين على جوادين، فلما هايجاه خرج يمحص كأنه ظبيٌ، فطارداه سحابة يومهما، ثم قالا: إذا كان الليل أعيا ثم سقط أو قصر عن العدو فنأخذه، فلما أصبحا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرةٍ وندرت قوسه فانحطمت، فوجدا قصدةً منها قد ارتزت بالأرض، فقالا: ما له أخزاه الله! ما أشده! وهما بالرجوع، ثم قالا: لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر، فتبعاه، فإذا أثره متفاجاً قد بال في الأرض وخد، فقالا: قاتله الله ما أشد متنه! فانصرفا عنه، وتم إلى قومه فأنذرهم فكذبوه لبعد الغاية فقال:
يُكَذِّبُنى العَمْرَانِ عَمْرُو بن جُنْدِبٍ ... وعَمْرُو بن سَعْدٍ والمُكَذِّبُ أَكْذَبُ
ثَكِلْتُكُما إِن لم أَكُنْ قد رَأَيْتُها ... كَرَادِيسَ يَهْدِيها إلى الحَىِّ كَوْكَبُ
كَرَاديِسَ فيها الحَوْفَزَانُ وحَوْلَهُ ... فَوَارِسُ هَمًّامٍ متَى يَدْعُ يَرْكَبُوا
وجاء الجيش فأغاروا عليهم.
وكان يقال له سليك المقانب، وقد وصفه عمرو بن معدي كرب فقال:

وسَيْرِىَ حتَّى قال في القومِ قائلٌ ... عليكَ أَبا ثَوْرٍ سُلَيْكَ المَقَانِبِ
فَرُعْتُ به كاللَّيْثِ يَلْحَظُ قائماً ... إِذَا رِيعَ منه جانبٌ بَعْدَ جانِبِ
له هامَةٌ ما تأْكُلُ البَيْضُ أُمُّها ... وأَشْبَاحُ عادِىٍّ طَوِيلِ الرَّوَاجِبِ
ومر في بعض غزواته ببيت من خثعم، أهله خلوفٌ، فرأى فيهم امرأة بضةً شابةً، فتسنمها ومضى، فأخبرت القوم، فركب أنس ابن مدرك الخثعمي في إثره، فقتله، وطولب بديته، فقال: والله لا أدبه ابن إفال، وقال:
إني وقَتْلِى سُلَيْكاً يَومَ أَعْقِلُهُ ... كالَّثوْرِ يُضْرَبُ لَمَّا عافَتِ البَقَرُ
غَضِبْتُ للمَرْءِ إِذْ نِيكَتْ حَلِيلَتُهُ ... وإِذْ يُشَدُّ على وَجْعَائِها الثَّفَرُ

ابن فسوة
هو عتيبة ويقال عتبة بن مرداس، من بني تميمٍ. وكان ابن فسوة أسره رجلٌ من قومه، فأتاه عتيبة فاشتراه منه فلقب به! فقال في نفسه:
وحَوَّل مَوْلاَنَا علينَا اسْم أُمِّهِ ... أَلاَ رُبَّ مَوْلَى ناقِصٌ غَيْرُ زائِدِ
وكان له أخٌ شاعرٌ يقال له أديهم بن مرداسٍ وله عقبٌ بالبادية.
وكان عتيبة أتى عبد الله بن عباسٍ فحجب عنه، فقال:
أَتَيْتُ ابنَ عبَّاس أُرَجِّى نَوَالَهُ ... فلم يَرْجُ مَعْرُوفى ولم يَخْشَ مُنْكَرِى
وقال لَبوَّابِيِهِ لا تُدْخِلُنَّهُ ... وسَدَّ خَصَاصَ البابِ من كُلِّ مَنْظَر
وتَسْمَعُ أَصْوَاتَ الخُصُومِ وَرَاءَهُ ... كصَوْتِ الحَمَامِ في القَلِيبِ المُعَوَّرِ
فَلَوْ كُنْتُ من زَهْرَانَ قَضَّيْتَ حاجَتِى ... ولكنَّنى مَوْلَى جَمِيلِ بنِ مَعْمَر
وكان ابن عباس تزوج امرأةً بالبصرة من زهران، يقال لها شميلة، وقوله مولى جميل بن معمر، أراد أنه وليه ومن قومه، وكان جميلٌ مضرياً.
فلَيْتَ قَلُوصِى عُرِّيَتْ أَوْ رَحَلْتُهَا ... إلى حَسَنٍ في دارِه وابنِ جَعْفَر
إِذَا هىَ هَمَّتْ بالخُرُوجِ يَصُدُّها ... عنِ القَصْدِ مِصْرَاعَا مُنِيفٍ مُجَيَّرِ
تُطَالعُ أَهلَ السُّوقِ والبابُ دونَهَا ... بمُسْتَفْلِكِ الذَّفْرَى أَسِيلِ المُذَمَّر
فباتَتْ على خَوْفٍ كأَنَّ بُغَامَها ... أَجِيجُ ابنِ ماءٍ في يَرَاعٍ مُفَجَّرِ
وكانت له خالةٌ تهاجى اللعين المنقري وفيه يقول:
تُذَكِرُنى سِبَالُكَ إِسْكَتَيْهاَ ... وأَنْفُكَ بَظْرَ أُمِّكَ يالعَينُ
وكان عتيبة عضه كلبٌ كلبٌ، فأصابه ما يصيب صاحب الكلب الكلب، فداواه ابن المحل بن قدامة بن الأسود فأباله، مثل الكلاب والنمل فبرأ فقال فيه الشاعر:
ولَوْلاَ دَوَاءُ ابنِ المُحِلِّ وطِبُّهُ ... هَرَرْتَ إِذَا ما الناسُ هَرَّ كَلِيبُهَا
وأَخْرَجَ بَعْدَ اللهِ أَولادَ زِراعٍ ... مُوَلَّعَةٌ أَكْنَافُها وجُنُوبُهَا
وكان الأسود جد المحل أتى النجاشي فعلمه هذا الدواء، فهو في ولده إلى اليوم.
عمرو بن معد يكرب الزبيدي
هو من مذحجٍ، ويكنى أبا ثورٍ، وهو ابن خالة الزبرقان بن بدرٍ التميمي، وأخته ريحانة بنت معدي كرب التي يقول فيها:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الداعِى السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِى وأَصحابِى هُجُوعُ

وكانت تحت الصمة بن الحرث، فولدت له دريد بن الصمة وعبد الله، وكان عمروٌ من فرسان العرب المشهورين بالبأس في الجاهلية، وأدرك الإسلام، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم، ثم ارتد بعد وفاته فيمن ارتد باليمن، ثم هاجر إلى العراق فأسلم، وشهد القادسية، وله بها أثره وبلاؤه، وأوفده سعد بن أبي وقاصٍ بعد فتح القادسية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عمر بن معدٍ، فقال: هو لهم كالأب، أعرابي في نمرته، أسدٌ في تامورته، ويقال: في ناموسته نبطيء في حبوته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفر في السرية، وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة، فقال عمر وقد كان كتب إليه سعد يثني على عمروٍ: لشد ما تقارضتما الثناء! وسأله عمر عن الحرب، فقال: مرة المذاق، إذا قلصت عن ساقٍ، من صبر فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف، وهي كما قال الشاعر:
الحَرْبُ أَوَّلَ ما تَكُونُ فُتَيَّةٌ ... تَسْعَى بزينتَها لكُلَّ جَهُولِ
حتَّى إِذَا اسْتَعَرَتْ وشَبَّ ضِرَامُها ... عادَتْ عَجُوزاً غَيْرَ ذاتِ خَليِل
شَمْطَاءَ جَزَّتْ رَأْسَها وتَنَكَّرَتْ ... مَكْرُوَهةً لِلشَّمِّ والتَّقبيل
وسأله عن السلاح، فقال: الرمح أخوك، وربما خانك، والنبل منايا تخطىء وتصيب، والترس هو المجن، وعليه تدور الدوائر، والدرع مشغلةٌ للفارس متعبةٌ للراجل، وإنها لحصنٌ حصين، وسأله عن السيف، فقال: ثم قارعتك أمك عن الثكل! قال عمر: بل أمك! قال: الحمي أضرعتني.
وشهد مع النعمان بن مقرن المزني فتح نهاوند، فقتل هنالك مع النعمان وطليحة بن خويلدٍ، فقبورهم هناك بموضعٍ يقال له: الإسفيذهان.
وعمروٌ أحد من يصدق عن نفسه في شعره قال:
ولَقَدْ أَجْمَعُ رِجْلَىَّ بها ... حَذَرَ المَوْتِ وإِني لَفَرُورُ
ولَقَدْ أَعْطِفُهَا كارِهَةً ... حِينَ للنَّفْسِ منَ الموتِ هَرِيرُ
كُلَّ ما ذلِكَ مِنى خُلُقٌ ... وبكُلٍّ أَنا في الرَّوْع جَدِيرُ
ومن جيد شعره
أَمِنْ رَيْحَانَةَ......... ... ...........البيت
وفيها يقول:
أَشاب الرّأْسَ أَيَّامٌ طِوَالٌ ... وهَمٌّ ما تَضَمَّنُهُ الضُّلُوعُ
وسَوْقُ كَتِيبَةٍ دَلَفَتْ لأُخْرَى ... كَأَنَّ زُهَاءَهَا رأِْسٌ صَلِيعُ
إِذا لم تَسْتَطِعْ شَيْئاً فدَعْهُ ... وجاوِزْهُ إلى ما تَسْتَطِيعُ
وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكُلُّ أَمْرٍ ... سَمَا لك أَو سَمَوْتَ له وَلُوعُ
وكان له أخٌ يقال له عبد الله، وأختٌ يقال لها كبشة، فقتل عبد الله أخوه، وأراد عمروٌ أخذ الدية، فقالت كبشة شعراً تعير فيه عمراً:
فإِنْ أَنْتُمُ لم تَثْأَرُوا بأَخِيكُمُ ... فَمَشُّوا بآذَانِ النَّعَامِ المُصَلَّمِ
ودَعْ عَنْكَ عمراً إِنَّ عمراً مُسَالِمٌ ... وهَلْ بَطْنُ عمروِ غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَم
وقال عمروٌ:
أعاذِلَ شِكَّتى بَدَنى ورُمْحِى ... وكُلُّ مُقَلصِّ سَلِسِ القِيَادِ
أعاذِلَ إِنَّمَا أَفْنَى شَبَابِى ... رُكُوبِى في الصَّريخ إلى المُنادِى

عمرو بن قميئة
هو من قيس بن ثعلبة، من بني سعد بن مالكٍ، رهط طرفة ابن العبد، وهو قديمٌ جاهليٌّ، كان مع حجرٍ أبي امرىء القيس، فلما خرج امرؤ القيس إلى بلاد الروم صحبه، وإياه عني امرؤ القيس بقوله:
بَكَى صاحِبى لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُوَنهُ ... وأَيْقَنَ أَنَّا لا حِقَانِ بِقَيْصَرا
ومن جيد شعره قصيدته التي أولها:
أَرَى جارَتِى خَفَّتْ وخَفَّ نَصِيحُهَا ... وَحُبَّ بها لَوْلاَ الهَوَى وطُمُوحُهَا
فبِينى على نَجْمٍ سَنِيحٍ نُحُوسُهُ ... وأَشْأَمُ طَيْرِ الزاجِرِين سَنِيحُهَا
فإِنْ تَشْغَبى فالشَّغْبُ مِنْكِ سَجِيَّةٌ ... إِذَا شِيمَتِى لم يُؤْتِ منها سَجِيحُهَا
أُقَارِضُ أَقْوَاماً فأُوِفى بقَرْضِهِمْ ... وعَفُّ إِذَا أَبْدَى النُّفُوسَ شَحِيحُهَا
وهو ممن أنصف في شعره وصدق قال:

فما أَتْلَفَتْ أَيْدِيهِمُ من نُفُوسِنا ... وإِنْ كَرْمَتْ فإِنَّنا لا نَنُوحُهَا
أُبْنَا وآبُوا كُلُّنا بمَضِيضَةٍ ... مُهَمَّلَةٌ أَجْراحُنا وجُرُوحُهَا
وهو القائل:
رَمَتْنِى بَنَاتُ الدَّهْرِ من حَيْثُ لا أَرَى ... فكَيْفَ بمَنْ يُرْمَى وليس بِرَامِ
وأَهْلَكَنى تَأْمِيلُ ما لَسْتُ مُدْرِكاً ... وتَأْمِيلُ عامٍ بَعْدَ ذاكَ وعامِ
إِذا ما رآنى الناسُ قالوا أَلم تَكُنْ ... جَلِيداً حَدِيثَ السِّنِّ غَيْرَ كَهَامِ
فأَفْنَى وما أُفْنِى منَ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... فلم يُغْنِ ما أَفْنَيْتُ سِلْكَ نِظَامِ
فلَوْ أَنَّنِى أُُرْمَى بنَبْلٍ رَأَيْتُها ... ولكِنَّنِى أُرْمَى بغَيْرِ سِهَامِ
على الرَّاحَتَينِ مَرَّةً وعلى العَصَا ... أَنُوءُ ثَلاَثاً بَعْدَهُنَّ قِيامِى
كأني وقد جوَزْتَ تِسْعِينَ حِجَّةً ... خَلَعْتُ بها عَنَّى عذارَ لِجامِى
وفي عبد القيس عمرو بن قميئة الضبعي، وهو شاعر أيضاً.

زهير بن جناب
هو من كلب وهو جاهلي قديم، ولما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج زهيرٌ فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه إلى ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته، فلما صار في أرض بكر بن وائل لقيه رجل منهم، فطعنه، طعنةً أشوته، فنجا وخرج هارباً، فقال الذي طعنه:
طَعْنَةً مّا طعَنْتُ في غَبَسِ اللَّيْ ... لِ زُهَيْراً وقد تَوَافَى الخُصُومُ
خانَنِى الرُّمْحُ إِذْ طَعَنْتُ زُهَيْراً ... وهو رُمْحٌ مُضَلَّلٌ مَشْؤُومُ
وهو من المعمرين، وهو القائل في عمره:
المَوْتُ خَيْرٌ للفتى ... فَلْيَهْلِكَنْ وبه بَقِيَّهْ
مِنْ أَن يُرَى الشَّيْخَ الكَبي ... رَ يُقادُ يُهْدَى بالعَشِيَّهْ
مِن كُلَّ ما نالَ الفَتَى ... قد نِلْتُهُ إِلاّ التَّحِيَّهْ
وهو أحد النفر الثلاثة الذين شربوا الخمر صرفاً حتى ماتوا، وهم: زهير بن جناب، وأبو براءٍ عامرٌ ملاعب الأسنة عم لبيد، وعمرو ابن كلثوم التغلبي، فأما زهيرٌ فإنه قال ذات يوم: إن الحي ظاعنٌ فقال عبد الله بن عليم بن جنابٍ ابن أخيه: إن الحي مقيم، فقال زهير: من هذا المخالف لي؟ قالوا: ابن أخيك، قال: فما أحدٌ ينهاه!؟ قالوا: لا قال، أراني قد خولفت فدعا بالخمر فلم يزل يشربها صرفاً حتى قتلته، وأما أبو براءٍ، ملاعب الأسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان وجه عدةً من أصحابه إلى بني عامر بن صعصعة في خفارته، فسار إليهم عامر بن الطفيل ابن أخيه، فلقيهم ببئر معونة فقتلهم، فدعا أبو براءٍ بني عامرٍ إلى الوثوب بعامرٍ، فلم يجيبوه، فغضب فدعا بالخمر فشربها صرفاً حتى قتلته، وأما عمرو بن كلثومٍ فإنه أغار على بني حنيفة باليمامة، فأسره يزيد بن عمرو الحنفي فشده وثاقاً، ثم قال: ألست القائل:
متى تُعْقَدْ قَرِينَتُنا بحَبْلٍ ... نَجُذّ الحَبْلَ أَو نَقِصِ القَرِينا
أما إني سأقرنك بناقتي هذه، ثم أطردكما جميعاً فأنظر أيكما يجذ فنادى: يال ربيعة؟ أمثلةً؟ فاجتمعت إليه بنو لجيمٍ، فنهوه عن ذلك، فانتهى به إلى حجرٍ، فأنزله قصراً وسقاه، فلم يزل يشرب حتى مات.
ومن جيد شعر زهير بن جناب:
ارْفَعْ ضَعِيفَكَ لا يَحُرْ بِك ضُعْفه ... يَوْماً فتُدْرِكَهُ عَوَاقِبُ ما جَنَى
يَجْزِيكَ أَو يُثْنِى عليكَ وإِنَّ مَنْ ... أَثْنَى عليكَ بما فَعَلْتَ كَمَنْ جَزَى
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وهي تتمثل به، فكان يقول لها: كيف الشعر الذي كنت تتمثلين به؟ فإذا أنشدته إياه قال: يا عائشة إنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
ومن جيد شعره قوله:
إِنَّ بَنِى مالِكٍ تَلْقَى غَزِيَّهُمُ ... في الزادِ فَوْضَى وعند الموتِ إِخْوَانَا
الأضبط بن قريع السعدى

هو من بني عوف بن كعب بن سعد، رهط الزبرقان بن بدرٍ، ورهط ابن أنف الناقة، وكان قومه أساؤوا مجاورته، فانتقل عنهم إلى آخرين، فأساؤوا مجاورته فانتقل منهم إلى آخرين، فأساؤوا مجاورته، فرجع إلى قومه وقال: بكل وادٍ بنو سعدٍ، ويقال أنه قال: أينما أوجه ألق سعداً، وهو قديمٌ.
وكان أغار على بني الحرث بن كعبٍ، فقتل منهم وأسر وجدع وخصي، ثم بني أطماً، وبنت الملوك حول ذلك الأطم مدينة صنعاء، فهي اليوم قصبتها.
وهو القائل:
يا قَوْمِ مَنْ عاذِرِى مِنَ الخُدْعَهْ ... والمُسْىُ والصُّبْحُ لا فَلاَحَ مَعَهْ
فَصِلْ حِبالَ البَعِيدِ إِنْ وَصَلَ ال ... حَبْلَ وأَقْصِ القَرِيبَ إِنْ قَطَعَهْ
واقْنَعْ من العَيْشِ ما أَتاكَ به ... مَنْ قَرَّ عَينْاً بعَيِشهِ نَفَعَهْ
قد يَجْمَعُ المالَ غيْرُ آكِلِهِ ... وَيأَكُلُ المالَ غَيْرُ مَنْ جَمَعَهْ
لا تُهينَ الفَقِيرَ عَلَّك أَن ... تَخْشَعَ يوماً والدَّهْرُ قد رَفَعَهْ

المستوغر
هو المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد رهط الأضبط وسمي المستوغر لقوله في فرس:
يَنشُّ الماءُ في الرِّبَلاَتِ منها ... نَشِيشَ الرَّضْفِ في اللَّبَنِ الوَغِيرِ
وهو قديمٌ من المعمرين وعاش ثلاثة مائة سنة وعشرين سنة، وقال:
ولَقَدْ سَئِمْتُ منَ الحَيَاةِ وطُولِها ... وعَمِرتُ من عَدَدِ السِّنِينَ مِئِينَا
مائةً حَدَتْها بَعْدَها مائتَانِ لى ... وازْدَدْتُ من بَعْد الشُّهُورِ سِنينَا
هَلْ ما بَقَى إِلاَّ كما قد فاتَنِى ... يَوْمٌ يَمُرُّ ولَيْلَةٌ تَحْدُونا
حدثني سهل قال: حدثني الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، وابن العجاج: أن المستوغر مر مرةً بعكاظٍ يقود ابن ابنه خرفاً، فقال له رجل: يا عبد الله أحسن إليه فطال ما أحسن إليك! قال: أو تدري من هو؟ قال: نعم هو، أبوك أو جدك، قال: هو والله ابن ابني! قال الرجل لم أر كاليوم في الكذب ولا مستوغر بن ربيعة! قال: فأنا المستوغر بن ربيعة، قال: وقال أبو عمرو بن العلاء: عاش المستوغر ثلاث مائة سنة وعشرين سنة.
ابنا خذاق
هما سويدٌ ويزيد ابنا خذاقٍ، من عبد القيس، قال أبو عمرو ابن العلاء: أول شعرٍ قيل في ذم الدنيا قول يزيد بن خذاق.
هل للفتى من بَنَاتِ الدَّهْرش من واقِى ... أَم هل له من حِمَام المَوْتِ مِن رَاقِى
قد رَجَلُونى وما بالشَّعْر من شَعَثٍ ... وأَلْبَسُوِنى ثِيَاباً غَيْرَ أَخْلاَقِ
ورَفَعُونى وقالوا أَيُّما رَجُلٍ ... وأَدْرَجُونى كأَنِّى طَىُّ مِخْرَاقِ
وأَرْسَلُوا فِتْيَةً من خَيْرِهم نَسَباً ... لِيُسبُدوا في ضَريحِ القَبْر أَطْباقِى
وقَسَّمُوا المالَ وارْفَضَّتْ عَوَائِدُهُمْ ... وقال قائِلُهم ماتَ ابنُ خَذَّاقِ
هَوِّنْ عليكَ ولاَ تَوْلَعْ بإِشْفاقِ ... فإِنَّما مالُنَا للوارِثِ الباقِى
وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند، ويزيد القائل:
نُعْمَانُ إِنَّكَ غادِرٌ خُدَعٌ ... يُخْفى ضَمِيرُكَ غيرَ ما تُبْدِى
فإِذا بَدَا لَكَ نَحْتُ أَثْلَتا ... فعَلَيْكَها إِنْ كُنْتَ ذَا جِدِّ
وهَزَزْتَ سَيْفَك كَىْ تُحاربنَا ... فانْظُرْ بِسَيْفِك مَنْ به تُرْدِى
وسويدٌ القائل:
أَبَى القَلْبُ أَنْ يَأْتِى السَّدِيرَ وأَهْلَهُ ... وإِنْ قيلَ عَيْشٌ بالسَّدِير غَزِيرُ
به البَقُّ والحُمَّى وأُسْدُ خَفِيةٍ ... وعَمْرُو بن هِنْدٍ يَعْتَدِى ويَجُورُ
وهو القائل أيضاً:
جَزَى اللهُ قابُوسَ بنَ هِنْدٍ بفِعْلِهِ ... بِنَا وأَخاه غَدْرَةً وأَثَامَا
بما فَجَرَا يَوْمَ العُطَيْفِ وفَرَّقَا ... قَبَائِلَ أَحْلاَفاً وحَياًّ حَرَامَا
لَعَلَّ لَبُونَ المُلْكِ تَمْنَعُ دَرَّها ... ويَبْعَثُ صَرْفُ الدَّهْرِ قَوْماً نِيَامَا

وإلاَّ تُغادِينى المَنِيَّةُ أُغْشِكُمْ ... على عُدَوَاءِ الدَّهْرِ جَيْشاً لُهَامَا

أبو الطمحان القينى
هو حنظلة بن الشرقي، وكان فاسقاً، وقيل له: ما أدني ذنوبك؟ قال: ليلة الدير، قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانية؟ فأكلت عندها طفشيلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها ومضيت! وكانت له ناقةٌ يقال لها المرقال وفيها يقول:
أَلاَ حَنَّتْ المِرْقالُ وائْتَبَّ رَبُّها ... نَذكَّرُ أَرْمَاماً وأَذْكُرُ مَعْشَرِى
ولو عَلِمَتْ صَرْفَ البُيُوعِ لَسَرَّها ... بمَكَّةَ أَن تَبْتاعَ حَمْضاً بإِذْخِرِ
وكان نازلا بمكة على الزبير بن عبد المطلب، وكان ينزل عليه الخلعاء، وإنما أراد: أنها لو عرفت لسرها أن تنتقل من بلاد الإذخر إلى بلاد الحمض، وهي البادية.
وفيها يقول:
وإِني لأَرْجو مِلْحَها في بُطُونِكُمْ ... وما بَسَطَتْ من جلْدِ أَشْعَث أَغْبَرِ
والملح: اللبن، وكانوا أخذوا إبله بعد أن كانوا شربوا من لبنها في ضيافته، فقال: أرجو أن يعطفكم ذلك فتردوها.
وهو القائل:
تَكادُ الغَمَامُ الغُرُّ تَرْعَدُ أَنْ رَأى ... وُجُوهَ بَنى لأْمٍ ويَنْهَلُّ بارِقُهْ
حميد بن ثور الهلالي
هو من بني عامر بن صعصعة، إسلاميٌّ مجيدٌ، ومما يستجاد له قوله:
أَرَى بَصَرى قد رابَنِى بَعْدَ صِحَّةٍ ... وحَسْبُكَ داءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلَمَا
ومن حسن التشبيه قوله في فرخ القطاة:
كأَنَّ على أَشْدَاقِهِ نَوْرَ حَنْوَةٍ ... إِذَا هو مَدَّ الجِيدَ منه ليَطْعَمَا
ومن خبيث الهجاء قوله في رجلين بعثهما إلى عشيقته:
وقُولاَ إِذَا جاوَزْتُمَا أَرْضَ عامِرِ ... وجاوَزْتُمَا الحَيَّيْن نَهْداً وَخَثْعَمَا
نَزِيعَانِ من جَرْمِ بن رَبَّانَ إِنَّهُمْأَبَوْا أَن يَمِيرُوا في الهَزَاهِزِ محْجَمَا
أمرهما أن ينتسبا إلى جرمٍ، لأن العرب تأمنها لذلها ولا تخاف منها غارةً.
ويستجاد له قوله في وصف ذئبٍ وامرأة:
تَرَى رَبَّةُ البَهْمِ الفِرَارَ عَشِيَّةً ... إِذَا ما عَدَا في بَهْمِهَا وهْوَ ضائعُ
فقامَتْ تُعَشِّى ساعةً ما تُطِيقُها ... منَ الدَّهْرِ نَامَتْهَا الكِلاَبُ الظَّوالعُ
رَأَتْهُ فشَكَّتْ وهْوَ أَكْحَلُ مائِلٌ ... إلى الأَرِض مَثْنِىٌّ إليه الأَكارِعُ
طَوِى البَطْنِ إلاْ من مَصِيرٍ يَبُلُّهُ ... دَمْ الجَوْفِ أَو سُؤُرٌ منَ الحَوْضِ ناقِعُ
تَرَى طَرَفَيْهِ يَعْسِلاَنِ كِلاَهْمَا ... كما اهْتَزَّ عُودُ السَّاسَمِ المُتَتَابعُ
إِذَا خاف جَوْراً من عَدٍّو رَمَتْ بِهِ ... قُصَايَتُه والجانِبُ المُتَوَاسِعُ
وإِنْ باتَ وَحْشاً لَيْلَةً لم يَضِقْ بها ... ذِراعَاً ولم يُصْبِحْ لها وهُوَ خاشِعُ
إِذا احْتَلَّ حِضْنَىْ بَلْدَةٍ طُرَّ منهما ... لأُخْرَى خَفِىُّ الشَّخْصِ للرِّيح تابِعُ
وإِنْ حَذِرَتْ أَرضٌ عليه فإِنَّهُ ... بِغِرَةِ أُخْرَى طَيَّبُ النَّفْسِ قانعُ
يَنَامُ بإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِى ... المنايَا بأُخْرَى فَهْوَ يَقْظَانُ هاجع
إِذَا قامَ أَلْقَى بَوْعَهُ قدَرَ طُولِهِ ... ومَرَّدَ منه صُلْبَهُ وهْوَ بائِعُ
وفَكَّكَ لَحْيَيْهِ فلمَّا تَعَادَيَا ... صَأَى ثم أُقْعَى والبِلادَ بَلاَقِع
إِذَا مَا عَدَا يَوْماً رَأَيْتَ ظِلاَلَةًمِنَ الطَّيْرِ يَنْظُرْنَ الَّذِى هو صانِعُ
ويستحسن له قوله في وصف الوطب:
فما زال يُسقِى المَحْضَ حتَّى كأَنَّهُ ... أَجِيرُ أُناسٍ أَغْضَبُوهُ مُبَاعِدُ
وعَزَّاهُ حتَّى أَسْنَدَاهُ كأَنَّهُ ... على القَرْو عُلْفوفٌ من التُّرْكِ رَاقِدُ
فلمَّا أَدَى واسْتَرْبَعَتْهُ تَرَنَّمَتْ ... أَلاَ كُلُّ شىءٍ ما خَلاَ اللهَ بائِدُ

قوله أدى أي خثر، واستربعته حملته تروزه وترنمت أي غنت للسرور به:
فذاقَتْهُ من تَحْتِ الِلِّفَافِ فسَرَّها ... جَرَاجِرُ منه وهْوَ مَلْآنُ سانِدُ
إِذَا مال من نحوِ العَرَاقِى أَمَرَّهُ ... إلى نَحْرها منه عِنَانٌ مُنَاكِدُ
يَميِلُ على وَحْشِِّهِ فُيُمِيلُهُ ... لإِنْسِيِّهِ منها عِرَاكٌ مُنَاجِدُ
فلما تَجَّلى اللَّيْلُ عنها وأَبْصَرَتْ ... وفي سُدَفٍ اللَّيل الشُّخُوصُ الأَباعِدُ
يُقَالُ لها جِدِّى هَوَيْتِ وبادِرى ... غِنَاءَ الحَمَام أَن تَمِيعَ المزايِدُ
فَعَضَّتْ تَرَاقِيهِ بصَفْرَاءَ جَعْدَةٍ ... فعَنْهَا تُصادِيهِ وعَنْهَا تُرَاوِدُ
تَأَوَّبَهَا في لَيْلِ نَحْسٍ وقِرَّةٍ ... خَليلِى أَبو الخَشْخَاشِ واللَّيْلُ بائدُ
فقال أُحَيِّيكمْ فقالتْ تُرِيدُنا ... على الزُّبْدِ شَعْبٌ بَيْنَنَا مُتَبَاعِدُ
إذا قال مَهْلا أَسْجِحِى حَمْلَقَتْ له ... بزَرْقَاءَ لم تَدْخُلْ عليها المَرَاوِدُ
ومما أخذ عليه قوله:
لَمَّا تَخَايَلَتِ الحُمُولُ حَسِبْتُهَا ... دَوْماً بأَيْلَةَ ناعِماً مَكْمُومَا
الدوم: شجر المقل، وهو لا يكم، إنما يكم النخل، فأما قول النابغة الجعدي في هذا المعنى:
كأَنَّ تَوَالِيَها بالضحَى ... نَوَاعمُ جَعْلٍ منَ الأَثْأَبِ
فقد أخذ عليه، وقالوا: الجعل صغار النخل، فكيف جعله من الأثأب؟ ولا أراه إلا صحيحاً على التشبيه، كأنه أراد نواعم أثأب كالجعل وقد تسمى العرب الشيء باسم الشيء إذا كان له مشبهاً، ولعل الأثأب أن تكون تسمى أفناؤه جعلا، كما تسمى أفناء النخل وقصاره جعلا.
ومما سبق إليه قوله في الإبل:
إِذَا الَقْومُ قالوا: ورْدُهُنَّ ضُحَى غَدٍ ... تَوَاهَقْنَ حتَّى وِرْدُهُنَّ طُرُوقُ
وقال آخر:
إِذا القومُ قالوا: ورْدُهُنَّ ضُحَى غَدٍ ... تَوَاهَقْنَ حتَّى وِرْدُهُنَّ عِشاءُ
إِذَا استُخْبرَتْ رُكْبَانُهَا لم يُخَبِّرُوا ... عليهنَّ إلاَّ أَنْ يكُونَ نِدَاءُ

المثقب العبدي
هو من نكرة. واسمه محصن بن ثعلبة، وإنما سمي المثقب لقوله:
ردَدْنَ تَحيَّةً وكَنَنَّ أُخُرى ... وثَقَّبْنَ الوَصاوِص للعُيونِ
وكان أبو عمرو بن العلاء يستجيد هذا القصيدة له، ويقول: لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس ان يتعلموه.
وفيها يقول:
أَفَاطُمِ قَبْلَ بَيْنكِ مَتِّعينِى ... ومَنْعُكِ ما سَأَلْتكِ أَنْ تَبينِى
ولا تَعدِى مَوَاعِدَ كاذِبَاتٍ ... تَمُرُّ بها رِياحُ الصُّيف دُونِى
فإني لَوْ تُعَاندُنِى شِمَالِى ... عِنادَكِ ما وَصَلْتُ بها يَمينِى
إِذاً لَقَطَعْتُها ولَقُلْتُ بِينى ... كذلكَ أَجْتَوِى مَنْ يَجْتَوِينى
فإِمَّا أَنْ تكونَ أخي بحَقٍّ ... فأَعْرِفَ منْكَ غَثِّى من سَمينى
وإِلاَّ فاطَّرِحْنِى واتًّخذْنِى ... عدُوّاً أَتَّقيكَ وتَتَّقينِى
فما أَدْرِى إِذَا يَمَمْتُ أَرضاً ... أُريدُ الخَيْرَ أَيهُمَا يَلينِى
أَأَلْخَيْرُ الذي أَنا أَبْتَغيه ... أَمِ الشّرُّ الذي هو يَبْتَغينِى
وهو قديم جاهلي، كان في زمن عمرو بن هند، وإياه عني بقوله:
إلى عَمْروٍ ومنْ عَمْرو أَتَتْنِى ... أَخِى الفَعَلاتِ والحلْمِ الرَّزِين
وله يقول:
غَلَبْتَ مُلوكَ الناس بالحَزْمِ والنُّهَى ... وأَنْتَ الفَتَى في سُورَة المَجْد تَرْتَقِى
وأَنْجِبْ به من آل نَصْرٍ سَمَيْدَعٍ ... أَغَرَّ كَلَونِ الهِنْدُوَانِّى رَوْنَق
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله في الناقة:
كأَنَّ مَوَاقِعَ الثَّفِناتِ منها ... مُعَرَّسُ باكِرَاتِ الوِردْ جُون
يريد القطا، وقال عمر بن أبي ربيعة:
على قَلُوصَيْن من رِكابِهِمُ ... وعَنْتَريسَيْنِ فيهما شَجَعُ

كأَنَّما غادَرَتْ كَلاَكلُها ... والثَّفنَاتُ الخفافُ إِذْ وَقَعُوا
مَوْقَع عشْرِينَ من قطاً زُمَرٍ ... وَقَعَتْ خَمْساً خَمْساً مَعاً شيَعُ
وقال ابن مقبل:
كأَنَّ مَوْقِعَ وِصْلَيْها إِذَا بَرَكَتْ ... وقد تَطَابَقَ منها الزَّوْرُ بالثَّفِنِ
مَبيتُ خَمْس منَ الكُدْرِىِّ في جَدَد ... يَفْحَصْنَ عَنْهنَّ باللَّبَّاتِ والجُرُنِ
وقال ذو الرمة:
كأَنَّ مُخَوَّاها على ثَفِنَاتِهَا ... مُعَرَّسُ خَمْسِ من قطاً مُتَجَاوِرِ
وَقَعْنَ اثْنَتَيْنِ واثْنَتَيْنِ وفَرْدَةً ... حَريداً هىَ الوُسْطَى بصَحْرَاءِ جائر
وقال الطرماح:
كأَنَّ مُخَوَّاها على ثَفِنَاتها ... مُعَرَّسُ خَمْسٍ وَقَّعَتْ للجنَاجِنِ
وَقَعْنَ اثْنَتَيْنِ واثْنَتَيْنِ وفَرْدَةً ... يُبَادرْنَ تَغْلِيساً سمَالَ المَدَاهن

الممزق العبدي
هو من نكرة، واسمه شأس بن نهارٍ، وسمي الممزق لقوله:
فإِنْ كُنْتُ مأَكُولاً فكُنْ خَيْرَ آكلٍ ... وإلاَّ فأدْرِكْني ولمَّا أُمَزَّقِ
وهو جاهلي قديم، وإنما يقول هذا لبعض ملوك الحيرة، قال:
وناجِيَةٍ عَدَّيْتُ من عنْد ماجِدٍ ... إلى واجِدٍ من غَيْرِ سُخْطٍ مُفَرِّقِ
تُبَلِّغُنى مِنْ لا يُدَنِّسُ عِرْضَهُ ... بغَدْرٍ ولا يَزْكُو لَدَيْه تَمَلُّقِى
تُروحُ وتَغْدُو ما يُحَلُّ وَضينُها ... إِلَيْكَ ابْنَ ماءٍ المُزْنِ وابْنَ مُحَرِّقِ
أَحَقّاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّ ابنَ بَرْتَنَاعلى غَيْرِ إِجْرَامٍ بِرِيقِى مُشْرِقِى
فإنْ كُنْتُ مأَكُولا فكُنْ خَيْرَ آكل ... وإِلاَّ فأَدْرِكُنى ولَمَّا أُمزَّقِ
فأَنْتَ عَميدُ الناسِ مَهْمَا تَقُل نَقُلْ ... ومَهْما تَضَعْ من باطلٍ لا يُحَقَّقِ
أَكَلَّفْتنى أَدْواءَ قَوْمٍ تَرَكْتُهُمْ ... فإِلاَّ تَدَارَكْنى منَ البَحْرِ أَغْرَقِ
فإنْ يُعْمِنُوا أَُشَئِمْ خِلافاً عَلَيْهُمِوإِنْ يُتْهِمُوا مُسْتَحْقِبى الحَرْب أُعْرِقِ
ابن دارة
هو سالم بن دارة، واسم أبيه مسافعٌ، وأمه دارة من بني أسدٍ، وسميت دارة لجمالها، شبهت بدارة القمر، وهو من ولد عبد الله بن غطفان ابن سعد، وكان هجاءً وهو الذي هجا ثابت بن رافع الفزاري فقتله.
وهو القائل:
لا تأَمَنَنَّ فَزَارياً خَلَوْتَ به ... على قَلُوِصكَ واكْتُبْها بأَسْيَارِ
وكان المتولي لقتله زميل بن عبد منافٍ، وقال:
أَنَا زُمَيْلٌ قاتِلٌ ابْنِ دَارَهْ ... وراحِضُ المَخْزَاةِ عن فَزارهْ
وفي ابن دارة يقول الشاعر، وهو الكميت ببن معروف:
فلا تُكْثرَا فيه الضَّجَاجَ فإِنَّه ... مَحَا السَّيْفُ ما قال ابنُ دارَةَ أَجْمَعَا
وكان له أخٌ يقال له عبد الرحمن بن دارة، وهو القائل في بعض الأسديين:
بجُوعُ الفَقْعَسُّى ولا يُصَلِّى ... ويَسْلَحُ فَوْقَ قارِعَةِ الطَّريقِ
ثم لم يلبث أن مات، فقال الأسدي:
قَتَلَ ابنَ دارَةَ بالجَزِيرَةِ سَبُّنَا ... وزَعَمْتَ أَنَّ سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ
وأتى سالم بن دارة عدي بن حاتمٍ فقال له: قد مدحتك، فقال له أمسك عليك حتى أنبئك مالي فتمدحني على حسبه، لي ألف ضائنةٍ وألفا درهمٍ، وثلاثة أعبدٍ، وفرسي هذا حبيسٌ في سبيل الله فقل، فقال:
تَحِنُّ قَلُوصِى في مَعَدٍّ وإنما ... تُلاَفِى الرَّبِيعَ في ديَارِ بنى ثُعَلْ
وأَبْقَى اللَّيالى من عَدِىً بن حاتِمِ ... حُسَاماً كلَوْنِ الملْحِ سُلَّ منَ الخِلَلْ
أَبُوك جَوَادٌ ما يُشَقُّ غُبارُهُ ... وأَنت جَوَادٌ ما تَعَذَّرُ بالعِلَلْ
فإِنْ تَتَّقُوا شَراًّ فمِثْلَكُمُ اتَّقَىوإِنْ تَفْعَلُوا خَيْراً فمِثْلُكُمُ فَعَلْ
فقال له: أمسك عليك، لا يبلغ مالي أكثر من هذا! وشاطره ماله.
المنخل اليشكرى

هو المنخل بن عبيد بن عامر، من بني يشكر، وهو قديمٌ جاهلي، وكان يشبب بهندٍ أخت عمرو بن هند ولها يقول:
يا هنْدُ هَلْ من نائلٍ ... يا هنْدُ للعانِى الأَسِيرِ
وكان المنخل يتهم بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر، وكان للنعمان منها ولدان، كان الناس يقولون إنهما من المنخل، وهو القائل في النابغة حين وصف المتجردة فيه قوله: ما يعرف هذا إلا من جرب، وكان أيضاً يتهم بامرأةٍ لعمرو بن هند، وكان جميلا.
وهو القائل:
ولَقَدْ دَخَلْتُ على الفَتَا ... ةِ الخدْرَ في اليَوْمِ المَطيرِ
الكاعبِ الحَسْنَاءِ تَرْ ... فُلُ في الدمَقْس وفي الحَرِيرِ
فدَفَعْتُها فَتَدَافَعَتْ ... مَشْىَ القَطاةِ إلى الغَدِيرِ
وعَطَفْتُها فَتَعَطَّفَتْ ... كَتَعَطُّفِ الظَّبْىِ الغَرِيرِ
فَتَرَتْ وقالَتْ: يا مُنَ ... خَّلُ ما بِجِسْمك من فُتُورِ
ما شَفَّ جِسْمِى غَيْرُ حُ ... بِّكِ فاهْدئى عَنِّى وسِيرِى
ولَقَدْ شَرِبْتُ منَ المُدَا ... مَةِ بالصَّغيرِ وبِالكَبِيرِ
شَرِبْتُ بالخَيْلِ الإِنَا ... ثِ وبالمُطَهَّمَة الُّذكُورِ
إِذا سَكِرْتُ فإِنَّنِى ... رَبُّ الخَوَرْنَقِ والسَّديرِ
إِذا صَحَوْتُ فإِنَّنى ... رَبُّ الشُّوَيْهَة والبَعير
ا هِنْدُ هَلْ من نائلٍ ... يا هِنْدُ للعانِى الأَسِيرِ
أُحبُّها وتُحِبُّنِى ... وَيُحبُّ ناقَتها بَعِيرِى
وقتله عمرو بن هند، وقال قبيل قتله:
طُلَّ وَسْطَ العِبادِ قَتْلِى بلا جُرْ ... مٍ وقَومى يُنَتِّجُونَ السِّخَالاَ
ا رَعَيْتُمْ بَطْناً خَصيباً ولا زُرْ ... تُمْ عَدُوّاً ولا رَزَأتُمْ قِبَالاَ
في أبياتٍ.

بن حبناء
هو المغيرة بن حبناء، من ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وكان به برصٌ، وهو القائل:
إِنَّى امْرُؤٌ حَنْظَلِىُّ حينَ تَنْسُبُنِى ... لا مِلْعَتِيكِ ولا أَخْوَالِىَ العَوَقُ
ا تَحْسِبَنَّ بَيَاضاً فِىَّ مَنْقَصَةً ... إِنَّ اللَّهَامِيمَ في أَقْرابِها بَلَقُ
وكان له أخ يقال له صخرٌ، ويكنى أبا بشرٍ يهاجيه، وله يقول المغيرة:
أَبوكَ أَبى وأَنْتَ أَخِى ولكنْ ... تَفَاضَلَتِ الطَّبَائِعُ والظُّروفُ
أُمُكَ حينَ تُنْسَبُ أُمُّ صِدْقٍ ... ولكنَّ ابنْهَا طَبِعٌ سَخِيفُ
وصخرٌ هو القائل لأخيه:
رَأَيْتُكَ لَمَّا نلْتَ مالاً وعَضَّنَا ... زَمَانٌ نَرَى في حَدِّ أَنْيابِه شَعْبَا
َجَنَّى علىَّ الذَّنْبَ إِنَّكَ مُذْنِبٌ ... فأَمْسِكْ ولا تَجْعَلْ غَنَاكَ لَنَا ذَنْبَا
فأجابه المغيرة فقال:
لَحَى الله أَنْآنا عن الضَّيْفِ بالقِرَى ... وأَقْصَرَنا عَنْ عِرْضِ والِدِهِ ذَنَّا
أَجْدَرَنَا أَنْ يَدْخُلَ البيْتِ بِاسْتِهِإِذَا القُفَّ دَلَّى من مَخَارِمِهِ رَكبَا
وستشهد المغيرة بخراسان يوم نسف.
عبد بني الحسحاس
اسمه سحيم، وكان حبشياً معلطاً قبيحاً وهو القائل في نفسه:
أَتَيْتُ نساءَ الحارثِيينَ غُدْوَةً ... بوَجْهٍ بَرَاهُ اللهُ غَيْرِ جَميلِ
فَشَبَّهْنَنِى كَلْباً وَلَسْتُ بفَوْقَهِ ... ولا دُوَنِهِ أَنْ كانْ غَيْرَ قَليلِ
وكان شاعراً محسناً، وربما أنشد فيقول: أحسنك الله! يريد: أحسنت والله. وكان عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي اشتراه، وكتب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه: إني قد اشتريت لك غلاماً حبشياً شاعراً، فكتب إليه عثمان: لا حاجة بنا إليه فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم.
ومما أخذ عليه في شعره قوله، وذكر التقاءه وعشيقته:
فما زال بُرْدِى طَيَّباً من ثيابِها ... إلى الحَوْل حتَّى أَنْهَجَ البُرْدُ بَالِيَا

وقال آخرون: هذا على الوهم لفرط العشق، وهو نحو قول الأعرابي حين قيل له: ما بلغ من حبك لها؟ فقال: إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها ريح المسك! ويقول:
تَجَمَّعْنَ شَتَّى من ثَلاَثٍ وأَرْبَعٍ ... وواحِدَةٍ حتَّى كَمَلْنَ ثَمَانيَا
وأَقْبَلْنَ من أَقْصَى الخيام يُعُدْنَنى ... أَلاَ إِنَّما بَعْضُ العَوَائِدِ دائيَا
ويقال سمعه عمر بن الخطاب ينشد:
ولَقَدْ تَحَدَّرَ من كَرِيمَةِ بَعْضِهمْ ... عَرَقٌ على جَنْبِ الفِراشِ وطِيبُ
فقال له: إنك مقتولٌ فسقوه الخمر ثم عرضوا عليه نسوةً، فلما مرت به التي كان يتهم بها أهوى إليها فقتلوه.

نصيب
كان نصيبٌ عبداً أسود لرجلٍ من أهل وادي القرى، فكاتب على نفسه، ثم أتى عبد العزيز بن مروان فقال فيه مدحةً، فوصله واشترى ولاءه.
وقال أبو اليقظان: هو عبد بني كعب بن ضمرة بن كنانة، وقال آخرون: كان من بلي من قضاعة، وكانت أمه أمةً سوداء، فوقع بها سيدها فأولدها نصيباً، فوثب عليه عمه بعد موت أبيه فاستعبده، ثم باعه من عبد العزيز بن مروان، وكان يكنى أبا الحجناء، وفيه يقول كثيرٌ:
رَأَيْتُ أَبا الحجْناءِ في الناس جائِزاً ... ولَوْنُ أَبى الحجْناءِ لوْنُ البَهَائِمِ
تَرَاه على ما لاَحَه من سَوَادِهِ ... وإِنْ كان مَظْلوماً له وَجْهُ ظَالِمِ
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، وسليمان ولي عهدٍ، ونصيبٌ عنده، فقال سليمان: أنشدنا يا أبا فراسٍ، وأراد أن ينشده بعض ما امتدحه به، فأنشده:
ورَكْبٍ كأَنَّ الرِّيحَ تَطْلُبُ منْهُمُ ... لها سَلَباً من جَذْبِها بالعَصَائبِ
سرَوْا يَرْكَبُونَ الرِّيحَ وهي تَلُفُّهُمْ ... إلى شُعَبِ الأَكْوارِ ذاتِ الحَقائِبِ
إِذَا استَوْضَحْوا ناراً يَقُولُونَ: لَيْتَها ... وقَدْ خَصِرَتْ أَيْديهِمُ نارُ غالبِ
فغضب سليمان، فأقبل على نصيبٍ فقال أنشد مولاك يا نصيب فأنشده:
أَقُولُ لرَكْبٍ صادرِينَ لَقيتُهُمْ ... قَفَا ذَاتِ أَوْشَالٍ ومَوْلاَكَ قارِبُ
قِفُوا خَبِّرُونى عن سُليْمانَ إِنَّنى ... لمَعْرُوفه من أَهْل وَدَّانَ طالبُ
فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالَّذى أَنْتَ أَهْلُهُ ... ولَوْ سَكُتوا أَثْنَتْ عليك الحَقَائبُ
فقال له سليمان: أحسنت، وأمر له بصلة، ولم يصل الفزردق، فخرج الفرزدق وهو يقول:
وخَيْرُ الشِّعْرِ أَكْرمُهُ رِجالاً ... وشَرُّ الشِّعْر ما قال العَبيدُ
وفيه يقول:
إِذَا اعْتَاصَ القَرِيضُ عليكَ فامْدَحْ ... أميرَ المُؤْمنينَ تَجِدْ مَقالاَ
أَتَتْكَ بنا قِلاَصٌ يَعْمَلاتٌ ... وضَعْنَ مَدائحاً وحَمَلْنَ مالاَ
ودخل الأقيشر على عبد الملك بن مروان وعنده قومٌ، فتذاكروا الشعر، وذكروا قول نصيبٍ:
أَهيمُ بدَعْدٍ ما حِييتُ فإِنْ أَمُتْ ... فيا وَيْحَ دَعْدٍ مَنْ يَهيمُ بها بَعْدِى
فقال الأقيشر: والله لقد أساء قائل هذا الشعر، قال عبد الملك: فكيف كنت تقول لو كنت قائله؟ قال: كنت أقول:
تُحبُّكُمُ نَفْسى حَيَاتى فإِنْ أَمُتْ ... أُوَكِّلْ بدَعْدٍ مَنْ يَهيمُ بها بَعْدِى
قال عبد الملك: والله لأنت أسوأ قولا منه حين توكل بها! فقال الأقيشر: فكيف كنت تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أقول:
تُحبُّكُمُ نَفْسى حَيَاتى فإِنْ أَمُتْ ... فلا صَلُحَتْ هْندُ لذي خُلَّةٍ بَعْدى
فقال القوم جميعاً: أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر القوم.
ومما يختار له قوله في مولاه:
لعَبْد العَزِيزِ على قَوْمِه ... وغَيْرِهِمِ مِنَنٌ غامرَهْ
فبابُكَ أَلْيَنُ أَبْوَابهمْ ... ودارُكَ مأْهُولةٌ عامِرَهْ
وكَلْبُكَ آنَسُ بالمعْتَفِينَ ... منَ الأُم بابْنَتها الزائرَهْ
وكَفُّكَ حينَ تَرَى السائلي ... ن أَنْدَى منَ اللَّيْلَة الماطِرَه

فمنْكَ العَطاءُ ومنَّا الثَّناءُ ... بكُلِّ محَبَّرَةٍ سائرَهْ

العديل بن الفرخ
هو العديل بن الفرخ العجلي، ولقبه العباب، وكان العباب كلباً له، وهو من رهط أبي النجم العجلي، وكان هجا الحجاج فطلبه، فهرب منه إلى قيصر ملك الروم، فقال:
ودُونَ يَدِ الحَجَّاجِ منْ أَنْ تَنَالَنى ... بِسَاطٌ لأَيْدى اليَعْمَلاَتِ عَريضُ
مَهَامِهُ أَشْباهٌ كأَنَّ سَرَابَها ... مُلاَءُ بأَيْدى الغاسلاتِ رحِيضُ
وكتب الحجاج إلى قيصر: والله لتبعثن به أو لأغزينك خيلا يكون أولها عندك وآخرها عندي، فبعث به إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال: أنت القائل:
ودونَ يد الحجاج من أَن تَنالنى
فكيف رأيت أمكن الله منك؟ قال: أنا القائل:
فلَوْ كُنْتُ في سَلْمَى أَجاً وشعابهِا ... لَكانَ لحَجَّاجٍ علىَّ دَليلُ
خَليلُ أَميرِ المُؤمْنينَ وسَيْفهُ ... لكُلَّ إِمامٍ مُصْطَفًى وخَليلُ
بَنَى قُبَّةَ الإسلامِ حتَّى كأَنَّما ... هَدَى الناسَ من بَعْدِ الضَّلاَلِ رَسُولُ
فخلي سبله.
وهو القائل:
ما أَوْقدَ الناسُ من نارٍ لمَكْرُمَةٍ ... إلاَّ اصْطَلَيْنا وكُنَّا مُوقِدى النَّارِ
وما يَعُدُّونَ من يَوْمٍ سَمعْتُ به ... للناسِ أَفْضَلَ من يَوْمٍ بذى قَار
جئْنا بأَسْلابِهمْ والخَيْلُ عابِسَةٌ ... يَوْمَ اسْتَلَبْنا لكْسَرى كُلَّ إِسْوَارِ
وكان ربما رجز.
وهو القائل:
يا دارَ سَلْمَى أَقْفَرَتْ من ذي قَارْ ... وهَلْ بإقْفارِ الدِّيَارِ مِنْ عَارْ
وذكر الإبل فقال:
قَوَاربُ الماءِ سَوَامِى الأبصارْ ... وهُنَّ يَنْهَضنَ بدَكْدَاكٍ هَارْ
أَوْرَقَ من تُرْب العراقِ خَوَّارْ ... وقَدْ كُسينَ عَرَقاً مثْلَ القَارْ
يَخْرُجُ من تَحْت خلاَل الأَوْبَارْ
في أبياتٍ كثيرةٍ.
الراعي
هو حصين بن معاوية، من بني نميرٍ، وكان يقال لأبيه في الجاهلية معاوية الرئيس، وكان سيداً، وإنما قيل له الراعي لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره، وولده وأهل بيته بالبادية سادةٌ أشرافٌ، ويقال هو عبيد بن حصينٍ، ويكنى أبا جندلٍ، وكان أعور، وهجاه جريرٌ لأنه اتهمه بالميل إلى الفرزدق، فلقيه فعاتبه واستكفه، فاعتذر إليه، وجاء ابنه جندلٌ من خلفه، فضرب بالسوط مؤخر بغلته، وقال له إنك لواقفٌ على كلب بني كليب.
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله:
كأَن العُيُون المُرْسِلاتِ عَشِيَّةً ... شَآبِيبَ دَمْعٍ لم تَجِدْ مُتَرَدَّدَا
مَزَايِدُ خَرْقاءِ اليَدَيْنِ مُسِيفَةً ... أَخَبَّ بهِنَّ المُخْلِفانِ وأَحفَدَا
أخذه الطرماح فقال:
كأَن العُيُون المُرْسِلاَت عَشِيَّةً ... شَآبِيبَ دَمْعِ العَبْرَة المُتَحَاتِن
مَزَايِدُ خَرْقاءِ اليَدَيْنِ مُسِيفَةً ... يُخِبُّ بها مُسْتَخْلِفٌ غَيْرُ آيِنِ
وقال الراعي يصف الإبل:
نَجَائبُ لا يُلقْحْنَ إِلاَّ يَعَارةً ... عِراضاً ولا يُشْريْنَ إلاَّ غَوَالِيَا
أخذه الطرماح فقال:
أَضْمَرتْهُ عِشْرِينَ يَوْماً ونِيلَتْ ... يَوْمَ نِيلتْ يَعَارَةً في عِرَاضِ
يعاره: ذاهبة الجسم، ويقال: يعار الناقة الفحل فيضربها معارضةً.
واستحسن له قوله في الاعتذار من ترك الزيارة:
إني وإيَّاكِ والشَّكْوَى الَّتِى قَصَرَتْ ... خَطْوِى وَنأْيَكِ والوَجْدَ الَّذِى أَجِدُ
كالماءِ والظَّالِعِ الصَّدْيَانِ يَرْقُبُهُ ... هو الشفاءُ له والرِّىُّ لو يَردُ
ومما أخذ عليه قوله في المرأة:
تَكْسُو المَفَارِقَ والَّلبَّاتِ ذَا أَرَجٍ ... من قُصْبِ مُعْتَلِفِ الكَافُوِرِ دَرَّاجِ
الأرج: الطيب الرائحة، دراج: يذهب ويجيء أراد المسك، فجعله من قصب ظبي المسك، والقصب: المعي، وجعله يعتلف الكافور فيتولد عنه المسك! واستحسن له قوله في النساء:
نُحَدِّثُهُنَّ المُضْمَرَاتِ وفَوْقَنَا ... ظِلاَلُ الخُدُورِ والمَطُّى جَوَانِحُ

ينُاجينَنَا بالطَّرْفِ دونَ حَدِيثِنا ... ويَقْضِينَ حاجاتٍ وهُنَّ نَوَازِحُ
وقال:
طافَ الخَيَالُ بأَصْحَابِى فقلْتُ لهم ... أَأُمُّ شّذْرَةَ زارَتْنَا أَمِ الغُولُ
لا مَرْحَباً بابْنَة الأَقْيَانِ إِذْ طَرَقَتْ ... كأَنَّ مِحْجَرَها بالقَار مَكْحُولُ
سُودٌ مَعَاصِمُهَا جُعْدٌ مَعَاقصُها ... قَدْ مَسَّها من عَقيدِ القَارِ تَفْصيلُ
وقال:
وما بَيْضَةٌ باتَ الظَّليمُ يحُفُّهَا ... بوَعَسْاءَ أَعْلَى تُربْها قَدْ تَلَبَّدَا
فلمَّا عَلَتْهُ الشَّمْسُ في يَوْمِ طَلْقَةٍ ... وأَشرَقَ مُكَّاءُ الضُّحَى فتَغَرَّدَا
أَرَادَ القيامَ فازْبَأَرَّ عِفَاؤُهُ ... وحَرَّكَ أَعْلَى جِيدِهِ فتَأَوَّدَا
وهَزَّ جَناحَيْه فساقَطَ نَفْضُهُ ... فَرَاشَ النَّدَى من مَتْنِه فَتَبَدَّدَا
فغادَرَ في الأُدْحِىِّ صَفْرَاءَ تَرْكَةً ... هِجَاناً إِذَا ما الشَّرْقُ فيها تَوَقَّدَا
بأَلْيَنَ مَسٍّ من سُعَادَ لِلَامِسٍ ... وأَحْسَنَ منها حينَ تَبْدُو مُجَرَّدَا

أفنون
واسمه صريم بن معشرٍ، هو من بني تغلب وسمي أفنون ببيتٍ قاله. وقال له كاهن في الجاهلية: إنك تموت بثينةٍ يقال لها إلاهة، وإنه خرج مع ركبٍ فضلوا الطريق في ليلهم، وأصبحوا بمكان فسألوا عنه، فقالوا: هذه إلاهة، فنزلوا ولم ينزل الأفنون، وخلي ناقته ترعى، فعلقت مشفرها أفعى، فأمالت الناقة رأسها نحو ساقه، فاحتكت بها، فنهشته الأفى، فرمى بنفسه! وقال لرفيقٍ له يقالله معاوية:
لَسْتُ على شيءٍ فرُوحاً مُعاوِياً ... ولا المُشْفقاتُ إِذْ تَبِعْنَ الحَوَازِيَا
لَعمْرُكَ ما يُدْرِى امْرُءُ كَيْفَ يَتَّقِى ... إِذَا هو لم يَجْعَلْ له اللهُ وَاقِيَا
فطَأْ مُعْرِضاً إِنَّ الحُتُوفَ كَثيرَةٌ ... وإنَّك لا تُبْقِى بمالكَ باقيَا
كَفى حَزَناً أنْ يَرْحَلَ ارَّكْبُ غادِياً ... وأُتْرَكَ في أَعْلَى إِلاَهَةَ ثاوِيَا
ومات من ساعته، فقبره هناك.
وهو القائل:
لَعَمْرُكَ ما عَمْرُو بنُ هنْدٍ إِذا دَعَا ... لتَخْدُمَ أُمِّى أُمَّه بمُوَفَّقِ
المخبل
المخبل: المجنون، وبه سمي المخبل الشاعر، قاله أبو عمرو، اسمه ربيعة بن مالكٍ، وهو من بني شماس بن لأي بن أنف الناقة، وهاجر ابنه إلى البصرة، وولده كثيرٌ بالأحساء وهم شعراء.
وكان المخبل هجا الزبرقان بن بدرٍ وذكر أخته خليدة ثم مر بها بعد حينٍ وقد أصابه كسرٌ، وهو لا يعرفها فآوته وجبرت كسره فلما عرفها قال:
لَقَدْ ضَلَّ حِلْمِى في خُلَيْدَةَ ضَلَّةً ... سأُعْتِبُ قَوْمِى بَعْدَها وأَتُوبُ
وأَشْهَدُ والمُسْتَغْفَرُ اللهُ إِنَّنى ... كَذَبْتُ عليها والهجاءُ كَذُوبُ
وهو القائل:
فإنْ يَكُ غُصْنِى أَصْبَحَ اليَوْمَ ذاوِياً ... وغُصْنُك من ماءِ الشِّبَاب رَطيبُ
فإني حَنَى ظَهْرِى حَوَانٍ تَركْتَهُ ... عَرِيشاً فمَشْيِى في الرجال دَبِيبُ
وما للِعظامِ الراجِفاتِ منَ البِلَى ... دواءٌ وما للرُّكْبَتَيْنِ طَبيبُ
إِذَا قال أَصْحَابِى رَبِيعَ أَلاَ تَرَى ... أَرَى الشَّخْصَ كالشَّخْصَيْنِ وهو قَرِيبُ
فلا يُعْجِبنَك المَرْءُ أَنْ كان ذا غِنًى ... ستَتْرُكُهُ الأَيَّامُ وهْوَ حَريبُ
وكائِنْ تَرَى في الناس من ذي بشاشَةٍ ... ومَنْ شَأْنُه الإِقْتارُ وهْوَ نَجِيبُ
سويد بن أَبى كاهل
هو سويد بن غطيفٍ، من بني يشكر، وكان الحجاج تمثل يوم رستقباذ على المنبر بأبياتٍ من قصيدته، وهي:
رُبَّ مَنْ أَنَضَجْتُ غَيْظاً صدْرَهُ ... قد تَمَنَّى لِىَ مَوْتاً لم يُطعْ
ويَرانِى كالشَّجَا في حَلْقِه ... عَسِراً مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ

مُزْبِدٌ يَخِطرُ ما لم يَرَنى ... فإِذَا أَسْمَعْتُهُ صَوتِى انْقَمَعْ
قد كَفَانى اللهُ ما في نَفْسِه ... ومتَى ما يَكْفِ شيئاً لم يُضَعْ
لم يَضِرْنى غَيْرَ أَنْ يَحْسُدَنِى ... فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَ ما يَزْقُو الضُّوعْ
ويُحيِّينى إِذَا لاقَيْتُهُ ... وإِذَا يَخْلُو له لحْمِى رَتَعْ
هَلْ سُويْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خادِرٍ ... ثَئِدَتْ أَرضٌ عليه فانْتَجَعْ
كَيْفَ يَرْجُونَ سقَاطِى بَعْدَما ... جَلَّلَ الرَّأسَ بَيَاضٌ وصَلَعْ
وفيها يقول:
وأَبِيتُ اللَّيْلَ ما أَرْقُدُهُ ... وبعَيْنَّى إِذَا نَجْمٌ طَلَعْ
وإِذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى ... عَطَفَ الأَوَّلُ منه فرَجَعْ
يَسْحَبُ اللَّيْلُ نُجوماً ظُلَّعاً ... فَتَوَاليها بَطِيئاتُ التَّبَعْ
ويُزَجِّيها على إبْطائها ... مُغْربُ اللَّوْنِ إِذَا اللَّيْلُ انْقَشَعْ
وفيها يقول:
ودَعَتْنى برُقَاها إِنَّها ... تُنْزِلُ الأَعْصَمَ من رَأسِ اليَفَعْ
تُسْمعُ الحُدَّاثَ قَوْلاً حَسَناً ... لَوْ أَرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَطَعْ

أبو محجن
هو من ثقيف، وكان مولعاً بالشراب، مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص حبسه فيه، فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين، وهو عند أم ولدٍ لسعدٍ قال:
كفَى حَزَناً أَنْ تُطْعَنَ الخَيْلُ بالقَنَا ... وأُتْرَكَ مَشْدُداً علىَّ وَثَاقيَا
إِذَا قُمْتُ عَنَّانِى الحَديدُ وغُلِّقَتْ ... مَغَالِيُ من دُونى تُصِمُّ المُنَادِيَا
وقد كُنْتُ ذَا أَهْلٍ كَثير وإخْوَةٍ ... فَقَدْ تَرَكُونى واحداً لاَّ أَخَا ليَا
هَلْمَّ سِلاَحى لا أَبَا لَكَ إِننى ... أَرَى الحَرْبَ لا تَزْدادُ إلاَّ تَمَاديَا
فقالت له أم ولد سعدٍ: أتجعل لي إن أنا أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق؟ قال: نعم، فأطلقته، وركب فرساً لسعد بلقاء، وحمل على المشركين، فجعل سعد يقول: لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي، وانكشف المشركون وجاء أبو محجن فأعادته في الوثاق، وأتت سعداً فأخبرته، فأرسل إلى أبي محجنٍ فأطلقه، وقال: والله لا حبستك فيها أبداً، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبداً.
ودخل ابن أبي محجن على معاوية، فقال له معاوية: أبوك الذي يقول:
إِذَا مُتِ فادْفِنى إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّى عظِامِى بَعْد مَوتى عُرُوقُها
ولا تَدْفِنَنّى بالفَلاَةِ فإِنَّنى ... أَخافُ إِذَا ما مِتُّ أَن لا أَذُوقُها
فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره، قال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تَسْأَلِ الناسَ ما مالى وكَثْرَتُهُ ... وسائل القَوْمَ ما حَزْمِى وما خُلُقِى
القَوْمُ أَعْلَمُ أَنى من سَرَاتِهِمِ ... إِذَا تَطِيشُ يَدْ الرِّعديدَة الفَرِقِ
قَدْ أَرْكَبُ الهَوْلَ مَسدُولاً عَسَاكُرُه ... وأَكْتُمُ السَّر فيه ضَرْبَهُ العُنُقِ
وهو القائل:
إنْ يَكْنٍ وَلَّى الأَميرُ فَقَدْ ... طابَ منْهُ النَّجْلُ والأَثَرُ
فيكُمث مُسْتَيْقِظٌ فَهِمٌ ... قُلْقُلاَنٌ حَيَّةٌ ذَكَرُ
أَحْمَدُ اللهَ إِلَيكَ فَما ... وُصْلَةٌ إلا ستَنْبَتِرُ
عمرو بن شأس
هو أبو عرارٍ، وفيه يقول عمروٌ لامرأته:
أَرادتْ عِرَاراً بالهَوَانِ ومَنْ يُرِدْ ... عرَاراً بُنَّى بالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
فإِنْ كُنْتِ منى أَو تُرِيدينَ صُحْبَتى ... فكُوني له كالسْنِ رُبَّتْ لَهُ الأَدَمْ
وإِلاَّ فَبِينى مثْلَ ما بانَ راكبٌ ... تَيَمَّمَ خمْساً لَيْسَ في سَيْرِه أَمَمْ

وإِنَّ عرَاراً إِنْ يَكُنْ ذا شَكيمَةٍ ... تُقَاسِينَها منه فما أَمْلكُ الشِّيَمْ
وإِنَّ عِرَاراً إِنْ يَكُنْ غيرَ واضحٍ ... فإِنى أُحِبُّ الجَوْنَ ذا المَنْكِب العَمَمْ
ووفد على عبد الملك بن مروان وفد أهل الكوفة، فلما دخلوا عليه وكلمهم رأى فيهم رجلا آدم طويلاً، فكلمه فأعجبه بيانه، فلما تولى بمثل عبد الملك بقول عمرو بن شأس:
وإِنَّ عِراراً إِنْ يَكُنْ غَيْرَ واضحٍ........ ... ......البيت
فالتفت الآدم إلى عبد الملك فضحك، فقال عبد الملك: علي به، فلما جيء به قال: ما أضحكك؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين عرارٌ! فأقعده معه، وقدمه وسامره حتى خرج.
ومما سبق إليه عمرو بن شأس فأخذ منه قوله:
وَأَسْيافُنَا آثَارُهُنَّ كأَنَّها ... مَشَافرُ قَرْحَى في مَبَاركها هُدْلُ
أخذه الكميت فقال:
تُشَبِّهُ في الهَامِ آثارَها ... مَشافِرَ قَرْحَى أَكَلْنَ البَرِيرَا
البرير: نبتٌ تأكله الإبل، وهو ثمر الأراك، وقال أبو النجم يصف الجراحة:
تَحْكى الفَصِيلَ الهادِلَ المَقْرُوحَا
الهادل: الذي قد أرخى شفتيه.

ابن الطثرية
هو يزيد بن الطثرية، والطثرية أمه وهي من طثر بن عنز بن وائلٍ، وقتلته بنو حنيفة يوم الفلج، فقالت أخته ترثيه:
أَرَى الأَثْلَ في جَنْبِ العَقيقِ مُجاوِراً ... مُقِيماً وقد غالَتْ يَزِيدَ غَوَائلُهْ
فَتًى قُدَّ قَدِّ السِّيْفِ لا مُتَقاذِفٌ ... ولا رَهِلٌ لَبَّاتُهُ وأَبَاجِلُه
إِذَا نَزَل الأَضيَافُ كان عَذَوَّراً ... على الحَىِّ حتَّى تَسْتَقِلَّ مَرَاجلُهْ
وهو القائل:
وأَبْيَضَ مثْلِ السَّيْفِ خادِمِ رُفْقَةٍ ... أَشَمَّ تَرَى سرْبَالَهُ قد تَقَدَّدَا
كَريمٍ على غِرّاته لو تَسُبُّهُ ... لَفَدَّاك رِسْلاً لا ترَاهُ مُرَبَّدَا
يُعَجِّلُ للقَوْمِ الشواءَ يَجُرُّه ... بأَقْصَى عَصَاهُ مُنْصَجاً أَو مُرَمَّدَا
حلُوفٌ لَقَدْ أَنْضَجْتُ وهُوَ مُلَهْوَجٌ ... بنصْفَيْنِ لوْ حَرَّكْتَهُ لَتَقَصَّدَا
يُجِيبُ بلَبَّيْه إِذَا ما دَعَوْتَهُ ... ويَحْسبُ ما يُدْعَى له الدَّهْرَ أَرْشَدَا
وقوله أيضاً:
هَبِيِنى امْرَءًا إِمّا بَرِيئاً ظَلَمْتِه ... وإِمَّا مُسيئاً تابَ منه وأَعْتَبَا
وكُنْتُ كَذي داءٍ تَبَغَّى لدائِه ... طَبِيباً فلمّا لم يَجدْه تَطَبَّبَا
وهو القائل:
بِنَفْسِىَ مَنْ لَوْ مَرَّ بَرْدُ بَنانِه ... على كَبِدِى كانَتْ شِفاءً أَناملُهْ
ومَنْ هابَنى في كُلِّ أَمْرٍ وهِبْتُهُ ... فلا هُوَ يُعْطينى ولا أَنا سائلُهْ
أبو الغول
هو من بني نهشلٍ واسمه علباء بن جوشن، وهو من بني قطن بن نهشل وكان شاعراً مجيداً، وهو القائل:
وسَوْأَةٍ يُكْثُرِ الشَّيْطانُ إِنْ ذُكرَتْ ... منها التَعَجُّبَ جاءَتْ منْ سُليمانَا
لا تَعْجَبَنَّ لخَيْر زلَّ عن يَدِه ... فالكَوْكَبُ النَّحْسُ يَسْقِى الأَرضَ أَحْيَانَا
وهو القائل:
ولا يَجْزُون من خَيْرٍ بِشَرٍّ ... ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ
هُمُ أَحْمَوْا حِمَى الوَقَبْى بضَرْبٍ ... يُؤَلِّفُ بَيْنَ أَشْتَاتِ المَنُونِ
فَنَكَّبَ عَنْهُمُ دَرْءَ الأَعادِى ... وداوَوْا بالجُنْونِ منَ الجُنُونِ
زياد الأعجم
هو زياد بن سلمى، ويقال زياد بن جابر بن عمرو بن عامرٍ، من عبد القيس، وكان ينزل إصطخر، وكانت فيه لكنةٌ، فلذلك قيل له الأعجم وله عقبٌ.
وكان يهاجي قتادة بن مغربٍ اليشكري، ويقال مغرب، وفيه يقول:
يَشْكُرُ لا تْستَطِيعُ الوَفاءَ ... وتَعْجِزُ يَشكُرُ أَنْ تَغْدِرَا
وقتادة هو القائل:
بِتُّ بِحُشٍّ في شَرِّ مَنْزِلَةٍ ... لا أَنا في لَذَّةِ ولا فَرَسِى

هذا على الخَسْفِ لا قَضِيمَ له ... وأَنا ذَا لا يَسُوغُ لي نَفَسِى
لَلَيْلةُ البَيْنِ إِذْ هَمَمْتُ بها ... أَلَذُّ عِنْدِى من لَيْلَةِ العُرُسِ
وهم الفرزدق بهجاء عبد القيس، فبلغ ذلك زياداً الأعجم، فبعث إليه: لا تعجل حتى أهدي إليك هديةً، فانتظر الفرزدق الهدية، فبعث إليه:
ما تَرَك الهاجُونَ لىِ إِنْ هَجَوْتُهُ ... مَصَحّاً أَرَاه في أَدِيمِ الفَرَزْدَقِ
ولا تَرَكُوا عَظْماً يُرَى تَحْتَ لَحْمِهِ ... لِكاسِرِهِ أَبْقَوْهُ للمُتَعَرَّقِ
سَأَكْسِرُ ما أَبْقَوْهُ لِى من عِظامِهِ ... وأَنْكُتُ مُخَّ الساقِ منه وأَنْتَقى
وإِنَّا وما نُهْدِى لنا إِنْ هَجَوْتَنالَكالبَحْرِ مَهْمَا يُلْقَ في البَحْرِ يَغْرَقِ
فلما بلغه الشعر قال: ليس لي إلى هجاء هولاء من سبيلٍ ما عاش هذا العبد! وهو القائل يرثي المغيرة بن المهلب:
إِنَّ السَّماحَةَ والمُرُوءَةَ ضُمِّنَا ... قَبْراً بمَرْوَ على الطريقِ الواضِحِ
فإِذا مَرَرْتَ بقَبْرهِ فاعْقِرْ به ... كُومَ الهجان وكُلَّ طِرْفٍ سابِحِ
وانضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِهِ بدِمائها ... فلقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وذَبائِحِ
وقال له قبيصة بن المهلب حين أنشده هذا: أعقرت يا أبا أمامة؟ قال: إني كنت على مقرفٍ.
وتمثل الحجاج عند موت ابنه يوسف ببيتين من هذا الشعر:
اَلآنَ لَمَّا كُنْتَ أَكْمَلَ مَن مَشَى ... وافْتَرَّ نابُكَ عن شَبَاةِ القارِح
وتَكَامَلَتْ فِيكَ المُرُوءَةُ كُلُّها ... وأَعَنْتَ ذلِكَ بالفَعالِ الصالِحِ
وهو القائل في كعب الأشقري من الأزد:
إِذا عَذَّبَ اللهُ الرَّجالَ بِشعْرِهم ... أَمِنْتُ لكَعْبٍ أَن يُعَذَّبَ بالشِّعْر
وهو القائل للأزد:
أَتَتْكَ الأَزْدُ تَعُثُرُ في لِحَاها ... تَسَاقَطُ من مَنَاخِرِها الجُوَافُ
ولما قال لبني حبناء من تميمٍ يهجوهم:
عَجبْتُ لأَبْلَقِ الخُصْيَيْن عَبْدٍ ... كأَنَّ عِجَانَهُ الشِّعْرَى العَبُورُ
قيل له: يا أبا أمامة لقد رفعتهم بأعظم ما يقدر عليه؟ فقال: والله لا يحول الحول حتى أرفعهم بأعظم منه، فقال:
لا يَدْلَحُ الدَّهرَ مِنْهُمْ خارىٌْ أَبَداً ... إِلاَّ حَسِبْتَ على بابِ اسْتِه نَمِرَا
وقال ليزيد بن المهلب:
هَلْ لَكَ في حاجتى حاجةٌ ... أَم أَنْتَ لها تارِكٌ طارِحُ
أَمِتْها لكَ الخَيْرُ أَمْ أَحْيها ... كما يفْعَلُ الرَّجلُ الصِالحُ
إِذَا قُلْتُ قد أَقْبَلَتْ أَدْبَرَتْ ... كمَنْ لَيْسَ غادٍ ولا رائِحُ
وكان ينبغي أن يقول غادياً ولا رائحاً، وهو كثير اللحن في شعره، ولهذا قيل له الأعجم، ولفساد لسانه بفارس.
وكذلك قوله:
أَنْتَ الفَتَى كُلُّ الفَتَى ... لَوْ كُنْتَ تَفْعَلُ ما تَقُولُ
لا خَيْرَ في كَذِبِ الجَوَا ... دِ وحَبَّذا صِدْقُ البَخِيلِ
يا ابْنَ المُهَلَّب حاجَتى ... عَجِّلْ فقَدْ حَضَرَ الرَّحِيلُ
وكذلك قوله:
تُكَلَّفُنى سَوِيقَ الكَرْمِ جَرْمٌ ... وما جَرْمٌ وما ذاكَ السَّويقُ
فما شَرِبُوهُ إِذْ كانَتْ حَلاَلاً ... ولا غالْوا به في يَوْمِ سُوِقِ
فأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ... ثَلاَثاً يا ابْنَ جَرْمٍ أَنْ تَذُفُوا
ومن خبث هجائه قوله للأشاقر:
قُبَيِّلَةٌ خَيْرُها شَرٌّها ... وأَصْدَقُها الكاذِبُ الآثِمُ
وضَيْفُهُمُ وَسْطَ أَبْياتِهِمْ ... وإِن لم يَكُنْ صائِماً صائِمُ

جميل بن معمر العذري
هو جميل بن عبد الله بن معمرٍ، ويكنى أبا عمرو، وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته بثينة، وهما جميعاً من عذرة، وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك، ولها يقول جميل:
يا أُمَّ عَبْدَ المَلِكِ اصْرِمِينِى ... فبَيِّنِى صَرْمَكِ أَو صِلِينِى
وقد يقال إنه جميل بن معمرٍ بن عبد الله.

والجمال في عذرة والعشق كثيرٌ، قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طيرٍ تنماث كما ينماث الملح في الماء؟ أما تجلدون؟! قال: إنا لننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها! وقيل لآخر: ممن أنت؟ فقال: من قومٍ إذا أحبوا ماتوا، فقالت جاريةٌ سمعته: عذري ورب الكعبة.
وعشق جميلٌ بثنية وهو غلامٌ صغير فلما كبر خطبها فرد عنها، فقال الشعر فيها، وكان يأتيها سراً، ومنزلها وادي القرى، فجمع له قومها جمعاً ليأخذوه إذا أتاها، فحذرته بثنية، فاستخفى وقال: أأ
ولو أَنَّ أَلْفاً دُونَ بَثْنَةَ كُلُّهُمْ ... غَيَارَى وكُلُّ حارِبٌ مُزْمعُ قَتْلِى
لَحاولْتُها إِمَّا نَهاراً مُجاهِراً ... وإِمَّا سُرَى لَيْلٍ ولو قُطعتْ رِجْلى
وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم، وهو يومئذ عامل معاوية على المدينة، فنذر ليقطعن لسانه، فلحق بجذام، وقال:
أَتَانِىَ عن مَرْوانَ بالغَيْيبِ أَنَّه ... مُقِيدٌ دَمِى أَو قاطِعٌ من لِسانِيَا
ففِى العيِس مَنْجاةٌ وفي الأَرضِ مَهْرَبٌ ... إِذَا نَحْنُ رَفَّعْنا لَهْنَّ المَثَانِيَا
فأقام هناك إلى أن عزل مروان عن المدينة، وانصرف إلى بلاده، وكان يختلف إليها سراً.
وكان لبثينة أخ يقال له جواسٌ، فشبب بأخت جميل، فغضب جميلٌ وتواعدا لمراجزةٍ، فغلبه جميل، ولما اجتمعوا لذلك قال أهل تيماء: يا جميل قل في نفسك ما شئت فأنت الباسل الجواد الجميل، ولا تقل في أبيك شيئاً فإنه كان لصاً بتيماء في شملة لا تواري استه! وقالوا لجواسٍ: قل وأنت دونه في نفسك، فقل ما شئت في أبيك، فإنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال كثيرٌ: قال لي جميلٌ: خذ لي موعداً من بثينة! قلت له: هل بينك وبينها علامةٌ؟ فقال لي: عهدي بها وهم بوادي الدوم يرحضون ثيابهم، فأتيتهم فأجد أباها قاعداً بالفناء، فسلمت فرد، وحادثته ساعةً حتى استنشدني، فأنشدته:
فقلتُ لها يا عَزَّ أَرسَلَ صاحبي ... على نَأْىِ دارٍ والمُوَكَّلُ مُرْسَلُ
بأَنْ تَجْعَلى بَيْنى وبَيْنَك مَوْعِداً ... وأنْ تَأْمُرِينى بالذِى فيه أَفْعَلُ
وآخِرُ عَهْدٍ منك يَوْمَ لَقِيتِنى ... بأَسْفَلِ وادِى الدَّوْمِ والثُّوْبُ يُغْسَلُ
فضربت بثينة جانب الخدر وقالت: اخسأ! فقال لها أبوها: مهيم يا بثينة؟ قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء هذه الرايبة، قال: فأتيت جميلاً فأخبرته أنها واعدته وراء الرابية إذا نوم الناس! قال أبو محمد: هكذا حدثنا دعبل بن علي الشاعر، وأما أبو عبد الله الزبيري فقال: التقى جميلٌ وكثيرٌ، فشكا أحدهما، لصاحبه أنه محصرٌ لا يقدر أن يزور، فقال جميلٌ لكثير: أنا رسولك إلى عزة، فأخبرني بآخر عهدٍ كان لك بها؟ قال كثير: فأن آخر عهدي أني مررت بها وبجواريها يغسلن ثياباً بأسفل وادي الدوم، فأتهم فانشدهم ثلاث ذودٍ سودٍ ثم انظر ما يقال لك! فأتاهم جميلٌ فجعل ينشدهم الذود، فقالت له جاريتها: لقد رأيت ثلاثاً سوداً مررن بالقاع خلفنا، ثم عهدي بهن وإحداهن تحتك بالطلحة ومضى سائرهن، فانصرف جميلٌ حتى أتى كثيراً فأخبره، فلما كان في بعض الليل أتيا الطلحة وأتته عزة وصاحبةٌ لها معها، فتحادثا طويلاً، وجعل كثير يرى عزة تنظر نحو جميلٍ، وكان جميل جميلاً، وكان كثير دميماً، فغضب كثيرٌ وغار، فقال لجميل: انطلق بنا قبل أن نصبح، فانطلقا، وقال:
رَأَيْتُ ابْنَةَ الضَّمْرِىِّ عَزَّةَ أَصْبَحَتكمُحْتَطبٍ ما يَلْقَ باللَّيلِ يَحْطِب
وكانَتْ تُمَنِّينَا وتَزْعُمُ أَنَّها ... كَبيْضَ الأَنُوقِ في الصَّفَا المُتَنَصِّب

ثم قال كثيرٌ لجميل: متى عهدك ببثينة؟ قال في أول الصيف وقعة سحابةٍ بأسفل وادي الدوم، فخرجت ومعها جاريةٌ لها تغسل ثوباً، فلما رأتني أنكرتني، فضربت بيدها إلى ثوبٍ في الماء فالتحفت به، وعرفتني الجارية، فعادت فطرحته في الماء، وتحادثنا حتى غابت الشمس، فسألتها الموعد فقالت: أهلها سائرون ولم ألقها بعد، ولم أجد أحداً آمنه أرسله إليها، فقال كثير: هل لك أن آتي الحي فأقرع ببيتٍ من شعرٍ أو تخلو فأكلمها؟ قال: نعم، فخرج كثير حتى أناخ بهم، فقالوا: يا كثير حدثنا كيف قلت لزوج عزة حين أمرها أن تسبك؟ قال كثير: خرجا يرميان الجمار، فوجداني قد أعصب الناس بي، فطالعني زوجها، فسمعني أنشد:
خَليلِى هذا رَبْعُ عَزَّةَ فَاعْقِلاَ ... قَلُوصَيْكُمَا ثُمَّ ابْكِيَا حَيْثُ حَلَّت
فغار، فقال لعزة، لتغضبنه أو لأطلقنك، فقالت: المنشد يعض بكذا وكذا من أمه، مكرهةً، فقلت:
هَنيئاً مَرِيئاً غَيْرَ داءٍ مُخَامرٍ ... لعَزَّة من أَعْرَاضنَا ما اسْتَحَلَّت
فقالت بثينة: أحسنت والله يا كثير، قال كثير وأبياتٌ قلتها لعزة:
أَرْسَلَنِى يا عَزَّ نَحْوَكِ صاحِبى ... على طُوِل نَأْىٍ من حَبيبٍ ومُرْسَلِ
بأَنْ تَضْرِبِى بَيْنِى وبَيْنَك مَوْعداً ... وأَنْ تُخْبِرِينِى ما الَّذى فيه أَفْعَلُ
بِآيَة ما جِئْنَاكِ يَوْماً عَشَّيةً ... بأَسْفَلِ وادي الدَّوْمِ والثَّوْبُ يُغْسَلُ
فقالت بثينة: يا جارية ابغينا من الدومات حجرة البطحاء حطباً لنذبح لكثير عريضاً من البهم ونشويه له! قال كثير: أنا أعجل من ذلك، فراح إلى جميلٍ فأخبره أن الموعد الدومات.
قال أبو محمد: أرق عبد الملك بن مروان ذات ليلةٍ، فقال: اطلبوا لي رجلاً يحدثني، فخرجوا إلى المسجد، فوجدوا رجلاً، فأدخلوه، فقال له عبد الملك، من أنت؟ قال: أنا فلانٌ وكنت من أصدق الناس لجميلٍ، قال: فحدثني عنه، قال: خرجت معه مرةً حتى انتهينا إلى خباءٍ لال بثينة، وسمعت به، فأقبلت في نسوةٍ معها، وأقبل جميلٌ، نحوها، فقعدن وقعد، فتحادثوا ساعةً، ثم أخلوهما، فلم يزالا يتشكيان حتى غشينا الصبح، فودع كل واحدٍ منهما صاحبه، ثم وضع جميلٌ رجله في الغرز، فمالت إليه بثينة فقالت: يا جميل ادن مني، فمال إليها برأسه وعنقه، فسارته بشيءٍ فخر مغشياً عليه، ثم مضت فأتيته فلم أزل عند رأسه حتى طلعت الشمس عليه، فقام ينفض رأسه وهو يقول:
فما مُكْفَهُّر في رحًى مُرْجَحنَّةٍ ... ولا ما أَسَرَّتْ في معادنها النَّحْلُ
بأَحْلَى منَ القَوْلِ الذي قُلْت بَعْدَما ... تَمَكَّنَ في حَيْزُومِ ناقَتِىَ الرِّجْلُ
فقال له عبد الملك: ويحك! فهل تدري ما سارته به؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين.
وذكر ابن عياشٍ قال: خرجت من تيماء فرأيت عجوزاً على أتانٍ، فقلت: ممن أنت؟ قالت: من عذرة، قلت: هل تروين عن بثينة وجميلٍ شيئاً؟ قالت: نعم والله، إنا لعلي ماءٍ من الجناب، وقد اتقينا الطريق واعتزلنا، مخافة جيوشٍ تجيء من الشام إلى الحجاز، وقد خرج رجالنا في سفر، وخلفوا عندنا غلماناً أحداثاً، وقد انحدر الغلمان عشيةً إلى صرم لهم قريبٍ منا، ينظرون إليهم ويتحدثون عند جوارٍ منهم، فبقيت أنا وبثينة نسترم غزلاً لنا، إذ انحدر علينا منحدرٌ من هضبةٍ حذاءنا، فسلم ونحن مستوحشون، فرددت السلام، ونظرت فإذا أنا برجل واقفٍ شبهته بجميل، فدنا فأثبته فقلت: أجميلٌ؟ قال: إي والله، فقلت: والله لقد عرضتنا ونفسك شرا! فما جاء بك؟ قال: هذه الغول التي وراءك! وأشار إلى بثينة، وإذا هو لا يتماسك، فقمت إلى قعبٍ فيه أقطٌ مطحونٌ وتمرٌ، وإلى عكةٍ فيها شيءٌ من سمنٍ، فعصرته على الأقط وأدنيته منه، فقلت: أصب من هذا، ففعل، وقمت إلى سقاء لبنٍ، فصببت له في قدح وشننت عليه ماءً بارداً، وناولته فشرب فتراجع، فقلت: لقد جهدت فما أمرك؟ قال: أردت مصر فجئت أودعكم وأسلم عليكم، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاثٍ، أنتظر أن أجد فرجةً حتى رأيت منحدر فتيانكم العشية، فجئت لأحدث بكم عهداً، فحدثنا ساعةً ثم ودعنا وانطلق، فلم نلبث إلا يسيراً حتى أتانا نعيه من مصر، قال ابن عياش: فظننت قوله:

فمَنْ كان في حُبِّى بُثيْنَةَ يَمْتَرِى ... فبَرْقاءُ ذي ضَالٍ علىَّ شَهيدُ
أنه أراد هذه الهضبة التي أقام فيها أياماً ما أكل وما شرب.
وقال سهل بن سعد الساعدي أو ابنه عباسٌ: لقيني رجلٌ من أصحابي، فقال: هل لك في جميل فإنه ثقيلٌ؟ فدخلنا عليه وهو يكيد بنفسه، وما يخيل لي أن أموت يكرثه، فقال: ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب خمراً قط ولم يقتل نفساً حراماً قط، يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقلت: أظنه والله قد نجا، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا، قلت: والله ما سلمت وأنت منذ عشرون سنة تنسب ببثينة! قال: إني لفي آخر يومٍ من أيام الدنيا، وأول يومٍ من أيام الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت وضعت يدي عليها لريبةٍ قط، قال: فأقمنا حتى مات.
وذاكرت بهذا بعض مشايخنا، فقال لي: كيف يكون هذا؟ أليس هو القائل:
فدَنَوْتُ مُخْتَفياً أُضِرُّ بَبْيِتها ... حتَّى وَلَجتُ على خَفِىِّ المَوْلَجِ
قالَتْ وعَيْشِ أَخِى ونَقْمَةِ والدى ... لأُ نَبّهَنَّ الحَىَّ إِنْ لم تَخْرُجِ
فخَرَجْتُ خيفَة أَهْلِها فَتَبَسَّمَتْ ... فَعَلمْتُ أَنَّ يَمينَها لم تَلْجَجِ
فَلَثمْتُ فاها آخذاً بقُرُونها ... فعْلَ النَّزِيف بِبَرْد ماءِ الحَشْرَجِ
وقال جميل حين حضرته الوفاة:
بَكَرَ النَّعِىُّ وما كَنَى بِجَميل ... وثَوَى بمصْرَ ثَوَاءَ غَيْرِ قُفُولِ
ولَقَدْ أَجُرُّ البُرْدَ في وادي القُرَى ... نَشْوانَ بَيْنَ مَزَارِعٍ ونَخِيل
قُوِمى بُثَيْنَةُ وانْدُبِى بَعوِيل ... وابْكِى خَليَلك دُونَ كُلِّ خَليلِ
وقالت بثينة ولا يحفظ لها شعرٌ غيره:
وإِنَّ سُلُوِّى عن جَميلٍ لَساعةٌ ... منَ الدَّهْرِ ما جاءَتْ ولا حانَ حينُهَا
سَوَاءٌ علينا يا جَميلَ بنَ مَعْمَرٍ ... إِذَا مُتَّ بَأْسَاءُ الحَيَاةِ ولِينُها
وجميلٌ ممن رضي بالقليل قال:
أُقَلِّبُ طَرِفى في السَّماءِ لَعَلَّهُ ... يُوافِقُ طَرفى طَرْفَها حينَ تَنْظُرُ
ومثله قول المعلوط في الرضى بالقليل:
أَلَيْس اللَّيْلُ يُلْبسُ أُمَّ عَمْروٍ ... وإيَّانا فذاكَ بنا تَدَانِى
بَلَى وتَرَى السَّماءَ كما أَراها ... ويَعْلُوها النَّهارُ كما عَلاَنِى
ونحوه قول بعض الأعراب في الرضى بالقليل:
وما نلْتُ منها مَحْرَماً غيرَ أَنَّنى ... إِذا هيَ بالَتْ بُلْتُ حَيْثُ تَبُولُ
قالوا: وأفرط في قوله:
ولَوْ أَنَّ جِلْداً غَيْرَ جِلْدِكِ مَسَّنى ... لَدَى مَضْجَعى حقّاً إِذاً لَشَرِيتُ
ولَو أَنَّ راقِى المَوْتِ يَرْقِى جنَازَتِى ... بريقِكِ يَوْماً يا بُثَيْنَ حَيِيتُ
ومما يستجاد له قوله:
عَلِقْتُ الهَوَى منها وَليداً فلم يزَلْ ... إلى اليومِ يَنْمِى حُبُّها ويَزيِدُ
وأَفْنَيْتُ عُمْرِى بانْتظارِى نَوَالَها ... فبَلَّتْ بذاكَ الدَّهْرَ وهْوَ جَدِيدُ
فلا أَنَا مَرْدُودٌ بِما جِئْتُ طالباً ... ولا حُبُّها فيما يَبِيدُ يَبيدُ
فمَنْ كان في حبِّى بُثَيْنَةَ يَمْتَرى ... فبَرقاءُ ذي ضَالٍ علىَّ شَهيدُ
ومما سبق إليه فأخذ منه قوله:
تَرَى الناسَ ما سرْنا يَسيرُونَ خَلْفَناوإِنْ نَحْنُ أَوْمَأْنَا إلى الناسِ وَقَّفُوا
أخذه الفرزدق وأدخله الرواة في شعره.
ومما يستغث من شعره قوله:
فَلَوْ تَرَكَتْ عَقْلِى مَعِى ما طَلَبْتُها ... ولكنْ طلاَبِيها لِمَا فاتَ منْ عَقْلِى
فإِنْ وُجِدَتْ نَعْلٌ بأَرِض مَضَلَّةٍ ... منَ الدَّهْر يَوْماً فاعْلَمِى أَنَّها نَعْلى
ويستجاد له قوله في هذا الشعر:
خَلِيلىَّ فيما عشْتُما هَلْ رَأَيْتُما ... قَتِيلاً بَكَى من حُبِّ قاتله قَبْلى

وقال صالح بن حسانٍ لجلسائه: أيكم ينشد بيتاً نصفه مخنث يتفكك بالعقيق، ونصفه أعرابي في شملةٍ بالبادية؟ قالوا: ما نعرفه، قال هو قول جميلٍ:
أَلاَ أَيُّها الرُّكْبُ النِّيامُ أَلاَ هُبُّواأُسائِلْكُمُ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الحُبُّ
فقالوا نعَمْ حتَّى يَرُضّ عظامَهُ ... ويَتْرُكَهُ حَيْرَانَ ليس له لُبُّ

توبة بن الحمير
هو من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، خفاجي، وكان شاعراً لصا، وأحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته ليلى الأخيلية، وهي ليلى بنت عبد الله بن الرحالة بن كعب ابن معاوية، ومعاوية هو الأخيل بن عبادة، من بني عقيل بن كعب، وكان يقول الأشعار فيها، وكان لا يراها إلا متبرقعةً، فأتاها يوماً، وقد سفرت، فأنكر ذلك، وعلم أنها لم تسفر إلا لأمرٍ حدث، وكان إخوتها أمروها أن تعلمهم بمجيئه ليقتلوه، فسفرت لتنذره، ويقال: بل زوجوها، فألقت البرقع، ليعلم أنها قد برزت، ففي ذلك يقول:
وكُنْتُ إِذَا ما جِئُتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... فقَدْ رَابنِى منها الغَدَاةُ سُفُورُهَا
وأول الشعر:
نَأَتْكَ بلَيْلَى دارُها لا تَزُورُهَا ... وشَطَّتْ نَوَاهَا واسْتَمَرَّ مَرِيرُهَا
يقولُ رِجَالٌ لا يَضيرُكَ نَأْيُهَا ... بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضيرُهَا
أَظُنُّ بها خَيْراً وأَعْلَمُ أَنَّها ... سَتُنْعِمُ يوماً أَو يُفَكُّ أَسيرُهَا
أَرَى اليومَ يأْتي دُونَ لَيْلَى كأَنَّمَا ... أَتَتْ حجَجٌ من دُوِنها وشُهُورهَا
حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِى ... سَقَاك منَ الغُرِّ الغَوَادِى مطِيرُهَا
أَبيِنى لنا لا زالَ رِيشُكِ ناعماً ... ولا زِلْتِ في خَضْرَاءِ عالٍ بَرِيرُهَا
فإِنْ سَجَعَتْ هاجَتْ لعَيْنِكَ عَبْرةً ... وإِنْ زَفَرَتْ هاجَ الهَوَى قَرْقَريرُهَا
وهو القائل:
ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَتْ ... علىَّ ودُونِى تُرْبَةٌ وصَفائحُ
لَسَلَمْتُ تَسْليمَ البَشَاشَةِ أَو زَقَا ... إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ
ولو أَنَّ لَيْلَى في السَّماءِ لأَصْعَدَتْ ... بطَرْفِى إلى لَيْلَى العُيُونُ اللَّوَامحُ
وكان توبة رحل إلى الشأم، فمر ببني عذرة، فرأته بثينة، فجعلت تنظر إليه، فشق ذلك على جميلٍ، وذلك قبل أن يظهر على حبه لها، فقال لها جميلٌ: من أنت؟ قال: أنا توبة بن الحمير، قال: فهل لك في الصراع؟ قال: ذلك إليك، فنبذت إليه بثينة ملحفةً مورسةً، فاتزر بها، ثم صارعه فصرعه جميل، ثم قال له: هل لك في النضال؟ قال: نعم، فناضله، فنضله جميلٌ، ثم قال له: هل لك في السباق؟ قال: نعم، فسابقه، فسبقه جميلٌ، فقال له: توبة: يا هذا، إنك إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة، ولكن اهبط بنا إلى الوادي، فهبطا إلى الوادي، فصرعه توبة وسبقه ونضله.
وكان توبة كثير الغارة على بني الحرث بن كعب وهمدان وكانت بين أرض بني عقيلٍ وأرض مهرة مفازةٌ قذفٌ فكان إذا أراد الغارة عليهم حمل المزاد، وكان من أهدى الناس بالطريق، فخرج ذات يومٍ ومعه أخوه عبيد الله وابن عم له، فنذروا به، فانصرف مخفقاً، فمر بجيرانٍ لبني عوف بن عامر، فأغار عليهم فاطرد إبلهم وقتل رجلاً من بني عوف، وبلغ الخبر بني عوف، فطلبوه فقتلوه، وضربوا رجل أخيه فأعرجوه، واستنقذوا إبل صاحبهم وانصرفوا وتركوا عند عبيد الله سقاءً من ماءٍ، كيلا يقتله العطش، فتحامل حتى أتى بني خفاجة، فلاموه وقالوا: فررت عن أخيك؟ فقال يعتذر:
يَلُومُ على القِتَالِ بنو عُقَيْلِ ... وكَيْفَ قتَالُ أَعْرَجَ لا يَقُومُ
ليلى الأخيلية
هي ليلى بنت الأخيل، من عقيل بن كعب، وهي أشعر النساء، لا يقدم عليها غير خنساء، وكانت هاجت النابغة الجعدي، وكان مما هجاها به قوله:
أَلاَ حَيَّيَا لَيْلَى وقُولاَ لها هَلاَ ... فقَدْ رَكبَتْ أَمْراً أَغَرَّ مُحَجَّلاَ

بُرَيْذِينَةٌ بَلّ البَرَاذينُ ثَفْرَها ... وقَدْ شَرِبَتْ في أَوَّلِ الصَّيْف أُيَّلاَ
وقَدْ أَكَلَتْ بَقْلاً وَخِيماً نَبَاتُه ... وقد نَكَحَتْ شَرَّ الأَخَايِلِ أَخْيَلاَ
وكيْفَ أُهاجِى شاعراً رُمْحُهُ اسْتُهُ ... خَضِيبَ البَنَانِ لا يَزالُ مُكَحَّلاَ
فأجابته وفاقته:
أَنَابغَ لم تَنْبُغْ ولم تَكُ أَوَّلاَ ... وكُنْتَ وُشَيْلاً بَيْنَ لِصُبَيْنِ مَجْهَلاَ
أَعَيَّرْتَنِى داءً بِأُمِّكَ مِثْلُهُ ... وأَيُّ جَوَادٍ لا يُقَالُ لَهُ هَلاَ
تُساوِرُ سُوَّاراً إلى المَجْد والعُلَى ... وفي ذَّمتي لَئِنْ فَعَلْتَ لَيَفْعَلاَ
أي ليفعلن وسوارٌ ابن أوفى القشيري وكان زوجها.
ورثت عثمان بن عفان رضي الله عنه فقالت:
أَبَعْدَ عُثْمِانَ تَرْجُو الخَيْرَ أُمَّتُهُ ... وكان آمَنَ مَنْ يَمْشى على ساقِ
خَليفَةَ الله أَعْطَاهُمْ وخَوَّلَهُمْ ... ما كان من ذَهَبٍ جُومٍ وأَوْرَاقِ
فلا تُكَذِّبْ بوَعْدِ الله واتَّقِهِ ... ولا تَوَكَّلْ على شيءٍ بإشْفَاقِ
ولا تَقُولَنْ لشَىءٍ سَوْفَ أَفْعَلُهُ ... قد كَتَبَ اللهُ ما كُلُّ امْرِىءٍ لاَقِ
ودخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت، فقال لها: ما رأى فيك توبة حين هويك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك! فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها.
وسألت الحجاج أن يحملها إلى قتيبة بن مسلمٍ بخراسان، فحملها على البريد، فلما انصرفت ماتت بساوة، فقبرت بها.
ومن جيد شعرها قولها في توبة:
أَقْسَمْتُ أَرْثِى بَعْدَ تَوْبَةَ هَالِكاً ... وأَحْفِلُ منْ دارَتْ عليه الدَّوائِرُ
لَعَمْرُكَ ما بالمَوْت عارٌ على الفَتَى ... إِذَا لم تُصِبْهُ في الحَيَاة المَعَايِرُ
وما أَحَدٌ حَيًّا وإِنْ كان سالماً ... بأَخْلَدَ مِمَّنْ غَيَّبَتْهُ المَقَابرُ
ومنْ كان ممّا يُحْدثُ الدَّهْرُ جازِعاً ... فلا بُدَّ يوماً أَنْ يُرَى وهْوَ صابِرُ
ولَيْسَ لذي عَيْشٍ من المَوْت مَذْهَبٌ ... وليس على الأَيَّامِ والدَّهْرِ غابِرُ
ولا الحَىُّ مِمَّا يُحْدثُ الدَّهْرُ مُعْتِبٌولا المَيْتُ إِنْ لم يَصْبِرِ الحىُّ نَاشِرُ
وكلُّ شَبَابٍ أَوْ جَديد إِلى بِلًى ... وكُلُّ آمْرِئٍَ يوماً إِلى الله صَائرُ
وكلُّ قَرِينَىْ أُلْفَةٍ لتَفَرُّقٍ ... شَتَاتاًَ وإِنْ ضَنَّا وطالَ التَّعَاشُرُ
فلا يُبْعدَنْكَ اللهُ يا تَوْبَ هالكاً ... أَخَا الحَرْب إَنْ ضاقَتْ عليه المَصَادرُ
فأَقْسَمْتُ لا أَنْفَكُّ أَبْكِيكَ ما دَعَتْ ... على فَنَنٍ وَرْقَاءُ أَوْ طَارَ طائرُ
قَتيلَ بنى عَوْفٍ فيالَهْفَتا له ... فما كُنْتُ إِيَّاهُمْ عليه أُحاذرُ
ولكنَّمَا أَخْشَى عليه قَبِيلَةً ... لها بدُرُوب الرُّوم بادًِ وحاضرُ
وقولها:
فإِنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإِنَّكُمْ ... فَتًى ما قَتَلْتُمْ آلَ عَوْف بن عامرِ
وإِلاَّ تَكُنْ فيكُمْ بَوَاءً فإِنَّكُمْ ... سَتَلْقَوْنَ يَوْماً وِرْدَهُ غَيْرَ صَادرِ
فَتًى هو أَحْيَا منْ فَتَاةٍ حَيِيَّةٍ ... وأَشْجَعُ من لَيْثٍ بخَفَّانَ خادرِ
فَتًى لا تَخَطَّاهُ الرِّفاقُ ولا يَرَى ... لقِدْرٍ عيَالاً دُونَ جارٍ مُجَاوِرِ
فَتًى كان للمَوْلَى سَنَاءً ورِفْعَةً ... وللطارِقِ السارِى قرًى غَيْرَ باسرِ
فَتًى يُنْهِلُ الحاجات ثم يَعُلُّهَا ... فتُطْلعُهَا عَنْهُ ثَنايَا المَصَادرِ
ولا تَأْخُذُ الكُومُ الجِلادُ سلاحَها ... لتَوْبَةَ في صِرِّ الشتاءِ الصَّنابِرِ
فنعْمَ الفَتَى إِنْ كان تَوْبَةُ فاجَرًا ... وفَوْقَ الفَتَى إِنْ كان لَيْسَ بفاجِرِ
وقولها أيضاً:

ومُخَرَّقٌ عَنْهُ القَميصُ تَخَالُهُ ... وَسْطَ البُيُوت منَ الحَيَاءِ سَقيمَا
حتَّى إِذا رُفعَ اللِّوَاءُ رَأَيْتَهُ ... تَحْتَ اللِّوَاءِ على الخَميش زَعيمَا

شبيل بن ورقاء
هو من زيد بن كليب بن يربوعٍ، وكان شاعراً مذكوراً جاهلياً، فأدرك الإسلام وأسلم إسلام سوءٍ، وكان لا يصوم شهر رمضان، فقالت له بنته، ألا تصوم؟ فقال:
تَأْمُرُنى بالصَّوْمِ لا دَرَّ دَرُّها ... وفى القَبْرِ صَوْمٌ لا أَباكِ طَوِيلُ
وكان له ابنان: خالدٌ وتبالة.
طفيل بن كعب الغنوي
قال أبو محمد: هو طفيل بن كعبٍ الغنوي، وكان من أوصف الناس للخيل، وكان يقال له في الجاهلية المحبر، لحسن شعره، وقال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيلٍ. وقال معاوية: دعوا لي طفيلاً وسائر الشعراء لكم وهو جاهلي.
وهو القائل:
إِني وإ ِنْ قَلَّ مالى لا يُفَارِقُنى ... مثْلُ النَّعَامَة فى أَوْصَالها طُولُ
أَو قارِحٌ في الغُرَابيَّات ذُو نَسَبٍ ... وفى الجِراءِ مِسَحُّ الشَّدِّ إِجْفيلُ
إِنَّ النسَاءَ كأَشجَارٍ نَبَتْنَ مَعاً ... منها المُرَارُ وبَعْضُ النَّبْت مَأْكُولُ
إِنَّ النَساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ ... فإِنّهُ واجِبٌ لا بُدَّ مَفْعُولُ
لا يَنْصَرفْنَ لرُشْدٍ إِنْ دُعينَ له ... وهُنَّ بَعْدُ مُلائيمٌ مَخَاذيلُ
وهو القائل:
بخَيْلٍ إِذا قيلَ: ارْكَبُوا لم يَقُلْ لهمعَوَاوِيرُ يَخْشَوْنَ الرَّدَى: أّيْنَ نَرْكَبُ
ولكنْ يُجَابُ المُسْتَغيثُ وخَيْلُهُمْ ... عليها حُمَاةٌ بالمَنيَّةِ تَضْرِبُ
ومما سبق إليه طفيلٌ قوله:
بِحَىٍّ إِذا قيلَ: اظْعَنُوا قد أُتيتُمُ ... أَقامُوا فلم تُرْدَدْ عليهمْ حَمَائلُ
ثم قال ابن مقبل:
بِحَىٍّ إِذا قيلَ: اظْعَنُوا قد أُتيتُمُ ... أَقامُوا على أَظْعَانهِمْ وتَلَحْلَحُوا
وقال طفيلٌ يذكر الإبل:
عَوَازِبُ لم تَسْمَعْ نُبُوحَ مُقَامَةٍ ... ولم تَرَ نَارًا تمَّ حَوْلٍ مُجَرَّمِ
وقال الحطيئة:
عَوَازِبُ لم تَسْمَعْ نُبُوحَ مُقَامَةٍ ... ولم تُحْتَلَبْ إِلاَّ نَهَارًا ضَجُورُها
يقول: لا تحلب التي تضجر من الحلب في البرد، ولكن إذا طلعت عليها الشمس.
ابن مقبل
هو تميم بن أبي بن مقبلٍ، من بني العجلان، وفي رهطه يقول النجاشي:
إِذا اللهُ عادَى أَهْلَ لُؤْمٍ ورِقَّةٍ ... فعادَى بنى العَجْلانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِل
وكان جاهلياً إسلامياً، ورثى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال:
لِيَبْكِ بَنُو عُثْمانَ ما دام جِذْمُهُمْ ... عليه بأَسْيافٍ تُعَرَّى وتُخْشَبُ
نَعَاءِ لِفَضْلِ الحلْمِ والحَزْمِ والنَّدَى ... ومَأْوَى اليتامى العبر عاموا وأجدبوا
ومَلْجَإ مَهْرُوئِينَ يُلْغى به الحَيَا ... إذا جَلَّفَتْ كَحْلٌ هو الأُمُّ والأَبُ
وكان خرج في بعض أسفاره، فمر بمنزل عصرٍ العقيلي، وقد جهده العطش، فاستسقى، فخرج إليه ابنتاه بعس فيه لبنٌ، فرأتاه أعور كبيراً، فأبدتا له بعض الجفوة، وذكرتا هرمه وعوره، فغضب وجاز ولم يشرب، وبلغ أباهما الخبر، فتبعه ليرده، فلم يرجع، فقال له: ارجع ولك وأعجبهما إليك، فرجع وقال قصيدته هذه، وهي أجود شعره:
كان الشَّبَابُ لحاجاتٍ وكُنَّ له ... فقَدْ فَزِعْتُ إِلى حاجاتِى الأُخَرِ
يا حُرَّ أَمْسَتْ تَليَّاتُ الصِّبَا ذَهَبَتْ ... فلَسْتُ منها على عَيْنٍ ولا أَثَرِ
يا حُرَّ أَمْسَى سَوَادُ الرّأسِ خالَطَهُشَيْبُ الٌقَذَال اخْتلَاط الصَّفْوِ بالكَدَر
يا حُرَّ أَمْسَيْتُ شَيْخاً قد وَهَى بَصَرىوآلْتَاثَ ما دُونَ يَوْمِ البَعْث من مُعْتَذرِ
قالتْ سُلَيْمَى ببَطْن القاعِ من سُرُجٍلا خَيْرَ في المَرْءِ بَعْدَ الشَّيْب والكِبَر

واسْتَهْزَأَت تِرْبُهَا مِنِّى فقُلْتُ لها ... ماذا تَعيبَانِ مِنِّى يَا بْنَتَىْ عَصَرِ
لولا الحَياءُ وباقِى الدِّينِ عبْتُكُما ... ببَعْض ما فيكما إِذْ عبْتُمَا عَوَرى
قد كُنْتُ أَهْدِى ولا أُهْدَى فعَلَّمَنى ... حُسْنَ المَقَادَةِ أَنى فاتَنى بَصَرى
قد قُلْتُمَا لِىَ قَولاً لا أَبا لَكُما ... فيه حَديثٌ على ما كان من قِصَر
أخذه من قول امرىء القيس وحديثٌ ما على قصره أي أي حديث هو على قصره، على التعجب منه.
وهو من أوصف العرب لقدحٍ، ولذلك يقال: قدح ابن مقبل.
وهو القائل في نفسه:
إِذا مُتُّ عن ذِكْرِ القَوافِى فلَنْ تَرَى ... لها تالياً بَعْدى أَطَبَّ وأَشْعَرَا
وأَكْثَرَ بيتاً مارِداً ضُربَتْ له ... حُزُونُ جبَالِ الشِّعْرِ حتَّى تَيَسَّرَا
أَغَرَّ غَريباً يَمْسحُ الناسُ وَجْهَهُ ... كما تَمْسَحُ الأَيْدى الجَوَادَ المُشَهَّرَا
وقال ابن مقبلٍ في الفرس:
يُرْخِى العِذَارَ ولو طالَتْ قَبَائلُهُ ... عن حَشْرَةٍ مِثْلِ سِنْف المَرْخَة الصَّفِرٍ
وقال آخر:
لها أُذُنٌ حَشْرَةٌ مَشْرَةُ ... كإِعْليط مَرْخٍ إِذا ما صَفرْ
وقال آخر:
حَشْرَةُ الأُذْنِ كإِعْليطٍ صَفِرْ
ومما يستحسن له قوله في النساء:
يَمْشينَ هَيْلَ النَّقَا مالَتْ جَوَانِبُهُ ... يَنْهَالُ حيناً ويَنْهَاهُ الثَّرَى حينا
يَهْزُزْنَ للمَشْي أَوْصَالاً مُنَعَّمَةً ... هَزَّ الجَنُوب ضُحًى عيدَانَ يَبْرِينَا
أَوْ كاهْتزَازِ رُدَيْنِىٍّ نَدَاوَقَهُ ... أَيْدى التِّجَار فزادوا مَتْنَهُ لينَا

أمية بن أبى الصلت
هو أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة بن عبد عوف بن عقدة بن غيرة بن قسي، وقسي هو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وأمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف.
وقد كان قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله جل وعز، ورغب عن عبادة الأوثان، وكان يخبر بأن نبيا يبعث قد أظل زمانه، ويؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصته كفر حسداً له.
ولما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره قال: آمن لسانه وكفر قلبه، وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرةٍ لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب، منها قوله:
بآيَةِ قام يَنْطقُ كلُّ شئٍ ... وخَانَ أَمانَةَ الدِّيكِ الغُرَابُ
وكانوا يقولون: إن الديك كان نديماً للغراب، فرهنه على الخمر وغدر به ولم يرجع، وتركه عند الخمار، فجعله الخمار حارساً.
ومنها قوله:
غَيْمٌ وظَلْماءُ وفَضْلُ سَحَابَةٍ ... إِذْ كانَ كَفَّنَ واسْتَرَادَ الهُدْهُدُ
يَبْغِى القَرَارَ لأُمِّهِ ليُجِنَّهَا ... فبَنَى عليها في قَفَاهُ يَمْهَدُ
فَيَزَالُ يَدْلَحُ ما مَشَى بجِنَازَةٍ ... منها وما اخْتَلَفَ الجَديدُ المُسْنَدُ
وكانوا يقولون: إن الهدهد لما ماتت أمه أراد أن يبرها، فجعلها على رأسه يطلب موضعاً، فبقيت في رأسه، فالقنزعة التي في رأسه هو قبرها، وإنما أنتنت ريحه لذلك ومنها قوله:
قَمَرٌ وساهُورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
والساهور فيما يذكر أهل الكتاب: غلاف القمر يدخل فيه إذا كسف.
وقوله في الشمس:
لَيْسَتْ بطالِعَةٍ لَهُمْ في رِسْلِها ... إِلاَّ مُعَذَّبَةً وإِلاَّ تُجْلَدُ
يقولون: إن الشمس إذا غربت امتنعت من الطلوع، وقالت: لا أطلع على قومٍ يعبدونني من دون الله، حتى تدفع وتجلد فتطلع! ويسمى السماء في شعره صاقورة وحاقورة وبرقع.
ويقول في الله عز وجل:
هو السَّلَطْلِيطُ فَوْقَ الأَرْضِ مُقْتَدرُ
ويقول: وأبدت الثغرورا يريد الثغر وهذه أشياء منكرةٌ، وعلماؤنا لا يرون شعره حجةً في اللغة.
ولما حضرته الوفاة قال:
كُلُّ عَيْشٍ وإِنْ تَطَاوَلَ دَهْرًا ... صائِرٌ مَرَّةً إِلى أَنْ يَزُولَا

لَيْتَنى كُنْتُ قَبْلَ ما قد بَدَا لي ... في رُؤُوِس الجِبَالِ أَرْعَى الوُعُولَا
وأبوه أبو الصلت الثقفي شاعرٌ، وهو القائل في سيف بن ذي يزن:
لَنْ يَطْلُبَ الوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذي يَزَنٍلَجَّجَ في البَحْرِ للأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
أَتَى هِرَقْلَ وقَدْ شالَتْ نَعَامَتُهُ ... فلم يَجِدْ عنْدَهُ القَوْلَ الَّذي قَالَا
ثم انْتَحَى نَحْوَ كِسْرَى بعد تاسِعَةٍ ... منَ السِّنِينَ لقَدْ أَبْعَدْتَ إِيغَالَا
حتَّى أَتَى بِبَنى الأََحْرَار يَحْمِلُهُمْإِنَّكَ عَمْرِى لَقَدْ أَسْرَعْتَ قِلْقَالَا
مَنْ مثْلُ كسْرَى وباذَانِ الجُنُودِ له ... ومثْلُ وَهْرِزَ يَوْمَ الجَيْش إِذْ صَالَا
لِله دَرُّهُمُ منْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا ... ما إِنْ تَرَى لَهُمُ في الناسِ أَمْثَالَا
غُلْباً جَحَاجِحَةً بِيضاً مَرَاجِحَةً ... أُسْدًا تُرَبِّبُ في الغَيْضَات أَشْبَالَا
يَرْمُونَ عَنْ عَتَلٍ كأَنَّهَا غُبُطٌ ... بزَمْخَر يُعْجِلُ المَرْمِىَّ إِعْجَالَا
أَرْسَلْتَ أُسْداً على سُودِ الكلابِ فَقَدْ ... أَضْحَى شَرِيدُهُمُ في الأَرْض فُلَّالَا
فاشْرَبْ هَنيئاً عليكَ التاجُ مُرْتفِقاً ... في رَأسِ غُمْدانَ داراً منك مِحْلَالَا
ثمَّ اطَّلِ المسْكَ إِذْ شالَتْ نَعامَتُهُمْوأَسْبِلِ اليومَ منْ بُرْدَيكَ إِسْبَالَا
تلْكَ المكارِمُ لا قَبْعانِ من لَبَنٍ ... شيبَا بماءٍ فعادَا بَعْدُ أَبْوالَا
وكان لأمية ابن يقال له القاسم، وكان شاعراً وهو القائل:
قَوْمٌ إِذا نَزَلَ الحَريبُ بدارِهمْ ... تَرَكُوهُ رَبَّ صَوَاهلٍ وقيَان
فإِذا دَعَوْتَهُمُ ليَوْمِ كَرِيهَةٍ ... سَدُّوا شُعاعَ الشَّمْسِ بالخُرْصانِ
لا يَنْقُرُونَ الأَرضَ عنْدَ سُؤَالهِمْ ... لتَطَلُّب العِلَّات بالعِيدَان
بَلْ يَبْسُطُونَ وُجُوهَهُمْ فتَرَى لها ... عنْدَ السُّؤَالِ كأَحْسَنِ الأَلْوَان

خليد عينين
هو من عبد القيس، من ولد عبد الله بن درام بن مالك، وكان ينزل أرضاً بالبحرين تعرف بعينين، فنسب إليها، وهو القائل:
أَيُّها المُوقِدَانِ شُبَّا سَنَاهَا ... إِنَّ للضَّيْف طَارِفِى وتِلاَدِى
ومر خليد عينين بوال لزياد على بعض كور فارس، فسأله فلم يعطه، فقال: أنت تدل بالشعر فاذهب فقل ما شئت! فقال: أما إني لا أهجوك، ولكني أقول ما هو أشد عليك من الهجاء فأنشأ يقول:
وكائنْ عنْدَ تَيْم من بُدُورٍ ... إِذَا ما حُرَّكَتْ تَدْعُو زِيَادَ
دَعَتْهُ دَعْوَةً شَوْقاً إليه ... وقد شُدَّتْ حَنَاجِرُها صفَادَا
ونمى الشعر إلى زيادٍ فقال: لبيك يا بدور تيمٍ! وبعث إليه فأخذ منه مائة ألف درهمٍ.
جرير بن عطية
هو جرير بن عطية بن حذيفة ولقب حذيفة الخطفي لقوله:
وعَنَقاً باقِى الرَّسيمِ خَيْطَفَا
وهو من بني كليب بن يربوعٍ وكان عطية أبو جريرٍ مضعوفاً وأم جرير أم قيس بنت معبد، من بني كليب بن يربوع، وكان له أخوان: عمرو بن عطية وأبو الورد بن عطية، وولدت جريراً أمه لسبعة أشهرٍ، وعمر نيفاً وثمانين سنةً، ومات باليمامة، وكان يكنى أبا حزرة، وكان له عشرةٌ من الولد، فيهم ثمانيةٌ ذكور، منلهل بلال بن جرير، وكان أفضلهم وأشعرهم، ويكنى أبا زافرٍ. ورأى في المنام أنه قطعت له أربع أصابع من أصابعه، فقاتل بني ضبة فقتلوا له أربعة بنين، ولبلال عقبٌ، منهم عمارة بن عقيل بن بلال، وهو القائل في دينارٍ ويحيى ابني عبد الله:
ما زال عصْيانُنا لله يُسْلُمنا ... حتَّى دُفعْنا إلى يحيى ودينارِ
إلى عُلَيْجَيْنِ لم تُقْطَعْ ثِمارُهما ... قد طال ما سَجَدَا للشَّمْس والنارِ
وكان بلالٌ نزل برجلٍ يقال له مسعود بن طعمة، من بني بيدعة، فلم يحسن قراه، فقال:
أَمَسْعُودُ أَنْتَ اللَّئِيمُ الأَثيمُ ... كأَنًّكَ قُنْفُذَةٌ في ضَعَهْ

سَمِعْنا له إذْ نَزَلْنا به ... كَلاَماً كما تَنْطِقُ الضَّفْدَعَهْ
فأَيَّ اللَّئيمَيْنِ أَشْبَهْتَهُ ... أَطُعْمَةَ أَمْ أُمَّكَ الكَوْتَعَهْ
عَدَدْنا عَديّاً وآباءَهُمْ ... فشَرُّ عَدىٍّ بنو بَيْدَعَهْ
فما أعْطَشَ الضَّيْفَ لَمَّا غَدَا ... منَ البَيْدَعات وما أَجْوَعَهْ
وقال بلال في قوم من بني فقيمٍ، يقال له بنو ناشرة:
عَدَدْنا فُقَيْماً وآباءَهُمْ ... فشَرُّ فُقَيْمٍ بَنُو ناشِرَهْ
قصارَ الفعالِ طِوالَ الخُطَى ... مَنَاتينَ لَيْسَتْ لهم بادرَهْ
يَعُدُّونَ غُرْماً قِرَى ضَيْفهِمْ ... فلا عَدُوا صَفْقَةً خاسرَهْ
إِذَا ضفْتَهُمْ ثمَّ سَاءَلْتَهُمْ ... وَجَدْتَ بهمْ علَّةً حاضرَه
ولَيْسُوا إِذَا قُلْتَ ماذا هُمُ ... بأَصْحاب دُنْيَا ولا آخرَهْ
وقال في حماد المنقري:
نَزَلْنا بحَمَّادٍ فخَلَّى كلاَبَهُ ... علينا فكدْنا بينَ بَيْتَيْه نُؤْكَلُ
وقد قال قَبْلِى قائلٌ ظَلَّ فيهِم ... أَذَا اليَوْمُ أَو يَوْمُ القيَامَة أَطْوَلُ
ومن ولد جرير عكرمة بن جرير، وكان شاعراً، ونوح بن جرير، وكان شاعراً.
وكان جريرٌ من فحول شعراء الإسلام، ويشبه من شعراء الجاهلية بالأعشى، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: هما بازيان يصيدان ما بين العندليب إلى الكركي.
وكان من أحسن الناس تشبيباً، حدثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال: سمعت الحي يتحدثون أن جريراً قال: لولا ما شغلني من هذه الكلاب لشببت تشبيباً تحن منه العجوز إلى شبابها كما تحن الناب إلى سقبها.
وكان من أشد الناس هجاءً، وحدثني عبد الرحمن الأصمعي قال: أخبرنا شيخ من أهل البصرة قال: مر راعي الإبل في سفرٍ فسمع إنساناً يتغنى على قعودٍ له بشعر جريرٍ، وهو قوله:
وعاوٍ عَوَى من غَيْرِ شىءٍ رَمَيْتُهُ ... بقافِيَةٍ أَنْفاذُها تَقْطُرُ الدَّمَا
خرُوجٍ بأَفْواه الرُّواة كأَنَّها ... قِرَى هُنْدُوانٍّى إِذَا هُزَّ صَمَّمَا
فقال: لمن هذا؟ قيل: لجرير فقال الراعي: لعنة الله على من يلومني أن يغلبني مثل هذا! وكان مع حسن تشبيبه عفيفاً، وكان الفرزدق فاسقاً، وكان يقول: ما أحوجه مع عفته إلى صلابة شعري، وما أحوجني إلى رقة شعره، لما ترون.
وأخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا الأصمعي قال: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: كنت قاعداً عند جريرٍ وهو يملى:
ودِّعْ أَمامَةَ حان منْكَ رحِيلُ ... إِنَّ الوَدَاعَ لمَنْ تُحبُّ قَلِيلُ
فمرت به جنازةٌ، فترك الإنشاد وقال: شيبتني هذه الجنائز، قلت: فلأي شيءٍ تشتم الناس؟ قال: يبدؤونني ثم لا أعفو، قال: وكان يقول: أنا لا أبتدي ولكن عندي.
وبلغه عن بعض شعراء بني كليبٍ شيءٌ ساءه، فدعاه إلى مهاجاته، فقال الكليبي: إن نسائي بإمتهن، ولم تدع الشعراء في نسائك مترقعاً.
وكان جرير يقول: النصراني أنعتنا للخمر والحمر وأمدحنا للملوك وأنا مدينة الشعر.
وقال أبو عمرو: سئل الأخطل، أيكم أشعر؟ قال: أنا أمدحهم للملوك وأنعتهم للخمر والحمر، يعني النساء، وأما جرير فأنسبنا وأشبهنا، وأما الفرزدق فأفخرنا.
وقال مروان بن أبي حفصة:
ذَهَبَ الفَرَزْدَقُ بالفخَارِ وإِنما ... حُلْوُ القَرِيض ومُرُّهُ لِجَرِيرِ
وكان جرير مقيماً بالمروت من البادية، والفرزدق بالعراق، وهما يتهاجيان، فأرسلت بنو يربوع إلى جرير: إنك مقيم بالمروت ليس عندك أحدٌ يروي عنك والفرزدق بالعراق قد ملأها عليك منذ سبع حججٍ، فانحدر إلى العراق فأقام بالبصرة، ولذلك يقول:
وإِذا شَهدْتُ لثَغْرِ قَوْمي مَشْهَداً ... آثَرْتُ ذاكَ على بَنِىَّ ومالى
ومدح الحجاج فأكرمه وأدناه، وأوفده إلى عبد الملك بن مروان فاستنشده، فأنشده في الحجاج:
صَبَرْتَ النَّقْسَ يا بْنَ أَبي عَقِيلِ ... مُجاهَدَةً فكَيْفَ تَرَى الثَّوَابَا
إِذَا سَعَر الخَليفَةُ نارَ حَرْبِ ... رَأى الحَجَّاجَ أَثْقَبَها شهاَبا
وأنشد مدحته التي يقول فيها:

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكبَ المَطَايَا ... وأَنْدَى العالَميِنَ بُطُونَ راحِ
فأمر له بمائة ناقةٍ من نعم كلبٍ، فقال له جرير: يا أمير المؤمنين، نحن أشياخٌ، وليس في واحد منا فضلٌ عن راحلته، والإبل أباق، قال: فنجعل أثمانها لك رقةً؟ قال: لا، ولكن الدعاء، فأمر له بثمانية أعبدٍ، فقال جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين! فنبذ إليه إحداهن بالخيزرانة، وقال: خذها لا نفعتك! ففي ذلك يقول جرير:
أَعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثَمانيَةٌ ... ما في عَطَائِهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ
قال أبو عبيدة: كان الفرزدق بالمربد، فمر به رجل قدم من اليمامة، فقال له: من أين وجهك؟ قال: من اليمامة، قال: فهل علقت من جريرٍ شيئاً؟ فأنشده:
هاج الهَوَى بفُؤَادِكَ المُهْتاجِ
فقال الفرزدق:
فانْظُرْ بتُوضِحَ باكرَ الأَحْداج
فقال:
هذا هَوًى شَغَفَ الفُؤَادَ مُبَرِّحٌ
فقال الفرزدق:
ونَوًى تَقاذَفُ غَيْرُ ذاتِ خِلاَجِ
فقال:
لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دائباً
فقال الفرزدق:
كان الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْداجِ
فما زال الرجل ينشده صدراً صدراً من قول جرير، وينشده الفرزدق عجزاً عجزاً حتى ظن الرجل أن الفرزدق قالها وأن جريراً سرقها، ثم قال لها: هل ذكر فيها الحجاج؟ قال: نعم، قال: إياه أراد.
ومن خبيث هجائه قوله للفرزدق:
لَقَدْ ولَدَتْ أُمُّ الفَرَزْدَقِ مُقْرِفاً.... ... ...........الأبيات
ومن جيد شعره قوله:
تَعَالَوْا نُحاكمْكُمْ وفي الحَقَّ مَقْنَعٌ ... إلى الغُرِّ من أَهْل البِطَاحِ الأَكارمِ
فإِنَّ قُريشَ الحَقَّ لم تَتْبَعِ الهَوَى ... ولم يَرْهَبُوا في الله لَوْمَةَ لائم
فإنِى لَرَاضٍ عَبْدَ شَمْسٍ وما قَضَتْ ... وأَرْضَى بحُكْمِ الصِّيدِ من آلِ هاشمِ
أَذَكِّرُكُمْ بالله مَنْ يُنْهِلُ القَنَا ... ويَضْرِبُ كَبْشَ الجَحْفَلِ المُتَرَاكِم
وكُنْتُمْ لَنَا الأَتْباعَ في كُلّ مَوْقفٍ ... ورِيشُ الذُّنَابَى تابِعٌ للقَوَادِم
إِذَا عُدَّت الأَيَّامُ أَخْزَيْتَ دارِماًوتُخْزِيكَ يا بْنَ القَيِنْ أَيَّامُ دارِمِ
وما زادني بُعْدُ المَدَى نَقْضَ مِرَّةٍ ... ولا رَقَّ عَظْمى للضُّرْوِس العَواجِمِ
ويستجاد له قوله:
فأَنْتَ أَبى ما لم تَكُنْ لِىَ حاجةُ..... ... ......الأبيات
وقوله يرثي امرأته:
لَوْلاَ الحَياءُ لَعادَنى استْعْبارُ...... ... .........الأبيات
ومما أخذ عليه قوله في بني الفدوكس رهط الأخطل:
هذا ابنُ عَمِّى في دمَشقَ خَليفَةٌ ... لَوْ شِئُتُ ساقَكُمْ إلىَّ قَطينَا
القطين في هذا الموضع: العبيد والإماء، وقيل له: يا أبا حزرة، ما وجدت في بني تميمٍ فخراً تفخر به عليهم حتى فخرت بالخلافة، لا والله إن صنعت في هجائهم شيئاً.

الفرزدق
هو همام بن غالب بن صعصة بن ناجية بن عقال بن محمد ابن سفيان بن مجاشع بن دارمٍ، وكان جده صعصعة بن ناجية عظيم القدر في الجاهلية، واشترى ثلاثين مووودةً إلى أن جاء الله عز وجل بالإسلام، منهن بنتٌ لقيس بن عاصم المنقري، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم.
وأم صعصعة قفيرة بنت سكينٍ، من عبد الله بن دارمٍ، وكانت أمها أمةً وهبها كسرى لزرارة، فرهنها زرارة لهند بنت يثربي ابن عدسٍ فوثب أخو زوجها، واسمه سكين بن حارثة بن زيد بن عبد الله ابن دارم، على الأمة فأحبلها فولدت له قفيرةٌ أم صعصعة، فكن جريرٌ يعيبُ الفرزدق بها، وكان لصعصعة قيونٌ، منهم جبيرٌ ووقبان وديسم، فلذلك جعل جريرٌ مجاشعاً قيوناً.
وقال جرير ينسب غالب بن صعصة إلى جبير:
وَجَدْنا جُبَيْراً أَبا غالِبٍ ... بَعِيدَ القرَابَة من مَعْبَدِ
يعني معبد بن زرارة.

وكان يعيبهم بالخزيرة وذلك أن ركباً من مجاشع مروا في الجاهلية وهم عجالٌ على شهاب التغلبي، فسألهم أن ينزلوا فقالوا: نحن مستعجلون، فقال: لا تجوزوني حتى تصيبوا القرى، فحمل إليهم خزيرةً، فجعلوا يأكلونها على إبلهم ويعظمون اللقمل، وذلك يسيل على لحاهم.
وأما غالب أبو الفرزدق فكان يكنى أبا الأخطل، وكان سيد بادية تميمٍ، وكان أعور، وأمه ليلى بنت حابسٍ أخت الأقرع بن حابسٍ، واستجير بقبره وهو بكاظمة في حمالةٍ، فاحتملها عنه الفرزدق.
وكان له إخوةٌ، منهم هميم بن غالبٍ، وسمي الفرزدق باسمه وهو القائل:
لَعَمْرُ أَبِيكَ فلا تَكْذِبَنْ ... لَقَدْ ذَهَبَ الخَيْرُ إلا قَليلاَ
وقَدْ فُتِّنَ الناسُ في دِينِهمْ ... وخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرّاً طَويَلا
وإنما لقب بالفرزدق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي تشربها النساء، وهي الفرزدقة وكنيته أبو فراسٍ.
وكان للفرزدق أخٌ يقال له الأخطل أسن منه، وابنه محمد ابن الأخطل كان توجه مع الفزردق إلى الشأم، فمات بها، ولا عقب له، ورثاه الفزردق.
وأخته يقال لها جعثن، وكانت امرأة صدقٍ، ونزل الفرزدق في بني منقرٍ والحي خلوفٌ، فجاءت أفعى إلى جارية من بني منقرٍ يقال لها ظمياء، فدخلت معها في شعارها، فصرخت أمها، وجاء الفرزدق فسكنها، واحتال للأفعى حتى انسابت، والتزم الجارية فانتهرته، فقال:
وأَهْوَنُ عَيْبِ المنْقَريَّة أَنَّها ... شَدِيدٌ ببَطْنِ الحَنْظلِىّ لُصُوقُها
فلما بلغ بني منقرٍ قوله أرسلوا رجلا يقال له عمران بن مرة، وأمروه أن يعرض لجعثن أخت الفرزدق، فلما خرجت وثب فضرب بيده على نحرها، فصاحت، ومضى، فعير الفرزدق بذلك.
ومكث الفرزدق زماناً لا يولد له، فعيرته امرأته النوار بذلك فقال:
قالَتْ أَراهُ واحداً لا أَخَا لَهُ ... يْؤَملُهُ في الوارثين الأَباعُد
لَعَلَّك يوْماً أَنْ تَرَينْى كأَنَّما ... بَنَّى حَوَالَىَّ الأُسُودُ الحَوَاردُ
فإِنَّ تَميماً قَبْلَ أَن يَلِدَ الحَصَى ... أَقام زَماناً وهُو في الناس واحدُ
فولد له بعد ذلك لبطة وسبطة وخبطة وركضة من النوار، وزمعة وليس لواحد من ولده عقبٌ إلا من النساء.
وأجاد في قوله:
قالت وكيف يميل مثلك للصبى ... ........البيتين
وكان الفرزدق معنا مفناً، يقول في كل شيءٍ، وسريع الجواب، فمر بقومٍ ولهم، جنازةٌ، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مات أبو الخنساء صاحب البغال، فقال:
ليَبْك أَبا الخَنْساءِ بَغْلٌ وبَغْلَةٌ ... ومِخْلاةُ سَوْءٍ قد أَضيعَ شَعيرهُا
ومِجْرفَةٌ مَطْروحَةٌ ومِحَسَّةٌ ... ومقْرَعَةٌ صَفْراءُ بالِ سُيُورُهَا
ومن إفراطه قوله:
وبَوَّأتُ قِدْرِي..... ... .........البيتين
وكان خلف بن خليفة ظريفاً شاعراً راوية، وكان أقطع له أصابع من جلود فمر بالفرزدق يوماً فقال له: يا أبا فراس من الذي يقول:
هُوَ القَيْنُ وابْنُ القَينِ لا قَيْنَ مِثْلُهُلفَطْحِ المَسَاحِى أَو لجَدْلِ الأَدَاهم
قال الفرزدق: يقوله الذي يقول:
هو اللصُّ وابْنُ اللصُّ لا لِصَّ مِثْلُهُ ... لنَقْبِ جِدارٍ أَو لِطَرَّ الدَّرَاهمِ
وأتى حفصاً السراج يشتري منه سرجاً، فمرت به امرأةٌ جميلةٌ وفي يده سرجٌ ينظر إليه، فألقي السرج من يده وقال:
مَنَعِ الحَيَاةَ منَ الرِّجال ونَفْعَها ... حَدَقٌ تُقَلِّبُها النَّساءُ مِراضُ
خَرَجَتْ إِلَيْكَ ولم تَكُنْ خَرَّاجَةً ... فأُصيبَ صَدْعُ فُؤَادِكَ المنُهْاضُ
وكأَنَّ أَفْئدَةَ الرِّجالِ إِذا رَأَوا ... حَدَقَ النِّياءِ لنَبْلها الأَغْراضُ
ورآه خالد بن صفوان يوماً وكان يمازحه، فقال: يا أبا فراس ما أنت بالذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن! قال: ولا أنت يا أبا صفوان بالذي قالت الفتاة فيه لأبيها: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين.
وجاء عنبسة بن معدان إلى باب بلال، فرأى الفرزدق وقد نعس، فحركه برجله وقال: بلغت النار يا أبا فراس؟ قال: نعم ورأيت أباك ينتظرك!

ومر بيحيى بن الحضين بن المنذر الرقاشي، فقال له: يا أبا فراس هل لك في جدي سمينٍ ونبيذٍ زبيبٍ جيدٍ؟ فقال: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة؟ فانطلق به يحيى وبابن عمٍّ له، فأكلوا ثم دعا بالشراب، فقال الفرزدق: اسقني صرفاً يا غلام، فقال يحيى: أما أنا فلا أشرب صرفاً ولا غيره، فقال الفرزدق:
اسِقْنى خَمْساً وخَمْساً ... وثَلاثاً واثْنَتَيْنِ
من عُقَارٍ كدَمِ الجَوْ ... ف يُحِرُّ الكُلْيتَينِ
واصْرِف الكأْسَ عنِ المَ ... حْرُومِ يحْيى بْنِ حُضَيْن
واسْقِ هذَينِ ثَلاَثي ... نَ يَرُوحَا مَرَحَيْن
وأصابته الدبيلة، فقدم به البصرة، وأتى بطبيبٍ فسقاه قاراً أبيض، فجعل يقول: أتعجلون لي القار في الدنيا؟ ومات وقد قارب المائة، وقيل له في مرضه الذي مات فيه: اذكر الله، فسكت طويلا ثم قال:
إِلى مَنْ تَفْزَعُونَ إِذا حَثَوْتُمْ ... بأَيْديكُمْ علىَّ منَ التُّرَابِ
ومَنْ هذا يَقُومَ لَكُمْ مَقامى ... إِذا ما الرَّيقُ غَصَّ بذي الشَّرَابِ
فقالت له مولاةٌ له: نفزع إلى الله، فقال: أخرجوا هذه من الوصية، وكان قد أوصى لها بمائة درهم.
قال أبو عمرو بن العلاء: كان الفرزدق يشبه من شعراء الجاهلية بزهيرٍ.
وأما النوار امرأة الفرزدق فهي ابنة أعين بن ضبيعة المجاشعي، وكان علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وجه أباها إلى البصرة أيام الحكمين، فقتله الخوارج غيلةً، فخطب النوار رجلٌ من قريش، وأهلها بالشأم، فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليها إذ كان ابن عمها، وكان أقرب من هناك إليها، فقال: إن بالشأم من هو أقرب إليك مني، ولا آمن أن يقدم قادمٌ منهم فينكر ذلك علي، فأشهدي أنك قد جعلت أمرك إلي، ففعلت فخرج بالشهور وقال لهم: قد أشهدتكم أنها قد جعلت أمرها إلي، وإني أشهدكم أني قد تزوجتها على مائة ناقةٍ حمراء سوداء الحدق فذئرت من ذلك، واستعدت عليه، وخرجت إلى عبد الله بن الزبير، والحجاز والعراق يومئذٍ إليه، وخرج الفرزدق فأما النوار فنزلت على خولة ابنة منظور بن زبان الفزاري امرأة عبد الله بن الزبير، فرققتها وسألتها الشفاعة لها، وأما الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير، وهو لخولة، ومدحه، فوعده الشفاعة له، فتكلمت خولة في النوار، وتكلم حمزة في الفرزدق، فأنجحت خولة وخاب حمزة، وأمر عبد الله ابن الزبير أن لا يقربها حتى يصيرا إلى البصرة، فيحتكما إلى عامله، فخرج الفرزدق فقال:
أَمَّا بَنُوهُ فلم تُنْجِحْ شفاعتُهم ... وشُفِّعَتْ بِنْتُ مَنْظُورِ بنِ زَبَّانَا
لَيْسَ الشَّفِيعُ الذي يأْتيكَ مُؤْتَزراً ... مِثْلَ الشَّفيعِ الذي يَأتيكَ عُرْيَانَا
وماتت النوار بالبصرة مطلقة منه، وصلي عليها الحسن البصري رحمه الله.
قال أبو محمد: ولما هجا الفرزدق بني منقر لسبب ظمياء، وهي عمة اللعين الشاعر المنقري، فقال:
وأَهْوَنُ عَيْبِ المِنْقَرِيَّة أَنَّها ... شَديدٌ ببَطْنِ الحَنْظَلِى لُصُوقُهَا
رَأَتْ منْقَراً سُوداً قِصَاراً وأَبْصَرَتْ ... فَتًى دارِميّاً كالهلاَلِ يَرُوقُهَا
فما أَنا هِجْتُ المِنْقَرِيَّةَ للصِّبَى ... ولكنَّها استَعْصَتْ عليها عُرُوقُهَا
استعدوا عليه زياداً، فهرب إلى المدينة وعليها سعيد بن العاصي، فأمنه وأجاره وأظهر زيادٌ أنة لم يرد به سوءاً، وأنه لو أتاه لحباه وأكرمه، فبلغ ذلك الفرزدق، فقال:
دَعَاني زِيادٌ للعَطاءِ ولم أَكُنْ ... لأَقْرَبَهُ ما ساقَ ذو حَسَبٍ وَفْرَا
وعنْدَ زِيادٍ لَوْ يُريدُ عَطَاءَهُمْ ... رِجالٌ كَثيرٌ قد يَرَى بهمِ فَقْرَا
وإني لأَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أَدَاهِمَ سُوداً أَو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا
وخال الفرزدق هو العلاء بن قرظة الضبي، وكان شاعراً، وكان الفرزدق يقول: إنما أتاني الشعر من قبل خالي، وخالي الذي يقول:
إِذَا ما الدَّهْرُ جَرَّ على أُناسِ ... حَوَادثَهُ أَناخَ بآخَرينا
فقُلْ للشامتينَ بنا أَفيقُوا ... سَيَلْقَى الشامتُونَ كما لَقينَا

وله يقول جريرٌ:
كَأَنِ الفَرَزْدَقُ إِذْ يَعُوذ بخاله ... مِثْلُ الذَّليلِ يَعُوذُ تحتَ القَرْمَلِ
والقرمل: شجر ضعيفٌ تقول العرب: ذليلٌ عاذ بقرملة.
ولقي الفرزدق أبا هريرة، وقال له: يا فرزدق أراك صغير القدمين، فإن استطعت أن يكون لهما غداً مقامٌ على الحوض فافعل، وقال الفرزدق: سمعت أبا هريرة يقول على منبر المدينة: الذبيح إسمعيل وأنشد الفرزدق سليمان بن عبد الملك:
ثَلاثٌ واثْنَتانِ فهُنَّ خَمْسٌ ... وسادسَةٌ تَميلُ إلى شِمَامِى
فِبتنَ جَنَابَتَىَّ مُطَرَّحاتٍ ... وبتُّ أَفُضُّ أَغْلاقَ الخِتَامِ
كأَنَّ مَفالِقَ الرُّمانِ فيه ... وجَمْرَ غَضًى قَعَدْنَ عليه حَامِ
فقال له سليمان: أخللت بنفسك، أفررت عليها عندي بالزنا، وأنا إمامٌ فلا بد لي من إقامة الحد عليك! قال: ومن أين أوجبته علي؟ قال: لقول الله عز وجل: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدةٍ " قال الفرزدق: فإن كتاب الله يدرؤه عني، يقول الله تبارك وتعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون " . فأنا قلت ما لم أفعل.
وأتى سليمان بأسرى من الروم، وعنده الفرزدق فقال له: قم فاضرب أعناق هؤلاء، فاستعفاه من ذلك فلم يعفه، ودفع إليه سيفاً كليلاً، فقام الفرزدق فضرب به عنق رجل منهم، فنبا السيف، فضحك سليمان ومن حوله، فقال الفرزدق:
ما يُعْجِبُ الناسَ أَنْ أضْحَكْتُ خَيْرَهُمُ ... خليفَةَ الله يُسْتَسْقَى به المَطَرُ
لم يَنْبُ سَيْفِىَ من رُعْبٍ ولا دَهَشٍ ... عَنِ الأَسيرِ ولكنْ أُخِّرَ القَدَرُ
ولَنْ يُقَدِّمَ نَفْساً قَبْلَ مِيتَتهِا ... جَمْعُ اليَدَيْنِ ولا الصَّمْامَةُ الَّذكرُ
وفي ذلك يقول جريرٌ:
بَسيْفِ أَبى رَغْوَانَ قَيْنِ مُجَاشعٍ ... ضَرَبْتَ ولم تَضْرِبْ بسَيْف ابنِ ظَالمِ
ضرَبْتَ به عنْدَ الإِمامِ فأُرْعِشَتْ ... يَدَاكَ وقالوا مُحْدَثٌ غَيْرُ صارِمِ
فأجابه الفرزدق:
ولا نَفْتُلُ الأَسْرَى ولكنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذا أَثْقَلَ الأَعْناقَ حَمْلُ المَغَارِم
وهَلْ ضَرْبةُ الرُّومِّى جاعلَةٌ لَكُمْ ... أَباً عن كُلَيْبٍ أَو أَخاً مثْلَ دارِمِ
ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلب في الحبس فقال:
أصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّماحَةُ والْ ... جُودُ وحَمْلُ الدَّياتِ والإِفْصالُ
فقال له: أتمدحني وأنا على هذه الحال؟ قال: أصبتك رخيصاً فأسلفتك.
ومما سبق إليه فأخذ منه أو سبق إليه فأخذه قوله:
ومُنْتَكثٍ علَلْتُ بالَّسوْط رَأْسَه ... وقد كَفَرَ الخُرُوقَ الخَوَاليَا
يعني بالمنتكث بعيراً انتكث أي هزل، وقال الآخر: في وصف سوط:
ومُنْتَكثٍ عالَلْتُ مُلْتاثَةً به ... وقد حَدَرَ اللَّيْلُ النُّسُورَ العَوالَيا
وأخذ عليه قوله:
وعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوَانَ لم يَدَعْ ... منَ المالِ إلا مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ
وقد أكثر النحويون في الاحتيال لهذا البيت، ولم يأتوا فيه بشيءٍ يرتضى.
وقوله:
وعنْدِي حُسامَا سَيْفِهِ وحمائِلُهُ
أراد حسان سيفه فثنى، ومثله لقيس بن الخطيم يصف الدرع:
كأَنَّ قَتيرَيْها عُيُونُ الجَنَادِبِ
أراد قتيرها، والقتير: مسامير الدرع، ومثله قول جرير:
لمَّا تّذَكَّرْتُ بالدَّيْريْنِ أَرَّقَنى ... صَوْتُ الدَّجاجِ وقَرْعٌ بالنَّوَاقِيسِ
أراد دير الوليد، فنثى، وهو دير مشهور بالشأم.
وعابه الأخطل بقوله:
أَبَنى غُدانَةَ إِننى حَرَّرْتُكُمْ ... ووهَبْتُكُمْ لعطِيَّةَ بن جِعَالِ
لَوْلاَ عَطِيَّةُ لاَجْتَدَعْتُ أُنُوفَكُمْ ... من بَيْن أَلْأَمِ آنُفٍ وسِبَالِ
وقال: كيف يهبهم له وهو يهجوهم هذا الهجاء؟ وقال عطية بن جعالٍ حين سمع هذا: ما أسرع ما رجع أخي في عطيته.
ومن جيد الشعر قوله لجرير:
فإِنْ تَكُ كَلْباً من كُلَيبٍ فإِننى ... مِنَ الدارِمِيِّينَ الطَّوَالِ الشَّقَاشِق

هُمُ الداخِلُونَ البَيْتَ لا تَدْخُلُونَهُ ... على المَلْكِ والحامُونَ عنْدَ الحَقَائقِ
ونَحْنُ إِذا عَدَّتْ مَعَدٌّ قَدِيمَها ... مَكانَ النَّواصي من وُجُوه السَّوَابِقِ
وقوله يهجوه:
ولَوْ يُرْمَى بلُؤْمِ بَنى كُلَيبٍ ... ........الأبيات
ومات الفرزدق قبل جرير فلما بلغ جريراً موته قال:
هَلَكَ الفَرَزْدَقُ بَعْدَما جَدَّعْتُهُ ... لَيْتَ الفَرَزْدقَ كان عاشَ قَلِيلاَ
ثم أطرق طويلاً وبكى، فقيل له: يا أبا حرزة ما أبكاك؟ قال: بكيت لنفسي، إنه والله قل ما كان اثنان مثلنا أو مصطحبان أو زوجان إلا كان أمد ما بينهما قريباً، ثم أنشأ يقول مرثياً له:
فُجِعْنا بحَمَّالِ الدَّيَاتِ ابْنِ غالِبٍ ... وحامِى تَمِيمٍ عِرْضَها والبَرَاجِمِ
بَكَيْنَاكَ حِدْثانَ الفِراق وإِنَّما ... بَكَيْناك إِذ نابَتْ أُمُورُ العظائِم
فلا حَملَتْ بَعْدَ ابْنِ لَيْلَى مَهِيرةٌ ... ولا شُدَّ أَنْسَاعُ المَطِىِّ الرَّواسِمِ

الأخطل
هو غياث بن غوثٍ، من بني تغلب، من فدوكسٍ، ويكنى أبا مالكٍ.
وقال مسلمة بن عبد الملك: ثلاثةٌ لا أسأل عنهم، أنا أعلم العرب بهم: الأخطل والفرزدق وجرير، فأما الأخطل فيجىء سابقاً أبداً، وأما الفرزدق فيجىء مرةً سابقاً ومرةً، ثانياً، وأما جريرٌ فيجيء سابقاً مرةً وثانياً مرةً وسكيتاً مرةً.
وكان الأخطل يشبه من شعراء الجاهلية بالنابغة الذبياني.
ودخل على عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين قد امتدحتك، فقال: إن كنت تشبهني بالحية والأسد فلا حاجة لي بشعرك! وإن كنت قلت مثل ما قالت أخت بني الشريد، يعني الخنساء، فهات، فقال:
وما بلغَتْ كَعْبُ امْرِىءٍ مُتَطاولٍ ... به المجْدُ إلاَّ حَيْثُ ما نلْتَ أَطوَلُ
وما بَلَغ المُهْدُونَ في القوْلِ مِدْحَةً ... ولَوْ أَكْثَرُوا إِلاَّ الذي فيكَ أَفْضَلُ
وكان الأخطل يمدح بني أمية، مدح معاوية ويزيد ومن بعدهم من خلفاء بني مروان حتى هلك.
وقال أبو عبيدة: حدثني أبو حية النميري قال: حدثني الفرزدق قال: كنا في ضيافة معاوية ومعنا كعب بن جعيل التغلبي الشاعر، فقال له يزيد بن معاوية: إن عبد الرحمن بن حسانٍ قد فضح عبد الرحمن بن الحكم وغلبه وفضحنا، فاهج الأنصار، فقال له كعبٌ: أرادي أنت إلى الشرك؟ أهجو قوماً نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه! ولكني أدلك على غلامٍ منا نصراني ما يبالي أن يهجوهم، كافرٌ شاعرٌ كأن لسانه لسان ثور! قال: ومن هو؟ قال: الأخطل، فدعاه وأمره بهجائهم، فقال: على أن تمنعني منهم؟ قال: نعم، فقال شعراً فيه:
ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ بالسَّمَاحَةِ والنَّدَى ... واللُّؤْمُ تَحْتَ عَمَائِم الأَنصارِ
فذَرُوا المَعالِىَ لَسْتُمُ من أَهْلَها ... وخُذُوا مَساحِيتَكُمْ بَنى النَّجَّارِ
فغصب النعمان بن بشيرٍ، ودخل على معاوية فوضع عمامته بين يديه، وقال: هل ترى لؤماً؟ قال: بل أرى كرماً وحسباً، فما ذلك؟ فأنشده قول الأخطل واستوهبه لسانه، فوهبه له، فبلغ ذلك الأخطل، فعاذ بيزيد، فمنعه وصار إلى أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أتهب لسان من رد عنك وغضب لك؟ قال: ومن هجانا؟ قال: عبد الرحمن بن حسانٍ، وأنشده قوله في رملة بنت معاوية:
وهْىَ زَهْراءُ مِثْلُ لُؤْلُؤَة الغَ ... وَّاصِ مِيزَتْ من جَوْهَر مَكُنونِ
قال: ما كذب يا بني، فأنشده:
وإِذا ما نَسَبْتَها لم تَجِدْها ... في سَنَاءٍ منَ المَكارِمِ دُونِ
قال: قد صدق يا بني، فأنشده:
ثُمَّ خاصَرْتُها إلى القُبَّة الخَضْ ... رَاءِ تَمْشِي في مَرْمَر مَسْنُونِ
فقال: أما في هذا فقد أبطل.
ولما قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب السلمي أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان، والجحاف السلمي عنده، في شعرٍ له:
أَلاَ سَائلِ الجَحَّافَ هَلْ هو ثائرٌ ... بقَتْلَى أُصيبَتْ من سُلَيْمٍ وعامِرِ
فخرج الجحاف من فوره ذلك مغضباً حتى أغار على البشر، وهو ماءٌ لبني تغلب، وقتل منهم ثلاثةً وعشرين رجلا، وقال:

أَبا مالِكٍ هل لُمْتَنى مُذْ حَضَضْتَنى ... على القَتْلِ أَم هَلْ لامَنى لَكَ لائِمُ
متى تَدْعُنى أُخْرَى أُجِبْكَ بمثْلِها ... وأَنْتَ امْرُؤٌ بالحَق لَيَس بعالِمِ
فخرج الأخطل حتى أتى عبد الملك بن مروان وقد قال:
لَقَدْ أَوْقَعَ الجَحَّافُ بالبِشْرِ وقْعَةً ... إلى الله منها المُشْتَكَى والمُعَوَّلُ
فإِلاَّ تُغَيِّرْها قُرَيْشٌ بمُلْكِها ... يَكُنْ عن قُرَيْشٍ مُسْتَمازٌ ومَزْحَلُ
فقال له عبد الملك: إلى أين يا ابن اللخناء؟ قال: إلى النار يا أمير المؤمنين! قال: أما والله لو غيرها قلت لضربت عنقك.
ونزل الأخطل على سعيد بن بيان التغلبي، وكان سعيدٌ رجلا دميماً أعور ذا مالٍ كثيرٍ، وكان سيد بني تغلب بالكوفة، وكانت تحته برة بنت أبي هانىٍ التغلبي، وكانت من أجمل النساء، فاحتفل له سعيدٌ وأحسن صلته وأكرمه، فلما أخذت الكأس من الأخطل جعل ينظر إلى وجه برة وجمالها وإلى دمامة زوجها وعوره! فتعجب منها ومن صبرها عليه، فقال له سعيدٌ: يا أبا مالكٍ، أنت رجل تدخل على الخلفاء والملوك وتنظر إلى هيئتهم وتأكل من طعامهم وتشرب من شرابهم: فأين ترى هيئتنا من هيئتهم؟ وهل ترى عيباً تنبهنا عليه؟ فقال له الأخطل: ما لبيتك عيبٌ غيرك! فقال له سعيدٌ: أنا والله أحمق منك يا نصراني حين أدخلتك منزلي، وطرده، فقال:
وكَيْفَ يُدَاوِينى الطَّبيبُ منَ الجَوَى ... وبَرَّةُ عِنْدَ الأَعْوَرِ ابن بَيَانِ
ويُلْصقْ بَطْناً مُنْتنَ الرِّيحِ مُجْرِزاً ... إلى بَطْنِ خَوْدٍ دائم الخَفَقانِ
يُنَهْنهُنى الأَحراسُ عنها ولَيْتَنى ... قَطَعْتُ إِليها اللَّيْلَ بالرَّسَفَانِ
فهَلاَّ زَجَرْتِ الطَّيْرَ إِذْ جاءَ خاطباً ... بضَيْقَةَ بَيْنَ النَّجْمِ والدَّبَرَانِ
ومما سبق إليه الأخطل فأخذ منه قوله:
قَوْمٌ تُعَلَّقُ أَشْنَاقُ الدِّيَاتِ به ... إِذَا المِؤُونَ أُمِرَّتْ فَوْقَهُ حَمَلاَ
أخذه الكميت فقال:
كأَنَّ الدِّيَاتِ إِذا عُلِّقَتْ ... مِؤُوها به الشَّنَقُ الأَسْفَلُ
وأشناق الديات: أصنافها من الحقاق والجذاع وأشباهها.
وقال الأخطل:
أَجَرِيرُ إِنَّكَ والذي تَسْمُو له ... كأَسِيفَةٍ فَخَرَتْ بحِدْجِ حَصَانِ
أخذه الطرماح فقال:
كفَخْرِ الإماءِ الرَّائحات عَشَّيةً ... بِرَقْمِ حُدُوجِ الحَىِّ لَمَّا استَقَلِّتِ
ومما أخذ عليه قوله في عبد الملك بن مروان:
وقد جَعَلَ الله الخلاَفَةَ مِنْهُمُ ... لأَبْيضَ لا عارِى الخِوانِ ولا جَدْب
وهذا مما لا يجوز أن يمدح به خليفةٌ، ويجوز أن يمدح به غيره، كقول الآخر:
إلَى امْرِىءٍ لا تَخَطَّاه الرِّفَاقُ ولاجَدْبِ الخَوانِ إِذَا ما اسْتُنِشىءَ المَرَقُ
وأخذ عليه قوله في رجل من بني أسدٍ أجاره:
نعْمَ المُجيرُ سِمَاكٌ من بنى أَسَد ... بالطَّفِّ إِذْ قَتَلَتْ جِيرانَها مُضَرُ
قد كُنْتُ أَحِسْبُهُ قَينْاً وأُنْبَؤُهُ ... فاليَوْمَ طُيْرَ عن أَثْوابِهِ الشَّرَرُ
وكان يقال لرهطه القيون، وقال الأخطل: فلما أجارني وأحسن إلي طار الشرر عن أثوابه، أي بطل هذا اللقب. وهذا مدحٌ كالهجاء! وقوله لسويد بن منجوفٍ يهجوه:
وما جِذْعُ سَوْءٍ خَرَّبَ السُّوسً وسْطَه ... لِمَا حَمَّلَتُهُ وائِلٌ بِمُطِيق
فقال سويدٌ: هجوتني بزعمك فمدحتني، لأنك جعلت وائلا حملتني أمرها، وما طعمت في بني تغلب منها! ومما يستجاد من شعر جريرٍ والفرزدق والأخطل: قول جريرٍ لأبيه أو جده:
فأَنْتَ أَبي ما لم تَكُنْ لِىَ حاجَةٌ ... فإِنْ عَرَضَتْ أَيْقَنْتُ أَنْ لا أَبَاليَا
وإِنى لمَغْرُورٌ أُعَلَّلُ بالمُنَى ... ليَالِىَ أَرْجُو أَنَّ مالَكَ مالِيَا
بأَيِّ نِجادٍ تَحْمِلُ السَّيْفَ بَعْدَما ... قَطَعْتَ قُوًى من مِحْتَملٍ كان باقيَا
بأَيِّ سنانٍ تَطْعُنُ القَوْمَ بعدما ... نَزَعْتَ سَناناً من قَنَاتكَ ماضِيَا

أَلم أَكُ ناراً يَصْطَليها عَدُوُّكُمْ ... وحِرزْاً لِمَا أَلْجَأْتُمُ مِنْ ورَائِيَا
وباسِطَ خَيْرٍ فيكُمُ بيَمينه ... وقابِضَ شَرٍّ عَنْكمُ بشِماليَا
أَلاَ لاَ تَخَافَا نَبْوَتى في مُلمَّةٍ ... وخافا المَنَايا أَنْ تَفُوتَكُما بِيَا
وقوله:
يا أُخْتَ ناجِيَةَ السَّلامُ عَلَيْكُمُ ... قَبْلَ الرَّحِيلِ وقَبْلَ لَوْمِ العُذَّلِ
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمْ أَنَّ آخِرَ عَهْدِكمُ ... يَوْمُ الرَّحيلِ فَعَلْتُ ما لم أَفْعَل
أَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ وشْكَ بَيْنٍ عاجِل ... لَقَنعْتُ أَو لَسَأَلْتُ ما لم أَسْأَلِ
وقدم جريرٌ المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب فيهم، فسلموا عليه وحادثوه ساعةً، ثم خرجوا وبقي أشعب، فقال جريرٌ له: أراك قبيح الوجه وأراك لئيم الحسب! ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له أشعب: إنه لم يدخل عليك أحدٌ هو أنفع لك مني! قال: وكيف ذاك؟ قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي، فقال له جريرٌ: فقل فاندفع أشعب يتغنى:
يا أُختَ ناجِيَةَ السلامُ عليكمُ
فاستخف جريراً الطرب لغنائه بشعره، حتى زحف إليه فاعتنقه، وسأله عن حوائجه، فأخبره فقضاها.
وقوله في الفرزدق:
لَقَدْ ولَدَتْ أُمُّ الفَرَزْدَقِ فاجِراً ... فجاءَت بوزْوَازٍ قَصيرِ القَوَائِم
وما كان جارٌ للفَرَزْدِقَ مُسْلمٌ ... ليَأْمَنَ قِرْداً لَيْلُهُ غَيْرُ نائمِ
يُوَصِّلُ حَبْلَيْه إِذا جَنَّ لَيْلُهُ ... لِيَرْقَى إلى جاراته بالسَّلالمِ
أَتَيْتَ حُدُودَ الله مُذْ أنتَ يافعٌ ... وشبْتَ فما يَنْهاكَ شَيْبُ اللَّهازِم
تَتَبَّعُ في الماخُورِ كلَّ مُرِيبَةٍ ... ولَسْتَ بأَهْلِ المُحْصَنَات الكَرَائم
هو الرِّجْسُ يا أَهْلَ المَدينةَ فاحْذَرُوا ... مَدَاخلَ رِجْسٍ بالخَبِيثات عالم
لَقَدْ كان إخْراجُ الفَرَزْدَقِ عَنْكُمُ ... طَهُوراً لما بَيْنَ المُصَلَّى ووَاقمِ
وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه حين بلغه فجور الفرزدق نفاه عن المدينة.
تَدَلَّيْتَ تَزْنى من ثمَانينَ قامَةً ... وقَصَّرْتَ عن باعِ العُلَى والمَكارِمِ
أراد قول الفرزدق:
هُمَا دَلَّتانى من ثمانينَ قامَةً ... كَمَا انْقَضَّ بازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كاسرُه
فلمّا اسْتَوَتْ رِجْلاىَ في الأَرضِ قالَتَا ... أَحَىٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتيلٌ نُحاذِرُه
فقُلْتُ ارْفَعَا الأَسبابَ لا يَشْعُرُ وابنا ... وأَقْبَلتُ في أَعجْازِ لَيْلٍ أُبادِرُهْ
أَبادرُ بَوَّابَيْنِ قد وُكِّلاَ بِنَا ... وأَحْمَرَ من ساجٍ تَبِصُّ مَسامرُهْ
ومن جيد شعر جرير مرثيته أم حزرة امرأته، وكان جرير يسميها الجوساء، لذهابها في البلاد وأولها:
لَوْلاَ الحَيَاءُ لَعادَني اسِتْعبارُ ... وَلَزُرْتُ قَبْرَك والحَبيِبُ يُزَارُ
ولَّهْت قَلبي إِذْ عَلَتْنى كَبْرَةٌ ... وذَوُو التَّمائمِ من بَنيك صغارُ
لا يُلْبِثُ الأَحبابَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا ... لَيْلٌ يَكُرُّ عَليهمُ ونَهارُ
صَلَّى المَلاَئكَةُ الذينَ تُخَّيرُوا ... والطَّيِّبُونَ عليك والأَبْرَارُ
فلقد أَراكِ كُسيت أَحْسَنَ مَنْظَر ... ومَعَ الجَمَالِ سَكينَةٌ ووَقارُ
كانَتْ إِذا هَجرَ الحَبيِبُ فرَاشَها ... خُزِنَ الحَديثُ وعَفَّتِ الأَسْرارُ
وقوله:
كيف العَزاءُ ولم أَجِدْ مُذْ بنْتُمُ ... قَلْباً يَقَرُّ ولا شَرابً يَنْقَعُ
ولقد صَدَقْتُكِ في الهَوَى وكَذَبتني ... وخَلَفْتِنى بمَواعد لا تَنْفَعُ
حَيُّوا الدَّيارَ وسائُلوا أَطْلالَها ... هَلْ تَرْجعُ الخَيَرَ الدِّيارُ البَلقْعَ
ولقد حبَسْتُ لَك المَطِىَّ فلم يَكُنْ ... إلا السَّلامُ ووَكْفُ عَيْنٍ تَدْمَعُ

بانَ الشَّبَابُ حَمِيدَةً أَيَّامُهُ ... لَوْ أَنَّ ذلكَ يُشْتَرَى أَو يَرْجِعُ
رَجَفَ العِظَامُ منَ البِلَى وتَقَادَمَتْ ... سنًى وفِىَّ لمُصْلحٍ مُسْتَمْتَعُ
وفيها يقول:
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَن سَيَقْتُلُ مِرْبَعاً ... أَبْشِرْ بِطُولِ سَلاَمَةٍ يا مِرْبَعُ
ومما يختار للفرزدق قوله يهجو بني كليبٍ:
ولَوْ تُرْمَى بُلؤْمِ بنى كُلَيبٍ ... نُجُومُ اللَّيْلِ ما وَضَحَتْ لسارِى
ولو لَبِسَ النَّهارَ بَنْو كُلَيبٍ ... لدَنَّسَ لُؤْمُهُمْ وَضَحَ النَّهارِ
وما يَغْدُو عَزِيزُ بنى كُلَيْبٍ ... لِيَطْلُبَ حاجَةً إلا بجَار
ومن إفراط الفرزدق قوله في العذافر بن زيد:
لَعَمْرُكَ ما الأَرْزَاقُ حينَ اكْتِيالِها ... بأَكْثَرَ من خِوانِ العُذَافرِ
ولو ضافَهُ الدَّجَّالُ يلْتَمِسُ القِرَى ... وحَلَّ على خَبَّازِهِ بالعُساكِرِ
بعِدَّةِ يا جُوجٍ وما جُوجَ كُلَّهمْ ... لأَشْبَعَهُمْ يَوْماً غدَاءُ العُذَافِرِ
وقال بعض أهل الأدب: هذا الطعام اتخذ في قدر القائل:
بَوَّأتُ قدْرِى مَوْضعاً فوَضَعْتُها ... برَابِيَةٍ من بَيْنِ مِيُثٍ وأَجرَعِ
جَعَلْتُ لها هَضْبَ الرِّجامِ وطِخْفَةٌ ... وغَوْلاً أَثافي قدْرِنا لم تُنَزَّعِ
بقدْرٍ كأَنَّ اللَّيْلَ شحْنَةُ قَعْرِها ... تَرَى الفيلَ فيها طافياً لم يُقَطَّعِ
ويختار للفرزدق قوله:
وتَقُولُ كيف يَميلُ مثْلُكَ للصَّبَا ... وعليكَ من سِمَة الكَبيرِ عِذَارُ
والشَّيبُ يَنْهَضُ في الشَّبَابِ كأَنَّهُ ... لَيْلٌ يَصيحُ بجانِبَيْه نَهارُ
وقوله:
تَبَارِيقُ شَيْبٍ في السَّوَادِ لَوَامِعٌ ... وما خَيْرُ لَيْلٍ ليس فيه نُجُومُ
ويختار للأخطل قوله في سكران:
صَريعُ مُدامٍ يَرْفَعُ الشَّرْبُ رَأسَهُ ... لِيَحْيا وقد ماتَتْ عِظامٌ ومَفْصِلُ
نُهاديهِ أَحْيَاناً وحيناً نَجُرٌّه ... وما كاد إلا بالحُشاشَةِ يَعْقلُ
إِذا رَفَعُوا صَدْراً تَحَامَلَ صَدْرُهُ ... وآخَرُ ممَّا نال منها مُحَمَّلُ
وقوله في الزقاق:
أَناخُوا فجُرُّو شاصِيَاتِ كأَنَّها ... رِجالٌ منَ السُّودَانِ لم يَتَسَرْبَلُوا
فقُلْتُ اصْبَحُوني لا أَبَا لأَبِيكُمُ ... وما وضَعُوا الأَثْقالَ إِلا لِيَفْعَلُوا
يَدبُّ دَبِيباً في العِظامِ كأَنَّه ... دَبِيبُ نِمال في نَقاً يَتَهَيَّلُ
ويختار له قوله أيضاً:
يا قَلَّ خَيْرُ الغَوَاني كَيْفَ رَغْنَ بِهِ ... فشُرْبُهُ وَشَلٌ فِيهنَّ تَصْرِيدُ
أَعْرَضْنَ مِن شَمَطٍ بالرأسِ لاحَ به ... فهُنَّ مِنى إِذَا أَبْصَرنَنى حِيدُ
قد كُنَّ يَعْهَدْنَ مِنَّى مَضْحكاً حَسَناً ... ومَفْرِقاً حَسَرَتْ عنه العَناقِيدُ
فهُنَّ يَشْدُونَ مِنَّى بَعْضَ مَعْرفَة ... هُنَّ بالوَصْلِ لا بُخْلٌ ولا جُودُ
هَلِ الشِّبَابُ الذي قد فات مَرْدُودُ ... أَمْ هَلْ دَوَاءٌ يَرُدُّ الشَّيْبَ مَوْجُودُ
لَنْ يَرْجعَ الشِيبُ شُبَّاناً ولَنْ يَجِدُواعِدْلَ الشَّبَابِ لَهُمْ ما أَوْرَقَ العُودُ
إِنَّ الشبابَ لَمحمودٌ بَشَاشتُه ... والشَّيبُ مُنْصَرَفٌ عنه ومَصدودُ
وقوله:
لقد لَبِسْتُ لِهذا الدَّهْرِ أَعْصُرهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأسي الشَّيْبُ واشْتَعَلا
فبانَ مِنى شَبَابي بَعْدَ لَذَّتِهِ ... كأَنَّما كان ضَيْفاً نازلاً رَحَلاً
وقوله في بني أمية:
حُشْدٌ على الحَقِّ عَيَّافُر الخَنَا أُنُفٌ ... إِذا أَلَمَّتْ بهمْ مَكْرُوهَةٌ صَبَرُوا
شُمْسُ العَدَاوَةِ حَتَّى يُسْتَقَاد لَهُمْ ... وأَعْظَمُ الناسِ أَحلاماً إِذَا قَدَرُوا
ويستجاد للأخطل قوله:

ولقد غَدَوْتُ على التِّجارِ بمِسْمَحِ ... هَرَّتْ عَواذِلُهُ هَرِيرَ الأَكْلُبِ
لَذٍّ يُقَبِّلُهُ النَّعِيمُ كأَنَّما ... مُسِحَتْ تَرَائِبُهُ بماءٍ مُذْهَب
لَبَّاسِ أَرْدِيَة المُلُوكِ تَرُوقُهُ ... من كُلِّ مُرْتَقَبٍ عُيُونُ الرَّبْرَبِ
يَنْظُرْنَ من خَلَلِ السُّتُورِ إِذا بَدَا ... نَظَر الهجان إلى الفَنِيق المُصْعَب
خَضِلِ الكِيَاسِ إِذا تَثَنَّى لم يَكُنْ ... خُلُفاً مَوَاعِدُهُ كبَرْقٍ خلَّبِ
وإِذا تُعُوِّرَتِ الزُّجَاجَةُ لم يَكُنْ ... عِنْدَ الشُّرُوبِ بعابِسٍ مُتَقَطِّبِ
ومما سبق إليه الأخطل قوله:
وإِذا دَعَوْنَك عَمَّهُنَّ فإِنَّه ... نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنَّ خَبَالاَ
وقال القطامي:
وإِذا دَعَوْنَك عَمَّهُنَّ فلا تُجِبْ ... فهُنَاكَ لا يَجْدُ الصَّفاءُ مَكاناَ
نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنَّ حَقَارَةً ... وعلى ذَوَاتِ شَبَابهِنَّ هَوَانَا
وقوله لزفر بن عمروٍ من هوازن:
لَعَمْرُ أَبِيك يا زُفَرُ بنَ عمْروٍ ... لقد نَجَّاكَ جَدُّ بَنى مُعازِ
ورَكْضُكَ غَيْرَ مُلْتَفِتِ إليها ... كأَنَّك مُمْسِكٌ بجَنَاحِ بازِى
لعمر أبي هَوَازِنَ ما جَزِعْنا ... ولا هَمَّ الظَّعَائِنُ بانْحِيازِ
ظَعائِنُا غَدَاةَ غَدَتْ علينا ... ونِعْمَتْ ساعَة السَّيفِ الجُزَارِ
ولاقَى ابنُ الحُبَابِ لَنَا حُمَيَّا ... كَفَتْه كلَّ راقِيةٍ وحازِ
وكان بنا يَحُلُّ ولا يُعَانَى ... ويَرْعَى كلَّ رَمْلٍ أَو عَزَازِ
فلمّا أَنْ سَمِنْتَ وكُنْتَ عَبْداً ... نَزَتْ بك يا بْنَ صَمْعاءَ النَّوازِى
عَمَدْتَ إلى رَبِيعَةَ تَعْتَرِيها ... بمثْلِ القَمْلِ من أَهْلِ الحِجاز
فنِعْمَ ذوُو الجِنَايَةِ كن قَوْمِى ... لِقَوْمِكَ لَوْ جَزَى بالخَيْرِ جازِى

البعيث
هو خداش بن بشرٍ، من بني مجاشع، من ولد خالد بن بيبة، وأمه أصبهانيةٌ يقال لها مردة أو وردة، وإنما لقب بالبعيث بقوله:
تَبَعَّثَ مِنَّى ما تَبَعَّثَ بَعْدَ ما ... أُمِرَّتْ قُوَايَ واسْتَمَرَّ عَزِيمِى
أراد أنه قال الشعر بعد ما أسن وكبر، ويكنى أبا مالكٍ، وكان البعيث أخطب بني تميمٍ إذا أخذ القناة، وله عقبٌ بالبادية، وكان يهاجى جريراً.
وقال أبو عبيدة: سألت بعض بني كليبٍ فقلت: ما أشد ما هجيتم به؟ قال: قول البعيث:
أَلَسْتَ كُلَيْبيّاً إِذا سِيمَ خُطَّةً ... أَقَرَّ كإِقْرارِ الحَلِيلَةِ للبَعْلِ
وكلُّ كُلَيْبَىٍّ صَحِيفَةُ وَجْهِهِ ... أَذَلُّ لأَقْدَامِ الرجالِ منَ النَّعْل
وكلُّ كُليبٍّى يَسُوقُ أَتانَهُ ... له حاجَةٌ من حيْثُ تُثْفَرُ بالحَبْل
سَوَاسِيَةٌ سُودُ الوُجُوهِ كأَنَّهم ... ظَرَابِىُّ غِرْبانٍ بمَجْرُودَة مَحْل
وكان للبعيث أولادٌ: منهم مالكٌ وبكرٌ، وخرجا مع أبيهما إلى المدينة، فأرسلهما يرعيان عليه الإبل، فمرض مالكٌ، فأرسل بكراً إلى أبيه ليقدم عليه، فقدم فوجده قد مات، فقال:
أرْسَلَ بَكْراً مالِكٌ يَسْتَحثُّنا ... يُحاذرُ من رَيب المَنُونِ فلم يَئلْ
أَمالكُ مَهْمَا يَقْضِهِ اللهُ تَلْقَهُ ... وإِنْ حانَ رَيْثٌ من رَفِيقِكَ أَو عَجِلْ
اللعين المنقري
هو منازل بن ربيعة من بني منقر، ويكنى أبا أكيدر، وعمته ظمياء التي ذكرها الفرزدق فاستعدت عليه بنو منقرٍ، فهرب من زياد إلى المدينة.
وقيل له: اقض بين الفرزدق وجرير، فقال:
سَأَقْضي بَيْنَ كَلْبِ بني كُلَيبْ ... وبين القَيْنِ قَيْنِ بني عقَال
فإِنَّ الكَلْبَ مَطْعَمُهُ خَبيثٌ ... وإِنَّ القَيْنَ يَعْمَلُ في سَفَالِ
فلا بُقْيَا علىَّ تَرَكْتُماني ... ولكنْ خفْتُما صَرَدَ النِّبَال

يقال صرد السهم: إذا نفذ.
وكان اللعين هجاءً للأضياف، وهو القائل في ضيف نزل به:
وأَبِغضُ الضَّيْفَ ما بي جُلُّ مَأْكِله ... إلا تَنَفُّجُهُ حَوْلِى إِذا قَعَدَا
ما زال يَنْفُخُ كِتْفَيْهِ وحُبْوَتَه ... حتى أَقُولُ لَعَلَّ الضَّيْفَ قد ولَدَا

الصلتان العبدي
هو قثم بن خبيئة، من عبد القيس.
واجتمع إليه في الحكم بين الفرزدق وجريرٍ، فقال:
أَنا الصَّلَتَانِىُّ الذي قد عَلِمْتُمُ ... مَتَى ما يُحَكَّمْ فَهْوَ بالحَقِّ صادعُ
أَتَتْنى تَميمٌ حينَ هابَتْ قُضاتُها ... وإِنى لَبالفَصْلِ المُبَيَّنِ قاطِعُ
كما أَنَفَذَ الأَعْشَى قَضِيَّةَ عامِرٍ ... وما لِتَميمٍ في قَضَائي رَوَاجعُ
ولم يَرْجعِ الأَعْشَى قَضيَّةَ جَعْفَرٍ ... وليس لحُكْمِى آخرَ الدَّهْرِ راجعُ
سأَقْضى قَضَاءً بَيْنَهُمْ غير جائرٍ ... فهَلْ أَنْتَ للحُكْمِ المُبَيَّنِ سامعُ
قَضاءَ امْرِىءٍ لا يَتَّقِى الشَّتْمِ منهمُ ... وليس له في المدْحِ منهمْ مَنافعُ
قضاءَ امرىءٍ لا يرتشي في حُكُومةٍ ... إِذَا مال بالقاضي الرُّشَا والمَطَامعُ
فإِنْ كُنْتُما حَكَّمْتُماني فأَنْصِتَا ... ولا تَجْزَعَا ولَيرْضَ بالحَقَّ قانعُ
فإِنْ تَرْضَيَا أَو تَجْزَعَا لا أُقلْكُما ... وللحَقِّ بين الناسِ راضٍ وجازِعُ
فأُقْسمُ لا آلُو عَنِ الحَقَّ بَيْنَهُمْ ... فإِنْ أَنا لم أَعْدِلْ فقُلْ أَنْتَ ضالِعُ
فإِنْ يَكُ بَحْرُ الحَنْظَلَّيينِ واحداً ... فما تَسْتَوِى حيتَانُهُ والضَّفادعُ
وما يَسْتَوِى صَدْرُ القَنَاة وزُجُّها ... وما يَسْتَوِى شُمُّ الذُّرَى والأَكارِعُ
وليس الذُّنَابَى كالقُدَامَى ورِيشِهِ ... وما تَسْتَوِى في الكَفِّ منْكَ الأَصابعُ
أَلاَ إِنَّما تَحْظَى كُلَيْبٌ بشعْرِها ... وبالمَجْد تَحْظَى دارِمٌ والأَقارِعُ
ومنهم رؤوسٌ يُهْتَدى بصُدورِها ... والاَذْنابُ قِدْماً للرؤوس تَوَابعُ
أَرَى الخَطَفَى بَذَّ الفَرَزَدْقَ شِعْرُهُ ... ولكنَّ خَيْراً من كُلَيْب مُجاشعُ
فَيَا شاعراً لا شاعرَ اليَوْمَ مثْلُهُ ... جَرِيرٌ ولكِنْ في كُلَيب تَوَاضُعُ
جَرِيرٌ أَشَدُّ الشاعرَيْنِ شَكيمَةً ... ولكنْ عَلَتُهُ الباذخاتُ الفَوَارعُ
ويَرْفَعُ من شِعْرِ الفَرَزْدَق أَنَّهُ ... له باذِخٌ لِذِى الخَسيسَة رافعُ
وقَدْ يُحْمَدُ السَّيفُ الدَّدَانُ بجَفْنِهِ ... وتَلْقاهُ رَثّاً غِمْدُهُ وهُوَ قاطعُ
يُنَاشدُني النَّصْرَ الفَرَزْدَقُ بعدما ... أَلَحَّتْ عليه من جَرِيرٍ صَوَاقعُ
فقُلْتُ له إِنى ونَصْرَكَ كالذي ... يُثَبِّتُ أَنْفاً كَشَّمَتْهُ الجَوَادعُ
وقالَتْ كُلَيبٌ قَدْ شَرُفْنا عليكمُ ... فقُلْتُ لها سُدَّتْ عليكِ لمَطَالعُ
وقال جريرٌ الصلتان:
أَقُولُ ولم أَمْلِكْ سَوَابِقَ عَبْرَةِ ... متى كان حُكْمُ الله في كَرَبِ النَّخْلِ
والصلتان هو القائل:
أَشابَ الصَّغيرَ وأَفْنَى الكَبيِ ... رَ كَرُّ اللَّيَالِى ومَرُّ العَشى
إِذَا هَرَّمَتْ لَيْلَةٌ يَوْمَها ... أَتَى بَعْدَ ذلكَ يَوْمٌ فَتِى
نَرُوحُ ونَغْدُو لحاجاتنا ... وحاجَةُ مَنْ عاشَ لا تَنْقَضى
تَمُوتُ مَعَ المَرْءِ حاجاتُهُ ... وتَبْقَى له حاجَةٌ ما بقَىِ
إِذا قُلْتَ يَوْماً لمَنْ قد تَرَى ... أَرُونِى السَّرىَّ أَرَوْكَ الغَنِى
أَلَم تَرَ لقمانَ أَوصَى بَنيه ... وأَوْصَيْتُ عَمْراً ونعْمَ الوَصِى

بُنَّى بَدَا خَبْءُ نَجْوَى الرجالِ ... فكُنْ عند سرِّكَ خَبْءَ النَّجِى
وسِرُّكَ ما كان عنْدَ امْرِىءٍ ... وسرُّ الثَّلاَثَة غَيْرُ الخَفِى
فكُنْ كابنِ لَيْلٍ على أَسْوَد ... إِذَا ما سَوَادٌ بليلٍ خُشِى
فكلّ سوادٍ وإِنْ هبْتَهُ ... من الليل يَخْشَى كما تَخْتَشى
أَرِدْ مُحْكَمَ الشِّعْرِ إِنْ قُلْتَهُ ... فإِنَّ الكلامَ كثيرُ الرَّوِى
كما الصَّمْتُ أَدْنَى لبعض اللِّسَا ... نِ وبعضُ التكلُّمِ أَدْنَى لِعِى

كثير
هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة، من خزاعة، وكان رافضياً، وقال لما حضرته الوفاة:
بَرِئْتُ إلى الإله منَ ابْنِ أَرْوَى ... ومنْ دِينِ الخَوَارجِ أَجْمَعينَا
ومنْ عُمَرٍ بَرئْتُ ومِنْ عَتِيقٍ ... غَدَاةَ دُعِى أَميرَ المُؤمِنينَا
ثم خرجت نفسه كأنها حصاةٌ وقعت في ماءٍ، وكانت وفاته ووفاة عكرمة مولى ابن عباسٍ في يومٍ واحد، ويكنى أبا صخرٍ.
وكان محمقاً، ودخل يوماً على يزيد بن عبد الملك، فقال يا أمير المؤمنين ما يعني الشماخ بقوله:
إذَا الأَرْطَى تَوَسَّدَ أَبْردَيْهِ ... خُدُودُ جَوَازِىءٍ بالرَّمْلِ عينِ
فقال يزيد: وما يضرني ألا أعرف ما عني هذا الأعرابي الجلف! واستحمقه وأمر بإخراجه.
قال حماد الراوية: قال لي كثير: ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر؟ قلت: تخبرني، قال: شخصت أنا والأحوص ونصيبٌ إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكل واحد منا يدل عليه بسابقةٍ له وإخاءٍ، ونحن لا نشك أنه يشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة، لقينا مسلمة بن عبد الملك جائياً من عنده، وهو يومئذ فتى العرب، فسلمنا عليه فرد علينا السلام، ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟ قلنا: ما وضح لنا خبرٌ حتى انتهينا إليك، ووجمنا وجمةً عرف ذلك فينا، فقال: إن يك ذو دين بني مروان ولي وخشيتم حرمانه فإن ذا دنياها قد بقي، ولكم عندي ما تحبون، وما ألبث حتى أرجع إليكم فأمنحكم ما أنتم أهله فلما قدم كانت رحالنا عنده، فأكرم منزلٍ وأفضل منزول به، فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره، فلم يؤذن لنا، إلى أن قلت في جمعةٍ من تلك الجمع: لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فتحفظته كان ذلك رأياً، ففعلت، فكان ما حفظت من قوله يومئذ: لكل سفرٍ زادٌ لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم، في كلامٍ كثيرٍ، ثم قال: أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيلتي وتبدو مسكنتي، في يومٍ لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاضٍ نحبه، وارتج المسجد وما حوله بالبكاء والعويل، وانصرفت إلى صاحبي فقلت لهما: خذا في شرجٍ من الشعر غير ما كنا نقوله لعمر وآبائه، فإن الرجل أخروى ليس بدنيوي، إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة، فأذن لنا، بعد ما أذن للعامة، فلما دخلت عليه سلمت، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثواء، وقلت الفائدة، وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب، فقال: يا كثير، " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل " . أفي واحدٍ من هؤلاء أنت؟ فقلت: ابن السبيل منقطعٌ به، وأنا ضاحكٌ، قال: أولست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى، قال: ما أرى من كان ضيفه منقطعاً به، ثم قلت: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الإنشاد، قال: نعم ولا تقل إلا حقا، فأنشدت:
تَكلَّمتَ بالحقِّ المُبِينِ وإِنَّما ... تَبَيَّنُ آياتُ الهُدَى بالتكلُّمِ
وأظْهَرْتَ نُورَ الحقِّ فاشتدَّ نُورهُ ... على كل لَبْسِ بارِقِ الحقِّ مُظْلمِ
وعاقبتَ فيما قد تقَدَّمتَ قبلهَ ... وأعرضتَ عمّا كان قبلَ التقدُّمِ
ولِيتَ فلم تَشْتُمْ عَليّاً ولم تُخفْ ... بَرِيّاً ولم تَقْبَلْ إشارَةَ مُجْرِم

وصَدَّقْتَ بالفعْلِ المقَالَ مع الذي ... أَتَيْتَ فأَمْسَى راضياً كُلُّ مُسْلمِ
أَلاَ إِنًّما يَكْفى الفَتَى بَعْدَ زَيْغِهِ ... منَ الأَوَد البادي ثِقَافُ المُقَوِّمِ
وقَدْ لَبِسَتْ لُبْسَ الهَلُوك ثيابَها ... تَرَاءَى لَكَ الدُّنْيا بكَفٍّ ومعِصْمَمِ
وتُومضُ أَحياناً بعَيْنٍ مَريضَةٍ ... وتَبْسِمُ عن مثْلِ الجُمَان المنُظَّم
فأَعْرَضْتَ عنها مُشْمَئزّاً كأَنَّما ... سَقَتْكَ مَدُوفاً من سِمَامِ وعَلْقَمِ
وقَدْ كُنْتَ من أَجْبالها في مُمَنَّعٍ ... ومن بَحْرِها في مُزْبِد المَوْجِ مُفْعَمِ
وما زِلْتَ تَوَّاقاً إلى كُلِّ غايَةٍ ... بَلَغْتَ بها أَعْلَى البِناءِ المُقَدَّم
فلمّا أَتاكَ المُلْكُ عَفْواً ولم يَكُنْ ... لطالبِ دُنْيا بَعْدَهُ مِن تَكَلُّم
تَرَكْتَ الذي يَفْنَى وإِنْ كان مُونِقاً ... وآثَرْتَ ما يَبْقَى برَأىِ مُصَمِّم
وأَضْرَرْتَ بالفاني وثَمَّرْتَ للَّذي ... أَمامَكَ في يوم منَ الشَّرِّ مُظْلِم
سَمَا لكَ هَمٌّ في الفُؤَادِ مُؤَرِّقٌ ... بَلَغْتَ به أَعْلَى المَعَالِى بسُلَّمِ
فما بَيْنَ شَرْقِ الأرضِ والغَرْب كُلَّها ... مُنادٍ يُنادي من فَصيحٍ وأَعْجَم
يقولُ أَميرَ المُؤْمنينَ ظَلَمْتني ... بأَخْذٍ لدينارٍ ولا أَخْذ درْهَمِ
ولا بَسْطِ كَفٍِّ لامْرِىءٍ غَيْرِ مُجْرِمٍ ... ولا السَّفْك منه ظالماً ملءِ مِحْجَمِ
ولو يَسْتَطيعُ المسلمونَ تَقَسَّمُوا ... لك الشَّطْرَ من أَعْمَارِهمْ غَيْرَ نُدَّمِ
فأَرْبِحُ بها من صَفْقَةٍ لمبُايعٍ ... وأَعْظمْ بها أَعْظِمْ بها ثُمَّ أَعْظم
فأقبل علي ثم قال: يا كثير، إنك تساءل عما قلت، ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد، فقال: قل ولا تقل إلا حقاً، فأنشده:
وما الشِّعْرُ إِلاْ خُطْبَهٌ من مُؤَلِّفِ ... لمَنْطُقِ حَقٍّ أَو لمَنْطقِ باطِل
فلا تَقْبَلَنْ إلاَّ الذي وافَقَ الرِّضَا ... ولا تَرْجِعَنَّا كالنَّسَاءِ الأَراملِ
رَأَيْنَاكَ لم تَعْدِلْ عَنِ الحَقِّ يَمْنَةً ... ولا يَسْرَةً فعْلَ الظَّلُومِ المُخاتلِ
ولكنْ أَخَذْتَ القَصْدَ جُهْدَكَ كُلَّهُ ... تَقُدُّ مثَالَ الصالحينَ الأَوائلِ
فقُلْنا ولم نَكْذبْ بما قد بَدَا لَنَا ... ومَنْ ذَا يَرُدُّ الحَقَّ من قَوْلِ قائل
ومَنْ ذا يَرُدُّ السَّهْمَ بَعْدَ مَضَائه ... على فُوقِهِ إِذْ عَارَ من نَزْعٍ نابِلِ
ولولا الذي قد عَوَّدَتْنا خَلاَئفٌ ... غَطَارِيفُ كانوا كاللُّيُوث البَوَاسل
لَمَا وَخَدَتْ شَهْراً بِرَحْلَى رَسْلَةٌ ... تَقُدُّ مِتَانَ البيد بَيْنَ الرَّوَاحِل
ولكنْ رَجَوْنا منْكَ مثْلَ الَّذي به ... صُرِفْنَا قَديماً من ذَوِيكَ الأَوائلِ
فإِنْ لم يَكُنْ للشِّعْرِ عنْدَك مَوْضعٌ ... وإِنْ كان مثْلَ الدرِّ في فَتْلِ فاتلِ
فإِنَّ لنا قُرْبى ومَحْضَ مَوَدَّةٍ ... وميراثَ آباءٍ مَشَوْا بالمنَاصِلِ
وذَادُوا عَدُوَّ السَّلْمِ عن عُقْر دارِهمْوأَرْسَوْا عَمُودَ الدِّينِ بعد التَّمَايُل
وقبْلَكَ ما أَعْطَى هُنَيْدَةَ جِلَّةً ... على الشِّعْرِ كَعْباً من سَديسٍ وبازِلِ
رَسُولُ الإِله المُسْتَضَاءُ بنُورِه ... عليه سَلاَمٌ بالضحَى والأَصَائل
فكُلُّ الذي عَدَّدْتُ يَكْفيكَ بَعْضُهُ ... وقُلٌّكَ خَيْرٌ من بُحُورٍ سَوَائلِ
فقال له عمر: إنك يا أحوص تسأل عما قلت، وتقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له، وأمره بالغزو إلى دابق، فخرج وهو محمومٌ، وأمر لي بثلثمائة درهمٍ وللأحوص بمثلها، وأمر لنصيبٍ بمائة وخمسين درهماً.

وكان كثيرٌ أحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته عزة، وإليها ينسب وهي من ضمرة.
ولقيته امرأةٌ في بعض الطريق، فقالت: أأنت كثير؟ قال: نعم، قالت: والله لقد رأيتك فما أخذتك عيني! قال: وأنا والله لقد رأيتك فأقذيت عيني! قالت: والله لقد سفل الله بك إذ جعلك لا تعرف إلا بامرأة، قال: ما سفل الله بي، ولكن رفع بها ذكرى، واستنار بها أمري، واستحكم بها شعري، وهي كما قلت:
وإِني لأَسْمُو بالوِصَالِ إلى التي ... يَكُونُ شِفَاءً ذكْرُها وازْديَارُهَا
إِذا أُخْفيَتْ كانَتْ لعَيْنِكَ قُرَّةً ... وإِنْ بُحْتَ يوماً لم يَعُمَّك عارُها
فقالت: مر في قصيدتك، فمر فيها، فلما بلغ:
وما رَوْضَةٌ بالحَزْنِ طَيِّبَةُ الثَّرَى ... يَمُجُّ النَّدَى جَثْجَاثُهَا وعَرَارُهَا
بأَطْيَبَ من أَرْدَانَ عَزَّةَ مَوْهِناً ... إِذا أُوقدَتْ بالمجْمَرِ اللَّدْنِ نارُهَا
قالت: كان امرؤ القيس أحسن نعتاً لصاحبته حيث يقول:
أَلمْ تَرَيَاني كُلَّمَا جئْتُ طارقاً ... وَجَدْتُ بها طيباً وإِنْ لم تَطَيَّب
وبعثت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله إلى كثير، فقالت له: يا ابن أبي جمعة ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على ما تصف من الحسن والجمال، لو شئت صرفت ذاك إلى غيرها ممن هو أولى به منها أنا أو مثلي، فأنا أشرف وأوصل من عزة، وإنما جربته بذلك فقال:
إِذَا ما أَرادتْ خُلَّةٌ أَنْ تُزِيلَنَا ... أَبَيْنَا وقُلْنَا الحاجبيَّةُ أَوَّلُ
سنُوليك عُرْفاً إِنْ أرَدْتِ وصالَنا ... ونَحْنُ لتلْكَ الحاجِبِيَّة أَوْصَلُ
لها مَهَلٌ لا يُسْتَطَاعُ دِرَاكُهُ ... وسابقَةٌ في الحُبِّ ما تَتَحَوَّلُ
فقالت عائشة: والله لقد سميتني لك خلة وما أنا لك بخلةٍ، وعرضت على وصلك، وما أريد ذلك وإن أردت، ألا قلت كما قال جميلٌ:
ويَقُلْنَ إِنَّكَ قد رَضيتَ بباطل ... منها فهَلْ لك في اعْتزَال الباطل
ولَبَاطلٌ ممَّنْ أُحِبُّ حَديثهُ ... أَشْهَى إِلَّى منَ البَغيض الباذل
ولَرُبَّ عارِضَةٍ علينا وَصْلَهَا ... بالجِدِّ تَخْلِطُهُ بقَوْلِ الهازِلِ
فأَجَبْتُهَا في الحُبِّ بعد تَسَتُّرٍ ... حُبّى بُثَيْنَةَ عن وِصَالك شاغلي
لو كان في قَلْبي كقدْرِ قُلاَمَةٍ ... حُبٌّ وَصَلْتُك أَو أَتَتْك رَسَائلِى
ودخل كثير على عبد الملك بن مروان، فقال له: نشدتك بحق علي بن أبي طالبٍ هل رأيت قط أحداً أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو نشدتني بحقك أخبرتك، فقال: نشدتك بحقي إلا أخبرتني؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا أسير في بعض الفلوات فإذا أنا برجل قد نصب حبالةً، فقلت له: ما أجلسك ههنا؟ قال: أهلكني وأهلي الجوع فنصبت حبالتي هذه لأصيب لهم ولنفسي ما يكفينا ويعصمنا يومنا هذا، قلت: أرأيت إن أقمت معك فأصبت صيداً أتجعل لي منه جزءاً؟ قال: نعم، فبينا نحن كذلك وقعت فيها ظبيةٌ، فخرجنا نبتدر، فبدرني إليها فحلها وأطلقها، فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: دخلتني لها رقةٌ لشبهها بليلى! وأنشأ يقول:
أَيَا شبْهَ لَيْلَى لا تُراعِى فإِنَّنى ... لَك اليَوْمَ من وَحْشِيَّةٍ لَصَديقُ
أَقُولُ وقَدْ أَطْلَقْتُها من وثاقها ... فأَنْت للَيْلَى إِنْ شَكَرْتِ عَتيقُ
وقال ابن الكلبي وابن دأبٍ، لما حلها قال:
اِذْهَبى في كِلاَءَة الرَّحْمنِ ... أَنْت مني في ذمَّةٍ وأَمَانِ
لا تَخافِى بأَنْ تُهَاجِى بسَوْءٍ ... ما تَغَنَّى الحَمَامُ في الأَغصانِ
تَرهَبيني والجِيدُ منْك للَيْلَى ... والحَشَا والبُغامُ والعَيْنانِ
ودخلت عزة على أم البنين فقالت لها أم البنين: أرأيت قول كثيرٍ:
قَضَى كُفُّى ذي دَيْنٍ فَوَفَّى غَرِيمَهُ ... وعَزَّةُ مَمْطُولُ مُعَنًّى غَرِيمُهَا
ما كان ذلك الدين؟ قالت: وعدته بقبلة فتحرجت منها، فقالت أم البنين: أنجزيها وعلى إثمها.

قال السائب راوية كثيرٍ: خرجت مع كثيرٍ وهو يريد عبد العزيز بن مروان، فمررنا بالماء الذي عليه عزة، فسلمنا جميعاً على أهل الخباء، فقالت عزة: عليك يا سائب السلام، ثم أقبلت على كثيرٍ، فقالت: ألا تتقي الله، أرأيت قولك:
بآيَةِ ما أَتَيْتُك أُمَّ عَمْروٍ ... فقُمْت بحاجتي والبيتُ خالِى
ويحك خلوت معك في بيتٍ قط! فقال: لم أقله ولكني الذي يقول:
فأُقْسمُ لَوْ أَتَيْتث البَحْرَ يوماً ... لأَشْرَبَ ما سَقَتْني من بُلاَلِ
وأُقْسمُ أَنَّ حُبَّكِ أُمَّ عَمْروٍ ... لَدَى جَنْبِى ومُنْقَطَعِ السُّعالِ
قالت: أما هذا فعسى، قال السائل: فأتينا عبد العزيز بن مروان فانصرفنا ومررنا بهم، فقال كثير: السلام عليك يا عزة، فقالت: عليك السلام يا جمل، فقال كثير:
حَيَّتْكَ عَزَّةُ بَعْدَ الوَصْلِ وانْصَرَفَتْفَحىِّ وَيْحَكَ مَنْ حَيّاكَ يَا جَمَلُ
لو كُنْتَ حَيَّيْتَها ما زِلْتَ ذَا مِقَةٍ ... عِنْدِي وما مَسَّكَ الإِدْلاَجُ والعَمَلُ
لَيْتَ التَّحيَّةَ كانَتْ لي فأَجْعَلَها ... مكانَ يا جَمَلاً حُيِّيتَ يا رَجُلُ
وخرج كثير إلى مصر وعزة بالمدينة، فاشتاق إليها، فقام إلى بغلةٍ له فأسرجها، وتوجه نحو المدينة لم يعلم به أحدٌ، فبينا هو يسير في التيه بمكانٍ يقال له فيفاء خريم، إذا هو بعيرٍ قد أقبلت من ناحية المدينة، في أوائلها محامل فيها نسوةٌ، وكثير متلثمٌ بعمامةٍ له، وفي النسوة عزة فلما نظرت إليه عرفته وأنكرها، فقالت لقائد قطارها: إذا دنا منك الراكب فاحبس، فلما دنا كثير حبس القائد القطار، فابتدرته عزة فقالت: من الرجل؟ قال: من الناس، قالت: أقسمت قال: كثير، قالت: فأين تريد في هذه المفازة؟ قال: ذكرت عزة وأنا بمصر فلم أصبر أن خرجت نحوها على الحال التي ترين، قالت: فلو أن عزة لقيتك فأمرتك بالبكاء أكنت تبكي؟ قال: نعم، فنزعت عزة اللثام عن وجهها وقالت: أنا عزة، فإن كنت صادقاً فافعل ما قلت، فأفحم فقالت للقائد: قد قطارك، فقاده، وبقي كثير مكانه لا يحير ولا ينطق حتى توارت، فلما فقدها سالت دموعه وأنشأ يقول:
وقَضَّيْنَ ما قَضَّيْنَ ثُم تَرَكْنَني ... بفَيْفَا خُرَيمٍ قائماً أَتَلَدََّدُ
تأَطَّرْنَ حَتَّى قُلْتُ لَسْنَ بَوارِحاً ... وذُبْنَ كما ذابَ السَّديفُ المُسَرْهَدُ
أَقُولُ لماءِ العَيْنِ أَمْعنْ لَعَلَّهُ ... لِمَا لا يُرى من غائب الوَجْد يشْهَدُ
فلم أَرَ مثْلَ العَيْنِ ضنَّتْ بمائها ... علىَّ ولا مِثْلِى على الدَّمْعِ يَحْسِدُ
وبَيْنَ التَّراقِى واللَّهاة حَرَارَةٌ ... مَكان الشَّجَى ما إِنْ تَبُوحُ فتَبْرُدُ
وعادت عزة إلى مصر، وخرج كثير يريد مصر، فوافاها والناس ينصرفون عن جنازتها.
ومما يستجاد من شعره قوله:
أَغاضرَ لَوْ شَهِدْتِ غَدَاةَ بِنْتُمْ ... حُنُوَّ العائدَات على وِسَادى
أَوِيتَ لوَامقٍ لم تَشْكُمِيه ... نَوَافِذُهُ تَلَذَّعُ بالزِّنادِ
وغاضرة: أم ولد بشر بن مروان.
ويتمثل من شعره بقوله:
ومَن يَبْتَدعْ ما لَيْسَ من سُوِس نَفْسه ... يَدَعْهُ ويَغْلِبْهُ على النَّفْس خِيمُها
وقوله:
ومَن لا يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عن صَدِيقِهِ ... وعَنْ بَعْضِ ما فِيهِ يَمُتْ وهْوَ عاتِبُ
مَن يَتَتَبَّعْ جاهداً كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْها ولا يَسْلَمْ له الدَّهْرَ صاحبُ
ويختار من قوله:
وأُجْمِعُ هجْرَاناً لأَسْمَاءَ إِنْ دَنَتْ ... بها الدَّارُ لاَ مِنْ زَهْدَةٍ في وِصالَها
إِنْ شَحَطَتْ يوماً بَكَيْتُ وإِنْ دَنَتْ ... تَذَلَّلْتُ واسْتَكْثَرْتُهَا باعتِزَالِهَا
وقوله في سياسة النساء:
وكُنْتُ إِذا ما جِئْتُ أَجْلَلْنَ مَجْلسِى ... وأَبْدَيْنَ منِّى هَيْبَةً لا تَجَهُّمَا
يُحَاذِرْنَ مِنَّى غَيْرَةً قد عَلمْنَهَا ... قَديماً فما يَضْحَكْنَ إِلاَّ تَبَسُّمَا

َترَاهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُؤَدِّينَ نَظْرَةً ... بمُؤْخرِ عَيْنٍ أَو يُقَلِّبْنَ مِعْصَمَا
كَوَاظِمَ ما يَنْطِقْنَ إِلاَّ مَحُورَةً ... رَجِيعَةَ قَوْلٍ بَعْدَ أَنْ يَتَفَهَّمَا
وكُنَّ إِذا ما قُلْنَ شَيْئاً يَسُرُّهُ ... أَسَرِّ الرِّضَا في نَفْسِهِ وتَجَرَّمَا
وقوله لعزة: قال أبو علي في النوادر: قرأت هذه القصيدة على أبي بكر بن دريد في شعر كثير، وهي من منتخبات شعر كثير، وأولها:
خَليَلَّى هذا رَبْعُ عَزَّةَ فاعْقِلاَ ... قَلُوصَيْكُمَا ثمَّ ابْكيَا حَيْثُ حَلَّت
وما كُنْتُ أَدْرِى قَبْلَ عَزَّةَ ما البُكَا ... ولا مُوجِعاتِ الحُزْنِ حَتَّى تَوَلَّتِ
وكانَتْ لِقَطْعِ الحَبْلِ بَيْنَى وبَيْنَها ... كَنَاذِرَةٍ نَذْراً وَفَتْ فأَحَلَّت
فَقُلْتُ لها يا عَزَّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إِذا وُطِّنَتْ يَوْماً لها النَّفْسُ ذَلَّت
ولم يَلْقَ إِنْسَانٌ منَ الحُبِّ مَيْعَةً ... تَعُمُّ ولا عَمْياءَ إلاَّ تَجَلَّت
كأَني أُنادي صَخْرَةً حينَ أَعْرَضَتْ ... منَ الصُّمِّ لَوْ تَمْشى بها العِيسُ زَلَّت
صَفُوحاً فما تَلْقَاكَ إِلا بَخِيلَةً ... فمَنْ مَلَّ منها ذلكَ الوَصْلَ مَلَّت
أَباحَتْ حِمًى لم يَرْعَهُ النَّاسُ قَبْلَهاوحَلَّتْ تِلاَعاً لم تَكُنْ قَبْلُ حُلَّت
أُرِيدُ الثَّوَاءَ عِنْدَها وأَظُنُّها ... إِذَا ما أَطَلْنا عنْدَهَا المَكْثَ مَلَّت
يُكَلِّفُها الغَيْرَانُ شَتْمى وما بها ... هَوَانِى ولكنْ للمَليك اسْتَذَلَّت
هَنيئاً مَرِياً غَيْرَ داءٍ مُخامِر ... لعَزَّةَ من أَعْراضنا ما اسْتَحَلَّت
فإِنْ تَكُنِ العُتْبى فأَهْلاً ومَرْحَباً ... وحَقَّتْ لها العُتْبَى لَدَيْنا وقَلَّت
وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فإِنَّ وَرَاءَنا ... مَناوِيحَ لو سارَتْ بها الرِّئْمُ كَلَّت
أَسيئى بنا أَو أَحْسنِى لا مَلُومَةً ... لَدَيْنا ولا مَقْليَّةٌ إِنْ تَقَلَّت
ووالله ما قارَبْتُ إلأَّ تَبَاعَدَتْ ... بِصُرْمٍ ولا استَكْثَرْتُ إلاَّ أَقَلَّت
ووالله ثُمَّ الله ما حَلَّ قَبْلَها ... ولا بَعْدَها من خُلَّةٍ حَيْثُ حَلَّت
وما مَرَّ من يَوْمٍ عَلَىَّ كيَوْمها ... وإِنْ كَثُرَتْ أَيَّامُ أُخْرَى وجَلَّت
فَوَا عَجَباً للقَلْب كَيْفَ اعْترافُهُ ... وللنَّفْس لَمَّا وُطَّنَتْ كَيْفَ ذَلَّت
وإِنَّى وتَهْيَامِى بعَزَّةَ بَعْدَما ... تَخَلَّيْتُ ممّا بَيْنَنَا وتَخَلَّت
لكالمُرْتَجِى ظلَّ الغَمَامَة كُلَّما ... تَبَوَأَ منها للمَقيل اضْمَحَلت
ومن الإفراط قوله:
ومَشَى إلىَّ بَعْيبِ عَزَّةَ نِسْوَةٌُ ... جَعَلَ الإِلهُ خُدُودَهُنَّ نِعالَهَا
ولَوَ أنَّ عَزَّةَ خاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى ... في الحُسْنِ عنْدَ مُوَفَّق لَقَضَى لَهَا
ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان وهو مريض، وأهله يتمنون أن يضحك، فلما وقف عليه قال له: والله أيها الأمير لولا أن سرروك لا يتم بأن تسلم وأسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إلي، ولكني أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كنفك النعمة، فضحك وأمر له بمالٍ.
وهو القائل له:
ونَعُودُ سَيِّدَنا وسَيَّدَ غَيْرِنا ... لَيْت التَّشَكِّى كان بالعُوَّاد
لو كان يَقْبَلُ فِدْيَهً لَفَدَيْتُهُ ... بالمُصْطَفَى من طارِفي وتِلاَدى
ولعبد العزيز يقول كثيرٌ:
إِذَا المالُ لم يُوجِبْ عليك عَطَاءَهُ ... صَنيعَةُ تَقْوَى أَو خَليلٌ تُخالقُهْ
مَنَعْتَ وبَعْضُ المَنْعِ حَزْمٌ وقُوَّةٌ ... فلم يَفْتَلِذْكَ المالَ إلاَّ حَقائقُهْ

فبُورِكَ ما أَعْطَى ابن لَيْلَى بِنيَّةِ ... وصامتُ ما أَعْطَى ابن لُيْلَى وناطقُهْ
وكان كثيرٌ يقول بالرجعة وفي ذلك يقول:
أَلاَ إِنَّ الأَيِمَّة من قُرَيْشٍ ... وَلاَةَ الحَقَّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَلِىٌّ والثلاثَةُ من بنيه ... هُمُ الأَسْباطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفاءُ
فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمانِ وبرٍّ ... وسبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبَلاَءُ
وسبْطٌ لا يَذُوقُ المَوْتَ حَتَّى ... يَقُودَ الخَيْلَ يَقْدُمُها اللِّواءُ
تَغَيَّبَ لا يُرَى عنهم زماناً ... برَضْوَى عندَه عَسَلٌ وماءُ
كأنه يعني ابن الحنفية، ويذكرون أنه دخل شعب اليمن في أربعين من أصحابه فما رثى لهم أثرٌ.

الأحوص
هو الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وعاصم بن ثابت من الأنصار، وهو حمي الدبر.
وكان الأحوص يرمي بالأبنة والزنا، وشكى إلى عمر بن عبد العزيز فنفاه من المدينة إلى قريةٍ من قرى اليمن على ساحل البحر، فدخل إليه عدةٌ من الأنصار فكلموه فيه، وسألوه أن يرده إلى المدينة فقال: لهم عمر: من القائل:
أَدُورُ ولَوْلا أَنْ أَرَى أُمَّ جَعْفَرٍ ... بأَبْيَاتِكُمْ ما دُرْتُ حَيْثُ أَدُورُ
قالوا: الأحوص، قال: فمن الذي يقول:
ستُبْلَى لكم في مُضْمَرِ القَلْب والحَشَا ... سَرِيرَةُ حُبٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائرُ
قالوا: الأحوص، قال: فمن الذي يقول:
اللهُ بَيْنى وبَيْنَ قَيِّمِها ... يَفِرُّ مني بها وأَتَّبِعُ
قالوا: الأحوص قال: لا جرم لا رددته إلى المدينة ما كان لي سلطانا.
وقال الأحوص: يعاتب عمر بن عبد العزيز:
ألَسْتَ أَبَا حَفْصٍ هُديتَ مُخَبِّرِى ... أَفي الله أَنْ أُقُصَى ويُدنَى ابنُ أَسْلَمَا
وكُنَّا ذَوِي قُرْبَى إليك فأَصْبَحَتْ ... قَرَابَتُنَا ثَدْياً أَجَدَّ مُصَرَّمَا
وكُنْتَ وما أَمَّلْتُ منك كبارِقٍ ... لَوى قَطْرَهُ من بَعْدِ ما كان غَيَّمَا
وقد كُنْتَ أَرْجَى الناسِ عنْدِى مَوَدَّةً ... لَيَالِىَ كان العِلْمُ ظَنّاً مُرَجَّمَا
أَعُدُّكَ حِرْزاً إِنْ خَشيتُ ظُلامَةً ... ومالاً ثَرِياً حينَ أَحْمِلُ مَغْرَمَا
تدَارَكْ بعُتْبَى عاتباً ذَا قَرَابَةٍ ... طَوَى الغَيْظَ لم يَفْتَحْ بسُخْطٍ لكم فَما
ويستحسن من شعره قوله:
أَلاَ لا تَلُمْهُ اليَوْمَ أَنْ يَتَبَلَّدَافقَدْ غُلِبَ المَحْزُونُ أَنْ يَتَجَلَّدَا
وما العَيْشُ إلاَّ ما تَلَذًّ وتَشْتَهِى ... وإِنْ لاَمَ فيه ذو الشنَّانِ وفَنَّدَا
بَكَيْتُ الصِّبَا جَهْداً فمَنْ شاءَ لامَنِى ... ومَن شاءَ واسَى في البُكاءِ وأَسْعَدَ
وإني وإِنْ عُيِّرْتُ في طَلَب الصَّبَا ... لأَعْلَمُ أَني لَسْتُ في الحُبِّ أَوْحَدَا
إِذا كُنْتَ عِزْهاةٌ عن اللَّهْوِ والصَّبَا ... فكُنْ حَجَراً من يابِسِ الصَّخْر جَلْمَدَ
وكان يزيد بن عبد الملك صاحب حبابة وسلامة قد ترك لشغله باللهو الظهور للعامة وشهادة الجمعة، فقال له مسلمة أخوه: يا أمير المؤمنين قد تركت الأمور وأضعت المسلمين وقعدت في منزلك مع هاتين الأمتين، فارعوى قليلا وظهر للناس، فقالت حبابه للأحوص: قل شعراً أغنى به يا أمير المؤمنين: فقال:
وما العَيْشُ إلا ما تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... .........الأبيات
ثم غنتا يزيد به فضرب بخيزرانته الأرض، وقال: صدقت صدقت، على مسلمة لعنة الله وعلى ما جاء به، وعاد لحالته الأولى، إلى أن ماتت حبابة، ثم مات بعدها بأيامٍ حزناً عليها ووجداً.
ومن هذا الشعر:
وأَشْرَفْتُ في نَشْزٍ منَ الأَرْضِ يافعٍ ... وقد تَشْعَفُ الأَيفاعُ مَن كان مُقْصَدَا
فقُلْتُ أَلاَ يا لَيْتَ أَسْماءَ أَصْقَبَتْ ... وهَلْ قَوْلُ لَيْتَ جامعٌ ما تَبَدَّدَا

وإني لأَهْواها وأهُوَى لقَاءَها ... كما يَشْتَهِى الصادي الشَّرَابَ المُبَرَّد
عَلاَقَةَ حُبٍّ لَجٍ في سَنَنِ الصِّبا ... فأَبْلى وما يَزْدادُ إلاَّ تَجَدُّدَا
ويختار له قوله:
ما من مُصيبَةِ نَكْبَة أُمْنى بها ... إِلاَّ تُشَرِّفُني وتُعْظمُ شانى
إني إِذَا خَفَى اللِّئَامُ وَجَدْتَني ... كالشَّمْس لا تَخْفَى بكُلِّ مكان

أرطاة بن سهية
هو من بني مرة بن عوف بن سعد، ويكنى أبا الوليد، ودخل على عبد الملك بن مروان فقال: هل تقول اليوم شعراً؟ فقال: كيف أقول وأنا ما أشرب ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر على هذا؟ وأنا الذي يقول:
رأَيْتُ المَرْءَ تأْكُلهُ اللَّيَالي ... كأَكْلِ الأرْضِ ساقطَةَ الحَديد
وما تُبْقِى المَنَّيةُ حينَ تَأْتي ... على نَفْس ابْنِ آدَمَ من مَزِيد
وأَعْلَمُ أَنَّها سَتَكُرُّ حَتَّى ... تُوَفِّىَ نَذْرَها بأَبي الوليد
ففزع عبد الملك، وكانت كنيته، فقال: لم أعنك إنما عنيت نفسي، فقال عبد الملك وأنا أيضاً.
وهو القائل:
وما دُونَ ضَيفي من تلادٍ تَحُوزُهُ ... لىَ النَّفْسُ إلاَّ أنْ تُصانَ الحَلاَئِلُ
وهو القائل:
لَقَدْ رأَيْتُكَ عُرْيَاناً ومُؤْتَزِراً ... فما دَرَيْتُ أَأُنثَى كنْتَ أَمْ ذَكَرَا
ومما سبق إليه وأخذ منه قوله يصف الخيل:
كأَنَّ أَعْيُنَها من طُولِ ما جَشِمَتْ ... سَيْرَ الهَوَاجِرِ زَيْتُ في قَوَاريرِ
قال غيره:
إِذ الرَّكائبُ مَخْسوفٌ نَوَاظِرُها ... كما تَضَمَّنَتِ الدُّهْنَ القَوَارِيرُ
وفي هذه يقول أرطاة بن سهية:
إِذا وَنَتْ ذاتُ أَذْيَالٍ تُذِيعُ به ... قالَتْ لأُخْرَى كَغيْرَى أُغْضِبَتْ دُورِى
كأَنَّ مُخْتَلِفَ الأَرْواحِ بَيْنهما ... فيها مَلاَعبُ أبْكارٍ مَعَاصيرٍ
ذو الرمة
هو غيلان بن عقبة بن بهيش، ويكنى أبا الحرث، وهو من بني صعبٍ بن ملكان بن عدي بن عبد مناة.
وسئل جريرٌ عن شعره، فقال: أبعار غزلانٍ ونقط عروس! وكان يوماً ينشد في سوق الإبل شعره الذي يقول فيه:
عَذَّبَتْهُنَّ صَيْدَحُ
وصيدح ناقته، فجاء الفرزدق فوقف عليه فقال له: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراسٍ؟ قال: ما أحسن ما تقول! فقال فما بالي لا أذكر مع الفحول؟ قال: قصر بك عن غاياتهم بكاؤك في الدمن وصفتك للأبعار والعطن، وأنشأ يقول:
ودَوِّيَّةٍ لو ذُو الرُّمَيْمِ يَرُومُها ... بِصَيْدَحَ أَوْدَى ذو الرُّمَيْمِ وصَيْدَحُ
قَطَعْتُ إلى مَعْرُوفها مُنْكَرَاتِها ... إِذَا خَبَّ آلُ الأَمْعَزِ المُتَوَضِّحُ
وقال عيسى بن عمر: قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الطرف، فقلت له: أتكتب؟ فقال بيده على فيه، أي: اكتم علي: فإنه عندنا عيبٌ؟ قال: وقدمت من سفرٍ فأتاني ذو الرمة فعرضت له بأن أعطيه شيئاً، فقال لي: أنا وأنت واحدٌ، نأخذ ولا نعطي.
ولما حضرته الوفاة بالبادية قال: أنا ابن نصف الهرم، أي أنا ابن أربعين، وقال:
يا قابِضَ الرُّوحِ مِن نَفْسي إِذَا احْتُضرَتْوغافرَ الذَّنْب زَحْزِحْنِى عَنِ النارِ
وإنما سمي ذا الرمة بقوله في الوتد:
لم يَبْقَ منها أَبَدَ الأَبِيدِ ... غَيْرُ ثَلاَثٍ ماثلاتٍ سُودِ
وغَيْرُ مَرْضُوخِ القَفَا مَوْتُودِ ... أَشْعَثَ باقِى رُمَّة التَّقْليد
وكان ذو الرمة أحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته مية بنت فلان بن طلبة بن قيس بن عاصم بن سنانٍ.
قال أبو سوار الغنوي: رأيت مية وإذا معها بنون لها صغارٌ، فقلت: صفها لي، فقال: مسنونة الوجه طويلة الخد شماء الأنف عليها وشمٌ جمال، فقالت: ما تلقيت بأحدٍ من بني هؤلاء إلا في الإبل، قلت: أفكانت تنشدك شيئاً مما قال فيها ذو الرمة؟ قال: نعم، كانت تسح سحاً ما رأى أبوك مثله.
ومكثت مية زماناً لا ترى ذا الرمة وتسمع شعره، فجعلت لله عليها أن تنحر بدنةً يوم تراه، فلما رأته رأت رجلا دميماً أسود، وكانت من أجمل النساء، فقالت: واسوأتاه! وابؤساه! فقال ذو الرمة:

على وَجْه مَىٍّ مَسْحَة من مَلاَحَةٍ ... وتَحْتَ الثِّيَاب الشَّيْنُ لَوْ كان باديَا
ألم تَرَ أَنَّ الماءَ يَخْبُثُ طَعْمُهُ ... وإِنْ كان لَوْنُ الماءِ أَبَيْضَ صافيَا
فيا ضَيْعَةَ الشِّعْرِ الَّذي لَجَّ فانْقَضَى ... بِمَىَّ ولم أَمْلِكُ ضَلاَلَ فُؤَاديَا
وكان يشبب أيضاً بخرقاء، وهي من بني البكاء بن عامر بن صعصة، وكان سبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي، فإذا خرقاء خارجةٌ من خباءٍ لها، فنظر إليها، فوقعت في قلبه، فخرق إداوته ودنا منها يستطعم كلامها، فقال: إني رجلٌ على ظهر سفرٍ وقد تخرقت إدواتي فأصلحيها لي، فقالت: والله إني ما أحسن العمل، وإني لخرقاء، والخرقاء: التي لا تعمل بيدها شيئاً، لكرامتها على أهلها، فشبب بها وسماها خرقاء.
وقال المفضل الضبي: كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوماً: هل لك إلى أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة؟ فقلت: إن فعلت فقد بررتني، فتوجهنا جميعاً نريدها، فعدل بي عن الطريق بقدر ميلٍ، ثم أتينا أبيات شعر، فاستفتح بيتاً ففتح له وخرجت علينا امرأةٌ طويلةٌ حسانةٌ بها فوةٌ، فسلمت وجلست، فتحادثنا ساعةً ثم قالت لي: هل حججت قط؟ قلت: غير مرةٍ، قالت: فما منعك من زيارتي؟ أما علمت أني منسكٌ من مناسك الحج؟ قلت: وكيف ذاك؟ قالت: أما سمعت قول عمك ذي الرمة:
تَمَامٌ الحَجِّ أَنْ تَقِفَ المطايَا ... على خَرْقاءَ واضِعَةِ اللِّثَام
وكان لذي الرمة إخوةٌ، هشامٌ وأوفى ومسعودٌ، فمات أوفى. ثم مات بعده ذو الرمة، فقال مسعودٌ:
تَعَزَّيْتُ عن أَوْفَى بَغْيلاَنَ بَعْدَهُ ... عَزَاءً وجَفْنُ العَيْنِ ريَّانُ مُتْرَعُ
ولم تُنْسنِى أَوْفَى المُصيباتُ بَعْدَهُ ... ولكنَّ نَكءَ القَرْحِ بالقَرْحِ أَوْجَعُ
هشامٌ الذي يقول:
حَتَّى إِذا أَمْعَرُوا صَفْقَىْ مَبَاءَتهمْ ... وجَرَّدَ الخُطْبُ أَثْبَاجَ الجَراثيمِ
وأَبَّ ذُو المَحْضَرِ البادي إِبابَتَهُ ... وقَوَّضَتْ نيَّةٌ أَطْنَابَ تَخْيِيمِ
أَلْوَى الجِمَالُ هَرَاميلُ العِفَاءِ بها ... وبالمَنَاكب رَيْعٌ غَيْرُ مَجْلُومِ
تَصْطَكُّ أَعْناقُها والبَقُّ تَقْدَعُها ... حتَّى أَنَاخُوا فزَمُّوا كُلَّ مَزْمُومِ
من كُلِّ أَكْلَفَ أَوْ أَجْأَي تَئِطُّ له ... أَنْسَاعُ تابُوت جَوْفٍ غَيْر مَهْضُومِ
عَرَكْرَكٍ مُهْجِرِ الضُّؤْبانِ أَوَّمَهُ ... رَوْضُ القِذَاف رَبِيعاً أَيَّ تَأْوِيمِ
الضؤبان: وسطه، والمهجر: الواسع، يقال ناقةٌ ذات سنامٍ مهجرٍ إذا كان مشرفاً.
ما مَسَّ مُذْ لُهِنَ البُهْمَى تَبَقَّلَهَا ... قَيْنَيْهِ في مَرْتَعٍ أَرْمَاثُ تَرْميم
حتَّى رَمى أُمَّهات القُرْد خابِطُهَا ... بالناصَلاتِ أَنابِيشاً بِتَسْهِيم
واسْتَنَّ فَوْقَ الحَذَاري القُلْقُلاَنُ كما ... شَكْلُ الشُّنُوفِ يُحَاكَى بالهيَانِيمِ
الحذاري: جمع حذرية، وهي الأرض الصلبة، والقلقلان: النبت
بعدَ المَصيف إلى خَبْرَاء مَعْقُلَةٍ ... حتَّى يَمُوتَ سَمَالُ الصَّيْف بالعُوم
منَ الفَرَاش المُقَضَّى عاش في رَنَقٍ ... رَخْفٍ السَّحاياتِ وَلَّي غَيْرَ مَطْعُومِ
السحايات: بقية الماء، واحدتها سحايةٌ.
كَأَنَّ أَجْسادَها الأَظْفارُ جامدَةً ... في قِنَّفِ الصَّقِرِ الآنِى الشَّراذِيم
القنف: طين القاع إذا تشقق، والصقر: الذي قد صقرته الشمس: والآني: الذي قد بلغ إناه.
قال أبو محمد: ولم أذكر هذا الشعر لأنه عندي مختارٌ.
ولكن ذكرته لأني لم أسمع لهشامٍ بشعرٍ غيره.
قال ابن أبي فروة: قلت لذي الرمة في قوله:
إذا انْجَابَت الظَّلْمَاءُ أَضْحَتْ رُؤُوسُها ... عليهنَّ من جَهْد الكَرَى وهْىَ ظُلَّعُ
ما علمت أحداً من الناس أظلع الرؤوس غيرك؟ قال: أجل.
وكان ذو الرمة كثير الأخذ من غيره، ومما أخذه من غيره قوله في الحرباء:

يَظَلُّ بها الحِرْباءُ للشَّمْس ماثِلاً ... لَدَى الجِذْلِ إلاَّ أَنَّهُ لا يُكَبِّرُ
إِذَا حَوَّل الظَّلَّ العَشُّى رَأَيْتَهُ ... حَنِيفاً وفِى قَرْنِ الضُّحَى يَتَنَصَّرُ
وقال ظالم بن البراء الفقيمي:
ويَوْمٍ من الجَوْزاءِ أَمَّا سُكُونُه ... فَضِحٌّ وأَمَّا ريحُهُ فسَموُمُ
إِذا جَعَلَ الحِرْباءُ والشَّمْسُ تَلْتَظِى ... على الجِذْلِ من حَرَّ النَّهارِ يَقُومُ
يَكُونُ حَنيفاً بالعَشىِّ وبالضُّحَى ... يُصَلِّى لنَصْرانيَّةِ ويَصُومُ
حدثني عبد الرحمن عن الأصمعي عن رؤبة قال: دخل على ذو الرمة فسمع قولي:
يَطْرَحْنَ بالدِّوَّيَّةِ الأَمْلاسْ ... لكُلِّ ذئب قَفْرَةٍ وَلاَّسْ
مَوْتَى العظامِ حَيَّةَ الأَنْفَاسْ ... أَجِنَّةً في قُمُصِ الأغْراسْ
فخرج من عندي فبلغني بعد ذلك أنه يقول:
يَطْرحْنَ بالدَّوِّيَّة الأَغْفالْ ... كُلَّ جَنينٍ لَثِقِ السِّرْبالُ
حَىِّ الشَّهِيقِ مَيِّتِ الأَوْصالْ ... فَرَّجَ عَنْهُ حَلَقُ الأَقْفَالْ
منَ السُّرَى وجِرْيَةِ الحِبَال ... ونَغَصَانِ الرَّحْلِ من مُعَالْ
قال الأصمعي: فإذا رؤبة يرى أن ذا الرمة يسرق منه.
وقال أيضاً في قول ذي الرمة:
يَطْفُو إذَا ما تَلَقَّتْهُ الجَراثيمُ
أخذه من قول العجاج:
إذَا تَلَقَّتْهُ الجَراثيمُ طَفَا
قال: وأخذ قوله:
إِذَا اسْتَهَلَّتْ عليه عَيْنَةٌ أَرِجَتْ ... مَرَابضُ العينِ حتَّى يَارَجَ الخَشَبُ
من معنى قول العجاج:
مَثْوَاهُ عَطَّارِينَ بالعُطُورِ
وأخذ قوله:
كأَنَّها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
من معنى امرىء القيس:
كبِكْرِ مُقَاناة البَيَاضِ بخُضْرَةٍ ... غَذَاها نَميرُ الماءِ غَيْرَ مُحَلَّلِ
وكذلك كان يرويه: وأخذ من كعب بن زهير في صفة الآثار ما قد ذكرته في أخبار زهير.
وقال ذو الرمة، وهو من حسن شعره.
وأَرْمِى إلى الأَرْضِ الَّتي من وَرَائكُمْ ... لتَرْجِعَنِى يَوْماً عليكَ الرَّوَاجعُ
وقال آخر في معناه:
وأَذْهَبُ في الأَرْضِ الَّتي من وَرَائكُمْ ... لأُعْذَرَ في إِتْيانِكُمْ حينَ أَرْجعُ
وسمع أعرابي ذا الرمة وهو ينشد:
تُصْغِى إِذَا شَدَّها بالكُورِ جانحَةً ... حَتَّى إِذَا ما اسْتَوَى في غَرزِها تَشِبُ
فقال الأعرابي صرع والله الرجل! ألا قلت كما قال عمك الراعي:
وواضعَةٍ خَدَّها للزِّما ... مِ فالخَدُّ منها له أَصْعَرُ
ولا تُعْجِلُ المَرْءَ قَبْل البُرُو ... كِ وهْىَ بركبتَهِا أَبْصَرُ
وهِىَ إِذا قام في غَرْزِها ... كَمِثْلِ السَّفينَة أَو أَوْقَرُ
وأخذ عليه قوله يصف الكلاب:
حَتَّى إِذا دَوَّمَتْ في الأَرِض راجَعَهُ ... كِبْرٌ ولو شاءَ نَجَّى نَفْسَهُ الهَرَبُ
قالوا: والتدويم إنما هو في الجو، يقال: دوم الطائر في السماء: إذا حلق واستدار في طيرانه ودوي في الأرض: أي ذهب.
وقولوا: ذو الرمة أحسن الناس تشبيهاً، وإنما وضعه عندهم أنه كان لا يجيد المدح ولا الهجاء، ولما أنشد بلال بن أبي بردة قوله:
رَأَيْتُ الناسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً ... فقُلْتُ لِصَيْدَحَ انتَجِعِى بِلاَلاَ
قال بلالٌ: يا غلامٌ أعطه حبل قت لصيدح.
قالوا: وغلط في قوله في النساء:
وما الفَقْرُ أَزْرَى عنْدَهُنَّ بوَصْلنا ... ولكِنْ جَرَتْ أَخْلاَقُهُنَّ على البُخْلِ
قالوا: والجيد قول علقمة:
يُرِدْنَ ثَراءَ المالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ ... وشَرْخُ الشَّبَاب عنْدَهُنَّ عَجِيبُ
وقول امرىء القيس:
أَراهُنَّ لا يُحْبِبْنَ مَنْ قَلَّ مالُهُ ... ولا مَنْ رَأَيْنَ الشَّيْبَ فيه وقَوَّسَا
وأشد هجائه قوله:
وأَمْثَلُ أَخْلاَقِ امْرِىءِ القَيْسِ أَنَّها ... صِلاَبٌ على طُولِ الهَوَانِ جُلُودُها

وما انتُظِرَتْ غُيَّابُها لعَظيمَةٍ ... ولا استُعْمِرَتْ في جُلِّ أَمْرٍ شُهُودُها
إِذَا مَرَئيَّاتٌ حَلَلْنَ ببَلْدَةٍ ... منَ الأَرْضِ لم يَصْلُحْ طَهُوراً صَعيدُها
ويستحسن له قوله في الظبية وولدها:
إِذَا استَوْدَعَتْه صِفْصَفاً أَو صَرِيمَةً ... تَنَحَّتْ ونَصَّتْ جِيدَها للمناظرِ
حِذَاراً على وَسْنَانَ يَصرَعُهُ الكَرَى ... بكُلِّ مَقيلٍ من ضعافٍ فَوَاترِ
وتَهْجُرهُ إِلاَّ اختْلاَساً بطَرْفِها ... وكَمْ من مُحبٍّ رَهْبَةَ العَيْنِ هاجِرِ
ومما صحف فيه من شعره قوله:
بَراهُنَّ تَفْويزى إِذا الآلُ أَرْقَلَتْ ... به الشمسُ إِزْرَ الحَزْوَرَات الفَوالكِ
رواه أبو عمرو أرقلت وقال الأصمعي: إنما هو أرفلت ومعناه أسبغت وغطت، يريد أسبغت إزر الحزوارت من الآل.

نهار بن توسعة
هو نهار بن توسعة بن أبي عتبان، من بكر بن وائلٍ، من بني حنتم وكان أشعر بكر بن وائل بخراسان، وهو القائل:
أبي الإسْلامُ لا أَبَ لِي سِوَاهُ ... إِذَا هَتَفُوا بِبَكْرٍ أَو تَميمِ
دَعُّى القَوْمِ يَنْصُرُ مُدَّعِيهِ ... فيُلْحقُهُ بذي النَّسَبَ الصَّميمِ
وما كَرَمٌ ولو شَرُفَتْ جُدُودٌ ... ولكنَّ التَّقِىَّ هو الكَرِيمُ
وكان هجا قتيبة بن مسلمٍ فقال:
أَقُتَيْبَ قد قُلْنا غَدَاةَ لَقيتَنا ... بَدلٌ لَعَمْرُكَ من يَزِيدٍ أَعْوَرُ
وقال أيضاً:
كانَتْ خُرَاسانُ أَرْضاً إِذ يَزيدُ بها ... وكُلُّ بابٍ منَ الخَيْرَات مفتُوحُ
فَبُدِّلَتْ بَعْدَهُ قِردْاً نُطيفُ به ... كَأَنَّما وَجْهُهُ بالخَلِّ مَنْضُوحُ
فبلغ ذلك وغيره من هجائه قتيبة، فطلبه فهرب، وأتى أم قتيبة فأخذ منها كتاباً إليه في الرضى عنه وترك مؤاخذته بما كان منه، فرضي عنه، فقال له نهارٌ: إن نفسي لا تسكن ولا تطيب حتى تأمر لي بشيءٍ، فإني أعلم أنك إذا اتخذت عندي معروفاً لم تكدره، فأعطاه، فقال:
ما كان فيمَنْ كان في الناسِ قَبْلنَا ... ولا هو فيمَنْ بَعْدَنا كابْنِ مُسْلمِ
أَشَدَّ على الكُفَّارِ قَتْلاً بسَيْفه ... وأَكْثَرَ فينا مَقْسِماً بَعْدَ مَقْسِمِ
فقال له قتيبة: ألست القائل:
أَلاَ ذَهَبَ الغَزْوُ المُقّرَّبُ للغِنَى ... ومات النَّدَى والغَزْوُ بَعْدَ المُهَلَّبِ
فقال له: إن الذي أنت فيه ليس بالغزو ولكنه الحشر.
وأمر له قتيبة بصلةٍ فأبطأت عنه، ولقيه فقال:
ولقَدْ عَلمْتُ وأَنْتَ تَعْلَمُهُ ... أَنَّ العَطاءَ يشينُهُ الحَبْسُ
فقال: عجلوا له الجائزة.
ابن قيس الرقيات
هو عبيد الله بن قيس، أحد بني عامر بن لؤي، وإنما سمي الرقيات لأنه كان يشبب بثلاث نسوة يقال لهم جميعاً رقية.
وهو القائل في مصعب بن الزبير:
إِنَّما مُصْعَبٌ شهابٌ منَ اللَّ ... ه تَجَلَّتْ عن وَجْهِه الظَّلْماءَ
مُلْكُهُ مُلْكُ رَحْمَةٍ لَيْسَ فيه ... جَبَرُوتٌ يُخْشَى ولا كِبْرَياءُ
يَتَّقِى اللهَ في الأُمُورِ وقَدْ أَفْ ... لَحَ منْ كان هَمَّهُ الاتِّقاءُ
كَيْفَ نَوْمِي على الفِرَاشِ ولَمَّا ... تَشْمَلِ الشَّأْمَ غارَةٌ شَعْواءُ
ولما قتل مصعبٌ وصار الأمر إلى عبد الملك بن مروان أتى عبيد الله بن قيس عبد الله بن جعفرٍ يستشفع به إليه، فقال له عبد الله ابن جعفر: إذا دخلت معي على عبد الملك فكل أكلاً يستبشعه عبد الملك ابن مروان! ففعل، فقال له: من هذا يا ابن جعفرٍ؟ قال: هذا أكذب الناس إن قتل! ومن هو! قال: الذي يقول:
ما نَقَمْوا من بني أُمَيَّةَ إِ ... لاَّ أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضبُوا
وأَنَّهُمْ مَعْدِنُ المُلوُك فلا ... تَصْلُحُ إلاَّ عليهِمُ العَرَبُ
فقال عبد الملك: قد عفونا عنه ولا يأخذ مع المسلمين عطاءً، فكان عبد الله بن جعفر إذا خرج عطاؤه أعطاه.
وكان يمدحه بعد ذلك، وهو القائل فيه:

تَقَدَّتْ بيَ الشَّهْباءُ نَحْوَ ابنِ جَعْفَر ... سَوَاءٌ عليها لَيْلُها ونَهَارُهَا
ووالله لولا أَنْ تَزُورَ ابنَ جَعْفَرْ ... لكان قَليلاً في دمَشْقَ قَرَارُهَا
أَتَيْنَاكَ نُثْنى بالذي أَنْتَ أَهْلُهُ ... عليكَ كما أَثْنَى على الرَّوْضِ جارُهَا
وأنشد عبد الملك:
إِنَّ الحَوَادثَ بالمَدينَة قَدْ ... أَوْجَعْنَني وقَرَعْنَ مَرْوَتِيَهْ
وجَبَبْنَنى جَبَّ السِّنام ولم ... يَتْرُكْنَ رِيشاً في مَناكِبِيَهْ
فقال له: أحسنت لولا أنك خنثت في قوافيه! فقال: ما عدوت كتاب الله " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " وإنما أخذ قوله وقرعن مروتيه من قول أبي ذؤيب:
حتَّى كأَني للحَوَادثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا المُشَرَّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ

أيمن بن خريم
هو أيمن بن خريم بن فاتك، من بني أسد، وكان أبوه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث، وكان به برصٌ، وكان أثيراً عند عبد العزيز بن مروان، فعتب عليه أيمن يوماً فقال له: أنت طرفٌ ملولة! فقال له: أنا ملولةٌ وأنا أؤاكلك؟ فلحق ببشر بن مروان فأكرمه واختصه، ولم يكن يواكله، فدخل عليه يوماً وبين يديه لبنٌ قد وضع فقال له: إني حدثت البارحة نفسي بالصوم، فلما أصبحوا أتوني بهذا وهم لا يعلمون، ولا أرى أحدا أحق به منك، فدونكه! وهو القائل:
إِنَّ للفتْنَة مَيْطاً بَيِّناً ... فرُوَيْدَ المَيْطَ منها تَعْتَدِلْ
فإِذَا كان عَطاءٌ فأْتهِمْ ... وإِذَا كان قِتَالٌ فاعْتَزِلْ
إِنَّما يَسْعَرُها جُهَّالُها ... حَطَبَ النَّارِ فدَعْها تَشْتَعِلْ
وقال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم: إن أباك كانت له صحبةٌ ولعمك، فخذ هذا المال وانطلق فقاتل ابن الزبير، فأبى وقال:
ولَسْتُ بقاتلٍ رَجْلاً يُصَلِّى ... على سُلْطانِ آخَرَ من قُرَيْشِ
له سُلْطانُهُ وعلىَّ وِزْرِى ... مَعاذَ الله من سفَهِ وطَيْشِ
أأَقْتُلُ مُسْلِماً وأَعيشُ حَيّاً ... فليس بِنافعِ ما عشْتُ عَيْشي
وكان غزا مع يحيى بن الحكم فأصاب يحيى جاريةٌ برصاء، فأهداها له، فغضب وقال:
تَرَكْتُ بني مَرْوانَ تَنْدَى أَكُفُّهُمْ ... وصاحَبْتُ يَحْيَى ضَلَّةً من ضَلاَليَا
خَليلاً إِذَا ما جِئْتُهُ أَو لَقيتُهُ ... يَهُمُّ بشَتْمِى أَو يُريدُ قِتَاليَا
فإِنَّكَ لو أَشْبَهْتَ مَرْوانَ لم تَقُلْ ... لقَوْمِى هُجْراً إِذْ أَتَوْكَ ولا لِيَا
وقال القائل:
لَقيتُ منَ الغانِيَاتِ العُجابَا ... لَوَ ادْرَكَ منَّى العَذَارَى الشَّبابَا
ولكنَّ جَمْعَ العَذَارَى الحسانِ ... عَناءٌ شَديدٌ إِذَا المَرْءُ شاباَ
يُرَضْنَ بكُلِّ عَصَا رائضٍ ... ويُصْبِحْنَ كُلَّ غَدَاةٍ صعابَا
عَلامَ يُكَحِّلْنَ نُجْلَ العُيُونِ ... ويُحْدثْنَ بَعْدَ الخِضَاب الخِضابَا
ويُبْرِقْنَ إِلاَّ لما تَعْلَمُونَ ... فلا تَحْرِمُوا الغانيَاتِ الضرَابَا
إِذَا لم يُخَالَطْنَ كلَّ الخِلاَ ... ط أَصْبَحْنَ مُخْرَنْطمَاتٍ غِضَابَا
يُميتُ العتَابَ خِلاَط النِّسَاءِ ... ويُحْيى اجْتنابُ الخِلاطَ العتابَا
وقال له عبد الملك بن مروان حين أنشده هذه الأبيات: ما عرف النساء أحدٌ معرفتك؟
مسكين الدارمي
هو ربيعة بن عامر بن أنيفٍ، من بني دارم، ومسكينٌ لقبٌ، وقال:
وسُمِّيتُ مِسْكيناً وكانَتْ لَجَاجَةً ... وإني لَمِسْكينٌ إلى الله راغبُ
وهو القائل في معاوية:
إِلَيْكَ أَميرَ المُؤْمنينَ رَحَلْتُها ... تُثيرُ القَطَا لَيْلاً وهُنَّ هُجُودُ
على الطائرِ المَيْمُون والجَدُّ صاعدٌ ... لكُلِّ أُناسٍ طائرٌ وجُدُودُ
إِذَا المِنْبَرُ الغَرْبُّى خَلَّى مكانهَ ... فإِنَّ أَميرَ المُؤْمنينَ يَزيدُ
وهو القائل:

وإِذَا الفاحشُ لاقَى فاحشاً ... فهُنَاكُمْ وافَقَ الشًّنُّ الطَّبَقْ
إِنَّما الفُحْشُ ومَنْ يَعْتادُهُ ... كَغُرَاب السِّوْءِ ما شاءِ نَعَقْ
أَو حِمارِ السِّوْءِ إِنْ أَشَبَعْتَهُ ... رَمَحَ الناسَ وإِنْ جاع نَهَقْ
أَو غُلامِ السِّوْءِ إِن جَوَّعْتَه ... سَرَقَ الجارَ وإِنْ يُشْبَعْ فَسَقْ
أَو كَغَيْرَى رَفَعَتْ من ذَيْلِها ... ثُمَّ أَرْخَتْه ضِرَاراً فامَّزَقْ
أَيها السائِلُ عن مَّنْ قد مَضَى ... هَلْ جِديدٌ مِثْلُ مَلْبُوس خَلَقْ
ولا عقب لمسكينٍ.
وهو القائل:
ناري ونارُ الجارِ واحِدَةٌ ... وإلَيْه قَبْلِى تُنْزَلُ القِدْرُ
ما ضَرَّ جاراً لي أُجاوِرُهُ ... أَلاَّ يَكُونَ لبابِه ستْرُ
أَعْمَى إِذَا ما جارَتِى بَرَزَتْ ... حتَّى يُغَيِّبَ جارَتِى الخِدْرُ

الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
عمر بن أبي ربيعة
هو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، من بني مخزوم. ويكنى أبا الخطاب. وأبو جهل بن هشام بن المغيرة ابن عم أبيه. وأم عمر بن الخطاب حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبيه. وكان أبوه عبد الله يلقب بحيراً.
وأخوه الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة يلقب القباع، في ولايته بالبصرة، فلقب به، وفيه يقول الفرزدق:
أَحارثُ دارِي مَرَّتيْنِ هَدَمْتَها ... وأَنْتَ ابنُ أُخْتٍ لا تُخافُ غَوَائلُهْ
وله أخٌ آخر يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، كان أحول، وتزوج أم كلثومٍ بنت أبي بكر بعد موت طلحة، فولدت له وللحارث عقب، ولا عقب لعمر. وكانت أمه نصرانية، وهي أم إخوته.
وكان عمر فاسقاً، يتعرض للنساء الحواج، في الطواف وغيره من مشاعر الحج، ويشبب بهن، فسيره عمر بن عبد العزيز إلى الدهلك، ثم ختم له بالشهاده. قال عبد الله بن عمر فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة. غزا في البحر فأحرقوا سفينته، فاحترق.
وكان يشبب بسكينه، وفيها يقول كذباً عليها
قالَتْ سُكَيْنَةُ والدُّمُوعُ ذَوَارِفٌ ... منْها على الخَدَّيْنِ والجِلْباب
لَيْتَ المُغيرِىَّ الذي لم نَجْزِه ... فيما أَطالَ تَصَيُّدي وطلاَ بي
كانَتْ تَرُدُّ لنا المُنَى أَيَّامَهُ ... إذْ لا يُلامُ على هَوًى وتَصابي
خُبِّرْتُ ما قالَتْ فبِتُّ كأَنَّما ... يُرْمى الحَشَا بنَوَافذ النُّشَّاب
أَسُكَيْنَ ما ماءُ الفُرَان وطِيبُهُ ... مِنَّا على ظَمَأٍ وحُبِّ شَرَاب
بأَلَذَّ منْكِ وإِنْ نأَيْتِ وقَلَّما ... تَرْعَى النِّساءُ أَمانَةَ الغُيَّاب
وشبب بابنة لعبد الملك بن مروان وهي حاجة، ولها يقول:
افعَلِي بالأَسِيرِ إِحْدَى ثَلاثٍ ... وافْهَميهِنَّ ثمَّ رُدِّي جَوَابي
اُقْتُليه قَتْلاً سَرِيحاً مُرِيحاً ... لا تَكوني عليه سَوْطَ عَذَاب
أَو أَقِيدي فإِنَّما النَّفْسُ بالنَّف ... سِ قَضاءً مُفَصَّلاً في الكتَاب
أَو صليه وَصْلاً يَقِرُّ عليه ... إِنْ شَرَّ الوِصالِ وَصْلُ الكِذَابِ
في أبيات كثيرة، فأعطت الذي أتاها بالشعر لكل بيتٍ عشرة دنانير! والتقى عمر بن أبي ربيعة وجميل، فتناشدا، فأنشده عمر بن أبي ربيعة:
ولَمّا تَوَافَيْنا عَلمْتُ الذي بها ... كمثْلِ الذي بي حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ
فقالَتْ وأَرْخَتْ جانبَ السَّتْرِ إِنَّمامَعِي، فَتكَلَّمْ غَيْرَ ذي رِقْبَةٍ، أَهْلِي
فقُلْتُ لها ما بي لَهُمْ من تَرَقُّبٍ ... ولكِنَّ سِرِّي لَيْسَ يَحْمِلُهُ مثْلِي
يقول لا يصلح أن يحمله إلا أنا ولا يصلح أن يحمله غيري، ومثله في الكلام هذا الأمر لا يحمله حامل مثلي. فأستخذى جميل وصاح هذا والله ما أرادته الشعراء فأخطأته وتعللت بوصف الديار! ويستحسن له قوله في المساعدة:

وخِلٍّ كُنْتُ عَيْنَ النُّصْحِ منه ... إِذا نَظَرَتْ ومُسْتَمِعاً سَمِيعَا
أَطافَ بِغَيَّةٍ فنَهَيْتُ عنها ... وقُلْتُ له أَرَى أَمْراً شَنِيعَا
أَرَدْتُ رَشَادَهُ جُهْدي فلمَّا ... أَبَى وعَصَى أَتَيْناها جَميعا
ويستحسن له قوله في نحول البدن:
رَأَتْ رَجُلاً أَمَّا إِذا الشَّمْسُ عارَضَتْ ... فيَضْحَى وأَمَّا بالعَشىّ فيَخْصَرُ
قَليلاً على ظهْرِ المَطيَّةِ شَخْصُهُ ... خَلاَ ما نَبَى عنه الرّداءُ المُحَبَّرُ
وأحسن منه قول المجنون في نحول البدن:
أَلا إِنَّما غادَرْتِ يا أُمَّ مالك ... صَدىً أَيْنَما تَذْهَبْ به الرّيحُ يَذْهَب
وممن أفرط في هذا المعنى رجل من الأعراب، قال:
ولَوْ أَنَّ ما أَبْقَيْتِ مِنّي مُعَلَّقٌ ... بعُود ثُمَامٍ ما تَأَوَّدَ عُودُها
ونحوه قول عبيد بن أيوب العنبري وذكر ناقته:
حَمَلْتُ عليها ما لَوَ أنَّ حَمَامَةً ... تُحَمَّلُهُ طارَتْ به في الجَفَاجِف
رُحَيْلاً وأقْطاعاً وأَعْظُمَ وامِق ... بَرَى جِسْمَهُ طُولُ السُّرَى والمخَاوِفِ
ويستحسن لعمر قوله
إنَّ لي عنْدَ كُلِّ نَفْحَةِ رَيْحا ... نٍ منَ الجُلِّ أو منَ الياسَمِينا
اِلْتفاتاً ورَوْعَةً لَكِ أرْجُو ... أَنْ تَكُونِي حَلَلْتِ فيما يَلينَا
وحج عبد الملك بن مروان فلقيه عمر بن أبي ربيعة بالمدينة، فقال له عبد الملك يافاسق! قال بئست تحية ابن العم على على طول الشحط! قال يا فاسق، أما أن قريشاً لتعلم أنك أطولها صبوةً وأبطؤها توبةً ألست القائل:
ولَوْلا أن تُعَنِّفَنيْ قُرَيْشٌ ... مَقَالَ الناصحِ الأَدْنَى الشَّفيق
لَقُلْتُ إِذا الْتَقَيْنا قَبِّلينِي ... ولَوْ كُنَّا على ظَهْرِ الطَّريقِ
وكان أخوه الحارث خيراً عفيفاً، فعاتبه يوماً من الأيام، قال عمر وكنت يومئذٍ على ميعاد من الثريا، قال فرحت إلى المسجد مع المغرب، وجاءت الثريا( للميعاد)، فتجد الحرث مستلقياً على فراشه، فألقت بنفسها عليه وهي لا تشك أنى هو! فوثب وقال من أنت؟ فقيل له الثريا،فقال ما أرى عمر انتفع بعظتنا! قال وجئت للميعاد ولا أعلم بما كان،فأقبل عليَّ وقال ويلك،كدنا والله نفتن بعدك، لا والله إن شعرت إلاَّ و(الثريا) صاحبتك واقعة علىَّ، فقلت لا تمسك النار بعدها أبداً!!فقال عليك لعنة الله وعليها.
فلما تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوفٍ الثرياّ قال عمر:
أَيُّها المُنْكِحُ الثُّريّا سُهَيْلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كَيْفَ يَجْتَمعانِ
هيَ شأْميَّةٌ إذَا ما استَقَلَّتْ ... وسُهَيْلٌ إِذَا استَقَلَّ يَمانِ؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

الأقيشر
هو المغيرة بن الأسود بن وهب،أحد بنى أسد بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مضر. وكان يغضب إذا قيل الأقيشر،فمر ذات يوم بقومٍ من بنى عبسٍ،فقال له بعضهم يا أقيشر،فنظر إليه ساعةَّ وهو مغضب،ثم قال:
أَتَدْعُوني الأُقَيْشِرَ ذلكَ اسْمى ... وأَدْعُوكَ ابْنَ مُطْفِئَةِ السِّرَاجِ
تُنَاجِي خِدْنَهَا بالَّليْلِ سرَّا ... ورَبُّ الناسِ يَعْلَمُ ما تُناجِي
فسمى الرجل " ابن مطفئة السراج " وولده ينسبون إلى ذلك " إلى اليوم " .
ومر بمطر بن ناحية اليربوعي حين غلب على الكوفة أيام الضحاك ابن قيس الشاري، ومطرٌ على المنبر يخطب " الناس " فقال:
أَبَنِي تَميم ما لمنْبَرِ مُلْككُمْ ... لا يَسْتَقرُّ قُعُودُهُ يَتَمَرْمَرُ
إِنَّ المَنَابِرَ أَنْكَرَتْ أَسْتَاهَكُمْ ... فادْعُوا خُزَيْمَةَ يَسْتَقرَّ المنْبَرُ
خَلَعُوا أَميرَ المُؤْمنينَ وبايَعُوا ... مَطَراً، لَعَمْرُكُ بَيْعَةً لا تَظْهرُ
واسْتَخْلَفُوا مَطَراً فكان كَقَائِلٍ ... بَدَلٌ لَعَمْرُكَ من يَزِيدٍ أَعْوَرُ

فبلغ ذلك، جرير بن الخطفي، فأتى بني أسدٍ فقال أما والله لولا الرحم ما اجترأ خليعكم على، فاستكفوه، فأخذوا الأقيشر فضربوه، فانصرف عنهم جرير، ودس إلى الأقيشر رجلاً، فقال له إني جئت لأهجو قومك وتهجو قومي، قال وممن أنت؟ قال من بني تميم، فقال الأقيشر:
لا أَسَداً أَسُبُّ ولا تَميماً ... وكَيْفَ يَحلُّ سَبُّ الأَكْرَمينَا
ولَكنَّ التَّقارُضَ حَلَّ بَيْنِي ... وبَيْنَكَ يا بْنَ مُضْرِطَةِ العَجِينَا
فسمي ذلك الرجل " ابن مضرطة العجين " ! وكان الأقيشر صاحب شرابٍ، فأخذوه الأعوان بالكوفه، وقالوا شارب خمر؟ فقال لست شارب خمرٍ، ولكني أكلت سفرجلاً! وأنشأ يقول:
يَقُولُونَ لي إِنْكَهْ شَرِبْتَ مُدَامَةً ... فقَلْتُ لهم لا، بَلْ أَكَلْتُ سَفَرْجَلا
وهو القائل:
أَفْنَى تِلاَدِي وما جَمَّعْتُ من نَشَبٍ ... قَرْعُ القَوَاقيزِ أَفْوَاهُ الأَبارِيقِ
كَأَنَّهُنَّ، وأَيْدي القَوْم مُعْمَلَةٌ ... إِذا تَلأْلأْنَ في أَيْدي الغَرَانيقِ
بَنَاتُ ماءٍ مَعاً بِيضٌ جَنَاجِنُهَا ... حُمْرٌ مَناقيرُها صُفْرُ الحَمَاليقِ
هِيَ اللَّذَاذَةُ ما لم تَأْتِ مَنْقَصَةً ... أَو تَرْمِ فيها بسَهْمٍ سَاقِط الفُوقِ
وهو القائل:
وصَهْبَاءَ جُرْجَانيَّةٍ لم يَطُفْ بها ... حَنيفٌ ولم تَنْغَرْ بها ساعَةً قِدْرُ
أَتانِي بها يَحْيَى، وقد نِمْتُ نَوْمَةً ... وقد غارَت الشِّعْرى وقد خَفَقَ النَّسْرُ
فقُلْتُ اغْتَبِقْهَا أَو لَغيْرِي فأَهْدِهافما أَنا بَعْدَ الشَّيْبِ وَيْبَكَ والخَمْرُ
إِذَا المَرْءُ وَفَّى الأَربعينَ ولم يَكُنْ ... له دُونَ ما يَأْتِي حَيَاءٌ ولا سِتْرُ
فدَعْهُ ولا تَنْفَسْ عليه الذي أَتَى ... وإِنْ جَرَّ أَرْسانَ الحَيَاة له الدَّهْرُ
وكان له جار صالح يقال له يحيى، فقال له يا فاسق وأنا جئتك بها، فقال يرحمك الله ما أكثر يحي في الناس.

المجنون
هو قيس بن معاذ، ويقال قيس بن الملوح. أحد بني جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويقال بل هو من بني عقيل ابن كعب بن ربيعة.
ولقبه المجنون لذهاب عقله بشدة عشقه.
وكان الأصمعي يقول لم يكن مجنوناً، ولكن كان فيه لوثة كلوثة أبي حية.
وهو من أشعر الناس، على أنهم قد نحلوه شعراً كثيراً رقيقاً يشبه شعره، كقول أبي صخر الهذلي:
أَما والَّذي أَبْكَى وأَضْحَكَ والَّذي ... أَماتَ وأَحْيَا والَّذي أَمْرُهُ الأَمْرُ
لقَدْ تَرَكَتْني أَحْسُدُ الوَحْشَ أَنْ أَرَىأَليفَيْنِ منها لا يَرُوعُهُما النَّفْرُ
فيا هجر لَيْلى قد بَلَغْتَ بيَ المَدَى ... وزِدْتَ على ما لم يَكُنْ بَلَغَ الهَجْرُ
ويا حُبَّها زِدْني جَوًى كُلَّ لَيْلَةٍ ... ويا سَلْوَةَ الأَيَّامِ مَوْعِدُكِ الحَشْرُ
وَصَلْتُك حتَّى قُلْتِ لا يَعْرُ القِلى ... وزُرْتُكِ حتَّى قُلْتِ لَيْسَ له صَبْرُ
إِذا ذُكرَتْ يَرْتَاحُ قَلْبِي لذكْرِها ... كما انْتَفَضَ العصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
عَجبْتُ لَسْعيِ الدَّهْرِ بَيْني وبَيْنَهافلَمَّا انْقَضَى ما بَيْنَنا سَكَنَ الدَّهْرُ
وكقول أبي بكر ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة:
بَيْنَما نَحْنُ من بَلاَكثَ بالقا ... عِ سِرَاعاً والعيسُ تَهْوِى هُوِيَّا
خَطَرَتْ خَطْرَةٌ على القَلْب من ذِك ... راك وَهْناً فما استَطَعْتُ مُضيَّا
قُلْتُ لَبَّيْكِ، إِذ دَعَاني لَكِ الشَّوْ ... قُ، وللحادِيَيْن كُرَّا المَطِيَّا
وكان المجنون وليلى - صاحبته - يرعيان البهم وهما صبيان، فعلقها علاقة الصبا، وفي ذلك يقول:
تَعَلَّقْتُ لَيْلى وهْيَ غِرٌّ صَغيرَةٌ ... ولم يَبْدُ للأَتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ
صَبِيَّانِ نَرْعَى البَهْمَ يا لَيْتَ أَنَّناإِلى اليَوْمِ لم نَكْبَرْ ولم يَكْبَرِ البَهْمُ

ثم نشأ وكان يجلس معها ويتحدث في ناس من قومه، وكان جميلاً ظريفاً راوية للأشعار حلو الحديث، فكانت تعرض عنه وتقبل على غيره بالحديث، حتى شق ذلك عليه، وعرفته منه، فأقبلت عليه فقالت:
كلانا مُظْهِرٌ للناس بُغْضاً ... وكُلُّ عند صاحبِهِ مَكينُ
ثم تمادى به الأمر، حتى ذهب عقله، وهام مع الوحش، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقه، ولا يعقل شيئاً إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت ثاب وتحدث عنها لا يسقط حرفاً.
فسعى عليهم نوفل بن مساحق، فنزل مجمعاً من تلك المجامع، فرآه عرياناً يلعب بالتراب، فكساه ثوباً، فقال له قائل؛ وهل تدري من هذا أصلحك الله؟ قال لا، قال هذا المجنون " قيس بن الملوح " ، ما يلبس الثياب ولا يريدها، فدعا به فكلمه، فجعل يجيبه عن غير ما يكلمه به، فقالوا له إن أردت أن يكلمك كلاماً صحيحاً فاذكر له ليلى وسله عن حبه لها، ففعل، فأقبل عليه المجنون يحدثه بحديثها وينشده شعره فيها، فقال له نوفلٌ الحب صيرك إلى ما أرى؟ قال نعم، وسينتهي بي إلى أشد مما ترى، قال أتحب أن أزوجكها ؟ قال نعم، وهل إلى ذلك من سبيل! قال انطلق معي حتى أقدم بك عليها فأخطبها لك وأرغب لك في المهر، قال أفتراك فاعلاً ؟ قال نعم، قال أنظر ما تقول! قال على أن أفعل بك ذلك، فارتحل معه، ودعا له بثياب فلبسها المجنون، وراح معه كأصح أصحابه، يحدثه وينشده، فبلغ ذلك قومها فتلقوه بالسلاح، وقالوا له والله يا بن مساحق، لا يدخل المجنون منزلنا أبدأ أو نموت، وقد هدر السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر، فأبوا، فلما رأى ذلك قال للمجنون انصرف، قال المجنون والله ما وفيت بالعهد، قال انصرافك أيسر على من سفك الدماء، فانصرف.
وفي ذلك يقول:
يا صاحِبَيَّ أَلمَّا بي بمنْزِلَةٍ ... قد مَرَّ حينٌ عليها أَيمَّا حينِ
في كُلِّ مَنْزِلَةٍ ديوَانُ مَعْرفَةٍ ... لم يُبْقِ باقيَةً ذِكْرُ الدَّواَوِين
إِني أَرَى رَجَعات الحُبِّ تقْتُلُني ... وكان في بَدْئها ما كان يَكْفيني
أَلْقَى منَ اليَأْس تاراتٍ فتَقْتُلُني ... وللرَّجاءِ بَشَاشاتٍ فتُحْيِيني
وفي رجوع عقله عند ذكرها يقول:
يا وَيْحَ مَنْ أَمْسَى تُخُلِّسَ عَقْلُهُ ... فأَصْبَحَ مَذْهُوباً به كُلَّ مَذْهَب
خَليعاً منَ الإِخْوانِ إِلاَّ مُعَذِّراً ... يُضاحكُني مَنْ كان يَهْوَى تَجنُّبِي
إِذا ذُكرَتْ لَيْلى عَقَلْتُ وراجَعَتْ ... رَوَائعُ عَقْلي مِنْ هَوىً متَشعِّب
وقالوا صَحيحٌ ما به طَيْفُ جِنَّةٍ ... ولا لَمَمٌ إِلا افتراءُ التَّكَذب
وخرج رجل من بني مرة إلى ناحية الشأم والحجاز، مما يلي تيماء والسراء بأرض نجد، في بغيةٍ له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له - عظيمة - وقد أصابه المطر، فعدل إليها، فتنحنح،فإذا امرأة قد كلمته فقالت انزل، قال فنزلت، وراحت إبلهم وغنمهم، فإذا أمر عظيم كثرةً ورعاةً، فقالت سلوا هذا الرجل من أين أقبل؟ فقلت من ناحية تهامة ونجد، فقالت يا عبد الله، أي بلاد نجدٍ وطئت؟ فقلت كلها، قالت: بمن نزلت هناك؟ فقلت ببني عامر، فتنفست الصعداء، ثم قالت: بأي بني عامر؟ فقلت ببني الحريش، فاستعبرت، ثم قالت هل سمعت بذكر فتىً منهم يقال له قيسٌ يلقب بالمجنون؟ فقلت إي والله، نزلت بأبيه وأتيته ونظرت إليه، قالت فما حاله؟ قلت يهيم في تلك الفيافي ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم، إلا أن تذكر له ليلى فيبكي وينشد أشعاراً يقولها فيها، قال فرفعت الستر بيني وبينها، فإذا شقة قمرٍ لم تر عيني مثلها قطُّ، فبكت وانتحبت، حتى ظننت - والله - أن قلبها قد انصدع، فقلت أيتها المرأة، أما تتقين الله؟ فوالله ما قلت بأساً! فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب، ثم قالت:
أَلا لَيْتَ شِعْرِي والخُطُوبُ كَثِيرةٌ ... متى رَحْلُ قَيْسٍ مُسْتَقِلٌّ فراجعُ
بِنَفْسِيَ مَنْ لا يَسْتَقِلُّ برَحْلِهِ ... ومَنْ هُوَ إِنْ لم يَحْفَظِ اللهُ ضائِعُ
ثم بكت حتى غشى عليها، فلما أفاقت قلت ومن أنت يا أمة الله؟ قالت أنا ليلى المشؤومة عليه غير المؤاسية له! فما رأيت مثل حزنها عليه وجزعها، ولا مثل وجدها.

وكان أبو المجنون ورهطه أتوا أبا ليلى وأهلها، وسألوهم بالرحم، وعطفوا عليهم، وأخبروهم بما ابتلى به، فأبى أبو ليلى، وحلف ألا يزوجها إياه أبداً، فقال الناس لأبي المجنون لو خرجت به إلى مكة فعاذ بالبيت ودعا الله رجوعاً أن ينساها أو يعافيه الله مما ابتلى به، فحج، فبينما هو يمشي بمنىً وأبوه معه قد أخذ بيده يريد الجمار، نادى منادٍ من تلك الخيام يا ليلى! فخر مغشياً عليه، واجتمع عليه الناس وضجوا، ونضحوا عليه من الماء، يبكى عند رأسه، ثم أفاق وهو مصفر لونه متغيرٌ حاله، فأنشأ يقول:
وداعٍ دَعَا إِذا نحنُ بالخَيْفِ من مِنىً ... فهَيَّجَ أَحْزَانَ الفُؤَادِ وما يَدْرِي
دَعَا باسْمِ لَيْلى غَيْرِها فكأَنَّما ... أَطارَ بلَيْلى طائِراً كان في صَدْرِي
حكى الهيثم بن عدي عن أبي مسكين قال خرج منا فتىً حتى إذا كان ببئر ميمون، إذا جماعة على جبل من تلك الجبال،وإذا بينهم فتىً قد تعلقوا به، مديد القامة طوال أبيض، جعد الشعر أعين، أحسن من رأيت من الرجال، وإذا هو مصفر مهزولٌ شاحب اللون، قال فسألت عنه؟ فقالوا هذا قيس الذي يقال له المجنون، خرج به أبوه الملوح حين ابتلى بما ابتلى به إلى الحرم مستجيراً بالبيت، لعل الله أن يفرج عنه، ومن رأيه أن يستجير بقبر النبي " صلى الله عليه وسلم " ، فقلت ما يصنع هاهنا وما لكم تمسكونه؟ قالوا لما يصنع بنفسه،فإنه يصنع بها صنيعاً يرحمه منه عدوه، ويقول أخرجوني أتنسم صبا نجدٍ، فنخرجه إلى ها هنا، فيستقبل بلاد نجد عسى أن تهب له الصبا، ونكره أن نخلي سبيله فيرمي بنفسه من الجبل، فلو شئت دنوت منه فأعلمته أنك قدمت من نجدٍ فيسألك عنها وعن بلاده فتخبره؛ فقلت أفعل، فقالوا يا أبا المهدي! هذا رجل قدم من بلاد نجد،؟فتنفس تنفساً ظننت أن ؟؟ ؟؟كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن وادٍ وادٍ وموضعٍ موضعٍ، وأنا أصف ذلك له وهو يبكي أحر بكاءٍ وأوجعه للقلب، ثم قال:
أَلا ليْتَ شِعْري عن عُوَارِضَتَيْ قَنىً ... لِطُولِ اللَّيالي هَلْ تَغَيَّرَتَا بَعْدِي
ومن عُلَوِيَّاتِ الرِّياحِ إِذا جَرَتْ ... برِيحِ الخُزَامى هَلْ تَهُبُّ على نَجْدِ
وعن أُقْحُوَانِ الرَّمْلِ ما هُوَ فاعِلٌ ... إِذا هُوَ أَسْرَى لَيْلَةً بثَرىً جَعْدِ
وهَلْ تَنْفُضَنَّ الرِّيحُ أَفْنَانَ لِمَّتيعلى لاحِقِ الرِّجْلَيْنِ مُنْدَلِق الوَخْدِ
وهَلْ أَسْمَعَنَّ الدَّهْرَ أَصْوَاتَ هَجْمةٍ ... تُطَالِعُ من وَهْدٍ خَصِيبٍ إلى وَهْد
وفي وجهه هذا يقول:
دَعَا المُحْرمُونَ اللهَ يَسْتَغْفِرُونَهُ ... بمكَّةَ لَيْلاً أَنْ تُمَحَّى ذُنُوبُها
ونادَيتُ يا رَبَّاهُ أَوَّلُ سالَتي ... لنَفْسِي لَلَيْلى، ثمَّ أَنتَ حَسِيبُها
فإِنْ أُعْطَ لَيْلَى في حَيَاتِي لا يَتُبْ ... إِلى اللهِ عَبْدٌ تَوْبَةً لا أَتُوبُها
وخرج شيخ من بني مرة إلى أرض بني عامر ليلقى المجنون، قال فدللت على خيمةٍ فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبير وإخوة له رجالٌ، وإذا نعم ظاهرةٌ وخيرٌ كثير، فسألتهم عن المجنون؟ فاستعبروا جميعاً وبكوا، قال الشيخ والله لهو كان آثر هؤلاء عندي، وإنه عشق امرأةً من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله، فلما أن فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ظهور الخبر، فزوجها من رجلٍ آخر، فجن ابني وجداً عليها وصبابة بها، فحبسناه وقيدناه فكان يعض لسانه وشفتيه، حتى خشينا أن يقطعهما، فلما رأينا ذلك خلينا سبيله، فهو في هذه الفيافي مع الوحش، يذهب في كل يومٍ بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنحوا عنه، جاء فأكل، وإذا أخلقت ثيابه أتوه بثياب فيلقونها حيث يراها، ويتنحون عنه، فإذا رآها أتاها فألقى ما عليه ثم لبسها.
قال فسألتهم أن يدلوني عليه لآتيه؟ فدلوني على فتىً من الحي، وقالوا لو يزل صديقه، وليس يأنس بأحدٍ إلا به، فهو يأخذ أشعاره فيأتينا بها، فأتيته فسألته أن يدلني على ما أحتال به للدنو منه، فقال إن كنت تريد شعره فكل شعرٍ قاله إلى أمسٍ فهو عندي، وأنا أذهب غداً، فإذا كان قال شيئاً أتيتك به، قال فقلت له لا، بل تدلني عليه فآتيه، فقال إن نفر منك تخوفت أن ينفر مني فيذهب شعره!

قال فأبيت إلا أن يدلني عليه، فقال نعم، اطلبه في هذه الصحارى، فإذا رأيته فادن منه مستأنساً، ولا تظهر النفارمنه، فإنه يتهددك ويتوعدك، وبالحرى أن يرميك بشيءٍ إن كان بيده، واجلس كأنك لا تنظر إليه، والحظه ببصرك، فإذا رأيته قد سكن أو عبس بيده فأنشده شعراً إن كنت تروي لقيسٍ بن ذريح شيئاً، فإنه يعجب به.
قال فخرجت أدور يومي، فما رأيته إلا بعد العصر جالساً على قوز من رمل، قد خط بإصبعه فيه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبضٍ منه، فنفر والله مني كما تنفر الوحش إذا نظرت إلى الإنس، وإلى جانبه أحجار ململمة، فتناول واحداً منها، فأقبلت حتى جلست إليه، ومكث ساعةً وكأنه الشيء النافر المتهيئ للقيام، فلما طال جلوسي سكن وأقبل يعبث بأصابعه، فنظرت إليه، فقلت أحسن والله قيس بن ذريحٍ حيث يقول:
وإِنِّي لمُفْنٍ دَمْعَ عَيْنَيَّ بالبُكَا ... حِذارَ الَّذي لَمَّا يَكُنْ وهْوَ كائِنُ
وقالوا غَداً أَو بَعْدَ ذاكَ بلَيْلَةٍ ... فِراقُ حَبِيب لم يَبِنْ وهْوَ بائِنُ
وما كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَنِيَّتِي ... بكَفَّيَّ إِلاَّ أَنَّ مَنْ حانَ حائِنُ
فبكى طويلاً، ثم قال أنا والله أشعر منه حيث أقول:
وأَدْنَيْتِنِي حتَّى إِذا ما سَبَيْتِني ... بقَوْلٍ يُحِلُّ العُصْمَ سَهْلَ الأَباطِحِ
تَجافَيْتِ عَنِّي حِينَ لا لِيَ حِيلَةٌ ... وخَلَّيْتِ ما خَلَّيْتِ بَيْنَ الجَوانحِ
ثم عنت له ظباءٌ فوثب في طلبها، فانصرفت، ثم عدت من الغد فلم أصبه، فرجعت فأخبرتهم، فوجهوا الذي كان يذهب بطعامه فأخبرهم أنه على حاله لم يأكل منه شيئاً، ثم عدت اليوم الثالث فلم أصبه، ونظرت إلى طعامه فإذا هو على حاله، ثم غدوت بعد ذلك وغدا إخوته وأهل بيته، فطلبناه يومنا وليلتنا، فما أصبناه، فلما أصبحنا أشرفنا على وادٍ كثير الحجارة، فإذا هو ميتٌ بينها، فاحتملوه ودفنوه.
وللمجنون عقبٌ بنجدٍ. ولم يقل أحد من الشعراء في معنى قوله وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني. شيئاً هو أحسن منه.
ونحوه قول ابن الأحنف:
أَشْكُو الَّذِينَ أَذَاقُوني مَحَبَّتَهُمْ ... حتَّى إِذا أَيْقَظُوني بالهَوَى رَقَدُوا
ومن جيد شعره، ويقال إنه منحول:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها ... خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوىً لَّها
فإذا وجَدتَ لها وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ ... شَفَعَ الضَّمِيرُ إِلى الفُؤَادِ فسَلَّها
بَيْضاءُ باكَرَها النَّعيمُ فصاغَها ... بلَبَاقَةٍ فأَدَقَّها وأَجَلَّها
إِنِّي لأَكْتُمُ في الحَشَا من حُبِّها ... وَجْداً لَوَ أصْبَحَ فَوْقَهَا لأَظَلَّها
ويَبيتُ تَحْتَ جَوانِحي حُبٌّ لها ... لو كان تَحْتَ فِراشهِا لأَقَلَّها
ضَنَّتْ بنائِلِها فقُلْت لِصاحِبِي ... ما كان أَكْثَرَها لَنَا وأَقَلَّها
ومن شعره الجيد قوله:
وخَبَّرْتُماني أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌلِلَيْلى إِذا ما الصَّيْفُ أَلْقَى المَرَاسيَا
فهذِي شُهُورُ الصَّيْفِ أَمْسَت قد انْقَضَتْفما للنَّوَى تَرْمِي بلَيْلَى المَرَامِيَا
ولَوْ كان واشٍ باليَمَامَة دارُهُ ... ودارِي بأَعْلى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا
إِذا ما جَلَسْنا مَجْلِساً نَسْتَلِذُّه ... تَوَاصَوْا بنا حَتَّى أَمَلَّ مَكَانِيَا
وماذا لَهُمْ، لا أَكْثَرَ اللهُ حَظَّهُمْ، ... منَ الحَظِّ في تَصْرِيم لَيْلى حِبَاليَا
وفيها يقول:
وإِنِّي لأَسْتَغْشِي وما بيَ نَعْسَةٌ ... لَعَلَّ خَيَالاً مِنْكِ يَلْقَى خَيَالِيَا
وأَخْرُجُ من بَيْنِ الجُلُوسِ لَعَلَّنيأُحَدِّثُ عَنْكِ النَّفْسَ في السِّرِّ خَالِيَا
هذا مثل قول ذي الرمة:
أُحِبُّ المَكانَ القَفْرَ من أَجْلِ أَنَّنِي ... به أَتَغَنَّى باسْمِها غَيْرَ مُعْجَم
ومما نحل:
يا حبَّذا عَمَلُ الشَّيْطانِ من عَمَلٍ ... إِنْ كان من عَمَلِ الشَّيْطانِ حُبّيها

العرجي

هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكان ينزل بموضعٍ قبل الطائف يقال له العرج فنسب إليه.
وهو أشعر بني أمية، وكان يهجو إبراهيم بن هشام المخزومي، فأخذه فحبسه. وهو القائل في السجن:
كأَنِّيَ لم أَكُنْ فيهمْ وَسِيطاً ... ولم تَكُ نِسْبَتِي في آلِ عَمْرِو
أَضاعُوني وأَيَّ فَتىً أَضاعُوا ... لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وسِدَادِ ثَغْرِ
ومر رجلان من قريش بعرج الطائف وبه العرجي، فاستتر منهما، وأمر غلمانه فأقروهما بشيء من لبنٍ وأقراصٍ، وألقوا لبعيرهما حمضاً، فلم يلبثا إلا يسيراً حتى أتى ابن لوذان مولى معاوية وغيره على حمير، فلما علم بهم العرجي ظهر ودعا لهم بالقسب والجلجلان، فقال أحد القرشيين:
سَرَتْ ما سَرَتْ من ليلها ثم عَرَّجَتْ ... على رَجُلٍ بالعَرْج أَلأَمَ من كَلْبِ
جَلَسْنا طَوِيلاً ثم جاءَ بصَرْبَةٍ ... على قُرْص دُخْنٍ مِثْلَ كِرْكِرَةِ السَّقْبِ
فأَمّا بَعِيرانا فبالحَمْضِ غُذِّيَا ... وأُوثِرَ أَعْيارُ ابنِ لَوْذانَ بالقَضْبِ
جَعَلْتَ خِيَارَ الناسِ دُونَ شِرَارِهِمْ ... وآثَرْتَهُمْ بالجُلْجُلانِ وبالقَسْبِ
ومما يستجاد له قوله:
سَمَّيْتَنِي خَلَقاً لخُلَّةٍ قَدُمَتْ ... ولا جَدِيدَ إِذا لم يُلْبَسِ الخَلَقُ
يا أَيَّها المُتَحَلِّي غَيرَ شيمَتِه ... ومن سَجِيَّتِه الإكثارُ والمَلَقُ
اِرْجعْ إلى خُلْقِكَ المَعْروفِ دَيْدَنُهُ ... إِنَّ التَّخَلقَ يَأْتِي دُونَهُ الخُلُقُ
وهو القائل:
هَلْ في ادِّكارِ الحَبِيبِ من حَرَجِ ... أَمْ هَلْ لِهَمِّ الفُؤَادِ من فَرَجِ
أَمْ كيْفَ أَنْسى مَسِيرَنا حُرُماً ... يَوْمَ حَلَلْنا بالنَّخْلِ من أَمَجِ
يَوْمَ يَقُولُ الرَّسُولُ قد أَذِنَتْ ... فأْتِ على غَيرِ رِقْبَةٍ فَلِجِ
أَقْبَلْتُ أَهْوِي إِلى رِحالِهِمُ ... أُهْدَى إِلَيْها بريحِها الأَرِجِ
ويقال هو لجعفر بن الزبير.

موسى شهوات
هو موسى، وكان يلقب شهواتٍ، لأن عبد الله بن جعفر كان يتشهى عليه الأشياء فيشتريها له موسى ويتربح عليه، وهو مولى بني سهم، وأصله من أذربيجان.
وذكر أبو اليقظان عن جويرية قال ليس بالمدينة شاعرٌ من الموالي إلا وأصله من أذربيجان، ثم عد إسماعيل بن يسار، وأخوه موسى شهوات، وأبا العباس.
وكان فيه تخنيث. وهوى أمةً من إماء المدينة، فأتى سعيد ابن خالد بن عمرو بن عثمان، فشكا إليه حبها وسأله شراءها له، فاعتل عليه، فأتى سعيد بن خالد بن أسيد، فشكا إليه، فأمر له بثمنها، وزاده مائة دينار لجهارها وكسوتها، فقال فيه شعراً:
سَعِيدَ النَّدَى أَعْنِي سعِيدَ بن خالِدٍأَخَا العُرْفِ لا أَعْنِي ابنَ بِنْتِ سَعِيدِ
ولَكِنَّنِي أَعْني ابنَ عائِشَةَ الَّذِي ... كِلا أَبوَيْهِ خالِدُ بنُ أَسِيدِ
عَقِيدَ النَّدَى ما عاشَ يَرْضَى به النَّدَى ... فإِنْ ماتَ لم يَرْضَ النَّدَى بعَقِيد
وأم خالد هذا عائشة بنت خلف الخزاعية، أخت طلحة الطلحات لأمه.
وهو القائل:
ليْسَ فيما بَدَا لنا مِنْكَ عَيْبٌ ... عابَهُ الناسُ غَيْرَ أَنَّكَ فاني
أَنْتَ نِعْمَ المَتَاعُ لو كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لا بَقَاءَ لِلإِنْسَانِ
عروة بن أذينة
هو من بني ليث. وكان شريفاً ثبتاً يحمل عنه الحديث، ووفد على هشام بن عبد الملك فقال له ألست القائل:
لَقَدْ عَلِمتُ فما الإِسْرَافُ في طَمَعِى ... أَنَّ الَّذِي هو رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي
أَسْعَى له فَيُعَنَّينِي تَطَلُّبُهُ ... ولو قَعَدْتُ أَتَاني لا يُعنَّيني؟
قال نعم، قال فما أقدمك علينا؟! قال سأنظر في أمري! وخرج من فوره ذلك فانصرف، فأخبر بذلك هشام، فأتبعه جائزته.
وهو القائل:
قالَتْ وأَبْثَثْتُهَا وَجْدِى فبُحْتُ به ... قد كُنْتَ عِنْدِي تُحبُّ السَّترَ فاسْتَتر

أَلسْتَ تَبْصِرُ مَنْ حَوْلي؟ فقُلْتُ لها ... غَطَّى هَوَاكِ وما أَلْقَى على بَصَرِى
ووقفت عليه امرأة فقالت أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت تقول:
إِذا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِى ... عَمَدْتُ نَحْوَ سِقاءِ القَوْمِ أَبتَرِدُ
هذا بَرَدْتُ بِبَرْدِ الماءِ ظاهِرَهُ ... فمَنْ لنَارٍ على الأَحْشَاءِ تَتَّقِدُ؟
لا والله، ما قال هذا رجل صالح قط.
وحدثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال كان عروة بن أذينة ثقة ثبتاً، يروي عنه مالك بن أنس الفقيه.
قال قلوص وعروة هو القائل:
يا دِيَارَ الحَيِّ بالأَجَمَهْ ... لم تُبَيِّنْ دارُها كَلِمَهْ
الشعر له وهو وضع لحنه.

الكميت
هو الكميت بن زيد، من بني أسد، ويكنى المستهل، وكان معلماً.
وحدثنا سهل عن الأصمعي عن خلف الأحمر قال رأيت الكميت بالكوفة في مسجدٍ يعلم الصبيان. وكان أصم أصلخ لا يسمع شيئاً.
وكان بينه وبين الطرماح من المودة والمخالطة ما لم يكن بين اثنين، على تباعد ما بينهما في الدين والرأي، لأن الكميت كان رافضياً، وكان الطرماح خارجياً صفرياً، وكان الكميت عدنانياً عصبياً، وكان الطرماح قحطانياً عصبياً، وكان الطرماح متعصباً لأهل الكوفة، وكان الطرماح يتعصب لأهل الشام.
وكان الكميت شديد التكلف في الشعر، كثير السرقة، قال امرؤ القيس بن عابس الكندي، وكانت له صحبة:
قفْ بالدِّيارِ وُقُوفَ حابِسْ ... وتَأَىَّ إِنَّكَ غَيْرُ آيِسْ
ماذا عليكَ مِنَ الوُقُو ... فِ بهامِدِ الطَّلَلَيْنِ دارسْ
لَعِبَتْ بِهِنَّ العاصِفَا ... تُ الرائحاتُ مِنَ الرَّوَامِسْ
أخذه الكميت كله غير القافية فقال:
قِفْ بالدِّيارِ وُقُوفَ زائِرْ ... وتأَىَّ إِنَّكَ غَيْرُ صاغِرْ
ماذا عليك من الوُقُو ... فِ بهامِدِ الطَّلَلَيْنِ داثِرْ
دَرَجَتْ عَلَيْهِ الغاديا ... تُ الرائحاتُ مِنَ الأَعاصِرْ
وكذلك سائر الأبيات بعد هذا، إلا القليل، أخذه غير القافية.
وقد قدمت في أخبار الشعراء ما أخذه من أشعارهم.
ووقف الكميت على الفرزدق وهو ينشد، والكميت يومئذٍ صبي، فقال له الفرزدق يا غلام! أيسرك أني أبوك! فقال الكميت.
أما أبي فلا أريد به بدلاً، ولكن يسرني أن تكون أمي، فحصر الفرزدق يومئذٍ، وقال ما مر بي مثلها قط.
ويستجاد قوله في ذكر النبي " صلى الله عليه وسلم " :
يَقُولُونَ لم يُورَثْ ولولا تُرَاثُهُ ... لَقَدْ شَرِكَتْ فيهِ بَكِيلٌ وأَرْحَبُ
ولاَنْتَشلَتْ عُضْويْنِ منها يُحَابِرٌ ... وكان لعَبْدِ القَيِسِ عُضْوٌ مُؤَرَّبُ
فَإِنْ هي لم تَصْلُحْ لِحَىٍّ سِوَاهُمُ ... إِذَنْ فذَوُو القُرْبَى أَحَقُّ وأَقْرَبُ
فيالَكَ أَمْراً قد أُشِتَّتْ وُجُوهُهُ ... وداراً تَرَى أَسْبَابَها تَتَقَضَّبُ
تَبَدَّلتِ الأَشْرَارَ بَعْدَ خِيَارِها ... وجُدَّ بها من أُمَّةٍ وَهْىَ تَلْعَبُ
وقد قايس في هذا الشعر وذهب مذهباً لو لم يكن النبي " صلى الله عليه وسلم " جعل الأيمة من قريش.
وقال يصف هشام بن عبد الملك:
مُصِيبٌ على الأَعْوَادِ يَوْمَ رُكُوبِهِ ... لِما قال فيها مُخْطِئٌ حِينَ يَنْزِلُ
ومن جيد شعره قوله:
أَلاَ لاَ أَرَى الأَيَّامَ يُقْضَى عَجيبُهالِطُولٍ، ولا الأَحْدَاثَ تَفْنَى خُطُوبُهَا
ولا عِبَرُ الأَيَّامِ يَعْرِفُ بَعْضَها ... ببَعْضٍ مِنَ الأَقْوَامِ إِلاَّ لَبِيبُهَا
ولم أَرَ قَوْلَ المَرْءِ إِلاَّ كَنَبْلِه ... له وبه مَحْرومُها ومُصِيبُها
وما غُيِّبَ الأَقْوامُ عن مِثْلِ خُطَّةٍ ... تَغَّيبَ عَنْها يَوْمَ قيِلَتْ أَرِيبُها
وأَجْهَلُ جَهْلِ القَوْمِ ما في عَدُوَّهِمْ ... وَأَرْدَأُ أَحْلاَمِ الرِّجَال غَرِيبُها
وما غُبِنَ الأَقْوَامُ مِثْلَ عُقُولِهمْ ... ولا مِثْلَها كَسْباً أَفَادَ كُسُوبُها

وهَلْ يَعْدُوَنْ بَيْنَ الحَبِيبِ فِراقَهُ؟ ... نَعَم، داءُ نَفْسٍ أَن يَبِينَ حَبِيبُها
ولكِنَّ صَبْراً عن أَخٍ عَنْكَ صابِرٍ ... عَزَاءً إِذا ما النَّفْسُ حَنَّ طَرُوبُها
رَأَيْتُ عِذَابَ الماءِ إِن حِيلَ دُونَها ... كَفَاكَ لِمَا لا بُدَّ منه شَرُوبُها
وإِن لَمْ يَكُنْ إِلاَّ الأَسِنَّةَ مَرْكَبٌ ... فلا رَأَىَ للمضْطَرِّ إِلاَّ رُكُوبُها
وابنه المستهل هو القائل لبني العباس:
إِذا نَحْنُ خِفْنَا في زمان عَدُوِّكُمْ ... وخِفْناكُمُ إِنَّ البَلاَءَ لَرَاكِدُ

الطرماح
هو الطرماح بن حكيم، من طيىءٍ، ويكنى أبا نفر. وكان جده قيس بن جحدر أسره ملك من ملوك جفنة، فدخل عليه حاتم طيئٍ، فاستوهبه وقال:
فَكَكْتَ عَدِيًّا كُلَّها من إِسارها ... فأَفْضِلْ وشَفِّعِنى بقَيْسِ بن جَحْدَرِ
أَبُوهُ أَبِى والأُمُّ من أُمَّهاتِنا ... فأَنْعِمْ فَدَتْكَ اليَوْمَ نَفْسِي ومَعْشَرِي
فأطلقه.
ووفد قيس بن جحدر على رسول الله " صلى الله عليه وسلم " وأسلم.
والطرماح هو ابن حكيم ابن نفر بن قيس بن جحدر.وكان الطرماخ خطيباَ.
قال محمد بن سهل راوية الكميت أنشدت الكميت قول الطرماح:
إِذا قُبِضَتْ نَفْسُ الطِّرِمَّاح أَخْلَقَتْعُرَى المَجْدِ واسْتَرخَى عِنَانُ القَصَائِدِ
فقال الكميت أي والله وعنان الخطابة والرواية.
وكان نشأ بالسواد.
وقال رؤبة كان الكميت والطرماح يسألانني عن الغريب ثم أجده بعد ذلك في أشعارها.
وهو القائل:
وما أَنا بالراضِي بما غَيْرُهُ الرِّضَى ... ولا المُظْهِرِ الشَّكْوَى ببعْضِ الأَماكِنِ
وقال يهجو بني تميم:
ولا أَعْرِفُ النُّعْمَى عَلَىَّ ولم تَكُنْ ... وأَعْرِفُ فَصْلَ المَنْطِقِ المُتَغَابِنِ
أَفَخْراً تَمِيماً إِذْ فُتَيَّةُ خَبَّتِ ... ولُؤْماً إِذا ما المَشْرَفِيَّةُ سُلَّتِ
ولَوْ خَرَجَ الدَّجَّالُ يَنْشُدُ دِينَهُ ... لَوافَتْ تَمِيمٌ حَوْلَهُ وَاحْزَأَلَّتِ
فِرَاشَ ضَلاَلٍ بالعراقِ ونَبْوَةٍ ... إِذا مات مَيْتٌ من قُرَيْشٍ أَهَلَّتِ
فَخَرْتَ بيَوْمِ الَعَقرِ شَرْقيَّ بابِل ... وقد جَبُنَتْ فيه تَميمٌ وفُلَّتِ
فَخَرْتَ بيَوْمٍ لم يَكُنْ لَكَ فَخْرُهُ ... وقد نهِلتْ منْكَ الرِّماحُ وعَلَّتِ
كفَخْر الإِماءِ الرائحَاتِ عَشِيَّةً ... برَقْم حُدُوجِ الحَىِّ لَمَّا اسْتَقَلَّتِ
تَميمٌ بطُرْقِ اللُّؤْمِ أَهْدَى منَ القَطَا ... ولو سَلَكَتْ سُبْل المَكَارِمِ ضلَّتِ
ولَوْ أَنَّ بُرْغُوثاً على ظَهْر قَمْلَةٍ ... يَكُرُّ عَلى صفَّىْ تَميم لَوَلَّتِ
ولَوْ أَنَّ حُرْقُوصاً يُزَقَّقُ مَسْكَهُ ... إِذن نَهلَتْ منه تَميمٌ وعلَّتِ
ولَوْ جَمَعَتْ يَوماً تَميمٌ جُمُوعَها ... على ذَرَّةٍ مَعْقُولَةٍ لاسْتَقَلَّتِ
ولَوْ أَنَّ أُمَّ العَنْكَبُوت بَنَتْ لها ... مَظَلَّتَها يوْم النَّدَى لأَكَنَّتِ
وهذا من الإفراط.
وقال أيضاً:
لا عَزَّ نَصْرُ امْرِئٍ أَمْسَى له فَرَسٌ ... على تَميمٍ يُرِيدُ النَّصْر منْ أَحَدِ
لَوْ حانَ وِرْدُ تَميمٍ ثم قيلَ لها ... حَوْضُ الرَّسُولِ عليْه الأَزْدُ. لم تَردِ
أَوْ أَنْزَلَ اللهُ وَحْياً أَنْ يُعَذَّبَهاإِنْ لم تَعُدْ لقتَالِ الأَزْدِ لم تَعُدِ
وكُلُّ لُؤْمٍ أَبانَ الدَّهْرُ أَثْلَتَهُ ... ولُؤْمُ ضَبَّةَ لم يَنْقُصْ ولم يَبِدِ
لَوْ كان يَخْفَى على الرَّحْمَن خافيَةٌ ... من خَلْقهِ خَفِيتْ عَنْهُ بَنُو أَسَدِ
قَوْمٌ أَقَامَ بدارِ الذُّلِّ أَوَّلُهُمْ ... كما أَقامَتْ عَلَيْه جِذْمَةُ الوَتِدِ

فاسْأَلْ قُفَيْرَةَ بالمَرُّوت هَلْ شَهدَتْعَسْبَ الحُطَيْئَة بَيْنَ الكِسْرِ والنَّضَدِ
أَمْ كان في غالبٍ شعْرٌ فَيُشْبِهَهُ ... شِعْرُ ابْنِهِ فَيَنَالَ الشِّعْرَ من صَدَدِ
جاءَتْ به نُطْفَةً من شرِّ ماءٍ صَرىً ... سيقَتْ إِلى شَرِّ وادٍ شُقَّ في جَدَدِ
لا تَأْمَنَنَّ تَميميَّا على جَسَدٍ ... قد مات، ما لم تُزايَلْ أَعْظُمُ الجَسَدِ
وقال أيضاً:
لَقَدْ زَادني حُبَّاً لنَفْسِيَ أَنَّني ... بَغيضُ إِلى كُلِّ امْرِئٍ غَيْر طائلِ
إِذا ما رآني قَطَّعَ الطَّرْفَ دُونَهُ ... ودُونِيَ فعْلَ العارف المُتَجَاهِلِ
مَلأْتُ عليه الأَرضَ حتى كأَنَّها ... من الضِّيقِ في عَيْنَيْهِ كِفَّةُ حابلِ
وإِني شَقيٌّ باللِّئَامِ ولا تَرَى ... شقيَّاً بِهِمْ إِلاَّ كَريمَ الشَّمائلِ
وقال:
فيا ربِّ لا تَجْعَلْ وَفَاتِيَ إِنْ دَنَتْ ... على شَرْجَعٍ يُعْلى بدُكْنِ المَطَارِفِ
ولكنْ أَحِنْ يَوْمِي شَهيداً وعُصْبَةً ... يُصَابُونَ في فَجٍّ منَ الأَرض خائِفِ
عَصَائِبُ من شَتَّى يُؤَلِّفُ بَيْنَهُمْ ... هُدَى الله نَزَّالُونَ عِنْد المَوَاقفِ
إِذا فارقُوا دُنْيَاهُمُ فارَقُوا الأَذَى ... وصارُوا إِلى مَوْعُودِ ما في المَصَاحِف
فأُقْتَلَ قَعْصاً ثُمَّ يُرْمى بأَعْظُمي ... كضِغْث الخَلابَيْنَ الرِّيَاحِ العَواصف
ويُصْبِحَ لَحْمِي بَطْنَ طَيْرٍ مَقيلُهُ ... دُوَيْنَ السَّمَاءِ في نُسُورٍ عَوَائفِ
وكان يرى رأى الخوارج.
وقال:
لَقَدْ شَقيتُ شَقَاءً لا انْقطَاعَ له ... إِنْ لم أَفُزْ فَوْزَةً تُنْجِي منَ النَّارِ
والنارُ لم يَنْجُ من رَوْعاتِها أَحَدٌ ... إِلاَّ المُنِيبُ بقلْبِ المُخْلِص الشَّارِي
أَو الَّذي سَبَقَتْ من قبْلِ مَوْلِدِه ... له السَّعَادَةُ منْ خَلاَّقِهَا البارِي
وكان الأصمعي يستجيد قوله في صفة الظليم:
مُجْتابُ شَمْلةِ بُرْجُدٍ لِسَراَته ... قَدَراً، وَأَسْلَمَ ما سِوَاهُ البُرْجُدُ
ويستجيد قوله في صفة الثور:
يَبْدُو وتُضْمِرُهُ البِلادُ كأَنَّه ... سَيْفٌ على شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ

العجاج الراجز
هو عبد الله بن رؤبة، من بني مالك بن سعد بن زيد مناة ابن تميم. وكان يكنى أبا الشعثاء، والشعثاء ابنته، وكان لقى أبا هريرة وسمع منه أحاديث.
قال العجاج قال لي أبو هريرة ممن أنت؟ قلت من أهل العراق، قال يوشك أن تأتيك بقعان الشام فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقهم بها، فإذا دخلوها فكن في أقاصيها وخل عنهم وعنها، وإياك وأن تسبهم، فإنك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة.
وقال سليمان بن عبد الملك للعجاج إنك لا تحسن الهجاء، فقال إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن تظلم، وأحساباً تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيت بانياً لا يحسن أن يهدم؟ وإنما سمى العجاج بقوله:
حتى يعج عندها من عجعجا
قال وقلت هذه الأجوزة في ليلة واحدة، وانثالت علي انثيالاً.
وسمعه رجل من بني الحرماز ينشد:
كأَنَّ تَحْتِي كُنْدُراً كُنَادِرا ... تَرَى بِلِيتَيْ عُنْقِه مَزَارِرَا
منَ الكِدَام جالباً وجادِرَا
فقال تركته فرداً بلا أتن، هلا قلت:
في عانَةٍ يَقْسِرُها المَقَاسِرَا ... بصُلْبِ رَهْبَى تَجْمَعُ الضَّرائِرَا
حَوْلاً وأُخْرى تَحْمِلُ النَّعائِرَا؟
ومما أخذ عليه قوله:
كأَنَّ عَيْنَيْهِ منَ الغُؤور ... قَلْتانِ في لَحْدِ صَفاً مَنْقُور
أَذاك أو حَوْجَلتَا قارُورِ ... صَيَّرَتْنَا بالنَّضْحِ والتصْبِيرِ
صَلاصِلَ الزَّيتِ إِلى الشُّطُورِ
الحوجلتان القارورتان، وجعل الزجاج ينضح ويرشح.
وولد العجاج رؤبة والقطامى.
رؤبة بن العجاج

حدثني الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس قال أتيت رؤبة ومعي ابن نوح. وكنا نفلس ابنة عبد الله، أي نعطيه الفلوس فيخرجه إلينا! فقال ابن نوح أصبحت كما قلت:
كالكُرَّزِ المَرْبوط بَيْنَ الأَوْتادْ ... ساقَطَ عَنْهُ الرّيِشَ قبْلُ الإِبْرَادْ
فقال ما زلت لك ماقتاً. قال يونس فقلت بل أصبحت كما قال ابن أبي سلمى:
فأَبْقَيْنَ منه وأَبْقَى الطِرا ... دُ بَطْناً خَمِيصاً وصُلْباً سَمِينَا
فقال سل عما شئت.
قال وقال ابن سلام عن يونس، قال لي رؤبة حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأزوقها لك! أما ترى الشيب قد بلغ في رأسك ولحيتك.
حدثني سهل بن محمد قال حدثني أبو عبيدة قال دخلت على رؤبة وهو يمل جرذاناً في النار! فقلت له أتأكلها؟! قال نعم، إنها خيرٌ من دجاجكم، إنها تأكل البر والتمر.
وحدثني عن الأصمعي عن عقبة بن رؤبة عن أبيه قال بينا أنا أصلح برذعةً لي وأنا أقول:
حَتَّى احْتَضَرْنا بَعْدَ سَيْرٍ حَدْسِ
إِمامَ رَغْسٍ في نِصابٍ رَغْس ... خَلِيفَةً ساسَ بغَيْرِ تَعْسِ
بَيْنَ ابْنِ مَرْوانَ قَرِيعِ الإِنَسِ
وبِنْتِ عَبَّاسَ قَرِيع عَبْسِ ... أَنْجَبَ عِرْسٍ جُبِلاَ وعِرْسِ!
فذهب بها كلها، لا والله ما له منها إلا أربعة أبيات.
وأنشد رؤبة سلم بن قتيبة قوله في وصف قوائم الفرس
يَهْوِينَ شَتَّى ويَقَعْنَ وَفْقَا
فقال له سلم أخطأت في هذا يا أبا الجحاف، جعلته مقيداً، فقال له رؤبة أدنى من ذنب البعير.
قال الأصمعي أخذ رؤبة من أبيه:
والسَّدُّ ما دام شِدَاداً أَرْدُمُهْ
حَدِيدُهُ وقِطْرُهُ وَرَضَمُهْ ... وعاد بَعْدَ النَّحْتِ جَوْناً حَنْتَمُهْ
وقال أبو العجاج:
بَلِيتِ والمِسْمارُ جَوْنٌ حَنْتَمُ ... تَمْضِي الدَّوَاهِي حَوْلَهُ ويَسْلَمُ
والمسمار جبل.
قال قوله:
وبَلَدٍ يَغْتَالُ خَطْوَ المُخْتَطِي
سرقه من أبيه، قال أبوه:
وبَلَدٍ يَغْتَالُ خَطْوَ الخاطِي
قال وأخذ رؤبة قوله:
علَّى أَنْمارٌ من اغْتِباطِي ... كالحَيَّةِ المُجْتابِ بالأَرْقاطِ
أي جلود أنمار، من أوس بن حجر.
قال ولم يحسن رؤبة تلخيصه، قال أوس:
يَرَى الناسُ منَّا جِلْدٌ أَسْوَدَ سَالِخٍ ... وفَرْوَةَ ضِرْغَامٍ مِنَ الأُسْدِ ضَيْغَمِ
قال وأخطأ رؤبة في قوله:
كُنْتُمُ كمَنْ أَدْخَلَ في حُجْرٍ يَدَا ... فأَخْطَأَ الأَفْعَى ولاقَى الأَسْوَدَا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرة.
قال وأخطأ في قوله يصف الظليم:
وكُلُّ زَجَّاجٍ سُخَامُ الخَمْل ... تَبْرِي له في زَعِلاتٍ خُطْلِ
فجعل للظليم عدة إناثٍ كما يكون للحمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
قال وأخطأ في قوله في وصف الحمر:
وشَفَّها اللَّوْحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ
ففتح الياء والصواب ضَيْق أو ضَيِّق
قال وكذلك قوله:
صَوَادِقَ العَقْبِ مَهَاذِيبَ الوَلَقْ
ففتح اللام، وإنما هو الوَلْق وهو سير سريع، يقال ولقَ يلِقُ ولْقاً. وقال آخر:
جاءَتْ به عَنْسٌ منَ الشَّأمِ تَلِقْ
وقال رؤبة أيضاً:
تَهْوِي إِذا هُنَّ وَلَقْنَ وَلْقَا
قال وقال يصف الرامي:
لا يَلْتَوِي من عاطِسٍ ولا نَغَقْ
إنما هو النغيق والنغاق، وجاء بشيءٍ بينهما.
وقال في وصف القوس:
نَبْعِيَّةٌ ساوَرَها بَيْنَ النِّيقْ
قال والنَّيَق جمع نيقة، ولا يقال نِيَقَة، إنما هو النيق، وهو رأس الجبل.
قال وقوله:
إذا دنا مِنْهُنَّ أَنْقاضُ النُّقَقْ
يعني الضفاضع، وكان ينبغي أن يكون نقُق جمع نقوق.
قال وأخطأ في قوله:
أقْفَرَتِ الوَعْساءُ والعَثَاعِثُ ... مِنْ بَعْدِهِمْ والبُرَقُ البرَارِثُ
قال إنما هي البراث جمع برْثٍ، وهي الأرض اللينة. والبرقةُ موضع حجارة سودٍ وبيضٍ، ومنه يقال جبل أبرق.
وقال في قوله:
أَرْجُوكَ إذْ أَغْبَطَ دَيْنٌ وَالِثُ ... فما تَنِى يَرْغَثُ منك الراغِثُ

لم يحسن في البيتين جميعاً، لأنه ضعف أمر الدين بقوله والثُ لأن الوالث الشيء الضعيف غير المحكم، يقال ولث لي ولْثاً من عهدٍ إذا أعطاك عهداً غير محكم، والولْث اليسير من المطر، ولأنه جعل ما ينال منه رغثاً، وهو المصُّ.
وقال في قوله:
لَيْتَ المُنَى والدَّهْرَ جَرْيُّ السُّمَّهِ
لم يحسن، إنما يقال ذهب في السُّمَّهى، أي في الباطل.
وقال في قوله:
أَو فِضَّةٌ أَو ذَهَبٌ كِبْرِيتُ
سمع بالكبريت الأحمر فظن أنه ذهب.
ومما يستقبح من تشبيهه قوله للمرأة:
يُكْسَيْنَ من لِين الشَّبَابِ نِيمَا
والنيمُ الفَرْوُ.
وقال في قوله:
كأَنَّ فَوْقَ الناصِعِ المُبَطَّنِ ... من حَبَراتِ العَيش ذِي التَّدَهْقُنِ
باناً جَرى في الرازِقِيِّ البَهْمَنِي
والناصع الخالص، يريد خلده، أراد بالبان الدهن، قال والرازقي البهمن لم يقل فيه شيئاً، وأخشى أن يكون كفراً! وقال عبد الله بن سالم لرؤبة مت يا أبا الجحاف إذا شئت! قال وكيف؟ قال رأيت اليوم ابنك عقبة ينشد شعراً له أعجبني، قال رؤبة نعم، ولكن ليس لشعره قران، يريد أنه ليس يشبه بعضه بعضاً.

أبو نخيلة الراجز
اسمه يعمر. وإنما كن أبا نخيلة لأن أمه ولدته إلى جنب نخلة. وهو من بني حمان بن كعب بن سعد. وهو القائل:
أَنا ابنُ سَعْدٍ وتَوَسَّطْتُ العَجَمْ ... فأَنا فيما شِئْتُ من خالٍ وعَمّْ
وكان يهاجي العجاج، فلما تنافرا في شعرهما حضرهما الصبيان، فذهب إنسان يطردهم، فقال العجاج دعهم فإنهم يغلِّبون ويبلغون.
وإياه عنى رؤبة بقوله:
فقُلْ لذِاكَ الشاعِرِ الخَيَّاطِ
يريد أنه دعيٌّ يخيط إلى قومٍ ليس منهم، يقال " خاط بنا خيطة " أي مر بنا. ولأبي نخيلة عقب بالبصرة.
ويؤخذ على أبي نخيلة قوله في وصف امرأةٍ:
بَرِّيَّةٌ لم تأْكُل المُرَقَّقَا ... ولم تَذُقْ منَ البُقُولِ الفُسْتُقَا
ظن أن الفستق بقل!
وهو القائل:
وإِنَّ بقَوْم سَوَّدُوكَ لَفافَةً ... إِلى سَيِّدٍ لَوْ يَظْفَرُونَ بسَيِّدِ
أبو النجم الراجز
هو الفضل بن قدامة من عجل. وكان ينزل بسواد الكوفة في موضعٍ يقال له الفرك، أقطعه إياه هشام بن عبد الملك.
وراجز العجاج فخرج العجاج على ناقةٍ له كوماء، وعليه ثياب حسان، وخرج أبو النجم على جملٍ مهنوءٍ، وعليه عباءةٌ، فأنشد العجاج:
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإِلَهُ فجَبَرْ
ثم أنشد أبو النجم:
تَذَكَّرَ القَلْبُ وجَهْلاً ما ذَكَرْ
حتى إذا بلغ إلى قوله:
إِنِّي وكُلُّ شَاعِرٍ مِنَ البَشَرْ ... شَيْطَانُهُ أُنْثَى وشَيْطَاني ذَكَرْ
فما رَآني شاعِرٌ إِلاَّ اسْتَتَرْ ... فِعْلَ نُجُومِ اللَّيلِ عايَنَّ القَمَرْ
عَشِّى تَميمُ واصْغُرِي فِيمَنْ صَغُرْ ... وجاوِرِي الذُّلَّ وأَعطِي مَن عَشَرْ
وأَمِّرِي الأُنْثَى عَلَيْكِ والذَّكَرْ ... فإنَّما يَشْرَبُ مَنْ ذَل السُّؤَرْ
وارْضَىْ بِإِحْلابَةِ وَطْبٍ قَدْ حَزَرْ
فلما فرغ من إنشاده حمل جمله على ناقة العجاج يريدها! فضحك الناس وانصرفوا وهم ينشدون قوله:
شَيْطَانُهُ أُنْثَى وشَيْطَاني ذَكَرْ!
وأنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك أرجوزته التي أولها:
الحَمْدُ للهِ الوَهُوبِ المُجْزِلِ
وهي أجود أرجوزةٍ للعرب، وهشام يصفق بيديه من استحسانه لها، فلما بلغ قوله في الشمس:
حَتَّى إِذا الشَّمْسُ جَلاَها المُجْتَلى ... بَيْنَ سِمَاطَيْ شفَقٍ مُرَعْبَلِ
صَغْوَاءَ قد كادَتْ ولَمَّا تَفْعَلِ ... فَهِيَ على الأُفْق كَعَيْنِ الأَحْوَلِ
أمر هشامٌ بوجءِ رقبته وإخراجه، وكان هشام أحول.
وكان أبو النجم وصافاً للفرس، وأخذ عليه في صفته قوله:
يَسْبَحُ أُخْراه ويَطْفُو أَوَّلُهْ
قال الأصمعي إذا كان ذلك كذلك فحمار الكساح أسرع منه! لأن اضطراب مآخيره قبيح. قال وما أحسن في قوله " ويطفو أوله " .
حدثني عبد الرحمن عن عمه عن أبيه قال رأيت فرس أبي النجم الذي كان يصفه، فقومته بخمسين درهماً! وقال:
تَعُدُّ عاناتِ الَّلوَى من مالِها

وأخذه أبو نواس فقال
تَعُدُّ عِينَ الوَحْشِ من أَقْوَاتِها
وأخذ قوله:
كَطَلْعَةِ الأَشمَطِ من جِلْبَابِهِ
يعنى من كسائه، من قول الأخر
كَطَلْعَةِ الأَشمَطِ من بُرْدٍ سَمَلْ
وحدثني عبد الرحمن عن عمه قال كان هشام بن عبد الملك مسبقاً لا يكاد يسبق، فسبق ذات يومٍ على فرس له أنثى، وصلى على ابنها، ففرح، وقال علي بالشعراء، قال أبو النجم فدعينا، فقيل لنا قولوا في هذه الفرس السابقة وفي ابنها، فقال أصحاب القصيد أنظرنا حتى نقول، وقلت في مقامى ذلك هل لك في رجلٍ ينقدك إذا استنسئوك؟ قال هاته، فقلت من ساعتي:
أَشاعَ للغَرَّاءِ فِينا ذِكْرَها ... قَوَائِمٌ عُوجٌ أَطَعْنَ أَمْرَها
وما نَسِينَا بالطَّرِيقِ مُهْرَها ... حِينَ نَقِيسُ قَدْرَهُ وقَدْرَها
وضَبْرَه إِذْ أَوْعَثَا وضَبْرَها ... والماءُ يَعْلُو نَحْرَهُ ونَحْرَها
مَلْبُونَةً شَدَّ المَلِيكُ أَسْرَها ... أَسْفَلَها وبَطْنَها وظَهْرَها
قد كادَ هاديها يَكُونُ شَطْرَها ... لا تَأْخُذُ الحَلْبَةُ إِلاَّ سُؤْرَها
قال وقال له عبد الملك بن بشير بن مروان انعت لي فهودي هذه. فقال:
جاءَ مُطِيعٌ بمُطاوِعاتِ ... عُلِّمنَ أَو قَدْ كُنَّ عالِماتِ
فَهْيَ ضَوَارٍ من مُضَرِّيَاتِ ... تُرِيكَ آماقاً مُخَطَّطاتِ
سُوداً على الأَشْدَاقِ سَائِلاَتِ ... تَلْوِى بأَذْنابٍ مُوقَّفاتِ
حَتى إِذا كُنَّ على المَجْرات ... حَيْثُ تَظُنُّ الوَحْشَ آخِذات
قال أَلَسْتُنَّ بنازِلاتِ ... فسَكَرَ الطُّرْقَ بمُطْرِقاتِ
ثُمَّ حَدَوْنَ الوَحْش مُقْبِلاتِ ... فواثَبَتْهُنَّ مُشَمِّراتِ
فَلَوْ تَرَى التُّيُوسَ مُضْجَعاتِ ... عَلِمْتَ أَنْ لَيْسَ بسالِماتِ
أَقُولُ إِذْ جِئْنَ مُذَبَّحَاتِ ... على الأُكافَيْن مُعَدَّلاتِ
ما أَقْرَبَ المَوْتَ منَ الحَيَاة
وهو القائل:
قد زَعَمَتْ أُمُّ الخِيَارِ أَنِّي ... شِبْتُ وحَنَّى ظَهْرِيَ المُحَنِّي
وأَعْرَضَتْ فِعْلَ الشَّمُوِس عَنِّي ... فَقُلْتُ ما داؤُكِ إِلاَّ سِنِّي
لَنْ تَجْمَعِي وِدِّي وأَنْ تَضِنِّي
وهو القائل:
كأَنَّ ظلاَّمَةَ أُخْتَ شَيْبَانْ ... يَتِيمَةٌ ووالِدَاها حَيَّانْ
العُنْقُ منها عُطُلٌ والأُذْنانْ ... ولَيْسَ في الرّجْلَيْنِ إِلاَّ خَيْطانْ
وقُصَّةٌ قد شَيَّطَتْها النِّيرَانْ ... تِلْكَ الَّتي يَضْحَكُ منها الشَّيْطان
وهو القائل:
سُبِّى الحَمَاةَ وابْهَتِى عَلَيْها ... فإِنْ أَتَتْ فازْدَلِفي إِلَيْها
ثُمَّ اقْرَعِي بالوَدِّ مِرْفَقَيْها ... ورُكْبَتَيْها واقْرَعِي كَعْبَيْها
وأَعْلِقِي كَفَّيْكِ في صُدْغَيْها
وقال:
أَوْصَيْتُ من بَرَّةَ قَلْباً حُرَّا ... بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرَّا
لا تَسأَمِي خَنْقاً لها وجَرَّا ... والحَيُّ عُمِّيهِمْ بشَرٍّ طُرَّا
ومما أخذ عليه قوله في البعير:
أَخْنَسُ في مِثْلِ الكِظامِ مَخْطِمُهْ
والأخنس القصير المشافر، وهذا عيب، وإنما توصف المشافر بالسبوطة. والكظام القنى التي يجري فيها الماء.
قالوا ولم يحسن في وصف ورود الإبل:
جاءَتْ تَسامَى في الرَّعِيلِ الأَولِ ... والظِلُّ عن أَخْفافِها لم يَفْضُلِ
ذكر أنها وردت في المهاجرة، والعادة في هذا أن توصف بالورود غلساً والماء بارد، كقول الأخر:
فوَرَدَتْ قَبْلَ الصَّبَاح الفاتِقِ
وكقول لبيد:
إِنَّ مِنْ وِرْدِى تَغْلِيسَ النَّهَلْ
وكقول الآخر:
فوَرَدْنَ قَبْلَ تَبَيُّنِ الأَلْوَانِ
وقوله في وصف راعي الإبل
صُلْبُ العَصَا جافٍ عَنِ التَّغَزُّلِ
قال الأصمعيُّ لا يوصف راعي الإبل بصلابة العصا، والجيد قول الراعي:

ضَعِيفُ العَصَا بادِي العُرُوقِ تَرَى لَهُ ... عليها إِذا ما أَمْحَلَ الناسُ إِصْبَعَا
ومن غلط أبي النجم قوله في فرس:
كأَنَّها مِيجَنَةُ القَصّارِ
والميجنة لصاحب الأدم، والميجنة التي يدق الأدم عليها، وهو الحجر أو غيره.

دكين الراجز
هو دكين بن رجاء، من بني فقيم قال دكين امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو وإلى المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقةً كرائم صعابٍ، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر علي، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا إن خرجت في ليلتك، فقلت إني لم أودع الأمير، ولا بد من وداعه، قالوا إنه لا يحتجب عن طارق ليل، فأتيته فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت وعنده شيخان لا أعرفهما، فودعته، فقال لي يا دكين، إنَّ لي نفساً تواقةً، فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا فيه فبعينٍ ما أرينك، فقلت أشهد لي عليك بذلك، فقال أشهد لله به، قلت ومن خلقه؟ قال هذين الشيخين، فأقبلت على أحدهما فقلت من أنت أعرفك؟ قال سالم بن عبد الله، قلت لقد استسمنت الشاهد، وقلت للآخر من أنت؟ قال أبو يحي مولى الأمير، فخرجت بهن إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنّ بالبركة حتى اعتقدت منهن الإبل والغلمان، فإني لبصحراء فلج إذا ناعٍ ينعى سليمان بن عبد الملك، قلت فمن القائم بعده؟ قال عمر بن عبد العزيز، فتوجهت نحوه، فلقيني جرير بالطريق جائياً من عنده، فقلت يا أبا حزرة، من أين؟ فقال من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء،ولكن عول عليه في مال ابن السبيل، فانطلقت فإذا هو في عرصة داره قد أحاط الناس به، فلم يمكني الرجل إليه فناديت:
يا عُمَرَ الخَيْرَاتِ والمَكَارِمْ ... وعُمَرَ الدَّسَائِعِ العَظَائِمْ
إِنِّي أمْرُؤٌ من قطَنِ بنِ دارِمْ ... أًطْلُبُ دَيْنِي من أًخٍ مُكارِمْ
إِذ نَنْتَجِى واللهُ غَيْرُ نائِمْ ... في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ولَيْلٍ عاتِمْ
عِنْدَ أَبي يَحْيى وعِنْدَ سالِمْ
فقام أبو يحي فقال يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، قال أعرفها، ادن مني يا دكين، أنا كما ذكرت لك. إن نفسي لم تنل أمراً إلا تاقت إلى ما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا، فنفسي تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أموال الناس شيئاً فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما، فأمر لي بألفٍ، فوالله ما رأيت ألفاً كان أعظم بركةٌ منه.
ودكين هو القائل:
إِذا المَرْءُ لم يَدْنَسْ من اللُّؤْمِ عِرْضُهُ ... فكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ
وإِنْ هو لم يُضْرِعْ عن اللُّؤْمِ نَفْسَهُ ... فلَيْسَ إِلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سبِيلُ
الأغلب الراجز
هو الأغلب بن جشم، من سعد بن عجل، وهو القائل في قومه:
إِنْ سَرّكَ العِزُّ فجَحْجِحْ بجُشَمْ
أي ايت بجحجاح منهم. ويقال بل هذا القول في جشم بن الجزرج.
وعاش تسعين سنة. وكان الأغلب جاهلياً إسلامياً، وقتل بنهاوند.
وهو أول من شبه الرجز بالقصيد وأطاله، وكان الرجز قبله إنما يقول الرجل منه البيتين أو الثلاثة، إذا خاصم أو شاتم أو فاخر. وقد ذكره العجاج فقال:
إِنِّي أَنَا الأَغْلَب أَضْحَى قد نُشِرْ
أبو دهبل الجمحي
هو وهب بن زمعة، من بني جمح. وكان شاعراً محسناً، وأكثر أشعاره في عبد الله بن عبد الرحمن الأزرق وإلى اليمين، وفيه يقول:
تَحْمِلُه الناقَةُ الأَدْماءُ معْتَجِراًبالبُرْدِ كالبَدْرِ جَلَّى لَيْلَةَ الظُّلَمِ
وكيْفَ أَنساكَ! لا أَيْدِيكَ واحِدةٌ ... عِنْدِي، ولا بالذَِّي أَوْلَيْتَ من قِدَمِ
ولما عزله عبد الله بن الزبير عن اليمن قال أبو دهبل في شعرٍ له:
ما زِلْتَ في دَفَعاتِ الخَيْرِ تَفْعَلُها ... لَمَّا اعْتَرَى الناسَ لأَْواءٌ ومَجْهودُ
حَتَّى الَّذِي بَيْنَ عُسْفَانٍ إِلى عَدَنٍلَحْبٌ لِمَنْ يَطْلُب المَعْروفَ أُخْدُودُ
وكانت لأبي دهبل ناقة لم يكن في زمانها أسير منها ولا أحسن وفيها يقول:
خرَجْتُ بها من بَطْنِ مَكَّةَ بعد ما ... أَصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ وأَعْتَمَا

أقسام الكتاب
1 2 3