كتاب : التذكرة الفخرية
المؤلف : بهاء الدين الإربلي

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جاء بالأشياء معرفة وعلماً، وجعل الإحسان في جواب طاعته حتماً، وخلق الإنسان وعلَّمه البيان، فوفر له منه حظاً وقسماً، والصلاة والسلام على نبيه الذي هو أفصح من نطق بالضاد، وأدقُّ فهماً، القائل: إنَّ من البيان لسِحراً وإنَّ من الشعر لحُكماً صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه صلاة يعود لهم بها حَرب الأيام سِلماً، ويكشف عن وجه الدهر ظُلَماً وظُلْماً.
وبعد فإنَّ الأدب لم يزل على قديم الوقت محبوباً، وصاحبه على تباين الأحوال مقرَّباً مطلوباً، وكان من أعظم آداب العرب الشعرُ، الذي هو ديوان بيانهم وجامع إحسانهم ومقيِّد ذكر أيامهم وأنسابهم وحافظ أُصولهم وأحسابهم، يعطرون بأرجه مجالس أنسهم ويعرفون به مزيّة يومهم على أمسهم، ولهذا قال الطائي:
وإن العُلى ما لم يُرَ الشعر سنها ... لكالأرض غُفْلاً ليس فيها معالمُ
ولولا خِلالٌ سنَّها الشعْرُ ما درى ... بغاةُ الندى من أين تُؤتى المكارمُ
مَن رفعه الشعر ارتفع، ومن وضعه الشعر اتَّضع، يُبنى بالبيت من الشعر شرف الوضيع ويُهدم بالبيت الهجاء مجد الرفيع.
قال الزبرقان بن بدر كان سيد قومه غير مدافع هجاه الحطيئة بقوله:
دعِ المكارم لا تَرْحلْ لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي
فهدم شرفه وضعضع مجده فاستعدى عليه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وأنشده الشهر، فقال: لا أرى موضع هجاءٍ، فأحضر حسان بن ثابت وسأله، فقال: يا أمير المؤمنين ما يسُرّني أن يلحقني ما لحقه ولي حُمر النّعم، فحبسَ الحطيئة فكتب إليه من محبسه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شَجَرُ
أُلْقيتُ كالمَيْتِ في سِجنٍ لمَظْلَمةٍ ... فاغفرْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
أنت الإمامُ الذي من بعدِ صاحبهِ ... ألقتْ إليكَ مقاليدَ النهى البَشَرُ
لم يُؤْثِروكَ بها إذْ قدَّموكَ لها ... لكنْ لأَنْفُسهم كانتْ بِكَ الإثَرُ
فبكى وعفا عنه واشترى منه أعراض المسلمين بدراهم وتقلَّد الزبرقان عارَه على الأبد وأخنى على شرفه الذي أخنى على لُبَد.
وكان بنو أنف الناقة يُعيَّرون بهذا الاسم، وكان سببه أنهم نحروا ناقةً وفرَّقوا لحمها وبقي أنفها، فجاء سائلٌ فأعطوه أنفَها فسمّوا أنف الناقة على سبيل التعيير لهم فلمَّا مدحهم الحطيئة بقوله ذلك:
قومٌ هم الأنْفُ والأذنابُ غيْرهُمُ ... ومن يُسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا
عاد ذلك الهجاء مديحاً وانقلب ذلك الذم حمداً صريحاً وصار من أحبّ الأسماء والألقاب إليهم. ولما قال النُّميري:
يا صاحِبيّ دنا الرّواح فسِيرا ... غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهجاءِ جريرا
دعا جرير بعض أصحابه، وقال: اكتب عنِّي:
أقلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا ... وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابا
قال كاتبه: فكتبت وهو يفكر فأخذتني سِنَةٌ فصاح ووثب فكاد رأسه يُصيب السقف، وقال: اكتب، فوالله أخريتُه ولن يُفلح بعدها أبداً:
فغُضّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
وكنتَ متى نزلتَ بدارِ قوْمٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عابا
فما أفلح النميري بعدها وخرج هارباً إلى البادية فما اجتاز بحيٍّ من أحياء العرب إلا وقد سبقه الهجاء إليه، ولمَّا ورد حيّ قومه قالوا: بئسما جئتنا به، ومن هذه الأبيات يهجو أُمَّ النميري:
لها وَضَحٌ بجانب اسْكتيها ... كعنفقةِ الفرزْدَقِ حينَ شابا
قال ابن الفرزدق: كنت مع أبي في مربد البصرة وجرير ينشد هذه الأبيات فلما انتهى إلى قوله: لها وَضَحٌ، غطَّى أبي وجهه وولَّى، فأنشد جرير: كعنفقة الفرزدق البيت فقال أبي: قاتلك الله، والله إني عرفت أنه لا يقول غيرها ولقد غطَّيت وجهي فما أغناني.
وممن ارتفع بالشعر محلُّه، وسار به فضلُه، وعلا به قدرُه، وشاع به ذكره، وسَمَت به مكانُه، وعظُم شأنُه، عَرابة الأوسي، الذي قيل فيه:
رأيتُ عَرابةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيراتِ مُنْقَطِعَ القَرينِ
إذا بلّغتِني وحملتِ رَحْلي ... عَرابةَ فاشْرقي بدمِ الوَتينِ

إذا ما رايةٌ رُفِعتْ لمجدٍ ... تلقَّاها عَرابةُ باليَمينِ
أبو نُواس أحسن رعايةً حيث يقول:
وإذا المطيّ بنا بلغنَ محمداً ... فظهورُهُنَّ على الرجالِ حرامُ
ومثل الأول قولُ ذي الرُّمَّة:
إذا ابنَ أبي موسى بلالاً بلغته ... فقامَ بفأسٍ بينَ وَصْلَيْكِ جازِرُ
فإنه لولا هذا الشعر لما ذُكر اسمه، ولا عُرف رسمه، ولا فاز له قدحٌ، ولا أشرق له صبحٌ، ولكنْ سارَ بهذا الشعر صيتُه، وعلا صوتُه، وحيَّ ذكرُه وإن تقادم موته، وقد كان الأجواد يتغايرون على بناتِ الأفكار كتغايرهم على البنات الأبكار.
كما حُكي أن أبا دُلَفٍ العِجلي كان يساير أخاه فبصرت بهما امرأتان، فقالت إحداهما للأخرى: هذا أبو دلف الذي يقول فيه عليّ بن جَبَلَة الطوسيّ:
إنَّما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بينَ بادِيه ومحتضره
فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولَّتِ الدنيا على أثَرِه
قالت: نعم فبكى أبو دلف، فقال أخوه: مم تبكي، قال: كوني لم أجازِ عليّاً على شعره، قال: أوَلَم تُعطه مائة ألف درهم، قال: بلى ولكني والله نادم إذ لم أجعلها دنانير. أخذتها أنا فقلت:
إنما الدنيا ابنُ نَصْرٍ ... ونَداه والعَطاءُ
فإذا ولَّى ابنُ نَصْرٍ ... فعلى الدنيا العَفاءُ
وقد كرَّرهما ابنُ جَبَلَة، فقال:
إنما الدنيا حُمَيْدٌ ... وأياديه الجِسَامُ
فإذا ولَّى حُمَيْدٌ ... فعلى الدنيا السَّلامُ
ووفد عليه أبو تمام ومدحه بقصيدته التي أولها:
على مِثْلها مِن أرْسُمٍ وملاعبِ ... أُذيلَتْ مصوناتُ الدموع السواكبِ
وهي من جيد شعره، يقول فيها:
إذا افتخرتْ يوماً هذيلٌ بقوسِها ... وزادت على ما وطّدَتْ من مَناقِبِ
فأنتمْ بذي قارٍ أمالتْ سيوفكُم ... عروشَ الذينَ استرهَنوا قَوْسَ حاجِبِ
محاسِنُ من مَجْدٍ متى يقرنوا بها ... محاسنَ أقوامٍ تَكُنْ كالمعايبِ
مناقبُ لَجّتْ في عُلُوٍّ كأنما ... تحاول ثأراً عندَ بعضِ الكواكبِ
فطرب لها وأحسن صلته، وقال: أنشدني قصيدتك الرائية التي ترثي بها محمد بن حميد فأنشده:
كذا فليَجِلَّ الخَطْبُ وليفدحِ الأمرُ ... وليسَ لعينٍ لم يَفِضْ ماؤها عُذْرُ
توفيت الآمال بعدُ محمدٍ ... وأصبحَ في شُغْلٍ عن السّفر السّفْرُ
وما كان إلاّ مالَ مَنْ قَلَّ مالُهُ ... وذخراً لمن أمسى وليس له ذُخْرُ
تردى ثيابَ الموتِ حُمْراً فما أتى ... لها الليلُ إلاّ وَهْيَ من سُنْدُسٍ خُضْرُ
كأنَّ بني نبهان يوم وفاته ... نجومُ سماءٍ خَرَّ من بينها البَدْرُ
هذا البيت مأخوذ من النابغة الذبياني:
ألَم تَرَ أنَّ اللهَ أعطاك سُرةً ... ترى كلّ مَلْك دونَها يَتَذَبْذَبُ
لأنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طَلَعَتْ لم يبقَ منهنّ كوكبُ
وأخذه النابغة من بعض شعراء كِندة يمدح عمرو بن هند:
تكادُ تميدُ الأرضُ بالناس إنْ رأوا ... لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتبُ
هو الشمسُ وافتْ يومَ سَعْدٍ فأفضلت ... على كلِّ شمسٍ والملوكُ كواكبُ
وقال نُصَيْبٌ:
هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حولَهُ ... وهل تُشبهُ البدرَ المضيءَ الكواكبُ
ومثله لصفية الباهلية:
أخنى على واحدي ريب الزمان ولا ... يُبقي الزمانُ على شيءٍ ولا يَذَرُ
كنَّا كأنْجُمِ ليلٍ بيننا قمرٌ ... هو الدّجى فَهَوَى من بيننا القمرُ
نعود إلى خبر أبي دُلف، قال: فبكى، وقال: والله وددت أنّها فيّ، فقال أبو تمام: بل يُطيل الله عمر الأمير، فقال: فإنَّه لم يمتْ مَنْ قِيل فيه مثل هذا الشعر.
فانظر إلى هذه الأنفس الكريمة التي ترغب في الذكر الجميل فتختار الحِمامَ وتصبو إلى ابتناء المجد فتهجر في تحصيله الراحة والمنام.
ولو تصدَّى متصدٍّ لذكر هذا النمط فحسب، لملأ به بطون الدفاتر، واستنفد به أنفاس المحابر، وعطَّر الآفاق منه بما هو أضوعُ من أنفاس المجامر. وقد سمع النبيُّ، صلى الله عليه وسلّم، الشعر وأُنشد في مجلسه وأجاز عليه، وقصَّة كعب بن زهير وقصيدته:
بانتْ سُعادُ فقلبي اليومَ متبولُ

يمدح بها النبيَّ، صلى الله عليه وسلّم، قصة مشهورة وقد خلدها المصنفون كتبهم وأودعوها بطون أوراقهم. وخرج النبي، صلى الله عليه وسلّم، وجارية حسان بن ثابت تنشد:
هل عليَّ ويحكما ... إنْ لهوتُ من حَرَجِ
فقال: لا حَرَجَ إنْ شاءَ الله.
وأنشده النابغة الجعدي قوله:
بلغنا السماءَ مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوقَ ذلكَ مَظْهَرا
فغضب صلى الله عليه وسلّم، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى، فقال: الجنة يا رسول الله، فقال: إن شاء الله تعالى، وضحك، وأنشده منها:
ولا خيرَ في حلم إذا لم تكن له ... بوادِرُ تحمي صفوه أن يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليمٌ إذا ما أوردَ الأمر أصْدَرا
فقال: أجدتَ، لا يفضض الله فاك، فنيّف على المائة وكأنَّ فاهُ البَرَدُ المنهلُّ ما سقط له سنٌّ ولا انغلت.
وعن عكرمة قال: كان عبد الله بن رواحة مضطجعاً إلى جانب امرأته في الليل، فقام إلى جاريته فأتاها، فندرت به امرأته فأخذت شفرةً وجاءت إليه لتضربه، وقالت: لو أدركتكَ بها وجاءت بين كتفيك، قال: لِمَ، قالت: رأيتك، قال: أليس رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، قد نهى الجُنب أن يقرأ، قالت: فاقرأ، فقال:
وفينا رسولُ الله يتلو كتابه ... كما لاحَ مشهورٌ من الصبح ساطعُ
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... له موقنات إنَّما قالَ واقِعُ
يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركينَ المضاجعُ
فقالت: آمنت بالله وكذبتُ البَصَرَ، ثم غدوت على رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، فأخبرته، فضحك حتى بانت نواجذه.
وسمعت هذه الحكاية على ما هي عليه عدا الشعر فإني سمعته هكذا:
شهدت بأنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ ... وأنَّ النارَ مثوى الظالمينا
وأنَّ العرشَ فوقَ الماءِ طافٍ ... وفوقَ العَرْشِ ربُّ العالمينا
وعن الشَّعبي عن ابن عباس، قال: قدِم وفد بكر بن وائل على رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، فلما فرغوا من شأنهم، قال لهم: هل فيكم أحدٌ من إياد، قالوا: نعم، قال: أفيكم أحدٌ يعرف قُسَّ بن ساعدة الإيادي، قالوا: نعم، كلُّنا نعرفه، قال: فما فعل، قالوا: هلك، قال: ما أنساه بسوق عكاظ في الشهر الحرام يخطب الناسَ على جمل له أحمر، وهو يقول: يا أيُّها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، مًنْ عاش مات، ومَنْ مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آت.
أما بعد فإن في السماء لخبراً وإنَّ في الأرض لعبراً، سقفٌ مرفوع، ونجومٌ تمور، وبحارٌ لا تغور، وتجارة لن تبور، أقسَمَ قسّ بالله وما أثِمَ لئنْ كان بعض الأمر رِضىً لك إن في بعضه لسخطاً وما هذا لعباً، وإن من وراء هذا لعجباً، أقسَمَ قسّ بالله إن لله ديناً هو أرضى له من دينٍ نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرَضوا فأفاقوا، أم تُركوا فناموا، قال: وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلّم: لقد سمعته ينشد أبياتاً لا أحفظها، فقال بعضهم: أنا أحفظها يا رسول الله، قال: قُل، فقال:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائرْ
لما رأيتُ موارداً للموتِ ... ليس لها مصادرْ
ورأيت قومي نحوها ... يمشي الأصاغر والأكابرْ
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابرْ
أيقنتُ أني لا محا ... لةَ حيثُ صارَ القومُ صائرْ
وروي عن قتادة عن أنس أنه لما بنى مسجده، صلى الله عليه وسلّم، كان ينقل اللبن مع المسلمين، ويقول:
اللهم إنَّ الخيرَ خيرُ الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
وقال، صلى الله عليه وسلّم، يوم حنين:
أنا النبي لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عبدِ المطلبْ
والرجز بحر من أبحر الشعر ونوع من أنواعه.
قال جامعه: ربما كان هذا موضوعاً عليه، صلى الله عليه وسلّم، لأن الشعر لا ينبغي له وهو ممنوع عنه، وإن كان قد روي فالعهدة على راويه وأنا أستغفر الله من نقل ما لا يجوز نقله ولا تصح الرواية فيه، وإياه أسأل أن يعصمني من موبقات الدنيا والآخرة.

ولما هجته قريش دعا حسان بن ثابت، وقال: يا حسان إنَّ قريشاً هجتني فهاجِهم وجبريل معك. وفي رواية: فهاجِهم وروح القدس ينفث على لسانك. وفي رواية عن عائشة، رضوان الله عليها، قالت: سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلّم يقول لحسان: إنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافَحْتَ عن الله ورسوله.
ويقال: نافحتَ عن فلان: خاصمتَ عنه.
وكان أبو بكر وعمر، رضوان الله عليهما، شاعرين، وكان عليٌّ، عليه السلام، أشعر منهما. ولما احتضر أبو بكر قالت عائشة، رضوان الله عليهما:
لعمرك ما تغني التمائم والرقى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
الحشرجة: الغرغرة عند الموت وتردد النفس. ففتح عينه، وقال: يا بُنَيّة قولي: وجاءت سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ.
وكان عمر، رضوان الله عليه، إذا خلا ترنم بالشعر وأنشده. وأما عليٌّ، عليه السلام، فقد ذكر الرواة أن له ديواناً، وكان يستشهد بالشعر في خطبه ورسائله، أنشد في ذكره ابن ملجم، لعنه الله تعالى:
أُريد حِباءهُ ويريدُ قتلي ... عذيري من خليلي من مُرادِ
وأنشد في قصة أخرى قول دُرَيْد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصحَ إلاّ ضحى الغدِ
وهو من أبيات الحماسة. وأنشد في قصة أخرى:
شتَّانَ ما يومي على كورها ... ويومَ حيَّان أخي جابرِ
وكانت فاطمة، عليها السلام، تتمثل بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلّم، بهذه الأبيات:
يا عينُ بكي عند كل صباح ... جودي بأربعة على الجراحِ
الأربعة: الشؤون، وهي مجاري الدموع.
قد كنتُ ذاتَ حميّةٍ ما عشتَ لي ... أمشي البراحَ وكنتَ أنتَ سلاحي
البراح، بالفتح: المتسع من الأرض، لا زرع لي ولا شجر، أي أمشي في الفضاء عزيزةً ظاهرةً لا أخاف أحداً، وما بعده يفسره.
فاليوم أخضعُ للذليلِ وأتقي ... منه وأدفعُ ظالمي بالراحِ
وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حدّ صوارمي ورماحي
وإذا دعت قمريّة شجناً لها ... يوماً على شجنٍ دعوت صباحي
أي قلت: وا صباحاه.
وكان علي ينشد بعد موت فاطمة متمثلاً:
لكل اجتماع من خليلين فرقةٌ ... وكلُّ الذي بعدَ الفراقِ قليلُ
وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد ... دليل على أن لا يدوم خليلُ
ويُروى: واحداً بعد واحدٍ، وقبلهما:
ذكرت أبا أروى فبتُّ كأنني ... بردِّ الهمومِ الماضياتِ وكيلُ
وكان الحسين بن علي، عليهما السلام، ينشد وهما من شعره:
لعمرك إنني لأحبُّ داراً ... تحل سكينةُ والرَّبابُ
أُحبهما وأنفق جلَّ مالي ... وليس لعاذلٍ عندي عتابُ
وكان عبد الله بن عباس جالساً يفتي فدخل عليه عمر بن أبي ربيعة المخزومي وأنشده قصيدته التي أولها:
أمن نعمٍ أنتَ غادٍ فمبكرُ ... غداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فمهجرُ
حتى انتهى إلى قوله فيها:
رأت رجلاً أما إذا الشمسُ قابلتْ ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصرُ
أخا سفرٍ جوّابَ أرضٍ تقاذفتْ ... بهِ فلواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ
حتى انتهى إلى آخرها، فعاد إلى الحديث مع الجماعة، فقالوا: يا حبر الأمة نحن نضرب إليك أكباد الإبل لنستفتيك في الحلال والحرام فيأتيك مترف من قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس قابلت ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخسر
فتعرض عنا وتقبل عليه، فقال: ما هكذا قال، ولكنه قال:
فيضحَى وأما بالعشي فيخصرُ
ولقد حفظت القصيدة، وإن شئتم أنشدتها من آخرها إلى أولها، قالوا: نعم، ففعل.
فأما التابعون وغيرهم من الخلفاء والأمراء فلو أراد أحد أن يجمع من أشعارهم واستشهاداتهم كتاباً كبيراً لكان ذلك سهلاً عليه. فلولا كان الشعر من الشرف ومحله من الفضل لما جاز لهؤلاء سماعه فضلاً عن عمله وإنشاده والاستشهاد به في الوقائع، وعلى كتاب الله، وأخبار رسوله.
فأما الآن فهذه شريعة قد نسخت وسنّة قد مسخت وقاعدة قد درست وطريقة قد طَمست وطُمست ومذهب قد ذهب ضياعاً وتفرق شعاعاً وهجر فلا يرى عياناً ولا يسمع سماعاً، وبناءٌ دعا بالرجل مشيدوه فوهى وتداعى، فالنسيان أولى بالإنسان واطراح هذه الأمور أشبه بالحال في هذا الزمان.

وحيث وصلتُ بغداد في شهر الله الأصم رجب سنة ستين وستمائة إلى خدمة المولى الصاحب الأعظم سلطان وزراء العالم علاء الحق والدين صاحب الديوان عطا ملك بن المولى الصاحب السعيد الشهيد بهاء الدين محمد الجويني، أعز الله نصره. وأعلى على الأقدار قدره، وانتظمتُ في سلك أتباعه، وعددت من حواشيه وأشياعه، وغمرت بأياديه، وسالت عليّ شعاب واديه، وعمّتني مبرته، ووجدت اليمن حين لاحت لي غرته، وأهلّني لكتابة الإنشاء، وأسبغ علي ملابس النعم والآلاء، وجدته كريماً في نفسه، مهذباً في خلقه، تاماً في خلقه، قد جمع إلى شرف نفسه شرف نسبه، وإلى طيب أخلاقه طهارة أعراقه، وإلى كرم مولده كرم محتده، فهو وأخوه المولى الصاحب الأعظم سلطان وزراء العالم شمس الحق والدين محمد، أعز الله نصرته، وأدام قدرته، إنساناً عيني الزمان ونيراً فلك الإنعام والإحسان، قد بذلا الرغائب، وأظهرا في اصطناع المعروف العجائب، وجادا فالماء جامدٌ والتبر ذائب:
وكذا الكريم إذا أقامَ ببلدة ... سالَ النضارُ بها وقامَ الماءُ
لا زالت دولتهما باقية على الدوام والاستمرار وإيالتهما مؤيدة بمعاونة الأقضية والأقدار فإنهما مدا بضبعي وسقيا غرسي فأينع أصلي وفرعي ونفعا جدي فأجادا نفعي فحالي بإقبالهما حالي، وقد نما بهما جاهي ومالي، وأوجداني جدة فنيت بها آمالي، فأنا أملي في مدحهما الأمالي، وأرصّع تيجان شرفهما من درر أفكاري، بالجواهر واللآلي: فابلغا أكمل السعادة في ظل العلى وابقيا أتم البقاء أنتما ذاك الذي أخبر القرآن عنه في دوحة علياء أصلها ثابتٌ كما ذكر الله تعالى وفرعها في السماء.
وكان من منتهما التي أكرر صفاتها وأرددها، ونعمهما التي أعد منها ولا أعددها، أن عرفت في خدمتهما الملك المعظم الكبير فخر الدولة والدين جمال الإسلام والمسلمين مفخر الزمان منوجهر بن أبي الكرم الهمذاني، أسبغ الله ظله وأعلى محله، فجلوت بمعرفته صدأ القلب والعين وأحللته مني في الأسودين، وعقدت في محبته خنصري وأفضيت إليه بعجري وبجري، ورأيته مهذب الأخلاق كريمها، جميل الغرة وسيمها، لو جسد العقل لكان إياه، أو مني السداد لما تعداه، حسن الصمت حلو الحديث جامعاً بين الشرف القديم والمجد الحديث، قد أضاف إلى الكرم الطريف الكرم التالد، وأشبه أباه في الفضل فقيل: هذا الولد من ذلك الوالد، جمع الله به أشتات المناقب وأحسن إليه في المبادي والعواقب.
ولما أحكمت الأيام في حكمته عهود الوداد، وحصل من طول الصحبة حسن الاتحاد، طلب أن أجمع له مجموعاً مشتملاً على معان من الأشعار ولمع من محاسن الأخبار، ليشرفه بمطالعته، وينوب عن حضوري إذا غبت عن خدمته، ويكون كالمذكر بعهدي والمنبه على حفظ ودي، وإن كانت عهوده، جمل الله ببقائه، محفوظة على الدوام، مصونة مع تصرف الأيام، لأن من حل محله من النبل كان مثله من أهل الفضل فهو إلى أعلى رتب المجد راق، وعلى عهوده في كل حال باق، فلبيت دعوته حيث ناداني، ومريت خلف القريحة فدر وأتاني.
ولولا ما افترضته من اتباع إشارته، وآثرته من النهوض بخدمته، لكان في الزمان وأكداره المتعددة وفوادحه المتكررة المتعددة ما يشغل الإنسان عن نفسه، وتذهله عن معرفة يومه فضلاً عن أمسه، وقد استخرت الله في جمع هذا المجموع وجعلته أوصافاً وسميته: التذكرة الفخرية، والتزمت بشرح ما يعرض في أثنائه من كلمة لغوية أو معنى يحتاج إلى إيضاح ولي على الناظر فيه ستر العوار والزلات والإغضاء على الخطأ والهفوات، فما رفع قلم عن كتاب والإنسان معرض للنسيان، والمختار معان، والناس مختلفون في الاستحسان، وقد أمليت جملة منه من خاطري فمن وجد فيه خطأ وأصلحه أو خللاً فهذبه قام مقام المفهم وقمت مقام المتفهم، وعرفت له فضل العالم على المتعلم، إكراماً لما رزقه الله من الأدب وقضاء لحق العلم فلولا الوئام هلك الأنام.

وقد ملت في أكثره إلى أشعار المحدثين من أهل العصر إلاّ ما قل من أشعار القدماء وما لم أر للمعاصرين فيه شيئاً، فالضرورة تدعوني إلى استعمال أشعار المتقدمين فيه ورغبني في أشعار المتأخرين قرب متناول معانيهم وسلامة ألفاظهم وتناسبها وحسن مذهبهم في تلطيف الألفاظ والمعاني ورشاقة السبك وإصابة الغرض وتجنب حواشي اللغة ووحشيها ليكون ذلك أدعى إلى الرغبة فيه وأنسب إلى ما اقتضته الحال التي جمع لها، وأليق بطباع أهل العصر ولأن الجيد من أشعار الجاهلية ومخضرمي الإسلام ومخضرمي الدولتين والمحدثين لا يخلو منها كتاب أو مجموع وأن المصنفين لم يغادروا منها صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصوها وقد كان، جمل الله ببقائه وجمع القلوب، وقد فعل، على ولائه، طلب أن أضيف إلى هذا المجموع شيئاً من الدوبيت والمواليا والموشحات فأجبته إجابة مطيع، وسارعت إلى امتثال أمره مسارعة سميع وتبعت غرضه في الاختيار وملت معه في الإيراد والإصدار، وبالله أعتمد وأعتضد، وعليه أتوكل، وهو حسبي ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

وصف في الشباب والخضاب والمشيب
الشباب باكورة الحياة وإبان صفو العيش ووقت التمكن من الأغراض وزمن الطرب والغزل وفيه استقامة القوى الطبيعية وجريها على أحسن حالة وأتم انتظام والتصرف في ملاذ النفس واقتضاء الجوارح للحركات والنشاط على التمام وفيه تقوى خيالات الهوى وتنبسط الروح وتنبعث الهمم والمزاج الطبيعي فيه الحر واليبس.
وقد اختلف الأطباء في حرارة الصبيان والشباب وأيهما أشد، واستدل كل قوم على نصر مذهبهم بأمور قد بسطوا القول فيها لا يتعلق غرضنا بذكرها. وجالينوس يقول: إنها متساوية في الفريقين وإنما هي متعلقة في الشباب بموضوع يابس وفي الصبيان بموضوع رطب، قال: ولو فرضنا ناراً متساوية أوقدت على حجر وماء زماناً واحداً وجدنا في الحجر ممانعة لا نجد مثلها في الماء ليبس موضوعها.
وقد ذكر الشعراء الشباب وطولوا في أوصافه ونعتوه فأحسنوا نعته وبكوا عليه فأكثروا البكاء إلاّ أنهم قل أن يذكروه إلاّ عند فقده أو يبكوا عليه إلاّ بعد فراقه ووقت التظلم من الشيب، والأصل في جميع ذلك حب الحياة والرغبة في السلامة وقد ذُم الشباب أيضاً وذكرت معايبه وهذا عائد إلى العياء.
وها أنا أذكر ما يخطر من ذلك وبالله التوفيق.
أنشد المبرد قال: أنشدنا أبو عثمان المازني لأبي حية النميري:
زمان الصبا ليتَ أيامنا ... رجعنَ لنا الصالحاتِ القصارا
زمانٌ عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطيّرهُ الدهرُ عني فطارا
فلا يُبعد اللهُ ذاك الغرابَ ... وإن هو لم يبقَ إلاّ ادِّكارا
كأنَّ الشابَ ولذاتهِ ... وريقَ الصبا كانَ ثوباً مُعارا
ريق الصبا وريّقه ورونقه أوّله.
وهازئةٍ إذْ رأت لمّتي ... تلفعَ شيبٌ بها فاستدارا
وقلدني منه بعد الخطام ... عذاراً فما أسطيعُ عنه اعتذارا
أجارتنا إنَّ ريبَ الزما ... ن قبليَ غالَ الرجالَ الخيارا
فأما تريْ لمَّتي هكذا ... فأسرعتِ منها لشيبي النفارا
فقد أرتدي طلةً وحفةً ... وقد أُبرزُ الفتياتِ الخفارا
الطلة: اللذيذة، وشعرٌ وحفٌ: أي كثير حسن أسود، ووحفٌ، بالتحريك، والخفر شدة الحياء، وامرأة خفرة، ويقال: خفِرة بالكسر، يقول: ارتديت شيبةً طلةً، أي لذيذة. قوله: وكان عليَّ غراب غداف: أراد به الشباب ويشبه أن يكون مثل قول الأعشى:
وما طلابكَ شيئاً لستَ مدركهُ ... إنْ كانَ عنكَ غرابُ الجهل قد وقعا
ومنه أخذ القائل، أظن الأبيات للإمام الشافعي:
أيا بومةً قد عشعشتْ فوقَ هامتي ... على الرغمِ مني حينَ طارَ غرابُها
علمتِ خرابَ العمرِ مني فزرتني ... ومأواك من كلِّ الديارِ خرابُها
ومنه أخذ الفلنك الموصلي، من شعراء العصر، كان وتوفي، وكان لا يعرف الكتابة والأدب، وله مع هذا أشعار رائقة:
سهرت لياليه وفيها مسامري ... أغنّ من الأتراك نامتْ وشاتهُ
فآهاً على مخضلّ عيش به انقضى ... وما طيَّرتْ غربانَ فودي بزاتُهُ
وقال أبو حية النميري:
لعمرُ أبي الشبابُ لقد تولَّى ... حميداً لا يرادُ به بديلُ
إذِ الأيامُ مقبلةٌ علينا ... وظلُ أراكةِ الدنيا ظليلُ

فرحّلَ بالشبابِ الشيبُ عنَّا ... فليتَ الشيبَ كانَ به الرحيلُ
وقد كانَ الشبابُ لنا خليلاً ... فقد قضَّى مآربهُ الخليلُ
وقال أبو نواس:
كانَ الشبابُ مطيَّةَ الجهلِ ... ومحسّنَ الضحكاتِ والهزلِ
كانَ الشفيعَ إلى مآربهِ ... عندَ الفتاةِ ومدركَ التبلِ
التبل: الترة والذَّحل، يقال: أصبت بتبل أي بذحل، والجمع تبول، ويقال: تبلهم الدهر وأتبلهم: أفناهم.
كانَ الجميلَ إذا ارتديتُ به ... ومشيتُ أخطر صيّت النعلِ
والباعثي والناسُ قد رقدوا ... حتى أكونَ خليفةَ البعلِ
ومنها، وقد أجاد ما شاء:
والآمري حتى إذا عزمتْ ... نفسي أعانَ يديَّ بالفعلِ
أبو عبادة البحتري:
فأضللت حلمي والتفتُّ إلى الصبا ... سفاهاً وقد جزتُ الشبابَ مراحلا
فللهِ أيامُ الشبابِ وحسنُ ما ... فعلنَ بنا لو لم يكنّ قلائلا
ابن نباتة السعدي:
لا يبعدن زمن البطالة والصبا ... والعيشُ في ظلِّ الزمانِ الناضرِ
أيامَ تُغفرُ للشباب ذنوبهُ ... والشيبُ ليسَ لذنبهِ من غافرِ
بشار بن برد:
ولقد جريتُ مع الصبا طلقَ الصبا ... وركضتُ حتى لم أجدْ لي مركضا
وعدمتُ ما علمَ امرؤٌ من دهرهِ ... فأطعتُ عاذلتي وأعطيتُ الرِّضا
أخذه أبو نواس فقال:
ولقد نهزتُ مع الغواة بدلوهم ... وأسمتُ سرحَ اللهو حيثُ أساموا
وبلغتُ ما بلغَ امرؤ بشبابهِ ... فإذا عصارةُ كلِّ ذاكَ أثام
أخذه أمين الدولة بن التلميذ:
كانتْ بلهنيةُ الشبيبةِ سكرةً ... فصحوتُ واستأنفتُ سيرةَ مجملِ
وقعدت أرتقبُ الفناءَ كراكبٍ ... عرفَ المحل فباتَ دونَ المنزلِ
ومثله لأحمد بن أبي طاهر طيفور:
كان الشبابُ مطيةً أنضيتُها ... في اللهو بين محرمٍ ومحللِ
وبلغتُ غايةَ ما يلذّ به الفتى ... من صبوةٍ وفتوَّةٍ وتغزّلِ
فلهوتُ غيرَ معللِ وفتكتُ غي ... ر مضللٍ ونسكت غير معذلِ
وأخذته منهم فقلت:
ولقد سكرتُ غداة خمّاري الصبا ... وصحوتُ إذْ لاحَ المشيبُ بمفرقي
ونزعت عن عيني وقلتُ للائمي ... ها قد أطعتكَ في مرادك فارفقِ
أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري التنوخي:
إذا الفتى ذمّ عيشاً في شبيبتهِ ... فما يقولُ إذا عصرُ الشبابِ مضى
وقد تعوضتُ عن كلٍّ بمشبههِ ... فما وجدتُ لأيامِ الصبا عوضا
وقد أحسن مهيار في قوله:
ما أنكرتْ إلاّ المشيبَ فصدتِ ... وهي التي جنتِ المشيبَ هي التي
وأُلامُ فيكِ وفيكِ شبتُ على الصبا ... يا جورَ لائمتي عليكِ ولمَّتي
أنشدني كمال الدين بن محمد للسيد ابن طباطبا العلوي:
كان عصر الشباب ظلاً ظليلاً ... تتفيا بعقوتيه الظباء
العقوة: الساحة وما حول الدار.
كانَ عصر الشباب جنة دنيا ... أجتني من ثماره ما أشاءُ
لو ثوى نازلاً لما قلتُ فيه ... ربَّ ثاوٍ يملُّ منه الثواءُ
آخر:
شيآنِ لو بكتِ الدماءُ عليهما ... عيناي حتى يأذنا بذهابِ
لم يبلغا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحبابِ
شرخ الشباب: أوله، والشارخ: الشباب.
وقلت:
هل معيدٌ عصرَ الشبابِ وعيشاً ... خلتُ أوقاتَه خيالاً زارا
إذْ مغاني الحمى أواهل تجلو ... للعيونِ الشموسَ والأقمارا
وقلت:
زمن اللهو والبطالة جادت ... ك دموعي فصوبهنّ مطيرُ
وسقى عهدنا بمخدعها در ... شؤبوبها مُلثٌّ غزيرُ
الشؤبوب: الدفعة من الغيث، والجمع: الشآبيب، والملث: الدائم.
دار لهو قضيت فيها شبابي ... وخلعت العذار وهو طريرُ
يقال: طرَّ النبت يطرُّ، بالضم، طروراً: نبت، ومنه: طر شارب الغلام.
وإذا ما الشبابُ ولَّى فما أن ... ت على فعل أهله معذورُ
فاتباعُ الهوى وقد وخطَ الشيبُ ... وأودى غصنُ التصابي غرورُ
وخطه الشيب: خالطه. وقلت:
ولقد ذكرت وأيّ صبّ شفه ... بعدٌ وهجران ولم يتذكرِ
أيام لا ظل الصبا بمقلص ... عنا ولا ورد الهوى بمكدرِ

وقال الشيخ تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، رحمه الله، أجاز لي جماعة أن أروي عنهم ما تصح روايته من مقول ومنقول، وكان شيخ زمانه غير مدافع، قرأ علي موهوب بن الخضر الجواليقي، رحمهم الله تعالى:
عفا اللهُ عمَّا جرَّه اللهوُ والصبا ... وما مرَّ من قالِ الشبابِ وقيلهِ
زمانَ صحبناهُ بأرغد عيشةٍ ... إلى أن مضى مستكرهاً لسبيلهِ
وأعقبنا منْ بعدهِ غير مشتهى ... مشيبٌ نفى عنَّا الكرى بحلولهِ
لئن عظمت أحزانُنا بنزولهِ ... لأعظمُ منها خوفنا من رحيلهِ
البيت الأخير مثل قول الأول:
الشيبُ كرهٌ وكرهٌ أنْ يفارقني ... فاعجبْ لشيءٍ على البغضاءِ مودودُ
وقال آخر:
يا زمانَ الشبابِ ما زلتُ أبكي ... ك دم المقلتينِ دونَ الدموعِ
أنتَ كنتَ الدنيا فلما تولي ... ت تولَّت فهل لها من رجوعِ
أبو الحسن الخراساني:
ذريني أواصل لذتي قبل فوتها ... وشيكاً لتوديع الشباب المفارقِ
فما العيشُ إلاّ صحةٌ وشبيبةٌ ... وكأسٌ وقربٌ من حبيبٍ موافقِ
ومَنْ عرفَ الأيامَ لم يغتررْ بها ... وبادرَ باللذاتِ قبلَ العوابقِ
صفي الدين منصور الإربلي: اجتمعتُ به مراراً، وكان شاعراً تجيء في أشعاره أشياء جيدة:
أشتاق أيامَ الشبابِ وحسن ما ... فعلتْ وحقَّ لمثلها يشتاقُ
ردُّوا عليَّ من الشبابِ بقدرِ ما ... كسدَ المشيبُ فللشبابِ نفاقُ
ومن شعره:
أوانس في ليل الشباب كأنجمٍ ... ينفّرها عن صبحِ لمتهِ الوخطُ
وقالوا سلا عصرَ الشبابِ كما سلا ال ... حزينُ وظني أنهُ ما سلا قطُّ
أخذ البيت الأول من أبي العلاء المعري وقصر عنه ما شاء حيث قال:
هي قالت لما رأت شيبَ رأسي ... وأرادتْ تنفراً وازورارا
أنا بدرٌ والصبحُ قد لاحَ في رأ ... سك والصبحُ يطردُ الأقمارا
وقد كرره أبو العلاء، رحمه الله، وهي غاية في معناها وتروى للمغاربة:
نزل المشيبُ بعارضيه فاعرضوا ... وتقوَّضتْ خيم الشباب فقوضوا
فكأنَّ في الليل البهيم تبسطوا ... خفراً وفي الصبح المنير تقبضوا
ولقد رأيت وما سمعت بمثله ... بيناً غرابُ البينِ فيه أبيضُ
أبو تمام:
شابَ رأسي وما أضنُّ مشيبَ ال ... رأسِ إلاّ من فضلِ شيبِ الفؤادِ
طالَ إنكاري البياضَ وإنْ عُم ... رتُ شيئاً أنكرت لونَ السوادِ
وكذاك العيونُ في كلِّ بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائعُ الأكبادِ
ابن التعاويذي البغدادي الشاعر المجيد الحسن الشعر، البديع المقاصد، أوحد زمانه، وشاعر أوانه، الذي يجاري الهواء رقة طبع، ويقول:
لم أقل للشباب في دعة الل ... ه ولا حفظه غداة استقلا
زائر زارنا أقام قليلاً ... سوّد الصحفَ بالذنوبِ وولَّى
وعمل فيه ابن الفقيه المحولي:
يا هاجياً عصرَ المشي ... ب ومادحاً عصر التصابي
لو جزت يوماً بالمحو ... ول ما ذممت سوى الشباب
ابن الرومي:
لا تلحَ منْ يبكي شبيبته ... إلاّ إذا لم تبكِها بدمِ
لسنا نراها حقَّ رؤيتها ... إلاّ زمانَ الشيبِ والهرمِ
كالشمسِ لا تبدو فضيلتُها ... حتى تُغشَّى الأرضُ بالظلمِ
ولربَّ أمرٍ لا يُبيِّنهُ ... وجدانهُ إلاّ معَ العدمِ
وأنشدني بعض الأصحاب:
قبل الشبابِ شبيبةٌ محمودةٌ ... والالتحاءُ هو المشيبُ الأولُ
يأتي السوادُ على البياضِ وبعده ... يأتي البياضُ على السوادِ فيرحلُ
ومما يأخذ بمجامع الإحسان قول البحتري:
أأخيبُ عندكِ والصبا لي شافعٌ ... وأُردُّ دونكِ والشبابُ رسولي
ابن التعاويذي:
أعائدٌ وأحاديث المنى خدعٌ ... على الغضى زمنٌ من عيشِنا سلفا
هيهاتَ أن ترجعَ الأيامُ من عمري ... شبيبةً عندكم أنفقتُها سرفا
وقال أيضاً:
فلربَّ ليلاتٍ سلفنَ لنا بها ... والقلب بالتفريق غير مروَّعِ
أيام لا ظل الصبا بمقلصٍ ... عنَّا ولا شمل الهوى بمصدعِ
أيام لهو طالما أنضيتها ... في مشهد للغانيات مجمعِ
لو كنتَ شاهدنا بها لرأيتَ ما ... يصيبكَ من مرأى هناك ومسمعِ

فيهدي الصواب إلى كل سمع كأنما نسج على منوال وغذي من لطف المعاني بلبان، وتصرف كما شاء في البيان، ولولا تقدم زمانه على زماني، لأطلقت في نعته لساني، وثنيت في ميدان أوصافه عناني، وذكرت من بدائع مقاصده ما هو علق بالقلوب من نغمات الأغاني، ولكن غرضي مقصور على ذكر أهل عصري وأبناء دهري، إلاّ ما لم أجد لهم فيه مقالاً، ولا نسجوا على منواله مثالاً، لأن المعاصر ما تنوّق تنوق المتقدم، ولهذا قال عنترة:
هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ
وإن ذكرت من هؤلاء الجماعة أحداً فلموضع شرف قدرهم، ولئلا أخل بذكرهم، كيف ولم نعترف إلاّ من بحرهم، ولا شنّفنا أسماعنا إلاّ بدُرهم، ولا ارتوينا إلاّ من درهم.
مدح الإمام الناصر، ومحاسن شعره فيه له من قصيدة:
سقاكِ سارٍ من الوسميِّ هنانُ ... ولا رقتْ للغوادي فيكِ أجفانُ
يا دارَ لهوي وأطرابي وملعب أت ... رابي وللهوِ والأوطارِ أوطانُ
أعائدٌ ليَ ماضٍ من جديدِ هوًى ... أبليتهُ وشبابٌ فيكِ فينانُ
إذِ الرقيبُ لنا عينٌ مساعدةٌ ... والكاشحونَ لنا في الحبِّ أعوانُ
ولي إلى البانِ من رملِ الحمى طربٌ ... فاليومَ لا الرملُ يصيبني ولا البانُ
السيد الشريف الرضي الموسوي:
دعاني أفز باللهو والرأس مظلم ... فما أبعد الأطرابُ والرأسُ مقمرُ
رأيت شباب المرء ليلاً يجنهُ ... يغطي على بادي العيوبِ ويسترُ
وشيبُ الفتى صبحٌ يبينُ عوارَه ... ويرمقُ فيه بالعيونِ فينظرُ
وإنَّ ضلالي في النهارِ لهجنةٌ ... وإنَّ ضلالي في دجى الليلِ أعذرُ
أنشدني بعض الأصحاب في ذم الشباب واتفق أني ودعت شرف الدولة عبيد الله بن الدوامي، وكان يلقب بالشباب، فأنشدته إياها في سنة خمس وخمسين وستمائة:
والآن فارقتُ الشبابَ وقلتُ ل ... لعيشِ الذي فارقتُ غير مودعِ
ودعا المشيبُ إلى النهى فأجبتهُ ... بضميرِ مختارٌ وقلبٌ طيعِ
ورمى العذارَ بنافذٍ من أسهمٍ ... للصبحِ في ليلِ الشبيبةِ تدعي
وقلت:
ولائم في الهوى أضحى يفندني ... بلومهِ وعذول لجّ في عذلِ
قالا تسلّ فأيام الصبا سفهٌ ... وذكرها قلت قد أكثرتما جدلي
وقلت:
لا تسمني صبراً فقد حرم ال ... صبر عيونٌ ترمي بسحرٍ حلال
واستعر لي دمع السحاب فقد أف ... نيت دمعي على الرسوم الخوالي
وأعد لي ذكر العقيقِ وأيا ... م تقضت لنا به وليالي
فطلابي رجوع ما فات من عص ... رِ الصبا والشباب عين الضلال
وسؤالي رسماً محيلاً ونؤياً ... عاطلاً من تعللات المحال
فالهُ عني يا عاذلي فغرامي ... حاكم باستهانة العذالِ
آخر:
وكانَ الشبابُ الغضُّ لي فيه راحةٌ ... فوقرني فيه المشيبُ وأدبا
فسقياً ورعياً للشباب الذي مضى ... وأهلاً وسهلاً بالمشيب ومرحباً
محمد بن حازم:
لا حينَ صبرٍ فخلِّ الدمعَ ينهملُ ... فقدُ الشبابِ بيومِ المرءِ متصلُ
لا تكذبنَّ فما الدنيا بأجمعها ... من الشبابِ بيومٍ واحدٍ بدلُ
كفاكَ بالشيبِ ذنباً عند غانيةٍ ... وبالشبابِ شفيعاً أيها الرجلُ
عبد الله بن حسن بن حسن:
لو أنَّ أسرابَ الدموعِ ثنت ... شرخَ الشبابِ على امرئ قبلي
لبكيته دهري بأربعة ... فسفحتها سجلاً على سجلِ
السيد الرضي الموسوي:
فمالي أذمُّ الغادرينَ وإنما ... شبابيَ أوفى غادرٍ بي وما ذقِ
تعيرني شيبي كأني ابتدعتُهُ ... ومَنْ لي أنْ يبقى بياضُ المفارقِ
منصور النمري:
لا حسرةٌ تنقضي مني ولا جزعُ ... إذا ذكرتُ شباباً ليس يرتجعُ
ما كنتُ أُوفي شبابي كنهَ غرتهِ ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبعُ
وقد ذكرت ما يتعلق بالشباب حسبما يقتضيه هذا المختصر. ومن هذا الباب ما قيل في الخضاب فإنه شباب مستعار.
قال الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، وقيل: إنه لم يعمل غيرها:
خضبتُ الشيبَ لما كانَ عيباً ... وخضبُ الشيبِ أولى أن يُعابا
ولم أخضبْ مخافةَ هجرِ خلٍّ ... ولا عنتاً خشيت ولا عتابا

ولكن المشيب بدا ذميماً ... فصيّرتُ الخِضابَ له عقابا
أنشدني بعض الأصحاب:
وهي التي قالت لجارة بيتها ... قولاً دموعي كنَّ رجعَ جوابهِ
ما كان ينفعه لديّ شبابهُ ... فعلامَ يُتعبُ نفسهُ بخضابهِ
آخر:
وحقك ما خضبتُ مشيبَ رأسي ... رجاءً أنْ يدومَ لي الشبابُ
ولكنّي خشيت يراد مني ... عقول ذوي المشيب فلا يصابُ
أنشدني كمال الدين محمد بن البوازيجي:
إنّ الخضابَ لحيلةٌ ... في ردِّ أيامِ الشبابِ
ويغضّ من طرف العدو ... ويستبي قلبَ الكَعابِ
أنشدني آخر:
وقائلة لما رأت شيب لمتي ... استرهُ عن وجهها بخضابِ
أتسترُ عنّي وجهَ حقٍّ بباطلٍ ... وتوهمني ماءً بلمعِ سرابِ
فقلت لها كفّي ملامك إنها ... ملابس أحزاني لفقد شبابي
ابن الرومي:
وقالوا اختضبْ قبلَ المشيبِ فقد بدتْ ... لأسهُمِهِ في عارضيْكَ نُصولُ
فقلتُ خضابُ الأصل لم يبق لونه ... فكيفَ خضابٌ يعتريه نصولُ
وله:
إذا خضب الشيخ المشيب فإنه ... حدادٌ على شرخ الشبيبةِ يلبسُ
وإلا فما يبغي امرؤٌ بخضابهِ ... أيطمعُ أنْ يخفَى شبابٌ مُدلّسُ
وكيفَ بأنّ يخفى المشيبُ بخاضب ... وكلُّ ثلاثٍ صُبحهُ يتنفسُ
وهبه يواري شيبهُ أينَ ماؤهُ ... وأينَ أديمٌ للشبيبةِ أملسُ
وقال:
إذا شَنئتْ عينُ امرئ شيبَ نفسهِ ... فعينُ سواه بالشناءةِ أجدرُ
ألا أيهذا الشيبُ سمعاً وطاعةً ... فأنت لَعمريَ ما حييتُ المظفّرُ
إذا كنت تمحو صبغةَ الله قادراً ... فأنتَ على ما يصبغُ الناسُ أقدرُ
وقال محمود الوراق:
يا خاضب الشيب الذي ... في كلِّ ثالثةٍ يعودُ
إن النصول إذا بدا ... فكأنّهُ شيبٌ جديدُ
ولابن المعتز في نقض هذا:
وقالوا المشيبُ مشيبٌ جديدُ ... فقلتُ الخضابُ شبابٌ جديدُ
إساءة هذا بإحسانِ ذا ... فإنْ عادَ هذا فهذا يعودُ
وحكي أن بعض ملوك حمير خرج متصيداً فرأى شيخاً منفرداً فوقف عليه وإذا به يخضب، فقال: يا شيخ هبك تخضب البياض فكيف تخضب الكبر، وأنشده:
إذا دام للمرء السواد وأخلقتْ ... محاسنه ظنَّ السوادَ خضابا
فكيف يظنُّ الشيخُ أنَّ خضابهُ ... يُظنُّ سواداً أو يخالُ شبابا
أقول: لو أُعطيَ الشيخ نصيباً من البيان وكانت له قريحة في هذا الشأن لأمكنه أن يجيب الملك مناقضاً وينشده معارضاً:
وحقك لم أخضب رجاءَ شيبةٍ ... تعاد ولا وصل أخافُ ذهابهُ
ولكن بدا شيبي ذميماً ورائداً ... لموتي فصيرتُ الخضاب عقابهُ
البيت الأول مأخوذ من قول القائل:
وحقك ما خضبت مشيب رأسي ... رجاء أن يدوم لي الشبابُ
ويزيد عليه:
ولا وصل أخاف ذهابه
والثاني من قول أبي علي الفارسي:
ولكنَّ المشيبَ بدا ذميماً ... فصيرتُ الخضاب له عقابا
ويزيد عليه:
ورائداً لموتي
أنشد كمال الدين بن محمد لنفسه:
لما رأيت الشيب نازل لمتي ... أعددتُ عندي للقاء خضابا
وعلمتُ أنَّ الشيبَ موتٌ قادمٌ ... فجعلته دونَ المشيبِ حجابا
علي بن هلال الصابي الكاتب:
خضب الشيبَ إذْ بدا أترابي ... وتوخوا فيه خلافَ الصوابِ
ولو أنِّي خضبتُ ضاعتْ بقايا ... من شبابي صحيحة في خضابي
ومضتْ هيبةُ المشيبِ ولم ير ... جعْ إلى الوجنتين ماءُ الشبابِ
فيضيع الشبابُ مني والشي ... ب جميعاً إذا حسبتُ حساب
أبو نواس:
تمتع من شباب ليس يبقى ... وصل بعرى الغبوق عرى الصبوحِ

وصف في الغزل والنسيب
قال امرؤ القيس في طيب الثغر:
كأنَّ المدامَ وصوبَ الغمامِ ... وريحَ الخزامى ونشرَ القطرْ
القطُر والقطْر عود البخور.
يعلّ به بردُ أنيابِها ... إذا غردَ الطائر المستحرْ
العلّ والنهل نوعان من الشرب، وصفها بطيب الريق طعماً ورائحة عندما يغرد الطائر في السحر وذلك وقت تغيير الأفواه.
ومثله:
يا أطيبُ الناسِ ريقاً عندَ هجعتِها ... وأحسن الناس عيناً حينَ تنتقبُ
ابن الرومي:

وما تعتريها آفةٌ بشريةٌ ... من النومِ إلاّ أنّها تتخيرُ
وغيرُ عجيبٌ طيبُ أنفاسِ روضةٍ ... منورةٍ باتتْ تراحُ وتمطرُ
كذلك أنفاسُ الرياحِ بسحرةٍ ... تطيبُ وأنفاسُ الأنامِ تتغيرُ
وللتهامي من أبيات مختارة أذكرها لموضعها من الحسن:
يحكي جنى الأقحوان الغضّ مبسمُها ... في اللونِ والريحِ والتفليج والأشرِ
لو لم يكنْ أقحواناً ثغرُ مبسمِها ... ما كانَ يزدادُ طيباً ساعةَ السحرِ
الفلج في الأسنان: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات، ورجل مفلج الثنايا: متفرقها، وهو خلاف المتراص الأسنان، وتأشير الأسنان: تحزيزها وتحديد أطرافها، يقال: بأسنانه أشُر وأشَر وأشور أيضاً، ومن أبيات التهامي:
أهتزّ عند تمني وصلها طرباً ... وربَّ أمنيةٍ أحلى من الظفرِ
تجني عليَّ وأجني من مراشفِها ... ففي الجنى والجنايات انقضى عمري
أهدى لنا طيفُها نجداً وساكنهُ ... حتى اقتنصنا ظباءَ البدو في الحضرِ
بيضاء تسحب ليلاً حسنهُ أبداً ... في الطولِ منه وحسنُ الليل في القصرِ
وأخذت من التهامي فقلت:
يزيد رضا به في الصبح طيباً ... لأنَّ الثغر منه جني الأقاحي
ومثله لعميد الدين بن عباس:
وظلم لماها العذب من بعد هدأة ... من الليل سلسال الرحيق المفدم
وللسيد الرضي:
وأقسم ما معتقةٌ شمولٌ ... ثوت في الدنّ عاماً بعد عام
إذا ما شارب القوم احتساها ... أحسَّ لها دبيباً في العظام
بأطيب من مجاجتهن طعماً ... إذا استيقظن من سنة المنام
ولم أرشف لهن لمًى ولكن ... شهدن بذاك أعواد البشام
هذا البيت الآخر من المعاني المطروقة وأنا أذكر ما يحضرن منها، قال شاعر الحماسة:
وما نطفةٌ من ماءِ مزن تقاذفت ... به جنبتا الجوديّ والليل دامس
فلما أقرتهُ اللصاب تنفستْ ... شمالٌ بأعلى متنهِ فهو قارسُ
بأطيبَ من فيها وما ذقتُ طعمهُ ... ولكنني فيما ترى العينُ فارسُ
اللصب بالكسر الشعب الصغير في الجبل، والقارس البارد، ويقال: الجامد، والأول هنا أجود، ومثله، وهو في غاية الحسن:
كأنَّ على أنيابها الخمر شجه ... بماء الندى من آخر الليل غابق
وما ذقته إلا بعيني تفرساً ... كما شيم من أعلى السحابة بارق
ومثله:
جنى النحل في فيه وما ذقت طعمه ... ولكنما قد دبّ من تحته النمل
ومن هذا المعنى للمغاربة:
من نسل هارون تعشقته ... يقتلني بالصدِّ والتيه
قد أنزل السلوى على قلبه ... أقول والمنّ على فيه
ومنه أيضاً:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
ومثله لزهير المصري وقد طرف فيه:
وقد شهدَ المسواكُ عندي بطيبهِ ... ولم أرَ عدلاً وهو سكرانُ يطفحُ
ومثله:
يروي لنا المسواك طيب حديثه ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى
وللفقيه عمارة مثل هذا من أبيات أذكرها لموضعها من الجودة وهي:
سرت نفحة كالمسك أزهى وأعطر ... وأردية الظلماء تطوى وتنشرُ
وما هي إلاّ نفحة بعثت بها ... سليمى إلى صبّ تنام ويسهرُ
وإلا فما بال النسيم الذي سرى ... بذي الأثل عن عرف العبير يعبرُ
شهدت يقيناً أن مرآك جنة ... وقالوا وما أدري وريقك كوثر
ومثله أيضاً:
وفي الحمول سمحة ضنينة ... تبذل وجهاً وتصون ملمسا
سلسالها إن لم أكن أعرفه ... رشفاً فقد وصفته تفرسا
ابن الرومي:
وما ذقته إلاّ بشيم ابتسامها ... وكم مخبرٍ أبداه للعين منظرُ
ومثله لكمال الدين بن العديم:
وما عذبَ المسواك إلاّ لأنه ... يقبلها دوني وإني لراغم
فقلت له صف لي جنى رشفاتها ... فالثمني فاهاً بما هو زاعم
الحديث ذو شجون، وقال امرؤ القيس:
خليليّ مُرا بي على أمّ جندبِ ... نقضِّ لباناتِ الفؤادِ المعذبِ
ألم ترَ أني كلما جئتُ زائراً ... وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيبِ
هذا أحسن من قول كثيِّر وأدل على الطيب حيث قال:
وما روضةٌ بالحزنِ طيبةُ الثرى ... يمجُّ الثرى جثجاثُها وعرارُها

بأطيبَ من أردانِ عزةَ موهناً ... وقد أوقدتْ بالمندلِ الرطبِ نارُها
ورأيت بعض الأدباء ينشد:
وما أوقدت بالمندل الرطب
اعتذاراً لكثيّر وإصلاحاً لشعره. على أن العرب يصفون المرأة بهذا لدلالته على النعمة. وقال امرؤ القيس:
أغرَّكِ مني أنّ حبكِ قاتلي ... وأنكِ مهما تأمري القلبَ يفعل
وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضربي ... بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتل
زهير بن أبي سلمى:
ولما عرفتُ الدارَ قلتُ لربعها ... ألا عمْ صباحاً أيها الرَّبعُ وأسلم
وفيهنَّ ملهىً للطيف ومنظرٌ ... أنيقٌ لعينِ الناظرِ المتوسِّمِ
وقال جرير، وقيل إنه أغزل ما قيل:
إنَّ العيونَ التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللبِّ حتى لا حراكَ بهِ ... وهنَّ أضعفُ خلقِ الله أركانا
وأبيات أبي الشيص داخلة في باب الاختيار ومعدودة من محاسن الأشعار، ولولا أن بعض الأدباء قال كلاماً معناه أنه لا ينبغي لمن له أدنى حس أن يخل بحفظها ولا لجامع أن يخلي منها مجموعة لما ذكرتها لاشتهارها وهي:
وقفَ الهوى من حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخرٌ عنهُ ولا متقدمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حباً لذكركِ فليلمني اللُّومُ
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحبُّهمُ ... إذْ كانَ حظي منكِ حظي منهمُ
وأهنتني وأهنتُ نفسي عامداً ... ما منْ يهونُ عليكِ ممنْ يكرمُ
البيت الأول مستعمل وقد نقل من الغزل إلى المديح إلى الهجاء وأنا أذكر منه ما يتفق، فمن ذلك في الغزل:
تركتُ فيك المنى مفرقة ... وأنت منها بمجمع الطرقِ
ومثله في المديح:
إنَّ المكارم والمعروف أودية ... أحلكَ الله منها حيثُ تجتمعُ
ومثله لأبي نواس:
فما فاته جود ولا حلَّ دونه ... ولكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ
وقريبٌ من هذا المعنى:
إنَّ السماحةَ والمروءةَ ضمنا ... قبراً بمرو على الطريقِ الواضحِ
ومثله أيضاً:
إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى ... في قبةٍ ضُربتْ على ابن الحشرجِ
غيره:
فتىً إذا عدّت تميمٌ معاً ... ساداتها عدّوه بالخنصرِ
ألبسه الله ثياب العلى ... فلم تطل عنه ولم تقصرِ
ومثله في الهجاء:
أنتمْ قرارةُ كلِّ معدنِ سَوءةٍ ... ولكلِّ سائلةٍ تسيلُ قرارُ
عدي بن زيد الرقاع:
لولا الحياءُ وأنَّ رأسيَ قد عسا ... فيه المشيبُ لزرتُ أمَّ القاسمِ
وكأنها بينَ النساءِ أعارها ... عينيهِ أحورُ من جآذرِ جاسمِ
وسنانُ أقصدهُ النعاسُ فرنّقتْ ... في عينه سنةٌ وليس بنائمِ
ذو الرمة، واسمه غيلان:
وقفتُ على ربعٍ لمميَّةَ ناقتي ... فما زلتُ أبكي عنده وأخاطبهُ
وأسقيهِ حتى كادَ مما أبثُّهُ ... تكلمني أحجارهُ وملاعبهُ
ومنها:
وقد حلفتْ بالله ميّةُ ما الذي ... أقولُ لها إلاّ الذي أنا كاذبه
إذاً فرماني الله من حيثُ أتقي ... ولا زال في أرضي عدوّ أحاربه
إذا نازعتكَ القولَ ميّةُ أو بدا ... لك الوجهُ منها أو نضا الدرعَ سالبه
فيا لك من خدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خلْقٍ تعلل جادبه
جادبه، بالدال المهملة: عائبه.
وقال:
نعمْ هاجتِ الأطلالُ شوقاً كفى به ... من الشوق إلاّ أنهُ غيرُ ظاهرِ
فما زلتُ أطوي النفسَ حتى كأنها ... بذي الرمثِ لم تخطرْ على قلبِ ذاكرِ
حياءً وإشفاقاً من الركبِ أن يروا ... دليلاً على مستودعاتِ السرائرِ
وقال:
حيِّيتَ من زائرٍ أنى اهتديتَ لنا ... وأنتَ منا بلا نحوٍ ولا صددِ
وقال:
وقفنا فسلّمنا فكادتْ بمشرفٍ ... لعرفانِ صوتي دمنةُ الدارِ تنطقُ
تجيشُ إليَّ النفسُ في كلِّ منزلٍ ... لميٍّ ويرتاعُ الفؤادُ المشوقُ
أراكِ إذا ما نمتُ يا ميُّ زرتني ... فيا عجباً لو أنَّ رؤياكِ تصدقُ
وقال:
لها بشرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشي لا هراءٌ ولا نزرُ
وعينانِ قالَ اللهُ كونا فكانتا ... فعولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ
وقال:

ألا يا اسلمي يا ميُّ كلَّ صبيحةٍ ... وإنْ كنتُ لا ألقاكِ غيرَ لمامِ
وقال الأعشى:
ما روضةٌ من رياضِ الحزنِ معشبةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلُ
يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزَّرٌ بعميمِ النبتِ مكتهلُ
اكتهل النبات: تم طوله وبدا نوره.
يوماً بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ ... ولا بأحسنَ منها إذْ دنا الأصلُ
عدي بن زيد الرقاع:
ونبه شوقي بعدما كانَ كامناً ... هتوفُ الضحى مشعوفةٌ بالترنُّمِ
بكتْ شجوها تحتَ الدجى فتساجمت ... إليها غروب الدمع من كل مسجمِ
وبعدهما البيتان المشهوران:
فلو قبلَ مبكاها بكيتُ صبابةً
وقريب من هذا أبيات الحماسة:
لقد هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ ... على فننٍ تبكي وإني لنائمُ
فقلتُ اعتذاراً عند ذاكَ وإنني ... لنفسيَ فيما قد رأيتُ للائمُ
أأزعمُ أني عاشقٌ ذو صبابةٍ ... بليلى ولا أبكي وتبكي البهائمُ
كذبتُ وبيتِ الله لو كنتُ عاشقاً ... لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
يزيد بن معاوية:
إذا برزت ليلى من الخدر أبرزت ... لنا مبسماً عذباً وجيداً مطوقا
كأنَّ غلاماً كاتباً ذا براعةٍ ... تعمد نوني حاجبيها فعرقا
كأن المعري نظر على عماه إلى هذا، فقال:
ولاح هلالٌ مثلُ نونٍ أجادها ... بجاري النُّضارِ الكاتبُ ابنُ هلال
وأحقاف رمل جاذبتها وهزة ... عرتها كما هزَّ الصبا غصنَ النقا
أتت تتهادى كالقضيب فقبّلت ... يدي غلطاً منها فقبلت مفرقا
وباتت يدي طوقاً لها وابتسامها ... يريني شعاعاً آخر الليل مشرقا
فلم أرَ بدراً طالعاً قبل وجهها ... ولا ميتاً قبلي من البين أشفقا
ذو الرمة:
ألمّا بميّ قبل أنْ تطرحَ النوى ... بنا مطرحاً أو قبلَ بينٍ يزيلها
ولو لم يكنْ إلاّ تعللَ ساعةٍ ... قليلٌ فإني نافعٌ لي قليلها
قال محمد بن سلمة الضبي: صدرت من الحج فيممت منهلاً من المناهل فرأيت في البادية بيتاً منفرداً من البيوت فقصدته وكلمت من فيه فخرجت إلي جارية متبرقعة، فقلت: يا بنية هل لك في أن تأويني من هذا الحر، فقالت: نعم وأذنت لي حر هذا اليوم الدخول، فبينما هي تحدثني وأحدثها إذ سقط البرقع عن وجهها فرأيت وجهاً لم أر أحسن منه فجعلت أكرر النظر متعجباً فلم يكن أسرع من أن خرج علينا عجوز من خباء ملاصق لذلك الخباء، فقالت: ما جلوسك عند هذا الغزال النجدي الذي لا تأمن من خياله ولا ترجو نواله، فقالت الجارية: يا جدة دعيه يتعلل، كما قال ذو الرمة:
ولو لم يكنْ إلاّ تعلل ساعةٍ
فأقمت باقي يومي وانصرفت وفي قلبي من حبها كجمر الغضا.
قال العتبيُّ: خرجت حاجّاً فلما صرت بقباء تداعى الوفد الصقيل وإذا جارية كأن وجهها السيف الصقيل فلما أرميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها، فقلت لها: إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بالنظر إلى وجهك فانصاعت وأنا أغرف الضحك في وجهها وأنشدت:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كله أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
توبة بن الحمير، صاحب ليلى الأخيلية:
ولو أنَّ ليلى الأخيليةَ سلمتْ ... عليَّ ودوني جندلٌ وصفائحُ
لسلمتُ تسليمَ البشاشةِ أوزقا ... إليها صدىً من جانبِ القبرِ صائحُ
وأُغبطُ من ليلى بما لا أنالهُ ... ألا كلُّ ما قرت به العينُ صالحُ
آخر:
ديار تنسمتُ المنى نحو أرضها ... وطاوعني فيها الهوى والحبائبُ
ليالي لا الهجران محتكم بها ... عليَّ وضل من أهوى ولا الظنُ كاذب
محمد بن يزيد الأموي:
لا وحبيك لا أصا ... لح بالدمع مدمعا
من بلى حبه استرا ... ح وإنْ كانَ موجعا
أبو حية النميري:
كفى حزناً أني أرى الماء معرضاً ... لعيني ولكنْ لا سبيلَ إلى الوِردِ
وما كنتُ أخشى أنْ تكونَ منيتي ... بكفِّ أعزِّ الناسِ كلهم عندي
السيد الرضي:
يا سرحةً بالحزن لم ... يبللْ بغيرِ دمي ثراها
ممنوعةً لا ظلُّها ... يدنو إليّ ولا جناها
مروان بن أبي حفصة:

طرقتكَ زائرةً فحيّ خيالها ... بيضاءُ تخلطُ بالحياءِ دلالها
يقول فيها:
مالتْ بقلبكَ فاستقادَ ومثلها ... قادَ القلوبَ إلى الصبا فأمالها
وكأنما طرقتْ بنفحةِ روضةٍ ... سحّتْ بها ديمُ الربيع ظلالها
باتتْ تسائلُ في الظلامِ معرِّساً ... بالبيدِ أشعثَ لا يملُّ سؤالها
لم يأت في صفة الطيف بغريب، والناس فيه عيال على قيس بن الخطيم في قوله:
أنَّى سربتِ وكنتِ غيرَ سروبِ ... وتقربُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينهُ ... في النومِ غيرَ مصردٍ محسوبِ
كان المنى بلقائها فلقيتها ... فلهوتُ من لهوِ امرئٍ مكذوبِ
وقد أحسن جرير في قوله:
أتنسى إذ تودِّعنا سليمى ... بفرعِ بشامةٍ سقيِ البشامُ
بنفسي مَنْ تجنُّبهُ عزيزٌ ... عليّ ومن زيارتهُ لمامُ
ومنْ أمسي وأصبح لا أراهُ ... ويطرقني إذا هجعَ النيامُ
البشام: شجر طيب الريح يستاك به، ويروى:
أتذكرُ يومَ تصقلُ عارضيها ... بفرعِ بشامةٍ سقيُ البشامُ
قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: قولهم: امرأةٌ نقية العارض، أي نقية عرض الفم، وأنشد البيت، يعني به الأسنان وما بعد الثنايا، والثنايا ليست من العارض.
وقال ابن السكيت: العارض: الناب والضرس الذي يليه، واحتج بقول ابن مقبل:
هزئتْ ميةُ أنْ ضاحكتها ... فرأتْ عارضَ عودٍ قد ثرمْ
قال: والثرم لا يكون إلاّ في الثنايا.
وأبيات جرير وإن خلت من معنىً في الطيف مبتكر فهي حلوة الألفاظ سهلة.
ولأبي عبادة البحتري في وصف الخيال الفضل على كل متقدم ومتأخر، فإنه تغلغل في أوصافه وتنوَّق في ذكره، وكان لهجاً بتكرار القول فيه، وإن كان لأبي تمام مواضع لا يجهل فضلها ولا ينكر حقها، وسأورد من شعرهما فيه، ومن أشعار غيرهما، ما يناسب الغرض في هذا المختصر الذي جمع بمزاحمة الأوقات.
قال أبو تمام:
زار الخيال لها لا بل أزاركهُ ... فكرٌ إذا نامَ فكرُ الخلقِ لم ينمِ
ظبيٌ تقنصتهُ لما نصبتُ له ... في آخر الليلِ أشراكاً من الحلمِ
وقوله:
عادكَ الزورُ ليلةَ الرملِ من ... رملةَ بينَ الحمى وبينَ المطالِ
نمْ فما زاركَ الخيالُ ولكن ... ك بالفكرِ زرتَ طيفَ الخيالِ
وقال:
الليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحتهُ النوى من الأيامِ
يا لها ليلة تنزهت الأرْ ... واحُ فيها سراً من الأجسامِ
مجلسٌ لم يكنْ لنا فيه عيبٌ ... غيرَ أنّا في دعوةِ الأحلامِ
البيت الأول أخذه المتنبي، فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبِّرُ أنَّ المانويّةَ تكذبُ
ضده لابن منير الطرابلسي:
ما مانَ مانيّ لولا ليل عارضهِ ... ما شدَّ حبل المنايا بالأمانيّ
قال البحتري:
وإني وإنْ ضنَّتْ عليَّ بودِّها ... لارتاح منها للخيال المؤرقِ
يعزُّ على الواشينَ لو يعلمونها ... ليالٍ لنا نزدارُ فيها ونلتقي
فكم غلةٍ للشوقِ أطفأتُ حرَّها ... بطيفٍ متى يطرقْ دجى الليل يطرقِ
أضمُّ عليهِ جفنَ عيني تعلقاً ... به عندَ إجلاءِ النعاسِ المرنّقِ
وقال:
بلى وخيالٌ من أثيلةَ كلما ... تأوَّهتُ من وجدٍ تعرَّضَ يطمعُ
إذا زورةٌ منه تقضتْ مع الكرى ... تنبَّهتُ من وجدٍ له أتفزَّعُ
ترى مقلتي مالا ترى في لقائهِ ... وتسمعُ أذني رجعَ ما ليسَ تسمعُ
ويكفيك من حقٍّ تخيُّلُ باطلٍ ... تردُّ بهِ النفسُ اللهيفَ فترجعُ
وقال:
إذا ما الكرى أهدى إليَّ خيالهُ ... شفى قربه التبريحَ أو نقعَ الصدا
إذا انتزعتهُ من يديَّ انتباهةٌ ... عددتُ حبيباً راحَ مني أو غدا
ولم أرَ مثلينا ولا مثلَ شأننا ... نعذَّبُ أيقاظاً وننعمُ هجّدا
وقال:
وليلةَ هوَّمنا مع العيسِ أرسلتْ ... بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطله
فلولا بياضُ الصبحِ طالَ تشبُّثي ... بعطفيْ غزالٍ بتُّ وهناً أغازله
وقال:
أمنكَ تأوُّبُ الطيفِ الطروبِ ... حبيبٌ جاءَ يهدى من حبيبِ
تخطى رقبةَ الواشينَ كرهاً ... وبعدَ مسافةِ الخرقِ المجوبُ

يكاذبني وأصدقهُ وداداً ... ومن كلفٍ مصادقةُ الكذوبِ
أعرابي:
وخبرها الواشون أنَّ خيالها ... إذا نمتُ يغشى مضجعي ووسادي
فخفرها فرطُ الحياءِ فأرسلتْ ... تعاتبني غضبي لطولِ رقادي
وقال مهيار بن مرزويه:
في الظباء الماضين أمس غزالُ ... قالَ عنه مالا يقولُ الخيالُ
لم يزل يخدع البصيرةَ حتى ... سرّني ما يقولُ وهو محالُ
لا عدمتُ الأحلام كم نوَّلتني ... من عزيزٍ صعبٍ عليه النوالُ
هذه الأشعار قد اختلفت فيها مذاهب القوم وأكثرها يدل على شدة الحرص على النوم، لأن منهم من جعل النوم ذريعة إلى الخيال الزائر، ومنهم من أنكر زيارته لأنه أبداً ساهر، أما قول البحتري:
إذا انتزعته من يدي انتباهة
وقوله:
أراني لا أنفك في كل ليلة
فإنه يدل على نوم شديد واستغراق ما عليه مزيد إذ لا يزال الخيال في يديه فلا ينزعه إلاّ انتباهة وقد ادعى نباهةً في الوجد وأين فيه من النائم نباهةٌ. وأكثر نوماً منه القائل:
وما ليلة في الدهر إلاّ يزورني ... خيالك إلاّ ليلة لا أنامها
فهذا شعر من غلبة النعاس فنام، وجعل الطيف حجة وذريعة إلى هذا المرام، وقد أحسن مهيار في قوله ما شاء:
وابعثوا أشباحكمْ لي في الكرى ... إنْ أذنتم لجفوني أنْ تناما
والبديع الحسن في هذا قول ابن التعاويذي:
قالت أتقنعُ أنْ أزوركَ في الكرى ... فتبيتَ في حلمِ المنامِ ضجيعي
وأبيك ما سمحتْ بطيفِ خيالها ... إلاّ وقد ملكتْ عليَّ هجوعي
فهذا غايةٌ ما فوقها غاية، وله أن يحمل على الشعراء في هذا ألف راية.
شمس الدين الكوفي الواعظ:
قل لمن نال حظهُ من رقاد ... جاعلاً حجةً لطيف الخيالِ
لو تيقظت جئت نحوك لك ... ني أرسلتُ حينَ نمت مثالي
لو صدقتَ الهوى صدقتُ ولكن ... ما جزاء المحال غير المحالِ
المجد بن الظهير الإربلي وأجاد:
أأحبابنا إنْ فرَّقَ الله بيننا ... وحازكم من بعد قربكم البعادُ
فلا تبعثوا طيف الخيال مسلماً ... فما لجفوني بالذي بعدكم عهدُ
وقد قيل: إن الحَيْصَ بَيْصَ دخل على أبي المظفر يحيى بن هبيرة الوزير وهو ينشد:
زارَ الخيالُ نجيلاً مثلَ مرسلهِ ... فما شفانيَ منه الضمُّ والقبلُ
ما زارني قطُّ إلاّ كي يواقفني ... على الرقاد فينفيه ويرتحلُ
والوزير يقول: هذا والله تام وفوق التام لا بل التام جزء منه، فقال الحيص بيص: يا مولانا له تمام، فقال: انظر ما تقول، قال: نعم بشرط أن يعيده الوزير، فأعاده، فقال:
وما درى أنَّ نومي حيلةٌ نصبت ... لصيده حينَ أعيا اليقظةَ الحيلُ
فأجازه وأحسن صلته: وقد ظرف القائل في قصد ما قاله الجماعة:
أتظن أنكَ عاشقٌ ... وتبيتُ طولَ الليلِ حالمْ
الطيفُ أعشقُ منكَ إذْ ... يسري إليكَ وأنتَ نائمْ
أذكر من غزل أهل العصر فمنهم: الشيخ ظهير الدين الحنفي الإربلي الفقيه النحوي المجيد الشاعر المبرز، ضرب في قالب الإحسان فبذ الأقران، وجرى في حلبة البيان فأحرز قصب الرهان، هاجر من وطنه إلى الشام وآثر بها المقام، وشنف أسماع أهلها بما هو أحسن من الدر في النظام، وروض معالمها بما هو أزهى من حوك الغمام، من شعراء العصر يتغلب في ظني أنه، عند جمع هذا المجموع، حي يرزق، وأنشدني بعض الأصحاب من شعره في الطيف وهو حسن:
لله طيفك ما أشدَّ حفاظه ... يوفي بعهد أخي الحفاظِ وينكثُ
ليلي بزورته كخطفةِ بارقٍ ... يا ليتَ ليلي حينَ يطرقُ يمكثُ
لي كلما وافى على كبدي يدٌ ... ويدٌ بأذيالِ الدجى تتشبثُ
وقال:
هو الوجد لولا ما تجنُّ الجوانحُ ... لما روت السفحَ الدموع السوافحُ
ولولا الهوى العذري لم تذك لوعتي ... وقد عنّ برقٌ بالأبيرقٍ لائحُ
أأحبابنا كيف اللقاء وبيننا ... نوىً لم تخدْ فيه الركاب الطلائحُ
ومنها:
وأسمرُ سمرُ الخط والبيض دونه ... وحمر المنايا رعفٌ ورواشحُ
من الهيف لو لم تعطف الريح عطفه ... لما كنت فيه للنسيم أطارحُ
وقال:
وما ألذّ إلى سمعي وأطربه ... عذل إذا شابهُ اللاحي بذكركم

يسودّ مبيضّ أيامي لغيبتكم ... وتنجلي بكم عن ليليَ الظلمُ
وأستلذُّ بذلي في محبتكم ... يا من بهم يعذبُ التعذيبُ والألمُ
سُقمي شفاءٌ إذا عدتم فديتكم ... وصحتي في بعادي عنكم سقمُ
إن صوح النبت من صدري وزفرته ... فمن دماء جفوني أورقَ السلمُ
صلى إلى حبكم قلبي وطاف به ... فأنتم كعبة المشتاق والحرمُ
البيت الأول من قول أبي الشيص:
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةَ
وقد تقدم. ومثله:
أحبّ العذول لتكراره ... حديثَ الحبيبِ على مسمعي
ومثله:
ويلذُّ لي عذلُ العذولِ لأنهُ ... أبداً يكرر ذكركم في مسمعي
وهذا كثير جداً. والبيت الثاني مأخوذ من ابن زيدون المغربي في قوله:
حالت لبعدكم أيامنا فغدتْ ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
وقال ابن الساعاتي:
كانت لياليهم شهبَ الحلي فغدت ... أيامهم وهي دهم عندما دهموا
وأبيات ابن زيدون حسنة، ومنها:
بنتم وبنا فما ابتلتْ جوانحُنا ... شوقاً إليكم ولا جفتْ مآقينا
تكادُ حينَ تناجيكم ضمائرُنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إنَّ الزمانَ الذي ما زالَ يُضحكنا ... أُنساً بقربكم قد عادَ يبكينا
لا تحسبوا نأيكم عنَّا يُغيرنا ... إذْ طالما غيَّر النأيُ المحبِّينا
واللهِ ما طلبتْ أرواحنا بدلاً ... منكم ولا انصرفتْ عنكم أمانينا
وهي طويلة.
وقال مجد الدين بن الظهير المذكور، وكان يهوى صبياً ذمياً فحُبس، فكتب إلى نواب إربل، وأنشد منها مسعود المذكور وكتبتها ها هنا لأنها بالغزل أشبه:
يا أمناء الملك قلبي إلى ... لقياكم مأسورُ أشواقهْ
ما فيكم إلاّ امرؤ فاضلٌ ... يزهو على الروضِ بأخلاقهْ
مسعودنا الذميّ في حبسكم ... وصبره واهٌ كميثاقهْ
أطلقتم الأدمعَ في حبسهِ ... فقيدوا الشكرَ بإطلاقهْ
ومن شعره:
إذا حانَ من شمسِ النهارِ غروبُ ... تذكرَ مشتاقٌ وحنَّ غريبُ
يحنُّ إليكم والخطوبُ تنوشهُ ... ويشتاقكم والنائباتُ تنوبُ
له أنةٌ لا يملك الحلم ردَّها ... متى هبَّ من ذاكَ الجناب جنوبُ
وقال أيضاً:
لو وجدنا إلى اللقاء سبيلا ... لشفينا بالقرب منكم غليلا
وسعينا على الجفون سراعاً ... ورأيناه في هواكم قليلا
قد سألنا القبول حمل التحيا ... ت فيا ليتها أصابت قبولا
وقال أيضاً:
إنْ عدتني عنكم عوادي الزمان ... فالهوى جاذب إليكم عناني
أو تناءت دياركم بعد قرب ... فالغرام الذي عهدتم مداني
لم يحل فيكم عن الفكر والذكر ... ر على النأي خاطري ولساني
أنا مستعذب عذابي ومختا ... ر على العزّ في هواكم هواني
وقال أيضاً:
إنْ لم أفز بلقائك المأمول ... فإليك معتلُّ النسيم رسولي
طارحتهُ وجدي عليكَ فرقَّ لي ... من حرِّ نارِ تلهفي وغليلي
وسألتهُ إبلاغَ ما في النفسِ من ... حملٍ لأخبارِ الهوى وفصولِ
وطمعتُ في رجعِ السلامِ فهل ترى ... يحظى لديه قبولهُ بقبولِ
وعقود دمعٍ كالعقيقِ حللتها ... لفراقِ حيٍّ بالعقيقِ حلولِ
أُفدي العقيقَ وساكنيه وإنْ همُ ... غدروا ولم يوفوا بعهدِ نزيلِ
وبأيمن العلمين ربُّ ملاحةٍ ... سدتْ على السلوانٌ كلَّ سبيلِ
فتانُ طرفٍ لم يدع قلباً بلا ... وجدٍ ولا جسماً بغير نحولِ
نشوان لي منه إذا نادمته ... سكران سكر شمائلٍ وشمولِ
وقال أيضاً:
غشُّ المفندِ كامنٌ في نصحه ... فأطلْ وقوفك بالغويرِ وسفحهِ
واخلع عذارك في محلٍّ ريهُ ... برذاذِ دمعِ العاشقين وسحهِ
يقول فيها:
وبيَ الذي يغنيه فاتنُ لحظهِ ... عن سيفهِ وقوامهُ عن رمحهِ
ظبيٌ يؤنس بالغرام نفاره ... ويجدّ في نهبِ القلوبِ بمزحهِ
أستعذبُ التعذيبَ في كلفي به ... والحبُّ لذةُ طعمهِ في برحهِ
البرح الشدة، وتباريح الشوق: توهجه.
يا شاهراً من جفنه عضباً غدا ... ماءُ المنيةِ بادياً في صفحهِ
ومعربداً في صحوه ومباعداً ... في قربه ومحارباً في صلحهِ
ومنها:

وسعى إليك بي العذول وإنني ... لا خيب إنْ ظفرَ العذولُ بنجحهِ
طرفي وقلبي ذا يسيل دماً وذا ... دون الورى أنتَ العليمُ بقرحهِ
فهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحهِ
والقلبُ منزلكَ القديم فإنْ تجدْ ... فيه سواكَ من الأنامِ فنحهِ
وقال من أبيات:
طال انتظاري لمهديّ الخيال فوا ... فاني وما برحَ المهديّ منتظرا
فما تمتعت منه باللقاء ولا ... ملأتُ عينيَ إجلالاً له نظرا
أضحى غريميَ عذريَّ الغرام بمن ... لو العذولُ رآه جاءَ معتذرا
لاموا على الأسمرِ الممشوقِ واتخذوا ... حديثَ وجدي عليه بينهم سمرا
قوله: ما برح المهديّ منتظرا، حسنٌ مثل السحر. وقد استعمله محيي الدين يوسف بن زيلاق، رحمه الله، في موشحة قالها على طريقة المغاربة فأجاد وأكثر، وهو:
لا تخالف يا منيتي أمري ... وادع لي بالرحيقْ
ما ترى رفقتي من السكر ... ليس فيهم مفيقْ
نحن قوم من شيعة الخمر ... ونحب العتيقْ
قد رفضنا عنا أذى الحزنِ ... بسماع الوترْ
وحمانا عن ناصبِ الهمِّ ... وعدكَ المنتظرْ
فهذا غاية في معناه.
وقال ابن الحنفي:
ومهفهف مذ عاينته مقلتي ... لم يلفَ قلبي في هواه معرجا
منح الأراكة والغزالة والطلى ... ليناً وإشراقاً وطرفاً أدعجا
أحوى أباح الكأس منه مقبلاً ... عذباً وكنت إليه منه أحوجا
فأعادها سكرى بخمرة ريقه ... وأعارها من وجنتيه تأججا
وكأنما كأس المدام بكفه ... شمس النهار يقلها بدرُ الدجى
الشيخ العالم شرف الدين أبو البركات المبارك بن أحمد بن موهوب ابن غنيمة بن غالب المستوفي الإربلي اللغوي النحوي المحدث الكاتب المؤرخ الثقة فارس الآداب المجلي في ميدانها القائل: أنا ابنُ جلا فمنْ صدَّ عن نيرانها، صاحب الرواية العالية ورب الفضائل المتوالية فاق الأوائل والأواخر بأخلاق أحسن من الروض الناضر، داره مجمع الآداب والفضائل وربعه بوفود العفاة عامر آهل، كان له ملك له حاصل صالح يخرجه على عفاته ويصرفه في صلاته، متواضع للأدباء، حدب على الغرباء، وزر لمظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين صاحب إربل، رحمه الله، ولم يأخذ منه معيشة وكان عنده في الديوان شراسة خلق، ويلقى الناس في داره بوجه سهل طلق، فعمل فيه موالياً:
ما أحسنك في البيت ... ما أوحشك خلف الكيس
وجُرح في زمانه فكتب إليه:
يا أيها الملك الذي سطواتهُ ... من فعلها تتعجب المريخُ
آيات عدلك محكم تنزيلها ... لا ناسخ فيها ولا منسوخُ
أشكو إليك وما بُليت بمثلها ... شنعاء ذكرُ حديثها تاريخُ
هي ليلة فيها ولدت وشاهدي ... فيما ادعيت القمط والتمريخُ
وقال ابن الظهير الحنفي لما هرب الذي جرحه وقد أمسكه شخص فقتله:
لئن فدى الله إسماعيل من كرمٍ ... بالذبح واستعظمته الأنسُ والجانُ
فقد فداك بإنسان ولا عجب ... أن يفتدى بجميع الناس إنسانُ
وفي زمن باتكين انقطع إلى بيته معتكفاً على آدابه وعلومه مشتغلاً بمنثوره ومنظومه إلى أن أخذت إربل في شوال سنة أربع وثلاثين وستمائة فانتقل إلى الموصل وحين خرج من إربل أنشد:
فارقتكم مكرهاً لا كارهاً ويدي ... أعضُّها ندماً إذ لم أمت كمدا
والله لو أنَّ أيامي تطاوعني ... على اختياريَ ما فارقتكم أبدا
وحين وصل الموصل لقيه أمين الدين لؤلؤ أحد الأمراء الأكابر بالإكرام والاحترام ووفاه من المراعاة أتم الأقسام، وبالموصل اجتمعتُ به وكنت يومئذ صغيراً ومات، رحمه الله تعالى بها، سنة سبع وثلاثين وستمائة وله من التصنيف: شرح أبيات المفصل، مجلدان، يرد فيهما على العلم أبي القاسم بن موفق الأندلسي.

حكى لنا شيخنا رضي الدين، رحمه الله، أنه أوصى: أن لا تظهروه إلاّ بعد موتي أو موت العلم، والأمثال والأضداد، مجلدان، حذا فيهما حذو الخالديين في كتابهما: الأشباه والنظائر من الأشعار، وكتابه، رحمه الله، أجمعُ. وسر الصنعة، مجلد، ومطالع الأنوار في وصف العذار، مجلد، والنظام في الجمع بين شعري المتنبي وأبي تمام، عشر مجلدات، وغير ذلك من الكتب، وقيل: إنه عمل تاريخاً ما وقفت عليه، وديوان شعره لم يظهر لأن بدر الدين صاحب الموصل استولى على كتبه وإنما في أيدي الناس من شعره قليل فمن ذلك:
أزوركم فتكاد الأرضُ تقبض بي ... ضيقاً فأرجع من فوري فيتسعُ
خدعتموني بما أبديتموه من الح ... سنى وأكثر أسباب الهوى الخدعُ
حتى إذا علقت كفي بكم ثقةً ... أسلمتموني فلا صبر ولا جزعُ
يغرني جلدي الواهي فأتبعه ... غيّاً وينصح لي شوقاً فأمتنعُ
ليت الهوى كان لا قطعاً ولا صلةً ... فلم يكن فيه لا يأس ولا طمعُ
ومن شعره:
وعيشك ما طرفي الكليل بناظر ... سواك ولا سمعي بمصغٍ لعاذلِ
ولا حلتُ عما قد عهدت وإنني ... مشوق وإن خابت لديك وسائلي
ولكنني لما سمحتَ بجفوة ... وأسعفتَ عذالي بطيب تواصلِ
صرفت هواي عنك كي لا يرى العدى ... خضوعي وتسآلي إلى غير باذلِ
وأقصرت عما قد عهدتَ وزاجرٌ ... من النفس خير من عتاب العواذل
لقد أحسن ما شاء في قوله: وزاجر من النفس خير من ... إلى آخره، وأظنه تضميناً.
وقد أجاد ابن الحنفي الإربلي في أبيات عملها في مثل معنى البيتين الآخرين وهي:
أنس الطرفُ بالرقاد فناما ... وأطعتُ العذال واللواما
وتناسيتكم وأقصر صبّ ... لم يزل مغرماً بكم مستهاما
هدأت مني الضلوع فما أتلفُ ... وجداً ولا أذوبُ سقاما
وغريمي الملحّ صار سلواً ... بعد ما كان صبوة وغراما
كم جنيتم وكم تجنيتم ظل ... ماً وأخفرتم لصبّ ذماما
وشرعتم ديناً من الغدر منسو ... خاً وأحللتم الدماء الحراما
وشفعتم بالهجر قبح ملال ... وقلًى أورث النفوسَ الحماما
فسلبتم ولايةً كم أصارت ... في يديكم لكلِّ قلبٍ زماما
ومثل هذا:
سلوت بحمد الله عنها وأصبحت ... دواعي الهوى من أرضها لا تجيبها
ولكنني داعٍ عليها وناظرٌ ... إلى نوبِ الأيام كيف تنوبها
على أنني لا شامتٌ إنْ أصابها ... بلاءٌ ولا راضٍ بواشٍ يعيبها
وقال شرف الدين رحمه الله تعالى:
أراكم فأعرضُ عنكم وبي ... من الشوق ما بعضه قاتل
وما بي ملال ولا جفوة ... ولكنني عاشق عاقل
يشبه قول القائل، ومنه أخذ:
وأحمل شدة أثقالكم ... كما يحملُ الجملُ البازلُ
وليس سكوتي عنكم رضًى ... ولكنه غضبٌ عاقلُ
وقريب من هذا، وهو في غاية الحسن، ما أنشده الإمام الناصر، قدس الله روحه، لما توفيت الخلا طبية:
من قال مفترياً عل ... يّ سلوت كذّبه النحولُ
وجدي على ما تعهدو ... ن وإنما صبري جميلُ
ومن شعر شرف الدين، رحمه الله:
يا ليلة حتى الصباح سهرتُها ... قابلتُ فيها بدرَها بأخيهِ
سمح الزمان بها فكانت ليلة ... طاب العتابُ بها لمجتذبيهِ
أحييتها وأمتُّها عن كاشح ... ما همّه إلاّ الحديث يشيهِ
ومعانقي حلو الشمائل أهيف ... جمعتْ ملاحةُ كل شيءٍ فيهِ
يختال معتدلاً فإن ولع الصبا ... بقوامه متعرضاً يثنيهِ
نشوان تهجم بي عليه صبابتي ... ويردني ورعي فأستحييهِ
علقت يدي بعذاره وبخده ... هذا أقبله وذا أجنيهِ
حسدَ الصباحُ الليلَ لما ضمنا ... غيظاً ففرق بيننا داعيهِ
قوله:
ويردني ورعي فأستحيي
مأخوذ من قول السيد الرضي:
بتنا ضجيعين في ثوبي هوًى وتقًى ... يضمنا الشوقُ من فرعٍ إلى قدمِ
وباتَ بارقُ ذاكَ الثغرِ يوضحُ لي ... مواقعَ اللثمِ في داجٍ من الظلمِ
وقد أحسن أبو فراس التغلبي ما شاء في قوله:
وكم ليلةٍ خضتُ المنيةَ نحوها ... وما هدأتْ عينٌ ولا نامَ سامرُ

فلما خلونا يعلمُ اللهُ وحدهُ ... لقد كرمتْ نجوى وعفَّتْ سرائرُ
وبتُّ يظن الناسُ فيَّ ظنونهمْ ... وثوبيَ مما يرجمُ الناسُ طاهرُ
وللغزي مثل بيت الرضي الثاني:
حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحل بالضم نظم العقد في الظلم
تبسمت فأضاء الليل فالتقطت ... حبَّات منتثر في ضوء منتظم
والجميع مأخوذ من قول الأول:
أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوههُم ... دجى الليل حتى نظمَ الجزعَ ثاقبهُ
وينظر إلى هذه المعاني، وإن لم يذكر العقد والنظم وغيرهما، قول القائل:
سفرت والليل داجٍ سليمى ... فبدا للسفر فيه السبيلُ
فأضاءَ الصبح لما توارتْ ... وقفَ الركبُ وحارَ الدليلُ
وأخذت معنى بيت السيد الرضي الأول فقلت:
بتنا حليفي هوًى في عفةٍ وتقًى ... وليس إلاّ صبابات وأشواقُ
يبثّ كل امرئ منَّا لصاحبه ... حتى بدا من ضياء الصبح إشراقُ
وقال شرف الدين رحمه الله وقد أحسن في مطلعها ما شاء:
وفى ليَ دمعي يوم بانوا بوعده ... فأجريته حتى غرقتُ بمدّه
ولو لم يخالطه دم غال لونه ... لما مال حادي العيس عن قصد ورده
أأحبابنا هل ذلك العيش راجع ... بمقتبل غض الصبا مستجده
وإنَّ على الماءِ الذي تردونه ... غزالاً بجلد الماء رقة جلده
يغار ضياء البدر من نور وجهه ... وبخجل غصن البان من لين قدّه
السيد محيي الدين يوسف بن يوسف بن زيلاق الكاتب الهاشمي الموصلي، يضرب به المثل في العدالة، وله الرتبة العليا في الشرف والأصالة، فارس مبارز في حلبات الأدب، وعالم مبرز في لغة العرب بطبعٍ أخذ لطافة الهواء ورقة الماء، كأنما ظهرت له أسرار القلوب فهو يتقرب إليها بكل محبوب، شعره أحسن من الروض جاده الغمام، وأزهى من اللؤلؤ الرطب زانه النظام، وكلامه يشفي السقام ويطفي الأوام، وبديهته أسرع من الطرف وأحلى من ثمار المنى دانية القطف، حسن العشرة، كريم النفس، جامع بين أدبها وأدب الدرس، أجاز لي قبل اجتماعي به أن أروي عنه ما تصح روايته من معقول ومنقول، وكتب بذلك إليّ، وكان بيني وبينه مكاتبات ومراسلات، فلما اجتمعت به وتجاذبنا أطراف الكلام وتجارينا في وصف النثر والنظام، وعاشرته مدة فملأ سمعي ببدائع فرائده التي هي أحسن من الدرر في قلائده، وطلبت أن يأذن لي في الرواية عنه فاعتذر اعتذار خجل وأطرق إطراق وجل، وقال: يا فلان أنا والله أجلك عن هذا الهذر وأنت أولى من عذر فإني لم أكن بك خبيراً قبل الاجتماع ولا ريب أن العيان يخبر بما لا يعبر عنه السماع وقد صغّر الخبرَ الخبرُ كما يقال وعند الامتحان تظهر خبايا الرجال، وأذن بعد جهد شديد واعتذار ما عليه مزيد، وأقمنا زماناً يزيد حسناً وإحساناً ما ذممت له مشهداً ولا مغيباً، وما زال ربع أنسي به خصيباً، وفارقته مفارقة السيف لجفنه، وسحت للبين سحب جفني وجفنه، وذلك في سنة سبع وخمسين وستمائة، فقال: كأنك تنشد حين رأيتنا:
سمعت بوصف الناس هنداً فلم أزل ... أخا صبوة حتى نظرت إلى هند
فلما أراني الله هنداً وزرتها ... تمنيتُ أنْ تزداد بعداً على بعدِ
فأخذتُ الدواة وكتبت بديهاً:
أمولاي لو بالغت في وصف لوعتي ... وشوقي وما أخفيه من صادق الودّ
وأعطيت إرسال المقال وأصبحت ... فنونُ المعاني من عبيدي ومن جندي
وطاوعني نظمُ القريضِ وحوكهُ ... فجئتُ به أزهى وأسنى من العقد
ورمتُ به وصفَ الصبابةِ والأسى ... لبعدكم لم أبدِ بعضَ الذي عندي
وأنشدني المولى قريضاً محبّراً ... أسالَ به سلكَ الدموع على خدّي
سمعت بوصف الناس هنداً فلم أزل ... أخا صبوة حتى نظرت إلى هند
فلما أراني الله هنداً تضاعف اشت ... ياقيَ واستسلفتُ وجداً على وجد
وهذا الذي ألقاه والشملُ جامعٌ ... فوا أسفي مما ألاقيه في البعد

وتوجهت إلى إربل وهو بالموصل على طريقته المرضيّة وحالته السنية، وكنا نتراسل بالأشعار والمعاني، ونجني ثمار الآداب على البعد دانية المجاني، إلى أن صاح بشمله غراب البين، وأصابته في سدادة العين، والله يحكم ولا معقب لحكمه، وإذا أراد أمراً هيأ أسبابه، فتنكر له الزمان، ودهمته طوارق الحدثان، وأقدمه سوء الحظ على ارتكاب الخطر، وكان له أجل منتظر، ولا بد من قدوم المنتظر، فسلم الموصل إلى العلم سنجر، وجاءت عساكر المغل وحاصرت الموصل، وأُخذ هو وأولاده في شعبان سنة ستين وستمائة فقتلوا أجمع، فعاد عزّه ذلاً، وأصبح شمله مضمحلاً، وبكاه الأدب بدمعه الماطر، وخلت من أنسه دموع البيان فليس بها صافر، فإنا لله وإنا إليه راجعون وتباً لدنيا تغدر أبداً بالكرام، وتسقي بنيها كاسات الحِمام، غدرت بآل ساسان فبادوا، وأردتْ الأكاسرة فما أبدوا ولا أعادوا، وأفنت الأوائل والأواخر، واستولت على القرون فلن تغادر، خرّبت ارمَ ذات العماد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد:
وأجزرتْ سيف أشقاها أبا حسنٍ ... ومكَّنت من حسينٍ راحتي شمرِ
فليتها إذ فدتْ عمراً بخارجةٍ ... فدتْ عليّاً بمن شاءتْ من البشرِ
وقد أحسن المعري في قوله:
على أمِّ دفرٍ غضبةُ الله إنَّها ... لأجدرُ أنثى أنْ تخونَ وأنْ تُخني
كأنَّ بنيها يولدون وما لها ... حليلٌ فتخشى العارَ إنْ سمحت بابنِ
فمن شعره، رحمه الله تعالى:
بدا لنا من جبيته قمرُ ... تضل في ليل شعره الفكرُ
أحور يجلو الدجى تبسمه ... أسمر يحلو بذكره السمرُ
ظبيٌ غريرٌ في طرفه سنَة ... يلذ فيها للعاشق السهرُ
تثني الحميّا من لين قامته ... غصناً رطيباً فروعه الشعرُ
حديث عهد الشباب ما حف بال ... ريحان وردٌ في خده نضرُ
ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فتحتاجُ عنه تعتذرُ
جوامع الحسن فيه ظاهرة ... فالقلب وقف عليه والبصرُ
خصر كما أثَّرَ التفرق في ... جسمي وريقٌ رضابهُ خصرُ
وقامة لدنة إذا خطرت ... هان علينا في حبها الخطرُ
وقال أيضاً، وهي غاية في معناها:
جديدُ بُرد الجمال طلعته ... محمية من طلائع الشعرِ
حياة وجدي ماء بوجنته ... ما كدرت صفوه يد الخضرِ
إن تطل الفكر في توردها ... فذاك والله موضع النظر
وقال أيضاً:
ثنى قده واختال كالأسمر اللدن ... فأيقظ سيف اللحظ من ناعس الجفن
هو الظبي إلاّ أنَّ في الظبي لفتة ... وغصن النقا لولا التعطف في الغصن
حبيب إذا ما قلت ما أحسن الورى ... فلست أرى فيه خلافاً فأستثني
أيا مالكي هل فرط وجدي شافعي ... إليك أم الإعراض من مذهب الحسنِ
فإني وإن أسكنت قلبي في لظًى ... لأرتع من خديك في جنتي عدنِ
وإن كنت قد أطلقت بالدمع عبرتي ... فإن فؤادي من جفائك في سجن
أيا صاحبيْ نجواي ما أنا منكما ... إذا لم تعيناني ولا أنتما مني
أخليتماني للأسى وادعيتما ... وفاءً فما أغنى وفاؤكما عني
ومن شعره، رحمه الله:
دعاه يشمْ برقاً على الغور لائحا ... يضيء كما هزّ الكماة الصفائحا
ولا تمنعاه أنْ يمرّ مسلماً ... على معهد قضّى به العيش صالحا
فماذا عليه لو يطارح شجوه ... حمائم فوق الأثلتين صوادحا
بعيشكما هل في النسيم سلافةٌ ... فقد راح منها القلب سكران طافحا
وهل شافهت في مرة روضة الحمى ... فإنا نرى من طيّها النشر فائحا
وقوفاً فهذا السفح نسق ربوعه ... دموعاً كما شاء الغرام سوافحا
منازل كانت للشموس مطالعاً ... وللغيد من أدم الظباء مسارحا
وقال أيضاً:
هذا فؤادي في يديك تذيبه ... غادرته غرضَ السهامِ تصيبه
زادتْ صبابتهُ فهل تُجدي له ... نفعاً إذا ما قلَّ منك نصيبهُ
ما كان يبلغ من أذاه عدوّه ... ما قد بلغتَ به وأنتَ حبيبهُ
تُهدي الشقاءَ له وأنتَ نعيمهُ ... وتزيدهُ مرضاً وأنت طبيبهُ
يا حبذا البرقُ المضيء وإنْ بدا ... بينَ الضلوع خفوقه ولهيبهُ
وسرى النسيمُ فهزَّ عطفَ صبابتي ... إذْ كانَ من جهةِ الحبيب هبوبهُ

وقال أيضاً:
روحي الفداءُ لمن ينفِّرُ راحتي ... ومسرتي أعراضهُ ونفارهُ
ظبي تضمُّ على القضيب برودهُ ... وتحل عن فلك الدجى أزرارهُ
ضاهى الربيع بوجهه فشقيقهُ ... في خده وبثغرهِ نوَّارهُ
وأمال بين البان قدّاً ناعماً ... كادت تغردُ فوقه أطيارهُ
وتشابهت إذْ قام فينا ساقياً ... ألحاظهُ ورضابهُ وعقارهُ
من أي صنفٍ شاءَ جاءَ بمسكرٍ ... يا ليتَ شعري إنها خمارهُ
يحمي غرارَ مهنّد في جفنه ... نومي فما يغشى الجفون غرارهُ
الغرار: الحدّ، وغرار السيف: حده، الغرار: النوم القليل.
تثني ثنيته القلوب إلى الهوى ... وتقيم عذر المستهام عذارهُ
قوله:
وأمال بين البان قدّاً ناعماً
قد كرره فقال من أخرى:
وماسَ وغنَّى فقلنا القضي ... ب أهيفُ يشدو عليه الحمام
وهما مأخوذان من قول الأول:
خطرت فكاد من حسن التثني ... يغرد فوق أعلاك الحمام
وأخذته أنا فقلت:
وسلام منِّي على الجوسق المم ... لوّ أُنساً وقلّ منِّي السلام
ما تذكرت حسن أغصانه إ ... لاّ تمنيت أن قلبي حمام
ولابن الحلاوي في قريب منه:
أشبهت أغصان الأراك معاطفاً ... وتركتني كحمامهن النائح
وقال أبو الفرج الوأواء يصف ليلة الوصال:
سقى الله ليلاً إذ زارَ طيفهُ ... فأفنيته حتى الصباحِ عناقا
بطيبِ نسيمٍ منه يُستحلبُ الكرى ... ولو رقدَ المخمورُ فيه أفاقا
وقال في ضدها:
أطال ليلي الصدود حتى ... أيست من غرة الصباحِ
كأنَّه إذْ دجا غدافٌ ... قد حضن الأرض بالجناحِ
الغداف: الغراب الأسود العظيم.
قال أبو الفتح محمد بن الحسن الكشاجم يصف الدواة:
سوداء مجَّت ريقتينِ فرقةٌ ... للملكِ بانيةٌ وأخرى هادمهْ
زنجية عجماءُ إلاّ أنَّها ... بجليلِ تدبيرِ البريةِ عالمهْ
وقال العاصمي:
وليلة مشرقة ... كليلةِ المعراجِ
أحييتُها بشادنٍ ... يرفلُ بالديباجِ
منتعب بعندمٍ ... مؤتزر بالعاجِ
والنجمُ في الغرب يرى ... كزئبقٍ رجراجِ
العندم: دم الأخوين، ويرفل في ثوبه رفلاً ورفولاً يعني يتبختر.
والصبحُ مثلُ صارمٍ ... يُسلُّ باستدراجِ
أي بتدريج. وقال:
مررت على رياض من شقيق ... كما خطرت كؤوس من عقيق
فذكرني الحبيب ووجنتيه ... فكدت أشقّ جيبي للشقيق
أي للحبيب.
قال جمال الدولة طلحة بن الحسن:
يا خليليَّ اسقياني ... قهوةً ذاتَ الحميا
إني عطشان جداً ... ليس لي كالخمر سقيا
وقد تقدم الزكي بن أبي الإصبع فقال في قريب منه:
غدا القد غصاً منك يعطفه الصبا ... فلا غرو أن هاجت عليه البلابل
وللحسام الحاجري الإربلي:
ومذ خبَّروني أنّ غصناً قوامه ... تيقنت أنَّ القلب مني طائرُ
وأخذه محمد بن هاشم الإربلي وأنشدني لنفسه:
يا قامة الغصن الذي ... قلبي عليه طائر
ومشرف الصدغ لقد ... جار عليّ الناظر
ولابن المرصص المصري:
لو لم يكن غصناً نضيراً قدّه ال ... مياس ما هاجت عليه بلابلي
وقال محيي الدين:
بدا سافراً فأضاء الظلام ... فلم تغنه خفية واكتتام
وقابلنا ثغره باسماً ... كما زان حسن القعود النظام
وطاف بريقته ساقياً ... كما مُزجت بالكؤوس المدام
فماس وغنَّى فقلنا القضي ... ب أهيف يشدو عليه الحمام
ملاحته أوجبت عشقه ... فليس يجوز عليه الملام
له ناظر عامل في القلوب ... يعرّف موقعه المستهام
وقال أيضاً:
عبث الدلال بعطفه الميال ... فأبان فيه سفاهة العذال
وجلا لنا وجه الغزالة وانثنى ... غضبان ملتفتاً بجيد غزال
يحمي عن العشاق مورد ريقه ال ... معسول أسمر قدَّه العسالِ
ثغرٌ لمبيض الحباب مذاقه ... حلوٌ ووجه بالملاحة حالِ
آثرت طاعته بسخط معنّفي ... ووهبت فيه هدايتي لضلالي
ولقيت أيامي بحظٍ أبيض ... لما لثمت سواد ذاك الخال
مهما نسيت فلست أنسى عيشةً ... وصلت حواشيها لنا بوصال

أيام أحكم في الحبيب مخيراً ... فأبيت لا أرضى بطيف خيال
واليوم أقنع بالنسيم إذا سرى ... وأشيم ومض البارق المتعالي
قد كنت آمل منك عطفة راحم ... ترثي لفرط تذللي وسؤالي
فحصلت منك على الإياس وليته ... لم يتبعه مرارة الترحال
فلك الأمان دنوت أم بعدَ المدى ... وهجرت أو واصلت لستُ بسال
وقال أيضاً:
لو رعى من أحبّه حين سارا ... مهجاً في يد الغرام أُسارى
أيها السائق الركائب يحملن ... الشموس الحسان والأقمارا
قف قليلاً فقد نفضت من المق ... لةِ نوراً أو زدت في القلب نارا
وكنا جلوساً فعمل، رحمه الله تعالى:
يا نار أسود قلبي ... ونور أسود عيني
وقال أجز فقلت بديهاً:
كن راحماً لمحبّ ... أباحك الأسودين
فوقع منه بموقع وحل من قلبه بموضع ونعود إلى أبياته:
رحلوا فالنهار ليل وقد أع ... هدُ ليلي بالقرب منهم نهارا
قد تقدمت أبيات مثل هذا.
لا تسمني صبراً فقد حكم البي ... ن بأني لا أملك الاصطبارا
كان يرجى السلوّ لو أنهم أب ... قوا علينا القلوب والأبصارا
حبذا ذلك الحمى وهو مأهو ... ل النواحي بآنساتٍ عذارى
كل هيفاء تخجل البان أعطا ... فا وتحكي طرف المهاة احورارا
كلما أومضت بروق ثنايا ... هن أنشأن من جفوني قطارا
هذا معنى مستعمل كثير جداً، قال ابن الساعاتي:
وكذاك لا تبسم فثغرك بارق ... والدمعُ غيثٌ ما أضاء له همى
وقال محيي الدين:
لله كم لخياله ... من نعمةٍ عندي سنيّه
وجلا محبّاً مشرقاً ... كالشمس طلعته بهيّه
وبياض ثغرٍ واضحٍ ... كالدرّ قبلتهُ شهيّه
صنمٌ عكفت على محب ... ته عكوف الجاهليّه
يبري سهاماً من جفو ... نٌ حاجباه لها حنيّه
ما أرسلت لحظاتها ... إلاّ وأثبتت الرميّه
ملكتْ محاسنه القلو ... ب فما تركن بها بقيّه
أخذ الأبيات من مهيار، وقد تقدمت أبياته، وقوله:
صنم عكفت على محبته
من المستعمل فمن ذلك قول الأبله البغدادي الشاعر:
ياله في الحسن من صنمٍ ... كلنا في جاهِ ليتهِ
ويحكى أن الخليفة الناصر، رحمه الله، سخط على مغنيته وشفع لها أحد مماليكه فرضى عنها فغنت هذه الأبيات فلما انتهت إلى هذا البيت قالت:
ياله في الحسن من صنمٍ ... كلنا في جاهِ ليتهِ
وقوله:
يبري سهاماً
مستعمل، ومثله لابن الساعاتي:
فلا ذقتما ما ذقت ساعة فُوقت ... سهام جفون عن قسيّ حواجب
وقوله:
ما أرسلت لحظاتها
مأخوذ من مهيار:
يا قاتلَ اللهُ خُلقتْ ... جوارحاً فكيفَ عادتْ أسهما
لم يدرِ منْ أينَ أصيبَ قلبهُ ... وإنما الرامي درى كيفَ رمى
وقال، رحمه الله:
فداؤك قلب لا يقل ولوعه ... وجفن أبت إلاّ الدموع جفونه
حملت غراماً منك لست أطيقه ... وأكثر واشٍ فيك لست أطيعه
فداك قلب لا يقلّ في الهوى ولوعه
وجفن عين تستهل دائماً دموعهُ
حمَّلته ثقل اشتياق ليس يستطيعهُ
وأكثر الواشي ولكن فيك لا يطيعهُ
رعاك بما يرضيك من خالص الهوى ... فؤاد بأصناف الصدود نزوعهُ
وأعطاكَ أقصى غاية من حفاظه ... وأنت بنسيان العهود تضيعهُ
رعاك صبّ للغرام والأسى جميعهُ
طالب وصل لا يزال بالجفا نزوعهُ
يصون سرّ حبّكم ودمعه يذيعهُ
ويحفظُ العهد الذي بغدركم تضييعهُ
ضلال تمنيه الخيال وقد نأى ... عن الطرف لما أن نأيت هجوعهُ
ولو أنّ وصلاً رام وصلاً لصدّه ... توقد نارٍ ضمنتها ضلوعهُ
نرجو خيالاً من مسيء حسنه شفيعهُ
وهل يزور الطيف من فارقه هجوعهُ
ولو أراد سلوةً يشفى بها موجوعهُ
ثنته نار لوعة تجنها ضلوعهُ
وقال:
لله قلب محبه كلفُ ... ومدمعٌ من جفائه يكفُ
أحوى غرير الصبا منعّمه ... مشتمل بالجمال ملتحفُ
من لي به كالهلال قابله ال ... سعد وكالغصن زانه الهيفُ
يخلف بدر الدجى وما عنه بال ... أقمار في حال تمِّها خلفُ

يثني قضيباً أوراقه الشعرُ ال ... مرسل لكن ثماره الشعفُ
نكثر من وصفنا ملاحته ... وهو من الحسن فوق ما نصفُ
يا ساكناً مقلتي له وطنٌ ... ورامياً مقلتي له هدفُ
وحاكماً لا يكادُ يرفع مظل ... وم إلى حكمه فينتصفُ
لم يبد سرى ولا وشى بغرا ... مي فيك إلاّ المدامع الذرفُ
أنكر قلبي وأنت تحبسه ... وتطلق الدمع وهو معترفُ
وقال محيي الدين، رحمه الله:
لك السلامة من وجدي ومن حرقي ... وما تعانيه أجفاني من الأرقِ
أدرت فينا كؤوس الشوق مترعة ... فأسكرتنا حميّاها فلم نفقِ
يا مظهراً بمحياه وطرته ... فضيلة الجمع بين الصبح والغسق
حمّلت مهجتي الهجران فاحتملت ... وزدتها بعده بعداً فلم تطقِ
مهما نسيت فلا أنسى زيارته ... في خفيةٍ لابساً ثوباً من الفرقِ
نشوان تستر عطفيه ذوائبه ... كما اكتسى الغصن الريان بالورقِ
يسعى إليَّ بكأس من مقبّله ... يلذ مصطبحي منها ومغتبقي
لا أسأل الليل عن بدر السماء إذا ... رقدتُ فيه وبدر الأرض معتنقي
قوله:
حمّلت مهجتي الهجران فاحتملت
ينظر إلى قول البحتري:
عدتنا عوادي البعدِ عنها وزادنا ... بها كلفاً إنَّ الوداعَ على عتبِ
وقوله:
نشوان تستر عطفيه ذوائبه
مأخوذ من ابن التعاويذي:
تجول على متنيه سودُ غدائرٍ ... كما رنَّحَ الغصنُ المرنِّحُ أوراقا
وقوله:
لا أسأل الليل عن بدر السماء
مأخوذ من بيتي المغاربة:
يا ليلُ دمْ أو لا تدمِ ... لا بدَّ لي أن أسهركْ
لو باتَ عندي قمري ... ما بتُّ أرعى قمركْ
وقال المحيي، رحمه الله:
ما أكثرتْ في الهوى عواذلهُ ... إلاّ وزادتْ به بلابلهُ
علقتهُ كالشمول ريقتهُ ... مهفهفٌ حلوةٌ شمائلهُ
أسمرُ من جفنهِ مهنّده ال ... ماضي ومن شعره حمائلهُ
تلقاهُ شاكي السلاح ناظرهُ ... سنانهُ والقوامُ عاملهُ
تنفذ درع الكميّ مقلته ال ... نجلاء فيا عجزَ من يقابلهُ
لما تشكى وشاحه قلقاً ... بخصره أخرست خلاخلهُ
وقال أيضاً:
ثنى مثل لون السمهري ولونه ... وجرَّرَ عضباً مرهفاً من جفونه
وحيَّا وقد جاء الحياء بوجهه ... فما الورد تجلوه الضحى في غصونه
وباتَ يرينا كيفَ يجتمعُ الدُّجى ... مع الصبح في أصداغه وجبينهِ
وكيفَ قرانُ الشمسِ والبدرِ كلما ... غدا يلثمُ الكأسَ الذي في يمينهِ
وبتّ أُفدِّيه بنفسٍ بذلتُها ... غراماً بمحظوظ الجمال مصونهُ
وأرخصُ دمعَ العينِ وجداً بمبسم ... يقابلهُ من دُرّه بثمينهِ
أما البيت الأول فهو من المستعمل، وقد جمعه ابن النبيه في نصف بيت وهو:
رنا وانثنى كالسيفِ والصعدةِ السمرا ... فما أكثرَ القتلى وما أرخصَ الأسرى
وقوله:
وحيَّا وقد جال الحياء بوجهه
مستعمل أيضاً، وكل الناس فيه عيال على عمر بن أبي ربيعة في قوله:
وهيَ مكنونةٌ تحيَّر منها ... في أديمِ الخدَّينِ ماءُ الشبابِ
ومثله لأحمد بن إبراهيم بن إسماعيل:
أغيد ماء الشباب يرعد في ... خدَّيه لولا أديمهُ قطرا
والبيت الثالث من المتنبي:
بشعرٍ يعيدُ الليلَ والصبحُ نيرٌ ... ووجهٍ يعيدُ الصبحَ والليلُ مظلمُ
وقوله:
وكيف قران الشمس والبدر
مأخوذ من قول الحسين بن الضحاك:
كأنما نصبُ كأسهِ قمرٌ ... يكرعُ في بعضِ أنجمِ الفلك
ومنه أخذ أبو نواس:
إذا عبَّ فيها شاربُ القوم خلتهُ ... يقبِّلُ في داجٍ من الليلِ كوكبا
ومن شعري:
تجلت لنا كالبدر ليلة تمّه ... وساق الندامى للمدام يحثحثُ
فلاح لعيني الشمس والبدر قارنا ... هلالاً فقلت السعد أشكل مثلثُ
وقال رحمه الله وهي آخر شعره:
يا من حفظت له عهد الهوى .... ... فلم يرعَ لي عهدي وميثاقي
ما كنت أحسب أن يجفو عليّ وأن ... ينسى عهود صباباتي وأشواقي
جرحت قلبي ببين ما تصوّره ... وهمي وأقرحت بالتسهيد آماقي

فإنْ ألمّ بجفني في الدجى وسنٌ ... فرغبةٌ في خيالٍ منك إطراقي
يا مشبه الغصن في لين وفي هيف ... ويا أخا البدر في حسن وإشراق
فديتُ وجهك ما أحيا ولفظك ما ... أحلى فقد فقتَ في خلقٍ وأخلاقِ
البيت الرابع من الأبيات التي جعلوها ذريعة إلى النوم وقد تقدم أمثالها. وأنشدني محيي الدين للمغاربة:
وريميّ اللحاظ رأى غراباً ... فأوتر قوسهُ ورمى بسهمِ
فخلنا البدر أرسل عن هلال ... إلى الليل البهيم شهاب رجم
فحمل عليهما حمل الفارس المصمم وأربى في شن الإغارة على ربيعة بن مكدم، وقال وزاد على المعنى:
راق طرفي وقد بدا فوق طرفٍ ... رشأ راشق غراباً بسهم
مثل بدرٍ في الكفّ منه هلال ... فوق برق يرمي الظلام بنجم
وقال محيي الدين رحمه الله:
فداؤك ما بقلبي من غليلٍ ... وبادي حسرة وجوىً دخيلِ
يعنفني العذول وبي غرام ... يحذرني مطاوعة العذولِ
أما وأبيك ما للصبر وجه ... جميل في هوى وجه جميلِ
إذا طلب الوفاء غريم عذل ... أحيل على سلوٍّ مستحيلِ
وكم في الحيّ من خصر دقيق ... حملت به أذى خطبٍ جليلِ
ومعتذر اللحاظ من التجافي ... صحيح إشارة الطرف العليلِ
كغصن البان تعطفه شمال ... إذا مالت به كأسُ الشمولِ
وقال أيضاً:
لها منزل بين الثنية والشِّعثِ ... كفته غوادي أدمعي مننَ السحبِ
تضوّع مسكاً نشره فكأنما ... أثرتَ فتيت المسك من ذلك التربِ
ديار التي أمّا سناها فواضح ... وأما حماها فهو ممتنع الحجبِ
شهيّات ما فوق اللثاث من اللمى ... مضيئات ما تحت البراقع والحجبِ
وعهدي بها إذ ربعها ملعب الهوى ... ومجتمع الشكوى ومنتجع الركب
ليالي أثني عطف ليلى وأجتني ... ثمار الأماني من مقبلها العذبِ
ومن شعره:
يريك قوام السمهري قوامها ... ويجلو عليك النيرين لثامها
ويفتننا منها جفون تضمنت ... لواحظها أن لا تطيش سهامها
إذا ما ضللنا في غياهبِ شعرها ... هدانا إلى صبح الغرام ابتسامها
وليلةَ أعطينا المنى من وصالها ... وعهدي لا يهدي إلينا سلامها
توقّد ناراً خدُّها وحليُّها ... وخمرتها فانجاب عنا ظلامها
وطافت بكاسات الرحيق كأنما ... يفضّ عن المسك السحيق ختامها
سألتكما أيُّ الثلاثة درها ... أمبسمها أم عقدها أو كلامها
وأي الثلاث المسكرات فتنني ... أريقتها أم لحظها أم مُدامها
البيت الثالث قد كرره، فقال:
إذا ضللت في ظلام شعره ... هدانيَ الإصباح من جبينه
وقد تقدم مثله، وقلت:
ضل قلبي في دياجي شعره ... واهتدى بالصبح من غرته
وقال محيي الدين وهي من حر الكلام وسهله:
لكم مهجتي مملوكة فتحكموا ... فعندي سواء جرتمُ أو عدلتمُ
سوى هجركم سهل عليَّ فعذبوا ... فؤادي بما شئتم فما ذاك مؤلم
أأخشى عقاباً حين لا لي هفوة ... وقد كنت أرجو العفو إذ أنا مجرم
وإن كنتمُ حقّقتمُ ليَ زلة ... فأحسنُ شيئاً أن أزلّ وتحلموا
أأشقى بكم دهري ويحظى بوصلكم ... دعيّ هوى من لوعة الوجدِ مغرم
وما كنتمُ ممن أخافُ انتقامهُ ... ولكنها الأقدار تعطي وتحرمُ
أأنساكم الهجران ما كان بيننا ... ليالي نشقي الكاشحين وننعمُ
وأيامَ لهوٍ بالثنية لم يكنْ ... تصرمها يخشى ولا يتوهمُ
أنستم إلى الواشي فأوجبَ وحشةً ... وخبركم عني بما ليس يعلمُ
ولولا التجني لم يؤثر محاله ... ومن ذا الذي من قول واشيهِ يسلمُ
شرف الدين بن أحمد بن الحلاوي الشاعر الموصلي الشاب الحسن، شاعر برز في حلبة الآداب، ورمى أغراض البيان فأصاب، ودعا حسن المعاني فأجاب، له شعر أحسن من نظم العقود وأرق من حلب العنقود، بخاطر أمضى من السيف الصقيل، وذهن أجرى من السيل في صبب المسيل، وبديهة حاضرة تكاد تسبق لمع البرق، وتصوب صوب الودق، رأيته، رحمه الله، وهو شاب حسن حلو الحديث عذب الكلام دمث الأخلاق كثير النادرة توفي سنة ست وخمسين وستمائة بتبريز، فمن شعره:

مال بأغصانِ النقا نسيمها ... فغار من قوامها قويمها
رخيمةُ الدَّلِّ إذا ما نطقتْ ... سباكَ من ألفاظها رخيمها
ما خطرتْ برامةٍ ولا رنتْ ... إلاّ وغارَ غصنها وريمها
لو عُلَّ من رضابها عليلها ... أبلَّ من سقامه سقيمها
غانيةٌ في ثغرها جواهرٌ ... منثورها أشبههُ منظومها
لم أنسَ إذ جلتْ على عشاقها ... مدامةً تجلى بها همومها
في روضةٍ ألبسها صوبُ الحيا ... مطارفاً موشيّةً رقومها
بساحةِ الموصلِ لا بحاجرٍ ... إذا سواي شاقه صريمها
بأربع حاليةٍ رياضها ... لا أربعٍ خاليةٍ رسومها
حبيبةٌ لو صحَّ لي ودادها ... وجنةٌ لو دام لي نعيمها
وقال أيضاً:
حاشاكَ تصبح بعد وصلك هاجري ... أفما لصدّك والقلى من آخرِ
يا غادراً فضح الهلال بوجهه ... لما تبدّى في ظلامِ غدائرِ
وكلتَ جفني بالسُّهادِ صبابةً ... ورقدتَ عن ليل الكئيب الساهر
لا نلتُ ما أرجوه منك من المنى ... إنْ كانَ غيركَ خاطراً في خاطري
أو كنت أستحلي القضيب وإن بدا ... من بعد قدك ناضراً في ناظري
أتظن أني رابحٌ وأنا الذي ... أنسيتُ فيك حديثَ سلم الخاسر
لا تعجبوا لتجلدي وتبسمي ... في باطني بخلاف ما في الظاهر
كفّوا الملامَ فما فؤادي حاضرٌ ... من بعده بل غائب في حاضر
ولئن بقيتُ على هواه فنادرٌ ... لا حكمَ في شرع الهوى للنادر
ما قلتُ إلاّ ما وجدتُ حقيقة ... قولُ المتيم غيرُ قول الشاعر
وقال أيضاً:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقهُ
هلالٌ ولكن أفقُ قلبي محلُّه ... غزالٌ ولكن سفحُ عيني عقيقهُ
أقرَّ له كلِ حسنٍ جليلهُ ... ووافقه من كلّ معنىً دقيقهُ
على خدِّه جمرٌ من الحسنِ مضرمٌ ... يشبّ ولكن في فؤادي حريقهُ
على سالفيه للعذار جديدهُ ... في شفتيهِ للسُّلاف عتيقهُ
حكى وجههُ بدرَ السماء فلو بدا ... مع البدرِ قال الناسُ هذا شقيقهُ
البيت الخامس مأخوذ من قول القائل وإن لم يذكر العذار والرضاب وهي طريق جيدة في الأخذ:
وإنيِ من لذاتِ دهري لقانعٌ ... بحلوِ حديثٍ أو بمرِّ عتيق
ومن مليح الأخذ ما أخذه أبو تمام من أبي نواس في قوله:
إذا نزلتْ دونَ اللهاةِ من الفتى ... دعا همّهُ من صدرهِ برحيلِ
أخذه أبو تمام ونقله إلى المدح وغرّبه، فقال:
مشتِ الخطوبُ القهقرى لما رأتْ ... خببي إليكَ موكلاً برسيمِ
فزعتْ إلى التوديعِ غيرَ لوابثٍ ... لما فزعتُ إليكَ بالتسليمِ
وقال تأبط شراً:
فصادفَ سهلَ الأرضِ لم يكدحِ الصفا ... به كدحةً والموتُ خزيانُ ينظرُ
أخذه أبو تمام وغرب:
فردّتْ علينا الشمسُ والليلُ راغمٌ ... بشمسٍ لهم من جانب الخدرِ تطلعُ
فالليل راغم: هو قوله: الموت خزيان، فهذا وأمثاله من السرقات الخفية تحتاج إلى قوة فكر وشدة تأمل ونقد صحيح وخاطر وقاد.
وكنت أنشد دائماً قول كثيِّر بن عبد الرحمن، وهما من شعر الحماسة:
وأدنيتني حتى إذا ما ملكتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
فتتبعت البيت الأول فوجدت جماعة من الشعراء قد تداولوه، قال النابغة الذبياني:
بتكلُّمٍ لو يستطيعُ حوارهُ ... لدنتْ له أروى الجبالِ الصخّدِِ
وقال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
ودعتني برقاها إنها ... تُنزلُ الأعصمَ من رأسِ اليفعْ
وقال آخر:
بوحي لو أنَّ العصم تسمع رجعه ... تضعضعن من أعلى إبان عواقله
آخر، أنشده ابن جنّي قال: أنشده أبو علي الفارسي:
لو أنَّ عصْمَ عمايتين ويذبل ... سمعا حديثك أنزلا الأوعالا
وقال العديل بن الفرخ:
ضحكتْ فقلتُ غمامة برقت لنا ... بشعاب مكة برقها لا يبرحُ
وتحدثت فتنزلت بحديثها ... أروى الشعاب فهنّ منها جنّحُ
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
طالَ ليلي واعتادني اليومَ سقمُ ... وأصابتْ مقاتلَ القلبِ نعمُ

حرَّةُ الوجهِ والشمائلِ والجو ... هرِ تكليمها لمن نالَ غنمُ
وحديثٍ بمثلهِ تنزلُ العُصْ ... م رخيم يشوب ذلك حلمُ
هكذا وصفُ ما بدا لي منها ... ليسَ لي بالذي تغيب علمُ
مثل هذا:
لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ثوبها خبرُ
ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كانَ إلاّ الحديث والنظرُ
وقال إبراهيم بن هرمة:
ولو سمعتْ عصم بقدسِ كلامها ... إذاً لتحدرن الشواهق من قدسِ
وقال ابن دريد:
لو ناجتِ الأعصمَ لانحطَّ لها ... طوعَ القيادِ من شماريخِ الذُّرى
فهذه السرقة ليست كالأول، لأنها في الوضوح والاشتهار كما ترى وهي جميعها متضمنة حسن الحديث. ومن جيد ما سمعت فيه قول الأول:
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى أزورها ... أرى الأرضَ تُطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفراتِ البيضِ ودّ جليسها ... إذا ما قضتْ أحدوثةً لو تعيدها
وقال ابن الرومي، وأحسن ما شاء:
وحديثُها السحرُ الحلالُ لو أنه ... لم يجنِ قتلَ المسلمِ المتحرزِ
إن طال لم يُمللْ وإن هي أوجزتْ ... ودّ المحدِّثُ أنها لم توجزِ
شركُ النفوسِ ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئنِ وعقلةُ المستوفزِ
وقال كشاجم:
منعمةٌ يقرِّبها هواها ... إذا نزحتْ بمنزلها البلادُ
يعادُ حديثها فيزيد حسناً ... وقد يستقبحُ الشيءُ المعادُ
ومثل هذا:
يزيدك وجههُ حسناً ... إذا ما زدتهُ نظرا
ولأبي نواس:
وكلما عدتَ فيه ... يكون في العودِ أحمدْ
ومثله:
كل شيءٍ يملّ منه إذا ما ... زاد إلاّ حديثكم لن يملاّ
وأنشدتُ للمغاربة:
ذات لفظ تجني بسمعك منه ... زهراً في الرياض نداه طلُّ
لا يمل الحديث منها معاداً ... كانتشاق الهواء ليس يملُّ
قوله:
تجني بسمعك منه
مأخوذ من قول أبي تمام في وصف شعره:
كشفتُ قناعَ الشعرِ عن حرِّ وجههِ ... وطيرتهُ عنَ وكرهِ وهو واقعُ
بغرٍّ يراها من يراها بسمعهِ ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسعُ
ومثله لابن الساعاتي:
يفهم كلّ ناشقٍ لا سامعٍ ... ما حدّثتْ عن الرياضِ الشمألُ
وقال مروان بن أبي حفصة في الحديث:
تساقطُ منهنَّ الأحاديثُ غضّةً ... تساقطَ درٍّ أسْلمتهُ المعاقدُ
وأصله من قول أبي حيّة النميري:
إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتى ... سقوطَ حصى المرجانِ من كفِّ ناظمِ
ومن هذا الباب:
هو الدرُّ منثوراً إذا ما تكلمت ... وكالدرّ منظوماً إذا لم تكلمِ
وقال البحتري، وأحسن ما شاء:
ولما التقينا والنقا موعدٌ لنا ... تعجبَ رائي الدّرِ حسناً ولاقطه
فمنْ لؤلؤٍ تجلوهُ عندَ ابتسامها ... ومنْ لؤلؤٍ عندَ الحديثِ تساقطُهْ
وقد سبق الأخطل إلى هذا فقال:
خلوتُ بها وسجفُ الليلِ مُلقىً ... وقد أصغتْ إلى الغربِ النجومُ
كأنَّ كلامها درٌّ نثيرٌ ... ورونقَ ثغرها درٌّ نظيمُ
وقال آخر:
تبسمتْ فرأيتُ الدرَّ منتظماً ... وحدثتْ فرأيتُ الدرَّ منتثرا
ولبعض المتأخرين:
أظهرنَ وصلاً إذْ رحمْنَ متيماً ... وأرينَ هجراً إذ خشينَ مراقبا
فنظمنَ من در المباسمِ جامداً ... ونثرنَ من درِّ المدامعِ ذائبا
مثل البيت الأول ما أنشدنيه محيي الدين ولم يسمّ قائلاً:
أضحى يجانبني مجانبةَ العدى ... ويبيتُ وهو إلى الصباحِ نديمُ
ويمرّ بي خوفَ الرقيبِ ولفظهُ ... شتمٌ وغنجُ لحاظهِ تسليمُ
وقريب منه ما أنشدني شرف الدين بن الأثير الجزري:
قلتُ وقد أعرض عني عاتباً ... آهاً عليه لو يفيدُ العتبُ
هل لك يا هذا بُعيد ما مضى ... من الوصال ليفيق الصبُّ
قال نعم وزادها لما رأى ال ... واشي لجيرانِ العقيق الذَّنْبُ
ومن الأخذ الواضح والسرقة التي تنادي على صاحبها ما أخذه المتنبي من جرير في قوله، وهي من الشعر الجيد في الغاية:
فيومان من عبدِ العزيزِ تفاضلا ... ففي أيِّ يوميه تلومُ عواذله
فيومٌ تحوطُ المسلمينَ جياده ... ويومُ عطاءٍ ما تغبُّ نوافله

فلا هو في الدنيا مضيعٌ نصيبهُ ... ولا عرضُ الدنيا عن الدين شاغله
فقال المتنبي:
فيومٌ بخيلٍ تطردُ الرومَ عنهم ... ويومٌ بجودٍ يطردُ الفقرَ والجدْبا
فانظر إلى هذا النظم وهذه السرقة الواضحة.
وقد أجاد المعري:
لو اختصرتمْ من الإحسانِ زرتكمُ ... والعذبُ يهجرُ للإفراطِ في الخصرِ
فإنه أخذه من البحتري حيث قال:
أخجلتني بندى يديكَ فسوّدتْ ... ما بيننا تلك اليدُ البيضاءُ
وقطعتني بالبرِّ حتى أنني ... متوهمٌ أنْ لا يكونَ لقاءُ
صلةٌ غلتْ في الناسِ وهي قطيعةٌ ... عجباً وودٌّ راحَ وهو جفاءُ
وقال أبو نواس المريدي:
يغتال ألسنة المريدي ... أجلاله فيناك بالإضمارِ
فأخذه المعري وأحسن وأجاد ما شاء فقال:
كم قبلةٍ لكِ في الضمائرِ لم أخفْ ... منها الحسابَ لأنها لم تُكتبِ
الحديث ذو شجون. وقال ابن الحلاوي:
وافى يطوف بها الغزالُ الأغيدُ ... حمراء من وجناته تتوقد
مالت بنا وأماله سكر الصبا ... فنديمها كمديرها يتأوَّد
ثقلت روادفه وأرهف لحظه ... فالقاتلان مثقّلٌ ومحدَّدُ
وإذا انثنى وإذا رنا فقوامه ... واللحظ منه مثقَّفٌ ومهندُ
البيت الرابع مأخوذ من ابن النبيه:
رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا
وقد تقدم. وبيت ابن النبيه أجود وأجمع فإن المعنى تم في نصف بيت، وبيت ابن الحلاوي فيه كلفة، ومن أبيات ابن النبيه:
غلامٌ أرادَ الله إطفاء فتنة ... بعارضهِ فاستأنفت فتنةً أخرى
دريٌّ بحملِ الكأسِ في يومِ لذَّةٍ ... ولكن بحمل السيفِ يوم الوغى أدرى
خذوا حِذركمْ من خارجيِّ عذارهِ ... فقد جاءَ زحفاً في كتيبتهِ الخضرا
مثل:
غلامٌ أرادَ الله إطفاء فتنةٍ
قول القائل وإن لم يذكر الفتنة:
قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبِّه سواءُ
فزاده ربَّه عذاراً ... تمَّ به الحسنُ والبهاءُ
لا تعجبوا ربنا قديرٌ ... يزيدُ في الحسن ما يشاءُ
ومثله وهو أوضح:
وقد كنتُ أرجو أنهُ حين يلتحي ... يخفف أحزاني ويوجدني صبرا
فلما بدا نبتُ العذارِ بخده ... تضاعفت البلوى بواحدةٍ عشرا
أقول: للناس في العذار مذاهب مذهبة معجبة، ومقاصد للقائلين به مطربة، وها أنا أذكر منها ما يشوق وما يروق، ويزهو على نضارة الريحان والآس ويفوق، على قدر ما يسنح ويخطر، وأعود بعد ذلك إلى إتمام ما أذكره من شعر ابن الحلاوي، رحمه الله. فمن ذلك ما أنشدنيه بعض الأصدقاء:
شغل الرجال عن النساء وطالما ... شغلَ النساءَ عن الرجال مراهقا
عشقوه أمرد والتحى فعشقْنهُ ... الله أكبرُ ليسَ يُعدمُ عاشقا
ومثله:
وإن واوات شعر عارضه ... كالشصّ تصطادُ من بها عبرا
شرط النسا والرجال يصلح لل ... حالين أنثى إن شئتَ أو ذكرا
وللسري الرفاء الموصلي الكندي في العذار:
صنمٌ شُغفتُ بحبهِ ... فعذرتُ منْ عبدَ الصنمْ
أحببتهُ فحملتُ عن ... أجفانهِ بعضَ السقمْ
شعرٌ ألمَّ بعارضي ... هِ فزادَ عاشقهُ ألمْ
والسيف يحسنُ في الحُلى ... والبدرُ يشرقُ في الظلمْ
والطرسُ أحسنُ ما يكو ... ن إذا جرى فيه القلمْ
آخر:
يا ذا الذي دبَّ له عارض ... ما البلدُ المخصبُ كالماحلِ
يجول ماء الحسنِ في وجهه ... فيقذف العنبرَ للساحلِ
أنشدني بعضُ أصحابنا:
لهيب الخدّ حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراشِ
فأحرقه فصار عليه خالاً ... وها أثر الدخان على الحواشي
أنشد أبو منصور بن البناء، وفيها كلفة وتغريب:
أبت عقربا صدغيك ألاّ توقفا ... عن السعي لما دبَّ تحتهما النملُ
ومن يصحب الإنسان يعلمُ أنه ... يرى قتله نفعاً فليس له عقلُ
وقد أجاد القائل:
لما بدت عارضاه تسطو ... بأيِّ أمرٍ وأيِّ نهْيِ
أيقنت أنَّ العذار سحرٌ ... خُطَّ بمسكٍ في رقّ ظبي
وقلت من أبيات:
يلوم على حبّيه خالٍ من الهوى ... فأضرب عمن لام فيه كأنني
وكيف وقد لاح العذار بخده ... أقوم بعذرٍ في تسليه بيّنِ

وقلت أيضاً:
وشادن أحوى له مقلة ... أمرضَ قلبي في الهوى سحرها
عذارهُ غاليةٌ والذي ... يفوحُ من نكهتهِ نشرها
ابن المرصص النحوي:
بأبيك سله عن العذار السائل ... هل رحمة ترجى لديه لسائل
هو كالخميلة تحت صارم لحظه ... والبيض ما برحتْ ذوات حمائل
وهو مأخوذ من ابن الساعاتي:
لقد سلَّ سيفاً والعذارُ الحمائلُ ... أرومُ حياةً عنده وهو قاتلُ
ابن التعاويذي:
أمطِ اللثامَ عن العذارِ السائلِ ... ليقومَ عذري فيكَ بينَ عواذلي
وقد أحسن بعض المغاربة وذكر الحمائل على غير هذا الوجه والنمط:
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الذكي الناشقِ
وضممته ضمّ الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته عني وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا يبيت على فراش خافقِ
قريب من هذا البيت الأخير:
وسكنتَ قلباً خافقاً يا ساكناً ... في غيرِ قلبٍ ساكنِ
وقلت في العذار:
أيا قمراً في القلب أضحى محله ... تنقلتَ عن طرفي فجددتَ أحزاني
أرى كلَّ بستان بورد مسيّجاً ... وخدُّك وردٌ سيّجوهُ بريحانِ
البيت الأول من الزكي بن أبي الإصبع في قوله:
تنقلت من قلبٍ لطرفٍ مع النوى ... وهاتيكَ للبدر التمام منازلُ
ورأى موفق الدين بن أبي الحديد، رحمه الله تعالى، وكان فارس الآداب السابق في حلباتها المنتهي من حدود البلاغات إلى أبعد غاياتها، صبياً قدم عذاره ولم يصرح نبته ونواره، فقال فيه بديهاً:
عجبوا من عذاره بعد حولي ... ن وما طال وهو غض النبات
كيف يزكو نبتٌ بخديه والنا ... ظرُ وسنانُ فاترُ الحركات
فسار هذان البيتان مسير الأمثال وتناقلتهما إلى إربل أفواه الرجال، فتقدم السعيد تاج الدين، سقى الله عهده عهاد الرضوان وبوّأه أعلى مكانة في الجنان، أن ينسج على هذا المنوال ويتبع موفق الدين فيما قال وأنشدنا، رحمة الله عليه، ولم يسم قائلاً، من شعره:
سألوه ما عذره في عذارٍ ... لم يطل منه بعد طول زمانِ
وهو غض النبات أخضر يُسقى ... ماء حسنٍ معينه من معان
كيف ينمو نباتُ خدَّيهِ والنا ... ظرُ يدعى بالفاترِ الوسنانِ
ولقد أحسنَ ما شاء في قوله:
يسقى ماء حسن معينه من معان
وقلت بديهاً:
تعجب أقوام لنبت عذاره ... وما طال في حولين وهو نضير
فقلت لهم لا تعجبوا كيف لم يطل ... فناظره وسنان فيه فتور
وكنت كاتبت محيي الدين وطلبت إليه أن يعمل في هذا المعنى فقال كلاماً معناه: لا إكراه في دين البيان، أنا أقول: جديد برد الشباب وقد تقدمت فكيف أقول في العذار إلاّ مكرهاً، وقد قلت متبعاً لا مبتدعاً:
ظنننا أنَّ نبت الخدّ منه ... يزيد فلا يكون به التفات
فمرَّ عليه حولٌ بعدَ حولٍ ... وروضته تحار لها الصفات
ومن أضحى بناظره فتورٌ ... فما يزكو لعارضه نبات
وقال أيضاً:
هذا نبات العذار في خدّه ... حلوٌ وفكري في حسنه حائرْ
وغير بدعٍ أن روض عارضه ... من بعد حولين نبته ناضرْ
فكيف ينمو نبت له عامل ... يختال سكراً وناظرٌ فاترْ
وقال ابن الحلاوي وأكثر:
واضيعة القلب في هوى صنم ... جار على القلب فهو كافرهُ
له عذار أقام في الخدِّ حولي ... نِ وما زادَ منه ناضرهُ
ولانما والعيون مصرفها ... إليه والدمعُ فيه ساطرهُ
وكيف ينمو نباتُ عارضهِ ... وفاترٌ في السوادِ ناظرهُ
نعود إلى أبيات ابن النبيه مثل قوله:
دريّ بحمل الكأس في يوم لذة
قول الغزيّ ومنه أخذ ابن النبيه:
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وقد أشار إليه ابن النبيه من أخرى:
ريقكَ والخدُّ النضر ... ماءُ الحياةِ والخصر
في خَلقهِ وخُلقهِ ... ما في الغزالِ والنَّمر
وابن التعاويذي قد قال في هذا وأكثر وبلغ الغاية في حسن المقاصد وأصاب شاكلة الرمي، فمن ذلك قوله يصف مماليك الإمام الناصر، رحمه الله:

من غلمةِ التركِ الذي بجمالهم ... وببأسهم نارُ الوغى تتضرَّمُ
من كلِّ ريانِ المعاطف خصرهُ ... كمحبهِ من ردْفه يتظلّمُ
سيانِ سلْمهمُ وحربهمُ فما ... ينفكُّ يقطر من أكفّهمُ الدَّمُ
تركٌ إذا لبسوا الترائكَ أيقنتْ ... صمّ العوالي أنها ستحطمُ
فهمُ إذا حسروا ظباءُ خميلةٍ ... وهمُ أسودُ وغىً إذا ما استلأموا
في ثني بردتهِ قضيبُ نقىً وفي ... الدرع المفاضةِ منه طودٌ أيهمُ
بشرٌ أرقُّ من الزلالِ وتحتهُ ... كالصخر قلبٌ لا يرقُّ فيرحمُ
يصمي الخليَّ بطرفهِ وبكفهِ ... يصمي الكميَّ فجؤْذرٌ أم ضيغمُ
هو تارةً للحسن في أترابهِ ... علمٌ وطوراً في الكتيبةِ معلمُ
لحظٌ على نهبِ القلوبِ مسلطٌ ... وغرارُ نصلٍ في الرقابِ محكمُ
ركبوا الدياجيَ فالسروجُ أهلّةٌ ... وهمُ بدورٌ والأسنةُ أنجمُ
مثل هذا البيت للمغاربة:
سرجه والحصان الأشقر والسي ... فُ المحلَّى وحسنُ ذاك المحيا
كهلالِ من فوقِ برقٍ عليه ... بدرُ تمٍّ مقلدٌ بالثريا
وقال أيضاً:
فهو تحتَ السلاحِ ليثُ عرينٍ ... وهو فوقَ الفراشِ ظبيُ كناسِ
وقال من أخرى:
يجنبها حولهُ من الغلمةِ ال ... ترك بدورٌ أثمانها بدرُ
قد ضمنتْ روعةُ الجمالِ لهم ... والبأس أن لا يفوتهم وطرُ
حصَّ رؤوساً تريكها ونما ... لهم على طولِ لُبسها الشعرُ
من كلِّ رامٍ عن قوسِ حاجبه ... بمصمياتٍ نصالها الحورُ
مؤنثْ الزيِّ في لواحظهِ ... من غنجِ عينيهِ صارمٌ ذكرُ
يفوقُ بيضَ الحجالِ ما فاتهُ ... منهنَّ إلاّ الحياءُ والخفرُ
جؤذرُ رملٍ في السلم وهو إذا ... ما شبّتِ الحربُ نارها نمرُ
في الدرعِ منه ليثُ العرينِ وفي ال ... بيضةِ من حسن وجههِ قمرُ
جمالهُ والعيونُ تدركهُ ... نهبٌ مباحٌ وثغرهُ ثُغَرُ
يمشونَ خطراً إلى الكماة مسا ... عيرَ وغىً لا يروعهم خطرُ
غرًّا صباحَ الوجوهِ هانَ على ... نفوسهمْ في مرامها الغررُ
إذا انتضوها مثلَ الرياض ظُبىً ... وادّرعوها كأنها الغدرُ
رأيتَ ناراً في الجوّ مضرمةً ... يلفحُ من بأسهمْ لها شررُ
وقال أيضاً:
وأسود من غلمة التركِ لا تأ ... لف إلاّ غيلَ القنا المشجورِ
يُنحلونَ البدورَ حسناً وإنْ خا ... ضوا الوغى ناحلوا القنا بالخصورِ
كل ذمرٍ كالظبي يسفر في ال ... كرَّةِ عن ذئبِ ردهةٍ مذعورِ
الذِّمر: الشجاع، والردهة: شبه أكمة كثيرة الحجارة.
من ليوث الشرى إذا دارتِ ال ... حربُ وفي السلم من ظباء القصور
فالعذارُ الطريرُ في خدهِ أفْ ... تكُ من حدِّ سيفه المطرورِ
ومن أخرى أولها، وهي بديعة:
يا علوَ أغريتِ السُّهادَ بناظري ... ورقدتِ عن ليلِ المحبِ الساهرِ
كم قد ركبتُ إليكِ أخطارَ الهوى ... أفما يمرُّ لكِ الوصالُ بخاطرِ
يقول فيها:
وبغلمةٍ مثلِ الشموسِ عوابس ... خلطوا البسالةَ بالجمالِ الباهرِ
فلهم إذا اعتقلوا ينابيبَ القنا ... نظرُ الضراغمِ من عيونِ جآذرِ
غرٍّ إذا صينَ الجمالُ ببرقعٍ ... ستروا جمالَ وجوههمْ بمغافرِ
تاهوا على أقرانهم يومَ الوغى ... برياضِ حسنٍ في الخدودِ نواضرِ
من كل خوّاضِ الغمارِ ملججٍ ... مرنٍ على سفكِ الدماءِ مغامرِ
المرن: المتعوّد، والمغامر: الذي يقتحم المهالك، ويقال: بحرٌ غمرٌ وبحارٌ غمارٌ.
أصمى الكماةَ بمقصدٍ من كفه ... ورمى القلوبَ من اللحاظِ بعائرِ
يقال: رماه فأقصده، أي قتله، والعائر من السهام: الذي لا يعرف من رماه.
إيماضُ مبسمه وضوءُ جبينهِ ... برقان في ليلِ العجاجِ الثائرِ
وقال محيي الدين:
يحملن في الروع أقماراً إذا وضعوا ... مضاعف السرد آساداً إذا حملوا
الحديث ذو شجون، وقد يذكر الشيء بشبهه أو بما يقاربه. عدنا إلى ابن الحلاوي، وقال أيضاً:
لو كان يشفي القربُ منكِ غليلا ... ما باتَ جسمي في هواكِ نحيلا

وإذا هجرت على الدنوّ فما الذي ... نأسى عليه إذا عزمت رحيلا
يا ربة الطرفِ الكحيلِ تركتني ... قلقاً وطرفي بالسهاد كحيلا
فكما جعلتِ الصدَّ منكِ كثيِّراً ... هلا جعلتِ الصبرَ عنكِ جميلا
وقال أيضاً:
أدارَ علينا من مراشفه خمرا ... وأطلعَ من زهر الثنايا لنا زهرا
وهزَّ علينا من تمايل قده ... رشيق التثني يخجل الصعدة السمرا
وفي فرقهِ والفرعِ والوجهِ إذ بدا ... أرى الناسَ خيط الصبح والليل والبدرا
وأهيفَ صاحٍ من جوى الحبِّ قلبه ... ثنى عطفه حتى حسبنا به سكرا
يضرّمُ ماءُ الحسنِ نيرانَ خدهِ ... ولم أرَ ماءً قبله يضرمُ الجمرا
هو البدرُ أسرى في دجى الليلِ شعره ... فما غاب إلاّ والقلوبُ له أسرى
عهدنا محل المسك في الظبي سرةً ... إلى أن رأينا المسك في خده سطرا
ولو أنَّ هاروتاً رآه ببابلٍ ... لأصبحَ من أجفانه ينفثُ السحرا
ذكرت بالبيت الثالث قول القائل، وأجاد ما شاء، أنشدنيه السعيد تاج الدين، رحمه الله:
وغزال سبى فؤاديَ منه ... ناظر راشق وخدٌّ رشيقُ
حلّ صدغيه ثم قال أفرقٌ ... بينَ هذينِ قلتُ: فرقٌ دقيقُ
شمس الدين أحمد بن غزّي، أصله من القائم، قرية من بلد سنجار، ومولده ومنشؤه بالموصل، شاعر مجيد وأديب ما عليه مزيد، له شعر أنضر من زهر الرياض، وأعمل في الخواطر من رشق العيون المراض، قد أفرغ في قالب الإحسان وحل من كل قلب بمكان، فما الدر في انتظامه أزهى من درر كلامه، ولا السحر الحلال أوقع في النفوس من نثره ونظامه، له خط مثل الجمان، زانه النظام والزهر جاده الغمام.
تردد إلى إربل عدة نوب ومدح السعيد المرحوم تاج الدين، قدس الله روحه وجعل في أعلى عليين غبوقه وصبوحه، بقصائد أصاب بها أغراض الصواب والسداد وأبرزها لآلئاً لا يزيفها الانتقاد، وسأذكر ما يخطر لي منها في مواضعها من هذا الكتاب. بات عندي ليلة نتجاذب أطراف الأناشيد ونحاكي ونحن بنو الهوى بنات الهديل في التغريد ونتساقى خمرة البيان فتميل سكراً ونميد وننثر معادن المعاني ونجني قطاف الآداب دانية المجاني، وكان عندنا امرأة عجوز تدعى أم عزيز فطلبناها مراراً وكلفناها حوائج كثيرة وأتعبناها. وكان قد طلب مجلداً من شعر ابن الحجاج فلما أصبح مشى وكتب إلي:
يا وزيراً إذا مدحناه راح ال ... جودُ يجري من عطفهِ المهزوزِ
وبليغاً متى أراد المعاني ... جئن فيه من الكلامِ الوجيزِ
ما أرى ابن الحجاج يقدم وهل ... أخرج في رحله صواع العزيزِ
جدْ بإرساله لأنظر فيه ... كل نصبي هذا على التمييزِ
ثم بعدُ كيف أنت على الأنعا ... مِ في حقّ ضيفك الملزوزِ
وعزيز عليّ ما لقيتهُ ... من صنوف العذاب أمُّ عزيزِ
وما زال يتردد إلى إربل مدة، وعرض له وسواس وكان من ظراف المجانين إذ خفت علته، واشتد مرضه بعد ذلك فاختلط عقله وغاب ذهنه وألقى نفسه من شاهق فانكسرت يده وصلب نفسه بعد ذلك فيما أظن سنة إحدى وخمسين وستمائة. أعوذ بالله من كل مكروه وأستعيذه وأستهديه وأسأله حسن الخاتمة وسلامة المنقلب بمنه ورحمته.
فمن شعره:
وحياة فيك وما حوى ... قسماً عظيماً في الهوى
ما ضل صاحبُ مهجةٍ ... ذابت عليك وما غوى
يا أيها القمر الذي ... نجم السلوّ له هوى
ماذا أثرت على القلوب ... من الصبابة والجوى
بأبي وأمي غادر ... رفع العذار له لِوا
في هذا إشارة إلى قوله عليه السلام لكل غادرٍ لواء يوم القيامة:
وأغنّ في أردافه ... هزٌّ بكثبان اللوى
قد زان مشبع ردفه ... خصرٌ يبيت على الطوى
أفدي الذي ناديته ... وركابهُ بيد النوى
مولاي عشقك نيتي ... ولكل عبد ما نوى
وقال أيضاً:
وطيبة المراشف والنسيم ... يقصر وصلها ليلَ السليمِ
نضتْ عنها النقاب فوكلتني ... بصبر ظاعن وأسًى مقيم
منعمةَ الشباب لها ثنايا ... تضيمُ فرائدَ الدرِّ النظيمِ
ولفظ لو دعا عظماً رميماً ... أعادَ الروحَ في العظم الرميمِ
لها من نشرها ومن المحيّا ... وقامتها وناظرها السقيم

تأرَّجُ عنبرٍ وضياءُ صبحٍ ... ولين أراكةٍ ولحاظ ريمِ
يقبل شعرها القدمين منها ... إذا قامتْ تميلُ من النعيمِ
كتقبيلِ الملوكِ الأرضَ طوعاً ... إذا نظروا إلى الملكِ الرحيمِ
وقال أيضاً:
لو كنتَ يا ملك الملاح رحيما ... لم تخلُ من عطف يصحّ سقيما
أو كنت موجود النظير لما غدا ... بهواك حسن تصبري معدوما
يا راقداً منع الرقاد وراحلاً ... جعل الفؤاد على هواه مقيما
كانت ليالينا بقربك جنة ... فجعلتها لما رحلتَ جحيما
إنْ كان قد أصبحت سلطان الهوى ... وقضى الجمال بأن تطاع زعيما
فأنا إمام العاشقين وشاهدي ... أني أبيتُ من الكرى معصوما
وقال أيضاً:
لعل قلباً قاسياً يعطفُ ... ومانعاً من وصله يسعفُ
وحائراً في عدله يهتدي ... وجائراً في حكمه ينصفُ
وأهيف كالغصن لكنه ... يخجل منه الغصنُ الأهيفُ
سلّ علينا جفنهُ مرهفاً ... فخافهُ في جفنهِ المرهفُ
أمير حسن زانهُ حاجبٌ ... له على ناظره مشرفُ
صاح وما أعرف لي صاحباً ... يعرف للصاحب ما أعرفُ
إياك والصحو إذا أمكنتْ ... سلافةٌ صهباء أو قرقفُ
ألاّ تقفْ عند التي أخطفتْ ... حتى يفوتَ الرشأ المخطفُ
ولا تذدك الخمر ممزوجة ... عن العناقيد التي نقطفُ
واستعمل القصفَ وكن عالماً ... بأن أهدى الناس من يقصفُ
وصيةٌ من رجلٍ فاسقٍ ... أبو نواس عنده يوسفُ
أقول: إن هذه الأبيات التي فيها ذكر الخمر والقصف هي بغير هذا الموضع أشبه، ولكني ذكرتها حيث ذكرت الغزل منها. أما قوله:
أمير حسن زانه حاجب ... له على ناظره مشرفُ
فهو من المعاني المتداولة وأنا أذكر منها ما يخطر ببالي.
أنشدني السعد تاج الدين محمد بن نصر بن الصلايا، قدس الله روحه، وأظنها له:
أيا ملك الحسن الذي قهر الورى ... وبالغ في ظلم الرعايا وأسرفا
هززت لنا من ذبّلِ القدِّ عاملاً ... فأضحى به قلبي على الموت مشرفا
وتقدم أن يعمل مثله فأنشدته في الحال:
يا قمراً ملّكته مهجتي ... فجار في القرب وفي البعد
قلبي على الموت غدا مشرفاً ... متيماً من عامل القدّ
وقلت أيضاً بديهاً:
وفي فاتر الألحاظ ألمى مقرطق ... أراقب بدر التم حين أراقبه
وعامل قد صار قلبي مشرفاً ... على الموت لما جار في القلب حاجبه
وللحاجري الإربلي:
لك يا أمير في الملاحة ناظرٌ ... يسطو عليّ وحاجب لا ينصفُ
إني أؤملُ أن أرى لك عارضاً ... فلربما عني الظلامة تكشفُ
وقلت:
عارضه الناظر محروس بما ... فوّقه الناظرُ من سهامه
وقال ابن غزّي:
أرى سطراً من المسك الذكيّ ... على جمرٍ بوجنته ذكيّ
وخالاً عنبرياً فوق خدٍّ ... ظلومٍ ليس يعفو عن مسيّ
فيا من سامني السلوان عنه ... لقد حاولت عاراً من وفيّ
وميّاس القوام كأنَّ سكراً ... ثناه من مدام بابليّ
يريك إذا انثنى خصراً وردفاً ... قد اشتملا على ظمأ وريّ
وجفناً كلما أبكى محبّاً ... ترى جور الضعيف على القويّ
ابن غزّي تبع ابن الأردخل في قوله، لأن صاحب الموصل بدر الدين طلب من الشعراء أن يعملوا على وزنها:
أما وبياض مبسمك النقيّ ... وسمرة مسكة اللعس الشهيّ
ورمان من الكافور يعلو ... عليه طوابع الندّ النديّ
وقدّ كالقضيب إذا تثنى ... خشيت عليه من ثقل الحليّ
تغازلني وتزوي حاجبيها ... كما انبرت السهام عن القسيّ
ويخترق الصفوفَ بروقُ فيها ... وهل يخفى شذا المسك الذكيّ
البيت الثالث فيه نظر إلى قول المعري:
ويا دسيرةَ حجليها أرى سفهاً ... حملَ الحليِّ بمن أعيا عن النظرِ
ومثله لابن هاني المغربي:
ما حالُ جسمٍ تحملتَ السلاحَ به ... وأنتَ تضعفُ عن حملِ القباطيِّ
ومثله للأرجانيّ:
عجبتُ لذاتِ الخالِ أنى تقلّدتْ ... دماءً وحملُ العقدِ مما يؤودها
والبيت الرابع مما استعمل كثيراً، قال الأرجاني:

سهامُ نواظرٍ تُصمي الرَّمايا ... وهنَّ من الحواجبِ في حنايا
ومن عجبٍ سهامٌ لم تفارقْ ... حناياها وقد جرحتْ حشايا
نهيتكَ أن تناضلها فإني ... رميتُ فلم يصبْ سهمي سوايا
ومثله لابن هاني المغربي:
رميتُ بسهمٍ لم يصبْ وأصابني ... فألقيتُ قوسي عن يديَّ وأسهمي
وقال محيي الدين بن زيلاق:
رمت رشقاً فأثبتت الرمايا ... جفونٌ حاجباه لها حنايا
ومثل قوله:
نهيتك أن تناضلها
أبيات الحماسة:
رمتني وستر الله بيني وبينها ... ونحن بأكناف الحجاز رميمُ
فلو أنها لما رمتني رميتها ... ولكنَّ عهدي بالنضال قديمُ
وعمل الشيخ العلامة شمس الدين أحمد بن الخباز النحوي الموصلي، شيخ زمانه وواحد عصره، كان آية في الذكاء والحفظ رأيته، رحمه الله، توفي فيما يتغلب عندي في سنة إحدى وأربعين وستمائة:
سطا بحسام طرف مشرفيّ ... وأردفه بسحر بابليّ
ولو لم يقض عاشقه تثنى ... على رمح القوام السمهريّ
وليس لمن يهيم به معينٌ ... عليه ومن يعينُ على عليّ
غزالٌ زارني فأزالَ همّاً ... خيالٌ منه كالنبض الخفيّ
تبسم ضاحكاً فرأيتُ درّاً ... يضيءُ كلمع برق في حَبيّ
الحبيّ: السحاب الذي يعترض اعتراض الجبل قبل أن يطبق السماء.
قويٌ لا يلمُّ على ضعيفٍ ... فويلٌ للضعيف من القويّ
أمير الحسن أنت بلا خلاف ... وزين الحسن بالوعد الوفيّ
وصل مضنىً يبيت حليف شوقٍ ... به ظمأٌ إلى العذب الشهيّ
سللتَ على الأسير سيوف لحظٍ ... فتكتَ بها ولا سيفَ الوصيّ
ولو أنَّ العزيز رآه يوماً ... لدانَ له بوجه يوسفيّ
هذه الأبيات وإن لم تدخل في حيز الاختيار فإن قائلها، رحمه الله، من الأئمة الكبار والنحاة الذين مثلهم سيار.
وقال ابن الحلاوي في الوزن والرويّ:
بوردِ خدودكَ النَّضرِ الجنيِّ ... ومسكِ عذاركَ العطرِ الذكيّ
وحسنِ قوامكَ الحلو الثنيِّ ... وقد أربى على ذاتِ الحليِّ
صلِ الصبَّ المعنّى فهو ظامٍ ... إلى تقبيلِ مبسمكَ الشهيِّ
أيا قمراً غدا في فيه ريّ ... أيجملُ أن أعودَ بغيرِ رِيِّ
حكيتَ السمهريَّ فبتُّ أهوى ... لأجلِ هواكَ قدَّ السمهريِّ
وأشبهتَ الظباءَ فصارَ قلبي ... يميلُ إلى الغزالِ الحاجريِّ
وأبليتُ التصبر فيك لما ... بليتُ بسحرِ طرفٍ بابليِّ
ومن كلفي بثغرك صرتُ أروى ... لمى وبياضَ مبسمكَ النقيِّ
ويطربني وأعشقُ كلَّ شعرٍ ... يقولُ الناسُ في هذا الرويِّ
أغضُّ الطرف دونك من حياءٍ ... لبهجةِ ذلكَ الوجهِ الحييِّ
وأنا أذكر شيئاً من شعر ابن الحلاوي وما يؤدي الخاطر إليه من أشعار تعترض.
وأعود إلى شعر ابن غزي. قال ابن الأردخل الموصليّ:
سل وجهه البدري عدل كماله ... في مقلتي العبرى وقلبي الوالهِ
أوفاق عني قوس حاجبه فلي ... كبد أمام النزع من نبالهِ
ألمى رشيق القدّ أرجو الري من ... معسوله وأخاف من عسّالهِ
أعديتُ شجواً ربعه فالبان في ... سكراته والورقُ في أغلالهِ
وحملت مثل الرّدف عنه غيرةً ... لما رأيت الخصرَ حلف هُزالهِ
قم فاستعر لي من حليّ رقدةً ... فهي الوسيلة عند طيف خيالهِ
وإذا رقدت فليس إلاّ فكرتي ... لا الحلم جاد به ولا بمثالهِ
يا ملبس التفتير رايةَ لحظه ... ودليل قطع السيف لمع ذُبالهِ
عطفاً على دنفٍ دعوت همومه ... فأقمتها وقعدتَ عن آمالهِ
قلقُ المضاجع لو لقيت أقل ما ... يلقى لما استحسنت سيئ حالهِ
أحسن من البيت الثالث قول ابن الساعاتي:
عذُبت مراشفه وصال بقدّه ... فحمى جنى المعسولِ بالعسال
ولمحيي الدين بن زيلاق:
يحمي عن العشاق مورد ريقه ال ... معسول أسمر قدّه العسالِ
وقال ابن الأردخل:
بلّغ رجال الحيّ من سَلم ... أيراق ما بين البيوت دمي
حاولت زورتكم فحل لكم ... قتليَ في حتفي سعى قدمي
والبيت الذي ذكر فيه غيرته من نحول الخصر فيه نظر إلى قول ابن الخياط:

أغارُ إذا آنستُ في الحيِّ أنةً ... حذاراً وخوفاً أن تكون لحبّهِ
ومثله لصرّ در:
لم ألقَ ذا شجن يبوح بحبّه ... إلاّ ظننتك ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... أنْ لا ينال سواي منكَ نصيبا
قد والله أساء إليه، وقبّح ذكره، ولو لم ينل منه نصيباً قط كان أحسن. ومثله للحسين الضحاك، ومنه أخذ:
لم يشكُ عشقاً عاشقٌ فسمعتهُ ... إلاّ ظننتكَ ذلك المعشوقا
وقول ابن الأردخل
حاولت زورتكم فحل لكم
أقول: إنه لم يكن عالماً بالفتوى إذ لو زارهم لما حلّ لهم قتله فكيف وقد حاول ذلك، ومنها:
ومتيم أصمته أسهمكم ... لم يدر يوم النفر كيف رُمي
كلفتموه الصبر بعدكم ... وأحلتموه به على عدمِ
ومثله لابن النبيه المصري:
أحلتَ سُلواني على ... ضامنِ قلبٍ منكسرْ
البيت الثالث مأخوذ من قول مهيار، وقد أحسن في قوله:
لم يدر من أين أصيب قلبه ... وإنما الرامي درى كيف رمى
والبيت الرابع أخذه المحيي فقال:
إذا طلب الوفاء غريم عذلٍ ... أحيل على سلوٍّ مستحيل
وكان المهذب بن الأردخل هذا شاعراً من شعراء العصر، له في حسن الشعر نصيب وافر وقسط تام، وكأنما هو لسلامة مقاصده متصرف في أحداق الكلام، له طبع أمضى من السيف الصقيل وأعمل في الخواطر من لمحات الطرف الكحيل. ومن شعره، وهي في غاية الحسن:
للهِ نفسٌ بكم أعرِّفها ... تقضي وما ينقضي تأسّفها
وذات عرف منكم تجلدتُ لل ... احي فأنكرتها وأعرفُها
وقفت فيها وأنّ أرسمها ... ممحوّة بالدموع أحرفها
مكفكفاً عبرتي وودّي لو ... أنّيَ أبكي ولا أكفكفها
ماذا على الركب من أراقها ... وهل هي إلاّ بلوى أخففها
وكيفَ أصحو لا بل أصحّ وبي ... إلى مريضِ الجفونِ أوطفها
ومن شعره:
تأمل معي إن كنتَ للبرق شائماً ... وإن لم تكن عوناً فلا تك لائما
سألتُ زروداً عن مباسم غيده ... حكته سنًى أم بات يحكي المياسما
معاجاً فإنّي كلما ذُكرَ الحمى ... لأبهتُ يقظاناً فأُحسبُ نائما
ركائب لو قصرتُ من لغب السرى ... بنا لركبنا دونهن العزائما
جزعتم بذات الجزع إني محارب ... يد الله ما إنْ كنت إلاّ مسالما
سلبتم حياتي صفوها غير أنني ... غدوت عليكم لا على العيش نادما
فإن تبلغوني ذلك الأيك تسمعوا ... من النوح ما علّمت تلك الحمائما
ومن هنا أخذ ابن عبدوس، شاعر بغدادي فيما أظن أو من أعمالها، اجتمعتُ به وسمعت شعره، وكان ينشد شعراً حسناً - ولم يكن له في الأدب حظ - من قصيدة يمدح بها السعيد تاج الدين قدس الله روحه، غزلها يجاري الماء لطافة وإن كان مطلعها متعسفاً متكلفاً:
لا تفتكوا أهلَ الحمى بمسالمٍ ... لكم محبٍّ وافتكوا بمحاربِ
وأولها:
أصمتْ فؤادك يوم برقةِ عازبِ ... قسراً جفون عواتكٍ وربائبِ
ومنها وقد أجاد:
بالله قل للنازلين على الحمى ... يا صاحبي إنْ كنتَ حقّاً صاحبي
لا تفتكوا أهلَ الحمى بمسالمٍ ... لكم محبٍّ وافتكوا بمحاربِ
وعلامَ يا أهلَ العقيق رغبتمُ ... في زاهد وزهدتم في راغبِ
أفنى جديدَ شبابه في حبّكمْ ... واهاً لذلك من جديد ذاهبِ
وأقولُ إذ سنحت ظبيةُ رملةٍ ... تختالُ بين مراتع وملاعبِ
كفّي لحاظك قد أصبتِ فؤادهُ ... من حيث لا يدري بسهمٍ صائبِ
يا ظبيةَ الوادي انقضى عمري وما ... قضّيت من نظرٍ إليك مآربي
أقول: لو أعطي هذا الشاعر نظراً صائباً وحساً ثاقباً لقال بعد قوله وأنشد:
إذا سنحت ظبية رملةٍ
شعر العباس بن الأحنف وهو:
لو كنتِ عاتبةً لسكنَ عبرَتي ... أملي رضاكِ وزرتُ غيرَ مجانبِ
لكن صددتِ فلم يكن لي حيلةٌ ... صدُّ الملولِ خلافُ صدِّ العاتبِ
فيكون قد أتى به أحق من قائله، وفيه من الحسن ما لا خفاء به عن متأمله.
وأنشدني هذا ابن عبدوس من غزل قصيدة يمدح بها المذكور، رحمه الله تعالى:
وقالت أين قولك لست أنسى ... هواك وحبّ غيرك مستحيلُ
وقد قال العواذل فيك عندي ... وعندك فيّ قد قال العذولُ

فلم أسمع وقد أصغيت سمعاً ... لقولهم فمن منَّا الملولُ
أخذ البيت الثالث من ثالث الأبيات التي أذكرها:
وبي صتم يعوق الوصل عنِّي ... ولا ودّ لديه ولا يغوثُ
أُهيل ودادنا لم ذا نكثتمْ ... وقد ذُمَّ المخاتلُ والنكوثُ
تجافيتمْ وقلتمْ ذا ملولٍ ... صدقتمْ هكذا كان الحديثُ
وشعر ابن عبدوس هذا شعر حسن سهل في الغاية له حظ من الاستحسان. ويجيء في الشعر قالت وقلت ويدخل به في الاختيار، فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
فلمَّا اقتصرنا دونهنَّ حديثنا ... وهنَّ طبيباتٌ بحاجاتِ ذي الثّكل
عرفْنَ الذي نهوى فقلن لها ائذني ... نُطفْ ساعةً من بردِ ليلٍ وفي سلِ
فقالت فلا تلبثنَ قلنَ لها اصبري ... أتيناك وانسبنَ انسيابَ مها الرملِ
وقمنَ وقد أفهمن ذا اللبِّ إنما ... فعلنَ الذي يفعلنَ إذْ ذاك من أجلي
قيل: إن الفرزدق لما سمع هذا الشعر قال: هذا الذي أرادته الشعراء فأخطأته وبكت الديار. وقال عمر بن أبي ربيعة:
حين قالت لها أجيبي وقالت ... من دعاني قالت أبو الخطابِ
فاستجابت عند الدعاء كما لبَّى ... رجال يرجون حسنَ الثوابِ
وقال وضاح اليمن، وهي من غريب الشعر وجيده وسهله الممتع:
قالت ألا لا تَلِجنْ دارنا ... إن أبانا رجلٌ غائرُ
أمَا رأيتَ البابَ من دوننا ... قلتُ فإني واثبٌ طافرُ
قالت فإنَّ القصر من دوننا ... قلت فإني فوقه ظاهرُ
قالت فإنّ الليثَ غادٍ به ... قلت فسيفي مرهف باترُ
قالت فهذا البحر ما بيننا ... قلت فإنّي سابح ماهرُ
قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافرُ
قالت فأمّا كنتَ أعييتنا ... فائْت إذا ما رقد السامرُ
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلةَ لا ناه ولا آمرُ
البيت الأخير أخذه من قول امرئ القيس:
سموتُ إليها بعدَ ما نامَ أهلُها ... سموّ حبابِ الماءِ حالا على حالِ
وقال آخر:
حتى إذا البدرُ بدا طالعاً ... وغابت الجوزاءُ والمرزمُ
نهضتُ والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقمُ
وقال كعب بن جعيل:
وأبيضَ جنيٍّ عليه سموطه ... من الأنس في قصر منيف غواربُه
تدليته سقط الندى بعد سجفةٍ ... فبتُّ أُمنِّيه المنى وأخالبُه
وبيت وضاح اليمن أخفى حرساً وأقل حبساً وهو بينهم أحسن موقعاً وأجرى طبعاً وأسلس نظاماً وأعذب كلاماً، يجري للطافته مع النفس ويتنزل من العذوبة منزلة اللعس. وقال المؤمل:
وطارقات طرقنني رسلاً ... والليل كالطيلسان معتكرُ
يقلن جئنا إليك عن ثقةٍ ... من عند خود كأنّها قمرُ
هل لك في غادة منعمةٍ ... يحار فيها من حسنها النظرُ
في الجيد منها طول إذا التفتت ... وفي خطاها إذا خطت قصرُ
فقمت أسعى إلى محجبةٍ ... تضيء منها البيوت والحجرُ
فقلتُ لمَّا بدا تخفرها ... جودي ولا يمنعنّك الخفرُ
قالت توقَّر ودع مقالك ذا ... أنت امرؤ بالقبيح مشتهرُ
والله لا نلتَ ما تطالب أو ... ينبت في وسط راحتي شعرُ
لا أنت لي قيّم فتجبرني ... ولا أمير عليّ مؤتمرُ
قلت ولكن ضيف أتاك به ... تحت الظلام القضاء والقدرُ
فاحتسبي الأجر في إنالته ... وياسري قد تطاول العسرُ
قالت لقد جئت تبتغي عملاً ... تكاد منه السماء تنفطرُ
فقلت لمَّا رأيتها حرجت ... وغشيتها الهموم والفكرُ
لا عاقبَ الله في الصبا أبداً ... أنثى ولكن يُعاقبُ الذكرُ
قالتْ لقد جئتنا بمبتدعٍ ... وقد أتتنا بغيرهِ النذرُ
قد بيّن الله في الكتاب فلا ... وازرةٌ غيرَ وزرِها تزرُ
قلتُ دعي سورةً لهجتِ بها ... لا تحرمنّا لذّاتنا السورُ
وجهك وجه تمَّتْ محاسنه ... لا وأبي لا تمسه سقرُ
وقال أبو نواس، وهو من باب الهجاء:
قال لي يوماً سليما ... ن وبعض القول أشنعْ
هات صفني وعليّاً ... أيُّنا أجدى وأنفعْ
قلت إني إن أقلْ ... بينكما بالحق يجزعْ
قال كلاّ قلتُ بل ... قال عجّل قلت فاسمعْ

قال صفْه قلت يعطي ... قال صفني قلتُ تمنعْ
وقال أبو عبادة وأجاد:
بتّ أسقيه صفوة الراح حتى ... وضعَ الكأسَ مائلاً يتكفّا
قلتُ عبدَ العزيزِ تفديكَ روحي ... قال لبيكَ قلتُ لبيكَ ألفا
هاكها قال هاتها قلتُ خذها ... قالَ لا أستطيعها ثمّ أغفى
ومن المختار من هذا الباب:
قالت لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفْه ولا تنقص ولا تزدِ
فقال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلتِ قف عن ورود الماء لم يردِ
قالت صدقتَ وفاء الحبّ شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
أنشدني بعض الأصحاب:
تودّعني والدمع يجري كأنّه ... لآلٍ هوتْ من سلكها تتحدرُ
وتسألني هل أنت بي متبدّل ... فقلت نعم سقماً إلى يوم أحشرُ
فقالت تصبّر لا تموت صبابةً ... فقلت لها هيهات مات التصبرُ
أحسن من هذا قول الأرجاني:
غالطتْني إذْ كستْ جسمي الضنى ... كسوةً عرَّتْ عن اللحمِ العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثلُ عيني صدقتْ لكنْ سقاما
وأنشدني بعض أصحابنا المحدثين، وقد أكثر من قال وقلت حتى تجاوز الغاية والبيت الثاني رايته في شعر الأمير عبد الله بن المعتز:
قالت لقد أشمتّ بي حسّدي ... إذ بحتَ بالسرّ لهم معلنا
قلتُ أنا قالتْ نعم أنت هو ... قلتُ أنا قالت وإلا أنا
قلتُ نعم أنت التي صيّرت ... جفونها جسمي حليف الضنا
قالت فلم طرفك فهو الذي ... جنى على قلبك ما قد جنى
قلت فقد كان الذي كان من ... طرفي فكوني مثل من أحسنا
قالت فما الإحسان قلتُ اللقا ... قالت لقائي قطّ ما أمكنا
قلت فمنّيني بتقبيلةٍ ... قالت أمنيك بطول العنا
قلت فما بحت بسرّ الهوى ... قالت ولو بحت لما ضرّنا
قلت فإني ميّت هالك ... قالت فمت فهو لقلبي مُنى
قلت حرام قتل نفس بلا ... ذنب فقالت ذاك حلّ لنا
من يعشق العينين مكحولةً ... بالسحر لا يأمن أنْ يُفتنا
وهذا متى أكثر منه خرج من حيز الاستحسان ورمي دبر الآذان. وأحسن من هذا ما أنشدته للمغاربة:
يا حسناً مالك لا تحسنِ ... إلى قلوب بالهوى متعبهْ
رقمتَ بالورد وبالسوسنِ ... صفحة خدّ بالحيا مذهبهْ
وقد أبى خدّك أنْ أجتني ... منه وقد ألبسني عقربهْ
يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبهْ
قلتُ له ذلك عندي سنا ... وكل ألفاظك مستعذبهْ
ففوّق السهم ولم يخطني ... ومذ رآني ميّتاً أعجبهْ
وقال كم عاش وكم حبّني ... وحبّه إيّاي كم أتعبهْ
يرحمه الله على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبهْ
عاد الكلام إلى شعر ابن غزي وقال:
أمسى وجنّته هواك وناره ... ففؤاده لا يستقر قرارهُ
صبّ بذكرك تنقضي أيامه ... أبداً ويمضي ليلهُ ونهارهُ
كتم الهوى عن صحبه حتى إذا ... اجتمع الغرام تبددت أسرارهُ
يا صاحبيّ على الفتى لخليله ... إرشاده وإذا سها تذكارهُ
سل بالهوى منّي خبيراً بالهوى ... ينبيك عنه وعنده أخبارهُ
بالعشق يُمتحنُ الرجالُ فواحد ... صافٍ وأخر جمةٌ أكدارهُ
وأرى الهوى بحراً بعيداً لجّهُ ... صعب الركوب كثيرة أخطارهُ
وقال من قصيدة يمدح بها السعيد قدس الله روحه:
حُرمتُ وصاله إنْ كنتُ أدري ... تعتُّبهُ عليّ لأيّ أمرِ
حبيب نلتُ منه جنان وصل ... فأعقب طيبها نيران هجرِ
حكى القمر المنير فما عليه ... إلينا مرةً كان يسري
وقد سبق لابن غزي:
كانت ليالينا بقربك جنةً ... فجعلتها لما هجرت جحيما
وسبق لمحيي الدين مثله:
فإني وإن أسكنتَ قلبي في لظًى ... لأرتع من خدّيك في جنتي عدنِ
وله:
وليتَ من في وصله جنةٌ ... أعاذني من نار هجرانه
ومن شعري:
فجنتي وصل الحبيب الذي ... أصل عذابي نار هجرانه
وقد أحسن القائل، وقد قيل لمحيي الدين:
يا جنتي وإذا أودعتني حُرقاً ... فإنّ حقيَ أنْ أدعوك يا ناري
ومليح قول القائل وإن لم يذكر الوصل والهجر:

يا جنّة الدنيا لقد ... هوّنتِ نارَ الآخرهْ
ومثل قوله:
حكى القمر المنير
ما أنشدته لبعض شعراء العصر في صبيّ مكاري، وقد أحسن ما شاء:
هويته مكارياً ... شرّدَ عن جفني الكرى
قد أشبه البدرَ فما ... يملّ من طول السُّرى
وأنشدني آخر، وإن لم يكونا من هذا:
يا بدر أهلك جاروا ... وألزموك بهجري
فليفعلوا ما أرادوا ... فإنّهم أهلُ بدرِ
وقال ابن غزي:
وأغنّ ما للكحل في أجفانه ... حظٌ وتحسب طرفَه مكحولا
حنق اللحاظ على القلوب كأنّما ... قتلت لعينيه القلوبُ قتيلا
في خصره معنى دقيق لم يزل ... خطب الغرام به عليّ جليلا
ووراءه ردف ثقيل زادني ... عبئاً على عبءِ الغرام ثقيلا
بأبي غزال لم يزل بجماله ... سمحاً عليّ وبالجميل بخيلا
وبروحي القمر الذي أمسيتُ في ... حبّي له أحكي الهلال نحولا
وقال في صبي معه خادم يحفظه:
زمن عجبٍ أنْ يحفظوك بخادمٍ ... وخدّام هذا الحسن من ذاك أكثرُ
عذارك ريحانٌ وخالك عنبرٌ ... وخدّك كافورٌ وثغرك جوهرُ
وقد أحسن في هذا الجمع وإن كان مسبوقاً إلى مثله.
أنشدني بعضهم ولم يسم قائلاً:
ما القلبُ مسروراً ببعدكمُ ولا ... أنا بالرشيد ودمع عيني جعفرُ
الوجد يحيى والغرام فخالدٌ ... فلذا ربيع وصالكم لا يزهرُ
ومن شعري:
لو لم يكن سفّاح جفنك ناصراً ... ما كنتُ للعشاق يوماً مقتفي
وأنشدني أمير الدين عبد الرحمن بن علي الموصلي لنفسه، وقد أجاد ما شاء أن يزيد ولم يبق زيادة لمستزيد:
هويتها طفلةً دقّت محاسنها ... فطرفها نرجس والخدّ تفّاحُ
يتيمة الدهر نثر الدرّ من فمها ... والعقد في جيدها والوجه مصباحُ
وأنشد بعضهم رباعي:
وجهٌ حسنٌ كأنه مصباحْ ... في تكملةِ الحسن له إيضاحْ
منصور حسام لحظه قال لمن ... يهواه رويداً جاءك السفاحْ
ومثله للبغاددة مواليا:
لؤلؤْ أدمعي صارْ مذْ زمّت مطاياكم ... ياقوتْ والياسْ عندي من عطاياكم
وأنا طريدْ وغيري في وطاياكم ... مسرورْ دائمْ صوابْ اجعلْ خطاياكم
ولهم في هذا المواليا معان ترقص القلوب لها طرباً وإذا أُنشدت أوضحت إلى الظرف طريقاً مذهباً ولا بد أن أفرد لها باباً يكون إلى مناهج الحسن سبباً.
نجم الدين يحيى الشاعر الموصلي مولداً، العنسفي أصلاً، شيخ حسن الأخلاق لطيفها، بديع الإشارات طريفها، له شعر أرق من دمع المهجور، وألفاظ أحسن من الروض الممطور، كأنما هي منى النفوس وطلعة البشر في الزمن العبوس، رأيته واجتمعت به وهو حي عند جمع هذا المجموع، كنت بالموصل في ذي القعدة سنة اثنتين وستين وستمائة ونحن في مجلس أنس قد واصل حبيبه وغاب رقيبه وشموس الكؤوس تدور وتطلع من أكف سقاة كالبدور وفي أفواه الندامى تغور، فجاء إلى الباب فأخبر بحالنا فكتب إلي بهذه الأبيات ومشى:
أتيتُ هذا الحرم المرتجى ... وهو مقرّ الحلم والعلمِ
فقيل مولاك على لذةٍ ... لا زال منها وافر القسمِ
فليس يدري العبد هل يمدحُ ال ... صهباءَ أو يشرع في الذمِّ
وما ظننت الشمس في كأسها ... أن تحجب البدرَ عن النجمِ
وجاء إلي في اليوم الثاني وقد عرضت لي حمى فيها نافض فأنشدني وما أعرف هي له أم لا:
لله حمّاكَ التي ... كست حشاي الولها
هل سألتكَ حاجةً ... فأنتَ تهتزّ لها
وهذا مليح في الغاية، ومن شعره:
بعدتمْ فذابتْ بعدكمْ مهجةُ الصبِّ ... وغادرتمُ الأجفانَ دائمة الصبِّ
وما زالَ يشكو القلبَ نظرةَ عينه ... إلى أنْ غدتْ عيناهُ تشكو من القلبِ
واصبحَ مقصوصَ الجناح من الأسى ... وإنْ كانَ من أشواقهِ طائرَ اللبِّ
أيا ساكني نجدٍ عليكم تحيةٌ ... دعاني هواكم وهو أول من لُبِّي
رفضتم ودادي ما كذا سنّة الهوى ... وحبكم ديني ورفعكم نَصبي
أيا جوهريّ الثغر ماليَ كلما ... تبسّمت عن حبٍّ تهتكت من حبِّي
أُعاملُ بالحسنى جمالك تاجراً ... ومالي من كسبٍ سوى مدمع سكبِ

قد استعمل الشعراء وأكثروا في ذكر ما يتعلق بألقاب النحو. أنشدني والدي للزكي بن أبي الإصبع أبياتاً أذكرها لحسنها والغرض منها ما ذكر من ألقاب النحو فيها وهي:
تصدَّقْ بوصلٍ إنَّ دمعيَ سائلُ ... وزوّدْ فؤادي نظرةً فهو راحلُ
فخدكَ موجودٌ بهِ التبرُ والغنى ... وحسنكَ معدومٌ لديه المماثلُ
أيا قمراً من حسنِ وجنتهِ لنا ... وظلِّ عذاريهِ الضُّحى والأصائلُ
جعلتكَ بالتمييزِ نصباً لناظري ... فهلاّ رفعتَ الهجرَ والهجرُ فاعلُ
غدا القدُّ غصناً منكَ يعطفهُ الصبا ... فلا غروَ أنْ هاجتْ عليه البلابلُ
تنقلتَ من قلبٍ لطرفٍ مع النوى ... وهاتيكَ للبدرِ التّمامِ منازلُ
وقد ظرف القائل:
عرّج بنا نحو طلول الحمى ... فلم تزل آهلةَ المربعِ
عسى نطيل اليوم وقفاً على ال ... ساكن أوْ عطفاً على الموضعِ
وابن عنين أكثر من هذا، فقال يهجو:
مالُ ابنِ مازةَ دونهُ لعفاتهِ ... شوكُ القتادةِ أو منالُ الفرقدِ
مالٌ لزومُ الجمعِ يمنعُ صرفهُ ... في راحةٍ مثلُ المنادى المفردِ
وهذا غاية في حسنه، وقال لمصروف عن ولايته:
فلا تغضبنّ إذا ما صُرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه
وقال في الغزل:
كأنّ النوى إذ نادت الدمع رخمت ... فلا أثر فيها أجاب لعينِ
وهذا المعنى أوضحه القائل:
قد كان عيني بغير دمعٍ ... فصار دمعي بغير عينِ
وكان ابن عنين مريضاً فكتب إلى بعض ملوك الشام:
أنا كالذي أحتاجُ ما تحتاجهُ ... فاغنمْ ثوابي والدعاءَ الوافي
فجاء إليه ومعه ألف دينار، وقال: هذه الصلة وأنا العائد. وهذا من الملك أحسن منه من الشاعر. وذكرني النجم يحيى، يقوله:
أيا جوهريّ الثغر
أبياتاً للمغاربة أنشدنيها المرحوم تاج الدين، رضي الله عنه، وهي:
علقته حببيّ الثغر عاطره ... دريّ لون المحيا أحور المقلِ
إذا تأملته أعطاك ملتفتاً ... ما شئتَ من حركات الشادن الغزلِ
عزيّل لم تزل في الغزل جائلةً ... بنانه جولان الفكر في الغزلِ
جذلان تلعب بالمحراك أنمله ... على السدى لعب الأيام بالدولِ
ما إن يني تعب الأطراف مشتغلاً ... أفديه من تعب الأطراف مشتغلِ
جذباً بكفّيه أو فحصاً بأرجله ... تخبُّط الظبي في أشراك محتبل
وقال النجم يحيى:
قسماً بوصلك إنه العيش الهني ... وبنور وجهك إنه البدر السني
إني على وجدي وفرط صبابتي ... باقي الغرام وإنما صبري فَني
يا شمس إشراقٍ وبدر دجنّةٍ ... وغزالةً ترنو وغصناً ينثني
أثمرت تفاحاً تصرّج حسنه ال ... زاهي وسيّجتَ العذار بسوسنِ
وكأنّ ذاك الخال عبدٌ أسود ... سكنَ السياجَ لينظرَ الورد الجني
قد أطنب الشعراء في وصف الخال وغرّبوا في نعته الأقوال، وها أنا أذكر منه ما يخطر بالبال ويربي على السحر الحلال، أنشدني بعض أصحابنا:
يا سالباً قمر السماء بوجهه ... ألبستني في الحزن ثوب سمائه
أحرقت قلبي فارتمى بشرارةٍ ... علقت بخدّك فانطفا من مائه
وقال آخر:
لكَ خالٌ من فوقِ ... عسٍ قدِ استوى
بعثَ الصدغَ مرسلاً ... يأمرُ الناسَ بالهوى
وقال ابن الساعاتي:
ذو وجنةٍ ما لاح ماثلُ خالها ... بل لاحَ أسودُ مقلتي في مائها
وقال أيضاً:
ما الخالُ نقطةُ نون صدغك إنما ... قلبي بحبّته حباك تلهفا
وللحيص بيص:
لا تحسبنّ حدوث الخال عن قصرٍ ... من الطبيعة أو أحداثه غلطا
وإنما قلم التكوين حينَ بدا ... بنون حاجبه في خدّه نقطا
آخر:
لا تخالوا خاله في خدّه ... نقط مسك ذاب من طرته
إنما حبّة قلبي سُلبتْ ... فاستوت خالاً على وجنته
وينظر إلى قولهم: نقطةٌ ونونٌ، ما أنشدنيه محيي الدين ولم يسمّ قائلاً، وقيل لابن سناء الملك:
لهُ فمٌ يمنعهُ ضيقهُ ... أنْ يُخرجَ اللفظَ بتقويمِ
ولفظه نشوان من ريقه ... فهو لهذا غيرُ مفهومِ
ما فمهُ ميمٌ ولكنّهُ ... علامةُ الوقف على الميمِ
وقال الحاجري في الخال:

عجبتُ لخالٍ يعبد النارَ دائماً ... بخدّك لم يحرق بها وهو كافرُ
وقال:
أقامَ بلالُ الخالِ من فوقِ خدّهِ ... يراقبُ من لألاءِ طرَّتهِ الفجرا
وقال ابن عنين:
ما عمّهُ بالحسنِ عنبرُ خالهِ ... إلاّ ليصبحَ بالسوادِ مجمّلا
وقال محيي الدين:
وأنبت روض خديه شقيقاً ... يلوح عليه خالٌ عمّ حسنا
وقلت من أبيات:
ذو خالةٍ في خدّه ... جمالُها قد عمّنا
وقال ابن منير الطرابلسي:
أحرقت حبةَ قلبي ... فصغتها لك خالا
فقد كستني نحولاً ... كما كستك جمالا
وقال الرشيد الطرابلسي:
وسواء خطَّ العذارُ فلمْ خُ ... صِّص سطرٌ منه بنقطة خالِ
العز أبو علي بن شيخنا:
يا شادناً قد عمّه ... بالحسنِ عنبرُ خالهِ
ما بال قلبي فيك لا ... يقرّ من بلبالهِ
وأبيات الرشيد حسنة وأولها:
بين هجر مبرحٍ ووصالِ ... بتّ صباً بحرقة الوجد صالِ
أترجّى طيفَ الخيال وما ... طيفُ خيالٍ بزائرٍ بخيالِ
وبعيد نومي لأرتقب الطي ... ف ولكن تعلل بمحالِ
فأسيلُ الخدّين لستُ على ال ... أيام عنه وإن أساء بسالِ
وسواء خطَّ العذارُ فلمْ خُ ... صِّص سطرٌ منه بنقطةِ خالِ
نافرٌ والنفورُ من شيم الغزلا ... ن لولا التفاتةٌ في الغزالِ
الحسام الحاجري الإربلي شاعر مجيد ومحسن ما عليه مزيد، له طبع مجيب، وخاطر يرمي أغراض البيان فيصيب، ويريع من لطيف المعاني في المرعى الخصيب، يجري شعره مجرى الماء من الغمام، وتسكر ألفاظه سكر كأس المدام. وسمي الحاجري لكثرة ترداد حاجر في شعره، أدركت زمانه ولم أجتمع به، وكان منحوس الحظ من الأدب لأسباب توجد في شعره، وفيه أشياء بديعة الحسن سهلة المأخذ مليحة السبك متناسبة الألفاظ قُتل، رحمه الله، بإربل بعد الثلاثين والستمائة، وضع عليه من قتله ركن الدين بن قرطايا المظفري لأمور كانت بينهم يتولاهم الله فيها. فمن شعره:
على دمع عيني من فراقك ناظرُ ... يرقرقه إنْ لم ترقه المحاجرُ
فديتك ربعُ الصبرِ بعدكَ دارسٌ ... على أنّ فيه منزلَ الشوقِ عامرُ
يمثلك الشوق الشديد لناظري ... فأطرق إجلالاً كأنّكَ حاضرُ
وأطوي على الداء الدفين جوانجي ... وأظهر أنّي عنك لاهٍ وصابرُ
عجبت لخال يعبد النار دائماً ... بخدّك لم يحرق بها وهو كافرُ
وأعجب من ذا أنّ صدغك مرسلٌ ... يصدّق في آياته وهو ساحرُ
ألا يا لقومي قد أراق دمي الهوى ... فهل لقتيل الأعين النجل ثائرُ
وما اخضرّ ذاك الخدّ نبتاً وإنما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائرُ
ومذ خبروني أنّ غصناً قوامه ... تيقنت أنّ القلب منّي طائرُ
وقال أيضاً:
يا واحد الحسن ارحم واحد الكمد ... حاشاك من حرق تصلى بها كبدي
في كل جارحةٍ منّي لسان هوًى ... يشكو إليك رسيس الهجر والكمد
يا طول سقمي وفي فيك الشفاء ويا ... ظلمي وأنت أميرُ الحسن في البلد
إنْ كانَ تعذيب قلبي فيك أو ولهي ... مما يسرّك يا كل المنى فزدِ
نفسي فداء لظبي من بني أسدٍ ... وأعجبُ الأمر ظبيٌ من بني أسدِ
كيفَ السلامةُ لي ممّن محاسنه ... جاءت لقتلي بأنواعٍ من العددِ
العين بالنبل والقدّ المرنح بالخ ... طي والسالف المصقول بالزردِ
وقال:
مالي وللاحي عليك يعنّف ... كيف السلوّ وأنتَ غصنٌ أهيفُ
يصحو من البرحاءِ غير متيّمٍ ... دارت عليه من لحاظك قرقفُ
لا واهتزازك كالقضيب اليةً ... ما قرّ من كلفٍ عليكَ المدنفُ
غيري إلى السلوانِ يُعزى والقلى ... وسوى فؤادي بالملالةِ يعرفُ
قال العذولُ بحقّه من ذا الذي ... أنتَ الكئيب به فقلتُ المصحفُ
أخذ هذا البيت من المتنبي حيث يقول:
قالت وقد رأتِ اصفراري مَنْ بهِ ... وتنهّدتْ فأجبتُها المتنهدِ
وأخذه محيي الدين، فقال:
بكم حلفتُ لعذَّلي فليقصِروا ... عزَّ السلوُّ غداةَ عزَّ المصحفُ
وقال الحاجري من أبيات:
كل الليالي الذاهبات خلاعةً ... تفدي نعيمك يا ليالي حاجرِ

ما كنت في الأيام إلاّ خلسةً ... سمحت بها الأيام سمحةَ غادرِ
وقال:
جسدٌ ناحلٌ وقلبٌ قريحُ ... ودموعٌ على الخدودِ تسيحُ
وحبيبٌ جمُّ التجنّي ولكن ... كلّ ما يصنعُ المليحُ مليحُ
يا غزالاً له الحشاشة مرعى ... لا خزامٌ بالرقمتين وشيحُ
رقّ لي من لواعج وغرامٍ ... أنا منها ميّت وأنتَ المسيحُ
قد كتمت الهوى بجهدي وإن دا ... مَ عليّ الهوى فسوف أبوحُ
وقال، وهما من محاسن شعره:
قلتُ لمحبوبي وقد مرَّ بي ... محبوبهُ كالقمرِ الساري
هذا الذي يأخذ لي طرفه ... من طرفه الفتّان بالثأرِ
وقال في قريب منها:
ولما ابتلى بالحبِّ رقَّ لحالتي ... وما كانَ لولا الحبّ ممن يرقُّ لي
أحبّ الذي هام الحبيب بحبّه ... ألا فاعجبوا من ذا الغرام المسلسلِ
وقال:
بدا فأرانا الظبيَ والغصنَ والبدرا ... فتبّاً لقلبٍ لا يبيتُ به مُغرى
نبيّ جمالٍ كلُّ ما فيه معجزٌ ... من الحسن لكن وجههُ الآيةُ الكبرى
أقام بلالُ الخالِ من فوق خدّه ... يراقبُ من لألاءِ غرَّتهِ الفجرا
من التركِ لم يترك لقلبي تجلداً ... فتورٌ بجفنيه المراضِ ولا صبرا
أغالطُ أخواني إذا ذكروا له ... حديثاً كأني لا أحبُّ له ذكرا
وأصغي إذا جاؤوا بغير حديثه ... بسمعي ولكني أذوبُ به فكرا
أعاذلُ هل أبصرتَ من قبل خدّه ... وعارضه ناراً حوتْ جنةً خضرا
أرى العدلَ موصوفاً بكسرى فلم تُرى ... ظلمت بأجفانٍ شهدتُ بها كسرا
البيت الخامس من قول القائل:
أدنو من الرقباء لا من حبّهم ... وأصدُّ عنه وليس من بغضائه
ومثله:
فصافحتُ من لاقيتُ في البيت غيره ... وكان الهوى منّي لمن لم أصافحِ
وقال، وهي من رقيق الشعر:
شرخ الشباب بحبّكم قضّيته ... والقلبُ من ولهي بكم أبليتهُ
وأنا الذي لو مرَّ بي من أرضكم ... داعٍ وكنتُ بحفرتي لبّيتهُ
قالوا حبيبك بالتجنّي مسرفٌ ... قاسٍ على العشاقِ قلتُ فديتهُ
أأرومُ من كلفي عليه تخلصاً ... لا والذي بطحاءُ مكةَ بيتهُ
وقال:
نعمتُ بكم والدهر في غفلاته ... زماناً وشملي آمن من شتاتهِ
ولم أدرِ ما الأحزان حتى بعدتم ... فقلبي موقوف على حسراتهِ
أأحبابنا بالجزع هل تسمح النوى ... بيومٍ يكونُ القربُ من حسناتهِ
لقد حكمت فينا الليالي بفرقةٍ ... سلا بعدها المشتاق طيب حياته
يقرّ بعيني أن يهبَّ نسيمكم ... فأنشق روحَ القربِ من نفحاته
وقال:
إذا بعدتْ ليلى وشطّ مزارها ... فلا نار إلاّ زفرتي واستعارُها
ومن لي أن أمسي وأرضيَ أرضُها ... عناداً لواشيها وداريَ دارُها
ويا ليتني جاوزتُ أرضاً تحلها ... فأحظى بما يحظى من القرب جارُها
أشبهها بالبدر والغصن والنقا ... وما هي إلاّ ظبيةٌ ونفارُها
ولو أنّ ناراً بالمحصّب أوقدت ... وليلى بنجدٍ قلت هاتيك نارُها
وكيف تفيق النفس من سكرة الهوى ... وأنتِ حميّاها ومنكِ خمارُها
أيا ليل قد أتلفت نفسي ترفقي ... على أنّ قبلَ النفسِ فيكِ افتخارُها
ألا لا أراني الله يا ليل ذا حشَى ... يقرّ من البلوى عليك قرارُها

بهاء الدين زهير الكاتب المصري، شاعر، قال فأجاد واستنّ في حلبة الأدب استنان الجواد، له شعر كالروضة مورقة الزهر فهو شراك النفوس ونزهة القلوب ومنزّل في تكرار إنشاده منزلة النظر إلى المحبوب، وتصرف في الألفاظ فاختار منها ما يريد وركب اللفظ الغريب فأدرك به المرام البعيد، وله في الإنشاء أوضح نهج وأقوم طريقة وكلامه هو السحر الحلال على الحقيقة، له في الكتابة مذهب وسبيل ليس للصواب عنه مذهب وله خط كلآلئ الأفراد وكتابة تكاد تبيضّ من حسنها المداد، من شعراء العصر مات بعد الخمسين والستمائة فيما يتغلب عندي، له ديوان شعر قد أولع الناس به لقرب متناول ألفاظه وسهولة مآخذه وبعده عن التكلف وخفته على الألسن، وها أنا أذكر ما يخطر منه على سبيل الاختصار تبعاً لمقصدي في جمع هذا المجموع، لأن هذا باب لو أردت الإتيان فيه لوجدت مذهباً فسيحاً وسلكت منه مهامه فيحاً، فمن ذلك قوله وقد أحسن في امرأة كان يهواها اسمها روضة:
يا روضةَ الحسنِ صِلي ... فما عليكِ ضيرُ
فهل رأيتَ روضةً ... ليسَ لها زهيرُ
وهذا اتفاق حسن. وأنشدني المولى المخدوم الصاحب علاء الدين بيتاً في غاية الحسن في امرأة اسمها شجر، وكان يهواها وقال فيها وأحسن:
يا حبذا شجر وطيب نسيمها ... لو أنّها تسقى بماء واحدِ
وقال زهير، وهي مليحة في معناها:
وهيفاء تحكي الرمحَ لوناً وقامةً ... لها مهجتي مبذولةٌ وقيادِي
لقد عابها الواشي فقالَ طويلةٌ ... مقالَ حسودٍ مظهرٍ لعنادِي
فقلت له بشّرتَ بالخير إنّها ... حياتي فإنْ طالتْ فذاك مرادِي
وما عابها القدُّ الطويلُ وإنه ... لأولُ حسنٍ للمليحةِ بادِي
رأيت الحصونَ الشمّ تحفظ أهلها ... فأعددتُها حصناً لحفظِ ودادِي
وقال:
يا مَنْ لعينٍ أرقتْ ... أوحشَها منْ عشقتْ
مذْ فارقتْ أحبابها ... لها جفونٌ ما التقتْ
وغادةٍ كأنّها ... شمسُ الضحى تألقتْ
كم شرقتْ بدمعِها ... عينيَ لمّا أشرقتْ
قد جمعتْ حسناً به ... ألبابُنا تفرّقتْ
فمهجتي وعبرتي ... قد قُيّدتْ وأطلقتْ
في فمها مدامةٌ ... صافيةٌ تروّقتْ
واعجباً من فعلها ... قد أسكرتْ وما سقتْ
مثله لابن الساعاتي:
ما شربنا بها ونحن سكارى
وقال زهير أيضاً:
لكم الروحُ والبدنْ ... لكم السرّ والعلنْ
أنا عبدٌ شريتموه ... ولكن بلا ثمنْ
منها:
وجهه يجمع المسرَّ ... ةَ للقلبِ والحزنْ
هو للحسنِ مشرقٌ ... فبه تظهرُ الفتنْ
وقال أيضاً:
بالله قل لي خبرك ... فلي ثلاث لم أركْ
يا أسبق الناس إلى ... مودّتي ما أخّركْ
يا أيها المعرضُ عن ... أحبابه ما أصبركْ
بين جفوني والكرى ... مذْ غبتَ عنّي معتركْ
كيف تغيرتَ ومن ... هذا الذي قد غيّركْ
وكيف يا معذّبي ... قطعتَ عنّي خبركْ
قد كان لي صبرٌ ... يطيلُ اللهُ فيه عمركْ
كيف خلاصي من هوًى ... مازجَ روحي فاختلطْ
وتائهٍ أُقبضُ في ... حبي له وما انبسطْ
يا قمرَ السعدِ الذي ... لديه نجمي قد هبطْ
حاشاكَ أنْ ترضى بأنْ ... أموتَ في الحبِّ غلط
يمرُّ بي ملتفتاً ... فهلْ رأيتَ الظبي قطْ
يا بدرُ إنْ رمتَ بهِ ... تشبهاً رمتَ الشططْ
ودعْهُ يا غصنَ النقا ... ما أنتَ منْ ذاكَ النمطْ
ويعجبني في ذكر الالتفات رباعي أنشدنيه بعض الأصحاب:
يا من جفواته لقلبي عنت ... هل ترجع بالعتاب تلك النكتُ
قد قيل محاسب الظبى لفتتها ... يا ظبيُ مضى العمر متى تلتفتُ
ولمحيي الدين وقد سبق:
هو الظبي إلاّ أنّ للظبي لفتةً ... وغصن النقا لولا التعطف في الغصن
وقال وقد سبق:
وجلا لنا وجه الغزالةِ وانثنى ... غضبانَ ملتفتاً بجيدِ غزالِ
وقال:
كالبدرِ في حاليْ سناهُ وسنهِ ... والظبي في لفتاتهِ ونفورهِ
وللرشيد النابلسي:
نافرٌ والنفورُ من شيمِ الغز ... لانِ لولا التفاتةٌ في الغزالِ
وقال زهير وهو من حر الكلام ورقيقه:

أأحبابنا ما ذا الرحيلُ الذي دنا ... لقد كنتُ منه دائماً أتخوفُ
هبوا ليَ قلباً إنْ رحلتم أطاعني ... فإني بقلبي ذلكَ اليومَ أعرفُ
ويا ليتَ عيني تعرفُ النومَ بعدَكم ... عساها بطيفٍ منكم تتآلفُ
قفوا زوّدوني إنْ مننتم بنظرةٍ ... تعلّلُ قلباً كادَ بالبينِ يتلفُ
تعالوا بنا نسرقُ من العمر ساعةً ... فنجني ثمارَ الوصلِ منها ونقطفُ
وإنْ كنتمُ تلقونَ في ذاكَ كلفةً ... ذروني أمتْ وجداً ولا تتكلفوا
وكم ليلةٍ بتنا على غيرِ ريبةٍ ... حبيبينِ ينهانا النهى والتعففُ
ظفرنا بما نهوى من الأنسِ وحده ... ولسنا إلى ما خلفهُ نتطرّفُ
وقال وهي من محاسن شعره:
أخذتُ عليه في الصيابةِ موثقاً ... وما زلتُ دهري من تجنيهِ مشفقا
ولي فيهِ قلبٌ بالغرامِ مقيدٌ ... له خبرٌ يرويهِ دمعيَ مطلقا
كلفتُ به أحوى الجفونِ مهفهفاً ... من الظبي أحلى أو من الغصنِ أرشقا
ومن فرطِ وجدي في لماهُ وثغرهِ ... أُعللُ قلبي بالعذيبِ وبالنّقا
ولي حاجةٌ من وصلها غيرَ أنها ... مردّدةٌ بين الصبابةِ والتّقى
خليليّ ماذا تعذلان عن امرئ ... تذكّرَ أياماً مضتْ فتشوّقا
فلا تحسبا قلبي كما قلتما سلا ... ولا تحسبا دمعي كما قلتُما رقى
فما زادَ ذاكَ القلبُ إلاّ تمادياً ... وما زادَ ذاكَ الدمعُ إلاّ تدفّقا
قوله:
أعلل قلبي بالعذيب وبالنّقا
متداول، وأول من استعمله فيما أظن البحتري في قوله:
فسقى الغضا والنّازليهِ وإنْ همُ ... شبّوهُ بين جوانحٍ وقلوبِ
وقد أحسن الزكي بن أبي الإصبع غاية الإحسان في قوله:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرتُ ما بين العذيب وبارقِ
ويذكرني من قدّها ومدامعي ... مجرَّ عوالينا ومجرى السوابقِ
وقال المحيي:
لما تراءى رشأ نافراً ... أسكنته من أضلعي المنحنى
ولابن الحلاوي:
يا أيها الرشأ الذي أسكنته ... من أضلعي بين الحمى والمنحنى
بعذيبِ ريقتهِ وبارقِ ثغرهِ ... أجدُ الطريقَ إلى المحبّةِ بيننا
ولابن النبيه:
الريقُ والثغرُ العذيبُ وبارقٌ ... وقباكَ مزرورٌ على نعمانِ
وقال زهير:
لحاظكَ أمضى من المرهفِ ... وريقكَ أشهى من القرقفِ
ومن سيفِ لحظكَ لا أتّقي ... ومن خمرِ ريقكَ لا أكتفي
أُقاسي المنونَ لنيلِ المنى ... فيا ليتَ هذا بهذا يفي
زها وردُ خديكَ لكنّه ... بغيرِ اللواحظِ لم يقطفِ
وقد زعموا أنّه مضعفٌ ... فيا لكَ من مضعفٍ مضعفِ
ملكتَ فهل ليَ من معتقٍ ... وجرتَ فهل ليَ من منصفِ
مددتُ إليكَ يدي سائلاً ... أُعيذكَ في الحبّ من موقفي
وحقّ حياتك إني امرؤٌ ... بغيرِ حياتكَ لم أحلفِ
وما ذاك إلاّ لتعظيمها ... كما يحلف الناس بالمصحفِ
لقد طابَ لي فيك مرّ الغرا ... مِ وإن صحَّ لي أنهُ متلفي
وأهوى رضاك وفيه الذي ... به يشتفي فيّ من يشتفي
وعنديَ عنديَ ذاك الوفاء ... سواءٌ وفيتَ وإنْ لم تفِ

عز الدين أبو الحسن بن شيخنا الرضي رضي الدين أبي الهيجا علي بن حسن بن منصور بن موسى الإربلي الأنصاري الأوسي، شاب يستوقف العيون حسنه، وشاعر أجاد وما بلغت الثلاثين سنه، له أشعار كالروضة تمج الندى، وقصائد أشهى إلى الأسماع من نغم الحدا، ومقاصد طابت جنًى وعذبت مورداً، رقيق حواشي الكلام، سهل العبارة، سلس النظام، لهج بالهوى فعذب شعره، وفارق حبيبه فرق نظمه ونثره، كان والده رضي الدين شيخنا، رحمه الله تعالى، أوحد زمانه وفريد عصره وأوانه، شيخ الأدب وفارسه، وموري زناد الفضل وقابسه، ومنشئ دوح العلم وغارسه، قد أتقن علم النحو والتصريف وعرف بهما معرفة لا يدخلها التنكير فيفتقر إلى التعريف، لحق جماعة من العلماء وقرأ عليهم وروى عليهم منهم: مجد الدين عمر العنسفي ومحب الدين أبو البقاء العكبري وزين الدين يحيى بن معط المغربي وتاج الدين أبو اليمن زيد ابن الحسن الكندي وعلم الدين أبو القاسم بن الموفق الأندلسي وموفق الدين يعيش بن علي بن يعيش الحلبي وغيرهم، رحمهم الله، وكان على ذهنه، رحمه الله، نحو كثير في الغاية، وكان شديد العناية بالإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، وحفظ المفصل للزمخشري وكرر عليه وقد نيف على الستين، وكانت رتبته في التصريف عالية في الغاية بحيث أني ما رأيت أحداً من النحاة الذين ترددوا إلى إربل حاوروه وبحثوا معه إلاّ ألقاهم إلى التصريف، وتوفي، رحمه الله، في شوال سنة تسع وأربعين وستمائة.
قال لي: يا فلان في هذه السنة أموت، فقلت: يعيذك الله ما أوجب هذا؟ قال: منذ عرفت نفسي كنت أشتغل بالأدب في السنة تسعة أشهر وأتفرغ في شهر رجب وشعبان ورمضان للتكرار على الكتاب العزيز وهذه السنة ما لي همة إلاّ في القرآن المجيد، وكان يعمر داراً فقلت: هذا القول مناقض لهذا الفعل، فقال: هذه تربة أُدفن فيها، فقلت: هلا تقفها، فقال: أضيّق على أولادي بل يدفنوني فيها فإذا ضجروا مني أخرجوني وانتفعوا بها فجرى الأمر على ما قال، رحمه الله، لم يخرم حرفاً واحداً، ويوم موته كان في داره طير راعبي فلما غُسل ألقى الطير نفسه في ماء الغسل وما زال يضرب بنفسه ورأسه في الماء إلى أن مات وشاهده جماعة. قرأت عليه اللمع لابن جنّي وقطعة صالحة في الإيضاح، وأجاز لي أن أروي عنه مشايخه كلما قرأته عليهم ورواه عنهم بشروطه.
الحديث ذو شجون. نعود إلى شعر ولده عز الدين فمن ذلك قوله:
كم قد بعثتُ رسولاً ... فخانَ فيكَ الرسولُ
عندي إذا ما التقينا ... حديثُ وجدٍ يطولُ
من منصفي من عزيزٍ ... ما لي إليه وصولُ
القدُّ منه رشيقٌ ... والطرفُ منه كحيلُ
منه تعلّم غصن الأ ... راك كيف يميلُ
شمائل مائسات ... تميلهن الشمولُ
يسلُّ من مقلتيه ... ماضي الغرار صقيلُ
الصبر عنه قبيح ... والوجه منه جميلُ
ليلي وقد صدّ عني ... كالفرع منه طويلُ
أقول: إن للشعراء في طول الليل معاني لطيفة ومقاصد شريفة وشكاوى من طوله وقصره وتظلمات من امتداد أمده ومن عثرة عشائه بسحره، وها أنا أذكر ما يخطر من ذلك منفرداً وما يجيء في أثناء المجموع فله سبيل آخر. قال امرؤ القيس:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولهُ ... عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
فيا لكَ من ليلٍ كأنَّ نجومهُ ... بكلِّ مغارِ الفتلِ شدتْ بيذبلِ
فقلتُ له لمَّا تمطَّى بصلبهِ ... وأردفَ أعجازاً وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي ... بصبحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
فهذه الأبيات في غاية الحسن والمبالغة في طول الليل ولولا الاكتفاء بما قاله الأوائل في تقرير معانيها لأطلت في ذكرها ولكن الغرض في هذا المختصر لا يتعلق بهذا.
وقال النابغة:
كليني لهمٍّ يا أميمةُ ناصبِ ... وليلٍ أُعانيهِ بطيء الكواكبِ
وقال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
كلّما قلتُ ظلامٌ قد مضى ... عطفَ الأولُ منه فرجعْ
وأخذ بعض العرب قول امرئ القيس، فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبحٍ وما الإصباح منك بأروحِ
على أنّ للمعيين في الصبح راحةً ... بطرحهما طرفيهما كلّ مطرحِ
وقال آخر:

ليلٌ تحيَّر ما ينحطّ في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكولُ
وقال العباس بن الأحنف:
أيها الراقدونَ حولي أعينو ... ني على الليلِ حسبةً واتجارا
حدثوني عن النهارِ حديثاً ... أوْ صفوهُ فقدْ نسيتُ النهارا
وقال المتنبي، وأجاد:
بئس الليالي سهرتُ من طربٍ ... شوقاً إلى منْ يبيتُ يرقدُها
أحييتُها والدموعُ تنجدني ... شؤونها والظلامُ ينجدُها
وقد جاء به ثقيلاً في الغاية في قوله:
أُحادٌ أمْ سداسٌ في أحادٍ ... لُييلتنا المنوطةُ بالتّنادِ
وقال سيدوك الواسطي:
عهدي بنا ورداءُ الوصلِ يجمعنا ... والليل أطولهُ كاللمحِ بالبصرِ
فالآن ليلَ مذ غابوا فديتهمُ ... ليلُ الضريرِ فصبحي غير منتظرِ
أنشدني السعيد تاج الدين، رحمه الله:
الليلُ إنْ هجرتْ كالليل إنْ وصلتْ ... أشكو من الطولِ ما أشكو من القصرِ
وأنشدني بعض أصحابنا:
من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطولِ
عدوّ عينيك وما فيهما ... أصبحَ مشغولاً بمشغولِ
وقال الشريف البياضي:
الليل من سهري عليّ نهارُ ... يزداد طولاً والجفونُ قصارُ
أرعى نجوماً لا تغيبُ كأنّما ... أفلاكها وقفتْ فليسَ تُدارُ
وقال البحراني:
أما لهذا الليل من آخرِ ... قد بلغ التسهيد من ناظرِ
بتّ وما أعرف طيب الكرى ... ما أطولَ الليل على الساهرِ
جحظة البرمكي:
وليل في كواكبه حران ... فليسَ لطولِ مدَّتهِ انقضاءُ
عدمتُ محاسنَ الإصباحِ فيه ... كأنَّ الصبحَ جودٌ أو وفاءُ
ابن الرومي:
ربّ ليلٍ كأنهُ الدهرُ طولاً ... قد تناهى فليس فيه مزيدُ
ذي نجومٍ كأنهنّ نجومُ الشي ... ب ليستْ تزولُ لكنْ تزيدُ
العسكري:
غابوا فلم أدرِ ما أُلاقي ... مسّ من الوجد أو جنونُ
ليليَ لا يبتغي براحاً ... كأنه أدهمَ حرونُ
أُجيلُ في صفحتيه عيناً ... ما تتلاقى لها جفونُ
ابن طباطبا العلوي:
كأنّ نجومَ الليلِ سارتْ نهارها ... ووافت عشاءً وهي أنضاء أسفارِ
فخيّمن حتى تستريح ركابُها ... ولا فلكٌ جارٍ ولا كوكبٌ سارِ
آخر:
يا ليلة طالت على عاشقٍ ... منتظرٍ للصبح ميعادا
كادت تكون الحول في طولها ... إذا مضى أولها عادا
وفي قصر الليل:
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحرِ
تطول في هجرنا وتقتصر في ... الوصل فما نلتقي على قدرِ
المجد بن الظهير الحنفي الإربلي:
فأنالني كل المنى بزيارةٍ ... كانت مخالسةً كخطفةِ طائرِ
فلو استطعتُ إذا خلعتُ على الدجى ... لتطول ليلتنا سواد الناظرِ
أخذه من المعري حيث قال:
يودُّ أنَّ سوادَ الليلِ دامَ لهُ ... وزيدَ فيه سوادُ القلبِ والبصرِ
إبراهيم بن العباس:
وليلةٍ من الليالي الزهرِ ... قابلت فيها بدرها ببدري
لم يكُ غير شفقٍ وفجرِ ... حتى تولت وهي بكرُ الدهرِ
كشاجم:
وليلةٍ فيها قصرْ ... عشاؤها مع السحرْ
محمد بن يزيد:
لله ليلتنا بجوّ سويقة ... والعيش غضّ والزمان غريرُ
طابت فقصّر طيبها أيامها ... فكأنما فيها السنونُ شهورُ
وقال آخر:
أرى قصراً في الليلِ حتى كأنما ... أوائلهُ مما تداني أواخرُه
وللبغاددة من المواليا في هذا الباب أشياء حسنة منها:
بطول ليل القيامة كان ليل الهجر ... من يسهره يغتنم عندي عظيم الأجر
وليلة الوصل يزجرها التفرق زجر ... من قبل ما تذن المغرب يلوح الفجر
ولهم مما يقارب هذا المعنى:
قد اعتذر ركوب الصبح الذي فرّق ... ما بيننا ولعينو في السما درّق
وقال حبك بدا ثوب الدجى حرّق ... طلعتُ أنا وحسبت الصبح شرق
ولهم:
أيام هجرك يكون الليل مد يدي ... وفي وصالك حبابو كان مد يدي
وكوكب الصبح من بعد العشا عيدي ... خلا وصالك فرح ساعة وهو عيدي
وقال عز الدين أبو علي:
برق تبدّى للعين أم نار ... ذاعت به للغرام أسرارُ

أم بارق الثغر لاحَ مبتسما ... فدمع عيني عليه مدرارُ
وبي رشيق القوام ناظره ... لقلبي المستهام سحّارُ
في خده روضة لناظره ... وفي الثنايا العذاب خمّارُ
أسمر حلو الدلال معتدل ... أخبار وجدي عليه أسمارُ
أنواره بالجمال مشرقة ... يزيدها في الخدود نوارُ
ينكر قلبي في الحب ناظره ... ومن دمي في الخدود آثار
يخطر في مشيةٍ ولا عجب ... إنني للفتك خطارُ
قضيتُ وجداً في حب معتدل ... لم تقضَ لي في هواه أوطارُ
وقال أيضاً:
أترى تعلم أني ... بك صبّ مستهام
خانني في حبك الص ... برُ وأضناني الغرام
لي جفن قد جفاه ... مذ تجافيت المنام
ومحبّ أظهر الوجد ... فأخفاه السقام
أيها البدر الذي ... يشبهه البدر التمام
وجهه المشرق والشع ... ر ضياء وظلام
ورضاه وتجافيه ... حياة وحِمام
من ثناياه حِباب ... ومن الريق المدام
فعلى صبري ونومي ... ما تجافاني السلام
وبلائي منه خدّ ... ولحاظ وقوام
سيدي في القلب من هج ... رك والبعد ضرام
وقال أيضاً:
سلَّ سيفاً من لحظه البابليّ ... وتثنّى تثنيَ السمهريّ
خائن العهد لا يراعي ذماماً ... في هواهُ لمستهامٍ ونيّ
ظلتُ أذري سحب المدامع لما ... عنّ برق من ثغره اللؤلؤيّ
يا خليّاً من الصبابةِ والأشوا ... قِ رفقاً بمستهام شجيّ
بات يشكو الظما وقد أوجد ال ... سريّ برشفٍ من ريقك البابليّ
قتلته لواحظ فاترات ... هي أمضى حدّاً من المشرفيّ
ورمته بأسهم قاتلات ... عن حنايا حواجب كالقسيّ
وقوام متى انثنى من دلالِ ال ... تيهِ أزرى بالذابل الخطيّ
وقال:
سل عن فؤادي ما لقي ... من الأسى والحُرقِ
وعن جفون شفّها ... فرط البكا والأرقِ
من منصفي من جائرٍ ... في حكمه معشّقِ
ذي غرّة تجلو الدجى ... وطرّةٍ كالغسقِ
له محيا نوره ... يخجل بدر الأفقِ
من لي بسحار الجفو ... ن أهيف مقرطقِ
مرّ الجفا حلو الجنى ... عذب اللمى والمنطق
لولا فتور جفنه ... وشقوتي لم أعشقِ
كم ليلة بات بها ... فديته معتنقي
حتى بدا كوجهه ... نور الصباح المشرق
ملكت يا كلّ المنى ... هوى القلوب فارفقِ
فقد سئمت في الهوى ... من شملنا المفرّقِ
يفديك صبُّ قد أصي ... ب بسهام الحدقِ
ذو مقلةٍ عبرى علي ... ك وفؤاد شيّقِ
مصطبح بوجهه ... طول المدى مغتبقِ
يهمي سحابُ جفنه ... إنْ عنَّ برق الأبرقِ
يا من لصبّ في الهوى ... حمّل ما لم يطقِ
وقال أيضاً:
حبك أضحى قاتلي ... فما على عواذلي
قد بذلوا نصحهم ... منّي لغير قابلِ
يا للهوى من شادن ... أهواه وهو قاتلي
بدر غدا قلبي له ... من أشرف المنازلِ
أسيل خدّ غادر الص ... بّ بدمع سائلِ
له قوام ناضر ... كالسمهري الذابل
تضمّنت أجفانه ال ... مرضى بسحرٍ بابلي
بلبل صدغيه فزا ... دت في الهوى بلابلي
وقال أيضاً:
متيمٌ أنتم له عُددُ ... قد خانه في هواكم الجلدُ
قد انقضى عمره بحبكم ... والهجر ما ينقضي له أمدُ
يخذله صبره فينجده ... جفنٌ له دموعه مددُ
يهيم شوقاً في حبّ معتدلٍ ... يطيب فيه الغرامُ والكمدُ
قوامه صعدةٌ وناظره ... سيفٌ صقيلٌ وصدغهُ زردُ
بخدّه جنة مزخرفة ... بها مياه الجمال تطردُ
أشكو إليه قتلي فينكره ... وخده شاهدٌ بما أجدُ
يجول في وجنتيه ماء حيا ... نارُ اشتياقي عليه تتقدُ
وقال، وهي سهلة رقيقة:
ريم رمى قلبي فأقصد مقتله ... بسهام جفن فاترٍ ما أقتله
وسنان حرّم وصله ولقاءه ... وأباح قتل العاشقين وحلله
رشأ له بين الجوانح مرتع ... بدر له قلبي وطرفي منزله
أوضحت عذري في الغرام بحبه ... لكن قضايا الصبر عنه مشكله

يا عاذلي لا تلحني في حبه ... فاللوم فيه وحقه لن أقبله
لم أنسهُ كالبدر ليلة زارني ... فضممته ولثمت منه مقبله
يا من أطاع الصب فيه غرامه ... وعصى لوائمه عليه وعذّله
ما بال أدمعي التي أطلقتها ... تمسي وتصبح في الخدود مسلسله
أول شعر سمعته على هذا الروي لابن التلعفري حيث يقول:
هذا العذول عليكم مالي ولهْ ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الولهْ
شرط المحبة أنَّ كل متيم ... صبّ يطيع هواه يعصي عذلهْ
فارقتموني حين سار بحبكم ... مثلي ومثلي سره لن يبذلهْ
يا سائلي عن حالتي من بعدهم ... ترك الجواب جواب هذي المسألهْ
خبري إذا حدّثت لا لمعاً ولا ... جملاً لإيضاحي لها أن تكملهْ
عندي جوى يذر الفصيح مبلداً ... فاترك مفصله ودونك مجملهْ
القلبُ ليس من الصحاح فيرتجى ... إصلاحه والعينُ سحب مثقلهْ
يا راحلين وفي أكلّةِ عيسهم ... رشأ عليه حشا المحبِّ مُقلقلهْ
قمر له في القلب بل في الطرف بل ... في النثرة الحصداء أشرف منزلهْ
في الصدغ منه عقرب ولحاظه ... أسدٌ وخلف الظهر منه سنبلهْ
الأبيات الأولى أسلس وأجرى، وأجدر بالاستحسان وأحرى، وقائلها فيها أرق طبعاً وأعرف بمحاسن الكلام وقعاً وأبعد عن الكلفة أصلاً وفرعاً.
وقد أحسن الباخرزي في قوله:
أطلعتَ يا قمري على بصري ... وجهاً شغلتَ بحسنهِ نظري
ونزلتَ في قلبي ولا عجبٌ ... القلبُ بعضُ منازلِ القمرِ
وقد تقدم أمثال هذا، وأما قوله:
في الصدغ منه عقرب
فقريب، وذكر عوض البروج أشكال الرمل ابن مطروح، وقد أجاد ما شاء:
رأيت بخديه بياضاً وحمرةً ... فقلت إلى البشرى اجتماع تولدا
وهي أبيات حسنة ومنها:
ولما وردنا ماء مدين حبه ... وجدنا عليه أمةً تشتكي الصدى
فقلت لعذالي عليه تنبهوا ... فقد لاح طور الحسن فاستمعوا الندا
ومثل قوله:
طور الحسن
قول الآخر، وزاد عليه:
عجباً كيف نمتَ عني وأضحى ... مسهري في الهوى العذار الرقيمُ
وثناك الدلال عن مستهامٍ ... لك يا ظبي من حشاه صريمُ
لم أؤاخذك في الملاحة إلاّ ... وفؤادي طورٌ وقلبي كليمُ
ولي من أبيات:
أيا ربَّ حسنٍ قد تعالى ملاحةً ... خليلك قد أضحى كليماً من الصدِّ
ولابن قلاقس أبيات حسنة تلم بهذه المعاني، وهي:
ما ضرَّ ذاك الريم أن لا يريم ... لو كان يرثي لسليم سليم
وما على من وصله جنة ... أن لا أرى من صدّه في جحيم
رقيم خدٍّ نام عن ساهرٍ ... ما أجدر النومَ بأهل الرقيم
وكيف لا يصرم ظبي وقد ... سمعتُ في النسبة ظبي الصريم
وعاذلٍ دام ودام الدجى ... بهيمةٌ نادمتها في بهيم
قلتُ له لما عدا طوره ... والقلب مني في العذاب الأليم
رفقاً بقلبي إنني شاعرٌ ... من حبه في كلّ وادٍ يهيم
وعلى هذا الوزن والروي لآخر:
أيّ غزال عنّ أم أيّ ريم ... يرتع ما بين النقا والصريم
ظبي من الأعراب لكنه ... لا يعرف الشيحَ ورعي الجميم
معقرب الأصداغ ملويها ... سليمهُ في الحب غير السليم
يسألني عما ألاقي به ... وهو بما ألقاه عين العليم
يسطو على ذُلي وضعفي معاً ... بحسن لحظ وبلفظ رخيم
ذا فاتك عضبٌ وذا فاتن ... عذب صحيح ذا وهذا سقيم
وقلت:
أرقني هجر غزال الصريم ... فبتّ إذ بتّ بليل السليم
وكيف لا يجفو الكرى عاشق ... تيّمه ذاك القوام القويم
ولي غريم هو مع هجره ... وما أعاني منه نعم الغريم
يميل عن وصلي ويبدي الجفا ... ومذهبي في حبه مستقيم
فعدِّ عن عذلي فما جاهل ... بالحال يا عاذل مثل العليم
لو لم يكن حكم الهوى قاهراً ... ما لعب الوجد برأي الحكيم
ومثل بيت ابن مطروح قول القائل، وقصر عنه:
تعلمت ضرب الرمل لما هجرتم ... لعلي أرى فيه دليلاً على الوصلِ
ورغبني فيه بياضٌ وحمرةٌ ... رأيتهما في وجنةٍ سلبت عقلي
وقالوا طريق قلت يا رب للرضى ... وقالوا اجتماع قلت يا رب للشملِ

وقد صرت فيكم مثل مجنون عامرٍ ... فلا تنكروا أني أخطُّ على الرملِ
أحسن من البيت الآخر قول القائل:
فمالي أنا المجنون فيه وشعره ... إذا مرَّ بالكثبان خطَّ على الرَّملِ
وللبغاددة مواليا:
وقد كان شكلك نقي الخدّ وسنان ... خلفك جماعة وقبضك داخل الدكان
أصبحت كوسج بلا حمرة بياضك بان ... ذي نصرة خارجة قد جاك الحيان
وقال عز الدين أبو علي:
عساه يرقّ للكلف المعنّى ... ويرحم من غدا بهواه مضنى
ويحنو بالوصال على محبّ ... قضى أيامه وجداً وحزنا
أقام قيامتي وثنى اصطباري ... رشيق قوامهِ لما تثنّى
أيا بدراً غدا قلبي وطرفي ... له سكناً ومنزلةً ومغنى
يريك من اللواحظ مشرفياً ... وإن هزَّ القوام أراك لدنا
بروضةِ وجنتيه جنيّ وردٍ ... حمته ظبى اللحاظ فليس يجنى
تخذتُ الوجدَ فنّا فيك لما ... تخذتَ الصدَّ والهجران فنّا
وقال أيضاً:
قف بنجدٍ وحيّ إن جئت نجدا ... معهداً لم أضع لمن فيه عهدا
وتحمّل تحيّةً من محبّ ... وجد الغيّ في الصبابة رشدا
وبروحي أفدي بديع جمالٍ ... يتثنى فيخجل الغصن قدّا
يفضح البدرَ والأراكةَ والور ... دَ محيّاً ولين عطفٍ وخدّا
ليس لي عن هواه ثانٍ وقد ... أصبح في الحسن والملاحة فردا
في الثنايا العذاب منه رُضاب ... خصرٌ يكسبُ الجوانحَ وقدا
قوله:
أضرم الحسن نارَه فوق خديه
أخذه مني حيث قلت:
عاتبتني فجال ماء الحيا في ... وجنتها فزاد حرّاً ووقدا
ثم ألقت في ناره أسود الخال ... فكانت له سلاماً وبردا
وأنا أخذته من ابن عنين حيث قال من أبيات أذكرها، وهي:
خبّروها بأنه ما تصدَّى ... لسلوٍّ عنها ولو ملت صدَّا
واسألوها في زورةٍ من خيالٍ ... إنْ تكنْ لم تجدْ من الهجرِ بدَّا
عنَّفتْ طيفَها على ظنِّها أنَّ ... خيالاً منها إلينا تعدَّى
كذبتْها ظنونُها لا الكرى زا ... ر جفوني ولا الخيالُ تهدَّى
ظبيةٌ تُخجلُ الغزالةَ وجهاً ... وبهاءً وتفضحُ الغصنَ قدَّا
وأماطتْ لثامها بأسار ... يع حقوفٍ عن مستنيرٍ مفدَّى
وذكتْ نارهُ على عنبرِ الخا ... لِ فكانتْ له سلاماً ويردا
وقال عز الدين أبو علي:
يا ظبيَ أُنسٍ قدْ بدا ... عن المحبِّ نافرا
وراقداً غادرَ جف ... ني في هواه ساهرا
يهزُّ قدّاً ذابلاً ... يحكي قضيباً ناضرا
معتدلٌ قوامهُ ... أضحى عليَّ جائرا
قلبي كماءِ الحسنِ في خ ... ديهِ أضحى حائرا
وقد أحسن ابن منير الطرابلسي، وإن لم يذكر حيرة الماء في خديه، حيث يقول:
بحقِّ من زانَ بالدجى فلق الص ... بحِ على الرمحِ أنه قسمُ
وقال للماء قف بوجنته ... فمازجِ النارَ وهي تضطرمُ
هل قلت للطيف لا يعاودني ... بعدك أم قد وفى لك الحلمُ
والثاني أردت، وهذه أبيات في غاية الحسن والجودة وقد حاز الطرابلسي بها قصب السبق وأبرزها سوية الخلق وأنا أذكر منها ما يخطر:
أحلى الهوى ما تحلّه التهم ... باح به العاشقون أم كتموا
أغرى المحبين بالأحبة فال ... عذل كلامٌ أسماؤهُ كلمُ
بالله يا هاجري بلا سببٍ ... إلاّ لقال الوشاة أو زعموا
تتلوه الأبيات المتقدمة وبعدها:
أم قلتَ لليل طل فافرط في ال ... طاعةِ حتى إصباحه ظلمُ
يا قمراً أصبحت ملاحته ... تنهب ألبابنا وتقتسمُ
فيك معانٍ لو أنها جمعت ... في الشمس لم يغش نورها الظلمُ
تمشي فيودي القضيب من أسف ... ويكسف البدر حين تبتسمُ
ويخجل الراح منك أربعةٌ ... خدُّ ونشرٌ وريقةٌ وفمُ
ومنها:
يا ربّ خذ لي من الوشاة إذا ... قاموا وقمنا لديك نحتكم
سعوا بنا لا سعت بهم قدم ... فلا لنا أصلحوا ولا لهمُ
ضرّوا بهجراننا وما انتفعوا ... وبددوا شملنا وما التأموا
فأينَ كان المموهون وقد ... وحّدَ قلبي هواك قبلهمُ
وقال عز الدين أبو علي:
يا أيها البدر يا من ... بالقلب والطرف حلاّ

ومن غدا ببديع ... من المعاني محلّى
رفقاً بصبٍّ كئيب ... للهمِّ أضحى محلاّ
حرّمت طيب التلاقي ... والهجر غادرتَ حِلاّ
وكنتَ أعددت صبري ... ذخيرةً فاضمحلاّ
وقال:
زادتْ ملاحته وقلَّ نظيره ... رشأ حكاه من القضيب نضيرهُ
أطلقت دمعي في هواه صبابةً ... لكن قلبي المستهام أسيرهُ
أبداً يجور فما عليه فديته ... لو كان يرحم عاشقاً ويجيرهُ
ريم وما للريم لفتة طرفه ... بدرٌ وما للبدر حسناً نورهُ
أحوى يميل من الدلال وطرفه ال ... وسنان منه ما أجنّ ضميرهُ
ربّ الجمال له القلوب مطيعةٌ ... ونبيّ حسن والعذار نذيرهُ
دانت لطاعته القلوب وصدّقت ... لما أتاها بالجمال بشيرهُ
يا بدر رفقاً في هواك بمغرم ... النجم من شوق إليك سميرهُ
الصبر فيك عصى عليّ قليلهُ ... والدمع أذعن من جفاك كثيرهُ
بالله رقّ لعاشقٍ بك مغرم ... كثرت لواحيه وقلّ نصيرهُ
لله صبّ بات يخفي وجده ... والدمع يظهر ما يجنّ ضميرهُ
فبقلبه نارٌ يشبّ ضرامها ... وبجفنه دمع يسحّ مطيرهُ
وقال في مغنيةٍ اسمها شجر:
وبي ظبية أدماء ناعمة الصبا ... تحار الظباء الغيد من لفتاتها
أعانقُ غصنَ البانِ من لينِ قدّها ... وأجني جنيّ الوردِ من وجناتها
ويطربني إنْ حدّثت رجع قولها ... وأرشفُ كأس الراح من رشفاتها
وما شجر إلاّ الأماني لأنني ... جنيت ثمار اللهو من عذباتها
وقال من قصيدة يمدح بها الصاحب الأعظم علاء الدين صاحب الديوان عزّ نصره:
تثنّي قوامك يا أسمرُ ... به يوصف الذابل الأسمرُ
ونور محيّاك يا منيتي ... به يشرق القمر النيّرُ
تعشقته ناعس المقلتين ... به جفن عاشقه يسهرُ
وبي أسمرٌ فاتر جفنه ... به نار شوقيَ لا تفترُ
قضيبٌ تحلّى بحلي الجمال ... ولكنه بالأسى مثمرُ
هلال له منزل في القلوب ... بغير الصبابة لا يعمرُ
يطوف علينا بمشمولةٍ ... وألحاظه قبلها تسكرُ
فمن راحتيه كؤوس المدام ... تدارُ ومن خدّه تُعصرُ
ويبسم عن واضح كالجمانِ ... وعن مثل بدر الدجى يسفرُ
بوجنته جنّة زخرفت ... يردّ لماه بها الكوثرُ
رعى الله عيشاً مضى أبيضاً ... وعودُ الوصال به أخضرُ
وجادك يا طيب أيّامنا ... بسفح اللّوى عارضٌ ممطرُ
ذكرت بقوله:
تعشقته ناعس المقلتين
أبياتاً أنشدنيها أحد أولاد ابن سناء الملك، وصل إلى إربل وكان له ثروة ظاهرة ونعمة تامة وقال: إنها لجده القاضي الشاعر:
تعشقته ناعس المقلتين ... تنمّ على أنه لم ينمْ
وهمت به أسمر المرشفين ... عليه اللمى وعليه اللممْ
فسيف مقبله لا يشام ... وورد بوجنته لا يشمْ
أعاذلي فيه لما رآه ... لئن كنت أعمى فإني أصمْ
فهبك أبا ذرّ هذا الحديث ... وهبني أبا جهل هذا الصنمْ
وأما قوله:
رعى الله عيشاً مضى أبيضاً
فالناس فيه عيال على صاحب المقامات في قوله: فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازورّ المحبوب الأصفر، اسودَّ يومي الأبيض وابيضَّ فودي الأسود حتى رثى لي العدو الأزرق فيا حبذا الموت الأحمر.
فأما الشعر فأذكر منه ما يخطر، قال الطغرائي:
يحمون بالبيضِ والسمرِ اللدان معاً ... سودَ الغدائرِ حمرَ الحلي والحللِ
ولابن الساعاتي:
زهر الحجى سمر القنا سود الوغى ... خضر الحمى بيض الدمى حمر النعم
من كلِ ظبيٍ دونه ليثُ شرىً ... ليسَ له غيرُ قنا الخطِّ أجم
وبيت الحماسة مشهور:
بسود نواصيها وحمر أكفّها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها
وللمحيي، رحمه الله، من موشحةٍ:
أسمر في الجفن منه أبيض ... أحمر دمعي به بريقُ
عرّضني للضنا وأعرض ... فها أنا منه لا أفيقُ
وأنشدني بعضهم، وهي من باب المديح:
طالما قلت للمسائلِ عنهم ... واعتمادي هداية الضُّلاّلِ
إن ترد كشف حالهم عن يقينٍ ... فألقهم في منازل أو نزالِ

تلقَ بيضَ الأعراض سود مثا ... رِ النقع خضر الأكتاف حمر النصالِ
ومثله:
وتملك العلياء بالسعي الذي ... أغناك عن متعالي الأنسابِ
بسواد نقع واحمرار صوارمٍ ... وبياض عرض واخضرار جنابِ
والأولى أحسن نظاماً وأسلس كلاماً وأبعد عن الكلفة مستقرّاً ومقاما. وقال عزّ الدين أبو علي:
غانيةٌ في القلوب مغناها ... يشتاقها ناظري ويهواها
قريبةٌ وهي عنك نازحةٌ ... بعيدةٌ في الفوائد مأواها
غريبة في الجمال مبدعةٌ ... لو منِّيَ الحسنُ ما تعدّاها
فالغصنُ يحكي انثناء قامتها ... والدرُّ يثني على ثناياها
والخمرُ ما ودعته ريقتها ... والوردُ ما أبدعته خدّاها
فللقنا والغصون قامتها ... وفي الظبى والظباء عيناها
أصبح جسمي غداة فرقتها ... وخصرها في السقام أشباها
وكيف لا تنثني شمائلها ... سكراً ومن ريقها حميّاها
أضمرُ في القلب سلوة فإذا ... راجعت عقلي استغفر الله
وقال من قصيدة يمدح بها المخدوم علاء الدين صاحب الديوان عزت أنصاره:
وكّلت النفس بأشجانها ... وواصلت لكن بهجرانها
غريبةُ الحسن لها مقلة ... تنبّه الوجد بوسنانها
تفعل في العشاق أجفانها ... ما تفعل الخمر بندمانها
في وجنتيها جنّة زخرفتْ ... طوبى لمن فاز برضوانها
مرّت بنا من أرضها نفحةٌ ... تروي حديث الطيب عن بانها
في طيّها نشرٌ فهمنا به ... ما نقلت عن طيب أردانها
روضة حسن أبدعت بالأسى ... فنونه تبدو بأفنانها
فثغرها يبسم عن نورها ... وقدّها يزهو كأغصانها
في فمها صهباءُ مشمولةٌ ... لا يهتدي الريّ لظمآنها
ما ضرّها لو قابلتْ حسنَ ... محيّاها بإحسانها
حازت معاني الحسن طرّاً كما ... حاز العلى صاحب ديوانها
بدر الدين يوسف الدمشقي، كهل حسن الأخلاق ظريفها وشاعر بديع المقاصد لطيفها، له شعر كالرياض تفتح زهرها وفاح رباها وتضوّع نشرها بطيب شذاها، ووجوه الغيد تروق القلوب والأبصار، وكطلعة الغنى بعد الإعسار والإقتار كلما أنشدت أجدّت مسرّة وأهدت إلى القلوب قراراً وإلى العين قرة، تطرب الأسماع لبدائعها وتنتظم المسرة بفواصلها ومقاطعها، رأيته واجتمعت به، وكان له مهاجرة إلى إربل ومدائح في المرحوم تاج الدين، وكان واقف البديهة لا يكاد يعمل البيت الواحد إلاّ بعد الفكرة التامة والتروي البالغ فإذا أعطى الفكرة حقها والتروي غايته جاء بما يبذ به أبناء عصره ويفوق به أبناء دهره. فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها المرحوم تاج الدين، رحمه الله:
عوجا يمين الجزع بالعيس عسى ... نريحهنَّ فالظلام قد عسا
يقول فيها وقد أجاد:
بيض وسمر كتمت حدوجها ... منها ظباءً أو غصوناً ميّسا
جفونها سلبن سقمي والكرى ... لذاك قد أضحت مراضاً نعّسا
فخذ يمين الحي بالميت الذي ... ما غادرت فيه الغواني نفسا
صبّ إذا ما نسمة الغور صبتْ ... عاوده برح الهوى فانتكسا
فداويا بنفحةِ البان جوى ... متيّم من برئه قد يئسا
وعلِّلا حشاشةً عليلةً ... قد عافها الآسي وعفّاها الأسى
وعدتماني يا خليلي بأن ... تعرّجا على النقا وتحبسا
وقلتما صبحيَ حيّ بعدهم ... لو كان حيّاً بعدهم تنفسا
قوله:
جفونها سلبن سقمي والكرى
فيه نظر لأنها إذا سلبت سقمه فقد صح، وقد أخذه من ابن القيسراني الحلبي وزاد عليه في قوله:
سلب العيونَ نعاسها ... فلذا تراه الدهر ناعس
ومثل بيت ابن القيسراني وأظنه له أيضاً:
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن
وقال البدر أيضاً:
أبدى حمام الأيك شجواً فناحْ ... ولم يطق كتمانَ وجدٍ فباحْ
أعربَ عن أشجانه سحرةً ... فصاحَ عن ألحان شوقٍ فصاحْ
أليس أني قد كتمت الذي ... ما بيَ من سكرِ هوى وهو صاحْ
ومنها:
أشكو تباريحي إلى من غدا ... من طرفهِ والقدّ شاكي السلاحْ
راضيته من بعد سخطٍ به ... ورضته من بعد طول الجماحْ

فزارني والليل من شهبهِ ... غفلٌ على غفلةِ واشٍ ولاحْ
يبيحني من وجهه روضةً ... ما كانَ في ظنّي بها أن تباحْ
الخدّ قد أطلع ورداً بها ... والثغرُ قد فتّح فيها أقاحْ
وقال:
ما أهملت سحب الدموع الهمّل ... لك منزلاً بينَ الدخولِ فحوملِ
رحلوا بقلب المستهام وغادروا ... بين الضلوع لواعجاً لم ترحلِ
ولقد سبقتُ حداتهم بمدامعي ... حتى جعلت قطارها في الأولِ
ومنها:
فاعذر دموع العين فهي بكيّةٌ ... مما بكت بين الرسوم المثّلِ
وتقسّمتْ عبراتها فرقاً على ... نأي الحبيب ونوء ذاك المنزلِ
ومهفهف يسبيك من أصداغه ... بمسلسلٍ ومن الرضاب بسلسلِ
وقال، وهي مليحةٌ في الغاية ومدحني بها:
لولا غرامك بالألحاظ والمقلِ ... وبالقدود التي تسبيك بالميلِ
ما بتّ ترعى السُّهى شوقاً إلى قمرٍ ... بالقلب لا الطرف ثاوٍ غير منتقلِ
والعيس تحت حدوج الغيد غاديةٌ ... تشكو الكلال من الأحداج والكلل
وقد تغنّى لها الحادي فأطربها ... وهناً على هضبات الرمل بالرملِ
يحملن كل هضيم الكشح ذي هيفٍ ... وكل أحوى رشيق القدّ معتدلِ
إذا سطا قلت شبلٌ من بني أسدٍ ... وإن رنا قلت رامٍ من بني ثعلِ
أبادني طرفه قبل العذول فقل ... تُ السبق للسيف ليس السبق للعذلِ
فعدّ يا صاح عن دمع الكئيب فما ... أطلّه اليوم ما يهمي على طللِ
واستعطف الريح من واد الأراك فقد ... ضنّت على الصبّ بالإبلال والبللِ
قال الفقير إلى رحمة الله تعالى مؤلف هذه الأشعار وجامعها وها أنا أذكر ما سمحت به القريحة من الغزل في أيام الحداثة وزمن الصبا جرياً على عادتي في التنبيه على المواضع التي أخذت منها كما اعتمدت مع الجماعة فمن ذلك قولي:
ما أنجدَ الصبرُ على ... أحبابِ قلبٍ أتهموا
ولا غدتْ عادلة ... يدُ النوى مذ ظلموا
حكمتهم في مهجتي ... فأسرفوا إذ حكموا
فذاب جسمي أسفاً ... وسالَ من عيني دمُ
وشادن من جفنه ... يهدي إليَّ السّقمُ
يلذّ لي في حبه ... تهتكي والتهمُ
أصلُ بلائي في الهوى ... قدٌّ وخدٌّ وفمُ
وصبحُ وجهٍ مشرقٍ ... عليه ليلٌ مظلمُ
ودرّ ثغرٍ عقدهُ ... ملتئمٌ منتظمُ
لا وليال سلفت ... وهي لعمري قسمُ
لا حلتُ عن وجدٍ به ... جرى عليّ القلمُ
هذه أبيات معانيها متداولة وألفاظها مستعملة ومطلعها فيه تخييل غريب وله من الحسن حظ وافر ونصيب.
وقلت من قصيدة في الصاحب الأعظم علاء الدين عز نصره:
قوامك أم غصن من البان ينثني ... وطلعةُ بدر أم سنا وجهك السني
وريقك أمْ خمرٌ يلذّ لشارب ... ونبت عذار نمّ أم نبت سوسنِ
أيا قمراً أثرى من الحسن وجهه ... فاحسبه قد فاز منه بمعدنِ
ظمئتُ إلى ورد بفيه ممنّعٍ ... وملت إلى ورد بوجنته جني
يلوم على حبيه خالٍ من الهوى ... واضرب عمن لام فيه كأنني
وكيف وقد لاح العذار بخده ... أقوم بعذرٍ في تسلية بيّنِ
البيت الثالث سبق محيي الدين إليه وما كنت سمعته حيث قال:
يا موسراً من كل صنفِ ملاحةٍ ... أترى ظفرت من الجمال بمعدن
وأما:
فاضرب عمّن لام فيه كأنني
فهو مثل قول ابن مطروح:
وهواك ما خطر السلوّ بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
وهي أبيات حسنة أولها:
عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غصناً رطيباً بالنسيم قد اغتذى
نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبّذا
ومثله لابن مطروح أيضاً، ويقال لغيره:
يقولون من هذا الذي أنت في الهوى ... به كلف يا ربّ لا علموا الذي
وهي قصيدة غراء قل أن يوجد على هذه القافية لها نظير وأولها:
لك الخير عرّج بي على ربعهم فذي ... ربوعٌ يفوحُ المسك من عرفها الشذي
وذا يا كليم الشوق وادٍ مقدسٌ ... لدى الحب فاخلع ليس يمشيه محتذي
وقفنا فسلمنا على كلّ منزلٍ ... تلذذ فيه العين أيّ تلذذِ
ومنها:

وبي ظبي أنس كمّل الله حسنه ... وقال لأبصار الخلائق عوّذي
جلى تحت ياقوت اللمى عقد جوهر ... رطيب وأبدى عارضاً من زمردِ
ومنها:
يقولون من هذا الذي
واتفق لي في هذه النونية بيت حلا مقصده وصفا مورده وهو أني عمدت إلى بيتي أبي الطيب، رحمه الله، وهما:
أجزْني إذا أنشدتَ شعراً فإنهُ ... بشعري أتاكَ المادحونَ مردّدا
ودْع كلَّ قولٍ غيرَ قولي فإنني ... أنا الطائرُ المحكيُّ والآخرُ الصَّدى
فجعلت صدريهما بيتاً وقلت في مدحه، عز نصره:
أجز كلما أنشدت شعراً فإنه ... ودع كلّ قولٍ غير قولي فإنني
فجاء كما ترى آخذاً بمجامع الإحسان يروق للسمع كلما كرره اللسان. وقلت من أخرى:
سيّدي أمرضني هج ... رك والوصل طبيبي
إن أكن أضمرتُ صبراً ... عنك فالله حسيبي
من مجيري من غزالٍ ... فاتن الطرف لبيبِ
بدرُ تمّ حلّ منّا ... في عيون وقلوبِ
إن بدا أو ماسَ أزرى ... بهلال وقضيبِ
أشتكي من سحر عيني ... ه ومن عين الرقيبِ
فبلاءٌ من عدوّي ... وبلاءُ من حبيبي
وقلت من أخرى في الصاحب الأعظم شمس الدين، أعز الله أنصاره:
قسماً بلين قوامك المتأوّد ... إني خفيت من الضنا عن عوّدي
فارحم أخا كلفٍ يبيت بمقلةٍ ... عبرى وقلبٍ من صدودك مكمدِ
واعطف على من ظلَّ فيك زمانه ... بأنين مكروبٍ وطرفٍ مسهدِ
فعلام يتعب عاذلي وقضى الهوى ... إني أخالف عاذلي ومفنّدي
يا كعبة الحسن الذي لجماله ... وجهتُ وجهي فهو غاية مقصدي
بك أهتدي سبل الغرام وحقّ من ... أمسيتَ أنتَ دليله أنْ يهتدي
يا مخبري عن طيب وقت وصاله ... أطربتَ سمعي بالحديث فردّدِ
إيهٍ بحقّك هات عن كلفي به ... واترك حديث ربا العقيق وثهمدِ
وقلت من غزل أخرى فيه، عزّ نصره:
حثّهُ سائقُ الغرامِ فحنّا ... وجفا منزلاً وخلّف مغنى
ودعاه الهوى فلبّى سريعاً ... وكذا شيمة المحبّ المعنّى
رامَ صبراً فلم يطعه غرامٌ ... غادرَ القلبَ بالصبابةِ رهنا
وجفا لذّة الكرى في رضى الح ... ب فأرضى قلباً وأسخط جفنا
أسهرت مقلتيه في طاعة الوج ... دِ عيونٌ من المحصّب وسْنا
كل ظامي الوشاح ريّان من ما ... ءِ التصابي أضنى المحبّ وعنّى
ما على الدهر لو أعاد زماناً ... سلبته أيدي الحوادث منّا
وعلى من أحبَّ لو شفع الحس ... ن الذي قيّدَ العيونَ بحسنى
وبروحي أفدي رشيق قوامٍ ... لاح بدراً وماسَ إذ ماسَ غصنا
يتجنى ظلماً فيحدث لي وج ... داً إذا صدَّ عاتباً وتجنّى
ما ثناني عنه العذولُ وهل يث ... ني غرامي وقدّه يتثنّى
كيف أسلو بدراً يشابهه البد ... رُ سناءً يصبي الحليم وسنا
ليَ معنّىً فيه وفي صاحب الدي ... وانِ ما رمتُ مدحه ألف معنى
وقلت من غزل أخرى فيه، أدام الله قدرته:
حيّ ربعاً بالرقمتين ودارا ... واسق أطلالها الدموع الغزارا
وأنخ بالحمى تجد فيه من عل ... وةَ سقياً لعهدها آثارا
ظبية قد أطعت أمر التصابي ... في هواها لما عصيت الوقارا
وخلعتُ العذار فيها وقد أذ ... عنَ قبلي قوم بحبِّ العذارى
ووصلت السهاد إذ وصلت هجري ... وأبدت من بعد أنس نفارا
وأطلتُ البكاء في الربع حزناً ... لفراقي تلك الليالي القصارا
هل معيدٌ عصرَ الشباب وعيشاً ... خلتُ أوقاته خيالاً زارا
إذ مغاني الحمى أواهل تجلو ... للعيون الشموسَ والأقمارا
وقلت من أخرى فيه، جمل الله ببقائه:
أقيلي من الصدّ المبرّح والقلى ... ولا تقبلي في الحبّ ممن تقوّلا
ورقّي لمن أطلقتِ في الهجر دمعه ... وأقصيت عنه صبره فترحلا
أيا ظبية الوادي انقضى العمر بالجفا ... وأشمتِّ لوّاماً عليك وعذّلا
وقالوا سلا حوشيت أن تسمعي لهم ... فمثلك ما يسلى ومثلي ما سلا
أريدُ بقاءً ما أردت تواصلاً ... فأما وقد عوّلت أن تهجري فلا
كلفتُ بها هيفاء ناعمة الصبا ... بعيدة مهوى القرط كالبدر يجتلى

تفوق قضيب البان قدّاً منعما ... وتحكي ثناياها الجمان المفصلا
وتسقيك من فيها الطلى وإذا رنت ... لواحظها المرضى أرتك بها الطّلى
جننتُ بها وجداً فيا ليت أنني ... بفاحم ذاك الشعر كنت مسلسلا
البيت الرابع ينظر إلى قول مهيار وقد جمع معانيها وهي أبيات:
أما وهواها عذْرةً وتنصُّلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا
سعى جهدهُ لكن تجاوزَ حدَّهُ ... وكثّرَ فارتابت ولو شاء قلّلا
وقال ولم تقبل ولكن ألومهُ ... على أنه ما قالَ إلاّ لتقبلا
وطارحها أني سلوتُ فهل رأى ... له الذمُّ مثلي عن هوى مثلها سلا
والبيت الخامس مأخوذ من قول أبي الطيب:
بما بجفنيكِ من سحرٍ صِلي دنفاً ... يهوى الحياة وأما إن صددتِ فلا
وقلت من أخرى في مدح المخدوم الصاحب الأعظم علاء الدين، عزّ نصره:
عاوده من ذكر أوطانه ... عيد فأغراه بأشجانهِ
وحدثته نسمات الحمى ... حديثها المروي عن بانهِ
يا منزلاً طاوعتُ فيه الهوى ... والعمرُ في أول ريعانه
ومربعاً ظلّت أسود الشرى ... خاضعةً من فتك غزلانه
كم من ليالٍ فيك قضيتها ... وكّلت القلب بأحزانهِ
وشادنٍ حلو اللمى أهيفٍ ... هاروت في فترةِ أجفانهِ
سنانه يقصر يوم الوغى ... في سلمه عن فتك وسنانهِ
إذا تثنَّى قدّه مائلاً ... أودى على البان وأغصانهِ
وإن سرت مسكية نفحةٌ ... روتْ لنا عن طيب أردانهِ
ولائم أسرف في لومه ... وألزم القلب بسلوانهِ
وطاوع العذل ولي همّةٌ ... وكَّلها الوجدُ بعصيانهِ
فجنتي وصل الحبيب الذي ... أصل عذابي نارُ هجرانهِ
وقلت من أخرى في مدحه، أعز الله أنصاره:
طافَ بها والليلُ وحفُ الجناح ... بدرُ الدجى يحمل شمس الصباحْ
يقال: عشب وحف وواحف أي كثير، والجناح الوحف: الكثير الريش.
وفاز بالراحة عشّاقهُ ... لما بدا في راحهِ كأسُ راحْ
ظبيٌ من التركِ له قامة ... يزري تثنيها بسمرِ الرماحْ
عارضهُ آسٌ وفي خدّه ... وردٌ نضيرٌ والثنايا أقاحْ
أطعتُ فيه صبوتي والهوى ... طوعاً وعاصيتُ النهى واللواحْ
عاطيته صهباءَ مشمولةً ... تحكي سنا الصبح إذا الصبح لاحْ
فسكّنتْ سورتهُ وانتشى ... وظلَّ طوعي بعد طول الجماحْ
فبتُّ لا أعرف طيب الكرى ... وبات لا ينكر طيب المزاحْ
فهل على من بات صبّاً به ... وإن نضا ثوبَ وقارٍ جناحْ
ومن غزل أخرى في المخدوم الصاحب علاء الدين، عزّ نصره:
محياك أمْ بدرٌ رضابك أمْ خمرُ ... وحسن تثنٍ في قوامكَ أم سكرُ
وناظرك التركيّ أمْ حدُّ صارمٍ ... وهذا فتور في لحاظك أمْ سحرُ
وهل بردٌ في فيك أمْ سمطُ لؤلؤ ... وهل عن ثنايا أمْ أقاحيّ تفترُّ
وشعرك أمْ ليل تضل به الورى ... ووجهك أمْ صبح به يهتدي السفرُ
يميناً لقد حيّرتني في محاسنٍ ... منحتَ بها يعيا بأوصافها الفكرُ
فخدّاك وردٌ واللواحظُ نرجسٌ ... وصدغاك ريحانٌ وريقتكَ الخمرُ
ومن أخرى فيه عزّ نصره:
غزال النقا لولا ثناياك واللّمى ... لما بتّ صبّاً مستهاماً متيّما
ولولا معانٍ فيك أوجبنَ صبوتي ... لما كنتُ من بعدِ الثلاثين مغرما
أيا جنّةَ الحسنِ الذي غادر الحشا ... بفرطِ التجافي والصدود جهنما
جريت على رسمٍ من الجورِ واضحٍ ... أما آن يوماً أن ترقَّ وترحما
أمالكَ قلبي كيف حلّلتَ جفوتي ... وعدتَ لقتلي بالبعادِ متمّما
وحرّمت من حلو الوصال محلّلاً ... وحلّلتَ من مرّ الجفاء محرّما
بحسن التثني رقَّ لي من صبابةٍ ... أسلْتَ بها دمعي على وجنتي دما
ورفقاً بمن غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شخطٍ بلادك سلّما
عجبتُ وقد أطلقتَ دمعي فأشبه ال ... سحائب أني أشتكي في الهوى الظما
كلفت بساجي الطرف أحوى مهفهفٍ ... يميسُ فينسيكَ القضيبَ المنعما
يفوقُ الظّبا والغصنَ طرفاً وقامةً ... وبدر الدجى والبرقَ وجهاً ومبسما

فناظره في قصتي ليس ناظراً ... وحاجبه في قتلتي قد تحكّما
ومشرف صدغ ظل في الحكم جائراً ... وعاملُ قدٍّ بات أعدى وأظلما
وعارضه لم يرث لي من شكايتي ... فنمّت دموعي حين لاح منمنما
ولم يثنني هجرانه وأخو الهوى ... دعيّ إذا يوماً شكا أو تظلَّما
ومن أخرى مدحها في المخدوم الصاحب الأعظم شمس الدين، أعز الله أنصاره:
مغرم شفّه بعادٌ وهجرُ ... وجفاهُ حبيبه والصبرُ
أمطرت خدّه دموعٌ غزارٌ ... فهو منها في لجّةٍ مستقرُ
همّهُ والغرامُ فيه فنونٌ ... ناظرٌ فاتن وريق وثغرُ
وجفونٌ كلونِ حظي سودٌ ... وخدودٌ كلونِ دمعي حمرُ
وبروحي أفدي غزالاً غريراً ... وجهه حضره وفي فيه خمرُ
هجرهُ والوصالُ حلوٌ ومرُّ ... ولقاه والبعدُ حلوٌ ومرُّ
أسمر دون وصله أسد غيلٍ ... ومنايا بيضٌ وحمرٌ وسمرُ
ومن غزل أخرى فيه، عز نصره:
قدك من غصن النقا أنضر ... والوجه من بدر الدجى أنورُ
ولحظك الفاتن أم صارم ... وريقكَ المسكي أم مسكرُ
يا قمراً عذبني صدّه ... أسرفتَ في الهجر فكم تهجرُ
تنام عن صبّ قضى وجده ... وما يعاني أنه يسهرُ
أنكرتَ ما يلقاه من حبه ... ومثل ما يلقاه لا ينكر
يميته الهجرُ ولكنه ... بالصاحب الأعظم يستنصرُ
ومن غزل أخرى فيه، أمد الله عمره:
يجدد أحزاني ووجدي ولوعتي ... سنا بارق من نحو أرضِ أحبتي
ديارٌ لبستُ العيش فيها منعّماً ... أجرّرُ من فرطِ الخلاعةِ بردتي
فما البرق إلاّ حرُّ قلبي وناره ... وما الغيثُ إلاّ من سوابقِ عبرتي
وليلاتِ أنسٍ قد قضيتُ حميدةً ... فلو أن دهري ردّ ليلاتي التي
تدير عليَّ الكأسَ فاتنة الصبا ... بديعة معنى الحسن دقّت وجلّتِ
تفوق الطُّلى ريقاً ونشراً معطراً ... وتحكي الطّلا جيداً وحسن تلفّتِ
ويروي قضيب البان عنها محاسناً ... إذا خطرت في بردها وتثنّتِ
هلال إذا لاثت عليها نقابها ... وبدرٌ إذا ما أسفرت وتجلّتِ
أحنّ إليها لوعةً وصبابةً ... فيا فرحي لو قيل نحوك حنّتِ
تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصّةٍ دون قصّةِ
فوجنتها تكسو المدامع حمرةً ... ودمعيَ يكسو حمرة اللون وجنتي
البيتان الأخيران أخذتهما من القاضي الأرجاني حيث قال:
فتباكت ودمعها كسقط ال ... طلّ في الجلنارةِ الحمراءِ
وحكت كل هدبة لي قناةً ... أنهزتْ كل طعنةٍ نجلاءِ
فترى الدمعتين في حمرةِ اللو ... نِ سواءً وما هما بسواءِ
خدَّها يصبغُ الدموعَ ودمعي ... يصبغُ الخدَّ قانياً بالدماءِ
خضبَ الدمعُ خدَّها باحمرارٍ ... كاختضابِ الزجاجِ بالصهباءِ
وهذه أبيات حسنة وأولها:
وعدتْ باستراقةٍ للقاء ... وبإهداء زورةٍ في جفاءِ
وأطالت مطلَ المحبّ إلى أن ... وجدت خلسةً من الأعداءِ
ثمَّ غارت من أن يماشيها الظ ... لّ فزارت في ليلةٍ ظلماءِ
ثمَّ خافت لما رأت أنجم الل ... يل شبيهاتِ أعينِ الرقباءِ
فاستنابت طيفاً يلمّ ومن ... يملك عيناً تهمّ بالإغفاءِ
هكذا نيلها إذا نولتنا ... وعناءُ تسمُّح البخلاءِ
يهدم الانتهاء باليأس منها ... ما بناه منها الرجاء بالابتداءِ
ومنها:
لست أنسى يوم الرحيل وقد ... غرّد حادي الركاب بالإنضاءِ
وسليمى منّت بردّ سلامي ... حين جدّ الوداع بالإيماءِ
سفرت كي تزود الصب منها ... نظرةً حين آذنت بالتنائي
وأرتْ أنها من الوجد مثلي ... ولها للفراق مثل بكائي
وقلت من أخرى في مدحه، عزّ نصره:
باتَ يجلو ليَ من ريقته ... قهوةً تعصرُ من وجنتهِ
رشأٌ بابل تروي سحرها ... عن حديث السحرِ من مقلتهِ
ظل قلبي في دياجي شعره ... واهتدى بالصبح من غرّته
أسهرتني سنةٌ في طرفه ... وحمت طرفيَ في رقدتهِ
سقم في جفنه أعرفه ... تجتنى الأسقام من صحّتهِ
رقّةٌ في خدّها ينكرها ... قلبه المسرف في قسوته

لم أكد أعرف ما طعم الكرى ... مذ تمادى في مدى جفوتهِ
ربّ حسن مرسل من شعره ... مرسلٌ وجديَ من آيتهِ
حاكم في دولة الحسن كما ... يحكم الصاحبُ في دولتهِ
وقلت في أخرى:
سقى عهد الحيا عهد التصابي ... وحيّا طيبَ أيامِ الشبابِ
وروّض منزلاً بالجزع أقوى ... برغمي من سليمى والربابِ
ومرّ مسلّماً يحدوه رعدٌ ... على تلك الملاعب والقبابِ
ديارٌ ما أجلتُ قداحَ لهوي ... بها إلاّ مع الخود الكعابِ
ولا عاقرتُ فيها الراح إلاّ ... وقد شجّت بمعسول الرُّضابِ
وبي فتّانةُ الألحاظ تبدو ... بدوّ الشمسِ من خللِ السّحابِ
تحاكي البدر مسفرةً وتحكي ... هلال الأفق من تحت النقابِ
وتبسم عن ثنايا خلت فيها ... مداماً وهي فيه كالحبابِ
وقلت من أخرى:
بقلبي نيران تسعّرها الذكرى ... ولي مقلةٌ من بعد بعدكم عبرى
وما غبتُ عنكم ناسياً لعهودكم ... ولا اعتضتُ عنكم وصل غانيةٍ أخرى
وكيف أرى السلوان عنكم وأنتم ... شفا قلبيَ العاني ومهجتي الحارّى
أقبّل ترب الأرض أنتم حلولها ... فأكسب في ذلّي لأرضكم فخرا
فقلبيَ ما أصبى إلى قرب داركم ... ووجديَ ما أوفى ودمعيَ ما أجرى
أسكان قلبي قد براني هواكم ... وغادرني إعراضكم والهاً مُغرى
وفي كلّ حالٍ أنتم غايةُ المنى ... قريبون من قلبي وإن بعد المسرى
وقلت من أخرى:
رفقاً فقد جاوزت في الهجر المدى ... وتركتني دامي الجفون مسهدا
ومنعت طيفك أن يلمّ بعاشقٍ ... لو زاره طيف الخيال لما اهتدى
يا هذه كفي ملالك عن فتىً ... لا يستطيع إذا هجرت تجلدا
أطمعتهِ في الهجر ثمَّ هجرته ... ضنّاً عليه فما عدا مما بدا
وزعمت أن قد ضلَّ في شرع الهوى ... أنّى يضلّ وقد بدا نور الهدى
أظميته شوقاً إليك ولوعةً ... وبفيك عذب مدامةٍ تجلو الصدى
وأريتهِ ورداً فأصبح دمعه ... مثل الصدى يحكي الكلام مورّدا
وبسمتِ عن درٍّ نظيمٍ أشنب ... فأسالَ درّاً في الخدودِ مبدّدا
وجلوت بدراً والتفت ظبيّةً ... مذعورةً وخطرت غصناً أملدا
أخلقت ثوب الصبر ثمَّ كسوته ... ثوبَ الصبابةِ والغرامِ مجدَّدا
ومنحته مرّ الجفا ومنعته ... حلو الكرى فحكيت أفعال العدى
وقلت أيضاً:
أيّ عذرٍ وقد تبدّى العذارُ ... إن ثناني تجلّدٌ واصطبارُ
فأقلاّ إن شئتما أو فزيدا ... ليس لي في هوى الملاح قرارُ
هل مجير من الغرام وهيها ... ت أسير الغرام ليس يجارُ
يا بديع الجمال قد كثرت في ... ك اللواحي وقلّت الأنصارُ
أنت ناري وجنتي فحقيقٌ ... أن أنادي يا جنةٌ يا نارُ
عجباً أشتكي أواماً ودمعي ... من تجافيك صوبهُ مدرارُ
بمحيّاك وهو بدرٌ له الهج ... رُ وطولُ الجفاءِ منك سرارُ
وبقدّ إذا انثنى خجل الغص ... ن لديه والأسمر الخطّارُ
وبطرف إذا رنا حارَ هارو ... ت وغار المهنّدُ البتّارُ
وبوجه حوى المعاني وما ... طوّل ليلي إلاّ جفوني القصارُ
وأقلني فقد عثرتُ ومندو ... ب إليه بأن يقالُ العثارُ
ومن أخرى:
قسماً بريقك وهو عذب سلسلُ ... لا صدّني ما قال فيك العذلُ
أنا من عرفت على العهود محافظاً ... لا أنثني عنها ولا أتنقّلُ
قلبي يميل إليك من فرط الهوى ... والعينُ منه إلى لقائك أميلُ
وبمهجتي مذ غبتَ عني لوعةٌ ... نيرانها بين الجوانحِ تشعلُ
وكلتَ قلبي بالسهادِ ولم يكنْ ... لولاك طرفي بالسهاد يوكلُ
وحكمت فيّ بما أردتَ وإنني ... أرضى مطيعاً ما أردت وأقبلُ
وجهلتَ ما بي من هوىً وصبابةٍ ... رفقاً فما بيَ في الهوى لا يجهلُ
واعطف عليّ فعبء هجرك والنوى ... من كل ما حملتنيه أثقلُ
وقلت أيضاً، وهي من أشعار الصبا:
رفقاً بقلبي ضرّه البدر ... وراقبني ربك في أمري
وقللي الهجر فما لي يدٌ ... وطيب ليل الوصل بالهجرِ
أما وما في فيك من قهوةٍ ... تجري على حصباءَ كالدّرِ

وغنج طرف دأبه دائماً ... أسرُ قلوبِ الناسِ بالسحرِ
لقد تصبّرت غداة النوى ... فذقت مثل الصبر من صبري
ورمت إخفاء غرامي بكم ... فنمّ دمعٌ أبداً يجري
كيف اصطباري وبقلبي هوىً ... أصابني من حيثُ لا أدري
وهل إلى الوصلِ سبيلٌ لمنْ ... باتَ من الأشواق في أسرِ
ومن شعري:
يا من جفا لما جفا طيب الكرى ... حاشاك ترضى في البعاد بما جرى
أسهرتني شوقاً إليك ونمت عن ... وجدِ امرئ حكمَ الهوى أن يسهرا
ورميتني بسهام هجرك ظالماً ... إذ ليس مثلي جائزاً أن يهجرا
قد كنت أحسبُ أنَّ صبري منجد ... حتى بعدت فما استطعت تصبّرا
ورأيت عيشي صافياً فنأيت عن ... عيني فغادره البعاد مكدّرا
من منصفي من ظبي أنس لم تزل ... ألحاظه تسطو على أسد الشرى
حلو الدلال يميس من خمر الصبا ... كالغصن رنّحهُ النسيم إذا سرى
قد قام عذري في هواه وما عسى ... اللاحي يقول وقد هويتُ معذّرا
وقلت أيضاً:
خبّروا الجسم عن لذيذ الرقاد ... فعساه يعافُ مرَّ السّهادِ
وصفوا لي حديثَ من قتلَ الح ... بُّ لعلّي أثني عنان فؤادي
همتُ وجداً بشادن يخجل الغص ... ن رطيباً بقدّه الميادِ
مذ حلا لي نبات عارضه النا ... ضر لم أدر ما طريق الرشادِ
لي قلب أرق من دمع عين ... يّ عليه في الهجر سهل القيادِ
لي صبرٌ عنه ولكنّ صبري ... ليس يرضى به سوى حسّادي
جائر في احتكامه أبداً يو ... لي التجافي على صحيح ودادي
أسهرتْ مقلتاه عيني فلما ... احتكم الحبّ نامَ عن إسعادي
هذا القول مأخوذ من قول البحتري:
أسهرتهِ حتى إذا هجر الكرى ... خلّيت عنه ونمتِ عن إسعاده
وأولها، وهي أبيات بديعة:
ردّي على المشتاق بعضَ رقاده ... أو فاشركيه في اتصال سهادهِ
وقسا فؤادك أن يلينَ للوْعةٍ ... باتت تقلقلُ في صميم فؤادهِ
ولقد عززتِ فهانَ طوعاً للهوى ... وجنبتهِ فعرفتِ ذلَّ قيادهِ
من منصفي من ظالم ملّكتهُ ... ودّي ولم أملك عشيرَ ودادهِ
إن كنتُ آملُ غيرَ سالفِ ودّهِ ... فرميتُ بعد صدودهِ ببعادهِ
وقلت في أخرى:
محيّاك أم بدر الدجنّة يشرق ... وريقك أم خمر شهيّ معتّقُ
وذا قدّك الميّال أم غصن بانةٍ ... ونشرك هذا أم سنا المسكِ يعبقُ
أيا قمراً قد قيّد القلبَ حبه ... وغادر دمعي وهو في الخد مطلقُ
لقد أسرفَ العذال فيك جهالةً ... ومثلك لا يسلوه من يتعشّقُ
وحقّ الهوى أفنيت صبري وأدمعي ... وأني في دعوى الغرام مصدّقُ
فرقّ لمأسورِ الصبابةِ والأسى ... فمن عادة الملاك أن يترفقوا
ومن أخرى:
يا ظباء الصريم عدنَ كئيبا ... لا يرى غير وصلكن طبيبا
صار حلف السهاد يرعى نجوماً ... صدّها فرط حبه أن تغيبا
ما دعاه الغرام إلاّ ولاقى ... منه أنّى دعا سميعاً مجيبا
تخذَ الحزن صاحباً حين صار ال ... هجر منكم حظّاً له ونصيبا
ورأى عطفكم بعيداً فأضحى ... برح ما تشتكيه منه قريبا
سلبت عقلهُ بديعةُ حسنٍ ... غادرت حسنَ صبرهِ مسلوبا
تخجل الشمس طلعةً وسنا البر ... قِ ابتساماً والغصن قدّاً رطيبا
وتفوق الشقيق خدّاً وكأس الرا ... حِ ريقاً والمسك نشراً وطيبا
وقلت أيضاً:
أعادَ لباس التصابي قشيبا ... يعير الغرام . . القلوبا
ولاح وماس دلالاً فخلتُ ... هلالاً منيراً وغصناً رطيبا
ظلوماً يراني عدوّاً له ... على زعمه وأراهُ حبيبا
دعا القلب حبك يا قاتلي ... فكان له إذ دعاهُ مجيبا
أمولاي رفقاً بذي لوعةٍ ... يبيتُ محبّاً ويضحي كئيبا
البيت الثالث أخذته من كشاجم حيث قال:
ما أنصفته يكونُ من أعدائها ... في زعمها وتكونُ من أحبابه
وقلت، وهو من شعر الصبا:
أيا هاجري من غير جرمٍ جنيتهُ ... ومن دأبهُ هجري وظلمي فديتهُ
أجرني رعاك الله من نارِ جفوةٍ ... وحرِّ غرامٍ في الفؤادِ اصطليته

وكنْ مسعدي فيما ألاقي من الأسى ... فهجرك يا كلَّ المنى ما نويته
أأظما غراماً في هواك ولوعةً ... ولي دمعُ عين كالسحابِ بكيته
وحقّك يا من تهتُ فيه صبابةً ... ووجداً ومن دون الأنامِ اصطفيته
فإني لا أنسى العهودَ التي مضت ... قديماً ولا أسلو زماناً قضيته
وقلت:
كيف خلاصي من هوى شادنٍ ... حكّمهُ الحسنُ على مهجتي
بعاده ناري التي تُتّقى ... وقربه لو زارَني جنتي
ما اتسعت طرقُ الهوى فيه لي ... إلاّ وضاقتْ في الهوى حيلتي
ليتَ ليالي وصله عدنَ لي ... يا حسرتا أين الليالي التي
وقلت:
وجهه والقوامُ والشعر الأس ... ودُ في بهجةِ الجبينِ النضيرِ
بدر تمّ على قضيبٍ عليه ... ليلُ دجنٍ من فوقِ صبحٍ منيرِ
وقلت:
نسيم الصّبا من عرفِ هندٍ يحدّثُ ... وهاروت عن أجفانها السحر ينفثُ
يذكّرُ إنْ هزَّت من القدِّ عاملاً ... رطيباً وإنْ ماستْ دلالاً يؤنثُ
بعثت إليها محض حبّي فقابلت ... عليه فأضحت للصبابة تبعثُ
حفظت لها عهداً فأضحى مضيّعاً ... ولا عجب عهد المليحة ينكثُ
تجلّت لنا كالبدر ليلة تمّه ... وساقي الندامى للمدامِ يحثحثُ
فلاحَ لعيني الشمس والبدر قارنا ... هلالاً فقلتُ السعد شكل مثلثُ
وقلت من أخرى، وهي من أشعار الصبا:
عنّ له من بارقٍ بارق ... فهامَ وجداً وكذا العاشقُ
ورجّع الحادي بذكر الحِمى ... فطارَ شوقاً قلبهُ الخافقُ
هيمه أهيف حلو اللّمى ... قد صدّ حتى طيفهُ الطارقُ
رشيق قدٍّ سهمُ ألحاظهِ ... يكلّ قلبٍ نابلٌ راشقُ
صبري ضدّ الدمع في حبّه ... ذا مقصر عنّي وذا سابقُ
ولذّة العيش وطيب الكرى ... كلٌّ على هجرانه طالقُ
يا جيرة الجزع ومنْ فارقتْ ... جسمي حياتي عندما فارقوا
سياق نفسي وحمامي دنا ... لمّا حدا بالأينق السائقُ
وقلت، وهي من شعر الصبا:
برد بثغرك أم أقاحي ... والريق أم كاسات راحِ
والشعر أم ليل دجا ... والوجه أم ضوء الصباحِ
كلفي بفتَّان اللحاظ ... مهفهف قلق الوشاحِ
شاكي السلاح بمهجتي ... أفديه من شاكي السلاحِ
جُمل اشتياقي من سقا ... م جفونه المرضى الصحاحِ
يا من يفوق بقدّه ... أنَّى انثنى سُمر الرماحِ
رفقاً بذي كلفِ عقي ... دة دينه حبّ الملاحِ
صبّ أطاع غرامه ... في حبّه وعصا اللواحي
وقلت من أخرى:
وجدي بأقمار وأغصان ... بالكلف الدائم أغراني
فما على العاذل منّي وهل ... يطمع أن يوجدَ سُلواني
وبي غرير الطرف عذب اللّمى ... ناظره والسيف سيّانِ
معتدل القامة من لي به ... لو أنَّه حيّا فأحياني
نشوان من خمر الصبا أهيف ... أفديه من أهيف نشوان
وسنان طرفٍ سقمي والهوى ... من فاترِ المقلةِ وسنانِ
ما ضرَّ منْ أشهرني حبّه ... لو شفع الحسنَ بإحسانِ
قد عرف الوجد به طاعتي ... وبان للسلوان عصياني
وهمت بالبان ولولا الهوى ... بقدّه ما همت بالبانِ
وقلت أبياتاً تبعت فيها محيي الدين، رحمه الله، وقد تقدم شعره:
لأيّةِ حال والوفاءُ شعارهُ ... بدا ليَ منه صدُّهُ وازورارهُ
وكيف استحالت لا استحالت عهوده ... وأوحشني من بعد أنسِ نفارهُ
لأي حالٍ والوفاءُ دائماً شعارهُ
أمرضني هجرانهُ وشفّني ازورارهُ
وكيف حال عهده ودرست آثارهُ
وأوحش الصبّ الذي آيسه نفارهُ
وما زلت أرعى عهد الهوى وودادَه ... وتطربني في القرب والبعد دارهُ
وما أضرمت نار فشبّ ضرامُها ... لعينيّ إلاّ قلت هاتيك نارهُ
رعيتُ عهده فما وفى به غدّارهُ
وهمتُ إذْ أطربني ملعبهُ ودارهُ
وما بدا لمعٌ فشبَّ عالياً أُوارهُ
إلاّ وقلت من هوًى ها قد تبدّت نارهُ
حبيبٌ مُنايَ أنْ يزورَ خيالهُ ... ويقرب ناديه ويدنو مزارهُ
وأقصى الأماني أن يرقَّ لعاشقٍ ... جفا إذْ جفاه نومُه واصطبارهُ
شفاء قلبي أن يظلَّ دانياً مزارهُ

عساه يرثي لفتًى قد خانهُ اصطبارهُ
متيَّم أذابهُ في بعدهِ تذكارهُ
وأظهرت أدمعهُ إذ كُتمتْ أسرارهُ
سقى الله أياماً تقضَّت بقربه ... إذ الشمل مجموع وإذ أنا جارهُ
ليالي أضللتُ الهموم ولم أدعْ ... وقاراً ومن يهوى يضل وقارهُ
سقى زمان عهده من الحيا مدرارهُ
وسلم الله على العيش وأنتَ جارهُ
أيامَ همّي نازحٌ عنِّيَ وادكارهُ
ولا وقار والذي يهوى فما وقارهُ
وقلت:
قسماً بحبك يا مناي وإنّه ... قسمٌ عليّ وإنْ هجرتَ عظيمُ
إنّي وإنْ شطَّ المزارُ وأشرف ال ... لاحي على عهدِ الودادِ مقيمُ
وقلت:
وحقّ ليال بتّ فيها منعّماً ... بوصلك لا أخشى مقالة عاذلِ
لقد أخذت منِّي الصبابة حقّها ... وزادتْ وقد شطَّ المزارُ بلابلي
وقلت:
كتمتُ الذي ألقى فنمّت مدامعُ ... تخبِّرُ عذالي بما يضمر القلبُ
وعاتبت دهري فيك إذْ حال بيننا ... فيا طول أفراحي إذا نفع العتبُ
وقلت بديهاً، وقد اقتضت الحال ذلك:
جاريةٌ من ساكني العراق ... تضرمُ نارَ الهائمِ المشتاقِ
وتبعثُ الوجد إلى العشاقِ ... جائلة الوشاح والنطاقِ
ليس لجرحي في هواها راقِ ... والقلب منها الدهر في وثاقِ
تبسم عن عذب اللمى برّاقِ ... أشكو إليها لوعةَ الفراقِ
وحسرةً ترقى إلى التراق ... وأدمعاً يظللن في سياقِ
ومهجةً تذوب بالإحراقِ ... فالصبر فانٍ والغرامُ باقِ
أهَلْ يعودُ زمنُ التلاقي ... أيامَ وصلي ناضرُ الأوراقِ
وقلت:
هويتُها غانيةً ... قوامُها منعطفُ
الوجهُ منها روضةٌ ... والريقُ منها قرقفُ
في خدِّها للعاشقي ... ن روضُ حسنٍ أنفُ
ووجهها صبحٌ علي ... هِ ليلُ شعرٍ مسدفُ
لامَ عليها معشرٌ ... جهالةً وعنّفوا
وأنكروا وجدي وإنّ ... ي بالصوابِ أعرفُ
فالطرفُ عن جمالها ... فديتها لا يطرفُ
والقلبُ عن غرامهِ ... ووجده لا يصرفُ
تجحدُ قتلي في الهوى ... وخدها معترفُ
جائرةٌ في حكمها ... ما ضرّها لو تنصفُ
وقلت:
سلام على تلك العهود التي مضت ... وغصن التصابي بالتواصل مورقُ
إذِ الشملُ مجموع وحبِّي مساعد ... ووجه الأماني ناضر الحسن مورقُ
ليالي همِّي نازح وأسرّتي ... بنور ضياء الأنس والقرب تشرقُ
تدير عليّ الكأس خودٌ رُضابها ... وألفاظها والكأس خمرٌ معتّقُ
بديعة معنى الحسن فتّانة الصبا ... تُحبُّ على طول التجافي وتُعشقُ
يوسّع عذري العاذلون على الهوى ... وباعُ اصطباري في يد الهجر ضيّقُ
سأكتم وجدي خوفَ واشٍ وإنما ... دموعي بما أخفي من الوجد تنطقُ
ولم أنسَ إذْ بتنا حليفي صبابةٍ ... ونحن جميعاً عاشق ومعشّقُ
أحثحث كأساً من مدام حبابها ... ثنايا بنشر من شذا المسك تعبقُ
فيا طيب ذاك العيش لو كان دائماً ... ويا طيب ليل الوصلِ لولا التفرقُ
هذا البيت الأخير من قصيدة غراء للمخدوم الصاحب الأعظم علاء الدين صاحب الديوان، عز نصره، ضمنته هذه القصيدة وزينت عقدها بهذه الفريدة وجريت في نظمها على مذهبه وعملت بقول القائل: يأخذ من ماله ومن أدبه. وأبياته أعز الله نصره:
لذكر الحمى يصبو الفؤاد المشوّق ... وذكر الحمى يُصبي المحبّ ويقلقُ
إذا همّ طول العهد يبدي تسلياً ... أبتْ كبدُ حرّى وطرفٌ مؤرقُ
وكيف ومن أين السلوّ لعاشقٍ ... يحنّ إذا ناحَ الحمام المطوّقُ
وما بال قلبٍ يستهيم صبابةً ... إذا من جويرٍ بارقٌ يتألّقُ
تكاد إذا ما الوجد جدّد ذكرها ... وكيف ولا نسيان نفسي تزهقُ
سقاها الحيا ربعاً ودهراً قد انقضى ... وللعينِ من ماءِ الشبيبةِ رونقُ
وللقلب من بعد النوائب مغربٌ ... وللعين من بعد الأحبةِ مشرقُ
فيا طيب ذاك العيش لو كان دائماً ... ويا طيب ليل الوصل لولا التفرقُ

وهذه أبيات رقيقة الحواشي عذبة المجاني متناسبة الألفاظ بعيدة المعاني. وأنشدني أعز الله نصره، في امرأة أصابها الجدري، وما أظنه سُبق إلى هذا المعنى:
ولمّا التظى في القلب نار غرامها ... تمثّل في الأحشاء شبه شَرارها
كذاكَ يكونُ الماءُ في غليانهِ ... يمجّ حَباباً من شديدِ أوارِها
وأنا أذكر ما سمعته في الجدري، فمن ذلك:
وقالوا شانه الجدريّ فانظر ... إلى وجه به أثرُ الكلومِ
فقلتُ ملاحةً نُثرتْ عليه ... وما حسنُ السماءِ بلا نجومِ
ومنه:
يا قمراً جُدّر لما استوى ... فزاده حسناً وزادت هموم
كأنما غنّى لشمس الضحى ... فنقّطته طرباً بالنجوم
وقريب منه:
لنا جربٌ من البنان نحكه ... رضينا به والحاسدون غضابُ
وكنَّا معاً كالماءِ والراحِ صحبةً ... علانا لفرطِ الامتزاجِ حبابُ
ومثل هذا:
يا صروف الدهر خبِّي ... أيّ ذنب كان ذنبي
علّة خصّت وعمّت ... من حبيب ومحبّ
دبَّ في كفيه يا من ... حبّه دبّ بقلبي
فهو يشكو حرَّ حَبٍّ ... واشتكى بي حرَّ حبِّ
الحديث ذو شجون وإنما ذكرت أبيات المخدوم، عز نصره، استحساناً لدرها المنتظم، وختمت بها وصف النسيب إذ العقد بالدرة الحسناء يختتم.

وصف في الخمر
وما يتصل بها وذكر مجالسها وما ينضاف إليها ويناسبها من الغناء والمغنين
ووصف الربيع والأزهار والرياحين وغير ذلك.
كان يقال: إن الشراب مشمة الملك وتاج يده وعروس مجلسه وتحفة نفسه وقيم جسده ودواء همه وحافظ بدنه وشفاء حزنه، لم يزل بتوليد التودد معروفاً وبتآلف الشمل المتبدد موصوفاً، إن تمشى في عظام الإخوان منحهم صدق الحس وذكاء النفس، وإن جرى في مفاصل الندمان أباحهم فراغ البال، وإن تطرب إلى شربه ذو أدب أو ارتاح لمصافحته ذو حسب طال باعه ورحب ذراعه وزين لنفسه الجود وبذل منها فوق الموجود وتطوع بالإحسان وتناسى جرائم الزمان ولم يفكر في عواقب الحدثان ورغب في التوسع ومدح التشجع.
أقول: إن في هذه الأوصاف ما هو بالذم أليق وفي باب هجاء الشراب أدخل.
وقيل: إن الشراب أجلب الأشياء للسرور الكامل وأصنعها للفرح العاجل، يمازج الأشباح ويراوح الأرواح ويؤدي إلى نشاط القوى وانبساط المنى ويعفى من الحذر ونصبه والتحرز وتعبه، ويحبب المزاح والمفاكهة وينغص الاستقصاء والمحادة ويزيل عن المقتصد في شربه العارف مقدار منفعته في تحصيل لذته تفقد الحشمة وكد المروة.
وقيل: إن من خصائص الشراب جودة الهضم ونفي الهم ودفع مضرة الماء وإزالة مكروه الدواء، قال الأعشى:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأخرى تداويتُ منها بها
ليعلمَ منْ لامَ أنّي امرؤٌ ... أتيتُ اللذاذةَ من بابها
البيت الأول أخذه أبو نواس فقال:
دعْ عنكَ لومي فإنّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ
ولأبي نواس في الخمريات بدائع رائعة هي للإحسان جامعة، وأنا أذكر ما يخطر من أشعاره فيها وأشعار غيره غير مراع أزمنة الشعراء وتقدمهم وتأخرهم ولكن بقدر ما يسنح. قال أبو نواس:
وندمانٍ يرى غبناً عليه ... بأنْ يمسي وليس به انتشاءُ
إذا نبّهته من نومِ سكرٍ ... كفاهُ مرةً منكَ النداءُ
وليس بقائلٍ لك إيهِ دعني ... ولا مستخيرٍ لك ما تشاءُ
ولكن سقِّني ويقول أيضاً ... عليك الصرفَ إن أعياكَ ماءُ
أراد أن يقول: ولكن يقول سقّني فحذف يقول اختصاراً واكتفاءً بيقول الثانية. وقال أيضاً:
أثنِ على الخمرِ بآلائها ... وسمِّها أحسنَ أسمائها
لا تجعلِ الماءَ لها قاهراً ... ولا تسلِّطها على مائها
كرخيّةً قد عُتِّقت حقبةً ... حتى مضى أكثر أجزائها
فلم يكد يُدركُ خمّارها ... منها سوى آخرِ حوبائها
والخمرُ قد يشربُها معشرٌ ... ليسوا إذا عُدوا بأكفائها
وقال أيضاً:
يا ليلةً بتُّها أُسقّاها ... ألهجني طيبها بذكراها
تلهّبُ الكاسُ من تلهّبها ... وتحسرُ العينُ أنْ تقصّاها
كأنَّ ناراً بها محرّشةً ... نهابُها تارةً ونغشاها
كان لها الدهرُ من أبٍ خلفاً ... في جحرهِ صانَها وربّاها

وحثحثتْ كأسها مُقرطقةٌ ... لو مُنِّيَ الحسنُ ما تعدَّاها
إذا اقتضاها طرفي لها عدةً ... عرفتُ مردودها بفحواها
وقال:
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ ... وداوني بالتي كانتْ هي الداءُ
صفراءُ لا تنزلُ الأحزانُ ساحتَها ... لو مسّها حجرٌ مسّتهُ سرَّاءُ
ومنها:
طافتْ بإبريقِها والليلُ معتكرُ ... فلاحَ من نورِها في البيتِ لألاءُ
فأُرسلتْ من فمِ الإبريقِ صافيةً ... كأنّما أخذُها بالعينِ إغفاءُ
رقَّت عن الماءِ حتى ما يلائمُها ... لطافةً وجفا عن شكلها الماءُ
فلو مزجتْ بها ناراً لمازجها ... حتى تولَّد أنوارٌ وأضواءُ
لتلكَ أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانتْ تحلُّ بها هندٌ وأسماءُ
هذا البيت يكرر أبو نواس معناه كثيراً، وقال:
أيا باكيَ الأطلالِ غيَّرها البلى ... بكيتَ بعينٍ لا يجفُّ لها غربُ
يقول منها:
وندمانِ صدقٍ باكرَ الراح سحرةً ... فأضحى وما منه اللسانُ ولا القلبُ
وحاولَ نحو الكأسِ مشياً فلم يطقْ ... من الضعفِ حتى جاءَ مختبطاً يحبو
فقلنا لساقينا اسقهِ فانبرى له ... رقيقٌ بما سُمناهُ من عسلٍ ندبُ
فناولهُ كأساً جلتْ عن فؤادهِ ... فناولهُ أخرى فثارَ له لبُّ
تغنَّى وما دارتْ لهُ الكأسُ ثالثاً ... تعزَّى بصبرٍ بعد فاطمةَ القلبُ
وقال أيضاً:
قطرُ بلٌ مربعي ولي بقرى ال ... كرخِ مصيفٌ وأمِّيَ العنبُ
تُرضعني درَّها وتلحفني ... بظلها والهجير يلتهبُ
يقول فيها:
فقمتُ أحبو إلى الرضاعِ كما ... تحاملَ الطفلُ مسّهُ السغبُ
حتى تخيرتُ بيتَ دسكرةٍ ... قد عجمتها السنون والحقبُ
هتكتُ عنها والليلُ معتكرٌ ... مهلهلَ النسجِ ماله هدبُ
يريد نسج العنكبوت.
فاستوسقَ الشربَ للندامى وأج ... راها علينا اللجينُ والغربُ
اللجين الفضة والغرب الذهب يريد حكت الفضة بمائها والذهب بلونها، وعلى الأول يكون قد أخذه ابن المعتز فقال:
وخمّارةٍ من بنتِ المجوسِ ... ترى الزقَّ في بيتها شائلا
وزنا لها ذهباً جامداً ... فكالتْ لنا ذهباً سائلا
وقد أوضحه أبو نواس في بقية الأبيات وهي:
أقولُ لمّا حكتهما شبهاً ... أيّهما للتشابهِ الذهبُ
هما سواءٌ وفرقُ بينهما ... أنّهما جامد ومنسكبُ
ملسٌ وأمثالُها محفرةٌ ... صُور فيها القسوسُ والصلبُ
يتلونَ إنجيلَهم وفوقهم ... سماءُ خمرٍ نجومُها الحببُ
كأنّها لؤلؤٌ تُبدِّدهُ ... أيدي عذارى أفضى بها اللعبُ
الملس: الأقداح التي لا نقش عليها، والمحفرة: المنقوشة، والقسوس: الصور التي على الأقداح، يقول: إن الخمر علت هذه الصور حتى صارت لها سماء والنجوم حبابها. وقال:
ساعٍ بكأسٍ إلى ناشٍ على طربِ ... كلاهما عجبٌ في منظرٍ عجبِ
قامتْ تُريني وأمرُ الليلِ مجتمعٌ ... صبحاً تولَّد بين الماء والعنبِ
كأنَّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباءُ درٍّ على أرضٍ من الذهبِ
من كفِّ ساقيةٍ ناهيكَ ساقيةً ... في حسنِ قدٍّ وفي ظرفٍ وفي أدبِ
وقال من أخرى:
أعاذلَ أعتبتُ الإمامَ وأعتبا ... وأعربتُ عمَّا في الضميرِ وأعربا
أعتبت: رجعت، يقال: لك العتبى: أي لك الرجوع إلى ما تحب، وأعربت: أفصحت.
وقلتُ لساقينا أجزْها فلم يكنْ ... ليأبى أميرُ المؤمنين وأشربا
فجوَّزها عني عقاراً ترى لها ... إلى الشرف الأعلى شعاعاً مطنّبا
ترى حيثُ ما كانتْ من البيتِ مشرقاً ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
أخذه من قيس بن الخطيم:
قضى لها الله حين صورها ال ... خالق أن لا تكنها السدَفُ
ومنها:
إذا عبَّ فيها شاربُ القومِ خلتهُ ... يقبِّلُ في داجٍ من الليلِ كوكبا
سقاهم ومنّاني بعينيهِ منيةً ... فكانتْ إلى قلبي ألذّ وأعجبا
وقال أيضاً:
دعِ الأطلال تسفيها الجنوبُ ... وتبلي عهدَ جدَّتها الخطوبُ
وخلِّ لراكبِ الوجناءِ أرضاً ... تخبُّ بها النجيبةُ والنجيبُ

الوجناء: الناقة الصلبة. وقيل: العظيمة الوجنات.
إذا رابَ الحليبُ فبلْ عليه ... ولا تحرجْ فما في ذاك حوبُ
فأطيبُ منه صافيةٌ شمولٌ ... يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ
يمدُّ بها إليكَ يداً غلامٌ ... أغنّ كأنّه الرشأُ الربيبُ
وقال:
كلّ ميتٍ محرمٌ فأدرْها ... غيرَ مقتولةٍ بكأسِ المزاجِ
وقال:
باكر صباحك بالصبوح ولا تكن ... كمسوّفين غدوا عليك شحاحا
قال ابغني المصباح قلت له اتئد ... حسبي وحسبك ضوؤها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربةً ... كانت له حتى الصباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلاً فألبسها المزاجُ وشاحا
عمرتْ يكاتمك الزمانُ حديثَها ... حتى إذا بلغَ السآمةَ باحا
وقال من أخرى:
جريتُ مع الصِّبا طلقَ الجموحِ ... وهانَ عليَّ مأثورُ القبيحِ
وجدتُ ألذَّ عارية الليالي ... قرانَ النغمِ بالوترِ الفصيحِ
ومسمعةٍ إذا ما شئتَ غنتْ ... متى كانَ الخيامُ بذي طلوحِ
تمتَّع من شبابٍ ليسَ يبقى ... وصلْ بعرى الغبوقِ عرى الصبوحِ
الغبوق: شرب الليل، والصبوح: شرب الصباح.
وخذها من مشعشعةٍ كميتٍ ... تحركُ درةَ الرجلَ الشحيحِ
المشعشعة: الخمر التي قد راق مزاجها.
تخيرها لكسرى رائداهُ ... لها حظانِ من لونٍ وريحِ
الرائد: الذي يرسل في طلب الكلأ، يقال: الرائد لا يكذب أهله. وقال:
يا أخوتي ذا الصباحُ فاصطبحوا ... فقد تغنَّت أطيارُه الفصحُ
هبُّوا خذوها فقد شكانا إلى ال ... إبريقِ من طولِ نومنا القدحُ
صرفاً إذا شجّها المزاجُ بأي ... دي شاربيها تولّد الفرحُ
وقال:
عاذلي في المدام غيرَ نصيحِ ... لا تلمْني على شقيقةِ روحي
لا تلمني على التي فتنتني ... وأرتني القبيحَ غير قبيحِ
قهوةٌ تتركُ الصحيحَ سقيماً ... وتعيرُ السقيمَ ثوبَ الصحيحِ
إنّ بذلي لها لبذلُ جوادٍ ... واقتنائي لها اقتناءُ الشحيحِ
وقال:
لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ ... واشربْ على الوردِ من حمراء كالوردِ
كأساً إذا انحدرتْ في حلقِ شاربها ... أحذتْه حمرتها في العينِ والخدّ
أحذته: من الحذيا، وهي العطية.
فالخمرُ ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ ... من كفِّ جاريةٍ ممشوقة القدِّ
تسقيكَ من ريقها ضمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرينِ من بدِّ
لي نشوتانِ وللندمانِ واحدةٌ ... شيءٌ خُصصتُ به من بينهم وحدي
وقال:
ألا سقِّني خمراً وقل لي هي الخمرُ ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكنَ الجهرُ
فما الغبنُ إلاّ أنْ تراني صاحياً ... وما الغنمُ إلاّ أنْ يتعتعني السكرُ
فبحْ باسمِ من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خيرَ في اللذاتِ من دونها سترُ
وقال:
أعطتك ريحانَها العقارُ ... وحانَ من ليلكَ انسفارُ
يقول: إنه شربها فتحوّل طيبها إليه، وقيل: كانت كلون بعض الرياحين فلما شربتها حولت ذلك اللون إلى خدك. ومثله: أخذتك حمرتها.
وأخذه من الأعشى في قوله:
فانعمْ بها قبلَ رائعاتٍ ... لا خمرَ فيها ولا خمارُ
ووقرِ الكأسَ عن سفيهٍ ... لأنَّ آيينَها الوقارُ
آيينَها: هيئتها وما يصلحها.
تحيرتْ والنجومُ وقفٌ ... لم يتمكنْ بها المدارُ
فلم تزلْ تأكلُ الليالي ... جثمانَها ما بها انتصارُ
حتى إذا مات كلّ ذامٍ ... وخُلصَ السرُّ والنجارُ
سرّ كل شيء: خالصه.
عادتْ إلى جوهرٍ لطيفٍ ... عيانُ موجودهِ ضمارُ
ويروى: آلت أي رجعت، يقول: معاينة ما وجد مني خفيّ.
كأن في كأسِها شراباً ... يخيلهُ المهمهُ القفارُ
لا ينزلُ الليلُ حيثُ حلّت ... فدهرُ شرابِها نهارُ
ما أسكرتني المدام لكن ... مديرُ عينٍ بها احورارُ
وقال من أخرى:
دعْ لباكيها الديارا ... وانفِ بالخمرِ الخمارا
واشربنها من كميتٍ ... تدعُ الليلَ نهارا
بنت عشرٍ لم تُعاينْ ... غيرَ نارِ الشمسِ نارا
ثمّ شجتْ فأدارتْ ... فوقها طوقاً فدارا

كاقترانِ الدرِّ بالد ... رِّ صغاراً وكبارا
فإذا ما اعترضته ال ... عينُ من حيثُ استدارا
خلتهُ في جنباتِ ال ... كأسِ واواتٍ صغارا
فإذا ما سلسلوها ... أحْذتِ العينَ احمرارا
صبوها في الحلوق فبقي تتابع جريها شبيهاً بالسلاسل والحذيا.
من يديْ ساقٍ ظريفٍ ... كسيَ الحسنَ شعارا
ومغنّ كلّما شئ ... تُ تغنَّى وأشارا
رفعَ الصوتَ بصوتٍ ... هاجَ للقلبِ ادِّكارا
صاحِ هل أبصرتَ بالحيّ ... ينِ من أسماءَ نارا
وقال:
ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثرٌ منهم جديد ودارسُ
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنيّ ويابسُ
الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، وهذا البيت ينظر إلى قول امرئ القيس وإن لم يتضمن تشبيهاً:
كأنَّ قلوبَ الطيرِ رطباً ويابساً ... لدى وكرها العنابُ والحشفُ البالي
حبست بها صبحي فجددت عهدهم ... وإني على أمثالِ تلك كابس
ولم أدرِ من هم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابسُ
البسابسُ: الصحارى الواحد بسبس، وقالوا: سبسب فقبلوا، كما قالوا: جذب وجبذ، وكأنه نظر في هذا البيت إلى قول أبي خراش:
ولم أدرِ من ألقى عليهِ رداءهُ ... ولكنه قد سلَّ من ماجدٍ محضِ
أقمتُ بها يوماً ويوماً وثالثاً ... ويوماً له يوم الترحل خامسُ
تدور علينا الكاس في عسجديةٍ ... حبتها بأنواع التصاويرِ فارسُ
العسجد: الذهب، يريد آنية ذهبية.
فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم ... وللماء ما دارت عليه القلانسُ
يريد أن الخمر صُبت إلى حلوق الصور التي على الأقداح والماء إلى رؤوسها. وقال:
قالوا كبرتَ فقلت ما كبرت يدي ... عن أن تخبّ إلى فمي بالكاسِ
والراحُ طيبةٌ وليسَ تمامها ... إلاّ بطيبِ خلائقِ الجلاسِ
وكأنَّ شاربها لفرطِ شعاعها ... بالليل يكرع في سنا مقباضِ
وقال:
كفيتُ الصبا من لا يهش إلى الصبا ... وجمعت منه ما أضاع مضيعُ
أعاذل ما فرطتُ في جنب لذةٍ ... ولا قلت للخمار كيف تبيعُ
وقال:
ومدامة تحيا النفوسُ بها ... جلتْ مآثرها عن الوصفِ
وتروى سجد الملوك لها، ومنها:
فتنفست في البيت إذْ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنفِ
من كفِّ ساقيةٍ مقرطقةٍ ... ناهيكَ من حسنٍ ومن ظرفِ
نظرت بعينيْ جؤذرٍ خرقٍ ... وتلفتتْ بسوالفِ الخشفِ
الجؤذر: ولد البقرة الوحشية، وخرق: لاصق بالأرض من الفزع، والسالفة: صفحة العنق. وقال:
وخيمةِ ناطورٍ منيفةٍ ... تهمُّ يدا من رامها بزليلِ
منيفة: هضبة مرتفعة. يقال: زللك يا فلان تزل زليلاً إذا زل.
إذا عارضتْها الشمسُ فاءَ ظلالها ... وإنْ واجهتْها آذنتْ بدخولِ
حلبتُ لأصحابي بها درةَ الصِّبا ... بصفراءَ من ماءِ الكرومِ شمولِ
درة الصبا: ماء مطر كان بالصبا وروى قوم: درة الصبي. يقول: سقيتهم صفراء شمولاً فكأني حلبت لهم درة لهو وتصاب.
إذا نزلتْ دونَ اللهاةِ من الفتى ... دعا همُّه من صدرهِ برحيلِ
وعاطيتُ من أهوى الحديثَ كما بدا ... وذلّلتُ صعباً كانَ غيرَ ذليلِ
ويروى: غير ذلول، غير لين الرياضة، والذليل الممتهن، يقول: ذلك من لا يمتهنه أحد.
فغنَّى وقد وسَّدتُ يسرايَ خدهُ ... ألا ربما طالبتُ غيرَ منيلِ
وقال:
أما ترى الشمسَ حلتِ الحملا ... وطابَ وقتُ الزمانِ واعتدلا
ويروى:
وقامَ وزنُ الزمانِ واعتدلا
وغنتِ الطيرُ بعدَ عُجمتها ... واستوفتِ الخمرُ حولها كملا
الخمر تُعصر والشمس في آخر الأسد وأول السنبلة ومن هذا إلى أن تحل الحمل سبعة أشهر وهذا لا يكون حولاً. والمعنى أنها استوفت حولاً مذ عقد الكرم وورق، وقيل: حولها: تغيرها، تحول في الدن وتتلون فإذا مضت لها هذه المدة قرّت ولزمت شيئاً واحداً ويكون هذا من حالت تحول حولاً والأول أجود.
وقول ثالث كان المبرّد يختاره، حولها: قوتها، من قولهم: لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
واكتستِ الأرضُ من زخارفها ... وشيَ نباتٍ تخاله حللا

فاشربْ على جدةِ الزمانِ فقد ... أصبحَ وجهُ الزمانِ مقتبلا
يقال هو مقتبل الشباب إذا لم يبن فيه أثر كبر وما أحسن هذا البيت لولا تكرار لفظة الزمان فيه.
كرخيّةً تتركُ الطويلَ من ال ... عيشِ قصيراً وتبسطُ الأملا
تلعبُ لعبَ الشرابِ في قدحِ ال ... قومِ إذا ما حبابها اتَّصلا
اتصل: قارب بعضه بعضاً، ويروى: انتضلا من النضال والأول أجود، والحباب معلوم. وقال:
يا ربَّ صاحبِ حانةٍ قد رعتُه ... فبعثتهُ من نومهِ المتزمِّلِ
تزمّل بثوبه: تلفف به وتغطى.
يا صاحبَ الحانوتِ لا تكُ مشغباً ... أنَّ الشرابَ محرمٌ كمحللِ
يقول: الخمر المطبوخ عندي سواء وقد فسره بقوله:
فدع الذي نبذتْ يداكَ وعاطني ... للهِ درُّك من شرابِ الأرجلِ
أقول: إن أبا نواس أخذ هذا من حسان بن ثابت حيث قال:
إنَّ التي ناولتني فرددتُها ... قُتلتْ قُتلتَ فهاتها لم تُقتلِ
كلتاهما حلبُ العصيرِ فعاطني ... بمدامةٍ أرخاهما للمفصلِ
فإن رغبة حسان عن الممزوج كرغبة أبي نواس عن المطبوخ، ورغبة أبي نواس في الخمر كرغبة حسان في الصرف. نعود إلى أبيات أبي نواس:
ممّا تخيرها التجارُ ترى لها ... قرصاً إذا ذيقتْ كقرصِ الفلفلِ
ولها دبيبٌ في العظامِ كأنهُ ... قبضُ النعاسِ وأخذهُ بالمفصلِ
المفصل: واحد مفاصل الأعضاء، والمِفصل، بالكسر: اللسان وإياه أراد.
عبقتْ أكفهمُ بها فكأنما ... يتنازعون بها سخابَ قرنفلِ
السخاب: قلادة تتخذ من السك وغيره، ليس فيها جوهر والجمع سخب.
تسقيكها كفٌّ إليك حبيبةٌ ... لا بدَّ إنْ بخلتْ وإنْ لم تبخلِ
أخذ أبو تمام هذا فقال في المدح:
ورأيتَني فسألتَ نفسك سيبها ... لي ثمَّ جدتَ وما انتظرتَ سؤالي
كالغيثِ ليسَ له أُريدَ غمامهُ ... أو لم يُردْ بدٌّ من التهطالِ
وقال:
كانَ الشبابُ مطيةَ الجهلِ ... ومحسِّنُ الضحكاتِ والهزلِ
كانَ الجميلَ إذا ارتديتُ به ... وخرجتُ أخطرُ صيِّتَ النعلِ
يقال: خطر بباله يخطر، بالضم، وخطر في مشيته يخطِر، بالكسر، بمداسٍ يصرُّ.
كانَ المشفعَ في مآربهِ ... عندَ الفتاةِ ومدركَ التبلِ
والباعثي والناسُ قد رقدوا ... حتى أكونَ خليفةَ البعلِ
والآمري حتى إذا عزمتْ ... نفسي أعانَ يدي على الفعلِ
هذه الأبيات قد سبق ذكرها في وصف الشباب، وإنما ذكرتها ثانياً لما تضمنه باقيها من وصف ما أنا بصدده وهي:
فالآنَ صرتُ إلى مقاربةٍ ... وحططتُ عن ظهر الصبا رحلي
والكأسُ أهواها وإنْ رزأتْ ... بلغَ المعاشِ وقللتْ فضلي
رزأت: نقصت، وبلغ المعاش: القوت، وهو جمع بُلغة، وقللت فضلي: ذهبت بما عندي من فضل.
وقد أحسن مهيار ما شاء في قوله:
في بُلغِ العيشِ لي فضولٌ ... فما التفاتي إلى الفضولِ
نعود إلى الأبيات:
ذُخرتْ لآدم قبلَ خلقتهِ ... فتقدَّمتهُ بخطوةِ القبلِ
فأتاكَ شيءٌ لا تلامسهُ ... إلاّ بحسنِ غريزةِ العقلِ
فترود منها العين في بشرٍ ... حرِّ الصفيحةِ ناصعٍ سهلِ
ترود: تذهب وتجيء، وحرّ: كريم، والصفيحة: جلدة الوجه وبشرته، ناصع: ظاهر اللون خالص.
حتى إذا سكنتْ جوانحُها ... كتبتْ بمثلِ أكارعِ النملِ
جمح الفرس جموحاً وجماحاً: إذا غلب فارسه، والجموح من الرجال: الذي يركب هواه فيتعذر رده، يريد أن زبدها لما سكنت كان كأكارع النمل دقة وخفاء.
وقال:
لا تعرِّجْ بدارسِ الأطلالِ ... واسقنيها رقيقةَ السربالِ
مات أربابها وبادت قُراها ... وبراها الزمانُ بريَ الخلالِ
عُتقت في الدنانِ حتى استفادتْ ... نورَ شمسِ الضحى وبردَ الظلالِ
ولعمر المدام إنْ قلتَ فيها ... إنَّ فيها لموضعاً للمقالِ
وقال:
اسقنا إنَّ يومنا يومُ رامِ ... ولرامٍ فضلٌ على الأيامِ
يوم رام: يوم أحد وعشرين من كل شهر من شهور الفرس، وشهرهم ثلاثون يوماً أبداً، ولكل يوم منها اسم. يقال: إنه كان لهم في يوم رام لذة وفرح.
من شرابٍ ألذَّ من نظرِ المعش ... وقِ في وجهِ عاشقٍ بابتسامِ

بنتُ عشرٍ صفتْ ورقت فلو صُب ... تْ على الليل راح كلّ ظلامِ
في رياضٍ بهيةٍ بكر النَّو ... ءُ عليها بمستهلِ الغمامِ
وقال أيضاً:
أعاذلُ ما على وجهي قتومُ ... ولا عرضي لأولِ منْ يسومُ
يفضّلني على الفتيانِ أني ... أبيتُ فلا أُلامُ ولا أُليمُ
أي لا آتي ما ألامُ عليه أي أعذل.
شُققتُ من الصبا واشتُقَّ مني ... كما اشتقَّت من الكرمِ الكرومُ
فلستُ أُسوِّفُ اللذاتِ نفسي ... مساومةً كما دُفع الغريمُ
ولا بمدافعٍ للكأسِ حتى ... يهيِّجني على الطربِ النديمُ
ومتّصل بأسبابِ المعالي ... لي في كلِّ مكرمةٍ حميمُ
رفعتُ له النداءَ بقمْ فخذْها ... وقد أخذتْ مطالعها النجومُ
فقمتُ فقام من أخوين هاجا ... على طربٍ وليلهما بهيمُ
أجرُّ الزقَّ وهو يجرُّ رِجلاً ... يجورُ بها النعاسُ ويستقيمُ
وقال:
ألا لا أرى مثلَ امترائي في رسم ... تغصُّ به عيني ويلفظه وهمي
ويروى: ألا لا أرى مثلي امترى اليومَ في رسمِ ماريت الرجل أماريه مراء: إذا جادلته، والمرية: الشك، وقوله: تغص به عيني : أي تمتلئ بالدمع معرفة، ثم ينكره وهمي لتغيره.
أتتْ صورةُ الأشباه بيني وبينها ... فجهلي كلاَ جهلٍ وعلمي كلاَ علمِ
فطبْ بحديثٍ عن نديمٍ مساعدٍ ... وساقيةٍ سنّ المراهقِ للحلمِ
ضعيفةُ كرِّ الكرفِ تحسبُ أنّها ... حديثةُ عهدٍ بالإفاقةِ من سقمِ
هذا هو الشعر الذي تطرب له النفوس فرحاً ومسرة، ويلوح على وجه المعاني الرائقة غرة، وماذا عسى أن يقال في شيخ الصناعة وفارس البراعة.
وإنّي لآتي الوصلَ من حيثُ يُتَّقى ... ويعلمُ سهمي حين أنزعُ من أرمي
النزع في القوس مدها، أخذه من قول ابن الدمينة:
وإنّي لآتي الأمرَ من حيثُ يتَّقى ... وأرعى الحمى من حيثُ لم يدرِ حاجره
المحجر، بالفتح: ما حول القرية، ومن محاجر أقيال اليمن: وهي الأحماء، وكان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره.
وقال أبو نواس:
صفةُ الطلولِ بلاغةُ الفدْم ... فاجعلْ صفاتكَ لابنةِ الكرمِ
لا تخدعنَّ عن التي جُعلتْ ... سقمَ الصحيحِ وصحةَ السقمِ
سقم الصحيح: الخمار وذهاب العقل، وصحة السقم: النفع الحاصل من شربها والنشاط العارض منه.
وصديقةِ النفسِ التي حُجبتْ ... عن ناظريك وقيِّم الجسمِ
شُجتْ فغالت فوقها حبباً ... متراصفاً كتراصفِ النظمِ
غالت: رفعت، والرَّصفة، بالتحريك: واحدة الرصف، وهي حجارة مرصوف بعضها إلى بعض أي مصففة.
فعلامَ تذهلُ عن مشعشعةٍ ... وتهيمُ في طللٍ وفي رسمِ
تصفُ الطلولَ على السماعِ بها ... أفَذو العيانِ كأنت في العلمِ
وإذا وصفتَ الشيءَ متبعاً ... لم يخلُ من سقطٍ ومن وهمِ
هو يخاطب المحدثين من الشعراء الذين وصفوا الطلول اتباعاً لمن وصفها مشاهداً لها، يقول: لست في وصفك لها بالسماع كمن وصفها وشاهدها.
وقال:
يا شقيقَ النفسِ من حكمِ ... نمتَ عن ليلي ولم أنمِ
فاسقني البكرَ التي اختمرتْ ... بخمار الشيبِ في الرَّحمِ
اختمرت: لبست خمار الشيب في دنها فبلغت أقصى السن ولم تخرج عنه، وجعله كالرحم للطفل. وقيل: إنه نسج العنكبوت. وقيل: إن أول ما تنفطر الكرمة يخرج منها شيء أبيض شبيه بالقطن. وأقول: إنه لما وصفها بطول المكث حسن أن يقول: اختمرت بخمار الشيب، لموضع طول مدتها وعتقها وخدرها. وزاده حسناً قوله: في الرحم، لأنها قد بلغت سن من لو كان يشيب لكان قد اختمر بخمار الشيب، وهذا واضح جيد.
ثمتَ انصاتَ الشبابُ لها ... بعدما جازتْ مدى الهرمِ
كأنها صوتت له فانصات مثل دعته فاندعى.
فهيَ لليومِ الذي بُزلتْ ... وهيَ تلوُ الدهر في القدمِ
عُتقتْ حتى لو اتصلتْ ... بلسانٍ ناطقٍ وفمِ
لاحتبتْ في القومِ ماثلةً ... ثمَّ قصتْ قصةَ الأممِ
قرعتْها بالمزاجِ يدٌ ... خُلقتْ للكأسِ والقلمِ
في ندامى سادةٍ زهرٍ ... أخذوا اللذات من أممِ
فتمشتْ في مفاصلهم ... كتمشي البرءِ في السقمِ

فعلتْ في البيتِ إذْ مُزجتْ ... مثلَ فعلِ الصبحِ في الظلمِ
فاهتدى ساري الظلامِ بها ... كاهتداءِ السفرِ بالعلمِ
أقول: إني إنما ابتدأت بأشعار أبي نواس في الخمر لأنه أكثر الناس إحساناً فيها، وأولهم استقصاء لمعانيها، وأسبقهم إلى التنوق في أوصافها وألقابها، وأكثرهم معاقرة لندمانها وشرابها، وأوفاهم تشوقاً إليها وتطرباً عليها، وأبلغهم قولاً في نعوتها الرائقة وصفاتها الفائقة، وإن وجد لمن تقدمه شيء من ذلك فإنما يوجد القليل النادر، ومن تأخر عن زمانه عيال عليه وتبع له. وها أنا أذكر ما يخطر من الأشعار والأخبار فيها على حسب ما اشترطته في هذا الكتاب.
كان يقال: للشراب حدان: حد لا هم فيه، وحد لا عقل فيه، فعليك بالأول واتق الثاني. مر أنوشروان وكان يعجبه الورد بوردة ساقطة، فقال: أضاع الله من أضاعك ونزل فأخذها وقبّلها وشرب مكانها سبعة أيام.
قال جميل:
فلمّا ماتَ من طربٍ وسكرٍ ... رددتُ حياتهُ بالمسمعاتِ
فقام يجرُّ عطفيه خماراً ... وكانَ قريبَ عهدٍ بالمماتِ
ابن نباتة السعدي:
نعمتُ بها يجلو عليَّ كؤوسه ... أغرُّ الثنايا واضحُ الجيدِ أحورُ
فواللهِ ما أدري أكانتْ مدامةً ... من الكرمِ تُجنى أم من الشمس تُعصرُ
إذا صبَّها جنحُ الظلامِ وعبَّها ... رأيتَ رداءَ الليلِ يُطوى وينشرُ
الببغاء:
واجلُ شمسَ العقار في يدِ بدرِ ال ... حسن يخدمكَ منهما النيِّرانِ
في كؤوسٍ كأنها زهرُ الخش ... خاشِ ضمتْ شقائق النعمانِ
إنما سميت شقائق النعمان لأن النعمان بن المنذر رأى أرضاً كثيرة الشقائق فحماها فنسب إليه.
واختدعها عندَ البزالِ بألفا ... ظِ المثاني ومطرباتِ الأغاني
فهي أولى من العرائس إنْ زفَّ ... ت بعزفِ الناياتِ والعيدانِ
قال ابن الجهم: قلت لجارية: نجعل الليلة مجلسنا في القمر، فقالت: ما أولعك بالجمع بين الضرائر، قلت: فأي الشراب أحب إليك، فقالت: ما ناسب روحي في الخفة ونكهتي في الطيب وريقي في اللذة ووجهي في الحسن، وخلقي في السلاسة.
ابن سكرة:
فما ترى في اصطباحِ صافيةٍ ... بكرٍ حناها في الحانةِ الكبرُ
فهي لمنْ شمَّ ريحَها أثرٌ ... وهي لمنْ رامَ لمسَها خبرُ
في روضةٍ راضها الربيعُ وما ... قصَّر في وشيِ قصرها المطرُ
وقد نأى النأيُ بالعقولِ وما ... قصّر في نيلِ وترهِ الوترُ
أشخص الوليد بن يزيد شراعة من الكوفة، وقال له: ما أحضرتك لأسألك عن كتاب الله ولا عن سنّة نبيه صلى الله عليه وسلّم، قال: والله لو سألتني عنهما لألفيتني فيهما حماراً، قال: ولكن أسألك عن الفتوة، قال: أنا دهقانها الخبير وطبيبها الرفيق، قال: أخبرني عن الماء، قال: لا بد منه والحمار شريكي فيه، قال: فاللبن، قال: ما رأيته قط إلاّ استحييت من أمي من طول ما أرضعتنيه، قال: فالسويق، قال: فالسويق شراب الحزين والمريض والمستعجل، قال: فنبيذ التمر، قال: سريع الملي سريع الإنفاش ضرط كله، قال: فنبيذ الزبيب، قال: حومة يحامها حول الأمر، قال: فما تقول في الخمر، قال: تلك صديقة روحي، قال: وأنت صديقي فاقعد، أي الطعام أحب إليك، قال: ليس لصاحب النبيذ على الطعام حكم إلاّ أن أشهاه إليه أمره وأنفعه أدسمه، قال: فأي المجالس أطيب، قال: البراح ما لم تحرقه الشمس ويغرقه المطر والله يا أمير المؤمنين ما شرب الناس على شيء أحسن من وجه السماء.
شاعر:
كأنما عرضٌ في كفّ شاربها ... تخالهُ فارغاً والكأس ملآنُ
ابن المعتز:
يا نديميَّ سقِّياني فقد لا ... حَ صباحٌ وأذَّنَ الناقوسُ
من كميتٍ كأنها أرضُ تبرٍ ... في نواحيه لؤلؤٌ مغروسُ
وقال:
كأنهُ وكأنَّ الكأسَ في فمهِ ... هلال أول شهرٍ غابَ بالشفقِ
ديك الجن:
فقامَ تكادُ الكأسُ تخضبُ كفهُ ... وتحسبهُ من وجنتيهِ استعارها
مشعشعةٌ من كفِّ ظبيٍ كأنما ... تناولها من خدهِ فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتعُ روحها ... وتأخذُ من أقدامِنا الراحُ ثارها
أخذه ابن الأصباغي فقال:
عقرتهم عقارة لو سالمت ... شرابها ما سميتْ بعقارِ

ذكرت حقائدها القديمة إذْ غدتْ ... قدماً تُداس بأرجل العقَّارِ
لانت لهم حتى انتشوا وتمكنتْ ... منهم وصاحتْ فيهم بالثارِ
أبو عثمان الخالدي:
هتفَ الصبحُ بالدجى فاسقنيها ... قهوةً تجعلُ الحليمَ سفيها
لستُ أدري من رقةٍ وصفاءٍ ... هي في الكأسِ أم صبت الكأسُ فيها
ويقرب من هذا:
رقّ الزجاجُ ورقَّتِ الخمرُ ... فتشابها وتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
أبو طاهر بن حيدر:
مرحباً بالتي بها قُتل اله ... مُّ وعاشتْ مكارمُ الأخلاقِ
وهي في رقةِ الصبابةِ والوج ... دِ وفي قسوةِ النوى والفراقِ
لستُ أدري أمنْ خدودِ العذارى ... سفكوها أو أدمعِ العشاقِ
آخر:
وأغيدُ معسولُ المراشفِ زارني ... على فرقٍ والنجمُ حيرانُ طالعُ
فنازعتهُ الصهباءَ والليلُ ناصلٌ ... رقيق حواشي البردِ والنسرُ واقعُ
عقارٌ عليها من دم الصبِّ نقطةٌ ... ومن عبراتِ المستهامِ فواقعُ
معوّدة غصبَ العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائعُ
تدير إذا شجتْ عيوناً كأنها ... عيون العذارى شق عنها البرقعُ
أشجع السلمي:
ولقد طعنتُ الليلَ في أعجازهِ ... بالكأسِ بين غطارفٍ كالأنجمِ
يتمايلونَ على النعيمِ كأنَّهم ... قضبٌ من الهندي لم يتثلّمِ
يسعى بها الظبي الغريرُ يزيدُها ... طيباً ويغشمها إذا لم تغشمِ
فإذا أدارتها الأكفُّ رأيتها ... تثني الفصيحَ إلى لسانِ الأعجمِ
تغلي إذا ما الشعريانِ تلظتا ... صيفاً وتسكنُ في طلوعِ المرزمِ
ولها سكون في الإناء وخلفه ... شغبٌ تطوّح بالكمي المعلمِ
تُعطي على الظلمِ الفتى بقيادها ... قسراً وتظلمه إذا لم يظلمِ
شرب الأقيشر في حانة بالحيرة حتى نفد ما معه ورهن ثيابه، وكان شتاء ثم جلس في تبن هناك واجتاز رجل ينشد ضالته، فقال الأقيشر: اللهم ارددها إليه واحفظ عليها، فقال الحاني: ويحك أي شيء يحفظ ربك، قال: هذا التبن لا تأخذه فأموت برداً فضحك منه ورد ثيابه.
جلست عجوز من الأعراب إلى فتيان يشربون فسقوها قدحاً فطابت نفسها وتبسمت ثم سقوها آخر فاحمر وجهها وضحكت فسقوها ثالثاً، فقالت: أخبروني عن نسائكم بالعراق أيشربن هذا الشراب، قالوا: نعم، قالت: زنين ورب الكعبة.
شرب داود المصاب مع قوم في شهر رمضان، فقالوا له وقت السحر: قم فانظر هل تسمع أذاناً فأبطأ ساعة ثم رجع، وقال: اشربوا فإني لم أسمع إلاّ أذان سوء من مكان بعيد.
شرب بعضهم عند خمّار فلم يسكر فشكا إليه، فقال: اصبر فهذا يأخذ في آخره فلما انصرف أخذه الطائف وحُبس، فقال: صدق الخمّار قد أخذه في آخره.
وعاب مسلم بن الوليد أبا نواس في الخمر، وقال له: خلعت عذارك وأطلت الإكباب على المجون حتى غلب على لبك وما كذا يفعل الأدباء، فأطرق هنيهة، ثم قال:
فأول شربك طرْح الرداء ... وآخر شربكَ طرحُ الإزارِ
وما هنأتك الليالي كمثل ... إماتةِ مجدٍ وإحياءِ عارِ
وما جادَ دهرٌ بلذاتهِ ... على منْ يضنُّ بخلعِ العذارِ
فانصرف مسلم آيساً من فلاحه، وهو يقول: جواب حاضر من شيخ فاجر. ويعجبني قول القائل في الاعتذار عن السكر:
إذا شربت ماء الحياء وجوهنا ... تنقّل عنها ماؤها وحياؤها
إذا كانتِ الصهباءُ شمساً فإنَّما ... يكونُ أحاديث الرجال هباؤها
وقد ظرف القائل:
كان منِّي على المدامةِ ذنبٌ ... فاعفُ عنِّي فأنتَ للعفو أهلُ
لا تؤاخذْ بما يقولُ على السُّك ... رِ فتًى ما له على الصحوِ عقلُ
آخر:
إذا ما صدمتني الكأسُ أبدتْ محاسني ... ولم يخشَ ندماني أذاتي ولا بخلي
ولستُ بفحاشٍ عليه وإن أسا ... وما شكلُ من آذى نداماه من شكلي
المعروف بالعطار المغربي:
وكأسٍ ترينا آيةَ الصبح في الدجى ... فأوّلها شمسٌ وآخرها بدرُ
مقطّبةٌ ما لم يزرْها مزاجُها ... فإنْ زارها جاءَ التبسمُ والبشرُ
فيا عجباً للدهرِ لم تخلُ مهجةٌ ... من العشقِ حتى الماءُ تعشقهُ الخمرُ

خليليَّ هات الكأسَ ممزوجةَ الرضى ... بسخطٍ فقد طابَ التنادمُ والسمرُ
ونبِّهْ لنا منْ كانَ في الشربِ نائماً ... فقد نامَ جنحُ الليلِ وابتسمَ الفجرُ
ابن قاضي ميلة:
ومدامة عُني الرضاب بمزجها ... فأطابها وأزارها التقبيلُ
ذهبية ذهبَ الزمانُ بجسمِها ... قدماً فليسَ لجسمِها تحصيلُ
فكأنَّها شمسٌ وكفُّ مديرها ... فينا ضحًى وفمُ النديمِ أصيلُ
الماهر:
هو يومٌ حلوُ الشمائلِ فاجمعْ ... بكؤوسِ المدامِ شملَ السرورِ
منْ مدامٍ أرقّ من نفسِ الصّبِّ ... وأصفى من دمعةِ المهجورِ
رقَّ جلبابها فلم يُرَ إلاّ ... روحُ نارٍ تحلُّ في جسمِ نورِ
آخر:
وكأسٍ سباها السفرُ من أرضِ بابلٍ ... كرقةِ ماءِ الحزنِ في الأعينِ النُّجلِ
إذا شجَّها الساقي حسبتَ حبابها ... عيونَ الدبا من تحت أجنحةِ النملِ
آخر:
وزنّا الكأس فارغةً وملأى ... فكانَ الوزنُ بينهما سواءَ
مثله، وأظنه لابن دريد، وهو أبلغ:
تقُلتْ زجاجاتٌ أتتنا فرَّغاً ... حتى إذا مُلئتْ بصرفِ الراحِ
خفَّت فكادتْ أنْ تطيرَ بما حوتْ ... وكذا الجسومُ تخفُّ بالأرواحِ
الببغاء يصف معصرةً:
ومعصرةٍ أنختُ بها ... وقرنُ الشمسِ لم يغبِ
فخلتُ قرارَها بالرا ... حِ بعضَ معادنِ الذهبِ
وقد ذرفت لفقد الكر ... مِ فيها أعينَ العنبِ
وجاشَ عبابُ واديها ... بمنهلٍّ ومنسكبِ
وياقوتُ العصير بها ... يلاعبُ لؤلؤَ الحببِ
فيا عجباً لعاصرها ... وما يفنى بها عجبي
وكيفَ يعيشُ وهو يخو ... ضُ في بحرٍ من اللهبِ
التنوخي:
وراحٍ من الشمس مخلوقةٍ ... بدتْ لكَ في قدحٍ من نهارِ
هواءٌ ولكنه جامدٌ ... وماءٌ ولكنّهُ غير جارِ
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسارِ
تدرّع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍّ من الجلنارِ
إسحاق الموصلي:
كأنَّ أباريق المدام لديهم ... ظباءٌ بأعلى الرقمتينِ قيامُ
وقد شربوا حتى كأنَّ رقابَهم ... من اللينِ لم تُخلقْ لهنَّ عظامُ
ابن الرومي في قدح:
كفمِ الحبِّ في الحلاوةِ أو أش ... فى وإنْ كانَ لا يناغي بحرفِ
تنفذ العينُ فيه حتى تراها ... أخطأتهُ من رقةِ المستشفِّ
وسطُ القدّ لم يكبَّر لجرعٍ ... متوالٍ ولم يصغَّر لرشفِ
لا عجولٌ على العقولِ جهولٌ ... بل حليمٌ عنهنّ من غيرِ ضعفِ
ما رأى الناظرون قدّاً وشكلا ... مثله فارساً على ظهر كفِّ
السري الرَّفَّاء الكندي الموصلي:
كستْكَ الشبيبةُ ريعانَها ... وأهدتْ لكَ الراحُ ريحانَها
فدمْ للنديمِ على عهدهِ ... وغادِ المدامَ وندمانَها
يقال: إنما سمي النديم نديماً لأنه تندم على مفارقته.
فقد خلع الأفقُ ثوبَ الدجى ... كما نضتِ البيضُ أجفانَها
وساقٍ يواجهُني وجههُ ... فتجعلهُ العينُ بستانَها
يتوّج بالكأسِ كفَّ النديمِ ... إذ عقدَ الماءُ تيجانَها
فطوْراً يرشحُ ياقوتَها ... وطوْراً يرصّعُ عقيانَها
وديرٍ شُغفتُ بغزلانهِ ... وكدتُ أُقبِّلُ صلبانَها
سكرتُ بقطرُ بل ليلةً ... لهوتُ فغازلتُ غزلانَها
وأيُّ ليالي الهوى أحسنتْ ... إليَّ فأنكرتُ إحسانَها
كان بعضهم يتحرج عن الخمر ويأمر غلامه بشراء المطبوخ، ويقول: حلّف الخمّار على أنه مطبوخ فإذا أتاه به، قال: هذا رديء لا صفاء له ولا لون، ولا يزال يردده حتى يأتيه بالخمر الصرفة، فيقول: أما استوثقت منه، فيقول: بلى واستحلفته، فيقول: أعرفه ثقة صادقاً وقد حج مرتين ثم يقعد ويشرب مطمئناً.
شرب جعفري ولهبي على سطح عال فسكر الجعفري ووثب من السطح، وقال: أنا ابن الطيار في الجنة، فوقع إلى الأرض متكسراً وكان في اللهبي بقية فقال: أنا ابن المقصوص في النار ولبد مكانه.

أقسام الكتاب
1 2