كتاب : المقتضب
المؤلف : المبرد

وكذلك: سرت فرسخاً؛ لأن السير لا يخلو من أن يكون فرسخاً أو بعضه. وجلست خلفك لا ينفك منه شيء أن يكون خلف واحد، وإنما أضافه بعد أن كان مطلقاً، وكذلك: قمت أمامك، ونحوه.
فإن قال: جلست الدار يا فتى، أو قمت المسجد، أو قمت البيت لم يجز؛ لأن هذه مواضع مخصوصة ليس في الفعل عليها دليل. فكل ما كان في الجملة مما يدل عليه الفعل فهو متعد إليه، وما امتنع من ذلك فهو ممتنع منه.
فأما دخلت البيت فإن البيت مفعول. تقول: البيت دخلته. فإن قلت: فقد أقول: دخلت فيه. قيل: هذا كقولك: عبد الله نصحت له ونصحته، وخشنت صدره، وخشنت بصدره فتعديه إن شئت بحرف، وإن شئت أوصلت الفعل؛ كما تقول: نبأت زيداً يقول ذاك، ونبأت عن زيد. فيكون نبأت زيداً مثل أعلمت زيداً، ونبأت عن زيد مثل خبرت عن زيد.
ألا ترى أن دخلت إنما هو عمل فعلته، وأوصلته إلى الدار، لا يمتنع منه ما كان مثل الدار. تقول: دخلت المسجد، ودخلت البيت. قال الله عز وجل، " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " . فهو في التعدي كقولك: عمرت الدار، وهدمت الدار، وأصلحت الدار لأنه فعل وصل منك إليها، مثل ضربت زيداً. فعلى هذا تجري هذه الأفعال في المخصوص والمبهم.
فأما ما لا يتمكن من ظروف المكان والزمان، فسأصف لك حروفاً تدل على العلة فيما جرى مجراها، لتتناول القياس من قرب إن شاء الله.
فأما عند فالذي منعها من التمكن أنها لا تخص موضعاً، ولا تكون إلا مضافة. فإذا قلت: جلست عند زيد فإنما معناه: الموضع الذي فيه زيد، فحيث انتقل زيد فذلك الموضع يقال له عند زيد. فهي بمنزلة حيث في أنها لا تخص موضعاً، إلا أن حيث توضح بالابتداء والخبر، وبالفعل والفاعل، لعلة نذكرها إن شاء الله.
وهذه تضاف إلى ما بعدها، ولا يجوز أن تدخل عليها من حروف الإضافة إلا من تقول: جئت من عند زيد، ولا يجوز أن تقول: ذهبت إلى هند زيد؛ لأن المنتهى غاية معروفة، وليس عند موضعاً معروفاً.
ومن للابتداء، وليست للمستقر. فهذا أصل عند. وإن اتسعت، واتساعها نحو قولك: أنت عندي منطلق؛ لأن عند للحضرة، وإنما أراد: فيما يحضرني في نفسي.
وإنما هذا بمنزلة قولك: على زيد ثوب. فإنما يريد أنه قد علاه، ثم تقول: عليه دين، تريد أنه قد علاه وقهره. وكقولك: زيد في الدار، أي يحل فيها، ثم تقول: في زيد خصلة حسنة، فجعلته كالوعاء لها. فلقلة تمكن عند لا يجوز أن تجري مجرى الأسماء غير الظروف. لو قلت: سير بزيد عندك؛ كما تقول: سير بزيد أمامك لم يجز ولا تقول: إن عندك حسن، كما تقول: إن مكانك حسن.
وكذلك لدن لأن معناها معنى عند. فكل ما كان غير متمكن في بابه فغير مخرج منه على جهة الاتساع إلى باب آخر.
ألا ترى أن خلف، وأمام، وقدام، ونحو ذلك يتصرفن؛ لأن الأشياء لا تخلو منها، وليس الوجه مع ذلك رفعها حتى تضيفها فتقول: خلف كذا، وأمام كذا، حتى تعرف الشيء بالإضافة.
ولو قلت: سير بزيد خلف للدار، أو أمام للدار جاز على بعد؛ لأنه نكرة، وإن كانت اللام توجب معنى الإضافة، ولكنك إذا قلت: خلف لها جعلته مبهماً، ثم علقته بها كقولك: هذا غلام لزيد. فقد علمنا أنه في ملك زيد، وليس المعروف به. فإذا قلت: غلام زيد فهو مثل أخو زيد، أي المعروف به؛ كما قال لبيد بن ربيعة:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها، وأمامها
والأجود في هذا ألا يجري إلا ظرفاً لإبهامه وإن كان مضافاً. فإذا قلت: خلفك واسع فالرفع لا غير، لأنه ليس بظرف، وإنما خبرت عن الخلف؛ كما تقول: زيد منطلق.
وكذلك يوم الجمعة يوم مبارك. وإنما الظروف أسماء الأمكنة والأزمنة، فإن وقع فيها فعل نصبها؛ كما ينصب زيداً إذا وقع به، إلا أن زيداً مفعول به وهذه مفعول فيها.
وتقول: وسط رأسك دهن يا فتى؛ لأنك خبرت أنه استقر في ذلك الموضع، فأسكنت السين ونصبت لأنه ظرف.
وتقول: وسط رأسك صلب؛ لأنه اسم غير ظرف، وتقول: ضربت وسطه؛ لأنه المفعول به بعينه. وتقول: حفرت وسط الدار بئراً إذا جعلت الوسط كله بئراً؛ كقولك: خرب وسط الدار.
وكل ما كان معه حرف خفض فقد خرج من معنى الظرف، وصار اسماً صح كقولك: سرت في وسط الدار؛ لأن التضمن ل في.
وتقول: قمت في وسط الدار، كما تقول: قمت في حاجة زيد، فتحرك السين من وسط؛ لأنها هنا ليست بظرف.

وتقول فيما كان من الأماكن مرسلاً: أنت مني عدوة الفرس، وأنت مني دعوى الرجل؛ لأنه أراد: بيني وبينك، ولم يرد: أنت في هذا المكان، فإنما ينبئ عن هذا معناه.
وتقول: موعدك باب الأمير، إذا جعلته هو الموعد، وتنصب إذا أردت أن تجعله ظرفاً كأنك قلت: موعدك حضرة باب الأمير أي في ذلك الموضع؛ لأنك إذا أردت حضرة كانت شيئاً عاماً.
وكذلك ما كان من المصادر حيناً فإن تقديره حذف المضاف إليه وذلك قولك: موعدك مقدم الحاج، وخفوق النجم، وكان ذلك خلافة فلان، فالمعنى في كل ذلك: وقت خفوق النجم، وزمن مقدم الحاج، وزمن خلافة فلان. وعلى هذا قال الشاعر:
وما هي إلا في إزار وعلقة ... معار ابن همام على حي خثعما
أي في هذا الوقت. فأما قولهم: هو مني مقعد القابلة، ومنزلة الولد، فإنما أراد أن يقرب ما بينهما. وإذا قال: هو مني مناط الثريا فإنما معنى هذا أبعد البعد.
قال الشاعر:
وإن بنى حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها
فجملة هذا الباب أنه: كل ما تصرف جاز أن يجعل اسماً، ويكون فاعلاً ومفعولاً، وكل ما امتنع من ذلك لم يزيدوا به على الظرف. وأما قوله:
فوردن والعيوق مقعد رابئ الضرباء خلف النجم لا يتتلع
فإنما أراد التقريب، وأراد: مقعد رابئ الضرباء من الضرباء.
وأما قوله:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لشيء ما يسود من يسود
فإنما اضطر، فأجراه اسماً. ولو جاز مثله في الضرورة لجاز سير به ذو صباح.
وأما قولنا في حيث إنها لا تتمكن فإنها تحتاج إلى تفسير على حيالها. فذلك لأن حيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة، تجري مجراها، وتحتاج إلى ما يوضحها؛ كما يكون ذلك في الحين. إلا أن حين في بابها، وهذه مدخلة عليها؛ فلذلك بنيت، وذلك قولك: قمت حيث زيد قائم، وقمت حيث قام زيد، ولا يجوز قمت حيث زيد؛ كما تقول: قمت في مكان زيد، وإنما يوضحها ما يوضح الأزمنة.
ألا ترى أنك تقول: آتيك إذا قام زيد، وجئتك إذا قام زيد، وحين قام زيد، وجئتك حين زيد أمير، ويوم عبد الله منطلق. فهذا تأويل بنائها؟
هذا باب

إضافة الأزمنة إلى الجمل
اعلم أنه ما كان من الأزمنة في معنى إذ فإنه يضاف إلى الفعل والفاعل، وإلى الابتداء والخبر؛ كما يكون ذلك في إذ.
وذلك قولك: جئتك إذ قام زيد، وجئتك إذ زيد في الدار. فعلى هذا تقول: جئتك يوم زيد في الدار، وجئتك حين قام زيد.
وإن كان الظرف في معنى إذا لم يجز أن يضاف إلا إلى الأفعال؛ كما كان ذلك في إذا.
ألا ترى أنك تقول: آتيك إذا قام زيد، وإذا طلعت الشمس، ولا يجوز. آتيك إذا زيد منطلق؛ لأن إذا فيها معنى الجزاء، ولا يكون الجزاء إلا بالفعل. تقول: إذا أعطيتني أكرمتك، وإذا قدم زيد أتيتك.
وقول الله عز وجل: " إذا السماء انفطرت " و " إذا السماء انشقت " معناه: إذا انشقت السماء، ولولا هذا الفعل لم يصلح أن يقع بعد إذا لما فيها من معنى الجزاء. فعلى هذا تقول: آتيك يوم يقوم زيد، ولا يجوز: آتيك يوم زيد منطلق، لما ذكرت لك. قال الله عز وجل: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقال " هذا يوم لا ينطقون " .
فأما إذ فإنما يقع بعدها الجمل؛ لأنه لا معنى للجزاء فيها؛ لأنها ماضية لا تحتاج إلى الجواب. تقول: جئتك إذ قام زيد، وكان هذا إذ زيد أمير؛ كما تقول: هذا كان يوم الجمعة. فإذا كان بعدها فعل ماض قبح أن يفرق بينها وبينه.
تقول: جئتك إذ يقوم زيد، فإنما وضعت يقوم في موضع قائم لمضارعته إياه، وقام لا يضارع الأسماء. وإذ إنما تضاف إلى فعل وفاعل، أو ابتداء وخبر.
فإذا أضيفت إلى الفعل قدم، وإذا أضيفت إلى الابتداء قدم ولم يكن الخبر إلا اسماً أو فعلاً مما يضارع الأسماء.
ومما لا يجوز أن يكون ظرفاً: ناحية الدار، وجوف الدار؛ لأنها بمنزلة اليد والرجل. فكما لا تقول: زيد الدار، لا تقول: زيد جوف الدار حتى تقول في جوفها.
فإن قلت: زيد ناحية من الدار، أو زيد ناحية عن الدار، لا تريد بعضها حسن ذلك.
ومما لا يكون إلا ظرفاً ويقبح أن يكون اسماً سوى، وسواء ممدودة بمعنى سوى. وذلك أنك إذا قلت: عندي رجل سوء زيد فمعناه: عندي رجل مكان زيد، أي يسد مسده، ويغني غناءه.
وقد اضطر الشاعر فجعله اسماً؛ لأن معناه معنى غير، فحمله عليه، وذلك قوله:

تجانف عن جل اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهله لسوائكا
وقال آخر:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منا، ولا من سوائنا
وإنما اضطر، فحملها على معناها؛ كما أن الشاعر حيث اضطر إلى الكاف التي للتشبيه أن يجعلها اسماً أجراها مجرى مثل؛ لأن المعنى واحد؛ نحو قولك: زيد كعمرو، إنما معناه: مثل عمرو. فلما اضطر قال:
وصاليات ككما يؤثفين
يريد: كمثل ما. وقال آخر:
فصيروا مثل كعصف مأكول
وأما قوله:
وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
فإنه لم يجعل أحدهما ظرفاً للآخر، وإنما شبه مكاناً بمكان، كقولك: مكانك مثل مكان زيد. وتقول: آتيك يوم الجمعة غدوة. نصبت يوم الجمعة؛ لأنه ظرف، ونصبت غدوة على البدل؛ لأنك أردت أن تعرفه في أي وقت؛ كما تقول: ضربت زيداً رأسه. أردت أن تبين موضع الضرب.
وتقول: سير بزيد يوم الجمعة غدوة، على البدل. وإن شئت نصبت اليوم فجعلته ظرفاً لقولك غدوة، لأن الغداة في اليوم. وإن شئت رفعت اليوم، فأقمته مقام الفاعل، ثم أضمرت فعلاً، فنصبت به غدوة؛ لأن المعنى على ذلك. فلما قام الأول مقام الفاعل كان التقدير: ساروا غدوةً يا فتى.
فأما قولهم: الليلة الهلال، ولا يجوز الليلة زيد؛ لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث، وإنما استقام هذا؛ لأن فيه معنى الحدوث. إنما يريد: الليلة يحدث الهلال. فللمعنى صلح.
ولو قلت: الليلة الهلال كان جيداً. تريد: الليلة ليلة الهلال، فلما حذفت ليلة أقمت الهلال مقامها. مثل قول الله عز وجل: " واسأل القرية " . تريد أهل القرية. وكذلك زيد عمرو وأردت مثل عمرو، فلما حذفت مثلا قام عمرو مقامه.
هذا باب

من الإخبار
نبين ما يستعمل من هذه الظروف أسماءً، وما لا يكون إلا ظرفاً لقلة تصرفه
ونبدأ قبل ذلك بشيء عن الإخبار عن الأسماء غير الظروف؛ لتستدل بذلك على الظروف إذا وردت عليك إن شاء الله.
تقول: قام زيد. فإن قيل لك: أخبر عن زيد فإنما يقال لك: اجعل زيداً خبراً، واجعل هذا الفعل في صلة الاسم الذي زيد خبره. فإن خبرت عنه ب الذي قلت: الذي قام زيد.
وإن أخبرت عنه بالألف، واللام اللتين في معنى الذي قلت: القائم زيد. فإن قلت: ضرب زيد عمراً، فأخبرت عن زيد قلت: الذي ضرب عمراً زيد. جعلت في ضرب ضميراً في موضع زيد فاعلاً، وجعلت زيداً خبر الابتداء.
وإن قلته بالألف واللام فكذلك تقول: الضارب عمراً زيد.
وإن قيل لك: أخبر عن عمرو قلت: الضاربه زيد، عمرو جعلت الهاء المنصوبة في موضع عمرو، وجعلت عمراً خبر الابتداء، لأنك عنه تخبر. والظروف تجري هذا المجرى.
تقول: القتال يوم الجمعة. فإن أخبرت عن القتال وضعت مكانه ضميراً يكون يوم الجمعة ظرفاً له، وجعلته خبر الابتداء، ولا يكون بالذي؛ لأن الألف واللام إنما تلحقان الفعل؛ لأنك تبني من الفعل فاعلاً، ثم تدخلهما عليه.
وذلك قولك: الذي هو يوم الجمعة القتال. كان القتال ابتداء، فجعلت هو في موضعه. فإن أخبرت عن يوم الجمعة قلت: الذي القتال فيه يوم الجمعة، تكنى عن يوم الجمعة إذا كان ظرفاً بقولك فيه.
وكذلك إذا قلت: زيد خلفك، فقيل له: أخبر عن الخلف قلت: الذي فيه زيد خلفك، والذي فيه زيد أمامك.
ومن جعله مفعولاً على السعة قال: يوم الجمعة صمته، وخلفك قمته، تريد فيه أجراه مجرى زيد وعمرو، فقال في قوله: قمت يوم الجمعة إذا أخبر عن اليوم: القائمه أنا يوم الجمعة، والجالسه أنا خلفك.
هذا لما كان منها متصرفاً. فأما ما لا يتصرف فنحو: عند، وسوى، وذات مرة، وبعيدات بين، وسحر، وبكرا إذا أردت سحر يومك، وبكرة، وعشية، وعتمة، وصباح مساء فلا يجوز الإخبار عن شيء منها، لأنك إذا جعلت شيئاً منها خبر ابتداء، أردت أن ترفعه، والرفع فيها محال؛ لأنها لا تكون أسماء غير ظروف لأنك تقول: مكان واسع، ولا تقول: عندك. واسع، ولا: ذات مرة خير من مرتين؛ لفساد ذلك في المعنى.
ولو قيل لك: أخبر عن عند في قولك: جلست عندك لقلت: الجالس فيه أنا عندك، وهذا لا يجوز لما ذكرت لك في صدر الكتاب.
هذا باب
ما كان من أسماء الأوقات غير متصرف
نحو: سحر إذا أردت به سحر يومك، وبكرا وما كان مثلهما في قلة التمكن

أما غدوة، وبكرة فاسمان متمكنان معرفة، لا ينصرفان من أجل التأنيث. تقول: سير عليه بكرة يا فتى، وغدوة إذا أقمت بكرة مقام الفاعل، وإن أردت نصبه على الظرف فكذلك تقول: سير عليه بكرة يا فتى، وغدوة يا فتى.
وإنما صارا معرفة؛ لأنك بنيت غدوة اسماً لوقت بعينه، وبكرة في معناها.
ألا ترى أنك تقول: هذه غداة طيبة، وجئتك غداةً طيبة، ولا تقول على هذا الوجه: جئتك غدوةً طيبة، ولكن تقول: آتيك يوم الجمعة غدوة يا فتى.
فإن ذكرت صرفت، فقلت: سير عليه غدوة من الغدوات، وبكرة من البكر؛ نحو قولك: رأيت عثماناً آخر، وجاءني زيد من الزيدين.
قال الله عز وجل: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً " وقرأ بعضهم " بالغدوة والعشي " فأدخل الألف واللام على غدوة.
وأما ضحىً، وضحى تصغير ضحى، وعشية، وعتمة، وعشاء، وبصر، وظلام، وصباح مساء فإن أردت بهن النكرات فهن متصرفات. تقول: سير عليه عشية من العشايا، وضحوة من الضحوات، وتنصب إن شئت على الظرف. وكذلك سير به عتمة، وعشاء.
فإن عنيت اليوم الذي أنت فيه والليلة التي أنت فيها لم ترفع من ذلك شيئاً، وتنون؛ لأنهن نكرات.
وتقول: سير عليه عشيةً، وعشاءً، وعتمةً، ومساءً. وإنما قل تصرفه؛ لأنك وضعته وهو نكرة في موضع المعرفة إذا عنيت به يومك وليلتك. فإن صيرته نكرة رددته إلى بابه وأصله فتصرف.
وأما سحر فمعدول لا ينصرف، وإنما عدل عن الألف واللام كأخر. وهذا يفسر فيما ينصرف وما لا ينصرف. وكذلك إن صغرته فقلت: سير به سحيراً صرفته؛ لأن فعيلاً لا يكون معدولاً. ولكن ترفعه بما ذكرت من قلة تمكنه. فإن نكرته انصرف، وجرى على الوجوه؛ لأنه في بابه، فقلت: سير عليه سحرا، أي سحر من الأسحار، ويجوز نصبه على الظرف، قال الله عز وجل: " إلا آل لوط نجيناهم بسحر " فهذا جملة هذا الباب.
هذا باب

لا التي للنفي
اعلم أن لا إذا وقعت على نكرة نصبتها بغير تنوين؛ وإنما كان ذلك لما أذكره لك: إنما وضعت الأخبار جوابات للاستفهام. إذا قلت: لا رجل في الدار لم تقصد إلى رجل بعينه، وإنما نفيت عن الدار صغير هذا الجنس وكبيره. فهذا جواب قولك: هل من رجل في الدار؟ لأنه يسأل عن قليل هذا الجنس وكثيره.
ألا ترى أن المعرفة لا تقع ها هنا؛ لأنها لا تدل على الجنس، ولا يقع الواحد منها في موضع الجميع. فلو قلت: هل من زيد؟ كان خلفاً. فلما كانت لا كذلك كان دخولها على الابتداء والخبر كدخول إن وأخواتها عليهما، فأعملت عمل إن.
فأما ترك التنوين، فإنما هو لأنها جعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر.
فإن قيل: أيكون الحرف مع الاسم اسماً واحداً؟ قيل: هذا موجود معروف. تقول: قد علمت أن زيداً منطلق ف أن حرف، وهي وما عملت فيه اسم واحد، والمعنى: علمت انطلاق زيد، وكذلك: بلغني أن زيداً منطلق. فالمعنى: بلغني انطلاق زيد.
وكذلك أن الخفيفة مع الفعل إذا قلت: أريد أن تقوم يا فتى إنما هو: أريد قيامك، وكذلك يسرني أن تقوم، معناه: يسرني قيامك.
ف لا والاسم الذي بعدها المنكور بمنزلة قولك: يا ابن أم جعل اسماً واحداً؛ كما جعل خمسة عشر، والثاني في موضع خفض بالإضافة، وكذلك لا رجل في الدار. رجل في موضع نصب منون، إلا أنهما جعلا اسماً واحداً بمنزلة ما ذكرت لك.
والدليل على أن لا وما عملت فيه اسم قولهم: غضبت من لا شيء يا فتى، وجئت بلا مال كقوله:
حنت قلوصي حين لا حين محن
جعلهما اسماً واحداً.
ولا يجوز أن يكون هذا النفي إلا عاماً. من ذلك قول الله عز وجل " لا عاصم اليوم من أمر الله " وقال " لا ريب فيه " وقال: " لا ملجأ من الله إلا إليه " .
فإن قدرت دخولها على شيء قد عمل فيه غيرها لم تعمل شيئاً، وكان الكلام كما كان عليه؛ لأنك أدخلت النفي على ما كان موجباً، وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو؟ فتقول: لا زيد في الدار ولا عمرو.
وكذلك تقول: أرجل في الدار أم امرأة؟ فالجواب: لا رجل في الدار ولا امرأة. لا تبالي معرفةً كانت أم نكرةً. وعلى هذا قراءة بعضهم: " لا خوف عليهم " ومن قرأ: " لا خوف عليهم " فعلى ما ذكرت لك.
وأما قوله: " ولا هم يحزنون " فلا يكون هم إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل في المعارف. وسأبين لك هذا إن شاء الله.

وكذلك إن جعلتها جواباً لقولك: رجل في الدار، أو هل رجل في الدار؟ قلت: لا رجل في الدار. وهذا أقل الأقاويل، لأنها لا تخلص لمعرفة دون نكرة، ولا نكرة دون معرفة إذ كان التكرير والبناء أغلب.
فالتكرير: لا زيد في الدار ولا عمرو، ولا رجل في الدار ولا امرأة. والبناء لا رجل في الدار ولا امرأة، على جواب من قال: هل من رجل أو امرأة في الدار؟ فمما جاء على قوله: لا رجل في الدار قوله:
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتك لا نفع وموتك فاجع
وقوله:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
فإن كانت معرفة لم تكن إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل في معرفة، وذلك قولك: لا زيد في الدار. إنما هو جواب: أزيد في الدار؟ فمن ذلك قوله:
قضت وطراً واسترجعت ثم آذنت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها
واعلم أن لا إن فصلت بينها وبين النكرة لم يجز أن تجعلها معها اسماً واحداً؛ لأن الاسم لا يفصل بين بعضه وبعض.
فنقول: لا في الدار أحد، ولا في بيتك رجل. وقوله عز وجل " لا فيها غول " لا يجوز غيره؛ لأن لا وإن لم تجعلها اسماً واحداً مع ما بعدها لا تعمل لضعفها إلا فيما يليها.
ألا ترى أنها تدخل على الكلام فلا تغيره. ولو كانت كإن وأخواتها لأزالت الابتداء، ولا تعمل إلا في نكرة البتة، ولو كانت كغيرها من العوامل لعملت في المعرفة؛ كما تعمل في النكرة. فإن قلت: فما قوله؟
أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن ولا أمية في البلاد
فقد عملت في أمية، وكذلك قوله:
لا هيثم الليلة للمطي
فليس كما قال؛ لأن الشاعر إنما أراد: لا أمثال أمية، ولا من يسد مسدها، والمعنى: ولا ذا فضل. فدخلت أمية في هؤلاء المنكورين.
وكذلك لا هيثم الليلة، أي: لا مجري ولا سائق كسوق هيثم. ومثل ذلك قولهم في المثل: قضية ولا أبا حسن لها، أي قضية ولا عالم بها، فدخل علي رضي الله عنه فيمن يطلب لهذه المسألة.
هذا باب

ما تعمل فيه لا وليس باسم معها
تقول: لا مثل زيد لك، ولا غلام رجل لك، ولا ماء سماء في دارك. وإنما امتنع هذا من أن يكون اسماً واحداً مع لا لأنه مضاف، والمضاف لا يكون مع ما قبله اسماً. ألا ترى أنك لا تجد اسمين جعلا اسماً واحداً وهما مضاف، إنما يكونان مفردين كحضرموت وبعلبك، وخمسة عشر، وبيت بيت.
ألا ترى أن قوله: يا ابن أم لما جعل أم مع ابن اسماً واحداً حذفت ياء الإضافة. فلذلك امتنع هذا من أن يكون مع ما قبله اسماً واحداً. وعملت فيه لا فنصبته. وكذلك قول ذي الرمة:
هي الدار إذمي لأهلك جيرة ... ليالي لا أمثالهن لياليا
فأمثالهن نصب ب لا، وليس معها بمنزلة اسم واحد.
ومما لا يكون معها اسماً واحداً ما وصل بغيره؛ نحو قولك: لا خيرا من زيد لك، ولا آمراً بالمعروف لك. ثنيت التنوين؛ لأنه ليس منتهى الاسم؛ لأن ما بعده من تمامه، فصار بمنزلة حرف من حروف الاسم.
ولو قلت: لا خير عند زيد، ولا آمر عنده لم يكن إلا بحذف التنوين؛ لأنك لم تصله بما يكمله اسماً ولكنه اسم تام، فجعلته مع لا اسماً واحداً.
وتقول: لا آمر يوم الجمعة لك. إذا نفيت جميع الآمرين، وزعمت أنهم ليسوا له يوم الجمعة.
فإن أردت أن تنفي آمراً يوم الجمعة قلت: لا آمراً يوم الجمعة لك. جعلت يوم الجمعة من تمام الاسم، فصار بمنزلة قولك لا آمراً معروفاً لك. فهذا يبين ما يرد من مثل هذا.
وكان الخليل وسيبويه يزعمان أنك إذا قلت: لا غلامين لك، أن غلامين مع لا اسم واحد وثبت النون؛ كما تثبت مع الألف واللام، وفي تثنية ما لا ينصرف وجمعه، نحو قولك: هذان أحمران، وهذان المسلمان، فالتنوين لا يثبت في واحد من الموضعين. فرقوا بين النون والتنوين، واعتلوا بما ذكرت لك. وليس القول عندي كذلك، لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو، والنون لا تكون مع ما قبلها اسماً واحداً. لم يوجد ذلك؛ كما لم يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبله بمنزلة اسم واحد.
هذا باب
ما ينعت من المنفي
اعلم أنك إذا نعت اسماً منفياً فأنت في نعته بالخيار: إن شئت نونته، فقلت: لا ماء بارداً لك، ولا رجل ظريفاً عندك وهو أقيس الوجهين وأحسن.

وإن شئت جعلت المنفي ونعته اسماً واحداً فقلت: لا رجل ظريف عندك، ولا ماء بارد لك. فأما ما لم يرد أن يجعله اسماً فحجته أن النعت منفصل من المنعوت مستغنىً عنه فإنما جاء به بعد أن مضى الاسم على حاله، ولو لم يأت به لم تحتج إليه.
وحجة من رأى أن يجعله مع المنعوت اسماً واحداً أنه يقول: لما كان موضع يصلح فيه بناء الاسمين اسماً واحداً كان بناء اسم مع اسم أكثر من بناء اسم مع حرف. وكل قد ذهب مذهباً.
إن قلت: لا رجل ظريفاً عاقلاً، فأنت في النعت الأول بالخيار. فأما الثاني فليس فيه إلا التنوين؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسماً واحداً.
وكذلك المعطوف. لو قلت: لا رجل وغلاماً عندك لم يصلح في الغلام إلا التنوين من أجل واو العطف؛ لأنه لا يكون في الأسماء مثل حضرموت اسماً واحداً إذا كانت بينهما واو العطف. فعلى هذا يجري هذا الباب.
هذا باب

ما كان نعته على الموضع
وما كان مكرراً فيه الاسم الواحد اعلم أن النعت على اللفظ، و التكرير بمنزلة واحدة وذلك قولك في النعت: لا رجل ظريف لك، ولا رجل ظريفاً لك على ما ذكرت لك. والتكرير على ذلك يجري، تقول: لا ماء ماء بارداً يا فتى. وإن شئت قلت: لا ماء ماء بارداً.
فإن جعلت النعت على الموضع قلت: لا ماء ماء بارد. وإن شئت جعلت الاسمين اسماً واحداً قلت: لا ماء ماء بارد، وجعلت ماء الأول والثاني اسماً واحداً، وجعلت بارداً نعتاً على الموضع؛ لأن ماء وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ، والخبر محذوف، كأنه أراد: لا ماء لنا، وبارد نعت على الموضع. والنعت على اللفظ أحسن.
فمما جاء نعتاً على الموضع وهو ها هنا أحسن قول الله عز وجل: " ما لكم من إله غيره " . إن شئت كان غيره استثناء، وإن شئت كان نعتاً على الموضع، وإنما كان هو الوجه؛ لأن من زائدة لم تحدث في المعنى شيئاً ولا ليست كذلك؛ لأنها أزالت ما كان موجباً، فصار بها منفياً. فمن ذلك قوله:
ورد جازرهم حرفاً مصرمة ... ولا كريم من الولدان مصبوح
والعطف يجري هذا المجرى. فمن جعل المعطوف على الموضع قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. حمل الثاني على الموضع.
ونظير هذا قوله:
فلسنا بالجبال، ولا الحديدا
حمل الثاني على الموضع، كأنه قال: فلسنا الجبال ولسنا الحديدا.
ومثله قول الله عز وجل: " فأصدق وأكن " لولا الفاء كان أصدق مجزوماً؛ كما أنه لولا الباء لكانت الجبال منصوبة لأنه خبر ليس.
ومثله قولك: إن زيداً منطلق وعمرو، وقول الله عز وجل: " أن الله برئ من المشركين ورسوله " .
فالأجود في الثاني أن تحمل على الموضع؛ لأن إن دخلت على ما لو لم تدخل عليه لكان مبتدأ، ولم تغير المعنى بدخولها. فعلى هذا تقول: لا رجل في الدار ولا امرأة، ومثله قوله:
هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
والحمل على اللفظ أجود، كقوله:
لا أب وابناً مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
هذا بابما يقع مضافاً بعد اللام
كما وقع في النداء في قولك: يا بؤس للحرب إذا كانت اللام تؤكد الإضافة؛ كما يؤكدها الاسم إذا كرر كقولك: يا تيم تيم عدي. وذلك قولك: لا أبالك. ولا مسلمى لك.
أما قولك: لا أبا لك فإنما تثبت اللام؛ لأنك تريد الإضافة. ولولا ذلك لحذفتها. ألا ترى أنك تقول: هذا أب لزيد، ومررت بأب لزيد، فيكون على حرفين.
فإن قلت: هذا أبوك رددت، وكذلك رأيت أباك، ومررت بأبيك. إنما رددت للإضافة. فإن أردت الإفراد قلت: لا أب لزيد، جعلت لزيد خبراً أو أضمرت الخبر، وجعلته تبييناً.
فإن قلت: لا أبا له فالتقدير: لا أباه، ودخلت اللام لتوكيد الإضافة، كدخولها في يا بؤس للحرب، وكذلك الأصل في هذا كقوله:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني
وقال الآخر:
فقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أبا ك يخلد
وعلى هذا تقول: لا مسلمى لك، ولا مسلمى لك.
فإن قلت: لا مسلمين في دارك، ولا مسلمين عندك لم يكن من إثبات النون بد؛ لأن في، وعند وسائر حروف الإضافة لا تدخل على معنى اللام؛ لأن دخول اللام بمنزلة سقوطها.

ألا ترى أن قولك: هذا غلامك، بمنزلة قولك: هذا غلام لك. وتقول: لا مسلمين هذين اليومين لك، ولا مسلمين اليوم لك؛ لأنه لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه، إلا أن يضطر شاعر، فيفصل بالظروف وما أشبهها؛ لأن الظرف لا يفصل بين العامل والمعمول فيه، تقول: إن في الدار زيداً، وإن اليوم زيداً قائم. فمما جاء في الشعر فصل بينه وبين ما عمل فيه قوله:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج
وقال آخر:
كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يزيل
ونظير الظرف في ذلك المصدر، وما كان مثله من حشو الكلام، كقوله:
أشم كأنه رجل عبوس ... معاود جرأة وقت الهوادي
أراد: معاود وقت الهوادي جرأةً. وقال آخر:
لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
هذا باب

ما لا يجوز أن يحمل من المنفي على الموضع
تقول: لا غلام لك ولا العباس، ولا غلام لك ولا زيد، ولا غلام لك وزيد. لم يجز أن يحمل زيد على لا، ولكن ترفعه على الموضع؛ لأن لا وما عملت فيه في موضع رفع؛ لأن لا لا تعمل في معرفة.
ومثله: كل رجل في الدار وزيد فله درهم، وكل رجل في الدار وعبد الله لأكرمنهم؛ لأنه لا يجوز: كل عبد الله، فعطف على كل نفسها؛ كما لا يجوز: لا عبد الله في الدار. فعلى هذا يجري ما ذكرت لك.
هذا باب ما إذا دخلت عليه لا لم تغيره عن حاله لأنه قد عمل فيه الفعل. فلم يجز أن يعمل في حرف عاملان وذلك قولك: لا سقياً ولا رعباً، ولا مرحباً ولا أهلاً، ولا كرامةً ولا مسرةً؛ لأن الكلام كان قبل دخول لا أفعل هذا وكرامةً، ومسرةً، أي وأكرمك، وأسرك. فإنما نصبه الفعل، فلما دخلت عليه لا لم تغيره. وكذلك لا سلام عليك، وهو ابتداء وخبره، ومعناه الدعاء.
على ذلك قول الشاعر:
ونبئت جواباً وسكناً يسبني ... وعمرو بن عفرا لا سلام على عمرو
هذا باب
لا إذا دخلها ألف الاستفهام أو معنى التمني
أما كونها للاستفهام فعلى حالها قبل أن يحدث فيها علامته. تقول: ألا رجل في الدار؟ على قول من قال: لا رجل في الدار.
ومن قال: لا رجل في الدار ولا امرأة، قال: ألا رجل في الدار ولا امرأة؟ ومن قال: لا رجل ظريفاً في الدار، قال: ألا رجل ظريفاً؟ ومن لم ينون ظريفاً قبل الاستفهام لم ينونه ها هنا.
وقد تجعل لا بمنزلة ليس لاجتماعهما في المعنى، ولا تعمل إلا في النكرة، فتقول: لا رجل أفضل منك. ولا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه؛ لأنها تجري رافعة مجراها ناصبة. فعلى هذا تستفهم عنها.
فإن دخلها معنى التمني فالنصب لا غير في قول سيبويه، والخليل وغيرهما إلا المازني وحده. تقول: ألا ماء أشربه، ألا ماء وعسلا، كما كان في قولك: لا رجل وغلاماً في الدار.
وتقول: ألا ماء بارد إن شئت، وإن شئت نونت بارداً، وإن شئت لم تنون كقولك: لا رجل ظريفاً وإن شئت نونت ظريفاً، وإن شئت لم تنون.
ومن قال: لا رجل وامرأة، لم يقل هنا إلا بالنصب.
واحتجاج النحويين: أنه لما دخله معنى التمني زال عنه الابتداء، وموضعه نصب؛ كقولك: اللهم غلاماً، أي هب لي غلاماً.
وكقولهم: إن زيداً في الدار وعمرو، حمل عمرو على الموضع. فإن قالوا: ليست زيداً في الدار وعمراً لم يكن موضع عمرو الابتداء؛ لأن إن تدخل على معنى الابتداء، وليت تدخل للتمني فلها معنى سوى ذلك، فلذلك لم يكن في ليت ولعل وكأن ما في إن ولكن من الحمل على موضع الابتداء؛ لأن لهن معاني غير الابتداء. فكأن للتشبيه، وليت للتمني، ولعل للتوقع.
وكان المازني يجري هذا مع التمني مجراه قبل ويقول: يكون اللفظ على ما كان عليه وإن دخله خلاف معناه؛ ألا ترى أن قولك: غفر الله لزيد معناه الدعاء، ولفظه لفظ ضرب، فلم يغير لما دخله من المعنى، وكذلك قولك: علم الله لأفعلن، لفظه لفظ رزق الله، ومعناه القسم، فلم يغيره. وكذلك: حسبك رفع بالابتداء، ومعناه النهي.
ومن قوله: ألا رجل أفضل منك. ترفع أفضل لأنه خبر الابتداء، كما كان في النفي وكذا يلزمه. والآخرون ينصبونه، ولا يكون له خبر.
هذا باب
مسائل لا في العطف من المعرفة والنكرة

العم أنك لا تعطف اسماً على اسم، ولا فعلاً على فعل في موضع من العربية إلا كان مثله. تقول: مررت بزيد وعمرو، ورأيت زيداً وعمراً، وأنا آتيك وأكرمك، ولا تذهب فتندم، أي: لا تذهب ولا تندم، ولم يرد الجواب.
وتقول: لا رجل وغلاماً. عطفت غلاماً على رجل. وحق الرجل أن ينون، ولكن البناء منعه من ذلك؛ كما تقول: مررت بعثمان وزيد، فموضع عثمان خفض، غير أنه لا ينصرف. فجرى المنصرف على موضعه.
فإن قلت: لا رجل ولا غلام في الدار ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنما عطفت الثاني على لا وما عملت فيه؛ لأنها والذي عملت فيه في موضع اسم مرفوع مبتدأ، ولا بد للمبتدأ من خبر، مضمر أو مظهر.
ونظير ذلك: كل رجل ظريف في الدار، إن جعلت ظريفاً نعتاً للرجل، وإن جعلته لكل رفعت فقلت: كل رجل ظريف في الدار.
وتقول: كل رجل وغلام عندك فإن حملت الغلام على كل رفعت، وصار واحداً؛ لأن ما بعد كل إذا كان واحداً نكرة فهو في معنى جماعة إذا أفردوا واحداً واحداً. يدلك على ذلك قولهم: جاءني كل اثنين في الدار؛ لأن معناه: إذا جعلوا اثنين اثنين.
وتقول: لا رجل في الدار ولا غلام يا فتى. إن جعلت لا الثانية للنفي كقولك: ليس رجل في الدار وليس غلام.
وإن جعلت لا للعطف مثل: ما مررت بزيد ولا عمرو وقلت: لا رجل في الدار ولا غلاماً إن عطفته على رجل، وإن عطفته على لا رفعت.
وتقول: لا أخا لك، ولا أبا لزيد. إن كانت لا للنفي. وإن كانت للعطف قلت: ولا أباً لزيد. لا يجوز غير ذلك؛ لأن اللام دخلت على المنفي لا في المعطوف عليه؛ كما دخلت في النداء، ولم تدخل في المعطوف عليه لأنك تقول: يا بؤس للحرب. ولا تقول: يا بؤس زيد. وبؤس للحرب، لأن النداء يحتمل ما لا يحتمله المعطوف، وكذلك المنفي، تقول: يا زيد والحارث رفعاً ونصباً، ولو ولى الحارث حرف النداء لم يجز إلا أن تحذف منه الألف واللام؛ لأن الإشارة تعريف، فلا يدخل الألف واللام على شيء معرف بغيرهما.
ألا ترى أن تقدير من قال: الحارث والعباس إنما يحكي حالهما نكرة، وهما وصف؛ لأنه يريد الشيء بعينه، ولا تقول على هذا: جاءني العمر، إلا أن تسميه بجمع عمرة، فتحكي تلك الحال.
والنفي بمنزلة النداء فيما يحتمل. تقول: لا رجل في الدار، ولا تقول: وغلام في الدار، حتى تنون الغلام على ما وصفت لك.
وتقول: لا رجلين مسلمين لك. لا بد من إثبات النون؛ لأن مسلمين نعت، وليس بالمعتمد عليه بالنفي، وإنما يحذف من المنفي لا من نعته؛ كما تقول في النداء: يا رجل الظريف أقبل، فإنما تحذفان من المنادى؛ ولا تحذفان من وصفه لما ذكرت لك.
هذا باب

الاستثناء
والاستثناء على وجهين: أحدهما: أن يكون الكلام محمولاً على ما كان عليه قبل دخول الاستثناء. وذلك قولك: ما جاءني إلا زيد، وما ضربت إلا زيداً، وما مررت إلا بزيد.؟ فإنما يجري هذا على قولك: جاءني زيد، ورأيت زيد، ومررت بزيد، وتكون الأسماء محمولة على أفعالها.
وإنما احتجت إلى النفي والاستثناء؛ لأنك إذا قلت: جاءني زيد فقد يجوز أن يكون معه غيره. فإذا قلت: ما جاءني إلا زيد نفيت المجيء كله إلا مجيئه، وكذلك جميع ما ذكرنا.
والوجه الآخر: أن يكون الفعل أو غيره من العوامل مشغولاً، ثم تأتي بالمستثنى بعد. فإذا كان كذلك فالنصب واقع على كل مستثنى، وذلك قولك: جاءني القوم إلا زيداً، ومررت بالقوم إلا زيداً.
وعلى هذا مجرى النفي. وإن كان الأجود فيه غيره؛ نحو: ما جاءني أحد إلا زيد، وما مررت بأحد إلا زيد، وذلك لأنك لما قلت: جاءني القوم وقع عند السامع أن زيداً فيهم، فلما قلت: إلا زيداً كانت إلا بدلاً من قولك: أعني زيداً، وأستثني فيمن جاءني زيداً، فكانت بدلاً من الفعل.
وهي حرف الاستثناء الأصلي. وحروف الاستثناء غيرها ما أذكره لك: أما ما كان من ذلك اسماً فغير وسوى، وسواء. وما كان حرفاً سوى إلا فحاشا، وخلا. وما كان فعلاً فحاشا، وخلا وإن وافقا لفظ الحروف، وعدا، ولا يكون.
هذا باب
المستثنى من المنفي
تقول: ما جاءني أحد إلا زيد، وإلا زيداً. أما النصب فعلى ما فسرت لك، وأما الرفع فهو الوجه لما أذكره لك إن شاء الله.
تقول: ما جاءني أحد إلا زيد. فتجعل زيد بدلاً من أحد، فيصير التقدير ما جاءني إلا زيد؛ لأن البدل يحل محل البدل منه.

ألا ترى أن قولك: مررت بأخيك زيد إنما هو بمنزلة قولك: مررت بزيد؛ لأنك لما رفعت الأخ قام زيد مقامه. فعلى هذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيد.
فإن قال قائل: فما بال زيد موجباً، وأحد كان منفياً، ألا حل محله؟ قيل: قد حل محله في العامل، وإلا لها معناها.
ولو قلت: جاءني إخوتك إلا زيداً لم يجز إلا النصب؛ لأنك لو حذفت الإخوة بطل الكلام، وذلك أنه كان يكون: جاءني إلا زيد. فلا يقع الاستثناء على شيء، فمن ثم بطل لفظ إلا من النصب لفساد البدل.
فمن ذلك قول الله عز وجل: " ما فعلوه إلا قليل منهم " لأنك لو قدرته على حذف الضمير، وهو الواو في فعلوه لكان: ما فعله إلا قليل منهم.
وقال في الإيجاب: " فشربوا منه إلا قليلاً منهم " وقال: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس " . وأما قوله عز وجل: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " وامرأتك فالوجهان جائزان جيدان.
فمن قال: إلا امرأتك فهو مستثنى من يلتفت، وكأنه قال: ولا يلتفت إلا امرأتك. ويجوز هذا النصب على غير هذا الوجه، وليس بالجيد، على ما أعطيتك في أول الباب. جودة النصب على قوله: " فأسر بأهلك " إلا امرأتك. فلا يجوز إلا النصب على هذا القول لفساد البدل لو قيل: أسر إلا بامرأتك لم يجز. فإنما باب الاستثناء إذا استغنى الفعل بفاعله، أو الابتداء بخبره النصب، إلا أن يصلح البدل، فيكون أجود، والنصب على حاله في الجواز. وإنما كان البدل أجود؛ لأنه في اللفظ والمعنى، والنصب بالاستثناء إنما هو للمعنى لا للفظ.
وبيان ذلك أنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيداً، وزيد أحد إخوتك أوقعت عند السامع من قبل الاستثناء أنه فيمن جاء. فإذا قلت: إلا زيداً فإنما وقعت في موضع: لا أعني زيداً منهم، أو استثنى زيداً منهم، فهذا معنى.
وإذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيد. فإنما رفعت، وإنما نحيت أحداً عن الفعل، وأحللت زيداً بعد الاستثناء محله، فصار التقدير: ما جاءني إلا زيد. فكل موضع صلح فيه البدل فهو الوجه، وإذا لم يصلح البدل لم يكن إلا النصب، كما يجوز فيما صلح فيه البدل النصب على الاستثناء.
هذا باب

ما لا يجوز فيه البدل
وذلك الاستثناء المقدم. نحو: ما جاءني إلا زيداً أحد، وما مررت إلا زيداً بأحد. وإنما امتنع البدل؛ لأنه ليس قبل زيد ما تبدله منه، فصار الوجه الذي كان يصلح على المجاز لا يجوز ها هنا غيره.
وذلك أنك كنت تقول: ما جاءني أحد إلا زيد، وتجيز: ما جاءني أحد إلا زيداً، فلما قدمت المستثنى بطل وجه البدل، فلم يبق إلا الوجه الثاني.
ومثال هذا قولك: جاءني رجل ظريف، فتجعل ظريفاً نعتاً لرجل، ويجوز: جاءني رجل ظريفاً، على الحال. فإذا قلت: جاءني ظريفاً رجل بطل الوجه الجيد؛ لأن رجلاً لا يكون نعتاً، فصار الذي كان هناك مجازاً لا يجوز غيره. فمن ذلك قوله:
الناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف، وأطراف القنا وزر
وقال:
وما لي إلا آل أحمد، شيعة ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
وتقول: من لي إلا أباك صديق. إذا أردت أن تجعل صديق خبراً من. كأنك قلت: من صديق لي؟ فإن أردت غير هذا الوجه قلت: من لي إلا أبوك صديقاً. جعلت من ابتداء، وقولك أبوك خبره، وجعلت صديقاً حالاً.
وإن شئت قلت: من لي إلا أبوك صديق؟ جعلت الأب بدلاً من من، فصار التقدير: أبوك لي صديق؛ لأن من اسم مستفهم عنه، فتقديره: أحد إلا أبوك لي صديق. فإذا أبدل طرح أحداً، وجعل أباك بدلاً منه: مالي إلا أبوك صديق.
وتقول في باب منه، وهو أن تؤخر صفة الأول. تقول: ما جاءني أحد إلا زيد خير منك. التقدير: ما جاءني أحد خير منك إلا زيد.
فأنت في هذا مخير: إن شئت نصبت زيداً؛ لأن الأول بمنزلة المتأخر لتأخر نعته، فلم تقدم المستثنى لتبدله من شيء لم يتم إذا كان لا يعرف إلا بوصفه فقد صار صفة بمنزلة ما هو موصول به.
ألا ترى أنك لو قلت: رأيت زيداً الأحمر، وهو لا يعرف إلا بهذا النعت لم يكن قولك: رأيت زيداً مغنياً. وأما من أبدل منه فيقول: الوصف تابع مستغنىً عنه، وإنما أبدل من الموصوف لا من وصفه، وليس المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام إنما أبدلت للتبيين، ولم تقل إنه نعت، لأنه جوهر لا ينعت به.

ولو كان البدل يبطل المبدل منه لم يجز أن تقول: زيد مررت به أبي عبد الله؛ لأنك لو لم تعتد بالهاء، فقلت: زيد مررت بأبي عبد الله كان خلفاً؛ لأنك جعلت زيداً ابتداء، ولم ترد إليه شيئاً، فالمبدل منه مثبت في الكلام.
وإنما سمي البدل بدلاً؛ لدخوله لما عمل فيه ما قبله على غير جهة الشركة. وكان سيبويه يختار: ما مررت بأحد إلا زيد خير منك؛ لأن البدل إنما هو من الاسم لا من نعته، والنعت فضلة يجوز حذفها.
وكان المازني يختار النصب ويقول: إذا أبدلت من الشيء فقد اطرحته من لفظي، وإن كان في المعنى موجوداً، فكيف أنعت ما قد سقط؟ والقياس عندي قول سيبويه؛ لأن الكلام إنما يراد لمعناه. والمعنى الصحيح أن البدل والمبدل منه موجودان معاً، لم يوضعا على أن يسقط أحدهما إلا في بدل الغلط، فإن المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام.
وتقول: ما منهم أحد اتخذت عنده يداً إلا زيد كريم، على البدل من أحد، وإن شئت خفضت زيداً فأبدلته من الهاء التي في عنده؛ لأن المعنى: ما اتخذت يداً عند أحد منهم كريم إلا عند زيد، فهذا يدلك على جميع البدل.
هذا باب

ما لا يكون المستثنى فيه إلا نصبا
ً
وذلك قولك: جاءني إخوتك إلا زيداً، ومررت بإخوتك إلا زيداً، ولا يكون البدل ها هنا لما ذكرت لك.
ألا ترى أنك لو طرحت الإخوة من الكلام لتبدل زيداً منهم لفسد. لو قلت: جاءني إلا زيداً كان محالاً، وكذلك مررت إلا بزيد محال.
هذا باب
ما يصلح فيه البدل على وجهين
تقول: ما ظننت أحداً يقول ذاك إلا زيداً، وإن شئت قلت: إلا زيد. أما النصب فعلى البدل من أحد، وإن شئت فعلى أصل الاستثناء. وأما الرفع فعلى أن تبدله من المضمر في يقول؛ لأن معناه: ما أظنه يقول ذاك أحد إلا زيد. فالذي أضمرته في يقول منفي عنه القول.
ومثله قول الشاعر:
في ليلة لا نرى بها أحداً ... يحكى علينا إلا كواكبها
أبدل الكواكب من المضمر في يحكي، ولو أبدله من أحد كان أجود؛ لأن أحداً منفي في اللفظ والمعنى والذي في الفعل بعده منفي في المعنى.
ومثل ذلك: ما علمت أحداً دخل الدار إلا زيداً، وإلا زيد إن شئت على ما تقدم من قولنا.
فأما ما ضربت أحداً يقول ذاك إلا زيداً فالنصب لا غير؛ لأنك لم تنف القول. إنما ذكرت أن القول واقع ولكنك لم تضرب ممن قال إلا زيداً.
والفصل بين علمت وظننت وبابهما، وبين سائر الأفعال أن علمت وبابها ليست أفعالاً واصلة منك إلى غيرك، وإنما هي إخبار بما هجس في نفسك من يقين أو شك.
فإذا قلت: علمت زيداً قائماً فإنما أثبت القيام في علمك، ولم توصل إلى ذات زيد شيئاً. وإذا قلت: ما علمت زيداً قائماً فإنما أخبرت أنه لم يقع في علمك.
وضربت وبابها أفعال واصلة إلى الذات مكتفية بمفعولاتها، فما كان بعدها فله معناه، وكذلك أعطيت وبابها. نحو: أعطيت زيداً درهماً، وكسوت زيداً ثوباً. إنما هي أفعال حقيقة ودفع كان منك إلى زيد، ونقل لمفعول إلى مفعول به، فالدرهم والثوب منقولان، وزيد منقول إليه.
فإذا قلت: ما أعطيت أحداً درهماً إلا ديناراً أبدلت الدينار مما قبله؛ لأن درهماً في معنى الجميع. كأنه قال: ما أعطيت أحداً شيئاً.
ومما يدلك على أنهما مفعولان بائن أحدهما من صاحبه، أنك لو حذفت الفعل لتعتبر، لم يقع أحد المفعولين بصاحبه لو قلت في قولك: أعطيت زيداً درهماً، وكسوت زيداً ثوباً: زيد درهم، أو زيد ثوب كان محالاً.
وباب كان، وإن، وعلمت داخل على ابتداء وخبر. وذاك أنك لو حذفت كان من قولك: كان زيد منطلقاً، أو إن من هذا، أو علمت لكان الكلام الباقي: زيد منطلق. وإنما هذه الأفعال والعوامل داخلة على ابتداء وخبر.
وتقول: ما أعطيت أحداً يقول ذاك درهماً إلا زيداً، ورفع زيد خطأ لما ذكرت لك. وتقول: ما منهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيداً. لا يصلح فيه إلا النصب، وذاك لأن الاستثناء إنما وقع من القول؛ لأن التقدير: كلهم قال ذاك إلا زيداً.
وتقول: أقل رجل رأيته إلا زيد. إذا أردت النفي بأقل. كأنك قلت: ما رجل رأيته إلا زيد. والتقدير: ما رجل مرثي إلا زيد. وإن أردت أنك قد رأيت قوماً رؤية قليلة نصبت زيداً؛ لأنه مستثنى من موجب. وأن يكون أقل في موضع نفي أكثر وكذلك: كل رجل رأيته يصلح فيه الوجهان.

وتقول: ما علمت أن أحداً يقول ذاك إلا زيداً؛ لأن المعنى: ما علمت إلا أن أحداً إلا زيداً يقول ذاك. ف زيد بدل من أحد الذي عملت فيه إن، ولو جعلت إلا تلي أن لم يصلح؛ لأن الحروف لا تقوى قوة الأفعال.
تقول: ما جاءني إلا زيداً قومك، وما جاءني إلا زيداً أحد، ولا يجوز: ما علمت أن إلا زيداً أحداً في الدار. فهذا يبين لك حال الموجب، والمنفي في الاستثناء.
وما الحجازية بمنزلة إن في العمل وإن اختلف عملاهما. واستواؤهما في أنهما حرفان ليسا بفعل. تقول: ما القوم فيها إلا زيد؛ لأن فيها مستقر، وتقديره: ليس القوم فيها. إلا أن ليس يجوز أن تنصب بها ما بعد إلا لأنها فعل، فتقدم خبرها وتؤخره، وقد مضى هذا التفسير في باب ما وباب ليس.
ولو قلت: ما إلا زيداً فيها أحد لم يجز؛ لأن ما ليست بفعل. وتقول: ليس إلا زيداً فيها أحد؛ لأن ليس فعل.
وأما قول الله عز وجل: " ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " فإن أنفسهم بدل من شهداء لأن لهم الخبر.
ولو نصبت أنفسهم ورفعت شهداء لصلح، ولم يكن أجود الوجوه؛ لأن شهداء نكرة، ولكن لو نصبت الشهداء ورفعت أنفسهم كان جيداً. وقد بينت هذا في باب كان.
ومما يستوي فيه الأمران قول الله عز وجل: " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا " ف أن قالوا مرفوع إذا نصبت الجواب، وهو منصوب إذا رفعت الجواب؛ لأنهما معرفتان، والأحسن أن ترفع ما بعد إلا لأنه موجب والوجه الآخر حسن جميل.
فأما قوله جل ذكره: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا " فالوجه نصب حجتهم لأنه ذكر الفعل.
والوجه الآخر أعني رفع حجتهم جيد، لأن الحجة هي القول في المعنى.
هذا بابما تقع فيه إلا وما بعدها نعتاً بمنزلة غير
وما أضيفت إليهوذلك قولك: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. قال الله عز وجل: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " المعنى والله أعلم: لو كان فيهما آلهة غير الله، ولو كان معنا رجل غير زيد. وقال الشاعر:
أنيخت فألقت بلدةً فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
كأنه قال: قليل بها الأصوات غير بغامها، ف إلا في موضع غير. ومثل ذلك قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
وقد تقع غير في موضع إلا؛ كما وقعت إلا في موضع غير. وقال الآخر:
وإذا أوليت قرضاً فاجزه ... إنما يجزي الفتى غير الجمل
فغير هذه في موضع إلا.
وتقول على هذا: جاءني القوم إلا زيد، ولا يكون إلا نعتاً إلا لما ينعت بغير، وذلك النكرة، والمعرفة بالألف واللام على غير معهود؛ نحو: ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذاك، وقد أمر بالرجل غيرك فيكرمني.
هذا باب

ما يقع في الاستثناء
من غير نوع المذكور قبله وذلك قولك: ما جاءني أحد إلا حماراً، وما في القوم أحد إلا دابةً. فوجه هذا وحده النصب؛ وذلك لأن الثاني ليس من نوع الأول، فيبدل منه، فتنصبه بأصل الاستثناء على معنى ولكن، واللفظ النصب لما ذكرت لك في صدر الباب.
فمن ذلك قول الله عز وجل: " وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " .
ومن ذلك: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " . فالعاصم الفاعل، ومن رحم معصوم، فهذا خاصةً لا يكون فيه إلا النصب.
وأما الأول فقد يجوز فيه الرفع، وهو قول بني تميم. وتفسير رفعه على وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: ما جاءني رجل إلا حمار فكأنك قلت: ما جاءني إلا حمار، وذكرت رجلاً وما أشبهه توكيداً. فكأنه في التقدير: ما جاءني شيء رجل ولا غيره، إلا حمار.
والوجه الآخر: أن تجعل الحمار يقوم مقام من جاءني من الرجال على التمثيل، كما تقول: عتابك السيف، وتحيتك الضرب، كما قال:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
وقال الآخر:
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب
وبنو تميم تقرأ هذه الآية: " إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " ويقرءون " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " . يجعلون اتباع الظن علمهم.
والوجه النصب على ما ذكرت لك، وهو القياس اللازم، ووجه الرفع ما بيناه. كما قال:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير، وإلا العيس

فجعل اليعاقير أنيس ذلك المكان وينشد بنو تميم قول النابغة:
وقفت فيها أصيلالاً أسائلها ... عيت جواباً، وما بالربع من أحد
إلا أواري لأباً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
والوجه النصب، وهو إنشاد أكثر الناس.
وقوله جل وعز: " فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا " من هذا الباب؛ لأن لولا في معنى هلا. والنحويون يجيزون الرفع في مثل هذا من الكلام، ولا يجيزونه في القرآن لئلا يغير خط المصحف. ورفعه على الوصف كما ذكرت لك في الباب الذي قبله. فأما قول الشاعر:
من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونه جربت معاً، وأغدت
إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت
فإنما الكاف زائدة، وهو استثناء ليس من الأول. ولو حذفت الكاف لكان الموضع نصباً ومثل ذلك:
لولا ابن حارثة الأمير لقد ... أغضبت من شتمي على رغمي
إلا كمعرض المحسر بكره ... عمداً يسببني على ظلم
وكذا قوله:
إلا كخارجة المكلف نفسه ... وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا
الكاف زائدة مؤكدة كتوكيدها في قول الله جل وعز " ليس كمثله شيء " . ومثل ذلك قوله:
لواحق الأقراب فيها كالمقق
أي فيها مقق وهو الطول. والكاف زائدة.
هذا باب

ما لا يكون الاستثناء فيه
إذا أبدل إلا على الموضع لامتناع اللفظ منه.
وذلك قولك: ما جاءني من أحد إلا زيد على البدل؛ لأن من زائدة. وإنما تزاد في النفي، ولا تقع في الإيجاب زائدة؛ لأن المنفي المنكور يقع واحده في معنى الجميع، فتدخل من لإبانة هذا المعنى، وذلك قولك: ما جاءني رجل. فيجوز أن تعني رجلاً واحداً. وتقع المعرفة في هذا الموضع. تقول: ما جاءني عبد الله. فإذا قلت: ما جاءني من رجل لم يقع ذلك إلا للجنس كله، ولو وضعت في موضع المنكور معروفاً لم يجز لو قلت: ما جاءني من عبد الله ، كان محالاً؛ لأنه معروف بعينه فلا يشيع في الجنس.
فإذا قلت: جاءني لم تقع من ها هنا زائدة؛ لأن معنى الجميع ها هنا ممتنع لإحاطته بالناس أجمعين؛ كما كان هناك نفياً لجميعهم.
فإذا قلت: ما جاءني من رجل إلا زيد كان خلفاً أن تقول: إلا زيد؛ لأنك لو أبدلته من رجل على اللفظ قلت: ما جاءني إلا من زيد؛ فلذلك قلت: ما جاءني من أحد إلا زيد؛ لأن من وما بعدها في موضع رفع، ولولا ذلك لكان يخلو الفعل من فاعل.
وكذلك ما رأيت من أحد إلا زيداً، وليس زيد بشيء إلا شيئاً لا يعباً به. ولو قلت: إلا شيء لم يصلح؛ لأن التقدير: لست إلا بشيء، وهذا محال، لأن الباء إنما تزاد في غير الواجب توكيداً. تقول: ما زيد بقائم، وليس زيد بمنطلق.
وعلى هذا ينشد هذا الشعر، وليس يجوز غيره:
أبني لبيني لستم بيد ... إلا يداً ليست لها عضد
وتقول على هذا: ما زيد بشيء إلا شيء لا يعباً به، فكأنك قلت: ما زيد إلا شيء لا يعبأ به. فهذا وجه هذا الباب.
هذا باب
الاستثناء بغير
اعلم أن كل موضع جاز أن تستثنى فيه ب إلا جاز الاستثناء فيه بغير.
وغير اسم يقع على خلاف الذي يضاف إليه. ويدخله معنى الاستثناء، لمضارعته إلا. وكل موضع وقع الاسم فيه بعد إلا على ضرب من الإعراب كان ذلك حالاً في غير إلا أن يكون نعتاً، فيجري على المنعوت الذي قبلها، وذلك قولك: جاءني القوم غير زيد؛ لأنك كنت تقول: جاءني القوم إلا زيداً.
وتقول: هذا درهم غير قيراط كقولك: هذا درهم إلا قيراطاً. وتقول: هذا درهم غير جيد؛ لن غيراً نعت. ألا ترى أنه لا يستقيم: هذا درهم إلا جيد.
فأما الموضع الذي يرتفع فيه، فتقول: ما جاءني أحد غير زيد، على الوصف وعلى البدل، فالبدل كقولك: ما جاءني أحد إلا زيد.
وتقول: لقيت القوم غير زيد، على النعت، إذا كان القوم على غير معهود، وعلى البدل. والوجه إذا لم يكن ما قبل غير نكرة محضة ألا يكون نعتاً.
فأما قول الله عز وجل: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ، فإن غيراً تكون على ضروب: تكون نعتاً للذين لأنها مضافة إلى معرفة. وتكون حالاً، فتنصب؛ لأن غيراً وأخواتها يكن نكرات، وهن مضافات لا معارف. هذا الوجه فيهن جمع. وهو في غير خاصة واجب لما تقدم ذكره.

ويكون بدلاً فكأنه قال: صراط غير المغضوب عليهم، ويكون نصباً على استثناء ليس من الأول، وهو: جاءني الصالحون إلا الطالحين.
هذا باب

تكرير الاستثناء بغير عطف
تقول: ما جاءني أحد إلا زيد إلا عمراً. وإن شئت قلت: إلا زيداً إلا عمرو. فالمعنى فيهما جميعاً واحد، وإن اختلف الإعراب؛ لأنك إذا شغلت الفعل بأحدهما انتصب الآخر بالاستثناء ولم يصلح البدل؛ لأن المرفوع منهما موجب.
وتقول: ما جاءني إلا زيداً إلا عمراً أحد؛ لأن التقدير: ما جاءني إلا زيداً أحد إلا عمرو فلما قدمت عمراً صار كقولك: ما جاءني إلا عمراً أحد؛ لأنك لو أخرته كان الوجه: ما جاءني أحد إلا عمرو وتقول: ما جاءني إلا زيداً غير عمرو أحد، لأن غير عمرو بمنزلة قولك إلا عمراً. ومن ذلك قوله:
فمالي إلا الله لا شيء غيره ... ومالي إلا الله غيرك ناصر
كأنه قال: إلا إياك.
وهذا البيت ينشد على غير وجه، وهو قول الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروانا
تجعل غير نعتاً. يخبر أنها غير واحدة بل هي أدؤر، ودار الخليفة تبيين وتكرير، وإلا دار مروان بدل، وإن شئت جعلت دار مروان منصوبة بالاستثناء، على قولك: ما جاءني أحد إلا زيداً.
وإن شئت قلت: ما لمدينة دار غير واحدة إلا دار مروان، فتنصب غيراً لأنه استثناء، وإن شئت رفعت غيراً، ونصبت دار مروان، أيهما شئت جعلته بدلاً ونصبت الآخر.
هذا باب
الجمع بين إلا وغير، والحمل على المعنى إن شئت
تقول: ما جاءني غير زيد وإلا عمرو، لأن التقدير: ما يفسر في موضعه إن شاء الله.
وأما عدا، وخلا فهما فعلان ينتصب ما بعدهما، وذلك قولك: جاءني القوم عدا زيد؛ لأنه لما قال: جاء القوم وقع عند السامع أن بعضهم زيداً، فقال: عدا زيداً، أي جاوز بعضهم زيداً. فهذا تقديره، إلا أن عدا فيها معنى الاستثناء، وكذلك خلا. فمعنى عدا: جاوز، من قولك: لا يعدونك هذا، أي لا يجاوزونك.
وخلا من قولهم: خلا يخلو. وقد تكون خلا حرف خفض. فتقول: جاءني القوم خلا زيد، مثل سوى زيد. فإن قلت: فكيف يكون حرف خفض، وفعلاً على لفظ واحد؟ فإن ذلك كثير، منه حاشا وقد مضى تفسيرها.
ومثل ذلك على: تكون حرف خفض على حد قولك: على زيد درهم، وتكون فعلاً نحو قولك: علا زيد الدابة، وعلى زيد ثوب، وعلا زيداً ثوب، والمعنى قريب.
فإذا قلت: ما عدا، وما خلا لم يكن إلا النصب؛ وذاك لأن ما اسم فلا توصل إلا بالفعل، نحو: بلغني ما صنعت، أي صنيعك إذا أردت بها المصدر فصلتها الفعل لا غير، وكأنه قال مجاوزتهم زيداً، إلا أن في عدا وخلا معنى الاستثناء.
هذا باب
الاستثناء بليس ولا يكون
اعلم أنهما لا يكونان استثناء إلا وفيهما ضمير كما وصفت لك في عدا وخلا، وذلك قولك: جاءني القوم لا يكون زيداً، وجاءني القوم ليس زيداً. كأنه قال: ليس بعضهم ولا يكون بعضهم.
وكذلك أتاني النساء لا يكون فلانةً، يريد لا يكون بعضهن إلا أن هذا في معنى الاستثناء وإن جعلته وصفاً فجيد. وكان الجرمي يختاره، وهو قولك: أتاني القوم ليسوا إخوتك، وأتتني امرأة لا تكون فلانة.
هذا باب
ما حذف من المستثنى تخفيفا
واجتزئ بعلم المخاطب
وذلك قولك: عندي درهم ليس غير، أردت: ليس غير ذلك، فحذفت وضممت؛ كما ضممت قبل وبعد؛ لأنه غاية.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5