كتاب : مباهج الفكر و مناهج العبر
المؤلف : الوطواط

وهذا الحيوان أصناف منها الجرارة والطيارة، وما له ذنب معقف، ومنها السود والخضر والصفر، وأصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون العقرب مائية الطباع، من ذوات الذرو وكثرة الولد نسبة بالمسك والضب، وعامة هذا النوع إذا حملت الأنثى منه يكون حتفها في ولادها لأن أولادها إذا استوى خلقها أكلت بطنها وخرجت فتموت، والجاحظ لا يعجبه هذا القول ويقول: قد أخبرني من أثق به أنه رأى العقرب تلد من فيها مرتين وتحمل أولادها، وهي قدر القمل كبيرة والعقرب شر ما تكون إذا كانت حبلى، ولها ثمانية أرجل أظلاف لأجل المشي وعيناها في ظهرها، وهي من الحيوان الذي لا يسبح، ومن عجيب أمرها إنها لا تضرب الميت ولا المغشي عليه ولا النائم، إلا أن يتحرك شيء من بدنه فعند ذلك تضربه وهي تأوي إلى الخنافس وتسالمها، وتصادق من الحيات كل أسود سالخ، وربما لسعت فتموت، وفيها ما يلسع بعضها بعضا فيموت الملسوع ومن شأنها إذا لسعت الإنسان فرت فرار مسيء يخاف العقاب وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: والعقارب تستخرج من بيوتها بالجراد لأنها حريصة على أكله، تشك الجرادة في عود ثم تدخله الجحر فإذا عاينتها العقرب تعلقت بها، ومتى أدخل الكراث في جحرها وأخرج تبعته، وما معها من نوعها، وهي إذا خرجت من جحرها في طلب المطعم يكون لها نشاط وعزم تضرب كلما لقيته، ولقيها من حيوان أو نبات نشبت فيه إبرتها، وهذه الإبرة مثقوبة فيها السم، والعقارب القاتلة تكون في موضعين: بشهرزور وعسكر مكرم، وهي جرارات، وهذه العقارب تلسع فتقتل، وربما تناثر من لسعته، أو بعض لحمه، واسترخى لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة أعدائه، ومن طريف أمرها أنها مع صغرها وقلتها، وغزارتها تقتل الفيل والبعير بلسعتها وبنصيبين عقارب قتالة إن أصلها من شهرزور، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين فأتى بالعقارب من شهرزور، ورمى بها في حيزان المجانيق إلى البلد، فأعطى القوم بأيديهم.

الوصف والتشبيه
قال عبد الصمد بن المعذل يدعو بها على عدو له:
يا رب ذي افك كثير خدعه ... مستجهل الحلم خبيث مربعه
يسري إلى عرض الصديق قذعة ... صبت عليه حين جمت بدعه
ذات ذنابى متلف من يلسعه ... تحفظه طورا وطورا ترفعه
أسود كالسبجة فيه مبضعه ... ينظف منه سمه وسلعه
تسرع فيه الحتف حين تشرعه ... يبرز كالقرنين حين تطلعه
في مثل صدر السبت حين تقطعه ... ما تصنع الرقشاء ما قد تصنعه
وقال السري الرفاء:
سارية في الظلام مهدية ... إلى النفوس الردى بلا حرج
شائلة في ذنيبها حمة ... كأنها سبجة من السبج
وقال آخر:
ومشرعة بالموت للطعن صعدة ... فلا قرن نادته يوما يجيبها
مداخلة في بعضها خلق بعضها ... كجوشن عظم ثلمته حروبها
تذيقك من وخز إبرة ... إذا لسعت ماذا يلاقي لسعيها
إذا لم يكن لون البهارة لونها ... فمن يرقان دب فيها شحوبها
لها سورة خصت بمنكر صورة ... ترى العين فيها كل شيء يريبها
لها طعنة لا تستبين لناظر ... ولا يرسل المسبار فيها طبيبها
نسيت بها قيسا وذكرى طعينه ... وقد دق معناها وجل ندوبها
تجيء كأم الشبل غضبى توقدت ... وقد توج اليافوخ منها عسيبها
عدو مع الإنسان يعمر بيته ... فكيف يوالي رقدة يستطيبها
ولولا دفاع الله عنا بلطفه ... لصبت بنا الدنيا علينا خطوبها
وقال آخر يصفها من أبيات:
تحمل رمحا ذا كعوب مشهر ... فيه سنان بالحريق مستعر
أنف تأنيفا على حين قدر ... تأنيف انف القوس شدت بالوتر
وقال آخر في ذلك أيضا:
ونضوة تعرف باسم ولقب ... ما بين هلال منصب
موجودة معدومة عند الطلب ... تطعن من لاقته من غير سبب
بخنجر تستله عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب
القول في طبائع الخنفساء

قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: إن الخنفساء تتولد من عفونة الأرض ومن فسادها، ومن مادة لم يكن يجيء منها خيرا لأن الحمار لا يجيء منها فرس وهذا النوع هو أصناف منها الخنفس المعروف، وهو أطول من الضب ذماء فأنه يشدغ، فيسير ويمضي، وبه يضرب المثل في اللجاج وليس له أحشاء وبينه وبين العقارب والضفدع صداقة، ومنها الجعل وهو يتولد من اخثاء البقر وفي طبعه أنه يموت إذا شم رائحة الطيب، وإذا دفن في الورد مات أيضا، وإذا أخرج منه ودفن في الروث عاش، وله ستة أرجل وسنام مرتفع محدد جدا، وهو يمشي إلى الخلف وهو مع هذه المشية يهتدي إلى بيته، ويسمى الكبرتل، وقال بعضهم: لا يصير كبرتلا حتى يصير له جناحان إذا وقع إلى الأرض استتر بقشرة ولم ير منها شيء، فإذا أراد الطيران تنفس فيظهران، ومن عاداته أنه يحرس النيام فمن قام منها لقضاء حاجته تبعه، وذلك من شهوته للغائط، فإنه قوته، ومنها صنف يسمى حمار قبان وهو يتولد في الأماكن الندية على ظهره شبه المجن، ومنها صنف يسمى بنات وردان وهي أيضا تتولد في الأماكن الندية وأكثر ما يكون في الحمامات والساقيات وفيها من الألوان الأسود، والأصهب، والأبيض وهي إذا تكونت وتسافدت، باضت بيضا مستطيلا، وصفها بعض الشعراء فقال:
بنات وردان جنس ليس تبعته ... خلق كنعتي في وصفي وتشبيهي
كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه
ومنها الصراصر والجنادب، وهذا الصنف معرى من الأجنحة له صوت بالليل لا يفتر منه إذا طلع الفجر ولا يعرف له مكان إلا بتتبع صوته، وأمكنة المواضع الندية وفيه ألوان: الأسود وهو جندب الجبل والاكام السود، والأورق وهو جندب الطلح، والسمر والغضا والأبيض وهو جندب الصحارى، قال السري الرفاء يصف جندبة:
وجندبة تمشي بساق كأنها ... على فخذ من عود منشار عرعر
حسلة تجلو الجناح كأنها ... عروس تجلت في عطاف معنبر
وأما الهوام فأول ما نبدأ منها:

القول في طبائع القراد
وهذا الحيوان أول ما يكون، وهو لا يكاد يرى صفرا قمامة، ثم يصير حمنانة ثم يصير حلمة، وهو يخلق من عرق البعير ومن الوسخ والتلطخ بالثلط والأبوال كما يخلق القمل من عرق الإنسان، والحلم يعرض لأذن الكلب أكثر مما يعرض للبعير ومن طبع القراد، أنه يسمع رغاء الإبل من فراسخ فيقصدها، حتى أن أصحاب الإبل يبعثون إلى الماء من يصلح لإبلهم الارشية وأدوات السقي، فيبيت الرجال عند البئر ينتظرون مجيء الإبل فيعرفون قربها منهم في جوف الليل بانبعاث القردان وسرعة حركتها ومرورها حول الرعاء، فإذا رأوا ذلك منها نهضوا وتهيئوا للعمل، ويقول أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: إن لكل حيوان قرادا يناسب مزاجه فللكلب قراد يخصه، وكذا البعير، والفرس والبقر وأنشد الجاحظ يصف قرادا:
ألا يا عباد الله هل لقبيلة ... إذا ظهرت في الأرض جد مغيرها
فلا الدين فيها ولا هي تنتهي ... ولا ذو سلاح من معد يضيرها
القول في طبائع النمل

وهذا الحيوان على ما ذهب إليه ابن أبي الأشعث: )لا يتزاوج ولا يتوالد( ولا يتلاقح، وإنما يسقط منه شيء حقير في الأرض ينمو بيضا ثم يتكون فيه وهو حيوان محتال يتفرق في طلب المعاش فإذا وجد شيئا أنذر البا فيجئن ويحملن، وكل واحد مجتهد في صلاح العامة غير محتبس لشيء من الرزق دون صحبه، ويقال إنما يفعل ذلك منها رؤساؤها، ومن تحلية في طلب الرزق أنه ربما وضع بينه وبين ما يخاف عليه منه حاجز بحجزه عنه من ماء أو شعر فيتسلق في الحائط، ويمشي على جذع من السقف مسامت لما حفظ ثم يلقي نفسه عليه، وفي طبعه أنه يحتكر في زمن الصيف لزمن الشتاء، وفي الاحتكار من الحيل ما أنه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين، ما خلا الكسفرة، فإنه يقسمها أرباعا لما الهم أن كل نصف منها ينبت، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في القمر، ويقال أن حياته ليست من قبل مأكله ولا قوامه، وذلك أنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام، ولكنه مقطوع نصفين، وإنما قوته إذا قطع الحب استنشاق ريحه لا غير وذلك يغذوه ويكفيه، وهو يشم ما ليس له ريح مما لو وضعه الإنسان على أنفه لم يجد له ريحا وله من حدة الشم ما لو أن رجل جرادة تكون منبوذة في موضع لم ير فيه ذر قط فلا يلبث أن يرى الذر إليها كالخيط الأسود المسدود، ومن أسباب هلاك النملة نبات الأجنحة لها وإذا صار النمل كذلك أحصبت العصافير، وقد قال أبو العتاهية في ذلك:
إذا استوت للنمل أجنحة ... حتى تطير فقد دنا عطبه
وهو يحفر قريته بقوائمه لا بفيه، وقوائمه ست، وإذا حفرها جعل فيها تعاريج لئلا يجري إليها ماء المطر، وربما اتخذ قريته فوق قرية بسبب ذلك وإنما يفعل ذلك خوفا على ما يدخره من البلل، وليس في الحيوان ما يحمل ضعف ما يحمل بدنه مرارا غيره، وعلى أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف إلا بعد انقطاع الأنفاس، حتى أنه يتكلف حمل نوى التمر وهو لا ينتفع بتلك النوية، وإنما على ذلك الحرص والشدة، وفي هذا الحيوان ما يسمى الذر وهو والنمل بمنزلة الزنابير والنحل، في أن النحل أصغر جثة، وأجود فهما ومعرفة ومن أصنافة صنف يسمى نمل الأسد وسمي بذلك لأنه يشبه وجه الأسد ومؤخرة النمل، وزعم بعض المتكلمين في طبائع أنه متولد وأدعى أن أباه أكل لحما، وأمه أكلت نباتا فولده، ومما يستغرب في عظم خلقها، أنه وجد في ذخائر أبي كاليجار سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن بويه نملة في حلقها سلسلة تأكل كل يوم رطلين لحم بالبغدادي.

الوصف والتشبيه
قال إبراهيم بن سناه:
غزاة يولي الليث عنهن هاربا ... وليست لها نبل حداد ولا عمد
قصار الخطى حمش القوائم ضمر ... مسمرة لا تشتكي الاين والحرد
وتعدو على الأقران في صولة الوغى ... نشاطا كما يعدو على صيده الأسد
إذا فكرت طيب الهياج تنفست ... تنفس ثكلى قد أصيب لها ولد
كأكراد زنجان مزيد فضاضة ... وتلك الصعاليك الغوائب في البلد
وفيهن أجناس تشابهن صورة ... وباين في الهمات واللون والجلد
فمنهن كمت كالعناكب أرجلا ... وساع الخطى قد زان أجيادها الغيد
إذا انتهرت طارت وإن هي خلدت ... رأت ورد أحواض المنايا من الرشد
وسود خفاف الجسم لو عضت الصفا ... رأيت الصفا من وقع أسنانها قدد
يفدن علينا مفسدات جفاننا ... وأزوادنا أبغض إلينا بما وفد وقال آخر:
وحي أناخوا في المنازل باللوى ... فصاروا به بعد القطين قطينا
إذا اختلفوا في الدار ظلت كأنها ... تبدد فيها الريح بزر قطونا
لهم نظرة يسرى ويمنى إذا مشوا ... كما مر مرعوب يخاف كمينا
ويمشون صفا في الديار كأنما ... يجرون خيطا في التراب مبينا
وفي كل بيت من بيوتي قرية ... تضم صنوفا منهم وفنونا
فيا من رأى بيتا يضيق بخمسة ... وفيه قريات يسعن مئينا
وقال يحيى بن هذيل الأندلسي يصف نملة:
مخزومة في ثبح ... كأنما استقصي بالبخت
إنما آخرها نقطة ... ساقطة من قلم المفتي
مشت على الرض على أرجل ... تشبه شعر الطفل في النبت
لا تسمع الأذن لها موقعا ... في الأرض مسا ولا مرت
مكدودة ليس لها راحة ... ولا تقطع الأيام بالصمت

سبحان من يعلم تسبيحها ... ووزنها من زنة البخت

القول في طبائع القمل
قال المتكلمون في طبائع الحيوان: القمل يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوبا، أو ريشا، أو شعرا حتى يصير المكان عفنا، ويكون في الرأس الأسود الشعر أسود، وفي الرأس الأبيض الشعر أبيض، وفي الرأس الأحمر الشعر - أما شقرة وأما خضاب بحناء - أحمر، ومتى نصل الشعر يغير إلى لونه، والقمل من الحيوان الذي إناثه أكبر من ذكوره، ويقال: إن ذكور القمل الصيبان، ويقال أنها بيضها، والقمل يسرع إلى الدجاج والحمام، إذا لم يغسل، ويعرض للقرود أيضا، وأما قملة النسر وهي التي تكون في بلاد الجبل، وتسمى بالفارسية دده، وإنها إذا عضت قتلت، وهي أكبر من القملة، وأكثر ما تكون بمهرجان قذق، ومع صغر جسمها، فإنها تفسخ جسم الإنسان في أقل من الإشارة باليد، وهي تعض لا تلسع، وإنما سميت قملة النسر لأن النسر إذا سقطت بتلك الأرض في بعض الأزمنة تسقط منه قملة فيستحيل إلى هذا الخبث.
قال أبو نؤاس في رجل يتفلى في الشمس:
للقمل حول أبي العلاء مصارع ... من بين مقتول وبين عقير
وكأنهن إذا علون قميصه ... فذ وتوأم سمسم مقشور
؟
الباب السادس
في طبائع سباع الطير وكلابها
ومجموع هذا النوع عند أبي الأشعث ناري لأن طبيعته حارة يابسة، وهو غضوب حقود غاضب قاتل يغتذي بالدم واللحم، ويطير في جو السماء، ويتجاوز في طيرانه البخار والهواء الذي هو حار رطب، ويعلو إلى هواء حار يابس، وإنما تم له هذا الغلو إلى هذا الهواء من الجو لأن له نفسا مزاجها كمزاجه فهي تتحرك النار، وهو ليس بذي شيء، ولا لبث في الصحارى، ولا في الشطوط لبعده عن المزاج الرطب ولا هو مما يجتمع خيطا كما يطير بعض الطير ويتزاوج عند الشبق وتفارق الذكور الإناث عند زواله للشره الذي كل واحد منهما وقوة الغضب ما يفترس بعضه بعضا، ولغلبة المزاج الناري على طبيعته صار فيه ذكاء وسرعة حركة، وختل وقلة وفاء، وأنواعه تنحصر في أربعة وهي العقاب والبازي والصقر والشاهين وتنعت بالجوارح والسباع والضواري، والكواسر والمضرحيات والأحرار والعتاق، وذوات المنسر من الطير ذكورها أصغر أجساما وألطف أقدادا من إناثها وأقل جمالا، وذوات المناقير بالعكس من ذلك، وتسمى البغات، والذي نبدأ به بالذكر من الجوارح:
القول في طبائع العقاب
وهذا الصنف يؤنث ولا يذكر ويسمى العنقاء على ما ذهب إليه أهل اللغة وبهذا القول فسر قول أبي العلاء المعري:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
ولا خلاف عند أهل اللغة في ذلك، وهذا الصنف ينقسم إلى قسمين: عقاب، وزمج.

فأما العقاب فأن فيها من الألوان السود والخوخية، والصقع والسفع، والبيض والشقر، ومنها ما يأوي الجبال، ومنها ما يأوي إلى الصحارى، ومنها ما يأوي الغياض ومنها ما يأوي حول المدن، ويقال أن ذكورها من طير آخر لطيف الجرم لا يساوي شيئا، والعقاب يبيض في الأغلب ثلاث بيضات، ويحضنها ثلاثين يوما، وما عداه من الجوارح يبيض بيضتين كل سنة، ويحضن عشرين يوما، وإذا خرجت الفراخ تلقي واحدا منها لأنها يثقل عليها طعام الثلاث وتربيتها، وذلك لقلة صبرها وشرهها، والفرخ الذي تلقيه يعطف عليه طير آخر يسمى كاسر العظام فيربيه، ومن عادة هذا الطائر أن يزق كل فرخ صائغ بعد التوفر على فراخه، وفي طبع الذكر أنه يمتحن أنثاه هل هي محافظة له أو مواتية لغيره من غير جنسه بأن يصوب بصر فرخه إلى شعاع الشمس، فإن ثبت عليه تحقق أنهما فرخاه فأمسكهما وإن لم يصبر عليه وناء عنه ضرب الأنثى كما يضرب الرجل المرأة الزانية، وطردها من وكره ورمى بالفرخين، وهي تربي فراخها إلى أن تقوى على الطيران فتخرجها، وتنفيها عن مواضعها، ومن عقوقها لفراخها أنها لا تحمل على نفسها في الكسب عليها، ومتى كان الذكر والأنثى في مكان مجتمعين لا يدعان غيرهما من جنسهما يأويان قريباً، ولا يصيد فيه، وهي إذا صادت شيئاً لا تحمله على الفور إلى مكانها بل تنقله من موضع إلى موضع، ولا تجلس إلا على الأماكن المرتفعة لأنها لا تستقتل من الأرض إلا ببطؤ وعسر، وإذا ما صادت الأرانب تبدأ بصيد الصغار ثم الكبار، وهي أشد الجوارح جرأة، وأقواها حركة إلى الغضب وأسرعها إقداماً، وأنسبها مزاجاً، وكذلك هي أحدها وهي خفيفة الجناح سريعة الطيران فهي إن شاءت كانت فوق كل شيء، وإن شاءت كانت بقرب كل شيء، تتغذى بالعراق، وتتعشى باليمن، وريشها الذي عليها فروتها في الشتاء وجنسها في الصيف، وربما صادت حمر الوحش، وذلك أنها إذا نظرت الحمار رمت نفسها في الماء حتى يبتل جناحها ثم تتمرغ في التراب ثم تطير حتى تقع على هامة الحمار ثم تصفق على عينيه بأجنحتها فتملأها تراباً، فلا يبصر حيث يذهب فيؤخذ، وهي مولعة بصيد الحيات، وولوعها بها كولوع الحيات بالفأر، وفي طبعها قبل أن تدرب، أن لا تراوغ صيداً ولا تعنى في طلبه، ولا تزال موفية على شرف عال، فإذا رأت سباع الطير قد صادت شيئاً انقضت عليه فتتركه لها وتنجو بنفسها، ومتى جاءت لم يمتنع عنها الذئب، وهي شديدة الخوف من الإنسان وتنظر إليه بفرق منه، ويقال: أنها إذا شاخت وثقل جناحها، وأظلم بصرها التمست غديراً، فإذا وجدته حلقت طائرة في الهواء ثم تقع من خالق في ذلك الغدير وتنغمس فيه مراراً فيصح جسمها ويقوى بصرها، ويعود ريشها ناشئاً إلى حالته الأولى، ومتى ثقلت عن النهوض، وعميت حملتها الفراخ على ظهورها، ونقلتها من مكان إلى مكان لطلب الصيد، وتعولها إلى أن تموت، ومن عجيب أمرها أنها إذا اشتكت كبدها من رفع الأرانب والثعالب في العواء أكلت أكبادها فتبرئ، وهي تأكل الحيات إلا رؤوسها، والطير إلا قلوبها ويدل على هذا قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير، رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومنقارها الأعلى يعظم ويعقف حتى يكون ذلك سبب هلاكها لأنها لا تنال به الطعم حينئذ:

فصل
أول من صادها أهل المغرب، وإنما رغبتهم فيها ما رأوا من شدة أسرها وعظم سلاحها، ويحكى أن قيصر أهدى إلى كسرى عقاباً، وكتب إليه: علمها فأنها تعمل عملاً أكثر من الصقور التي أعجبتك، فأمر بها فأرسلت على ظبي عرض لها فقدته فأعجبته ما رأى منها، وجوعها ليصيد بها، فوثبت على صبي من حاشيته فقتلته، فقال كسرى: غزانا قيصر في بلادنا بغير جيش، ثم أهدى لقيصر نمراً وكتب إليه: قد بعثت إليك ما تقتل به الظباء، وما قرب منها من الوحش، وكتم ما صنعت العقاب عنه فأعجب به قيصر إذ وافقت صفته ما وصف، فغفل عنه يوماً فافترس بعض فتيانه فقال: صادنا كسرى فإن كنا صدناه فلا بأس، فلما بلغ ذلك كسرى قال: أنا أبو ساسان. وصفة المحمود منها وثاقة الخلق، ثبوت الأركان، وحمرة اللون، وغؤور الحماليق، وإن تكون صقعاء، عجزاء على عكوتها بياض وأجودها ما جلبت من سرت وجبال المغرب.
الوصف والتشبيه
قال امرؤ القيس يصف شدة أسرها من أبيات ذكر فيها فرساً:

كأنها حين فاض الماء واحتفلت ... صقعاء لاح لها بالمرحة الذيب
فأبصرت شخصه من فوق مرقبه ... ودون موقعه منها شناخيب
فأقبلت نحوه في الجو كاسرة ... نحيبها من هواء الجو تصويب
فأدركته فنالته . . . مخالبها ... فانسل من تحتها والدف مثقوب
لأمثلها من ذوات الجو طائرة ... ولا كهذا الذي بالأرض مطلوب
يلوذ بالصخر منها بعدما قطرت ... منها ومنه على العقب الشآنيب
ثم استغاث بدحل وهي تحفره ... وباللسان بالشدقين تتريب
فظل منجحراً منها . . . يراصدها ... ويرقب الليل إن العيش محبوب
حبت عليه ولم تصب من ... إن الشقاء على الاشقين مصبوب
كالدلو بثت عراها وهي مثقلة ... أرجامها ودم منها وتكريب
وقال آخر من بني هذيل:
ولله فتخاء الجناحين لقوة ... توسد فرخيها لحوم الأرانب
كأن قلوب الطير في جوف وكرها ... نوى القسب تلقى عند بعض المآدب
فخالت غزالاً جاثماً بصرت به ... لدى سمرات عند إدماء شارب
فمرت على بدء فاعنت بعضها ... فخرت على الرجلين أخيب خائب
وقال أبو الفتح كشاحم:
يا ربما أغدو مع الآذان ... والنجم قد رنق كالوسنان
والليل كالمنهزم الجبان ... بلقوة موثقة الأركان
غرثى وكم تشبع من غرثان ... كأنما تضمر بالرهان
كريمة النجر من العقبان ... تفل حد السيف والسنان
بمخلب يهتك دستبان ... أشبه معطوف بصولجان
ومنسر من الدماء قاني ... كأنه في رؤية العنان
سنانه تلوى على دستان ... ومقلة طحاره الأجفان
كأنما صيغت من العقبان ... تضم صيد الجأب والأتان
والطير في ربقتها عواني ... لم تأل إن صادت بلا توان
ما عجزت عن عدة بناني ... أكرم بها عوناً على الضيفان
وقال أبو الفرج الببغاء:
ما كل ذي مخلب وناب ... من سائر الجوارح والكلاب
بمدرك في الجد والطلاب ... أيسر ما يدرك بالعقاب
شريفة الصنعة والأنساب ... تطير من جناحها في غاب
وتستر الأرض عن السحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب
يظل منها الجو في اغتراب ... مستوحشاً للطير كالمرتاب
ذكية تنظر من شهاب ... ذات جران واسع الجلباب
ومنكب ضخم أثيب راب ... ومنسر موثق النصاب
وراحتي ليث سرى غلاب ... ينطت إلى براثن صلاب
مرهفة أمضى من الحراب ... وكل ما حلق في الضباب
لملكها خاضعة الرقاب

الصنف الثاني من العقاب الزمج
وأصحاب الكلام في البيزرة يعدونه من خفاف الجوارح، وذلك معروف في عينيه وسرعة حركته، وشدة وثبته، ويصفونه بالغدر وقلة الوفاء والألف لكافة طبعه، وقد يقبل الأدب، ولكن بعد بطئ، وهو شديد الأسر لقوة في نفسه وسلطان في جناحه، ومن عادته أنه يتلقف طائراً كما يتلقف البازي، ويصيد على وجه الأرض، كما يصيد العقاب، ويحمد من خلقه أن يكون لونه أحمراً، وهذا اللون الذي لا يشك في فراهته، ولا يحمد ما قرنص وحشياً.
الوصف والتشبيه
قال أبو الفرج الببغاء:
يا رب سرب آمن لم يزعج ... غاديته قبل الصباح الأبلج
بزمج أدلق حوش أهوج ... مضبر المنكب صلب المنسج
ذي قصب عبل أصم مدمج ... وجؤجؤ كالجوشن المدرج
وعنق سام قويم أعوج ... ومنسر أقنى فسيح مسرج
منخرق المدخل رحب المخرج ... ومقلة تشف عن فيروزج
ناظرة من لهب مؤجج ... وهامه كالحجر المدملج
ومخلب كالمعول المعوج
القول في طبائع البازي

وهذا النوع الثاني من الجوارح، وينقسم إلى خمسة أصناف: البازي، والزرق والباشق، والعفصي، والبيدق، والبازي أحرها مزاجاً لأنه قليل الصبر على العطش، ومأواه الشجر العادية الملتفة، والظل الظليل ومطرد المياه، وهو لا يتخذ وكراً إلا في شجرة لها شبكة ذات شوك مختلفة الحجون يطلب بذلك السكن فلا يقع في شتاء ولا صيف على أغصانها وأطرافها، وإذا أراد أن يفرخ بنى لنفسه بيتاً، وسقفه تسقيفاً لا يصل إليه منه مطر ولا ثلج إشفاقاً منه على نفسه من البرد والحر، ولهذا إذا اخطأ صيده، وكان في برية لا شجر فيها ولى ممعناً حتى يلج كهفاً من جبل أو جداراً من الأرض يسكن فيه، ولذلك علق عليه الجرس، كيما يدل على موضعه إن خفي، وهو لا يطيق البرد ولا الحر لرقة جوانحه فسبيله في البرد أن تقترب منه النار ليدفئ، أو تجعل كفيه في الشتاء وبر الثعالب، واللبود، وسبيله في الحر أن يجعل في بيت كنين من السموم، بارداً بالنسيم، ويفرش له الريحان والخلاف وهو خفيف الجناح سريع الطيران، يلف طيرانه كالتفاف الفاختة، ويسهل عليه أن يزج نفساً صاعداً أو هابطاً، وينقلب على ظهره حتى يلتقف فريسته، وسبيله أن يضرا على صيد الدراج، والقبج، إذا كان طويل المنسر، وإذا كان قصيراً فسبيله أن يضرا على طير الماء والحبرج، والإناث من هذا الصنف أجرأ على عظام الطير من ذكورها.
قال أصحاب الكلام في البيزرة: إن الإناث من البزاة إذا كان وقت سفادها وهياجها يغشاها جميع أجناس الضواري كلها، الزرق، والشاهين والصقر وغيرها وإنها تبيض من كل طير يغشاها، ولهذا تجيء مختلفة الأخلاق من الجبن والجرأة، والحب، والغدر، والذكاء، والقوة، والضعف، والحسن، والقبح، والشراهة، ولهذا البازي ما يدرك ما بين العصفور إلى التدرج والكراكي، والطيطوي، وصفة الفاخر منه أن يكون قليل الريش، أحمر العينين حادهما، وأن تكونا مقبلتين على منسره حجاجتهما ممطلان عليهما، ولا يكون وضعهما في جنبي رأسه كموضع عين الحمام، والأزرق دون الأحمر العين والأصفر دونهما، وسعة الأشداق دليل على قوة الافتراس، ومن صفاته المحمودة أن يكون طويل العنق عريض الصدر ما بين المنكبين، شديد الانخراط إلى ذنبه، وأن يكون فخذاه طويلين مسرولين بريش وذراعيه قصيرتين غليظين، وأشاجع كفيه عارية وأصابعه متفرقة، ولا تكون مجتمعة ككف الغراب، ومخلبه أسود، ومنسره رقيقاً، وأفخر ألوانه الأبيض ثم الأشهب وهما لونان يدلان على الشدة والصلابة فإن اتفق أن يكون هذا أحمر العين، وكثيراً ما يتفق كان نهاية، وهذا اللون في البزاة كالكميت في الخيل لأنه يدل على الشدة، والأحمر )من البزاة أخسها( لأنه كالسوسي من الخيل بعيد الفلاح، وبعض الناس يقول: أشرف البزاة الطغرك ثم البازي التام، وهو الذي قد وصفناه وذكرناه، والطغرل لا يعرفه غير الترك، وهو عزيز جداً، وربما وجد الواحد منها بعد الواحد فيغلب عليه الملوك، ويكون في بلاد الخزر ومأواها فيما بين خوارزم إلى أرمينية، وهو يجمع صيد البازي والشاهين، وقيل أنه لا يعقر بمخلبه شيئاً إلا سمه، وكلما برأ جرحه انتقض، ولهذا يحمل على دستبانات الوبر الوثيرة

فصل
أول من صاد هذا الطائر أعني البازي لذريق أحد ملوك الروم الأول، وذلك أنه رأى بازياً إذا علا كتف، وإذا سفل خفق، وإذا أراد أن يسمو ذرق، فاتبعه حتى اقتحم شجرة ملتفة كثير الدغل، فأعجبته صورته، فقال: هذا طائر له سلاح تتزين بمثله الملوك، فأمر بجمع عدة من البزاة، فجمعت وجعلت في مجلسه، فعرض لبعضها أيم فوثب عليه فقتله، فقال: ملك يغضب كما تغضب الملوك ثم أمر به فنصب على كندره بين يديه، وكان هناك ثعلب فمر به مجتازاً فوثب عليه فما أفلت منه إلا جريحاً، فقال: هذا جبار يمنع حماه، ثم أمر به فضري على الصيد، واتخذته الملوك بعده والله أعلم بالصواب.
الوصف والتشبيه
قال أبو نؤاس يصفه:
قد اغتدى والليل ذو دواجٍ ... ببازي الصيد على ابتهاج
كضرغام جاء.. من منهاج ... البسه وشياً بلا نساج
موشية الرياش كالدجاج ... منقط ظاهره بزاج
ومنسر أسرف باعوجاج ... تخاله صدغاً على معناج
زرفته إذ قام للبراج ... في وجنة تبرق، مثل العاج
وقال الناشئ أيضاً من مزدوجة:

لما تفرى الليل عن اثباجه ... وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه
غدوت أبغي الصيد من منهاجه ... بأقمر أبدع في نتاجه
ألبسه الخالق من ديباجه ... ثوباً كفى الصانع من نساجه
حال من الساق إلى أوداجه ... وشياص يحار الطرف في اندراجه
في نسقٍ وفي . . . انعواجه ... وزان فوديه إلى حجاجه
بزينة كفته عز تاجه ... منسره يثنى على خلاجه
وظفره يخبر عن علاجه ... لو استضاء المرأ في إدلاجه
بعينه كفته عن سراجه ومن طردية لأبي فراس:
جئت ببازٍ حسنٍ اسبهرج ... دون العقاب وفوق الزمج
زين لرائيه وفوق الزين ... ينظر من نارين في غارين
كأن فوق صدره . . . والهادي ... أثار مشى الذر في الرماد
ومن رسالة لأبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي يصف بازياً: طائر يستدل بظاهر صفاته على كرم ذاته، طوراً ينظر نظر الخيلاء في عطفه كأنما يزهى به جبار، وتارة يرمي نحو السماء بطرفه كأنما له هناك اعتبار، وأخلق به أن ينقض على قنيصه شهاباً، ويلوى به ذهاباً، ويحرقه توقداً والتهاباً، وقد أقيم له سايغ الذنابي والجناح، كفيلين في مطالبه بالنجاح، جيد العين وارثر حديد السمع والبصر يكاد يحس بما يجري ببال، ويسري من خيال، قد جمع ببين عزة ملك وطاعة مملوك، فهو بما يشتمل عليه من علو الهمة، ويرجع إليه بمقتضى الخدمة، مؤهل لإحراز ما تقتضيه شمائله، وإنجاز ما تعد به مخائله، وخليق بمحكم تأديبه وجودة تركيبه أن يكون مثل له النجم قنصاً، أو أجرى بذكره البرق قصصاً، لاختطفه أسرع من لحظة، وأطوع من لفظة وانتسفه أمضى من سهم، وأسرع من وهم، فقد اتسم بشرف جوهره، وكرم عنصره لا يوجه مسفراً إلا غادر قنيصه معقراً، وآب إلى يد من أرسله مظفراً، مورد المخلب والمنقار، كأنما خضب بحناء أو كرع في عقار.
وله أبيات يمدح بها:
طرد القنيص بكل قيد طريده ... زجل الجناح مورد الأظفار
ملتفة أعطافه بجيرة ... مكحولة أجفانه بنظار
يرمي به الأمل القصير فينثني ... مخضوب رائي الظفر والمنقار

الصنف الثاني من البازي
وهو الزرق، وهذا الصنف بازي لطيف إلا أن مزاجه أحر وأيبس، ولذلك هو أشد جناحاً، وأسرع طيراناً، واقوى إقداماً، وفيه ختل وخبث، وذلك أنه إذا أرسل على طائر طار من غير مطاردة، ثم عطف عليه، وأظهر الشدة بعد اللين وفي ألوانه الأبيض وخير ألوانه الأسود الظهر الأبيض الصدر، الأحمر العين وصفة المحمود منه: أعدلها خلقاً وأقلها ريضاً، وأثقلها حملاً وأحلاها دارجها شدقاً وأوسعها عيناً، وأصغرها رأساً، وأصفاها حدقة، وأطولها عنقاً، واقصرها خافية، وأشدها لحماً، وخضرة رجلين وسعة مخلاب، وتعرياً من اللحم وادواؤه وعلاجه كالبازي داء ودواء.
الوصف والتشبيه
قال أبو نؤاس من أرجوزة طردية:
وقد اغتدى بسفرة معلقه ... فيها الذي تريده مرفقه
مبتكراً يزرق أو زرقه ... وصفته بصفة مصدقه
كأن عينيه لحسن الحدقه ... نرجسة نابتة في ورقه
ذو مننسر مخضب معلقة ... كأنه رامشته مخلقه
في كف جود طفلة أو ملعقه ... كم وزة صدنا به ولقلقه
سلاحه في لحمها مفرقه
ومن طردية لعبد الله بن المعتز:
تم له قميص وشى سابغ ... ومنسر ماضي الشباه دافغ
أعقف في حوض الدماء والغ ... رسول زرق نجيب بالغ
تملأ كفيه جناح فارغ
وقال الناشئ:
يا قانص أعد علينا ... بزرق مخبور
مناهض للبازي ... مغالب الصقور
له جناح موشى ... مضاعف التنمير
مظاهر ببردة ... مبطن بحرير
وكف سبع هصور ... محجن الأطفور
تقول فيه الخطا ... طيف لذذت من صقور
ومنسر ذي انعطاف ... كقرن ظبي غرير
في هامة كلفته ... كالجندل المستدير
وصدر باز طرير ... مفوف التحبير
كأنه ثوب وشي ... معرج التسنير
له طنابيب هقل ... وعين صقر ذعور
له بديهة صوت ... كنبذة من زمير
إذا استمرت لسمع ... الغادي لشرب الخمور
ألهته عن كل نأي ... يحكي بهم وزير
الصنف الثالث من البازي

وهو الباشق، وهذا الصنف وإن كان معدوداً في جنس البازي، والزرق فإنه أحر وأيبس، ولغلبة هذا المزاج عليه هو هلع، قلق، ذعر، يأنس وقتاً، ويستوحش وقتاً، ونفسه قوية خائفة فإذا أنس منه الصغير بلغ منه كل المراد، وخير الباشق ما أخذ فرخاً لم يلق من قوادمه ريشة واحدة، متنه دان، وهو متى تم تأنيسه وجد منه باز خفيف المحل، طريف الشمائل يليق بالملك أن يخدمه وإن يستخدمه لخفة محمله، وحسن خلقه، ولأنه يصيد أفخر ما يصيده البازي وهو الدارج والحمام والورشان، والشفنين، وأصحاب الكلام في البيزرة يصفونه بالشبق، ويقولون: إن الأنثى إذا هاجت سقطت على شرف، وصفرت صفيراً حتى يسمع الذكر فيعرفها فيأتيها فإذا أحست به سكنت له فإذا سفدها حلق طائراً ثم يعود، ولا يزال يسفدها ما دامت ساكنة له حتى ربما فعل خمسين مرة وأزيد، فإذا ضجرت شدت عليه لتقتله فيطير محلقاً.
ومن طبعه إذا علق بما هو أشد منه واضطرب في يده لم يسهل عليه نقل كفه من موضع إلى موضع، وإن قوى صيده عليه لم يفارقه أو يتلف أحدهما فسبيله أن لا يرسل على كل ما طلب فيكون قد كلف ما لا يطيق، ومن صفاته المحمودة أن يكون صغيراً في المنظر ثقيلاً في الوزن طويل الساقين قصير الفخذين عظيم السلاح بالنسبة إلى جسمه.

الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء فيه:
إذا بارك الله في طائر ... فخص من الطير اسبهرقي
له هامة كللت باللجين ... فسال اللجين على المفرق
يقلب عينين في رأسه ... كأنهما نقطتا زئبق
واشرب لوناً له مذهباً ... كلون الغزالة في المشرق
حمام الحمام وحتف القطا ... وصاعقة القبح والعقعق
وأحنى عليه إلى أن يعو ... د إليك من الوالد المشفق
فأكرم به وبكف الأمي ... ر وبالدستبان إذا يلتقي
ولكاتب أندلسي يصفه من رسالة: كأنما اكتمل بلهب أو انتعل بذهب، ملتف في سبرة، وملتحف بحبرة، من سيوفه منقاره، ومن رماحه أظفاره، ومن اللواتي تتنافس الملوك فيها تمسكها عجباً بها وتيهاً، فهي على أيديها آية بادية، ونعمة من الله نامية تبذل لك الجهد طرحاً وتعيرك في نيل بغيتك جناحاً، وتتفق معك في طلب الأرزاق، وتأتلف بك على اختلاف الخلق والأخلاق ثم يلوذ بك ليؤذي من يرجوك، ويفي لك وفاء لا يلزمه لك ابنك ولا أخوك.
ثم ذكر حمامة صادها: اختطفها أسرع من اللحظ، ولا محيد لها عنه، وانحدر بها أعجل من اللفظ، وكأنما هي منه، ثم جعل يتناولها بمثل السبعين، ويدخلها في أضيق من التسعين وكأن لها موتاً عاجلاً، وكأن له قوتاً حصلاً.
وقال آخر:
لما انجلى ضوء الصباح وانفلق ... غدوت في ثوب من الليل خلق
بطامح النظرة في كل أفق ... بمقلة تصدقه إذا رمق
كأنها نرجسة بلا ورق ... مبارك إذا رأى فقد رزق
وقال أبو الفتح كشاجم:
يسمو فيخفي في الهواء ويأتي ... عجلاً فينقض انقضاض الطارق
وكأن جؤجؤ وريش جناحه ... خضباً بنقش الفتاة العاتق
فكأنما سكن الهوى أعضاؤه ... فاعارهن نحول جسم العاشق
ذا مقلة ذهبية في هامة ... محفوفة من ريشها بحدائق
ومخالب مثل الأهلة ظالماً ... أدمين كف البازيار الحاذق
وإذا انبرى نحو الطريدة خلته ... كالريح في الإسراع أو كالمارق
وإذا القطاة تخلفت من خوفه ... لم يعد أن يهوى بها من خالق
الصنف الرابع من البازي
وهو العفصي بالباشق كشبه الزرق بالبازي إلا أنه أصغر الجوارح نفساً، وأضعفها حيلة، واشدها ذعراً، وأيبسها مزاجاً، وربما صاد العصفور، وتركه وهرب لخوفه وحذره، وكل طائر حذر وخاف، مات فرقاً، فإن الدراج يخاف حتى يموت لأن الخوف يتحرك فيه حتى لا يحس بجوع ولا عطش حتى يموت، من طبع هذا الطير أنه يرصد الطير أوان حضانه، فإذا طار من وكره خلفه فيه وكسر بيضه ونحاه ورمى بالقشر، وباض مكانه وطار عنه، فيحضنه صاحب الوكر فهو أبداً لا يحضن، ولا يربي، ويتكل على غيره في تربية فراخه، ولم أجد لأحد من الشعراء شيئاً في وصفه، فأثبته، والظاهر أنهم لم يصفوه لأنه يشبه بالباشق، فحملوا الصفة على الصفة واستغنوا بأحدهما عن الأخرى.
الصنف الخامس من البازي

وهو البيدق، ولا يصيد غير العصافير وقلما يندر، من نوعه ما يحصل به غنى، وبعض من أهل هذا الشأن يجعل البيدق والعفصي أسمين موضوعين على مسمى واحد، ويزعم أن أهل مصر يسمون البيدق والعفصي، فعلى هذا يكون البازي أربعة أصناف لا غير )إن شاء الله(.

الوصف والتشبيه
قال أبو الفتح كشاجم يصفه من طردية:
حسبي من البزاة والزرازق ... ببيدق يصيد الباشق
مؤدب مدرب . . . الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق
يسبق في السرعة كل سابق ... ليس له في صيده من عائق
ربيته وكنت غير الواثق ... إن الفرازين من البيادق
القول في طبائع الصقر
وهو النوع الثالث من الجوارح، وينقسم إلى ثلاثة أقسام، صقر وكونج ويؤيؤ والعرب تسمي كل طائر يصيد: صقراً، ما خلا النسر والعقاب، وتسميه الأكدر والأجدل، وهو من الجوارح بمنزلة البغال من الدواب، لأنه اصبر على الشدة، وأحمل لغليظ الغذاء، وأحسن إلفاً، وأشد إقداماً على حيلة الطير من الكراكين والحبارح، ومزاجه أبرد من سائر ما تقدم ذكره من الجوارح، وأرطب، وذلك معروف في ركوده وقلة حركته، وعدم التفاف ريشه، وبهذا السبب يضرى على الغزال والأرانب ولا يضرى على الطير لأنها تفوقه، وفعله في صيده الانقضاض، والصدم وهو غير صاف بجناحيه، ولا خافق به، ومتى خفق بجناحه كانت حركته بطيئة بخلاف البازي، ويقول أصحاب الكلام في البيزرة أنه أهدأ نفساً من البازي وأسرع أنساً بالناس، وأكثرها رضاً وقناعة، وهو يغتذي بلحوم ذوات الأربع ولبرد مزاجه لا يقرب من المياه، ويعافها، ولو لم يجدها الدهر لما أرادها، ومن أجل ذلك يوصف بالنجر ونتن الفم، وفي طبعه أنه لا يركب الشجر، ولا شوامخ الجبال، ولا يأوي إلا إلى المقابر، والكهوف، وصدوع الجبال، وفيه جبن، ونفسه دون شدته، ولذلك يضرب الغزال والأرانب ويهرب منه، ولا يكاد يعلق بفرسته فإذا فارقها عاد إليها منقضاً فيضربها، ويرقى هارباً، وكل ما تقدم ذكره من الجوارح ينقى بالماء ويغتسل، وهو ينقى بالتمعك في الرمل والتراب.
وصفاته المحمودة: أن يكون أحمر اللون عظيم الهامة، دامع العين، تام المنسر طويل العنق، والجناحين، رحب الصدر، ممتلئ الزور، عريض الوسط جليل الفخذين قصير الساقين والذنب، قريب القفدة من الفقار سبط الكف غليظ الأصابع عظيمهما فيروزجها، أسود اللسان، وقال بعض ظرفاء الشعراء يصف المحمود منها في مزدوجة طردية في قوله
إذا رأيت الصقر بين الصقرين ... له سواد سائل تحت العين
منهرت الشدق عظيم الحرفين ... ململم الهامة ضخم الكفين
كأنما الجؤجؤ مثل الفهرين ... فأبتعه يا صاح بنقد أو دين
فصل
أول من صاد به وضراه الحارث بن معاوية بن ثور بن كنده فإنه وقف يوماً على صياد وقد نصب شبكة للعصافير، فانقض أكدر على عصفور منها قد علق فجعل يأكله، والحارث يعجب، فأمر فأتى به، وقد اندق جناحاه فرمى به في كسر بيت ووكل به من يطعمه، فدربه حتى صار إذا أتاه اللحم ودعاه أجاب ثم صار يطعمه على اليد ثم صار لأنسه به فبينما هو حامله يوماً إذ رأى حمامة فطار عن يده إليها فأخذها وأكلها، فأمر الحارث باتخاذها والتصيد بها فبينا هو يوماً يسير إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها، وأخذها فلما رآه تعاقب بين الطيور والأرانب، ازداد الحارث به عجباً، وفيه محبة واغتباطاً واتخذته العرب من بعده للصيد
الوصف والتشبيه
قال الناشئ يصفه من طردية:
يا رب صقر يفترس الصقورا ... يكسر العقبان والنسورا
يجتاب برداً فاخراً مطروراً ... مشمراً عن ساقه محسورا
يضاعف الوشي بها.. التنميرا ... معرجاً فيه ومستديراً
كما نظم الكاتب السطورا ... كأن ساقيه إذا استثيرا
ساقا ظليم أحكما تضبيراً ... ذي هامة يرى لها تدويرا
كما ادرت جندلاً نفيرا ... تسمع من داخلها صفيرا
يحكي من البراعة الزميرا ... ترى الأوز منه مستجيرا
يناكر الضحضاح والغديرا
وقال أبو الفتح كشاجم:
غدونا وطرف الليل وسنان غائر ... وقد نزل الإصباح والليل سائر
بأجدل من حمر الصقور . . . مؤدب ... وأكرم ما قربت منها الأحامر
جريء على قتل الظباء وأنني ... ليعجبني أن يكسر الوحش طائر

قصير الذنابى والقدامى كأنها ... قوادم نسر أو سيوف بواتر
ورقش منه جؤجؤ وكأنه ... أعادته إعجام الحروف الدفاتر
وما زالت الأضمار حتى صنعته ... وليس يجوز السبق إلا الضوامر
وتحمله منا أكف كريمة ... كما زهيت بالخاطبين المنابر
وعن لنا من جانب السفح ربرب ... على سنن تستن منه الجاذر
فجلى وحلت عقدة السير فانتحى ... لأولها إذا أمكنته الأواخر
يحث جناحيه على حر وجهه ... كما فصلت فوق الخدود المعاجر
وما تم رجع الطرف حتى رأيتها ... مصرعة تهوى إليها الخناجر

الصنف الثاني من الصقر وهو الكونج
ويسمى بمصر السقاوة ونسبته من الصقر كنسبة الزرق إلى البازي إلا أنه أحر منه، ولذلك هو أخف منه جناحاً، وأقل بخراً، وهو يصيد الأرنب، ويعجز عن الغزال لصغره، ويصيد أشياء من طير الماء ويدركها، وشدة نفسه أقل من شدة بدنه، ولأجل ذلك هو أطول في البيوت لبثاً وأصبر على مقاساة الشقاء من الصقر
الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء:
إن لم يكن صقر فعندي كونج ... كأن نقش ريشه المدرج
برد من الموشى . . . أو مدبج ... وكم به للطير قلب مزعج
وكم قتيل بدم . . . مضرج ... بمثله عنا الهموم تفرج
الصنف الثالث من الصقر وهو اليؤيؤ
ويسميه أهل مصر والشام الجلم لخفة جناحيه وسرعتهما، وهو طائر صغير قصير الذنب ومزاجه بالإضافة إلى الباشق بارد رطب، لأنه أصبر منه نفساً وأثقل حركة، ويشرب الماء شرباً ضرورياً كما يشربه الباشق إلا أ،نه أبخر، ومزاجه بالنسبة إلى الصقر حار يابس، ولذلك هو أشجع منه لأنه يتعلق بما يفترسه، ويصيد ما هو أجل منه مثل الدراج والطيطوي. وأول ما يضرى على اللقلق ، ويقال إن أول من صاد به واتخذه للعب بهرام جور وذلك أنه شاهد يوماً يؤيوا يطارد قبرة، ويراوغها، ويرتفع معها ولم يزايلها إلى أن صادها فاتخذه وصاد به
الوصف والتشبيه
قال عبد الله الناشئ:
ويؤيؤ مهذبٍ رشيق ... كأن عينيه لدى التحقيق
فصان مخروطان من عقيق
وقال أبو نؤاس:
قد اغتدى والصبح في دجاه ... كطرة البرد على متناه
بيؤيؤ يعجب من رآه ... ما في اليآني يؤيؤ شراوه
من سفعة طربها خداه ... أزرق لا تكذبه عيناه
فلو يرى القانص ما يراه ... فداه بالدم وقد فداه
من بعد ما تذهب حملاقاه ... لا يؤسد المكاء منكباه
ولا جناحاه يكتنفاه ... دون انتزاع السحر من حشاه
لو أكثر التسبيح ما نجاه ... هو الذي خولناه الله
تبارك الله الذي هداه
وقال أبو الفرج الببغاء:
ويؤيؤ أوحى من القضاء ... ممتع الصورة والأعضاء
ذي سفعة في خده سوداء ... مخبرة عن همة بيضاء
ومقلة صفت من الأقذاء ... تشف عن ياقوتة صفراء
يلعب منها في غدير ماء ... بعيدة الطرح والأنحاء
يخبر في الأرض عن السماء ... ألطف في الجو من الهواء
مبايناً بالطبع للمكاء ... تباين العذر من الوفاء
القول في طبائع الشاهين
هذا النوع ثلاثة أصناف شاهين وأنبقي والقطامي، فأما الشاهين فقال الأصمعي اسمه بالفارسية شوذانه فعربته العرب على ألفاظ شتى سوذانق، وسودنيق وسيذنوق. ويقول أصحاب الكلام في البيزرة الشاهين من جنس الصقر إلا أنه أبرد منه وأيبس، ومن أجل ذلك تكون حركته من العلو إلى السفل شديدة وليس يحلق في طلب الطير، وصيده طائراً على خط مستقيم، و إنما يحوم لثقل جناحيه حتى إذا سامت فريسته انقض عليها هاوياً من علو فضربها، وفارقها يطلب الصعود فإن سقطت إلى الأرض أخذها وإن لم تسقط أعاد ضربها لتسقط، وذلك دليل على جبنه وفتور نفسه، وبرد مزاج قلبه وعلى كل حال فالشاهين أسرع، وأخفها، وأشدها ضراوة على الصيد، إلا أنهم أعابوه بالأباق، وربما يعتريه من الحرص حتى أنه ربما ضرب نفسه الأرض فمات، ويقولون أن عظامه أصلب من عظام سائر الجوارح، ولذلك هو يضرب بصدره، ويعلق بكفه، وقال بعض حذاق أهل هذا الشأن إن الشاهين كأسمه يعني الميزان لأنه لا يحتمل أدنى حال من الشبع، ولا أيسر حال من الجوع والمحمود من صفاته:

أن يكون عظيم الهامة واسع العينين حادهما تام المنسر طويل العنق رحب الصدر ممتلئ الزور، عريض الوسط جليل الفخذين قصير الساقين قريب القفدة من الظهر قليل الريش لينه تام الخواقي، رقيق الذنب، إذا صلب جناحه لم يفضل عنهما شيء منه فإذا كان كذلك فهو يقتل الكركي ولا يفوته صيد كبير، وزعم أهل الإسكندرية أن السود منها هي المحمودة، وإن السواد أصل لونها، وإنما قلبته البرية فحال ويكون فيها الملمع.

فصل
ويقال: إن أول من صاد بها قسطنطين ملك عمورية، حكي أنه خرج يوماً يتصيد بالبزاة حتى انتهى إلى خليج القسطنطينية، وهو المسمى بحر بنطس، فخرج إلى مرج بين الخليج والبحر فسيح فنظر إلى شاهين ينكفئ على طير الماء فأعجبه ما رأى من سرعته وضراوته والحاحة على صيده فأمر أن ينصب له حتى صيد، ثم ريضت له بعد ذلك الشواهين، وعلمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتضله من الشمس، فكانت تنحدر مرة وترتفع أخرى فإذا ركب وقعت حوله.
الوصف والتشبيه
قال الناشئ:
هل لك يا قناص في شاهين ... شوذانق مؤدبٍ أمين
جاء به السائس من رزين ... ضراه بالتحسين والتليين
حتى لأغناه عن . . . التلقين ... يكاد للتثقيف والتمرين
يعرف معنى الوحي بالجفون ... يظل من جناحه المزين
في قرطق من خزه الثمين ... يشبه في طرازه المصون
برد أنو شروان أو شيرين ... مضاعف في النسج ذي غصون
)كدرع يزدجرد أو شرون( ... أحوى مجاري الدمع والشؤون
وافٍ كشطر الحاجب القرون ... منعطف مثل انعطاف النون
يبدي اسمه معناه للعيون
وقال أبو الفتح كشاجم:
يا رب أسرابٍ من الكراكي ... مطعمة السكون في الحراك
بعيدة المنال والإدراك ... كدر وبيض اللون كالأفناك
تقصر عنها أسهم الأتراك ... ذعرن قبل لغط المكاك
وقبل تغريد الحمام الباكي ... بغاتك يربى على الفتاك
مؤدب الإطلاق والإمساك ... ململم الهامة كالمداك
مثل الكمي في السلاح الشاكي ... ذي منسر ضخم له شكاك
ومخلب بحده.. فتاك ... للمجيب عن قلوبها هتاك
حتى إذا قلت له دراك ... وحلقت تسمو إلى الأفلاك
ممتدة الأعناق والإدراك ... موقنة بعاجل الهلاك
غادرها يهوي على الدكاك ... أسرى بكفيه بلا فكاك
يا غدوات الصيد ما أحلاك ... ومنة الشاهين ما أقواك
لم تكذبي فراسة الأفلاك ... إياك أعني ما دحا إياك
الصنف الثاني من الشاهين
وهو الانيقي ويسميه العراق الكرك، وهذا الصنف دون الشاهين من القوة إلا أن فيه سرعة تزيد على صيد العصافير، قال بعض الشعراء يصفه بذلك:
غنيت عن الجوارح بالانيقي ... بمثل الريح أو لمع البروق
أصب به العصفور حتفاً ... فأرميه بصخرة منجنيق
تضمن أضياف كرام ... ويحمل ما ينوب عن الحقوق
ويوسع رحالنا بمطجنات ... نرويها من الراح العتيق
الصنف الثالث من الشاهين
وهو القطامي ويسميه أهل العراق البهرجة و ذكر العلماء بالصيد أنه في طبع الشاهين، والعرب تخالف ذلك وتسمي بعض الصقور القطامي والمعنون بالكلام في الجوارح يخالفوهم فيما ادعوه، هذا قول كشاجم في كتاب المصايد والمطارد، ولك أجد لأحد من الشعراء في وصفه شيئاً.
ويلحق بما ذكرنا في الجوارح ما ناسبها في الافتراس وأكل اللحم الحي وهو الصرد ويسمى الشقراق، والأخطب، والأخيل، )وذكر ابن قتيبة أن من أسمائه الواق(، وبعضهم يسميه باز العصافير، )وهو طائر مولع بسواد وبياض ضخم المنقار(، وفي طبعه شره وشراسة، وسرقة لفراخ غيره، ونفور من الناس، يصيد الحيات ويغتذي باللحم ويأوي الأشجار ذوات الشوك، وفي رؤوس القلاع، حذراً على نفسه ممن يصيده وله من الحيل في صيد ما دونه من الطير كالعصفور، والصعو، وغير ذلك من تغير صوته وحكاية كل صوت لذي جثة صغيرة، فيدعوها ما تسمع منه إلى التقرب ظناً منها أنه من جنسها، فإذا اجتمعن إليه شد على بعضهن فأخذه وأكله، له نقر شديد وإذا نقر شيئاً أكله في ساعته
الوصف والتشبيه
قال الناشئ يصفه، ويصف صيده:
لا شيء أحسن باقتناص من مرد ... يلهيك في طرد منها عن الطرد

مثل السماني إذا ما ظل منتحباً ... لقتله طاوياً منه على حمد
ذي منسر كنواة القسب منعوج ... عن مثل سم المعي للطعم مزدرد
وهامة فخمة سكاء مدبجة ... تبدو كطبخانة أوفت على جرد
أظفر كمسلاة . . . معطفة ... أشد من لدغ حر النار في الجسد
عليه من برده وشي له كفف ... مثل الجوق التي شدت من الزرد
مثل الدوابر من ترجيع واشمة ... أو كالسهاد يرى في أجفان ذي سهد
أو كالكتاب الذي أنضاه كاتبه ... وناط منعرجاً منه بمطرد
إذا تقنص عصفوراً فأورده ... حوض المنية عن أيدٍ وعن جلدٍ
رأيت مثلين ذا بالقهر يغلب ذا ... محكماً فيه حكم الليث في النفد
فيستدل بما أبداه من عجب ... على مقادير صنع الواحد الأحد

فصل
وأما كلاب الطير وهي وإن كانت سباعاً، لكنها ليست أنفسها كراماً لأكلها الجيف، وهي النسر والرخمة، والحدأة، والغراب، ومجموعها عند ابن أبي الأشعث ناري أرضي ومزاجه حار بحسب زيادة كمية النار فيه على كمية الأرض، وهو من اليبوسة في الغاية القصوى، يأوي الجبال والأجراف، وما كان من الأرض شامخاً، ويأكل اللحم، والجيف، ولا يفترس، ولنجعل ما نبدأ بذكر من هذا النوع النسر.
القول في طبائع النسر
وهو ذو منسر، وليس بذي مخلب، وإنما له أظفار حداد كالمخلب لأن المخلب ما قنص به صاحبه، كقبض الصقر والبازي، وهو يسفد كما يسفد الديك، وزعم الفاحصون عن أخلاق الحيوان وطبائعها: إن الأنثى من هذا الصنف تبيض من نظر الذكر إليها فتجري حركة الشهوة للسفاد منها مجرى السفاد فتلتذ بذلك وهي لا تحضن، وإنما تبيض في الأماكن العالية الصاحبة للشمس فيقوم حر الشمس للبيض مقام الحضن، وينسب النسر إلى قلة المعرفة والكيس والفطنة، ويوصف بحدة البصر حتى أنه يرى الجيفة عن أربعمائة فرسخ، وكذلك حاسة الشم إلا أنه إذا شم الطيب مات لوقته، وهو أشد الطير طيراناً، وأقواها جناحاً، حتى أنه يطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد وهو إذا وقع على جيفة )وعليها عقبان تأخرت بأسرها ولم تأكل ما دام يأكل منها، وتخافه كل الجوارح، ولا يقوم له شيء منها وهو شره، نهم، رغيب فإذا سقط على الجيفة( وتملى منها لم يستطع الطيران حتى يثب وثبات يرفع بها طبقة طبقة في الهواء حتى يدخل تحت الريح، وكل من أصابه بعد امتلائه ضربه إن شاء بعصى، وإن شاء بغيرها حتى ربما صاده الضعيف من الناس، وفي طبعه أن الأنثى تخاف على بيضها، وفراخها من الخفاش فتفترش في وكرها ورق الدلب لينفر منه، وهو أشد الطير حزناً إذا فقد الأنثى وإذا فقدت الأنثى الذكر امتنعت عن الطعم والحركة أياماً، ولزمت الوكر، وربما قتلها الحزن عليها، وهو أطول الطير عمراً، حتى يقال أنه يعمر ألف سنة، ولم أجد لأحد الشعراء وصفاً فيه فأثبته، لأنه لا يملك، وإن وقع من ذلك شيء فإنما يقع في وصف الجيوش، لأن من عاداتها أن تتبعها طمعاً في مصارع القتلى.
القول في طبائع الرخم
ويسميه العرب الأنوق، ويقال أنه اسم للذكر، وهو يشارك العقاب، والنسر في ارتفاعه حين الطيران، وصفته أنه طائر ضخم أبيض، وربما خالط لونه لون الإنغماس، وهو النقط الصغار، وهو زهم سهل يأكل الجيف، ولا يصطاد، وفي طبعه أنه لا يرضى من الجبال إلا بالوحشي منها، ومن الأماكن إلا بأسحقها وأبعدها عن مواضع أعدائه، ثم من هذه الجبال في رؤوس هضابها، ثم من الهضاب في صدوع صخورها، ولذلك تضرب العرب المثل بامتناع بيضها فيقولون: أعز من بيض الأنوق، ويقال أن الأنثى منه لا تمكن من نفسها غير ذكرها، وإنها لا تبيض من سفاد بل بالمذاقة، كما يقال في الغربان، وهي تبيض بيضة واحدة وربما أتأمت في النادر، ومن عاداتها أنها تحضن بيضها وتحمي فرخها، وتحبه، وتقول العرب في أكاذيبها، قيل للرخمة: ما أحمقك؟ قالت وما حمقي؟ وأنا أقطع في أول القواطع، وأرجع في أول الرواجع، ولا أطير في التحسير ولا أغتر بالشكير ولا أسقط على الحقير، ولم أجد لأحد من الشعراء في وصفها شيئاً إذ الحال فيها كالحال في النسر.
القول في طبائع الحدأة

والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثاً، وخرج منها ثلاثة أفراخ وهي تحضن عشرين يوماً، ومن ألوانها السود والربد، وقال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان الحدأة لا تصيد، وإنما تخطف، وفي طبعها أنها تقف في الطيران وليس ذلك لغيرها من الكواسر وذكر ابن وحشية: إن العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة، والحدأة عقاباً، ويقال: إن الحدأة أحسن الطير مجاورة لما جاورها من الطير، ولو ماتت جوعاً، ولا تعدو على فرخ ما جاورها ويزعم نقلة الأخبار وحملة الآثار أن الحدأة من جوارح سليمان عليه السلام، وإنما امتنعت أن تملك أو تألف لأنها من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، ولو كانت الحدأة مما يصاد بها لما كان في الكواسر أحسن صيداً منها، ولا أجل ثمناً، وفي طبعها أنها لا تخطف إلا من يمنة من تخطف منه دون شماله، حتى أن بعض الناس يقول عسري فلذلك لا يمكنها أن تأخذ من يسار إنسان شيئاً، وليس فيها لحم، وإنما هي عظام، وعصب، وجلد، وريش.

القول في طبائع الغراب
وأصناف: الغداف، والزاغ الأكحل، والزاغ الأورق، وهذا الصنف يحكي جميع ما يسمعه، حتى هو في ذلك أعجب من الببغاء، والغراب الأبقع المورد، والغراب الأبقع الأغبر، ورأيت غراباً أبيض أهداه متولي الإسكندرية إلى السلطان الملك الظاهر صاحب مصر - رحمه الله - ، وقد حكي أن الغربان والعصافير والخطاف يكون في بلاد الشديدة البرد كذلك، وكذلك أوبار ذوات الأربع وشعورها تكون في تلك البلاد بيضاً وشعور الناس فيها ضاربة إلى البياض حتى الحواجب والأهداب، وسائر أنواع الغراب من ذوات المناقر لا من ذوات المناسر وهي من الطير القواطع في الشتاء، الرواجع في الصيف، وإنما سميت قواطع لأنها تقطع إلى الأماكن في وقت دون وقت، وفصل دون فصل والطير التي تقيم بأرض شتاءً وصيفاً فهي الأوابد، والغراب ليس بهيمة لمكان أكله الجيف، وليس بسبع لعجره عن الصيد وفي طبعه عند السفاد، وهو يسفد مواجهة، ولا يعاود الأنثى إذا سفدها أبداً لقلة وفائه، والأنثى تبيض أربع بيضات أو خمساً، وإذا خرجت الفراخ من البيض وقويت أجنحتها طردتها، والفرخ يخرج من البيضة قبيحاً جداً يكون حينئذ صغير الجرم عظيم الرأس والمنقار أجرد الجلد أسوده، متفاوت، فأبواه ينكرانه لذلك ويتركانه فيجعل الله قوته من الذباب والبعوض اللذين يكونان في عشه إلى أن ينبت ويقوي ريشه فيعود إليه أبواه، ويربيانه، وعلى الأنثى الحضن، وعلى الذكر أن يأتيها بالطعام، وفي طبعه، أنه لا يتعاطى الصيد، بل أن أصاب جيفة نال منها، وإلا مات هزالاً أو يتقسم كما يتقسم بهائم الطير، وضعافها، والغراب الأسود يكون مثله في الزنوج فإنهم شداد البأس وأردى الخلق تركيباً ومزاجاً، كمن بردت بلاده فلم تنضجه الأرحام، أو سخنت بلاده فأحرقته الأرحام، والأبقع يكون اختلاف تركيبه دليلاً على فساد مزاجه، وهو الأم من الأسود وأضعف، وفي الغراب حذر شديد وتناصر، والغداف يقاتل البوم، ويخطف بيضها في أنصاف النهار ويأكله لأنها حينئذ لا تبصر شيئاً فإذا كان الليل شدت البوم على بيض الغداف فأكلته لأنها أقوى منه حينئذ ومن عجيب ما أودع في الغراب من الإلهام إن الإنسان إذا رام أن يأخذ أفراخه حملت الأنثى والذكر بأرجلهما حجارة، وحلقا في الجو، وطرحا الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه، والعرب تتشاءم بالغراب، ولهذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب، ويرون أن صياحه أكثر أخباراً، وإن الزجر أعم فيه.
قال عنترة يصفه بذلك:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع
حرق الجناح ليحمي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
ولما كان صافي العين حادها سموه مخافة الزجر والطرة، الأعور، كما كنوا الأعمى بالبصير والغراب من الطير القواطع يأتي من حيث لا يبلغ حمام، وذلك أن الثلج إذا طبق البلاد التي قطعت إليها خرجت منها نحو الصحارى، والجبال، والجزائر، حتى تعود إلى أماكنها من غير تدريب ولا تعليم، فتقيم في الدفء مدة، ثم تعرف وقت انحسار الثلوج عن تلك البلاد فترجع فلا تغادر مساكنها الأولى التي كانت فيها وليس ذلك خفي عن أحد، ويزهو الغراب، وصحة بدنه، وصفاء مقلته، وحدة بصره يضرب المثل
الوصف والتشبيه

وقد اولع الناس بذكر الغراب في أشعارهم، وذموه بالتطير، وادعوا أن نعيبه سبب البلى والتغيير، وأظرف ما قيل في ذلك قول الطرماح بن حكيم:
وجرى بينهم غداة تحملوا ... شنج النسا أدمى الجناح كأنه
من ذي الأثارب شاجح يتعبد ... في الدار أثر الضاغين مقيد
وقال يوسف بن هارون الرمادي الأندلسي:
أيا حاتماً ما أنت حاتم طيء ... وما أنت إلا حاتم الحدثان
كأنهم من سرعة البين أودعوا ... جناحيك واستحثثت للطيران
ومن رسالة لبديع الزمان يذم فيها رجلاً: ما أعرف لعمار مثلاً إلا الغراب الأبقع مذموماً على أي جني وقع، إن طار فقسم الضمير، وإن وقع فروعة النذير وإن حجل فمشية الأسير وإن شجح فصوت الحمير، وإن أكل فدبر البعير، وإن سرق فعلة الفقير وقال أحمد بن فرج الجبائي:
أما الغراب فمؤذن بتغرب ... وشكا فصدق بالنوى أو كذب
داجي القناع كأن في إظلامه ... إظلام يوم تفرقٍ وتغرب
ومقنا الأطراف تحسب أنها ... بدمائنا خضبت وإن لم تخضب
ويح الهوى ملأ القلوب مخافة ... حتى باغربة الفلاة ينعب

فصل
ذهب ابن أبي الأشعث: إلى أن في الطير جوارح تسمى جوارح الماء وقال في مزاجها أنه ناري مائي، ولذلك هي تطير في الجو فوق البخار، ومرعاه الماء، وما يتصيد منه ثم قال: وهذا النوع مزاجه معتدل في الحرارة والرطوبة على تساو في الكيفية، )وزيادة في الماء بالكمية( وزيادته في الرطوبة بحسب الكمية لا بحسب الكيفية، )وزيادة في الماء بالكمية( وزيادته في الرطوبة بحسب الكيفية، ومن أشخاصه، زمج الماء الذي يسمى بمصر، النورس وهو يعلو في الجو ويزج نفسه على سطح الماء فيختلس منه السمكة بكفيه، ولا يقع على الجيف، ولا يتغذى بغير السمك، ومن أشخاصه القرلي وهو طائر أبلق ببياض وسواد هفاف، يتعلق غالباً فيزج نفسه فيختلس السمك بمنقار له طويل وهو غير محب للأنس، ولهذا لا يفارق شطوط الأنهار، ومعاشه من البق والذبان، ولا يزال مرفوعاً في البخار يرى شيئاً من معاشه فيتدلى لأخذه، ولم ير قط طائراً ولا واقفاً بل محدم، وجناحاه في خلفهما لا يعرفان السكون أبداً بل يخفقان دائماً وبه يضرب المثل في الهلع من الشر والطمع في الخير فيقال: فلان كالقرلي إن رأى خيراً تدلى وإن رأى شراً تعلى، ومن أشخاصه طائر يسمى السياف وهو شاهمرج صغير يختلس السمك من سطح الماء، والشاهات ، فيها دجليه صغار وبحرية كبار، ومنها الكافورية الزرق، والصقرية الشهب، وهي كلها تركب سطح الماء وتأخذ ما تفترسه منه وتبلعه بلعاً، وهي إذا نقلت إلى المنازل افترست الهوام البرية، وكل طائر أمكنها بلعه.
الوصف والتشبيه
قال بعضهم من قصيدة يرثي بها شاهمرجا:
ملك الطير له ... فيها سناء وافتخار
خلصت منها له ... أعراق صدق وبحار
كأن في صورته ... لون بياض واحمرار
كأن في الهامة يلمم ... وفي الرحل انتشار
مكنس ما توق ساق ... شمر عنه الأزرار
الباب السابع
في ذكر بغاث خشاش الطير وطبائعها
وأهم ما نجعل ابتدائنا بذكره الطير المتونم الذي يصدع القولب بتغريده ويثير اشواقها بتغريده، ويجدد رغبات المحبين في الأحباب بهديله، ويصرف خواطرهم عن أن تستغل عمن ألفته وعديله وهو:
الحمام
والعرب لا تطلق هذا الاسم على الذي اصطلح الناس على تسميته بالحمام التي وهي الدواجن في البيوت، والبروج فإنهم يسمون هذا النوع يماماً والحمام عندهم كلما كان له طوق، وقال الجاحظ: كل طائر يعرف بالزواج وحسن الصوت، والهديل، والدعاء، والترجيع، فهو حمام، وإن خالف بعضه بعضاً في الصورة واللون والهديل، فالقمري حمام، والدبسي حمام والفواخت حمام، والورشان حمام، والسفنين حمام، وكلها تبيض بيضتين، فإن باضت حيناً ما ثلاث بيضات فسدت واحدة، أو اثنتان، وصحت واحدة، وذكر بعضهم: إن الفواخت والشفانين تسفد وتبيض، ولها ثلاثة أشهر، وتحمل أربعة عشر يوماً، وتجلس على البيض أربعة عشر يوماً، وتصير لها أجنحة، وتطير بعد أربعة عشر يوماً

فأما القمري: فسمي لبياضه، وحكاية صوته يضحك الإنسان، والعرب تسمي ذكره ساق حر لصياحه وحكاية صوته، ومن طبعه أنه شديد المودة والرحمة أما مودته، فإنه يعرج على فنن من أفنان شجرة على كلها أعشاش لأبناء جنسه يصايحها كل، ولا يعتزل اعتزال الغراب، وأما رحمته، فإنه يربي ولده ويعف عن أنثاه ما دام ولده صغيراً، وهو يطاعم أنثاه وتطاعمه، ويظهر منه عليها وله، وفيه من المروءة أنه متى تزوج لا يبتغي بأنثاه بديلاً، وله اعتناء بنفسه وإعجاب بها، ومن عادته أنه يعمل عشه في طرف فنن دائم الاهتزاز احترازاً على فرخه بسعي إليه شيء من الحيوان الماشي فيقتله.

الوصف والتشبيه
قال أبو الفتح كشاجم يصفه من أبيات رثاه بها أولها:
ومطوق من حسن صنعة ربه ... طوقين خلقهما من النوار
لهفي على القمري لهفاً دائماً ... يكوي الحشا بجوى كلذع النار
لون الغمامة لونه ومناسب ... في خلقه الأقلام بالمنقار أما الدبسي:
سمي بذلك للونه لأن الدبيسه حمرة بسواد، وهو أصناف مصري وحجازي، عراقي، وكلها متقارب، لكن أفخرها المصري، ولونة الدكنة، وفي طبع هذا الحيوان ساقطاً على وجه الأرض، بل في الشتاء له مشتى، وفي الصيف له مصيف، ولا يعرف له وكر.
وأما الورشان: فأصناف منها النوبي وهو ورشان أسود حجازي، إلا أنه أشجى من الورشان صوتاً، ومزاجه بارد رطب بالنسبة إلى الحجازيات، وصوته بين أصواتها كصوت اليم على وجه العود، والورشان المعروف أبرد وأرطب منه لذلك يعروه الصرع، ويوصف بالحنة على أولاده حتى أنه ربما قتل نفسه إذا رآها في يد القناص.
الوصف والتشبيه
قال أبو بكر الصنوبري:
أنا في نزهتين من بستاني ... حين أخلو به من ورشانِ
طائر قلب من يغنيه أولى ... منه عند الغناء بالطيران
مسمع يودع السامع ماشا ... ءت وما لم تشأ من الألحان
في رداء من سوسن وقميص ... وردته عليه تشرببيان
قد تفشى لون السماء قراه ... وتراءى في جيده الفرقدان
وأما الفواخت: فهي عراقية وليست حجازية، وفيها فصاحة وحسن صوت، وصوتها في الحجازيات، يشبه صوت المثلث، وفي طبعها، أنها تألف بالناس، وتعشش في الدور، والعرب تضرب بها المثل، فإن حكاية صوتها عندهم، هذا أوان الرطب، تقول ذلك، والنخل لم يطلع، قال الشاعر:
أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب
والطالع لم يبد لها ... هذا أوان الرطب وهذا الحيوان يعمر، وقد ظهر منه ما عاش خمساً وعشرين سنة، وما عاش أربعين سنة على ما حكاه أرسطوطاليس.
الوصف والتشبيه
مررت بمطراب الغداة كأنها ... تعل من الإشراق راحاً مفلفلا
منمرة كدراء تحسب أنها ... تجلل من جلد السحاب مفصلا
تريك على البين طوقاً ممسكاً ... وطرفاً كما ترنو الغزالة أكحلا
لها ذنب وافي الجوانب مثل ما ... تجرد طلعاً أو تجرد منصلا
إذا حلقت في الجو خلت صياحها ... برد صغير أو يحرك جلجلا
وأما الشفنين: وهو الذي تسميه العامة يماماً، وصوته في المترنم كصوت الرباب في الأوتار، صوتاً محزوناً جداً، وهي متى اختلطت مع أصواتها حسنت، وأما مفرداً فلا لان الزمر مستحسن مع الغناء، وغير مستحسن وحده، وفي طبعه أنه متى فقد أنثاه لم يزل أعزباً يأوي إلى بعض فراخه إلى أن يموت، وكذلك الأنثى إذا فقدت الذكر، وفي تركيبه أنه إذا سمن سقط ريشه، وامتنع عن السفاد، فهو لذلك لا يشبع نفسه، وهو طائر ساكن جداً ويؤثر العزلة، والنفور عن مواضع الجماعات، ولا يكثر الأفراخ وإنما له بطن أو بطنان في العام، ولا يرى إلا في الصيف، وهو في الشتاء ينجحر في أعمال، فلا يظهر، ومنه صنف يرى في الخريف خاصة، وقد ألهم الشفنين أنه يحترس من أعدائه بالسوسن يتخذه في وكره.
واليعتبط: ويسمى بصوته، وهو شريف في طيور الحجاز، وحاله حال القمري مثلاً بمثل إلا أنه يختص بأشياء منها أنه أحر مزاجاً منه، وأعلى صوتاً، وكأن القمري جمع حسناً وغناء واليعتبط بقي على حاله وعلى الخلقة المعودة من الرجال.
الوصف والتشبيه
قال أبو الفتح:
وناطق لم يخش في النطق غلط ... ما قال شيئاً إلا يعتبط
وإنما أوردت هذين البيتين منهما اسم هذا الطائر فقط لئلا يصحف.

والنواح: وهو طائر كالقمري، وحاله حاله إلا أنه أحر منه مزاجاً، وأرطب، وأدمث وأشرف ويكون للأطيار الدمثة ملكاً، وهو بصوته يهيجها إلى التصويت، لأنه أشجاها صوتاً، وأنعمها، وجميعها تهوى استماع صوته وتؤثره، وكأنه مخنث طيب الغناء يسره استماع غناء نفسه.
والقطا: وهو نوعان كدري، وجوني، فالكدر غبر الألوان رقش الظهرو والبطون، صفر الحلوق، قصار الأذناب، وهو الطف من اجوني.
والجونية سود بطون الأجنحة والقوادم، ولبابها أبيض، وفيه طوقان أصفر وأسود، والظهر أغبر أرقط تعلوه صفرة، وتسمى الجونية غتما، لأنها لا تفصح بصوتها، إذا صوتت، إنما تغرغر بصوتها في حلقها، والكدرية فصيحة، تنادي باسمها، ولهذا يضرب المثل بها في الصدق، قالوا: والقطاة لا تضع بيضها أبداً إلا أفراداً، )وهي ثلاثة(، وفي طبعها أنها إذا أرادت الماء ارتفعت من أفاحيصها أسراباً لا متفرقة عند طلوع الفجر إلى حين طلوع الشمس مسيرة سبع مراحل فحينئذ تقع على الماء، وتشرب نهلاً، والنهل شرب الإبل والغنم أول مرة، فإذا شربت أقامت حول الماء متشاغلة إلى مقدر ساعتين أو ثلاث، ثم تعود إلى الماء ثانية، وتوصف بالهداية، والعرب تضرب المثل بها في ذلك، وذلك أنها تبيض في القفر، وتستقي لأولادها من البعد في الليل والنهار، فتجيء في الظلماء، وفي حواصلها الماء، فإذا صارت حيال أولادها صاحت " قطا " فلم تخطء بلا علم، ولا شجرة، ولا علامة، ولا دليل وقال أبو زياد الكلابي: أن القطا يطلب الماء من مسيرة عشرين ليلة، وفوقها، ودونها وهي تنهض من أفاحيصها حين يطلع الفجر فترد الماء ضحى، والذي ترد من عشرة أيام تنهض مع الأشراق، وهو طلوع الشمس، وتوصف القطا بحسن المشي لتقارب خطاها، والعرب تشبه مشي النساء الخفرات بمشيها ونصفه به.

الوصف والتشبيه
قال أعرابي من أبيات:
كأنها حين تهادى تهتلك ... شمس وظل ذا بهذا يأتفك
ومعنى يأتفك يجيء ويذهب لأن ريش جناحها أسود وريش بدنها أبيض، إذا خفقت بهما انقسم النظر إلى السواد والبياض، وقال آخر:
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتاً يوافق منها بعض ما فيها
سكاء مخطوطة في ريشها طرق ... صهب قوادمها كدر خوافيها
منقارها كنواة القشب قلمها ... بمبرد حذق الكفين باريها
تمشي كمشي فتاة الحي مسرعة ... حذار قوم إلى سترٍ يواريها
تسقي الفراخ بأفواه مرفقة ... مثل القوارير شدت من أعاليها
وقال أبو إسحاق بن خفاجة يصفها:
ولرب طيار خفيف قد جرى ... فشلاً بجار خلفه طيار
من كل قاصرة الخطى مختالة ... مشي الفتاة تجر فضل أزار
مخضوبة المنقار تحسب أنها ... كرعت على ظمأ بكأس عقار
لا تستقر بها الآداجي خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار
ومن الأوصاف الجامعة لمجموع هذا النوع قول بعض الأعراب:
وقبلي أبكى كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار بلاقع
وهن على الأفلاق من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطمة بالدر خضر روائع
ترى طرراً بين الخوافي كأنها ... حواشي برد زينتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء فيها الأصابع
والجامع لكل الأوصاف والتشبيهات لهذا النوع قول أبي الأسود الدؤلي:
وساجع في فروع الأيك هيجني ... لم أدر لم ناح مماتي ولم سجعا
أباكياً ألفه من بعيد . . . فرقته ... أم جزعاً للنوى من قبل أن يقعا
يدعو حمامته والطير هاجعة ... فما هجعت له ليلى ولا هجعا
موشح سندساً خضراً مناكبه ... ترى من المسك في أذياله لمعا
له من الآس طوق فوق لبته ... من البنفسج والخيري قد جمعا
كأنما غب في مسود غالية ... وحل تحته الكافور فانتفعا
كأن عينيه من حسن أصفرارهما ... فصان من حجر الياقوت قد قطعا
كأن رجليه من حسن احمرارهما ... مادق من شعب المرجان فاستعا
شكى النوى فبكى خوف الآسى فرمى ... بين الجوارح من أوجاعه وجعا
والريح تخفضه طوراً وترفعه طوراً ... فمنخفضاً يدعو ومرتفعا
كأنه راهب في رأس صومعة ... يتلو الزبور ونجم الليل قد طلعا

وقال أبو اللبانة:
وعلى فروع الأيك شادٍ يحتوي ... طربي لا تحتويه الأضلع
يندى له طرب الهواء فيغتذي ... ويظله ورق الغصون فيهجع
تخذ الأراك أريكة . . . لمنامه ... فله إلى فيها مضجع
حتى إذا ما هزه نفس الصبا ... والصبح هزل منه شدو مبدع
فكأنما تلك الأراكة منبر ... وكأنما فيها خطيب مصقع
وهذه القطعة، وإن لم يكن فيها شيء من الوصف والتشبيه، فحسن معاني أبياتها دعاني إلى إثباتها، وقال بعض الشعراء يصف مطوقة:
دعت ساقٍ دعوة لو تناولت ... بها الصم من أعلى أبان تحدرا
تبكي بعين ليس تجري دموعها ... ولكنها تجري الدموغ تكررا
محلاة طوقٍ ليس تخشى انفصاله ... أذاهم أن يبلى تجدد آخرا
لها وشح دون التراقي ودونها ... وصدر كمعطوف البنفسج أخضرا
تنازعها ألوان شيء صقالها ... بدا لتلالئ الشمس فيه تحيرا
وقال بعض الأندلسيين:
وما شاقني إلا ابن ورقاء هاتف ... على فنن بين الجزيرة والجسر
مفستق طوقس لازوردي كلكل ... موشى الطلي أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على الأجفان طوقاً من التبر
حديد شبا المنقار داجٍ كأنه ... شبا قلم من فضة مد من حبر
توسد من فرع الأراك أريكة ... ومال على طي الجناح من النحر
ولما رأى دمعي مراقاً أرابه ... بكائي فاستولى على الغصن النضر
وحث جناحيه وصفق طائراً ... فطار بقلبي حيث طار وما يدري

القول في طبائع اليمام
وقد نقلنا عن العرب أن هذه التسمية واقعة على النوع الذي يسميه عامة الناس الحمام، وهو أصناف مختلفة الأشكال، والألوان وهي: الرواعب وهذا الصنف ألوان كثيرة، زعم الجاحظ أن الراعبي مولد بين ورشان ذكر وحمامة أنثى، فأخذ من الأب الجثة، ومن الأم الصوت وفاته سرعة الطيران، فلم يشبهها فيه، وله عظم البدن وكثرة الفراخ والهديل، والقرقرة لأبويه، حتى صار ذلك سبباً للزيادة في ثمنه، وعلى الحرص على إيجاده والرغبة فيه.
والمراعيش: وهي تطير مرتفعةن حتى تغيب عن النظر فترى في الجو كالنجم وفيها ما يبقى يوماً وليلة.
والعداد: وهو طير ضخم قليل الطيران كثير الفراخ والميساق: وهو أضخم من العداد وأنهل، ثقيل الجسم، لا يستطيع الطيران إلا قليلاً.
والشداد: وهذا الصنف لا يلزم الطيران في الجو وله في جناحيه حتى يقال أنه كسر بهما الجوز، ولا يأتي الغابة لبله فيه، وأصحاب الرغبات في تربية هذا الصنف يلقونه على البصريات، فيخرج من بينهما حمام يسمى )المضري( يجمع فيه هداية البصري وشدة الشداد يطير صعداً حتى يرى كالنجم، وربما أقام الواحد منها قائماً على ذنبه يوماً وليلة، وفي ذنبه ثلاثون ريشة.
والقلاب: ويسميه العراقيون الملاح، والشقاق وطيرانه تحويم.

والمنسوب: ويسميه العراقيون الهوادي، والمصريون البصاري، يعنون البصرية وهو بالنسبة إلى ما قدمنا ذكره كالعتاق من الخيل إلى ما عداها من البراذين وفيها العلوي وهو أسرع طيراناً، والطف جرماً، أحمر العين، مدور الرأس، مشمر السوق إلى أعلى الركبتين من الريش والناس يناضلون بالهوادي في السبق إلى الغايات، وطبعها الحرارة والرطوبة، وتسمى بالبصرة المذنبيات، وقال الجاحظ وقد يباع الحمام منها بخمسمائة دينار ولم يصل إلى هذا الثمن شيء من الطير، وتباع البيضة بخمسة دنانير والفرخ بعشرين ديناراً، وفي طبعه أنه يطلب ذكره ولو أرسل من آلاف فرسخ يحمل الأخبار ويأتي بها من المسافة البعيدة في المدة القريبة، وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ في يوم واحد، وربما اصطيد، وغاب عن وطنه عشرة حجج، ثم هو على ثبات عهده، وقوة عقده، وحفاظه، ونزاعه إلى وطنه، حتى يجد فرصة صار إليه، وإن كان جناحه مقصوصاً جدف به، وحثته نفسه إلى المضي إلى سكنه فأما بلغ وأما عذر، وهو ملقى غير مرقى، وأعداؤه كثيرة، وسباع الطير تطلبه أشد الطلب، وخوفه من الشاهين أشد من خوفه من غيره، وهو أطير منه ومن سباع الطير ولكنه يذعر فيجهل باب المخلص ويعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى أسداً، والشاة إذا رأت ذئباً، والفأر إذا رأى هراً، ومن عجائب الطبيعة المركبة، ما حكاه ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار عن المثنى بن زهير أنه قال: لم أر شيئاً قط من رجل وامرأة إلا وقد رأيته في الحمام رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، والذكر لا يريد إلا أنثاه إلى أن يهلك أحدهما، أو يؤخذ ويؤنس منه، ورأيت حمامة تزيف للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة لها زوج، وهي تمكن آخر منها ما تعدوه، ورأيت حمامة تقحط حمامة ويقال: أنها تبيض عن ذلك لكن لا يكون لذلك البيض فراخ، وهو في سبيل البيض الريح ورأيت ذكراً يقحط ذكراً، ورأيت ذكراً يقحط كل ما لقي، ولا يتزاوج، وأنثى يقحطها كل من أرادها من الذكور ولا تزاوج، وليس في الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلا الحمام، وهو عفيف في السفاد يجر ذنبه على أثره ليعفي أثر الأنثى كأنه قد علم ما فعلت ويجتهد في إخفائه، وتغطيته وهو يسفد لتمام ستة أشهر، والأنثى تحمل أربعة عشر يوماً، وهي تبيض بيضتين يخرج من الأولى ذكر ومن الثانية أنثى، وبين الأولى والثانية يوم وليلة، والذكر من الحمام يجلس على البيض، ويسخنه جزء من النهار والأنثى بقية النهار، وكذلك الليل، وهي تبيض وتفرخ في كل عام عشر مرات، وأكثرها اثنتي عشرة مرة، ويتم وخلق البيض في عشرة أيام، واقل من ذلك، ويمكن أن تحبس الحمامة البيض في جوفها بعد الوقت الذي ينبغي أن تبيض فيه لأنها تفعل ذلك إذا أصابها أذى من قبل عشها، أو نتف شيء من ريشها، أو وجع يعرض لها، والبيض يبلغ ويخرج منه الفرخ إذا مضت عليه عشرون يوماً، والذكر والأنثى يدفئان الفراخ ويغطيانها بأجنحتها أياماً حتى تقوى كما فعل بالبيض لشفقتهما عليهما وإذا باضت الأنثى دأبت الدخول إلى عشها، والجلوس على بيضها، إما لحال ضعف أو كراهة ضربها الذكر واضطرارها للدخول، وإذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى أخرج فراخه من الوكر، وقد ألهم هذا النوع أن الفراخ إذا خرجت من البيض فصنع الذكر تراباً مالحاً وأطعمه إياه ليسهل به المطعم، وزعم أرسطو أن الحمام يعيش ثمانين سنين.

فصل
وقد تفرس الناس في هذا الحيوان مخايل الجودة، والرداءة لكثرة عنايتهم به، واتخاذهم له، فألوان جميع الفراسة التي لا تكاد تخطئ في الحمام الهادي أربعة: التقطيع، والمجسة، والشمائل، والحركة، فالمحمود في التقطيع انتصاب الخلقة، واستدارة الرأس وتوسطها، وعظم القرطمتين، ونقاؤهما واستاع المنخرين وانهرات الشدقين، وسعة الجوف وحسن العينين مع توقفهما وقصر المنقار واتساع الصدر، وامتلاء الجؤجؤ، وطول العنق، وإسراف المنكبين، وإنكماش الحاجبين وطول القوادم، وصلابة القصب، وعظم الفخذين والساقين، قصر الذنب، وصفاء اللون.
وأما المجسة: فرشاقة الخلق وشدة اللحم، ووثاقة العصب، ولين الريش وصلابة المنقار.
وأما الشمائل: فصفاء البصر، وثبات النظر، وشدة الحذر، وحسن التلفت، وذكاء الفؤاد، وقلة الرعدة، وخفة النهوض، والمبادرة إذا لقط.

وأما الحركة: فالطيران في علو ومد العنق إلى فوق، وقلة الاضطراب في جو السماء وضم الجناحين في الهواء وشدة الركض في الطيران، فأي طائر اجتمعت فيه هذه الصفات فهو الكامل.

الوصف والتشبيه
سأل المهدي رجلاً عن طائر جاء من غابة فقال لو لم يبين بفضيلة السبق لبان في حسن الصورة، فقال: صفه لي فقال فدفد . . . فد الحلم، وقوم تقويم العلم لو كان في ثوب خرقة، أو صندوق قلقة يمشي على عتمين ويلقط بدرتين، وينظر بجمرتين إذا أقبل فديناه، وإذا أدبر حميناه، وقال عبد الصمد بن فتوح الأندلسي يصف حماماً جاء بالسبق وهو يقول:
يجتاب أودية السحاب بخافق ... كالبرق أومض في السحاب فأبرقا
لو سابق الريح الجنوب لغايةٍ ... يوماً لجاءك مثلها أو أسبقا
يستقرب الأرض البسيطة مذهباً ... والأفق ذا السقف الرفيعة مرتقى
ويظل مسترق السماع تخاله ... في الجو تحسبه الشهاب المحرقا
يبدو فيعجب من رآه بحسنه ... وتكاد آية عنقه أن تنطقا
مترقرقاً من حيث درت كأنما ... لبس الزجاجة أو تجلبب زئبقا
وقال أبو نؤاس يصفه من أرجوزة:
وصاحبات نفر من زاعق ... يطرن بالجو بأعلى حالق
نواشط بريشها خوافق ... يبعدن أن يبلغن بالبيادق
يحسبهن لصقاً بالخافق ... فلو حملن حاجة لعاشق
متيم القلب رعوب خافق ... رسائلاً منه إلى صدائق
سلس من شدة شوقٍ شائق ... يقطعن في مده نطق الناطق
مغارب الأرض إلى المشارق ... لدى الملمات وفي الحقائق
كالبرق يبدو قبل جود دافق ... والغيث يخفى وقعه للرامق
إن لم تجده بدليل البارق
ومن رسالة للقاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البياتي الكاتب يصف طائراً جاء في غابة: وكأن الطائر أحد الرسل المسيرة، بل المبشرة، والجنود المحررة بل المسخرة، فإنها لا تزال أجنحتها تحمل البطائق أجنحة، وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمل الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، وتزوي لها الأرض حتى ترى ما ستبلغه ملك هذه الأمة، وتقرب بها السماء حتى ترى ما لا يبلغه وهم ولا همة، وتكون مراكب للأغراض لما كانت الأجنحة قلوعها، وتركت )الجو بحراً تصطفق( فيه هبوب الريح، موجاً مرفوعاً، وتعلق الحاجات على أعجازها، فلا تعرف الإرادات غير إنجازها، ومن بلاغات البطائق استعارت ما هي به مشهورة من السجع، ومن رياض كبتها ألفت الرياض فهي إليها دائمة الرجع، وقد سكنت البروج فهي أنجم، وأعدت في كنائنها، فهي للحاجات أسهم وقد كادت أن تكون ملائكة، إذا ما ينطق بالرقاع، صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وقد باعد الله بين أسفارها وقربها، وجعلها طيف اليقظة الذي صدق العين وما ذكبها، وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقاً فأذتها من أذنابها أوراقا، فصارت خوافي وراء الخوافي، وغطت سرها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي ترغم النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود فيه أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤهم لأنها تقوم على منابر الأغصان قيام الخطباء
القول في طبائع الببغاء
وهو طائر هندي وحبشي دمث الخلقة، ثاقب الفهم له قوة على حكاية الأصوات وتلقي التلقين تتخذه الملوك في منازلهم لتنم بما يقع فيها من الأخبار وفي لونه، الأغبر، والأسود، والأخضر، والأصفر، والأبيض، وقد أهدى لمعز الدولة هدية من اليمن فيها ببغاء بيضاء سوداء المنقار، والرجلين وعلى رأسها ذؤابة فستقية، وكل هذه الألوان معروفة خلا الأخضر وفي طبع هذا الطائر أن يتناول طعمه بكفه كما يتناول الإنسان الشيء بيده، وله منقار معقف قصير يكسر به الصلب وينقب به ما يعسر نقبه، وكل ما له نغمه، وإطراب فله هدر وسمت يتزاوج، ويتعاشق ويسكن الذكر إلى أنثاه، وله عفة في مأكله، ومشربه، ومنكحه، )وديع ليس بشره ولا أشر( وهو بمثابة الإنسان الترف الطريف، والناس يحتالون على تلقينه بأن ينصب تجاه مرآة بحيث يرى خياله فيها ويتكلم الإنسان من ورائها، فيتوهم أن خياله في المرآة هو الذي يتكلم فيأخذ نفسه بحكاية ما سمعه من صوت الإنسان
الوصف والتشبيه

قال أبو اسحاق الصابي يفصها من أرجوزة بعث بها إلى أبي الفرج الببغاء يمدحه فيها:
أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة
أضحت من الأطيار واللسان ... موهم لي أنها الإنسان
تنهي إلى صاحبها الأخبارا ... وتكشف الأسرار والاستارا
سكاء إلا أنها سميعة ... تعيد ما تسمعه مطيعة
وربما لقنت العضيهة ... فتغتدي بذية سفيهة
زارتك من بلادها البعيدة ... واستوطنت عندك كالقعيدة
ضيف قراه الجوز والأرز ... والضيف في أبياتنا يعز
تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق
تنظر من عين . . . كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين
تحبس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدودها الأقفاص ... ليس لها من جنسها خلاص
تحبسها وما لها من ذنب ... وإنما تحبسها للحب
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
بشرك فيه شاعر الزمان ... والكاتب المعروف بالبيان
ذلك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي حادثات الدهر
فأجابه أبو الفرج عنها بقوله:
من منصفي من حكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الآداب
أسى لأصناف الكلام محرزاً ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجارى السابق المقصر ... أم هل يبارى المدرك المعذر
ما زال بي عن غرض معرضاً ... ولي بما يصدره مستنهضا
فتارةً يعتمد . . . الخطافا ... ببدعٍ تستغرق الأوصافا
وتارةً يعنى بنعت القبح ... من منطق لفصله محتج
يحوم حول عرض معلوم ... ومقصد في شعره مفهوم
حتى تجلت دعوة الصريح ... وسلم التلويح للتصريح
وصح إن الببغاء مقصده ... بذكر ما كان قديماً يورده
فلم يدع لقائلٍ . . . مقالاً ... فيها ولا لخاطرٍ . . . مجالا
أحال بالريش الأشيب الأخضر ... وباحمرار طوقها والمنسر
على اختلاط الروض بالشقيق ... واخضر الميناء بالعقيق
تزهى بدواجٍ من الزبرجد ... ومقلة كسبح من عسجد
وحسن منقار أشم قان ... كأنما صيغ من المرجان
صيرها انفرادها في الحبس ... بنطقها من فصحاء الأنس
تميزت في الطيران بالبيان ... عن كل مخلوقٍ سوى الإنسان
تحكي الذي تسمعه بلا كذب ... من غير تغيير لجد أو لعب
غذاؤها أزكى طعام وجدا ... لا تشرب الماء ولا تخشى الصدا
ذات شفى تحسبه ياقوتا ... لا يرتضي غير الأرز قوتا
كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها
أقدامها ببأسها الشديد ... أسكنها في قفص الحديد
فهي كخود في لباس أخضر ... تيا )خركاوه( لم تستر
فوصفها المعجز ما لا يدرك ... ومثله في غيرها ما لا يملك
لو لم يكن لي لقباً لم أقصر ... لكن خشيت أن يقال منتصر
وإنما تبعت . . . باستحقاقي ... لوصفها حذق أبي إسحاق
شرفها وزاد في تشريفها ... بملح أبدع في تفويفها
فكيف أجرى بالبناء المنتخب ... من صرف المدح إلى أسمي واللقب

القول في طبائع القبج والدراج

ولإنما جمعت بينهما إقتداء بإمام المتكلمين أرسطو، في الطبيعيات، فإنه قال في كتاب الحيوان له: القبج والدراج يجمعان فراخهما تحت أجنحتهما، كما يفعل الحمام ولا تسخنان بيضهما في موضع واحد بل ينقلانه حذراً لئلا يعرف أحد مكانه، وإذا دنا الصيد من مواضع أعشاشهما، خرجت الأنثى بين يديه لتخدعه وتصيح بفراخها فإذا صارت قريبة منها ورأت فرصة في طيرانها، طارت وتبعتها فراخها، وهذا آخر كلامه، ونقلت من مواضع متفرقة في الكتب الموضوعة في طبائع الحيوان إن فراخ القبج تخرج كما تخرج الفراريج، )كاسية كاسبة، وليس للقبج زواج، وكذلك الحجل(، ومجراه مجرى الديكة في أنها تسفد كل دجاجة، ولا تقتصر على شيء دون شيء، وإناث القبج تبيض خمس عشرة بيضة، والذكر يوصف بالقوة على السفاد كما يوصف الديك والعصفور ولكثرة سفاده يطلب موضع البيض فيكسره لئلا تنشغل الأنثى بحضنه عنه، ولهذا الأنثى إذا حان أن تبيض هربت، واختفت رغبة في الفراخ، وهي إذا هربت بهذا السبب ضرب الذكور بعضها بعضاً، وكثر صياحها، والمقهور يتبع القاهر، ويسفد القوي الضعيف، والقبج يغير صوته، بأنواع شتى بقدر حاجته إلى ذلك، ويعمر خمس عشرة سنة، والدراج متى كان الجو صاحياً والريح شمالاً أخصب بدنه، وإن كانت الريح جنوباً ساءت حاله لأنه ليس بطيار وريح الجنوب رطبة ثقيلة، ولا يقوى على الطيران فيها، وإن هو طار فيها أكثر الصياح لما يلحقه من التعب، ولهذا الصياد الحاذق لا يقصد صيده والريح شمال، فإنه يتصعب عليه، فإن طلب صيده والريح جنوب أخذ بسهولة.

الوصف والتشبيه
قال أبو طالب المأموني يصف دراجة أهداها له:
قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الربيع بل هي أحسن
في رداء من جلنار وآس ... وقميص من ياسمين وسوسن
وقال آخر:
صدور من الدراج نمق وشيها ... وصلن بأطراف اللجين السواذج
وأحداق تبر في خدود شقائق ... تلألأ حسناً كأشتعال السارج
وأذناب طلع في ظهور ملاعق ... مجزعة الأعطاف صهب الدمالج
فافخر الطاووس يوماً بحسنه ... فلا حسن إلا حسن التدارج
قال أبو إسحاق يصف قبجة:
أنعت طارونية الثياب ... لابسة خزاً على الأهاب
تصنعت تصنع التصابي ... وأبرزت وجها بلا نقاب
ريان من محاسن الشباب ... مكحولة العينين كالعاب
كأنما تسقى دم الرقاب ... تسمعنا منها وراء الباب
تمتعة بالقاف في الخطاب ... كأنما تقرأ من كتاب
قهقهة الإبريق بالشراب ... أهلاً بصيادٍ لها جلاب
جاء بها كرية النصاب ... ربيبة الجبال والهضاب
ولم تدر ما بادية الأعراب ... غريبة صارت عن الأحباب
وقال أبو الحسن البغدادي المعرف بالهائم يصفها:
ولابسة ثوباً من الخز أدكنا ... ومن أحر الديباج رانا ومعجزا
مقلدة في النمر سبجة عنبر ... على أنها لم تلتس أن تعطرا
مطرزة الكمين طرزاً تخالها ... لتقويمها في حلكة اللون أسطرا
تراها تعالي الضحك عجباً بنفسها ... إذا أمنت من أن تخاف وتذعرا
فتظهر عند الأمن منها تبرجا ... وتظهر عند الخوف منها تسترا
ولآخر:
ولابسٍ جوشنٍ أبداً مغطى ... بأدكن من ملابسه رقيق
بطون أبنوس ورأس ... لجيني ومنقار عقيق
وقرطاه الخلوقيان أشهى ... من الشذر المعلق في الحلوق
القول في طبائع الحبارى
ويسميه أهل مصر الحبرج، قال الجاحظ: هو من أشدالطيور طيراناً وأبعدها شوطاً، وذلك، أنه يصاد بالبصرة، فيشق عن حوصلته بعد الذبح فيوجد الحبة الخضراء لم تتغير، ولم تفسد، وهذه الحبة شجرها البطم، ومنابته جبال الثغور الشامية، والحبارى إذا نتف ريشها، أو تحسرت، وأبطأ نباته تموت كمداً إذا رأت صويحباتها يطرن، ولهذا الطائر خزانة بين دبره وأمعائه لا يزال فيها أبداً سلح رقيق لزج، فمتى ألح عليه جارح ذرق عليه، فيتمعط، فعند ذلك تجتمع عليه الحباريات فينتفن ريشه طاقةً طاقةً، وفي ذلك هلاك الجارح، وهو يتغذى إذا جاع.
الوصف والتشبيه
قال الشاعر يصفها:
وداريةٍ إما تراع )تبرست( ... بملحفتي وشيٍ تضمهما نشرا
وإن تر صقراً فالسلاح سلاحها ... توليه ظهراً تستعد به ظهرا

تغذى لفرط الشح والفقر نحوها ... فأخبث به شحاً وأدفع فقرا
وقال أبو نؤاس يصفها:
يا رب غيث من السروب ... حباريات حجلتي ملحوب
يرفلن في برانسٍ قشوب ... من حبر ظوهرن بالتذهيب
فهن أمثال النصارى الشيب ... في يوم عيد ميزر الصليب

القول في طبائع الطاووس
وفي هذا الصنف ألوان وهي الأخضر والأرقط والأبيض، ويوجد في كلها التخيل ولا تعرف هذه الأنواع إلا في بلاد الرانج، وما عداها معروف مألوف، قال أصحاب البحث في طبائع الحيوان: الطاووس في الطير كالفرس في الدواب عزاً وحسناً غير أن الناس لا يتبركون به ويكرهون كونه في دورهم، وفي طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه، وعقده لذنبه كالطاق، لا سيما إذا كانت الأنثى ناظرة إليه، والأنثى تبيض بعد أن يأتي عليها من العمر ثلاث سنين، وكذلك لا يحصل التلوين في ريش الذكر إلا بعد مضي هذه المدة، وهي بمثابة البلوغ للصبي، وفي ذلك الأوان يكمل ريش الذكر، ويتم لونه، والأنثى تبيض مرة واحدة في السنة، اثنتي عشرة بيضة، وأقل، وأكثر، ولا تبيض متتابعاً، ويسفد في أوان الربيع، ويلقى ريشه في أوان الخريف كما تلقى الشجر ورقها فيها، وهو كثير العبث بالأنثى إذا حضنت وربما كسر البيض، ولهذه العلة يحضن بيضه تحت الدجاج، والدجاجة لا تقوى على حضن أكثر من بيضتين منها، وينبغي أن تتعاهد الدجاجة جميع ما تحتاج إليه مخافة أن تقوم فيفسد هو، والفرخ الذي يخرج من حضن الدجاجة قليل الحسن ناقص الخلق صغير الجثة، ومدة الحضن ثلاثون يوماً سواء كان البيض تحت الدجاجة أو تحت أمه، والفرخ يخرج من البيضة كما يخرج الفروج كاسياً كاسباً، والطاووس من الطير الذي يبيض بيض الريح، ويقال: إن عبث الطاووس بانثاه أوان حضنها غيرةً منه، أن يخرج من البيض ما يشبهه في حسن ريشه، وبهاء خلقته، وزعم أرسطو أن الطاووس يعمر خمساً وعشرين سنة وهذا من حكم إلا أن يعينه الاستقراء.
الوصف والتشبيه
قال أبو الفتح كشاجم يرثي طاووساً في أبيات جاء فيها في وصفه:
وأي عذرٍ لمقلة بعد ال ... طاووس عنها إن لم تفض بدمٍ
رزنته روضة ترق ولم ... أسمع بروضٍ يمشي على قدم
جثل الذنابي كأن سندسه ... سنت عليه موشية العلم
متوجاً حلية حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم
كأنه يزدجر منتصباً ... يبني فيعلي مآثر العجم
طبق أجفانه ويحسر عن ... فصين يستوضحان في الظلم
استدل بالحسن فاستذال له ... ذيلاً من الكبر غير محتشم
ثم مضى مشية . . . العروس ... فمن مستظرف معجب مبتسم
كأنما الازورد لمعة ... ونقط اللازورد بالعتم
ما أحسن الصبر في البلاء وما ... أجمله عصمةً لمعتصم
ولآخر:
طار إلى منزلي فأوطنه ... من الطواويس خير مطرف
من كل وشى عليه متبوع ... مختلف رقمه ومؤتلف
منبسط حائل ومنقبض ... وعاطف طائل ومنعطف
فهو بديع إذا أبصرت به ... أبصرت شيئاً يريد في الكلف
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي يصفه في أبيات:
أبدى لنا الطاووس عن منظرٍ ... لم تر عيني مثله منظرا
متوج المفرق إن لا يكن ... كسرى بن ساسان يكن قيصرا
في كل عضو ذهب مفرع ... في سندس من ريشه أصفرا
نزهة من أبصر في طيها عبرة ... لمن فكر . . . واستبصرا
تبارك الخالق في كل ما ... أبدعه منه وما صورا
وله أيضاً فيه:
أهلاً به لما بدى في مشيه ... يختال في جلل من الخيلاء
كالروضة الغناء أشرف فوقه ... ذنب له كالدوحة الغناء
ناديته لو كان يفهم منطقي ... أو يستطيع إجابةً لندائي
يا رافعاً قوس السماء ولابساً ... للحسن روض الحزن غب سماء
أيقنت أنك في الطيور ملك ... لما رأيتك منه تحت لواء
القول في طبائع الدجاج

وهذا النوع صنفان نبطي وهو ما يتخذ في القرى والبيوت وهندي وهو عظيم يتخذ لحسن شكله ونبله، ولنبدأً بذكر البيضة التي يخرج منها الفروج، وإنما ذكرنا البيضة في هذا الموضع دون ما عداه من المواضع التي مضت في ذكر كثير من الطير لأن الناس كثيراً ما يستعملونه في الأغذية وغيرها، مما تمس الحاجة إليه لكثرته، وإن كان أحد البيض الثلاثة المأكولة وهي بيض الحمام، وبيض البط، وبيض الدجاج، وهذا النوع أكثرها وجوداً، ومجموع البيض إما من سفاد، وإما من ريح، والبيض الذي يتولد من الريح أخف وأصغر من الذي يتولد من سفاد، وبيض الريح يكون من الدجاج والقبح، والحمام، والأوز، والطاووس، وسمي ببيض الريح لأنه من غير سفاد، بل يتولد من الريح الذي تهب من تلقاء الذكر فيواجه الأنثى، وبيض الريح لا يتم منه خلق وما كان من البيض مستطيلاً محدد الأطراف فهو يخرج من الإناث، وما كان مستديراً عريض الأطراف فهو يخرج الذكور، وربما رمي البيض، فخرج الفرخ من ذاته إذا كان موضوعاً في أرض دفيئة، مثل ما يفعل أهل مصر حيث يضعون البيض داخل الزبل فيخرج منه الفراخ ولأهل مصر عمل ظريف، وتدبير لطيف يقوم لهم مقام الحضن، وهو أنهم يبنون بيوتاً لطافاً مستوية في التربيع تواري معدة الرجل، ويشققوها، ويجعلون في كل بيت منها مجرى في عرض أربع أصابع ينقونه بطين رقيق جداً، ويضعون فيه زبلاً مدقوقاً منخولاً ويضعون فيه ناراً تسري فيه طول نهاره، وذلك بعد أن يضعوا في كل بيت نحواً من ثلثمائة بيضة، ويغلقوا باب البيت، ويلبدونه من داخله، بحيث لا يدخل إليه نفس هواء، وإذا صار الزبل رماداً غيروه بمثله ويتعاهدوه بالتقليب كل يوم عشية، وبكرة عشرين يوماً، وفي آخرها يفقس في التاسع عشر، وتوزن النار حتى تكون في وزن حرارة الطير في الحضن، فإذا زادت الحرارة نقص من النار وإن نقصت زيد من في النار، وكلما تمادى الزمان نقصوا من النار، وفتحوا كواً وإذا لم يكن للبيض من الحرارة ما تزن الحضن فسد ببرد الهواء والحرارة التي دون الحضان تفسده وتعفنه والتي فوقها تشويه وتجمده( وليس كل البيض يكون منه فرخ، كما ليس كل المني يكون منه ولد )والمعتنون بهذا العمل الذي ذكرناه يسمون البيضة التي لا يكون فيها فروج لاح ويعرفون ذلك في اليوم الثالث(، فإن وقفوا البيضة بين البصر وبين الضوء، فإن كان فيها نقطة حمراء ففيها بزرة، وإن لم يروا النقطة رموا بها ونوفها عن البيض، وكل ما يزق فبيضه قليل، وكل ما لا يزق فبيضه كثير، مثل الدجاج والبط والإوز والقبج، لأن الأنثى لا تقوى على أن تزق عددا كثيرا، وأما الدجاج والقبج، فالأنثى تنفرد بالحضان والتربية والدجاجة تجمع البيض بعد السفاد في أحد عشر يوما، وهي تبيض في السنة كلها ما خلا شهرين شتوية، ومنها ما تبيض ستين بيضة ومنها ما تبيض مرتين في اليوم، )وخلق البيض في عشرة أيام، والبيضة تكون عند خروجها لينة القشر، فإذا أصابها الهواء يبست وهي تشتمل على بياض يسمى الزتيق وصفرة تسمى المح وعليهما قشر رقيق يسمى قيضا، ويعلوه قشر صلب، فالبياض رطوبة غليظة لزجة متشابهة الأجواء، وهي بمنزلة المني، والصفرة رطوبة سلسة ناعمة أشبه شيء بدم قد جمد، وهي للفرخ مادة يغتذي بها من سرته، والذي يتكون من الرطوبة البيضاء عين الفرخ ثم دماغه ثم جلد رأسه ثم ينحاز البياض في لفافة واحدة في جلدة الفرخ، وتنحاز الصفرة في غشاء واحد هي سرة الفرخ فيتغذى منها كتغذي الجنين من دم الحيض فبياض البيضة مادة العظام والغظاريف )والأعصاب والربط والوترات والعروق الضوارب( والسواكن والأغشية، وربما وجد في البيضة محان، قال أرسطو: باضت دجاجة فيما مضى ثماني عشرة بيضة لكل بيضة محان ثم حضنت فخرج من كل بيضة فروجان أحدهما أعظم من الآخر، وخلق الفروج إذا مضت عليه ثلاثة أيام، ويعرف الذكر بأن يعلق الفروج برأسه فإن تحرك فذكر وإن سكن، فأنثى وكذلك يعرف من البيض وقد ذكرناه.

الوصف والتشبيه
قال أبو الفرج الأصفهاني أبياتا يصف فيها الديك )سنذكرها فيما يأتي إن شاء الله تعالى( جاء منها في وصف البيضة، وتطرف غاية وأبدع نهاية:
فيها بدائع صنعة ولطائف ... الفن بالتقدير والتلفيق
خلطان مائيان ما اختلطا على ... شكل ومختلط المزاج رقيق
صنع يدل على حقيقة صانع ... للخلق طرا ليس كالمخلوق

فبياضها ورق وتبر محها ... في حق عاج بطنت بدبيقي
ولآخر ملغزا:
وصفراء في بيضاء رقت غلالة ... لها وصفا ما فوقها من ثيابها
جماد ولكن بعد عشرين ليلة ... ترى نفسها معمورة من خرابها

فصل
والدجاجة إذا هرمت لم يكن لبيضها مح، وإذا لم يكن لها مح لم يخلق منها فرخ لأنه لا يكون له شيء يغذيه، ويربيه، والعجب من أخلاق الدجاج أنه تمر بها سائر السباع فلا تخشاها، ويمر بها ابن آوى، وهي على سطح فترمي بنفسها إليه، وهي إذا قابلت الديك تشبهت له ورامت السفاد، ورفعت ذنبها حتى لا يعلم أذكر هي أم أنثى، والدجاجة توصف بقلة النوم وسرعة الانتباه، ويقال: إن نومها واستيقاظها إنما هو بمقدار خروج النفس ورجوعه، ويقال: إنما تفعل ذلك من شدة الخوف وأكثر ما عندها من الحيلة أن لا تبيت على الأرض، وأن ترتفع على رف وما شاكله، وإذا أذن بعشاء المغرب فزعت إلى تلك العادة، وبادرت، والفرخ يخرج من البيضة كاسيا كاسبا كيسا ظريفا مليحا مقبولا محببا مكتفيا بمعرفته، حديد الصوت سريع الحركة، يدعى فيجيب ويتبع من يطعمه ويألفه ثم كلما مرت الأيام، ماق وحمق ونقص كيسه، وأقبل قبحه، فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميع ما كان فيه إلى ضد ذلك ويصير في حال لا ينفع به إلا للذبح أو للصياح، والبيض والفراريج، وهو مشترك الطبيعة يأكل اللحم ويحسو الدم، ويصيد الذباب، وذلك من طباع الجوارح، ويلتقط الحبوب، ويأكل البقول وذلك من طبائع بهائم الطير، وغن مما عابوا به الديك أنه لا يألف منزله، ولا يعرف ربعه، ولا يحن إلى دجاجة، ولا تتوق نفسه إلى طروقته ولا يشتاق إلى ولده، ولا يذكر ولا يتذكر، ولا يهتدي، ولا يتصور لأنه له طبيعة بلهاء ذاهلة، وذلك أنه إذا سقط على حائط لم تكن له هداية ترشده إلى داره وهو لا يثبت وجه صاحبه، ولو لم يخلق إلا عنده، وفي ظله، وتحت جناحه، ولا يتزاوج لغلبة الشبق عليه وإن مما مدحوه به أن يجمع له عدة دجاج يسوسهن بالمواساة، ولا يؤثر واحدة منهن على صويحباتها، وإنه يعرف الأوقات الزمانية الليلية، ويقسط أصواته عليها تقسيطا لا يكاد يغادر منه شيئا سواء طال الليل أم قصر حتى كان طبعه على حدته وهو لا يصقع لشيء رآه أو تخيله، أو سمع صوتا فأجاب، وإنما يصقع لشيء في طبعه إذ لا قبل ذلك الوقت من الليل هيجه، ولو لم يكن في القرية ديك غيره، وهو يوالي صياحه قبل الفجر ثم بعده إلى أن يبسط النهار، وله أيضاً أصوات في النهار لا يعدوهن، موضوعات أيضاً على الساعات الزمانية، ومن عجيب أحوال الديكة أنها إذا كانت قد ربيت في مكان ثم دخل عليها ديك غريب سفدته جميعها، والديك يضرب به المثل في السفاد، وذلك أنه ينقر الحب ويحمله بطرفي منقاره حتى يرميه بين يدي الدجاج، وإذا ظفر بشيء منه وهن عنه غيب دعاهن إليه وقنع منه بدون حاجته توفيرا عليهن والديكة تعظم بدليل السند حتى تكون مثل النعام
الوصف والتشبيه
قال بعضهم يصف حسن الدجاجة ونبل الديك:
كان الديك ديك بني نمير ... أمير المؤمنين على السرير
كأن دجاجهم في الدار رقطا ... وفود الروم في قمص الحرير
ولأبي بكر الصنوبري من أبيات يصف ديكا:
مغرد الليل ما يألوك تغريدا ... مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا
لما تطرب هز العطف من طرب ... ومد للصوت لما مده الجيدا
كلابس مطرفا مرخ ذوائبه ... تضاحك البيض من أطرافه السودا
حالي المقلد لو قيست قلادته ... بالورد قصر عنها الورد توريدا
زان بفصي عقيق يدركان له ... من حدة فيهما ما ليس محدودا
يقول هذا عقيد الملك منتسب ... في آل كسرى عليه التاج مشدودا
أو فارس شد مهمازيه حين رأى ... لواء قائده للحرب معقودا
وقال السري الرفاء:
كشف الصباح قناعه فتألقا ... وسطا على الليل البهيم وأبرقا
وعلا فلاح على الجدار موشح ... بالوشي توج بالعقيق وطوقا
مرح سدول التاج في لباته ... ومشمرا وشيا عليه منمقا
وقال علي بن الحسين الأصفهاني يصف ديكا من أبيات ويرثيه فيها:
لما بقعت وصرت علق مضنة ... ونشأت نشو المقبل المومق
وتكاملت حلل الجمال بأسرها ... لك من جليل خالص ودبيق

وغدوت ملتحفا بمرط حبرت ... فيه بديع الوشى كف أنيق
ولبست كالطاووس وشيا لامعا ... متلألئا إذ رونق وبريق
من حمرة مع صفرة في زرقة ... تخييلها يخفي على التحقيق
عرض تجل عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التدقيق
وكأن سالفتيك تبر سائل ... وعلى المفارق منك تاج عقيق
تزقو وتصفق بالجناح كمنتش ... وصلت يداه الصوت بالتصفيق
وقال أبو هلال العسكري يصفه:
متوج..... بعقيق ... مقرط بلجين
عليه قرطق وشي ... مشمر الكمين
يزهو بتاج وطوق ... كأنه نور عين
حتى إذا الصبح وافى ... مطرز البردين
دعا دعاء طريب ... مصفق باليدين
وقال بعض الأندلسيين:
وكائن نفي النوم من عين فان ... بديع الملاحة حلو المعاني
بأجفان عينيه..ز ياقوتتان ... كأن وميضها جمرتان
على رأسه التاج مستشرفا ... كتاج ابن هرمز في المهرجان
وقرطان من جوهر... أحمر ... يزينانه زين قرط الحصان
له عنق حوله.... رونق ... كما حوت الخمر إحدى القناني
ودارت برائله حولها ... لها ثوب شعر من الزعفران
ودارت بجؤجئه حلة ... تروق كما راقك الخسرواني
وقام له ذنب معجب ... كباقة زهر بدت من بنان
وقاس جناحا على ساقه ... كما قيس ستر على خيزران
وصفق تصفيق مستهتر ... بمخمرة من بنات الدنان
وغرد تغريد ذي لوعة ... يبوح بأشواقه للغواني
ولله أبو علي بن رشيق حيث مزق عليه جلباب الممادح وتركه من سمل الذم في الزي الفاضح في قوله:
قام بلا عقل لا دين ... يخلط تصفيفا بتأذين
فنبه الأحباب من نومهم ... ليخرجوا في غير ما حين
بصرخة تبعث موتى الكرى ... قد أذكرت نفخ اسرافين
كأنها في حلقة غصة ... أغصه الله بسكين
ولمح في شعره هذا المثل المضروب وهو قولهم )أثقل من الزواقي( وهي الديكة لأنها تفعل في تفريق المحبين فعلا يقصر عنه غراب البين حيث يؤذن صياحها بتصرم ليل الوصال، وتروع رضيع الشفاه اللعس بالفصال وللناس في وصف الديك محاسن كبيرة تركناها لئلا يضيق صدر كتابنا من إبداعها وتسأمها النفوس فتلفضها من أصداف أسماعها، ومن خرافات العرب ما وسعني الإخلال بها ولا الإهمال للأخبار بعجبها، حكى الرياش قال: كنا عند الأصمعي فوقف عليه أعرابي فقال: أأنت الأصمعي؟ فقال: نعم، قال: أنت أعلم الحضر بكلام العرب؟ فقال: ما معنى قول أمية بن أبي الصلت حيث قال:
وما ذاك إلا الديك شارب خمرة ... نديم غراب لا يمل الحوانيا
فلما استقل الصبح نادى بصوته ... ألا يا غراب هل رددت ردائيا
فقال الأصمعي: كانت العرب تزعم أن الديك كان ذا ناح يطير به في الجو وإن الغراب كان ذا جناح كجناح الديك لا يطير بهما، وإنهما تنادما ليلة في حانة يشربان فنفد شاربهما فقال الغراب: لو أعرتني جناحك لأتيتك بشراب فأعاره جناحه فطار ولم يرجع، فزعموا أن الديك عند الصبح إنما يصيح استدعاء لجناحه من الغراب، فضحك الأعرابي وقال: ما أنت إلا شيطان.

القول في طبائع الحجل

وهذا الطائر يسمى دجاج البر، وهو صنفان نجدي، وتهامي، فالنجدي أخضر، أحمر الرجلين، والباقي فيه بياض وخضرة ويسمى الذكر يعقوب، والفرخ الذكر السلك والأنثى السلكة وهذه الأفراخ تخرج كما تخرج الفراريج كاسية كاسبة، يقول أصحاب الكلام في طبائع الحيوان إن الحجلة إذا لم تلقح تمرغت في التراب ورشته، على أصول ريشها فتلقح، ويقال: أنها تبيض بسماع صوت الذكر، وبريج تهب من ناحيته وإذا باضت الحجلة ميز الذكور منها الذكر، وحضنت الأنثى منها الإناث في مكان فحضنتها وكذلك هما في التربية، وفي تركيب هذا الحيوان قوة عند طيرانه حتى إن الإنسان إذا لم يره عند الطيران ظن أنه حفيف حجر من مقلاع فيتخيل منه، والذكر شديد الغيرة على الأنثى وإذا اجتمع ذكران اقتتلا فأيهما غلب ذل له الآخر، وذهبت الأنثى مع الغالب، وفي طبع الذكر أنه يخدع أمثاله بقرقرته، ولهذا يتخذه الصيادون في اشراكهم ليكثر القرقرة فيجتمع إليه أبناء جنسه فتقبض معه، وهو يفعل ذلك كالمنتقم منها والحاسد لها، وفي طبع الأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عش أخرى وغلبتها على بيضها، وربما سرقت بيضة بعد أخرى حتى يتجمع لها ما تحضنه.

الوصف والتشبيه
قال أبو علي بن رشيق القيرواني:
ما أغربت في زيها ... ألا يعاقيب الحجل
جاءتك مثقلة الترا ... ئب بالحلي وبالحلل
صفر الجفون كأنما ... باتت بتبر تكتحل
وتخالها قد وكلت ... بالقوت والصوت الرجل
صغرى أنابيب من ... المرجان محكمة العمل
مشقوقة شق الزجا ... ج لمن تأمل أو عقل
وصلت مذابحها الرؤ ... س بحمرة فيها شعل
لولا اختلاف الجنس وال ... تركيب جاءت في المثل
كلحى الثمانين التي ... خضبت ومنها ما فصل
أو كاللثام أزاله ... فرط التلفت ما فصل
وتخالهن جواريا ... لا يزدرين من العطل
رمت الثياب إلى ورا ... ء عن المناكب تنجدل
وبدت سراويلاتها ... يسحبن وشيا من قبل
حمر من الركبات في ... لون الشقائق أو أجل
عقدتها فوق الصدو ... ر مخالسات للقبل
وشددت بالأعضاء ... من حذر عليها أن تحل
وكأنما باتت اصا ... بعها بحناء تعل
من يستحل لصيده ... فأنا امرؤ لا استحل فصل قال ابن أبي الأشعث: ومن أنواع الطير نوع مزاجه مائي هوائي لأن طيرانه في العلو أكثر من طيرانه في البحار، وكله يفرخ في الدحال والاجام، ومطرد المياه ولا يركب الأغصان، ولا شوامخ الجبال، وإن أولما نبدأ منها أولا:
القول في طبائع الكركي
ذهب بعض الناس أنه الغرنيق، وذهب آخرون إلى أن الغرنيق صنف من الكركي وهو أخضر طويل المنقار، قال أصحاب البحث عن طبائع الحيوان، الأنثى من الكراكي لا تجلس للذكر عند السفاد، وسفاده سريع مثل العصفور، وهو من الحيوان الذي لا يصلح إلا برئيس لأن في طبعه الخور والتمارس بالنوبة والذي يحرس يهتف بصوت خفي كأنه ينذر بأنه حارس، فإذا قضى نوبته قام الذي كان نائما مستريحا حتى تعفى كلها ما يلزمها من حراسة بعضها بعضا، ولها مشاتي ومصايف، ومنه ما يلزم موضعا واحدا ومنه ما يسافر بعيدا، وفي طبعه التناحر، ولهذا جماعاته لا تطير منقطعة ولا متباعدة بل صفا واحدا تقدمها واحد منها كالرئيس لها، وهن يتبعنه، يكون ذلك حينا ثم يخلفه آخر منها متقدما حتى يصير الذي كان متقدما منها متأخرا، وفي طبعه أن أبويه إذا كبرا عالهما وأتاهما بقوتهما، وقد مدح هذا الخلق أبو الفتح كشاجم يخاطب ولده فقال:
اتخذ في خلة في الكراكي ... أتخذ فيك خلة الوطواط
أنا إن لم تر في غناء ... وببري ترجو جواز الصراط

ومعنى قوله خلة الوطواط أنه يبر ولده ولا يتركه بمضيعة بل يحمله حيث توجه وأما من زعم أن الغرانيق غير الكراكي، وهو الجاحظ، حاكيا عن أرسطو: الغرانيق من الطير القواطع، وليست من الأوابد، وإنها إذا أحست بتغير الزمان أزمعت على الرجوع بلادها وأوطانها، وذكر إنها حارسا ثم تنهض معا، وتطير مع الريح التي تهب، فإذا طارت ترفعت في الهواء جدا كي لا يعرض لها شيء من الجوارح وإن عاينت غيما أو خافت مطرا أو سقطت لطلب ما لا بد له منه من طعم أو هجم عليها الليل أمسكت عن الصياح، وضمت إليها أجنحتها، فإذا أرادت النوم أدخل كل واحد منها رأسه تحت جناحه لأنها ترى أن الجناح أحمل لما يرد عليها من المكروه في رأسه، وينام قائما على إحدى رجليه لأنه يظن إن مكن رجليه نام إذا كان يجب أن يكون نومه غزارا وأما قائدها وسائقها وحارسها فلا ينام إلا وهو مكشوف الرأس فإن نام نومه يكون أقل من العشاش، والغرانيق تقاتل بعضها بعضا، وربما صيدت بسبب ذلك لأنها تشتغل بالقتال عن حفظ أنفسها وفراخها إذا قويت تتعاهد الآباء والأمهات بالطعم، ويقال إن ريشها في شيبتها رماديا، فإذا كبرت اسود وليس ذلك في سائر الطير قالوا: والريش يتحول بياضه إلى السواد ولا يتحول سواده إلى البياض بخلاف الشعر

الوصف والتشبيه
ومورد يجدل قلب الوامق ... منتظم بالغر والغرانق
وكل طير صافر وناعق ... مكتهل وبالغ ولاحق
موشية الصدور والعواتق ... بكل وشي فاخر وفائق
تختال في أجنحة خوافق ... كأنما تختال في قراطق
يرفلن في قمص وفي يلامق ... كأنهن زهر الحدائق
حمر الحداق نجل الحمالق ... كأنما يجلين في مخانق
كأنما نطقن بالمناطق
القول في طبائع الإوز
وهذا النوع ثلاثة أصناف بطائحي وهو طويل الأسود بزرقة، والتركي وهو مائل إلى البياض، والخبي وهو الضخم الكبير منها، قال أصحاب الفحص عن الكلام في طبائع الحيوان أن الإوز عند الفراغ من السفاد يسبح في الماء كأنه تمام اللذة وكمال السرور، والأنثى من هذا النوع تحضن بيضها ثلاثين يوما فإذا خرجت الفراخ ناهدت أخرى فربتهن وعالتهن فتكون حاضنة وداية تسوسهن وتشفق عليهن كالأم، والذكور تحنو على الفراخ، ولكل منها قضيب تسفد به كالبط، والإوز البطائحية )وتعرف بأرض مصر بالعراقية، تخالف الإوز الخبية في الصياح، لأن الخبية تصيح ذكورها ولا تصيح إناثها، والبطائحية( بخلاف ذلك ولا تحنو على الفراخ ولا تحضن.
الوصف والتشبيه
قال أبو نؤاس يصف إوزا من طردية:
يا رب سرب من أوز رتع ... في صحب الحوت برود المكرع
فهي بين حوم... ورفعمن كل محبوك الشراب ادرع
أصفر فص العين احوى الدمع ... مقرط بتؤمتين أودع
موصلة وجنته... بالأخدع ... عولى متناه بحبك أربع
فهو كبيت اللعب المصنع
وقال الناشئ ناسجا على منواله فقال:
يا رب ضحضاح قريب المشرع ... مطرد مثل السيوف اللمع
مجلل بسابحات وقع ... من كل موشى الطراز ادرع
موشح بمرط المجزع ... أو احصف الزف طرير اسفع
كأن عينيه ولما يهرع ... فصا عقيق ركبا لاصبع
ذي جمة وحف وفرع أفرع ... قرط حسنا بلألئ أربع
وعقد در حول جيد اتلع ... فهو لعين الناظر المستمع
كصنم بجوهر مرصع
وقال أبو نؤاس أيضاً:
ومنهل يغتم باغلافق ... حوى من الإوز الشرارق
سود الاماقي صفر الحمالق ... كأنما يصفرن من ملاعق
صرصرة الأقلام في المهارق
وقال أبو علي الحسن بن رشيق يصف فحل إوز:
نظرت إلى فحل الإوز فخلته ... من الثقل في وحل وما هو في وحل
ينقل رجليه على حين فترة ... كمنتعل لا يحسن المشي في النعل
له عنق كالصولجان ومخطم ... حكى طرف العرجون من يافع النخل
يداخله زهو فيلحظ من على ... جوانبه إلحاظ مهتم العقل
يضم جناحيه إليه كما ارتدى ... رداء جديدا من بني البدو ذو جهل
القول في طبائع البط

وهو أصناف منه الوحشي والأهلي، ومن الوحشي اللقلق، ومن الأهلي الصيني وفراخه تخرج كاسية كاسبة، كالفراريج، وذكر أصحاب الكتب المصنفة في العجائب أن بالرانج بط بيض، وحمر ورقط طوال الأعناق، قصار الأرجل، والبط وإن كان مما يطير على وجه الماء فلا ينبغي أن يحكم عليه بما يحكم على طير لأنه ليس بلونه دائما، ولا يعوم فيه ولا يأكل السمك في كل غذائه، فإنه يأكل النبات والبزور، وهو وإن كان ذا جناح فيه من الريش والقوادم والخوافي فليس بناهض، وإنما انتفاعه بجناحيه أن يكون حتى حدره الماء الجاري إلى مكان لا يجتاز طار مصعدا على وجه الماء في البخار الرطب لا غير، ولهذا الطائر قضيب يخرج من دبره كذكر الكلب عظيم جدا في رأسه زر كالفلكة فإذا سفد لم يخرجه حتى ينقلب تحته، ويحصل له من الأنثى عند السفاد ما يحصل للكلب من الالتحام.

الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء يصف بطة:
اتينا بط كسكر بثياب ... مفصلة من الحرق الحرير
وقد كشفت لنا عن عظم ساق ... قصير مثل قائمة السرير
محملة مناكبها الروابي ... جناحي مثل كركرة البعير
برأس مثل فهر المسك داح ... ومنقار كملعقة البعير
وقال محمد بن أبي زرعة وقد اقترح عليه بعض أصحابه أن يقول في جماعة من البط كانت في بركة ما فقال بديها:
كأنهن وقد أقبلن في نسق ... قراقر العاج قد قمعن بالذهب
القول في طبائع النحام
وهذا الطير يكون أفرادا وأزواجا، وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفا فذكوره تنام وإناثه لا تنام، وتعد لها مبايت، إذا ذعرت إحداها طارت إلى آخر، ويقال: إنه لا يسفد، ولا يخرج فراخه بالحضن، وإنما تبيض من زق الذكر لها، وإذا باضت تغربت وتفردت وبقي الذكر عند البيض يذرق عليه فيقوم حمو الذرق عليه مقام الحضن فإذا تمت مدة الحضن خرجت الفراخ لا حراك بها فتجيء الأنثى فتنفخ في مناقيرها، حتى يجري الريح فيها روحا ثم يتعاون الذكر والأنثى على التربية، وفي الذكر غلظ طبع وقلة وفاء فإنه إذا علم أن فراخه قد قويت على الطعم ضربها وطردها وتذهب الأم معها فلا تقربه إلى وقت السفاد.
القول في طبائع الأنيس
هذا الطائر لم أر أحدا من المتكلمين في طبائع الحيوان ذكره غير أرسطو فإنني عثرت عند مطالعتي لكتاب الحيوان له على ذكره لهذا الطائر، ويغلب على ظني أنه الذي يسميه رماة البندق الانيسه، والله أعلم، قال: وهذا الطائر حاد البصر، وصوته يشبه صوت الجمل، ويحاكيه ومأمواه في قرب الأنهار، وفي الأماكن الكثيرة المياه الملتفة الشجر وله حسن وتدبير في معاشه.
فصل
وكنت أسمع بشحم القاوند، ولم أدر أهو حيوان هوائي أم مائي أم أرضي حتى وقفت على كتاب موضوع في طبائع الحيوان، وخواصه ليس عليه اسم المصنف فرأيته قد قال: القاوند طير يتخذ وكره على ساحل البحر، ويحضن بيضه في شفير الرمل وذلك في طبعه عند قسوة الشتاء وشدة البرد، وهو يحضن أيضاً بيضه سبعة أيام، ويخرج فراخه في اليوم السابع، ثم يزقها سبعة أيام أيضاً والمسافرون في البحر يتيمنون بهذه الأيام ويوقنون بطيب الوقت، وحلول أوان السفر، ثم قال والمعتبرون بحال هذا الطير يقولون: إن الله تعالى يمسك أمواج البحار عند هيجانها، في زمن الشتاء عن مبيض هذا الطائر وفراخه ببره لأبويه عند كبرهما، وذلك أنهما إذا كبرا حمل إليهما قوتهما وعالهما مدة حياتهما إلى أن يموتا.
فصل
وقد مضى القول فيما نبل من الطير صورة مستوفاة على قدر الاستطاعة فليلحق بذلك ما صغر جرمه، وأهم ما نبدأ بذكره منه، حسن مرأى ومسمعا وأتحفه بهما القدر معا.
القول في طبائع الخطاف

ويسمى زوار الهند وهو من الطير القواطع إلى الناس يقطع البلاد البعيدة إليهم رغبة في القرب منهم والألف بهم من حيث لا يبلغه خير ولا يطأه صاحب سفر، ثم إنه إذا قطع الناس لم يبن بيته إلا في أبعد المواضع حيث لا تناله أيديهم ولا يحمله الإنس بهم على ترك التحرز منهم ومن ملابستهم والخوف منهم على منع نفسه لذة السكون إليهم فهو لا يبخس الحزم حقه، ولا يمنع الارتقاء بهم حظه، ومن عجيب حاله أنه تقلع عينه فترجع وهو لا يرى أبدا واقفا على شيء يأكله ولا يتناوله، حتى أن بعض المتكلمين في طبائع الحيوان زعم أنه ليس له رجلان، ولا يرى مسافرا، ولا مجتمعا بأنثاه، والخفاش عدو له وهو متى أفرخ وضع في أعشاشه قضبان الكرفس فلا تؤذيه إذا شم رائحته، ولا يفرخ في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد وهي يبني عشه جديدا وذلك أنه يهيئ الطين مع التبن، وإذا لم يجد طينا مهيئا ألقى نفسه في الماء ثم تمرغ في التراب حتى يمتلئ جناحاه ويصير شبيها بالطين، وإذا هيأ عشه وضع الجاسي أولا كما يفعل الناس ويصير مقدار العش ما يسعه ويسع أنثاه وفرخيه وهو يساوي في الطعم بينهما، وهو لا يبقي في عشه زبلا بل يلقيه خارجا، فإذا كبر فرخاه علمهما ذلك وأصحاب اليرقان يلطخون فراخ الخطاف بالزعفران فإذا رآهما صقر ظن أن اليرقان أصابهما من شدة الحر فيذهب ويأتي بحجر اليرقان فيطرحه على الفراخ، وهو حجر أصفر فيأخذه المحتال فيعلقه على من به اليرقان أو يحكه ويشرب من مائه يسيرا، والخطاف متى سمع صوت الرعد مات.

الوصف والتشبيه
قال أبو إسحاق الصابي:
وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسودة الأبواب محمرة الحدق
كأن بها حزنا وقد لبست له ... حدادا وأدرت من مدامعها العلق
إذا صرصرت صرت بآخر صوتها ... كما صر ملوي العدو بالوتر الحزق
تصيف لدينا ثم تشو بأرضها ... ففي كل عام نلتقي ثم نفترق
وقال السري الرفاء يصفها من أبيات يصف فيها عرفه:
وغرفتنا بين السحائب نلتقي ... لهن عليها كلة ورواق
تقسم زوار من الهند سقفها ... خفاف على قلب النديم رشاق
أعاجم تلتذ الخصام كأنها ... كواعب زنج راعهن طلاق
آنسن بنا أنس الإماء تحببت ... وشيمتها غدر بنا وإباق
مواصلة والورد في شجراته ... مفارقة إن حان منه قران
وله أيضا:
وغرفتنا الحسناء قد زاد حسنها ... بزائرة في كل عام تزورها
مبيضة الأحشاء حمر بطونها ... مزبرجة الأذناب سود ظهورها
لهن لغات معجمات كأنها ... صرير نعال السبت عال صريرها
تجاورنا حتى تشب صغارها ... فيلحق فينا بالكبير صغارها
وقال أبو هلال العسكري:
وزائرة في كل عام تزورنا ... فتخبر من طيب الزمان مزارها
تخبر إن الجوراق قميصه ... وإن رياضا قد توشى ازارها
وإن وجوه الغرراق بياضها ... وإن متون الأرض راع اخضرارها
تحن إلينا وهي من غير شكلنا ... فتدنو على بعد من الشكل دارها
ويعجبنا وسط العراص وقوعها ... تمشت إلينا هندها ونوارها
وقال آخر:
أهلا بخطاف أتانا زائرا ... غردا يذكر بالزمان الباسم
لبست سرابيل الصباح بطونه ... وظهوره ثوب الظلام الغائم
القول في طبائع القيق والزرزور
أما القيق فطائر في قدر الحمام اللطيف، وأهل الشام يسمونه أبو زريق، وفي طبعه كثرة الألف بالناس، وقبول التعلم، وسرعة الإدراك لما يلقن من الكلام، وربما زاد على الببغاء في ذلك إذا أنجب، وإذا تعلم جاء بالكلام حروفا مبينة أسماء وأفعالا حتى لا يشك سامعه إذا سمعه ولم يره أنه إنسان، وأما الزرزور فيقال إنه ضرب من الغراب يسمى الغداف، وقال آخرون: هو الزاع، وهو من الطير الذي يلقن فيبلغ منها الأمل في قبول التعليم ولا يرى إلا في الربيع، ولونه أرقط لكن السود أغلب، ومن الشاد في لونه الأبيض، وقد روي في هدية أهداها منويل ملك الروم إلى الأمام المستنصر بالله العبيدي
الوصف والتشبيه
يا رب أعجم صامت لقنته ... ظرف الحديث فصار أفصح ناطق
جون اعير قوة صفرة ... كالليل طرزه وميض البارق
حكم من التدبير أعجزت الورى ... ورأى بها المخلوق ألطف خالق
وقال آخر:

أمنبر ذاك أم قضيب ... يقرعه مصقع خطيب
يختال في بردتي شباب ... لم يتوضح بها مشيب
أخرس لكنه فصيح ... أبله لكنه لبيب

القول في طبائع السماني
ويقال: إنه السلوى ويعد في الطيور القواطع التي لا يعلم من أين تجيء حتى أن بعض الناس يزعم أنه يخرج من البحر المالح فإنه يرى طائرا عليه واحد جناحيه في الماء والآخر منشور كأنه قلع، ولأهل مصر به عناية حتى أنهم يغالون في ثمنه إذا أنجب، وربما بلغت قيمته ثلاثمائة درهم بيضا وأكثر، وهو صنفان ربيعي، والطرماهي فالربيعي القادم الراجل، والطرماهي القاطن المختلف في الأرض، والبلاد الخصيبة، فيبيض ويفرخ فيها كالحجل، ويصاد في الصيف وأوائل الخريف، ويزعم المعتنون به أن صوته ينقسم على سبعة ضروب وهي: رجف، ومخلع، وتحلق، ومرسل، وحططي، وروهال، وخفيف الضرب، وهو أعلاها، وقالوا: هذه ضروب أصلية تتفرع فروعا على تفريغ الغناء والموسيقى، فالرجف مقابل رست، والتحليق مقابل عراق، والمرسل مقابل أصفهان، ويذكرون من هذا الهذيان الذي لا تقوم عليه حجة، ولا برهان ما لا يسع العاقل سماعه، ولا يألفه طباعه فإنهم استسمنوا ذا روم ونفخوا في غير حزم، وذلك إن حكاية صوته على ما اتفقوا عليه )شفشلق(، ولا اعتبار عندهم في القيمة بحسن الصوت، فإنه قد يوجد من الرجوف ما قيمته أكثر من خفيف الضرب، وذلك لأجل الفراهة برقة الأصوات فإنه وجد منها ما صاح في الليلة الواحدة ثلاثة آلاف صوت، وفي الرجوف ما لا يفهم، ويسمى مغلق وهو بالنسبة إلى ما عداه أعجمي، والغالب عليها قبل أن تفصح )الوعوعة( وحكاية صوتها وعوع، وفيها ما يطلق عليها )أبو طقين( وهو عندهم من الضروب الفرحة لأنه يقول شقلق مرتين في صوت واحد، وعلى كل حال فأي معنى في هذا الكلام حتى تتفاوت فيه الرغبات، وتتوفر عليه الطلبات فيغالي في ثمنه ويفوز يتحصيله من ومن )والله الموفق للصواب(
القول في طبائع الهدهد
وهذا الطائر منتن الريح وإن لم يكن ملطخا بشيء من القاذورات فإنه يبني أفحوصه من الزبل، وليس ابتناؤه منه على قدر رغبته، وحاجته في ألا يتخذ افحوصا إلا منه ولكنه جرى على أعراق أبويه إذ كان هذا الصنع عاما في جنسه، ويضرب به المثل في النتن، قال بعض الشعراء يهجو رجلا:
وأنتن من هدهد ميت ... أصيب فكفن في جورب
ويذكر عنه أنه يرى الماء في باطن الأرض، كما يراه الإنسان في باطن الزجاج وزعموا أنه كان دليل سليمان عليه السلام على الماء، وبهذا السبب كان تفقده له على أحد أقوال المفسرين للكتاب العزيز، وقال الجاحظ الهدهد، وفي حفوظ وذلك أن الذكر إذا غابت عنه أنثاه لم يأكل ولم يشرب، ولم يشتغل بطلب طعم، ولم يقطع الصياح حتى تعود إليه، فإن حدث بها حادث أعدمه إياها لم يشتغل بعدها بأنثى أبدا، ولم يزل صائحا عليها ما عاش، ولم يمتلئ بعدها من طعام بل منه ما يمسك رمقه إلى أن يشرف على الموت فعند ذلك ينال منه شيئا يسيرا.
الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء ملغزا فيه:
وساجد ليس مثله ... خمس ولم يسجد لغفران
قبلته في كل أفق كما ... صليت في الخوف بنقصان
ولآخر من أبيات:
كأنه إذا أتاه من قرى سبأ ... مبشرا قد كساه تاج بلقيس
يبدو له فوق ظهر الأرض باطنها ... كما تبدت لنا الأقذاء في الكوس
وما أطرف قول أبي الشيص فيه:
لا تأمنن على سري وسركم ... غيري وغيرك أوطئ القراطيس
أو طائر سأحليه وأنعته ... ما زال صاحب تأييد وتأسيس
حمر شقاشقه ميل ذوائبه ... حلو شمائله في الحسن مغموس
قد كان هم سليمان ليذبحه ... لولا سعايته في ملك بلقيس
القول في طبائع العقعق

ويسمى أيضا )كندش( بالشين المعجمة، وهو طائر لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به، بل يهيء وكره في المواضع المشرفة وجو الهواء الفسيح، وفي طبعه الزنا والخيانة، ويوصف بالسرقة والخبث، والعرب تضرب به المثل في جميع ما ذكرناه، وإذا باضت أخفت بيضها بورق الدلب خوفا من الخفاش، فإنه متى قرب من البيض مذر وفسد، ويطير من ساعته، وهو يغطي فراخه بجناحيه إذا نزل المطر خوفا عليهما منه وشفقة، وتقول العرب: اموق من عقعق، وإذا كان حذرا فإنه يضيع بيضه وفراخه، وفي طبعه أنه شديد الاستلاب والاختلاس لما يراه من الحلي، فكم عقد ثمين وسلك خطير اختطفه من بين يدي قوم، فأما رقى به وخلفه في الهواء فأتلفه، وأما أحرزه ثم لم يلتفت إليه أبدا.

الوصف والتشبيه
قال فيه إسحاق الموصلي:
إذا ما بارك الله في طائر ... فلا بارك الله في العقعق
قصير الذنابي طويل الجنا ... ح متى ما يجد غفلة يسرق
يقلب عينيه في رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق
القول في طبائع العصفور
وهو ضروب منها ما هو مطرب بصوته معجب بصورته وحسنه، وسيأتي ذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى، فأما العصفور البيوتي، فإن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون أن في طباعه اختلاف لما فيه طباع سباع الطير وبهائمه فالذي فيه من طباع السباع أنه يلقم فراخه، ولا يزقها، ويصيد أجناسا كبيرة من الحيوان ذي الجناح كالنمل إذا طار فراخه والجراد، ويأكل اللحم، والذي فيه من طبائع بهائم الطير أنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وهو إذا سقط على عودة قدم أصابعه الثلاث، وأخر الدابرة، وسباع الطير تقدم إصبعين وتؤخر إصبعين، وتأكل الحب والبقول، ويتميز الذكر فيها على الأنثى بلحية سوداء كما للرجال، والتيس، والديك، وليس في الأرض طائر ولا سبع ولا بهيمة أحنى على ولده و أشد به شغفا، وعليه إشفاقا من العصافير فإنها إذا أصيبت أولادها أو خافت عليها العطب فليس في شيء من أنواع من الحيوان المساعدة مثل الذي في العصافير، لأن العصفور يرى الحية قد أقبلت نحو عشه لتأكل بيضه أو فراخه، فإنها مولعة بذلك فيصيح فلا يسمع عصفور إلا أقبل إليه يصنع مثل صنعه بتخوف وقلق ولوعة واستغاثة، فربما أفلت الفرخ فصار إلى الأرض وذهبت الحية فيجتمعن عليه إذا قد نبت ريشه نبات، ولا يزلن يهيجنه للطيران بأن يطرن حوله لعلمها بأن ذلك يحدث بالفرخ قوة على الطيران، فإذا نفض طرن حوله ودونه حتى يحتملنه بذلك العمل والعصفور لا يعرف المشي، فإذا نفض يرفع رجليه فيثب فيضعهما معا ليس معه إلا النقزان وهو كثير السفاد، وإنما سفد في الساعة الواحدة نحوا من خمسين مرة، ولذلك قصر فإنه لا يعمر أكثر من سنة، وعلامة ذلك أن الأطراف السود لا يظهر فيها إلا في أوان الربيع، وهذا يدل على أنه لا يبقى من الذكور من شدة الوطء وصلابة الوقع على السطح مثل ما للعصفور، ولفرخ العصفور تدرب على الطيران حتى أنه من الغابة البعيدة يدعى فيجيب، قال الجاحظ، وبلغني أنه رجع من فرسخ، ومن ضروب العصافير عصفور الشوك الذي يأوي إليه هذا العصفور، وربما نهق الحمار فيسقط فراخه، وبيضه من جوف وكره، فلذلك العصفور إذا رأى الحمار، قرب من فوق رأسه وعلى عنقه وإذا بطيرانه وصياحه ونقره في جراحه، ويقال إن سبب عداوته له أن معاش هذا العصفور من برز الشوك، وفيه بيضة، والحمار يرعى الشوك إذا كان رطبا.
من ضروب العصافير القبرة وهي غبراء كبيرة المنقار وعلى رأسها قبرة وهذا الضرب خب قاسي القلب، وفي طبعه أنه لا يهوله صوت صائح به، وربما رمي بالحجر فاستخف بالرامي ولطا إلى الأرض حتى يتجاوزه الحجر، وبهذا السبب لا يزال مقتولا أو مأخوذا لأن الرامي يحمله الحنق عليه فلا يزال يرميه حتى يصبه، وهو يصنع وكره على الجادة حبا للإنس، ومن ضروب العصافير: حسون ويسميه أم الحسن، والمصريون السقاية، وهو ذو ألوان حسنة التأليف والتركيب، وذلك أن سائر جسمه متصل الأصباغ بالحمرة والصفرة والبياض والسواد والزرقة والخضرة، وربما علم استقاء الماء من إناء إلى إناء بآلة لطيفة يطيق حملها دبرت له.
الوصف والتشبيه
قال أبو هلال العسكري يصف هذا العصفور
ومفتنة الألوان بيض وجوهها ... ونمر تراقيها وصفر جنوبها
كأن دراريعا عليها قصير ... ة مرقعة أعطافها وجيوبها

تعدل أوزان الأغاني كأنما ... تعدل أوزان الأغاني غريبها
تسام استقاء في الشتاء إذا عرا ... وتعطل أيام المصيف ذنوبها
ومن ضروب العصافير البلبل وهو العندليب )والعندليب ويجمع على فواعل( ويسميه أهل المدينة النغر ويعد من العصافير الدحل وهو طوير اغيبر الرأس لطيف القدر مأواه الشجر ويعد منها البلبل قال الجاحظ: البلبل موصوف بحسن الصوت والحنجرة ومن شأنه إذا كان غير حاذق ولا ماهر أن يطارحه إنسان بشكل صوته فيجيبه، ويتدرب فيتعلم ويجود صوته ويحسن.

الوصف والتشبيه
قال أبو هلال العسكري:
مررت بدكن القمص سود العمائم ... تغني على أطراف غيد النواعم
زهين بأصداغ تروق كأنها ... نجوم على أعضاد أسود فاحم
ترى ذهبا منهن تحت مآخر ... لها ولجينا نظنة بالمقادم
ولآخر:
كيف الحي وقد خلعت على اللهو ... عذاري وقد هتكت قناعي
وتعشقت بلبلا أنا منه ... في إزعاج إلى والتياع
أنا من ريشه المدبج في زه ... ر ومن شجو صوته في سماع
الباب الثامن
في طبائع الطير الليلي والهمج
والذي يجعلنا ابتداءنا بذكره من ضروبه ما هجر ظهوره في إشراق قرص الشمس وواصله عند غروبه.
القول في طبائع الخفاش
وهذا الضرب عد من الطير اصطلاحا لغويا، وإن كان ليس من الطير في شيء فإنه ذو أذنين وأسنان وخطم وخصيتين بارزتين، ويبول كما تبول ذوات الأربع ويحضن، ويلد، ويرضع، ولا ريش له قال بعض المفسرين للكتاب العزيز لما كان الخفاش هو الذي خلقه عيسى - عليه السلام - بإذن الله تعالى كان مباينا لصنعة الخالق لهذا سائر الطير تقهره وتبغضه، فما كان منها يأكل اللحم أكله، وما لا يأكل اللحم قتله، فلذلك لا يطير إلا ليلا، وقال بعضهم: وسبب مباينة الطير له وإنكارها إياه، مخالفته لها في الخلقة والطيران والسفاد، وسبب وغير ذلك مما ذكرناه آنفا وهو من بين الطير شديد الطيران كثير التكفي سريع التقلب، وطعامه البعوض والفراش يصيدها وقت طيرانه، ولا يبلغ ذلك إلا بما فيه من سرعة اختطافه واختلاسه وشدة طيرانه، ولين أعطافه، وهو من ذلك ليس بذي ريش، وإنما هو لحم وعشاء جلدي صلب كأنه ضفدع، وطيرانه بغير ريش عجيب، ومن عجائبه أنه لا يطير في ضوء ولا في ظلمة، وسبب ذلك أنه ضعيف قوة البصر قليل شعاع العين، ولذلك لا يظهر في ظلمة لأنها تكون غامرة لضياء بصره ولا يطير نهارا لضعف ناظره عن التحديق في ضعاع الشمس فهو لذلك يجعل خروجه في طلب قوته، وقت غروب الشمس، وظهور الشفق، وذلك وقت هياج البعوض وانتشاره، وهو يترك الجبال وبسيط الفيافي وصدوع الصخور، وجزائر البحر ويطلب الناس وقربهم ثم إذا صار في بيوتهم قصد أرفع مكان فيها وأحصنه، وأبعده من المواضع التي يجتاز بها، وترفع فيها الحوائج، ويذكر بطول العمر حتى يجوز العقاب إلى النسر، ويجوز الفيلة، وحمر الوحش إلى الحيات، ويقال: إن الذي يظهر في ضوء القمر من الخفاش هو المسن ولذلك يضخم ويقبل اللحم على الكبر، )وهو من الحيوان، وليس في الحيوان ما يحمل ولده غيره، والقرد، والإنسان و الطائر له أذنان بارزتان، ويلد، ويرضع أولاده، وله أثداء مثل ذوات الأربع(، ويلد ما بين ثلاثة إلى سبعة، وكثيرا ما يسفد، وهو طائر في الهواء كما أن الظباء قد تتسافد في أحمى عدوها، وأسرع جريها، وهو يحمل ولده تحت جناحيه، وربما قبض عليه بفيه، وذلك من ظنه به وإشفاقه عليه، وربما أرضعت الأنثى ولدها وهي تطير وفي طبعه أنه متى أصابه شجر الدلب خدر ولم يطب.
الوصف والتشبيه
قال بعضهم يصفه عن طريق اللغز:
وطائر جناحه في رجله ... أعجب فصه من وصله
لم يصف الله بخلق مثله ... وهو على تألف في شكله
لو بيع في سوق لم اغله
والكروان: وفي طبعه الطيران في الليل والادلاج والصياح بالأسحار والإشراف على مواضع العساكر، ويوصف بالحمق، ومن حمقه أنه يقال: له اطرق كرا فيلصق بالأرض حتى يرمى وتقول العرب:
اطرق كرا اطرق كرا ... إن النعامة في القرى
والصدى: تزعم العرب في أكاذيبها أن الإنسان إذا مات أو قتل تتصور نفسه صورة طائر تصدح على قبره مستوحشة بجسدها، وفي ذلك يقول توبة بن الحمير حين يقول:

ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة اوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
ويزعمون أن هذا وقع، ويحكون عليه حكاية من خرافاتهم، وتقول العرب أن هذا الطائر يكون صغيرا يم يكبر حتى يصير في قدر البوم ويسمونه الهام، واحده هامة وهو يتوحش ويصيح، ويوجد في الديار المعطلة والنواويس، وحيث مصارع القتلى، وأجداث الموتى، ويقولون أنه لا يزال عند ولد الميت ومخلفيه ليعلم ما يكون بعده فتخبره وجاء الإسلام وهم على ذلك حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ناهيا لهم: لا عدوة، ولا طير ولا هامة.

القول على البوم
ويقال: أنه الصدى، )ويقال أن الصدر ذكر البوم(، والبوم لا ذكر له منه، وقال بعض المعتنين بالبحث عن أصناف الحيوان، البوم خمسة أصناف منه ما يصيد الأرنب، ومنه صنف له ألوان يأوي الآكام والبرية، ومنه المدبج بصفرة، وله حواجب وقرون من ريش يسكن الجدران، ومنه إلهام وتسمى الغبشية ومنه القز وهو طائر يصيح كالهام لكن صوته أدق وكل هذه الأصناف تحب الخلوة بأنفسها والتفرد، وفي انس طبعها عداوة الغربان، وبعضها على أنها مبغضة لسائر الطير فإن إذا رأوها اجتمعوا عليها.
فصل
وأما الهمج فهو ماله جناح يطير به، ولا يسمى طائرا إلا مجازا عند الجاحظ للمناسبة وأهم ما تقدم ذكره من هذا النوع:
القول في طبائع النحل

وهو حيوان عنده الكيس، والفهم، والنظافة، والطهارة، والشجاعة والنظر في العواقب، ومعرفة فصول السنة وأوقات المطر، قال أرسطو النحل تسعة أصناف منها ستة يأوي بعضها إلى بعض، وذكر أسماءها باليونانية ثم قال وغذاء النحل من الطل، والرطوبات التي يرشح بها الزهر، والورق، ويجمع ذلك ويدخر، وهو العسل، ويجمع مع ذلك رطوبات وسمة يتخذ منها بيوت العسل وأوعية له، وهذه الدسومات هي الشمع، وهو يجلبه على ساقيه )في أطراف الشجر يسقط عليها وإن الربيع مثقل، وفي أعمال النحل(، وتدبيره لمعاشه اختلاف كبير فإنه إذا أصاب خلية نظيفة نقية بنى فيها بيوتا من الموم وهو الشمع أولا ثم بنى البيوت التي تأوي فيها الملوك ثم بنى بيوت الذكر التي لا تعمل شيئا وهي اليعاسيب، والذكور أصغر جثثا من الإناث وهي تكثر المأوى داخل الخلية، وإن طارت فهي تخرج بأجمعها، وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية، والنحل تعمل أولا الشمع ثم تلقي البرز لأنه بمنزلة العش للطير، وإذا ألقت البرز تجلس عليه وتحضنه كما تحضن الطير، ويكون عند ذلك البرز دود أبيض موضوع على الشمع من جانب ثم تنهض الدودة وتغتذي بنفسها ثم تنشق له الأرجل، والأجنحة فيطير، وهو لا يقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد وإن تعد على زهر آخر إنما يقعد عليه بعد أن ينصرف إلى الخلية، والنحل يملأ بعض البيوت عسلا، وبعضها فراخا ذكورا فإذا اجتمعت الفراخ على ملك بدلا من آخر طارت فإن تبعها الملك الذي تركته قتلته والملك لا يخرج إلا مع جميع النحل، فإذا عجز عن الطيران حملته، ومن خصائص الملك أنه ليس له حمة يلسع بها، ولا يترك في الكوارة بطالا ولا جاهلا لا يجتني ولا ميتة، ولا قذرا بل يأمر بالإصلاح، والنشاط وأمره مطاع متبع وسيرته مرضية فيما بينهم، ويسمى اليعسوب، والنحل يجتمع فتقسم الأعمال فبعضها يحمل العسل وبعضها يحمل الشمع، وبعضها يستقي الماء، وبعضها يبني البيوت، وبيوتها من أعجب المباني لأنها مبنية على الشكل الذي لا ينتهك، ولا ينحرف كأنه استنبط بقياس هندسي ثم هو في دائرة لا يوجد فيها اختلاف وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض، ويقاتل بعضه بعضها ولا يتقاتل إلا في الخلايا، ويلسع من دنا من الخلية، وربما هلك الملسوع، وربما لسم بأن يعصر موضع اللسعة حتى تخرج الحمة، فإنه إذا لسع تركها مكان اللسعة، ومتى ذهبت الحمة من النحلة ماتت، وإذا هلك شيء من النحل داخل الخلايا أخرجه الأحياء إلى الخارج وفي طبعه النظافة ومن نظافته أنه يلقي رجيعه خارج الخلية لأنه منتن الريح وهو يعمل زماني الربيع والخريف، وما تعمله في الربيع، جود، والصغير أعمل من الكبير وهو يشرب من الماء إذا كان نقيا صافيا عذبا ويطلبه حيث كان ولا يأكل من الأكل إلا قدر شبعه، وإذا قل العسل في الخلية مذقه بالماء ليكثر خوفا من النفاذ وقد علم ذلك من حال المشتار فأنه إذا دخل الخلية وأخذ جميع ما فيها من العسل هلك النحل فإذا أراد بقاءه أخذ بعضه، وترك لها ما يقوتها زمن الشتاء، وما يغذيها عند عدم الزهر، وإذا نفذ العسل أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور، وربما قتلت ما كان في الخلية منها وتلقيه خارجا والنحل يسلخ جلده كالحيات، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة، فإنه إذا رقص وصفق بالأيدي اجتمع لذلك، والسوسن يضره، ودواؤده أن يطرح في كل خلية كف من الملح وأن تفتح في كل شهر مرة، ويدخن بزبل البقر، وفي طبعه أنه إذا طار من الخلية لا يزال حائما على الموضع الذي خرج منه حتى يأوي منه إلى شجرة أو سقف وفي طبعه الهداية، فإنه ربما اجتمع في حائط واحد مائة خلية فتخرج وترعى وتروح فتدخل كل نحلة من بيتها إلى خليتها، وأهل مصر يحولون الخلايا في المراكب ويسافرون بها إلى مواضع الزهر والثمر، فإذا أصبح المركب بمكان أرسي فيه وفتحت أبواب الخلايا فيخرج النحل منها ويرتعي يومه أجمع فإذا أمسى عاد إلى المركب وأخذ كل منها مكانه لا يتغير عنه ولهذا الحيوان من عجيب الفطنة وبديع الصنعة وترفيه المعيشة وتشييد المأوى وتدبير المربع والمشتى، والطاعة الكبيرة، والاستكانة لسائس أمره وقائد ما يتعجب من أموره ما ليس في صغير الحيوان ولا من كبيره

الوصف والتشبيه
وينسب لأبي نؤاس في وصفه:
نتاج نحل خلايا غير مفرقة ... خصبت بأطيب مصطاف ومشتاء

فطس الأنوف مغاوير مشمرة ... خوص العيون من الإمعان في التاء
مخضرات كزرق الصقليين بدوا ... في كل مفسوحة بالسحر رقشاء
من مقرب عشرات ذات زمزمة ... وعابد مبتغ منها وعذراء
تغدو فترجع ليلا عن مشاربها ... إلى ملوك ذوي عز واحباء
فهن مؤتمرات للرئيس معا ... تكتن في خدر فسيح وأرجاء
قال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي يصف شهدة بعث بها إلى بعض أصدقائه حيث يقول:
لله ريقة نحل ... حتى أرتوي من شفاء
رعى الربى والشعابا ... يمج منه رضابا
إن شئت كان طعاما ... أو شئت كان شرابا
وكتب مع هذه الأبيات نثرا جاء منه: وكفى النحلة فضيلة وجلالة صفات أو أوحي إليها، وأثنى الكتاب عليها بمساقط الانداء وراء البيداء فتقع هناك على كل نوارة عبقة، وبهارة أنقة، ثم تصدر عنها بما تطبعه شمعه، وتبدعه صنعه وترتشف منهما ما تحفظه رضابا وتلفظه شرابا، وتتجافى بعد منه عن أكرم مجتنى في أحكم مبتنى.

القول في طبائع الزنبور
ويسمى الدبر، قال أصحاب اللغة النحلة تسمى زنبورا، وإذا أطلق هذا الاسم فأما يراد به الدبر وهو جنسان جبلي وسهلي، فالجبلي يأوي الجبال والأماكن الحسنة، يعشعش على الشجر، ولونه إلى السواد، وفيه العمال والأمهات، وهي القواد، وبدء خلقه تتخذ دودا، فإذا خلق كسب الدبر العمال طعمها، وأدخلته عليها بيوتها، وهي تتخذ بيوتا من تراب وقماه كبيوت النحل، ويجعل لها أربعة أبواب لمهاب الرياح وإذا تولدت أمهات أخر قتل الدبر العمال ما كان منها في العام الأول ويتميز العمال من الأمهات بصغر الجثة، وله حمة يلسع بها وغذاء الدبر من الحيوان ومن الأثمار والأزهار، وصموغها، ومن العسل والسكر، والأشياء الحلوة إذا وجدها ومتى أخذ من الذكور أحد وشد جناحاه بخيط وترك يضطرب حوله الإناث وهي الأمهات، أما السهلي، ففيه العمال والأمهات أيضاً، ولونه أحمر، وهو يتخذ عشه تحت الأرض ويخرج التراب منه كما يفعل مختلف النمل، وهو يختفي في الشتاء، ولا يظهر وأكثره يهلك، ومن الدبر السهلي صنف مختلف اللون مستطيل الجسد، في طبعه الحرص والشره، يطلب المطابخ ويأكل ما فيها من اللحوم، ويطير مفردا، ويسكن بطن الأرض، وهذا الحيوان بأسره مقسوم في وسطه، وهو لذلك لا يتنفس من جوفه البتة، ومتى غمس في الدهن سكنت حركاته، وإنما ذلك يضيق منافذه والله أعلم بالصواب
الوصف والتشبيه
من الغريب البديع في وصفه ما يحكى أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت دخل على أبيه في حال الطفولية، فقال: ما أبكاك؟ قال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة، فقال له: قلت والله الاشعر يا بني.
وقال السلامي يصفه وأجاد:
ولابس لون واحد وهو طائر ... ملونة أبراده وهو واقع
أغر بردي طيه فكأنما ... وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حك أعلا رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع
يخاف إذا ولى ويؤمن مقبلا ... ويخفي على الأقران ما هو صانع
بدا فارسي الزي يعقد خصره ... عليه قباء زينته الوشائع
فمعجره الوردي أحر ناصع ... ومئزره التبري أصفر فاقع
يرجع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقي كؤوسا ملؤها السم ناقع
وقال السري الرفاء يصفه:
ومخطف الخصر برده حبر ... تخذره وهو خائف حذر
مجنح طار في.... مجنحه ... تصعد طورا به وتنحدر
كأنها والرياح تنشدها ... غرائب الزهر حين تنتشر
لها حمأة كأنها شعر ... تظهر مسودة وتستتر
قد أذهبت في الجبين غرته ... إذا فضضت في جيادنا الغرر
سلاحه الدهر في مؤخره ... يطعن طورا به وينتصر
كأنه شطر ما يجرده ... من بين فكيه حية ذكر
القول في طبائع العنكبوت

وإنما ذكرته مع ذي الجناح لأن له وثبا لا يعدوه الطيران، وهو أصناف منها صنف يسمى الرتيلاء سمها قاتل، وهو عنكبوت صغير، ومنه صنف طويل الأرجل ومنه صنف يسمى الليث يصيد الذبان صيد الفهود، والكلاب، وله ست عيون، وإذا أراد صيد الذباب لطا بالأرض وسكن أطرافه وجمع نفسه ثم وثب على ما يريد صيده فلا يخطئه، وهو يعض الأسد كما أن يعض الكلب ذبان الكلف، قال الجاحظ، ولد العنكبوت أعجب من الفروج الذي يظهر إلى الدنيا كاسيا كاسبا، لأن ولد العنكبوت يقوى على النسيج ساعة يولد من غير تلقين، ولا تعليم، والعنكبوت يطاول في السفاد، وإذا أراد الذكر الأنثى جذبت بعض خيوط نسجها من الوسط، فإذا فعلت ذلك فعل الذكر مثلها فلا يزالان يتدانيان حتى يتشابكا فتصير بطن الذكر قبالة بطن الأنثى، وأول ما يلد دودا صغارا ثم يتغير ويصير عنكبوتا، وهي تحضن وتقبل الصورة بعد ثلاثة أيام، ومن العنكبوت ما هو كبار جدا، ونسجه رديء على وجه الأرض والصخور ومنها ما هو حكيم دقيق الخلق، ومن حكمته أنه يمد السدي ثم يعمل اللحمة ويبتدئ من الوسط ويهيء موضعا لما يصيد في مكان آخر كالخزانة فإذا وقع شيء فيما نسجه وتحرك عمد إليه وشبك عليه حتى يضعف، فإذا علم ضعفه وحمله وذهب به إلى خزانته، فإن كان جائعا أكله، وإن لم يكن امتص رطوبته، وتركه حتى يجوع، وإذا كان المصيد قد خرق من النسج شيئا عاد ورمه، والأنثى هي التي تنسج والذكر يحل وينقض، والذي تنسجه لا تخرجه من جوفها بل من خارج جسدها، وهي في ذلك شبيه بما يلقي شعره وريشه وشوكه وجلده من الحيوان، وفم العنكبوت مشقوق بالطول لا بالعرض.

الوصف والتشبيه
قال ابن الرومي يصف فهد العنكبوت:
أعجب مستفاد ... أفادني زماني
من الفهود فهد ... في الاسم والعيان
تلك ذوات الأربع ... وذاك ذو ثمان
كأنما أرجله ... مخالب النغران
سيفاه سيفا بطل ... والدرع درع جان
مستأنس ما إن بنى ... والإنس في مكان
وصائد وهو من ال ... صائد في أمان
ذبابه في كفه ال ... طائر مثل العاني
ذبابه يبغي بدلا ... بطائر الخوان
إذا دنا فلم يكن ... بينهما غفران
عانقه أسرع من ... تعانق الأجفان
بخفة الوثوب بل ... بجرأة الجنان
فهو عزيز عزة ... في غاية الهوان
وقال خلف الأحمر في الرتيلاء:
إبعث له يا رب ذا أرجل ... في فمها احجن مثل المنجل
دهماء مثل العنكبوت المحول ... تأخذه من تحته ومن عل
وقال أبو نؤاس يصفه أيضاً:
وقانص محتقر ذميم ... كدري لون أغبر قتيم
مشتبك الأعجاز بالحيزوم ... ليس برعديد ولا حموم
ولا عن الحلة بالسؤوم ... لا يخلط الهمة بالتنويم
في طلب الدرة والعلجوم ... ومخرج اللحظة بالخيشوم
أضيف أرضا من محط الميم ... أو نقطة تحت جناح الجيم
كأنما دبيبه في النيم ... دبيب خمر بزلت خرطوم
أسرع من كره طرف يومي ... أو تسعة تنهض في يوم
أرسع من ذي لبدة هضوم
القول في طبائع الجرادة

قال الجاحظ: تقول سرأت الجرادة إذا باضت، فإذا خرج من بيضه فهو دبي، ويخرج دودا أصهب إلى البياض، فإذا تكونت فيه خطوط سود وصفر وبيض فهو المسيح، فإذا ضخم جناحه فذاك الكتفان، لأنه حينئذ يكتف المشي، فإذا ظهرت أجنحته، وصار أحمرا إلى الغبرة فهو الغوغاء، والواحدة غوغاة، وذلك حين يستقل فيموج بعضه في بعض، ولا يتوجه إلى جهة، فإذا بدت في لونه الحمرة والصفرة واختلف في ألوانه فهو الخفيان، فإذا اصفرت الذكور، واسودت الإناث سمي جرادا حينئذ، وهو إذا أراد أن يبيض التمس البيضة المواضع الصلبة والصخور الصلدة التي لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه، فتنفرج له ثم يلقي بيضه في ذلك الصدع فتكون له كالافحوص، ويكون حاضنا له ومربيا، وللجرادة ستة أرجل يدان في صدرها، وقائمتان في وسطها، ورجلان في مؤخرة جسدها، وطرفا رجليها منشاران، والجراد من الحيوان الذي ينقاد إلى رئيس يجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تابع كله ظاعنا، وإذا ترك أوله ترك جميعه ولعابه سم ناقع لا يقع على شيء إلا أهلكه، وجاء في الحديث )الجرادة نثرة من حوت(، ولذلك هو يؤكل ولا يذبح، وفي الجرادة خلقة عشرة من جبابرة الحيوان وجه الفرس، وعينا فيل، وعنق ثور، وقرنا أيل، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسر، وفخذا جمل، ورجل نعامة، وذنب حية

الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء يصف ما اجتمع فيه حيث يقول:
لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم
وقال بعض الأعراب يذكره افساده: باكرنا وسمى ثم خلفه ولى حتى كان الأرض وشي منشور عليه لؤلؤ منثور، ثم أتتنا غيوم جراد بمناحل حداد، فأخربت البلاد وأهلكت العباد فسبحان من يهلك القوي الأكول بالضعيف المأكول. وما أظرف قول القائل:
دب الجراد على زرعي فقلت له ... مهلا رويدك لا تعجل بافساد
فقال منهم خطيب فوق سنبلة ... إنا على سفر لا بد من زاد
وقال أبو هلال العسكري يصف جرادة:
أجنحة كأنها ... أردية من قصب
لكنها منقوطة ... مثل صدور الكتب
بأرجل كأنها ... مناشير من ذهب
وقال أيضا فيها:
وأعرابية ترتاد زادا ... فتمرق من بلاد في بلاد
غدت تمشي بمنشار كليل ... تبوع به قرارة كل واد
وتنشر في الهواء عذبات شرى ... على أرجائه نقط المداد
وقال يعلي بن إبراهيم الأندلسي يصف دبأة:
وخيفانة صفراء القرا ... أتتك بلون أسود فوق أصفر
وأجنحة قد ألحقتها لرؤية ... تقاصر عن أنثاه برد محبر
وقال آخر في ذلك:
جرادة حنت القلوب لها ... حين أشارت بناظري ربرب
صفراء حسن يشوبها رقط ... في نقط من عبيرها الأشهب
كأنها والجناح حلتها ... راقصة في ممسك مذهب
القول في طبائع دود القز
وإنما ذكرته مع ذي الجناح لأن ماله إليه كما سنذكر، وذلك أنه يكون أولا بزرا في قدر حب التين، وهو البيض الذي يتكون فيه وخروجه منه عند استقبال فصل الربيع، وهيئته عند الخروج أصغر من الذر وفي لونه، وهو يخرج في الأماكن الدافئة من غير حضن، إذا كان مصرورا مجعولا في حق، وما تأخر خروجه تضعه النساء تحت ثديهن في صرره، فإذا خرج أطعم ورق التوت، ولا يزال يكبر ويعظم إلى أن يكون في قدر الإصبع، وينتقل من السواد إلى البياض أولا فأول، وذلك في مدة ستين يوما على الأكثر ثم يأخذ في النسيج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن ينفد ما في جوفه منه، ويكمل عليه ما يبنيه، فتكون كهيئة الجوزة ويبقى فيه محبوسا قريبا من عشرة أيام ثم ينقب عن نفسه تلك الجوزة، ويخرج منها فراشا أبيضا ذا جناحين لا يسكنان من الاضطراب الحركة، وعند خروجه يهيج إلى السفاد فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى، ويلتحمان مدة زمانية ثم يفترقان، وتنثر الأنثى البزر الذي قدمناه ذكره على الخرق البيض، تفرش قصدا إلى أن ينفد ما فيها منه ثم يموتان، هذا إذا أريد منهما البزر، وإذا أريد الحرير تركت في الشمس بعد فراغه من النسج لعشرة أيام، يوما أو بعض يوم فيموت، وما أحسن ما أشار إليه الشاعر بما يؤول إليه حال هذا الحيوان وضربه مثلا للحرص على جمع المال:

يعني البخيل بجمع المال مدته ... وللحوادث والأيام ما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهلكها ... وغير بالذي يبنيه ينتفع
وهو كثير العوارض لرقة بشرته بينما صحيحا بادي الصلاح مسرورا به إذ دخل عليه عارض، لا يدري فيصغر ويذبل ويموت، وكثيرا ما يلحقه ذلك عندما يريد أن ينسج، وبعد ما تعب على معاناته، ويقال أن السبب إطعامه ورق التوت الحامض، وفيه من أسرار الطبيعة في حال تربيته أنه يهلك من صوت الرعد، وضرب الطشت والهاون، ومن شم الخل، والدخان، ومس الحائض والجنب ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنحل والوزع، والحر الكثير يهلكه، وكذلك البرد الشديد، ومن عجيب شأنه أنه لما كان ورق التوت فوقه كان أول ما يورق من الأشجار، ويوافق ذلك خروج الدود من بيضه فهو يبتدئ مع ورق التوت وينهي عندما ينتهي في الرطوبة، وبينهما مناسبة عجيبة إذ يصير من هذا الورق المحتقر حرير جليل ذو جوهر شريف.

الوصف والتشبيه
قال بعض الشعراء فيها على طريق الألغاز:
وبيضة تحضن في يومين ... حتى إذا دبت على رجلين
واستبدلت بلونها لونين ... حاكت لها خبيئا بلا تزيين
بلا سما وبلا بابين ... وتنقبه بعد ليلتين
فخرجت مكحولة العينين ... قد صنعت بالنقش حاجبين
قصيرة ضئيلة الجبين ... شأنها قد قطعت تاتين
لها جناح سابغ البردين ... ما ثبتا إلا لقرب الحين
إن الردى كحل لكل عين
القول في طبائع الذباب
والعرب تجعل الذباب والفراش والنحل والدبر كلها من الذباب، ويقال إن الذباب يكثر إذا هجت ريح الجنوب، وإنه يخلق تلك الساعة، وإذا هبت ريح الشمال خف وتلاشى وهو من ذوات الخراطيم، وكذلك البعوض ويزعم القائم لهذا: إن الذباب يخرجه ويدخله، متى أحب الأكل، والولوغ، ومن عجيب أمره أنه يلقي رجعيه على الشيء الأسود أبيضا وعلى الأبيض أسودا وقال أصحاب الفحص عن طبائع الحيوان: الذباب لا يظهر إلا في مواضع العفونة والأماكن المستقذرة، فإنه يخلق من أجزاء تلك العفونة، وهو من الخلق الذي مبدأ خلقه من العفونات، ثم يكون السفاد، ويخلق دودا ثم يصير ذبابا وإذا سفد أبطأ في سفاده، وربما بقى الذكر على ظهر الأنثى عامة النهار وهو يتجاوز في ذلك البعير والخنزير والكلب، وهو من الحيوانات الشمسية وذلك أنه يخفي شتاء، ويظهر صيفا، وفيه من أسرار الطبيعة أنه لما لم يخلق لعينيه أجفان يدرأ بهما القذى عنها، كما خلق لسائر الحيوان خلق له في مقدم بدنه يدان زائدتان تتحركان أبدا كحركة الأجفان ليفعلا فعلهما في تنظيف القذى من عينيه لتبقى صافية، وقال عنترة بن شداد يصفه بذلك من قصيدته المعلقة
وخلا الذباب بها فليس يبارح ... هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الاجدم
القول في طبائع البعوض

وهو صنفان: صنف يشبه القراد لكن أرجله خفية، ورطوبته ظاهرة يسمى بالعراق والشام الجرجس، وبمصر البق، ويشم رائحة الإنسان وتعلق به كقراد الجمل والكلب وله لسع شديد جدا، ويقال أنه يتولد من النفس الحار، ولشدة رغبته في الإنسان لا يتمالك إذا شم رائحته، فإن في السقف رمى بنفسه عليه فلا يخطئه، والصنف الآخر طائر، ويسميه العراقيون البق، ويسميه المصريون الناموس، والماء الراكد يولده فإن صار الماء رقراقا استحال دعاميصا، والدعاميص تستحيل فراشا، والبعوض في خلقة الفيل إلا أنه أكبر أعضاء منه، فإن للفيل أربعة أرجل وخرطوما وذنبا، وله مع هذه الأعضاء يدان زائدتان، وأربعة أجنحة وخرطوم الفيل مصمت، وخرطومه أجوف نافذ الخرق، فإذا طعن به جلد الإنسان استقى منه الدم، وقذف به إلى جوفه، فهو له كالبلعوم والحلقوم، ومما ألهم أنه إذا جلس على عضو من أعضاء الإنسان لا يزال يتوخى بخرطومه السان التي يخرج منها النفس والعرق، لأنها أرق بشرة جلد الإنسان، وإذا وجدها وضع خرطومه فيها وهذا الخرطوم على هيئة خرطوم الفيل فيه غضون كبيرة يجمعه بها ويحده إذا أحب بتدريج في خلقه من الدقة إلى الغلظ على تناسب مخصوص، وله رأس هذا الخرطوم سم يستعين به على تليين الجلد الذي يقع عليه، وعلى هضم ما يبتلعه من دم وفيه من الشره أنه يمتص من دم الإنسان إلى أن ينشق ويموت أو يمص إلى أن يعجز من الطيران فيكون ذلك سبب قتله، وله في خرطومه من القوة بحيث أنه يغمسه في جلد الفيل، والجاموس كما يغمس في الإنسان إصبعه في الثريد. ومن طرائف أمر البعوض، أنه ربما قتل البعير وغيره من ذوات الأربع فيبقى طريحا في الصحراء فتجتمع حوله من السباع والطير التي تأكل الجيف فمتى أكل منه شيء منها مات لوقته في موضعه، وكان بعض جبابرة الولاة بالعراق يقتل بالبعوض بأن يأخذ من يريد قتله تعذيبا فيخرجه مجردا إلى بعض الآجام التي بالبطائح فيتركه بها مكتوفا فيقتله في أرجى وقت وأسرعه، ولهذا قال الجاحظ وبعوض البطائح كجرارات الأهواز، وعقارب شهرزور، فربما ظفر بالسكران النائم فلا يبقى فيه إلا عظما عارية وهي على صغر جرمها قد أودع الله في مقدم دماغها قوة الحفظ، وفي وسطه قوة الفكر، وفي مؤخره قوة الذكر، وخلق لها حاسة البصر، وحاسة اللمس وحاسة السمع، وحاسة الشم، وخلق لها منفذا للغذاء ومخرجا للفضلة، ومتى كان الأمر كذلك فقد خلق لها جوفا وأمعاء وعروقا وعظاما، فسبحان من قدر فهدى، ولم يخلق شيئا من المخلوقات سدى وقال الزمخشري في تفسيره، وفي خلق الله تعالى أصغر من البعوضة وأقل الدرجات فربما تجد في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها البصر الحاد إلا بحركتها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت بها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها فسبحان من يدرك صورة تلك ويرى أعضائها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقها، ويبصر بصرها ويطلع على خبرها، وقال بعض المخلصين في دعائه والمستغيث بندائه:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان مني في الزمان الأول

الوصف والتشبيه
قال بعض الظرفاء:
بعوض جعلن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني
كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن القيان
وقال آخر يصف بعوضة:
مثل الشفاه دائم طنينها ... ركب في خرطومها سكينها
وقال أبو إسحاق الصابي:
وليلة لم أذق من حرها وسنا ... كأن في جوفها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذه أجب ... ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
من كل شائكة الخرطوم طاعنة ... لا يمنع الحجب مسراها ولا الكلل
كانوا علينا وحر الصيف ينضجا ... حتى إذا نضجت أجسادنا أكلوا
القول في طبائع البراغيث

وإنما ذكرناه مع ذي الجناح لأنه من الحيوان الذي له الوثب الذي لا يقصر عن الطيران، وقد حكى الجاحظ عن يحيى بن خالد البرمكي أن البرغوث من الخلق الذي يعرض له الطيران كما يعرض للنمل، والبرغوث مشاء ووثاب، والوثاب من البراغيث لا تمشي وهي تتناكح مستدبرة متعاضلة، والبرغوث يطيل السفاد، ويبيض، ويفرخ بعد أن يتولد وهو يتولد من التراب لا سيما في المواضع المظلمة، سلطانه، زمن الشتاء والربيع، وإذا اشتد عليه الحر هلك، وهو أحدب أسود ويقال أنه في صورة الفيل وله أنياب يعض بها وخرطوم يمتص به الدم وأرجل تصلح للوثب، ويكمن نهارا ويرتع في الأبدان ليلا وتكثر بمصر، ويطول لبثه فيها، ولا يوجد منه شيء في البلاد الشديدة الحر مثل صعيد مصر، ولا في البلاد الشديدة البرد، وتسميه العرب طامر بن طامر لما فيه من الوثب.

الوصف والتشبيه
قال شاعر مصري جمع بين البق والبعوض والبراغيث:
نومي على ظهر الفراش مبغض ... والليل فيه زيادة لا تنقص
ما عاديات كالذباب تدأبت ... وسرت على عجل فلا تتربص
جعلت مدي خمرا بدائم شربها ... مسترخصات منه ما لا يرخص
فترى البعوض تقينا برتابة ... والبق يسرق والبراغيث ترقص
وقال بعض الأعراب يصف البراغيث وقد سكن مصر:
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بحنو الغضا ليلي علي يطول
يؤرقني حدب صغار أذلة ... وإن الذي يوقظنه لذليل
إذا ما قتلناهن أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهن قتيل
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيل
الباب التاسع
في طبائع حيوان البحر والمشترك

قال ابن أبي الأشعث: وكل حيوان البحر يأوي الماء ويستنشقه كما نستنشق نحن الهواء إلا أنا نستنشقه ومن جرى مجرانا من الحيوان بأنوفنا وينفد إلى الحنك ثم إلى الرئة والسمك يستنشقه بأصداغه فيقوم له الماء في تولد الروح الحيواني في قلبه، ويفي الفضل الشبيه بالدخاني مقام الهواء فينا، ولهذا الحيوان أنف يشم به فقط، وللنفس النفسانية فينا دم وهواء، وهي في السمك دم وماء فقط وإنما استغنى عن الهواء في إقامة الحياة، ولم نستغن نحن وما أشبهنا من الحيوان عنه لأنه في عالم الماء، والأرض دون عالم الهواء ونحن في عالم الماء والهواء والأرض وذلك إنما نغتذي بالبزور والقضب والحيوان، وهذا من جوهر الأرض، ويشرب الماء ويستنشق الهواء، والسمك كله شره كثير الأكل لأمرين: أحدهما: برد مزاج معدته. والآخر قربها من فمه، ولأنه ليس له عنق ولا قصبة رئة طويلة وحيوان البحر لا صوت له إذ لا رئة له، وبعضه يتنفس في الهواء، ولا صوت له إذ لا حلقوم له، وبعضه له صوت ضعيف رديء، وحاسة الشم فيه قوية، أقوى منها فينا وأشد سمعا منا، وسبب ذلك أن صماخه أصلب من اصمختنا لأن اصمختنا غضروفية واصمخته من جوهر اصداعه، فمصاكة الأصوات لها أشد وقعا وأبصارنا أشد من أبصاره لكدر الروح النفساني فيه لأنه ينظر من غير هواء، فلذلك إذا قربت منه وهو راكد لا يتحرك، فإن صوت به نفر، فعلم من ذلك أن حاسة البصر فيه غير مناسبة لحاسة السمع، ولسانه غليظ قصير، وهو شبيه باللسان وليس لسانا حقيقيا لأن اللسان للصوت، وليس هو مصوتا، واللسان يقلب الغذاء على الأضراس عند المضغ، وهذا الحيوان لأي مضغ دائما، وإنما لسانه يحس الطعام ولأنه سداد لحنجرته، وحماما لحرارة جوفه، وله أضراس، وليست للمضغ، وإنما هي لقتل ما يفترسه من حيوان الماء، والأرض، يطبقها عليه، وفعله هذا يشبه فعل الحية، فإنها تبلع ما ليس بحيوان ازدرادا، وتنهش الحيوان، وتثبت فيه أضراسها، وتفرغ فيه سما يكون سببا لقتله ومقربا له من طبعها ليجود بذلك طعمها وسبيلها في ذلك سبيلنا في تدبيرنا الأغذية بالنار لنقربها من طباعنا إلا أن ذلك لنا بالعقل، ولها بالطبع، ولهذا شعبتان ذواتا مفصلين هما له عوضا عن الخرطوم، أو من اليد المتناول بها ما تأكله، تحركهما كيف تشاء كما يحرك ذو الخرطوم خرطومه، وذو اليد يده، وإنما لم تخلق له القوائم لأنه حيوان سابح، وليس بحيوان ماش، ولذلك خلقت آلات السباحة والحركة في الماء، وكذلك الحية لما لم تكن ماشية لم تخلق لها القوائم، فخلقت طويلة ليكون ذلك أسرع لحركتها على الأرض، والسمك يفر ويركد، وصغاره تحترس من كباره بأن تطلب الشط والماء القليل الذي لا يحمل الكبير، وهو شديد الحول والقوة جدا، وذلك إن قوته المحركة للإرادة تجري في مسلك واحد، ولا ينقسم في يد أو رجل أو شيء مما يستغل القوة، وهذا بعينه موجود في الحيات، حتى أنه إذا دخل في جحر لم يقدر ذو البطش الشديد من الرجال أن ينتزعها وإن جرها بأشد ما يقدر عليه، واختلف الناس في سفاده، وأقوى الأقاويل أنه يسفد مثل الحية، وإن الذكر يلقح بسفدة يسفدها كثيرا مما في جف الأنثى من البيض، كما يلقح بالشيء اليسير من الكثير وهو ذكر النحل الكثير منها، وعلى هذا إن القول لا يقطع به، وقال أرسطو: من السمك ما يتولد من سفاد ومن بيض ومنه ما يتولد من ذاته، أما من الطين وأما من الحمأة، وأما من الرمل، وأما من العفونة التي تطفو على الماء، وخاصة إذا كانت العفونات غالبة، وتكون في الأرض الذي يكون فيها الطحلب من البحر وتكون على شطوط الأنهار والينابيع، لأن الحرارة تغلب على تلك الأرض فتعفن، ويتولد من عفنها دود يتخلق منه ضروب من السمك وبيض السمك ليس فيه بياض وصفرة، وإنما هو لون واحد، وقال الجاحظ: في السمك القواطع، والأوابد كما في الطير، فإن أهل البصرة والابلة يأتيهم السمك الأسبور ثلاثة أشهر في السنة ثم ينقطع عنهم تسعة أشهر ويخلفه غيره في هذه المدة، ويسمى الجواف ثم يذهب ويعود الأسبور ويقطع إليهم سمك يسمى البرستوك من بلاد الزنج، ولا يوجد في الزنج في الوقت الذي يوجد عندهم، فكذا لا يوجد في البصرة في الوقت الذي يكون في الزنج، وعد أصنافا كثيرة كذلك، ومن أصناف السمك ما هو في شكل الحيات، وهو من أصناف الحشرات والدواب والسباع، فتوالدت تلك الحيات هناك، وأما أن يكون كانت

أمهاتها وآباؤها من ذوات الماء، ثم قال: وكيف دارت الأمور، فإن الحيات في الأصل مائية لأنها مما يعيش في الهواء، وفي الماء كما تعيش في السباسب الجرد، والصخور الصم، وكما تعيش في الرياض والأدغال، وكذا تعيش في الجبال والرمال.

الوصف والتشبيه
أحسن ما وقع لي من ذلك قول بعض كتاب الأندلس من رسالة: تبرق بريق الصوارم المسلولة، وتلمع لمعان الذوابل المصقولة، مدنرة الأصلاب، مفصصة البطون، مذهبة الأفواه، مجزعة العيون، تصل صليل الرقوق في اضطرابها، وتخطر خطرات العجول بأذنابها.
وقال عطاء بن يعقوب يصف حوتا من رسالة يستدعي بها صديقا، قد أهدى لنا صديق سمكة قد لبست من جلدها شبكة تشبه حملا شكلا وقدا، أو جرابا قد أملئ زبدا، كأنها أرادت أن تحارب السماك، أو حوت الأفلاك، فلبست من جلدها جوشنا مزردا وسلت من ذنبها سيفا مجردا. وقال ابن الرومي يخاطب رئيسا ويستدعي منها سمكا:
يا من أضاء شهاب غرته ... فجلا ظلام الليل ذي الحلك
عسرت علينا دعوة السمك ... أنى وجودك ضامن الدرك
إعلم وقيت الجهل أنك في ... قصر تلته مطارح الشبك
وبنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
بيض كأمثال السبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك
حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحل معاقد التكك
والناقة الغرثاء يرقبها ... قلق الخواطر متعب الملك
فليصطد الصياد حاجتنا ... يصطد موداتنا بلا شرك
فثناء مثلي غير مطرح ... وسؤال مثلك غير مترك
ولآخر:
بأحسنهن كاملها ... بيضاء قصف
ومرهفات قد ... طواهن هيف
نوات أرواح ... خفاف تستخف
فهي كمثل الطير ... في الماء تشف
ومثل هذا قول أبي عبادة البحتري وذكر بركة:
لا يبلغ السمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصديها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنحة ... كالطير ينقض في جو خوافيها
فصل
ومن عجائب الدواب البحرية الدلفين، والرعاد ويوجدان بنيل مصر إلا أن الدلفين يقذفه البحر المالح إلى النيل، فأما الدلفين فصفته كالزق المنفوخ وله رأس صغير جدا، ويقال ليس في دواب البحر ماله رئة غيره، فلذلك يسمح له بالتنفس والنفخ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته فإنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه، وهو من أقوى الدواب المائية، ولا يؤذي، ولا يأكل السمك، وربما ظهر على وجه الأرض وهو نائم كأنه ميت، وهو يلد ويرضع، وأولاده تتبعه حيث ذهب، ولا يلد إلا في الصيف، وفي طبعه الدعة والاستئناس بالناس، وخاصة الصبيان، وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال صائده فإذا أطلقه لها انصرفت، والكبير منها تتبعه الصغار ليحفظها، وهو إذا رام صيد السمك صار إلى العمق خلفه في طرفة عين، وإذا لبث في العمق حينا حبس نفسه، وصعد بعد ذلك مسرعا مثل السهم يطلب التنفس، فإذا كانت بين يديه سفينة وثب وثبة يتجاوز بها الدقل إلى الناحية الأخرى، وهو يتزاوج في حركته فلا يرى ذكر إلا مع أنثى.
وأما الرعاد: ففيه من الخاصة أن أحدا من الناس لا يقدر أن يمسه، ومتى وضع الإنسان يده عليه نزعها بحركته وصاح صيحة منكرة ربما دهش بها الإنسان، ووجد في فؤاده خفقانا من ذلك، وفي البحر من عجائب المخلوقات ما لا يسع وصفها كتاب ولا يأتي على القليل منها استيعاب، ويكفي في الإخبار عن ذلك قول القائل حدث عن البحر ولا حرج، وهذا لفظ صدر عن صدر ضاق من كثرة الفحص وحرج.
فصل
وأما المشترك: فإن ابن أبي الأشعث يسميه المائي الأرضي لأنه يأتي الماء ويرتعي فيه، ويستنشق الهواء كما يستنشق الماء ويدب على الأرض ويسعى فيها ولا يحدث بعدم لأنه يستنشق الهواء كما يستنشق الماء إلا أن لبثه في الماء أكثر من لبثه على الأرض، وإيثاره له أكثر من إيثاره لها وأهم ما نبدأ بذكر منه:
القول في طبائع التمساح

وهذا الحيوان لا يكون إلا في نيل مصر، وقد زعم قوم أنه في نهر مهران السند، وهو شديد البطش في الماء، ولا يدخل عليه الأذى إلا من ابطيه، ومنه مقتله ويعظم إلى أن يكون طوله عشرون ذراعا في عرض ذراعين وأكثر، ويفترس الفرس والإنسان، وما أضرف قول أبي نؤاس وقد أنكر هذه الحالة منه حيث يقول:
أضمرت للنيل هجرانا ومقلية ... إذ قيل لي إنما التمساح في النيل
فمن رأى النيل رأي العين من كثب ... فما أرى النيل إلا في البواقيل
وهو إذا أراد السفاد خرج والأنثى إلى البر فيقلبها على ظهرها واستبطنها فإذا فرغ قلبها لأنها لا تتمكن من الانقلاب لقصر يديها ورجليها، ويبس ظهرها وهو إذا تركها على ظهرها لم تزل على تلك الحال حتى تنقلب، وهي تبيض في البر فما وقع صار تمساحا، وما بقي صار سقنقورا، والتمساح يحرك فكه الأعلى دون الأسفل ولسانه معلق به، ويقال: أنه ليس له مخرج، وإن جوفه إذا امتلأ خرج إلى البر وفتح فمه فجيء طائر معروف بذلك صغير أرقط لا يسقط على فم تمساح إذا فتحه غيره، فلا يزال ينقره بمنقاره ما في جوفه حتى يأتي عليه أو على بعضه فالطائر يأتي يطلب الطعام على معرفة به، فيكون في ذلك غذاء الطائر وراحة التمساح وبعض الناس يقول: إن في رأس هذا الطائر شوكة، فإذا أغلق التمساح عليه فمه حسه بها فيفتحه، وزعم بعض الباحثين عن طبائع الحيوان للتمساح ستين سنا وستين عرقا، ويسفد ستين مرة، ويبيض ستين بيضة ويعيش ستين سنة، ويوجد في سطح جلده مما يلي بطنه سلعة كالبيضة فيها رطوبة دموية كنافجة المسك لا يغادر من رائحة السمك شيئا إلا أنها تنقطع بعد أشهر.

الوصف والتشبيه
وصفه شاعر وأجاد:
وذي هامة كالترس يفغر عن فم ... يضم على مثل الحسام المثلم
ويفتر عن مثل المناشير ركبت ... على مشفر مثل القليب المهدم
مشى في شواة من فقارة غيلم ... وسقف لحيا عن مناكب شيهم
القول في طبائع السقنقور
وبعض أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يسميه الحرذون البحري، ويقال أيضا أنه ورل مائي، ومنه ما هو مصري، وما هو هندي وما يتولد في بحر القلزم وببلاد الحبشة وهو يغتذي في الماء بالسمك، وفي البر بالعظايات يسترطه كالحيات وجلده في غاية الحسن لما فيه من التدبيج بالسواد والصفرة والأنثى تبيض عشرين بيضة، وتدفنها في الرمل فتكمل بحرارة الهواء، ويكون ذلك حضنا لها، وقال التميمي: لأنثاه فرجان، ولذكره نزكان كما في الضباب، ومن عجيب ما ركب فيه من الطباع أنه إذا عض إنسانا وسبقه الإنسان إلى الماء واغتسل منه مات السقنقور، وإن سبق السقنقور إلى الماء مات الإنسان وبينه وبين الحية عداوة متى ظفر أحدهما بصاحبه قتله.
القول في طبائع السلحفاة
قال الباحثون عن طبائع الحيوان: السلحفاة تبيض في البر فما أقام به سمي سلحفاة وما وقع إلى البحر سمي لجأة، فأما ما بقي في البر فإنه يعظم حتى لا يكاد الرجل الشديد يحمله وما ينزل البحر يعظم حتى لا يكاد الحمار العاسي يحمله، وربما وجد فيها ما وزنه أربعمائة رطل، وفيها أربعمائة بيضة كبيض الدجاج، ثم صار بريا فوقع إلى البحر تلف، ولم يستطع الرجوع إلى البر وما صار بحريا فخرج إلى البر وأصابه حر الشمس تلف ولم يستطع الرجوع إلى البحر وللسلحفاة حيلة عجيبة وتوصل خفي في الصيد الذي تصيده من الطائر، فإنه يصعد من الماء ويتمرغ في التراب، ويأتي موضعا قد سقط الطير عليه لشرب الماء فيخفى عليها بكورة لونه التي اكتسبها من الماء والتراب فيصيد منها ما يكون قوتا له، ويدخل الماء ليموت فيأكله، والسلحفاة تحضن بيضها بالنظر إليه، والرصد لا غير، وللذكر نزكان، وللأنثى فرجان، والذكر يطيل المكث في السفاد، وهذا الحيوان مولع بأكل الحيات، وإذا أكلها أكل بعدها صعترا يدفع به سمها.
الوصف والتشبيه
قال شاعر يصفها:
وسلحفاة يمج ... سكونها والحركة
شبهتها بديلمي ... ساقط في معركة
مستتر بترسه ... عمن عسى أن يهلكه
وقال أبو بكر الخوارزمي يصفها:
بنت ماء بدت لنا من بعيد ... مثل ما قد طوى البحاري سفره
رأسها رأس حية وقراها ... ظهر ترس وجلدها جلد صخرة
مثل فهر العطار دق به العط ... ر فحلت طرائق الطيب ظهره

أو كما قد قلبت جفنه شرب ... نقوشها بحمره وصفره
يقطع الخوف رأسها فإذا ما ... أمنته فرأسها مستقرة
وقال ابن صارة الأندلسي يصفها وذكر بركة:
لله مسحورة في شكل ناظره ... حيث الازاهر أجفان وطف
بها سلاحيف الهانئ تغامسها ... في مائها ولها من عريض لحف
تنافر الشط إلا حين يحصرها ... برد الشتاء فتسد في وتنصرف
كأنها حين يبد بها تشوقها ... حبس النصارى على أكتافها الحجف
ولآخر:
لحى الله ذات فم أخرس ... تطيل من العي وسواسها
تكب على ظهرها... ترسها ... وتظهر من جلدها رأسها
إذا الحذر أقلق أحشاءها ... وضيق بالخوف أنفاسها
تضم إلى نحرها كفها ... وتدخل في جوفها رأسها

القول في طبائع الفرس النهري
وهو من أعظم الحيوان المشترك جثة ولا يوجد إلا بنيل مصر، وخلقته خلقة الفرس إلا أن وجهه أوسع وله ظلفان كالبقر وفي رجليه كعاب مثل كعاب ذي الظلف، )وصوته كصوت الفرس وعظمه كعظم الحمار(، وقوائمه قصيرة جدا أشبه شيء بقوائم الفيل، وهو أعظم من الجاموس، وصورته عظيمة جدا، وله أنياب طوال غلاظ صلاب يكسر بها السفن المحكمة، وأسنانه صفين وذنبه وكأنه حيوان ركب تركيب الطبيعة كما ركبت الزرافة والنعامة، والنمر، )هذه الزيادة من كتاب عبد اللطيف البغدادي، وله ناصية، وجلده مثل جلد الجاموس غليظ جدا، وذنبه مثل ذنب الخنزير، وصوته يشبه صوت الفرس، وجوفه كذلك( ومن أسرار الطبيعة أنه يخرج من النيل ويرعى زهر وليس يبدأ إذا رعى من أدنى الزرع إليه، ولكنه يحوز منه قدر ما يأكل ثم يبتدئ من حيث انتهى إليه مقبلا إلى البحر وربما فاه في المكان الذي يرعى فيه فينبت أيضا، وهو يقتل التمساح ويقهره ويساجله الحرب، ويكون القتال بينهما دولا وأهل ريف مصر إذا رأوا اثر حافره كان ذلك عندهم دليلا على توفو زيادة النيل وكثرة الخصب
القول في طبائع الجندبادستر
ويسمى كلب الماء ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق وما يليها، ويسمى السمور أيضاً وهو على هيئة الثعلب أحمر اللون لا يدان له، وله رجلان، وذنب طويل ورأسه كرأس الإنسان، ووجهه مدور، وهو يمشي متكئا على صدره كأنه يمشي على أربع، وله أربع خصي اثنتان باطنتان، واثنتان ظاهرتان، وفيه أسرار الطبيعة أنه إذا رأى الصيادين له، لأجل الجندبادستر وهو الموجود في انثييه البارزتين، يجدون في طلبه قطعهما بفيه، ورمى بهما إليهم، إذ لا حاجة لهم إلا بهما فإن لم يبصرهما الصيادون وداوموا على الجد في طلبه استلقى على ظهره حين يريهم الدم فيعلموا أنه قطعهما، فينصرفون عنه، وهو إذا قطع الظاهرتين تبرز الباطنتان وعوض عنهما غيرهما، والجندبادستر بالفارسية كبد فعرب، وتفسيره الخصية، وفي داخل الخصية شبه الدم والعسل، زهم الرائحة سريع التفرك، إذا جف، ذكر جالينوس أن هذا الحيوان ليس فيه غير الجدنبادستر، وقال أنه يوكر على الأرض، ويولد عليها ويرعى فيها ويهرب إلى الماء، ويعتصم به ويمكنه أن يلبث فيه سابحا زمانا ثم يخرج إلى الهواء.
القول في طبائع القندس والقاقم
فأما القندس فإنه يغتذي بالسمك والنبات، وقد شرف الله تعالى جلده وعظمه إذ جعل الملوك يتخذون منه التيجان، ويطوقون به الأطواق والأذيال والأردان، ويقول أصحاب الكلام في طبائع الحيوان أنه فيه سادة وعبيد، وأنه يتخذ مساكن مرتبة كترتيب مساكن الناس، والأحرار منهم يتخذون صففا يكونون عليها، وفي أسفلها مواضع للعبيد، ولبيوتهم أبواب إلى البر، وأبواب إلى النهر ويعبر بعضهم على بعض، والحر لا يكتسب، وإنما يكتسب العبد له ولسيده، ويعرف جلد العبد بحسن لونه وبصيصه وأهل بلاده يسلخون خراطيمه، وخراطيم السمور ويتعاملون كما يتعامل بالدراهم والدنانير، بشرط أن يكون عليها ختم المالك.
وأما القاقم وهو يشبه السنجاب إلا أنه أبرد منه وأرطب، ولهذا هو أبيض يقق وهو يجلب من البحر الخزري، ويشبه جلده جلد الفيل، ورأيت في بعض المجاميع المجهولة، أن في بعض البحار شاة شعراء تكون في البر مع البهائم حين ترعى فإذا فرغت من رعيها عادت إلى الماء، وتأكل من السمك وذكر فيها خواصا ليس ذكرها من شرطي كتابي.

وذكر بعضهم دابة سماها خز الماء، ولم يسم المكان الذي تكون فيه وقال أنها مثال ابن عرس أو قليلا، سباحتها في الماء كجريها في البر، لها وبر ناعم يعمل منه ثياب الخز.

القول في طبائع الضفدع
وهو أصناف كثيرة، ويكون من سفاد وغير سفاد، فالذي يكون من سفاد يبيض في البر، ويعيش في الماء، والذي من غير سفاد يتولد من المياه القائمة الضعيفة الجري، ومن العفونات، وغب الأمطار، حتى يظن أنه يقع من السحاب لكثرته وكثرة ما يرى منه على السطحة عقيب المطر والريح، وليس ذلك عن ذكر وأنثى وإنما الله تعالى يخلقه في تلك الساعة من طباع تلك التربة والضفادع لا تؤثر أن تستنشق الهواء إلا أنها إذا اضطرت إليه فعلته، وهي من الحيوان الذي لا عظام فيه ويوصف بالرسح، وتقول العرب في أمثالها )ارسح من ضفدع(، ويوصف بالحذر، وفي المثل )احذر من غراب وعصفور وعقعق وضفدع(، وإذا أراد النقيق أدخل فكه الأسفل في الماء، ومتى دخل الماء فيه لا ينيق.
وما أطرف قول بعض الشعراء وقد ليم على قلة كلامه:
قالت الضفدع قولا ... فسرته الحكماء
في فمي ماء وهل ... ينطق من في فيه ماء
ويعرض للضفدع مثل ما يعرض لبعض الوحوش من النار حيرة إذا رأتها وفكر فيها، وعجب منها، لأن الضفدع ينق فإذا أبصر النار سكت، ولا يزال يدمن النظر إليها، ولذلك يتخذ للضفادع السرج إذا كثر نقيقها، ولذلك تسكت إذا رأت ضوء النهار.
الوصف والتشبيه
ومقعدات زانهن أرجل ... كقعدة الناكح حين ينزل
يكسين وشيا وعيون تكحل
ولآخر:
دعتك في فاضة مدنرة ... ليس لها طرة ولا هدب
قد نسجت من زبرجد فجرى ... بين تضاعيف نسجها الذهب
يطيل صمتا نهاره فإذا ... أدركه الليل بات يصطخب
وهو وإن لم يغط مقلته ... جفن ولا امتد خلفه ذنب
يعجبني ما رآه منه ففي ... خلقته واختلافها عجب
وقال أبو بكر الخوارزمي:
أتعني والديك لما نيطق ... والليل في سربال دخن مطبق
لم يدم كشحاه بضع الفلق ... والنجم في الأفق كعين الأزرق
صوت غريق بعضه لم يفرق ... غصان بالماء ولما يشرق
وجاحظ العين ولما يخنق ... وساهر الليل ولما يعشق
هو الغراب في الخطى والمنطق ... جلد سلحفاة وثب عقعق
وصوت مخنوق ونفخ أشدق ... يرمج لج الماء رمح المحفق
كحذق ملاح غدا فيث زورق
القول في طبائع السرطان
والسرطان جيد المشي، سريع العدو ذو فكين، مخالب وأظفار حداد كبير الأسنان صلب الظهر، من رآه رأى حيوان بلا رأس، ولا ذنب، عيناه في كتفه، وفمه في صدره وفكاه مشقوقتان من جانبين، وله ثماني أرجل مشققات وهو يمشي على جانب واحد، ويستنشق الماء والهواء معا وهو يسلخ جلده في السنة ست مرات، ويتخذ لجحره بابين أحدهما شارع إلى الماء، والآخر إلى اليابس، فإذا سلخ جلده سد عليه مما يلي الماء خوفا على نفسه من السمك، وترك ما يلي اليابس مفتوحا ليصل إليه الريح، فتخف رطوبته وتشتد، فإذا اشتد فتح ما يلي الماء وطلب معاشه وهذا دأبه.
الوصف والتشبيه
قال شاعر يصفه:
في سرطان الماء أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى
مستضعف المنة لكنه ... أبطش من حاربته كفا
يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدرها نصفا
ويقال: إن ببحر الصين سرطانات متى خرجت إلى البر استحجرت، والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض، ومن عجائب الحيوان المشترك، ما يذكر أن ببحر الروم أمة يقال لها بنات الماء يشبهون النساء ذوات شعور سبط، ألوانهم إلى السمرة ذوات فروج عظام، وثدي، وكلام لا يكاد يفهم وقهقهة، وضحك، وربما في أيدي أرباب المراكب فينكحوهن فيجدون لذلك عظيمة، ثم يعيدوهن إلى البحر، وفيها أيضا رجال يسمى الواحد منهم بالقبطية أبو مرينه، ويقال أنهم يظهرون بالإسكندرية وبالبرلس وبرشيد في صورة ابن آدم بجلود لزجة أو أجسام مشاكلة، لهم بكاء وعويل إذا وقعوا في أيدي الناس وذلك لأنهم ربما برزوا من البحر إلى البر يتشمسون فيقع الصيادين، فإذا بكوا رحموهم وأطلقوهم.
وصف آلات الصيد
فصل

ولما كمل غرضنا والحمد لله تعالى من هذا الباب رأينا من الصواب أن نختمه بما تصبو إليه النفوس من الإتحاف، وتميل إليه من التشبيهات والأوصاف المنظمة التعبير عن آلات الصيد وفتكات الخيل، والكيد، وهي وإن كانت غير متعلقة بالغرض المقصود في هذا الفن، وإنها مما تتشوق إليه الخواطر، والخواطر أبدا تابعة لما خطر لها من هواها وعن، فمن ذلك ما أختير من رسالة كتب بها أبو إسحاق الصابي إلى محمد بن العباس بن فسابخش في صفة الجلاهق، وهي قوس البندق: أقبلت رفقة الرماة قد برزت قبل الذرور للشروق، وشمرت عن الأذرع، والسوق متقلدين خرائط شاكلت السيوف بحمائلها، ونياطاتها وناسبتها في آثارها ونكاباتها تحمل من البندق الملموم كما هو في الصحة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم، كأنما خرط بالجهر فجاء كنبات الفهر، قد اختير طينه، وملك عجينه، فهو كالكافور المصاعد في الملمس والمنظر، وكالعنبر الاذخر في المشم والمخبر، مأخوذ من خير مواطنه مجلوب من أطيب معادنه كافل حامليه محقق لآمال آمليه ضامن بحمام الحمام متناول لها من أبعد مرام يعرج إليها وهو سم ناقع ويهبط بها وهي رزق نافع.
وبأيديهم قسي مكسوة بأغشية السندس مشتملة منها بأفخر ملبس، مثل الكماة في جواشنها ودروعها، والجياد في جلالها وقطوعها، حتى إذا جردت من تلك المطارفة، وانتضيت من تلك الملاحفة، رأيت منها قدودا مخطفة رشيقة وألوانا معجبة أنيقة صلبة المكاسر، والمعاجم نجية المثابت والمناجم، خطية الأسماء والمناسب سمهرية الأعراق والمناصب، تركبت من شظايا الرماح الداعسة، وقرون الاوعال الناخسة فحازت الشرف من طرفيها، واحتوت عليه بكلتا يديها، قد تحنت المشيخة النساك وصالت صيال الفتية الفتاك، واستبدلت من قدميها في عز الفوارس، بحديثها من أنفس الملابس، وانتقلت من جدها في طراد الفارات إلى هزلها في طرد المستهرات، ظواهرها صفر وارسة، ودواخلها سود دامسة كأن شمس أصيل قد طلعت على متونها، أو جنح ليل اعتكر في بطونها أو زعفرانا جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها، إذ هي قضبان فضة أذهب شطرها وأحرق شطر، أو حبات رمل اعتنق السواد منها والصفر.
وجاء منها في وصف وتر: فلما توسطوا تلك الروضة وانتشروا في الغيطة، وثبت للرمي أقدامهم، وشخصت للطير أبصارهم، وتروها بكل وتر فوق سهمه منه، وهو مفارق للسهم وخارج عنه، مضاعف عليها من وترين كأنه شخص ذو جسدين، أو عناق ضم ضجيعهن في وسطه عين كشجرة كيس مختوم، أو سرة بطن خميص مهضوم محولة عن المحاذاة مزورة عن الموازاة، تروع قلوب الطير بالانباض، وتصيب منهم مواقع الأغراض، هذا ما وقع عليه الاختيار من هذه الرسالة فإن الصابي أتى من بعد هذا الكلام ينعت ما صيد ومن صاد فأطال الرشأ على الواردين، والقصاد، ولضياء الدين بن الأثير الجزري رسالة في المعنى الذي نحاه أبو إسحاق، وأين يفوز المتأخر من المتقدم باللحاق لأن الأول اجتنى ثمر الأدب، وكان حظ المتأخر منه الكلأ وكم عسى يجهد نفسه من جاء في الزمن الأخير فشكلا فلم يبق إلا أن يحذو على مثاله إن اعين فاستطاع، وينسج عن منواله إن ترك الفكر عصيانه، وأطاع، جاء من هذه الرسالة في وصف القسي وذكر الرماة: إذا تناولها بأيديهم قلت هذه أهلة طالعة في أكف أقمار، وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قلت منايا مسبوقة في أيدي أقدار، وتلك قسي وضعت للعب لا للنضال، ولردى الأطيار لا لردى الرجال وإذا نعتها ناعت قال أنها جمعت من بين وصف اللين والصلابة، ووضعت من نوعين غريبين فحازت معنى الغرابة، فهي مركبة من حيوان ونبات، مؤلفة منهما بعد الشتات، فهذا من سكان البحر وسواحله وهذا من سكان البر ومجاهله، ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشد، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد، ولها بنات احكم تصويرها، وصحح تدويرها، فهي في لونها صندلية الاهاب، وكأنما صنعت لقوتها من حجر لا من تراب، فإذا حذفها نحو الأطيار تقل، وتصعد من الأرض من جبال فيها من برد فلا ترى حينئذ إلا قتيلا بالمثقل الذي لا يجب في مثله فهي كأقله من تلك الأطيار يقبض نفوسها، منزلة لها من السماء على أم رؤوسها ولابن المعتز يصفها على قافية منهوكة أبي نؤاس الطردية:
لا صيد إلا بوتر ... أصغر مجدول ممر
إن مسه الرامي نخر ... ذي مقلة تبكي مدر

صنعة بار مقتدر ... دام عليها فمهر
فجئن أمثال الاكر ... لم يختلفن في الصور
بصغر وللأكبر ... أشبه طين بحجر
يودعن أمثال السرر ... ثم يطرن كالشرر
إلى القلوب والثغر ... لما غدونا بسحر
والليل مسود الطرر ... تأخذ أرضا ونذر
فلاح صبح واشتهر ... جاءت صفوفا وزمر
سوابحا بيض الغرر ... يطلبن ما شاء القدر
روضا جديدا ونهر ... وهن يسألن النظر
ما عنده من أكبر ... فقام رام ما يندر
وتر قوسا وجسر ... إذا رعى الصيف انتثر
هزل عودا قد نخر ... فبين هاو ومنحدر
وسابح على خطر ... وذي جناح منكسر
فارتاح من حسن النظر ... ومسه جن الأشر
وقلن إذا حق القدر ... وجد رمي فانتشر
ما هكذا رمي البشر ... صار حصى الأرض مطر
وقال أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء يصفها أيضاً:
وداية ترضع غير درها ... وقصاء يعليها انحناء ظهرها
مقلتها شاخصة في صدرها ... نجلاء لا تطرف هدب شفرها
طائرة مقيمة في وكرها ... باطشة لكن بغير ظفرها
اراؤها تصدرها عن فكرها ... مجيئة في أصلها وفجرها
بنت كعوب سبيت من خدرها ... فاقتصها الصانع بعد مهرها
بقطعها وبردها ونشرها ... حتى إذا سار خمول ذكرها
مثلت به كمال أمرها ... فلم يزل نيرته نيرها
تنعى إلى الطير امتداد عمرها ... كأنما البندق بعد حرها
جنودها صادرة من صدرها ... جيدت بسحب طميت بصخرها
كأنها تحت انسكاب قطرها ... أسرة لوط مطرت بصخرها
فلم تزل تغمرنا ببردها ... حتى اعترفنا كلنا بشكرها
أفعالها ناطقة بفخرها ... يعنو ملوك الطير خوف مكرها
من بازها في فكه وصقرها ... لا ينكر الجارح عظم قدرها
وقال أبو إسحاق الصابي:
ومرنان معبسة ضحوك ... مهذبة الطبائع والكيان
مغالبة وليس بها حراك ... وباطشية وليس لها يدان
لها في الجارح النسب المعلى ... وإن هي خالفته في المعاني
تطير مع البزاة بلا جناح ... فتسبقها إلى مصب الرهان
وتدرك ما تشاء بغير رجل ... ولا باع يطول ولا بنان
وتلحظ ما تشاء بكل الطرف عنه ... بلا نظر صحيح ولا عيان
لها عضوان من عصب وعظم ... وسائر جسمها من خيزران
يخاطب في الهواء الطير منها ... بلفظ ليس يصدر عن لسان
فإن لم تضع أردتها بطعن ... ينوب الطين فيه عن سنان
مقرطقة ممنطقة خلوب ... مهفهفة مخففة الجران
مذكرة مؤنثة تهادى ... من الأصباغ في حلل القيان
معمرة تزايد كل يوم ... شبيبها على مر الزمان
كأن الله ضمنها فباتت ... لنا في الرزق عن أوفى ضمان
أعز علي العيون من المآقي ... وأحلى في النفوس من الأماني
إذا ما استوطنت يوما مكانا ... تولى الجدب عن ذاك المكان
وقال أبو الفتح كشاجم يصفها:
وثيقة مدمجة الأوصال ... محنية عوجاء كالهلال
تعود إن شئت إلى اعتدال ... باطنها لعاقل الاوعال
والظهر منها لقنا الأبطال ... يجعها أسمر ذو اعتدال
في وسطه من صنعة المحتال ... مثال عين غير ذي احولال
تغذى بصدفات من الصلصال ... أمضى من السهام والنبال
قذى في أعين الآمال ... فاقعة الصفرة كالجريال
رخيصة تغنم كل غال ... يؤمن منها وثبة الكلال
تعول في الجدب وفي الأحمال ... وقد يكون الصقر كالعيال
مطيها عواتق الرجال ... في غلف ممدوة طوال
كم افضلت على ذوي الافال ... وكم أنالت من أخي نوال
وقربت للطير من آجال
وقال أيضا فيها من أبيات طردية:
وفي يساري من الخطي محكمة ... متى طلبت بها أدركت مطلوبي
للوعل باطن شطريها ومعظمها ... من عود شجراء صماء الانبيب
تأنق القين في تزينها فغدت ... تومي بأحسن تفضيض وتذهيب
في وسطها مقلة منها تبين ما ... ترمي فما مقتل عنها بمحجوب
فقمت والطير قد هم الحمام له ... على سبيلي في عادي وتجويبي

حتى إذا اكحلت بالطين مقلتها ... صبت عليهن حتفا بعد مصبوب
فرحت جذلان لم تكدر مشارب ... ولم تلق آمالي بتخييب
وقال أبو الفرج الببغاء يصف الفخ:
ذو قصر أحدب من غير كبر ... محتقر المنظر جار الخبر
مستنصر لكن إذا ضيم انتصر ... مستأنس إن صله لمس نفر
وإن جنى جناية لم يعتذر ... مفوف سهما إذا شك استمر
قضى له الحب ومأواه الخفر ... لما رأى العصفور حيا قد بدر
أرباب بالحنطة ما بين المدر ... ولم يزل بين الرجاء والحذر
تتبعه الحرص ويعنيه الخطر ... ثم هوى مستبينا لما افتكر
إن بنى الدنيا جميعا في غرر ... وأمل النفع ولم يخش الضرر
فشده الفخ بإشراك العير ... ولم يطق دفع القضاء والقدر
وكثرة الأطماع افات البشر ... وفي تصاريف الليالي معتبر
والحزم إن يجزع من حيث يسر ... وآخر الصفو وإن لذ الكدر
قال ابن المعتز يصف الدبق على طريق الألغاز:
وما رماح غير جارحات ... وليس في الدماء والغات
وليس للطراد والغارات ... يخضبن لا من علق الكماة
بدبق حتف منجز العدات ... مستمكن ليس بذي إفلات
ينشب في الصدور واللبات ... فعل اسار علق الشباة
على عواليها . . . مركبات ... أسنة ليس موقعات
من قصب الريش مجردات ... يحسبن في الهواء شائلات
أذناب جردان منكسات
وقال أبو الفتح كشاجم يصفها أيضاً:
واسرات مثل مأسورات ... ممكنات غير ممكنات
مؤملات غير... مكذبات ... صوادق التعجيل للعدات
نواظر الأشكال ذاهبات ... كواسر وليس ضاريات
ولا بما يصدن عالمات ... بمثل ريق الفحل مطليات
اقتل من سمائم الحيات ... لو صلحت شيئا من الآلات
ووصلت بالزج والشباة ... كانت مكان النبل للرماة
حوامل للطير ممسكات ... تعلق الأحباب بالحبات
كأنها في النعت والصفات ... أذناب ما دق من الحيات
أعذر بالورق المفردات ... فيها من الفتيان بالقينات
فهن من قتلى ومن عناة ... بلا فكاك وبلا ديات
وقال أبو الفرج الببغاء يصف سبطانة:
وجوفاء حاملة تهتدي ... في كل قلب بمقروحه
مقومة القد ممشوقة ... مهفهفة الجسم ممسوجه
مشققة فمها عينها ... تبشر ظني بتصحيحه
فإن هي والجارح استنهضا ... إلى الصيد عاقته عن ريحه
إذا المرء أودعها سره ... لتخفيه باحت بتصريحه
موات يعيش إذا ما أعاد ... لها النافخ الروح من روحه
هي السبطانة في شكلها ... ففي القلب جد تباريحه
تحط أبا الفرخ عن ذكره ... ويستنزل الطير من لوحه
وقال السري الرفاء يصف شبكة:
وجدول بين حديقتين ... مطرد مثل حسام القين
كسوته واسعة القطرين ... تنظر في الماء بغير عين
راصدة كل قريب الحين ... تبرزه مجنح الجنبين
كمدية مصقولة المتنين ... كأنما صيغ من اللجين
وقال كشاجم يصفها:
يا رب نهر متأت ملان ... جم المدود معمر معان
باكرته مع باكر الغربان ... في فتية أفاضل أقران
بمثل أحداق بلا أجفان ... محذوة كحنو طيلسان
كأنها جلدة افعوان ... مزعج بالأطماع والحرمان
مواطن الماء عن الأوطان ... إحدى على صائدها الغرثان
من الضواري الغظف الأذان ... وكاسر البزاة والعقبان
وقال أبو الفرج الببغاء يصف شبكة العصافير:
رقراقة في السراب تحسبها ... على الثرى حلة من الزرد
كالدرع لكنها معوضة ... عن المسامير كثرة العدد
سايرها أعين مفتحة ... لا ترتضي نسبة أحد
كأنها في غرورها زخرف ... الدنيا المشرب المسرور بالكد
كاتب أندلسي يصف الشص: صنافير كأظفار السنانير، قد عطفها القين كالراء، وصيرها الصقل كالماء فجاءت أحد من الإبر، وأدق من الشعر، كأنما مخلب صرد، أو نصف حلقة من زرد.
وقال أبو بكر بن أحمد بن محمد الصنوبري يذكر الشص ويصفه:
أكرم ما أعددته من العدد ... وما حوى صحبي به عناء الأبد

بناء قين حاز في الخندق الأمد ... على مقادير مخاليب الصرد
أو مثل ما عاينت أصناف الزرد ... لها رؤوس في أعاليها اود
كمثل أبيات الأفاعي اوا حد ... ذوات طعم نكد كل النكد
تشد في أذناب خيل إذ تشد ... ممرة الفيل كامرار المسد
نيطت بأطراف يراع مسترد ... صم الأنابيب قريبات العقد
عجبا بها من حيث ما عاج أحد ... من ظل صفصاف علينا قد يرد
شاطئ نهر لابس درع زبد ... فأطلقت أيديهم إطلاق يد
فلم تزل ترسل طورا وتزد ... حتى تنادوا قد من الحيتان قد
ثم بعثنا ألف عين في جسد ... فجئنا بمثلهن في العدد
ألف من الحيتان بيض كالبرد ... مكسوة دراهم لا تنفد
كذلك الأرزاق من جزر ومد ... والحمد للمهيمن الفرد الصمد
وقال أبو الفتح كشاجم يصف الشض أيضاً:
من كان يحوي صيده الفضاء ... وللبزاة عنده ثواه
وطال بالكلب له العناء ... فإن صيدي ما حواه الماء
بمخلب ساعدوه رشاء ... يظل والماء غطاء
كما طوت هلالها السماء ... كأنه من الحروف راء
فهو ونصف خاتم سواء ... يحمل سما اسمه غذاء
وعطبها فيه لنا اجتناء ... تدمي القلوب والأحشاء
عاد إذا ساعده الفضاء ... أمتعنا القريس والشواء
ولله الحمد تم الفن الثالث من مباهج الفكر ومناهج العبر في الطبائع الحيوانية يتلوه الفن الرابع في الفلاحات النباتية إن شاء الله تعالى بحمد الله تعالى وعونه ولطفه وبه المستعان.
تم الفن الثالث من مباهج الفكر ومناهج العبر ويتلوه الفن الرابع من الكتاب في الصفحة التي هذه الورقة، والحمد لله كثيرا.

أقسام الكتاب
1 2