كتاب : نور القبس
المؤلف : المرزباني

وإن سار سارت لاتفارق رأسه ... فقال لهم: هذا النبي محمَّدُ
حليم رحيمٌ لينُ متواضعٌ ... سَحيّق حييٌّ عابدٌ متزهدُ
وكان رسول الله فوق صفانتا ... يُقصرُ فيه من يقولُ فيجهدُ
قال يعقوب بن السكيت: كتبت عن قطرب قمطرا، ثمّ تبينت أنه يكذب في اللغة، فلستُ أذكرُ عنه شيئاً. - وقال أبو زيد: قطرب وأبوه معتزليَّان.
ومات قُطرب في سنة ست ومائتين.
33 - ومن أخبار يعقوب الحَضْرميّ
هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي المُقرئ، ولد سنة عشرين ومائة. - قال محمد بن سعد: يعقوب بن إسحاق الحضرمي ليس عندهم بذاك الثبت، يذكرون أنه حدث عن رجال لقيهم وهو صغير لم يدرك. وأخوه أبو إسحاق أحمد بن إسحاق ثقةٌ أكبر من أخيه يعقوب.
قال يعقوب: مات حميد الطويل في جمادي الأولى سنة أربعين ومائة، ومات أبان بن أبي عياش في أول رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة، ومات الحسن في رجب سنة عشر ومائة.
توفي يعقوب الحضرمي وأبو عامر العقدي يوم الأحد في جمادي الأولى سنة خمس ومائتين.

34 - ومن أخبار كيسان المحوي
هو أبو سليمان بن المعرَّف كيسان الهُجيميُّ. قال أبو زيد: كان ثقة. وقال أبو عبيدة: العلمُ يمسخُ على لسان كيسان أربع مرات: يسمع معنا غير مانسمع، ويكتب في ألواحه خلاف مايسمع، وينقل إلى الدفة خلاف مايكتب في لوحه، ويقرأ من الدفتر خلاف مافيه.
وقام أبو زيد يوماً من مجلسه وقال: كانت العرب تقول: ليس لحاقن رأيُ. قال كيسان: ولالمنعظ. فقال: ماسمعناه ولكن اكتبوه فإنه حقٌ.
وقرأ عليه صبيُّ شعراً مرَّ فيه ببيت فيه ذكر العيس، فقال له: ما العيس؟ فقال: الإبل البيض التي تخلط بياضها حمرة. قال: وما الإبل؟ قال: الجمال. قال: وما الجمال؟ فقام على أربعة ورغا في المسجد.
35 - ومن أخبار خلاد بن يزيد الباهلي
ّ
الأرقط كنيته أبو عمرو - وقيل: أبو مخلد - ولقب بالأرقط لجدريّ كان به. قال خلادٌ: كنّا على باب أبي عمرو بن العلاء ومعنا التيميُّ، فتذاكرنا كتاب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: إني وإياك لدةٌ وإن امرأً سار خمسين حجة إلى منهل لقمن أن يرده. فقلنا: نصنع في هذا المعنى بيتاً. قال: فارتفع بيننا هذا البيت " من الطويل " :
وإن امرأً قد سار خمسين حجَّةً ... إلى منهلٍ من ورده لقريبُ
فاستلبه التيمي فأدخله في شعره. قال خلاد: وسار فانفردت أنا ببيت وهو " من الطويل " :
ومن كان في الدنيا على حال قلعة ... وإن طال فيها عمره لغريب
وقال خلادٌ: حضرنا يزيد بن عمر بن هبيرة في يوم مهرجان وهو أمير العراق، فأسندت له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أُتي أحدكم بهدية فجلساؤه شركاؤه فيها! وكان بين يديه صنوفُ مما أهدي إليه من الذهب والفضة والجوهر، فقام خلف بن خليفة الأقطع فقال " من المتقارب " :
كأنا شماميسُ في بيعةٍ ... تسبحُ في بعض عيداتها
وقد حضرت رسلُ المهرجان ... وصفوا كريمَ هداياتها
علوتُ برأسي فوق الرؤوس ... فأشخصته فوق هاماتها
لأثكسبَ صاحبتي صحفةً ... تغيظُ بها بعض جاراتها
فأمر له بجام ذهبٍ فيه صورة شجرة كرم، فقال " من الرمل " :
أصبحتُ صحفة أهلي من ذهب ... وصحافُ الناس حولي من خشب
وإذا سببُ لي خيرُ أتى ... إنَّ للصنع وجوهاً وسبب
فأصبنا صحفة منقوشةً ... نقشت فيها تصاويرُ العتب
زين الجام فلما نلته ... زيَّن الشيطان لي مافي الجُربُ
إنَّ شيطاني مريدٌ فاتكٌ ... لو أماليه عليها لوثب
قال: فأمر له بجراب ثياب، فقال: حسبي أيها الأمير، قد غنيتني! وأقبل يعطيه شيئاً بعد شيء وهو يقول " من الطويل " :
إذا الله سنى أمر شيءٍ تيسرا

ثمّ أقبل علينا ابن هبيرة يحدثنا، فقال: إن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ورد على يزيد بن معاوية، فقال له: كم كان أمير المؤمنين يعطيك؟ قال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف. فقال يزيد: قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف. قال: بأبي أنت ،امي. قال: ولهذه ألف ألف. قال: أما أني لاأقولها لأحد بعدك. قال: ولهذه ألف ألف. قال: مايمنعني من الأطناب في وصفك إلا الإشفاق عليك من جودك. قال: ولهذه ألف ألف. وحمل المال معه، فقيل ليزيد: فرَّغت بيت مال المسلمين على رجلٍ واحدٍ. قال: إنما دفعته إلى أهل المدينة أجمعين. ثمّ وكل به من يعرفه خبره من حيث لايعلم، فلما دخل المدينة فرق المال فيها حتى أحتاج بعد شهرٍ الى القرض. قال: وأقبل ابن هبيرة يفرق الهدايا وينشد شعر الخثعمي " من البسيط " :
لاتبخلن بدنيا وهي مقبلةٌ ... فليس يقصها التبذيرُ والسرف
فإن توَّلت فأحرى أن تجود بها ... فالشكر منها إذا ماأدبرت خلف
وحدّث خلاد بإسناد له عن عروة بن الزبير أنه قال لعائشة: يأماه - أو: ياخالاه - نظرتُ في أمرك، فعجبت من أشياء ولم أعجب من أشياء، رأيتك من أفقه الناس! - فقلت: مايمنعها وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورأيتك من أعلم الناس بالشعر! - فقلت: مايمنعها وهي ابنة أبو بكر الصديق - ورأيتك من أعلم الناس بالطب! قال: فأخذت بثوبي وجرَّتني إليها وقالت: ياأبا عُرَّية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسقاما، فكان أطباء العرب وأطباء العجم ينعتوتن له، فكنا نعالجه.
36 - ... ومن أخبار أبي الحسن المدائني
وهو علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف القرشي، مولى عبد الرحمان بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف. قال أبو خيثمة: هو صدوق ثقة. وقال يحيى بن معين: هو صدوق إذا حدث عن الثقات، فأحاديثه مستقيمة. وقال يحيى بن معين: من أراد اخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني.
وحدث المدائني بإسناد له عن معاذ بن جبل قال: مات ابن لي، فكتب إليَّ النبي صلى الله علسه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل، أما بعد فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثمّ إن أنفسنا وأموالنا وأهلينا من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، يمتع بها إلى أجل معدود، ويقبضها لوقتٍ معلوم، جعل عليه الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وقد كان ابنك من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجرٍ كثير، إن صبرت واحتسبت! فلا يجتمعن عليك، يامعاذ، أن يحبط جزعك أجرك فتندم غدا على ثواب مصيبة، علمت أن المصيبة قد قصرت عنك، وأعلم أنَّ الجزع لايرد ميتا ولايدفع حزنا، فليذهب أسفك ماهو نازلٌ، فكأن قد.
وبإسناده عن أنس قال: وضع النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه، وقال: لولا أنه موعدٌ صادقٌ ووعدٌ جامع وأنّ الماضيَ فرطُ الباقي وأنّ الآخر لاحقُ الأول، لجزعنا عليك، ياإبراهيم! ثمّ دمعت عينهُ صلى الله عليه وسلم، فقال: تدمعُ العينُ ويحزنُ القلبُ، ولا نقول إلا مايرضي الرّبَّ وإنَّا بك، ياإبراهيمُ، لمحزونون! - وبه عنه صلى الله عليه وسلم: سُرعة المشي تذهب ببهاء المسلم.
وقال المدائني: ليست الفُتَّوةُ الفسقَ والفُجور إنما الفتوةُ طعامٌ موضوعٌ ونائلٌ مبذولٌ وعفافٌ معروفٌ وأذى مكفوف.

وقال المدائني: كان عفّانُ بن أبي العاص مؤنثاً يلعب في الأعراس بالدُفّ، ومثله الحكم بن أبي العاص، وكان شيبة بن ربيعة حلقياً وكان يأتيه منبه بن الحجاج بن سعد بن سهم وكذلك أبو جهل بن هشام، وكان النضر بن الحارث بن علقمة حلقياً ويأتيه صفوان بن أمية بن خلف، وكان خالد بن خويلد بن حزام مؤنثاً ويأتيه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان عنبسة بن أبي أحيحة سعيد بن العاص حلقياً، وكان مصعب بن الزبير مؤنثاً، وكان عبد العزيز بن مروان حلقياً محدوداً في خمر، وكان يزيد بن عبد الملك - وهو ابن عاتكة بنت يزيد بن معاوية - حلقياً، وكان الوليد بن يزيد بن عبد الملك حلقياً مؤنثاً، وكان ألحوص بن محمد مستوهاً، ويزيد بن المهلب وقبيصة بن المهلب حلقياَّن، وكان يزيد بن حاتم مخنثاً حلقياً، وجميل بن محفوظ الأزدي مستوها، وكان خالد بن عبد الله القسري حلقياً مستوها، وكان سفيان بن معاوية بن يزيد ابن المهلب حلقياً مشهوراً بذلك، وكان محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم ابن أبي عقيل مسعود بن عامر بن معتب صاحب السند مستوهاً، وكان أبان بن الحجَّاج بن يوسف مأبوُناً، وكان مالك بن المنذر بن الجارود مستوهاً، قال الفرزدق " من الطويل " :
لِكُلِ أُناسٍ مَسجِدٌ يعمرونه ... ومسجدُ عبد القَيس فَقْحَةُ مالك
وكان كردم السدوسي حلقياً، والمقداد بن مجزأة بن ثور حلقياً وكان مصقلة ابن رقبة العبدي مستوها.
وقال: أول من عمل الصابون سليمان بن داوود عليهما السلام، وأول من عمل القراطيس يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وأول من عمل السويق ذو القرنين، وأول من خبز الرُقاق نمرود بن كنعان، وأول من كتب في القراطيس الحجَّاج بن يوسف، وهو أول من ترجم الديوان بالعربية وهو أول من عمل المحامل وأول من لبس الخفاف الساذجة بالبصرة ولبس الثياب الكتان زياد، وأول من لبس الخز وقور الطرازي عبد الله بن عامر.
قال المدائني: ولدت سنة خمس وثلاثين ومائة. قال الحسين: ومات سنة خمس وعشرين ومائتين. وقيل له في مرض موته: ماتشتهي؟ قال: أشتهي أن أعيش!
37 - ومن أخبار ابن سلام الجُمحي
وهو أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم مولى عثمان بن مظعون الجمحي. قال ابن سلام: أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حمَّاد الراوية، وكان غير موثوق به.
وقال ابن سلام: ذاكرت مروان بن أبي حفصة جريراً والفرزدق والأخطل، وسأله غيري، فقال: يرويه كلُّ قوم بأهوائهم ولكني أقيده بشعر. ووقال " من الكامل " :
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما ... حُلْوُ القصيد ومُرُّه لجرير
ولقد هجا فأمضَّ أخطل تغلب ... وحوى اللُهى بمديحه المشهور
كلُّ الثلاثة قد أبرَّ فمدحه ... وهجاؤُه قد سار كُلَّ مسير
ولقد جريتُ وفقت غير مبلدٍ ... بجراء لانزقٍ ولامبهورِ
جراءٌ مصدر جاريته جراءً ومجاراةً أي ماشيته.
وقال: كنتُ ببغداد فمررت بأبي نواس في يوم شديد البرد، فقال لي: أين تذهب في هذا اليوم البارد؟ انزل حتى نتغذَّى بغذاء طيب، وأسمعك سماعاً حسنا، ونشربُ بالكبار حتى ننام! ثمّ أنشدني " من المجتث " :
اليومُ يومُ الحجار ... ويومُ ايقاد نار
ويومُ قصفٍ ولهوٍ ... والخفق بالأوتار
ويومُ شُرْبِ مدامٍ ... نديرها بالكبار
حتى نغادرّ صرْعى ... من قبل نصف النهار
قال: فنزلت، فوفى بما قال، فوالله ما انتصف النهار حتى نمنا جميعا.

قال ابن سلام: حدثني أبانُ بن عثمان قال: جاء رجلٌ من جند عبد الملك ابن مروان ومعه ابنه إلى عبد الملك، فقال: ياأمير المؤمنين، إني تزوجتُ امرأة وزوجت باني أُمها، فلو أمرت لنا بأعطياتنا فنرُمَّ من شأننا ونضُمَّ إلينا أهلنا. قال: فإذا ولد لكما غلامان فما قرابة بينهما؟ إن أصبت أعطيتكما. ففكر ساعة ثم قال: ياأمير المؤمنين، هذا صاحب شرطتك قلدته سيفك وما وراء بابك إن أصابها فلا تعطني، وإن لم يصبها فأنا أعذر. فقال: صدقت! فسأله عنها، ففكر طويلاً ثمّ لم يُحر جواباً. فناداه رجلٌ من أقصى الصف من أهل العراق: إن أنا أصبتها تأمر لي بحاجتي؟ قال: نعم! قال: ابن الأب عمُّ ابن الابن، وابن الأبن خالُ ابن الأب. - قال ابن سلام: فسألني عنها شعبة وأنا غلام.
ومات ابن سلام ببغداد سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ومات أخوه عبد الرحمان بن سلام بالبصرة في هذه السنة بينهما أيامٌ.
38 - ومن أخبار أبي عبد الرحمن العٌتْبِيّ
وهو محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية عبد الملك بن مروان وعتبة بن أبي سفيان. - قال عتبة بن أبي سفيان لبعض ولده: يابُنّيَّ، بزّهْ سمعك عن سماع الخنى كما تنزه لسانك عن اللفظ به، فإن السامع شريك القائل، وإنما عمد إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رددت كلمة الجاهل في فيه لسعدت بها كما شقي هو بها. ثم أنشأ يقول " من المتقارب " :
تحرَّ من الطرق أوساطها ... وعد عن الجانب المُشتَّبه
وسمعك صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن اللفظ به
فإنك عند استماع القبيح ... شريكٌ لقائله فأنتبه
وكم أزعج الحرص من طالب ... فأدركه الموتُ في مطلبه
وقال عتبة لمؤدب ولده: ياعبد الصمد، ليكن إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن عيوبهم إليك والحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب اللهِ ولاتُملَّهم فيكرهوه ولاتدعهم منه فيهجروه، وروهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولاتخرجهم من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإنَّ ازدحام العلم في الفهم مضلة للفهم، وجنبهم محادثة النساء وأشغلهم بسير الحكماء، وهددهم بي وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي لايعجل من الدواء حتى يعرف موضع الداء، وقد أتكلت على كفايةٍ منك فلا تتكلن على عّذرٍ مني، واستزدني بزيادتهم أزدك إن شاء الله! واستعمل عتبة رجلاً من آله على الطائف، فظلم رجلاً من الأزد من شنؤة، فأتى الأزدي عتبة فمثل بين يديه فقال " من البسيط " :
أمرت من كان مظلوماً ليأتيكم ... فقد أتاك غريبُ الدار مظلوم
ثمّ ذكر ظلامته، فقال عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلةٍ. فقال: أرايت إن أنبأتك ذا، أتعجل لي عليك مسئلة؟ قال: نعم. قال الأعرابي " من الرجز " :
إن الصلاة أربعٌ وأربعُ ... ثمّ ثلاثٌ بعدهن أربعُ
ثمّ صلاة الفجر لاتضَيَّعُ
قال: صدقت فسل! قال: كم فقارُ ظهرك؟ قال: لاأدري. قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟! فقال: رُدُّوا عليه غُنيمته! وقال سعد القصر مولى عتبة: احتسبت علينا كُتُب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثمّ قدم كتابه بسلامته، فصعد عتبة بن أبي سفيان المنبر والكتاب بين يديه فقال: ياأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف، حتى صرنا شجى في لهاكم ما تسوغها حلوقكم، وأقذاء في عيونكم ماتطرف عنها جفونكم. أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلاً!؟ أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين الخلافة وخضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديثٌ؟! فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم! وهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخبر السار والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيراً وإن أسررتم شرَّاً، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله أتوكل وبه أستعين! ثمّ نزل.

وكتب معاوية إلى عتبة وهو والي مصر في عقوبات أقوام، وأمره أن لا يراجعه في ذلك، فكتب إليه عتبة: بالله على أداء حقك أستعين وعليه في جميع أمرك أتوكل، أنا مقتدٍ بكتابك ومنتهٍ إلى أمرك ومتخذه إماماً ما أمَّ الحزم، فإذا خالفه فعندها المراجعة لئلا يرجع عليك ضرره، ولم يغب أمير المؤمنين عما شهدت، ولم يرجع إليه ضرر مافعلت؛ وقد علم من قبلي أن ناري ذكيَّة الشعل لمن عاداك، وأن جنابي أحلى من العسل لمن والاك، فليثق بذلك مني لهم وعليهم وأنا أستكفيك الذي استكفاني بك، ولاقوة إلا بالله. فلما ورد كتابه على معاوية قال: كلامٌ موجزٌ وعقلٌ محرزٌ، فليعمل برأيه.
وعن أبي عطاء مولى عتبة قال: قدم علينا ابن عباس سنة إحدى وأربعين وهو كالقرحة المنبجسة، قال: فكان عتبة قليل الكلام، فنظر ابن عباس إلى عتبة يُحدُّ النظر إليه ويقل الكلام معه، فقال له: ياأبا الوليد، مالك تحد النظر - إليَّ وتقل الكلام معي، ألعقلةٍ فطالت أم لموجدة فدامت؟ فقال عتبة: ياأبا العباس، أما قلةُ كلامي معك فلقلته مع غيرك، وأما كثرة نظري إليك فلما أرى من أثر سبوغ النعمة عليك، ولئن سلطت الحقَّ على نفسك لتعلمن أنه لايعرض عنك إلا مبغض ولا ينظرُ إليك إلا محبُّ، ولئن كان هذا الكلام شفي منك داءً وأظهر منك مكتوماً ماأحبُ غيره. فقال ابن عباس: أمهيت، ياأبا الوليد! - يقال: أمهيت الحديدة إذا حددتها على المسن، يريد: بلغت الغاية في العذر - ولو كنتُ على يقين مما ظننت بك لكفاني أو لأرضاني دون ما سمعت منك. فتبسم معاوية ثمّ قال " من الرجز " :
دعوتُ عركاً إذ دعا عراكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
من ينك العير ينك نياكا
لاتدخلوا بين بني عبد منافٍ، فإن الحلم لهم حاجزٌ، والداخل بينهم عاجزٌ، وإن فطنة ابن عباس مقرونة بفطنته، ثم تمثل " من الطويل " :
سمينُ قريشٍ مانعٌ منك شحمهُ ... وغثُّ قريش حيث كان سمين
قال معاوية، لما مات أخوه عتبة، لولده: رحم الله أباكم وآنس وحشة عمكم وأحسن الخلافة عليكم، هلك أقربُ الناس إليَّ بعد والدي وأحبهم إليَّ بعد يزيد، ولئن كانت المنية أخطأتني لقد أصابتني. - توفي أبو سفيان سنة أربع وثلاثين وصلى عليه عثمان بن عفان، وتوفي ابنه عتبة سنة أربع وأربعين حين صدر معاوية عن الحج.
ودخل الرفزدق على عمرو بن عتبة في يوم حار وهو يسلت العرق عن جبينه ويقول " من البسيط " :
لولا ابن عتبة عمروٌ والرجاءُ له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا
أعطاني المال حتى قلت: يودعني ... أو قلت: يدفع حقَّاً قد آراه لنا
فجوده متعبٌ شكري ومنته ... وكلما ازددت شكراً زادني مننا
يرمي بهمته أقصى مسافتها ... ولا يريد على معروفه ثمنا
فأعطاه عليها مائة دينار، وقيل: ألف دينار.
ومن دعاء عمرو بن عتبة: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة وعلى الدين بالعصمة. اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة. اللهم لاتجعل قولي فوق عملي، ولاتجعل أسوأ عملي ماولي أجلي. اللهم إني استغفرك ما أملك وأستصفحك لما لاأملك. اللهم لاتجعلني ممن إن مرض ندم وإن أستغنى فتن وإن افتقر حزن.
قال الربيع الحاجب. لما مات المنصور قدمت وفود الأمصار على المهدي يعزونه، فما حفظنا عنهم شيئاً نستطرفه إلا كلمات من العتبي البصري فإنه قال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له، فلا مصيبة أعظم من موت والدٍ إمامٍ ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أولياء الله، فاقبل يأامير المؤمنين من الله أفضل العطية واحتسب عنده أعظم الرزية! فقال النمهدي: من هذا الرجل؟ فقيل: من بني أمية من ولد عتبة بن أبي سفيان. قال: ماظننت أنه بقي من أعجازهم ماأرى.
وأولم محمد بن خالد الثقفي فدعا أبان بن عبد الحميد اللاحقي وسهم بن عبد الحميد الحنفي والحكم بن قنبر وعبيد الله بن عمرو العتبي، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: ألكم حاجة؟ يمازحهم بذلك، فقال أبانُ " من السريع " :
حاجتنا عَجِلْ علينا بها ... من الحشاوي كُلُّ طردين
فقال ابن قنبر " من السريع " :
ومن خبيص قد حكت عاشقاً ... صفرته زين بتكوين

فقال عبيد الله " من السريع " :
وأتبعوا ذاك بآيينة ... فإنكم أصحاب آيين
فقال سهم " من السريع " :
دعنا من الشعر وأوصافه ... واعجل علينا بالأخاوين
فأحضر الغداء وخلع عليهم ووصلهم.
أول شعر قاله العتبي " من الطويل " :
بقلبي شيءٌ لستُ أعرفُ قدرهُ ... على أنه ماكان فهو شديد
تمرُّ به الأيامُ تسحبُ ذيلها ... فتبلى به الأيامُ وهو جديدُ
قال: دخلتُ على المأمون ببغداد، وحين خرجت قلت لأحمد بن أبي خالد: هل أنكرت مني شيئاً؟ قال: بلى، أضحكت أمير المؤمنين في شيء، وكان ضحكك أكثر من ضحكه.
وكان ابنه عبيد الله نادرة في الشعر، وكتب إلى أبيه " من السريع " :
وعدتني وعداً فأخلفتني ... فثق بأني عنه مستغن
غنيتُ من ربي بمثل الذي ... غنيتُ يا هذا به عني
أخلفت ظني بك في حاجة ... ما أخلف الله بها ظني
صرتَ بها في الناس أحدوثة ... وأضحك الله بها سني
ما عجبي من واحدٍ مخلفٍ ... بل عجبي في أملي مني
وكتب إلي بعض أهله كتاباً فلم يأته الجواب، فقال " من الوافر " :
عمرتُ لك المودةَ بالتلاقي ... فما جازيتني بالقرض قرضا
وواصلت الكتاب مع التنائي ... فلم أرَ للجواب إليَّ نهضا
إذا كتب الصديقُ إلى صديقٍ ... فقد وجب الجواب عليه فرضا
وقال العتبي في جارية كان يحبها اسمها ملك " من البسيط " :
لمَّا رأتني مُلْكٌ قاصراً بصري ... عنها وفي الطرف عن أمثالها زورُ
قالت: عهدتك مجنوناً، فقلت لها: ... إن الشبابَ جنونٌ بُرْؤهُ الكبرُ
وهذا البيت الأخير من الأبيات السائرة والأمثال الطاردة، ومثله لحسَّان " من الخفيف " :
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما ... لم يعاص كان جنونا
واكل العتبي قوماً، فجاؤا بفالوذجة حارةٍ، فقصر عنها القوم وأمعن العتبي، فقال بعضهم لبعض: قد غبننا العتبي بأكله وامتناعنا. قال: لأنه ليس معنا صبر آل أبي سفيان على النار.
وكتب أبو علي الحرمازي إلى العتبي " من الهزج " :
بنفسي أنت قد جاء ... ك ماعندي من كتبك
فلا يبعد من الإفضا ... لِ من يرجوه من قربك
فما زلت أخا جودٍ ... وإفضالٍ على صحبك
وسلْ قلبك عَمَّا لك في قلبي من حُبِكْ
فقد أخبرني قلبي عمَّا لي في قلبك
وإني لك راضٍ بي ... وإني لي لراضٍ بك
وكتب أيضاً إليه الحرمازي " من السريع " :
أصبح بخيرٍ وبه أمس ... ما أستخلف اليوم من الأمس
أما تكافيني على سرعتي ... برد كراساتك الخمس
ومستعيرٌ منك أمثالها ... إذ لم يطل عنك لها حبسي
فابعث بما أمكن من نحوها ... تفديك من كلّ الأذى نفسي
وقال العتبي: أصابتني نكبة في طريق مكة، فجعلت أمشي وأنا أقول " من الهزج " :
أرى الموتَ لمن أمسى ... على الذل له أصلح
قال: فهتف بي هاتفٌ " من الهزج " :
ألا يا أيها المرءُ الذي ... الهمُّ به برَّحْ
إذا ضاق بك الأمرُ ... ففكر في (ألمْ نَشْرَحْ)
سرقاته وسرقات من سرق منه، قال العتبي في ابن له مات " من الكامل " :
أضحت بخدي للدموع رسومُ ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ
والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
استرقه حبيبٌ في بيتين أحدهما قوله في إدريس بن بدر " من الطويل " :
دموعٌ أجابت داعي الحزن هُمَّعُ ... توصل منا عن قلوب تُقطَّعُ
وقد كان يُدعى لابس الصبر حازماً ... فأصبح يُدعى حازماً حين يجزع
والآخر قوله " من الكامل " :
قالوا: الرحيل! فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
الصبر أحمدُ غير أنَّ تلذذا ... في الحبّ أحرى أن يكون جميلاً
وقيل: أخذ العتبي قوله يرثي ابنه " من الطويل " :

وكنت به أُكنى فأصبحتُ كُلَّما ... كُنيتُ به فاضت دموعي على نحري
من قول الشاعر " من الكامل " :
بأبي وأمي من غبار حنوطه ... بيدي وودَّعني بماءِ شبابهِ
كيف السُلُو وكيف صبري بعده ... وإذا دّعيتُ فإنما أدعى به
قيل للعتبي: من أشعر الناس؟ قال: أشعر الناس في الجاهلية الملك الضليل، وأشعر الناس في الإسلام الذي يقول - يعني أبا نواس - " من الوافر " :
فقام إلى العقار فسَدَّ فاها ... فعاد الليل مُسْوَدَّ الإزار
يعني بالملك الضليل امرأ القيس.
ولمَّا عُزل طاهر بن عليّ عن البصرة قال العتبي " من الكامل " :
يا صاحباً متلوناً ... متبايناً فعلي وفعله
ما إنْ أُحبُّ له الرَدَى ... بلْ سَرَّني والله عزلهْ
لم تعد فيما قلت لي ... وفعلت بي ماأنت أهْلُهُ
كم شاغلٍ بك عدوتيهِ ... وفارغٌ من أنت شغْلُهْ
وقال " من الطويل " :
ولي صاحبٌ سري المُكتم عنده ... محاريقُ نيرانٍ بلبل تحرَّقُ
عطفتُ على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان ما إن تخرَّقُ
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرقُ
فلا تودعن الدهر سرَّك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً ... من القول ماقال اللبيب الموفق
إذا ضاق صدرُ المرءُ عن سر نفسه ... فصدرُ الذي يستودعُ السرَّ أضيقُ
وقال في الشيب " من الوافر " :
وقائلةٍ تبيضُ والغواني ... نوافرُ عن معالجة القتيرِ
عليك الخضب علَّك أن تُدنَّى ... إلى بيضٍ ترائبهن حور
فقلت لها: المشيبُ نذيرُ عمري ... ولستُ مسوداً وجه النذير
قال المبرد: تبيض أي تدع لحيتك بيضاء، يقال: بيضّ فلانٌ إذا ترك رأسه ولحيته أبيضين، وهذا كقوله تعالى (وَمَنْ أحيَاها) أي تركها حيَّةً. - وقال العتبي " من الرمل " :
آذنتك الشعراتُ ... البيضُ بالخطبِ الجليلِ
لم تدع في النفس شكاً ... لك من وشك الرحيلِ
يوشك المُرسلُ أن يلقاك ... من بعد الرسول
مات العتبي سنة ثمان وعشرين ومائتين، وحضر ابن عائشة جنازته وأنشد " من الكامل " :
وابيضَّ مني الرأسُ بعد سواده ... ودعا المشيبُ خليلتي لبعادِ
واستحصد القرنُ الذي أنا منهمُ ... وكفى بذاك علامةً لحصادي

39 - ومن أخبار العائشي التيمي
ّ
قال عمر بن شَبَّة: هو عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي القرشي. وعائشة جدته بنت طلحة. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: هي بنت عبد الله بن عبيد الله بن معمر التيمي، وأُمها أمّ أبان بنت زياد بن أبي سفيان. وقال عليّ بن هارون عن أبيه: من الشعراء الملقبين عبد الله بن عبيد الله العائشي، وكنيته أبو سعيد، وكانت سمية إحدى جداته وهي أم زياد بن أبيه.
قال: كان عبيد الله بن محمد قد أنفق على الإخوان ثلاثمائة ألف دينار، وجاءه وكيله يوماً بثمن ثمارٍ له مائة دينار وثلاثمائة درهم وهو في المسجد، فزافاه سائل، فأدخل يده في كم الوكيل فأخرج منها فدفعه له، فلم يزل السؤال يوافونه وهو يدفع إليهم حتى أفنى الدراهم والدنانير، فقال له وكيله: كم تعطي؟ فقال: أنا كما قال " من الكامل " :
وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤالِ
وقدم من البصرة إلى بغداد في شعبان سنة تسع عشرة ومائتين، فكتب عنه العلم، وحكي أنه كان يمسك بيمينه شاةً وبيساره شاةً إلى أن يسلخا.
40 - ومن أخبار عبيد الله بن معمر التيمي
ّ

مرّ عبيد الله على راعٍ في ظل حائط ومعه غنمٌ يرعاها، فقال: ياراعي، هل من لبن؟ قال: أنا مملوك وهذه الغنم لمولاي، ولايسعني ماتسألني ولا يحلُّ لي. قال وهو يطعم وإلى جنبه كلبٌ يأكل لقمةً ويلقي إليه لقمةً، فقال عبيد الله: إنك لعجبٌ! قال: وماذاك؟ قال: أراك تقاسم الكلب طعامك. قال: أولاً أستحيي من ذي عينين يراني آكل ولاأطعمه؟! قال له: فلمن هذه الغنم؟ قال: لبني فلان من أهل المدينة. قال: ومملوك من أنت؟ قال: لهم. قال: فلمن هذا الحائط؟ - يعني البستان. قال: لهم. قال: فأتى عبيد الله بن معمر مواليه، فقال: أتبيعوني مملوككم فلاناً؟ قالوا: نعم! قال: والغنم؟ قالوا: نعم! قال: والبستان؟ قالوا: نعم! فاشتراها كلَّها، ثمّ أقبل إلى الراعي فقال له: أنت، ياراعي، حُرٌّ لوجه الله! قال: الحمد لله على ذلك! قال: وقد اشتريتُ الغنم فهي لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنها صدقة على المساكين! قال: وقد اشتريت الحائط وهو لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنه وقفٌ على فقراء أهل المدينة! فانصرف عبيد الله وهو يقول: مارأيت كاليوم مثل هذا العبد لله درُّه! واشترى عبيد الله جارية بعشرين ألف دينار، كانت تُسمى الكاملة من الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان والقرآن والشعر والكتابة وفنون الطبيخ والعطر. وكانت عند فتىً قد أدبها لنفسه، وكان يجدُ بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أملق واحتاج. فقالت له الجارية: والله إني لأرثي لك وأشفق عليك، ولو أنك بعتني نلت غنى الدهر ولعل الله أن يصنع لنا جميلاً. فحملها إلى عبيد الله، فأعجبته، فاشتراها. فلما قبض الفتى المال استعبر كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فأنشأت تقول " من الطويل " :
هنيئاً لك المالُ الذي قد حويته ... ولم يبقَ في كفيَ إلا تفكُّري
أقولُ لنفسي وهي في عين كربةٍ ... أقلي فقد بان الحبيبُ وأكثري
إذا لم تكن للأمر عندك حيلةٌ ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
فقال الفتى " من الطويل " :
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... تفرقنا شيئاً سوى الموتِ فاعذري
أبوءُ بحزنٍ من فراقك موجعٍ ... أناجي به قلباً طويلَ التفكرِ
عليك سلامٌ لازيارةً بيننا ... ولاوصلَ إلا ان يشاءَ ابنُ معْمَرِ
فقال عبيد الله ورقَّ لهما: خذ بيدها وانصرفا راشدين! والمالُ الذي نقدته في ثمنها أنفقه عليها! واللهِ لا أخذتُ منها درهماً.
قُتل عبيد الله بن معمر لأربعين سنو برستاق من رساتيق إصطخر في زمن عثمان بن عفان، ومات ابنه عمر لستين سنة بالشأم بموضع يقال له ضمير، فرثاه الفرزدق وقال من أبيات " من البسيط " :
يا أيها الناسُ لاتبكوا على أحدٍ ... بعد الذي بضميرٍ وافقَ القَدَرا
كانت يداه لكم سيفاً يعاذُ به ... من العدوِ وغيثاً ينبتُ الشجرا
فابكي هبلتِ أبا حفصٍ وصاحبه ... أبا معاذٍ إذا المولى به انتصرا

41 - ومن أخبار محمد بن حفص
ٍ
روى عنه ولده عبيد الله بن محمد بن عائشة، وكان جواداً فصيحاً شاعراً. قال يحيى بن معين: العائشي رجل صدقٍ، ليس ممن يكذب إلا أنه سمع صغيراً.
ورد أعرابيٌ على محمد يسأله شيئاً، فقيل له: ويحك إن عليه ديناً! إذ طلع محمد، فقال له الأعرابيُّ: يا أبا عبد الرحمان، قد والله أخبروني بعذرك ولكن مثلك ومثلي كما قال من هو قبلي، وقد أنبئت أن عليك ديناً، فزد في رقم دينك واقض ديني! فأمر له ببدرة.
رئي ابن عائشة في يومٍ شديد الحر نصف النهار بالبصرة وهو على حمار وبين يديه غلامان، فقيل له: في مثل هذا الوقت؟ فقال: نعم! " من الطويل " :
حقوقٌ لأقوامٍ أريدُ قضاءها ... كأني إذا لم أقضهن مريض
عُزي محمد بن عائشة في ابن له، فأنشد " من الطويل " :
يُعزي المُعزي ساعةً ثمّ تنقضي ... ونفسُ المُعزَّى في أحرَّ من الجمرِ
لأن المُزّي إلفهُ في مكانه ... وإلفُ المُعزَّى في ضريح من القبر
وقال عبد الله بن شبيب: رايت ابن عائشة وقف على قبر ابنٍ له قد دفن، فزفر زفرةً ثم قال " من الطويل " :
إذا ما دعوتُ الصبر بعدك والبُكا ... أجاب البُكا طوعاً ولم يجبِ الصبرُ

فإن ينقطع منك الرجاءُ فإنه ... سيبقى عليك الحُزن ما بقي الدهرُ
قال أبو العيناء: قلتُ لابن عائشة: حدثني هذا الحديث! قال: إي والله وكرامة. ثمّ أنشد " من الطويل " :
وأهونُ ما يعطي الخليلُ خليلهُ ... من الهيّن الموجودِ أن يتكلَّما
وقال: مارأيتُ قطُّ أحسن استنشاداً عند الحاجات من ابن عائشة! قلتُ له يوماً: كان ابو عمرو المخزومي يقصدك كثيراً، ثمّ قد جفاك. فأنشد " من الطويل " :
فإنْ تَنأَ عَنَّا لاتَضُرْنا وإنْ تَعُدْ ... تجدنا على العهد الذي كنت تعلمُ
وكان يقول: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك. - قيل له: فلانٌ عليل، أفلا تعوده؟ فقال متمثلاً " من الطويل " :
ولستُ بزوارٍ لمن لايزوروني ... ولستُ أرى للمرء مالايرى ليا
وكان ينشد " من الكامل " :
الحظُّ أنهضُ بالفتى من علمه ... فانهض بجدٍ في الحوادثِ أو ذر
وكان يقول: لاتعرف كلمةٌ بعد القرآن وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أخصر لفظاً ولاأكمل وصفاً ولاأعمَّ نفعاً من قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قيمةُ كلِ امرئ مايحسن. وكان ينشد " من الخفيف " :
قيمةُ المرء مثلُ ما يحسنُ المر ... ءُ قضاءٌ من الوصيّ عليّ
قال الصوليّ: زنظمه آخر فقال " من السريع " :
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ... وَهْوَ الإمامُ العالمُ المتقنُ
كلُّ امرئٍ قيمتهُ عندنا ... وعند أهل العقل مايحسنُ
قال ابن عائشة: ما رأيت أظرف من أبي نواس، مررت به يوماً في سكة قريش، فإذا هو في عقد باب دار قومٍ وهو يكلم امرأةً، وكان لي صديقاً، فاستخففت به، فلما رجعت قال لي " من الكامل " :
يا أيها الرجلُ النبيلُ ... يا من له الرأيُ الأصيلُ
أرأيتَ ما أستقبحت من ... أمري هناك هو الجميل
أنّ التي أبصرتها ... سحراً تكلمني رسول
لبست هي القصد الذي ... يوتى إليه ولا السبيلً
أدَّت إلي رسالةً ... كادت لها نفسي تسيلُ
من فاتر العينين ينعت خصره ردفٌ ثقيلُ
منتصبٌ قوس الصبا ... يرمي وليس له سبيلُ
فلو أنّ أذنك عندنا ... فتسمعت ماذا أقول
لرأيت ما أستقبحته ... من أمرنا وهو الجميل
وعلمت أني في نعيمٍ ... لايحولُ ولايزولُ
وقال ابن عائشة: ليعذّبنَّ الله أبا نواسٍ على إساءته في تحسين شرب الخمر للناس وإن كان قد أحسن الوصف وأبدع، أليس الذي يقول " من الوافر " :
مضى أيلولُ وانقطع الحرورُ ... وأطفتْ نارها الشِعرى العبورُ
فقوما فالقحا خمرا بماءٍ ... فإن نتاج بينهما السُرورُ
نتاجٌ لاتدورُ عليه أمٌّ ... وحملٌ لا تُعدُّ له الشهورُ
قال ابن عائشة: قصدتُ بغداد أريد السماع على عبد الله بن المبارك، فلما صرتُ بواسط قلت: لو دخلت إلى هذا الشيخ إسحاق بن يوسف الأزرق! فدخلتُ إليه وسلَّمت عليه وهو مريض، فلما رآني أجهش إلي يبكي، فقلت: مايبكيك؟ فقال: ألم ترَ إلى هذا الفاسق!؟ قلتُ: أيُّ الفاسقُ؟ قال: الحسن بن هانئ. قلتُ: ومالك وله؟ قال: كذب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أني حدّثنه بحديث عن عبد الله بن مسعود. واللهِ ما حدثته به ولا تكلمتُ به! قال: قلت: ماهو؟ قال: ياجارية، هاتي القرطاس الذي دفعته إليك بالأمس. فجاءت به، فإذا فيه " من الرمل " :
يا حَسَن المُقلتين والجيد ... وقاتلي منه بالمواعيد
توعدني الوعد ثمّ تخلفني ... فيا بلائي من خلف موعودِ
حدثني الأزرق المحدثُ عن ... عمرو بن شمر عن ابن مسعود
لايخلف الوعد غير كافرةٍ ... وكافر في الجحيم مصفود
وجاء أعرابيٌّ إلى ابن عائشة من ولد زهير بن جناب الكلبي، فأنشده مدحاً له فيه فأعجب ابن عائشة، فقال له: أنت والله كما قال الشاعر " من الكامل " :
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً علي الأحساب نتكلُ

نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعلُ مثل ما فعلوا
ولستُ كما قال جدك زهير بن جناب. فقال: وما الذي قاله جدي؟ فداك ابنه! فأنشده ابن عائشة " من الطويل " :
ألا رُبَّ ذي فقرٍ وإن كان مثرياً ... يروح عليه شأوه وأباعرهْ
وكم مخربٍ مجداً تولى بناءه ... سواه فأودى عزه ومفاخره
تحيف منه اللؤم أكناف مجده ... فقد خرب البيت الذي هو عامره
وزال عموداه ورثت حباله ... وأصلح أولاه وأفسد آخره
فقال الأعرابي: لله درك من منشد مجيد وعالم مفيد، والله ما نعرف هذا الشعر. قال: بلى أنشدنيه أبي عاصم.
قال الأصمعي: أتاني أبو الشمقمق، فأنشدني " من المتقارب " :
رأيتك في النوم أطمعتني ... قواصر من تمرك البارحه
فقلت لصبياننا: أبشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه
قواصر تأتيكم باكراً ... وإلا فتأتيكم رائحه
فأمُّ العيال وصبيانها ... إلى الباب أعينهم طامحه
فقل لي " نعم " إنها حلوةٌ ... ودع عنك " لا " إنها مالحه
وصدق بنجحك تعبيرها ... فلا يك تعبيرها نازحه
فأنت امرؤ تبتني المكرمات ... سبوقٌ إلى الصفقة الرابحه
يداك يدٌ لسهام العدى ... وأخرى لأفواقها مانحه
قال: فامرت له بتمر.
وقال ابن عائشة: يعجبني من شعر أبي الشمقمق قوله في أهل بغداد " من الخفيف " :
ليس فيها مرؤةٌ لشريفٍ ... غير هذا القناع بالطيلسان
وبقينا في عصبة من قريشٍ ... يشتهون المديح بالمحان
قال: صحب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجيرن أنيس بن مرثد وأبوه مرثد وجده أبو مرثد، ولا يعرف رجلٌ له ولأبيه وجده صحبة غيره.
قال: وبلغني أن أبا عروة كان يصيح بالذئب، فيوجد ميتاً قد انفلق قلبه، فقيل له: فكيف لم تمت الشاء؟! قال: لأنها قد ألفته وعلمت أنها ليست مذنبة. وأنشد ابنُ عائشة " من المنسرح " : وقال: لاأعرف في وصف الصديق المكاشر أحسن من قول عبد الله بن معاوية بن جعفر " من البسيط " :
لاخير في الود ممن لاتزالُ له ... مستشعراً أبداً من خيفةٍ وجلا
إذا تغيبت لم تبرح تُسيْ به ... ظناً وتسأل عما قال أو فعلا
يري الصديق بإدخال مكاشرةً ... كيما يصول بها يوماً إذا عقلا
فلا عداوته تبدو فيعرفها ... منه ولاوده يوماً إذا اعتدلا
دخل خالد بن صفوان مسجد الجامع، فإذا هو بالفرزدق جالساً في الشمس، فقال: ياأبا فراس، والله لو رأينك نسوة يوسف لما أكبرنك وما (قَطَّعنَ ايْديهنَّ). فقال: أنت والله، يا أبا صفوان، لو رأينك نسوة مدين لما قلن: (استأجره غنَّ خَيْرَ من أستأجرت القَويُّ الأمينُ).
وقال العائشي: أول الفراعنة سنان بن علوان بن عبيد بن عوج بن عمليق يكنى أبا ملك، وهو الأمثل الذي يبست يداه لما مدهما إلى سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام، فوهب لها هاجر بنت ثويب أم أسماعيل؛ وفرعون الثاني فرعون يوسف عليه السلام، وهو خير الفراعنة، الريَّان بن الوليد ابن ثروان بن اراشة بن قاران بن عمرو بن عمليق، يقال إنه أسلم على يد يوسف عليه السلام؛ والثالث فرعون موسى عليه السلام، وهو أخبث الفراعنة،وهو الوليد بن مصعب بن معاوية بن عمرو بن قاران بن عمرو بن عمليق؛ والرابع وهو توفيل الذي قتله بخت نصر حين غزا مصر؛ والخامس أليس بن استاذن وكان طوله ألفي ذراع وكان قصيراه جسراً لنيل مصر دهرا.

وقال: بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف، لكل سيفٍ منها حكم، فسيف في العرب، قال الله تعالى: (أُقْتُلُوهمْ حَيْثُ وَجَدتُّموهمْ)؛ وسيف في أهل الكتاب، قال الله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمِنُونَ باللهِ ولاَ باليَوْمِ الآخرِ)؛ وسيف في أهل الأوثان من غير العرب، قال الله تعالى: (فإذا لقيتُمُ الَّينَ كَفَروا فضربَ الرِقابِ حَتَّى إذا أثخنتمُوُهمْ فَشُدوا الَوثاقَ)؛ وسيف في أهل القبلة، قال الله تعالى: (وإن طائِفَتانِ مِنَ الُمؤمِنين اقْتَتَلوا فأصْلِحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تَبغي حَتَّى تَفيءَ إلى أمرِ اللهِ). فولي رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف العرب وخلفه أبو بكر رضي الله عنه فيه في أهل الردة، ثمَّ ولي عمر رضي الله عنه سيف أهل الكتاب وسيف أهل أوثان، وولي عليُّ رضي الله عنه سيف أهل القبلة.
وسئل ابن عائشة عن قول عمر: لو أدركت سالماً مولى أبي حذيفة لوليته. قال: لم يعن أن يوليه الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأئمة من قريش! ولكن أراد الصلاة بالناس في الأيام التي كانت الشورى مكان صهيب لأن صهيباً كان ألكن، وكان سالم فصيحاً، فصلى بهم صهيب ثلاثة أيام، وهو الذي صلى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الفرزدق " من البسيط " :
صلّى صُهيبُ ثلاثاً ثمَّ أرسلها ... إلى ابن عفان مُلكاً غير مقصور
وأنشد ابن عائشة للزبير بن بكار " من الطويل " :
فلو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ ... لعزة قدر أو عُلُوِ مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلانِ
قال طاهر بن عليّ بن سليمان بن عليّ لعبيد الله بن عائشة: رأيتُ ابنك على أبواب أصحابنا لايعرفون قدره! - أراد بذلك الغضَّ منه. فقال ابن عائشة: إن عبد الرحمان ابني تأدب وكتب الأخبار وروى الأشعار، فكان فيما روى قولُ ابن عمه عبيد الله بن قيس الرقيات " من الخفيف " :
إنَّ شيباً من عامر بن لؤيٍ ... وفتوا منهم رقاق النعال
كلما أوجفت إليهم ركابي ... رجعت منهم بأهل ومال
فالتمس ذلك عند أهلك فلم يجده، لأنه عبد الرحمان بن عبيد الله بن محمد بن عائشة.

42 - ومن أخبار عبد الرحمان بن عبيد الله
ابن محمد بن عائشة، كان شاعراً مجيداًن وكان متصلاً بابن أبي دواد وكان يتسخط عليه ولا يرضى أفعاله، فمن هجائه له " من الكامل " :
أنت أمرؤ غثُ الصنيعة رثها ... لاتحسنُ النعمى إلى أمثالي
فأسلم لغير صنيعة أسديتها ... إلا لنجبر فاقة الأنذالِ
وكتب إليه أبوه يسأله عن حاله مع ابن أبي دواد، فكتب إليه " من الرمل " :
أنا في الخان أؤدي ... كلَّ يومٍ درهمين
نازلٌ فيه على نفسي على سخنةِ عين
3ف - أراني عن قليلٍ لابساً خُفَّي حُنينِ ثمّ مات عبد الرحمان سنة سبع ومائتين، فخرج أبوه إلى سرَّ من رأى لأخذ ميراثه، فنزل بقرب دار أبي دواد، فكان الناس يقصدون ابن أبي دواد ويجدون ابن عائشة قريباً فيدخلون إليه، فكثر امتناعهم بذلك عليه، فقال عبيد الله " من الطويل " :
سأكشفُ من تسليم أهل مودتي ... لهم مكشفاً لايستفيدُ لهم حمدا
يفرق ما بين المحبين أنني ... ممرٌ لإخواني وآتيهم قصدا
وأقام مديدة فلم يرض أيضاً بفعل ابن أبي دواد، فانصرف إلى البصرة.
قال عبد الصمد بن المعذَّل: كنَّا ببغداد في مجلس ابن عائشة، قال: وحضر المجلس صباح بن خاقان ومصعب بن عبد الله الزبيري، فتحدث الشيخ فأحسن، ثمّ أنشد شعراً فيه لفظةُ يجيزها بعض وبعضٌ لايجيزها، فوثبا عليه يريدان نقصه، فقالا: هذا لحنٌ! فاحتج عليهما الشيخ وأعانه ابنه عبد الرحمان، ثمّ انصرف. فلمَّا صار عبد الرحمان إلى منزله ونحن معه فاح إبطاه، فأنشأ يقول " من الخفيف " :
من يكن إبطهُ كآباطِ ذا الخلق ... فإبطاي في عداد الفقاح
لي إبطان يرميان جلييس ... بشبيه السُلاح وقت السُلاح
وكأني ما بين هذا وهذا ... جالسٌ بين مصعب وصباح
وله في أحمد بن إسرائيل في أيام الواثق وهو يكتب لابن الزيَّات " من المتقارب " :

يسبحُ لا من تُقى أحمدُ ... يُريدُ التظرفَ بالسبحه
ومجرى مخارج أنفاسهِ ... يفتقُ في اللفظ عن سلحه
وله " من الرمل " :
أنا مذ بنتَ أسيرُ للكمد ... زائد الصبوة منقوص الجلد
ذو منى فيك كذوب وعدها ... تخدع النفس بيومٍ وبغد
لاترعني بفراقٍ بعد ذا ... أنا راضٍ باجتماع وبصد
أنت كلُ الناس عندي فإذا ... غبت عن عيني لم ألق أحد
لي عشق فاضلٌ فيك كما ... لك فضلُ الحسن في وجه وقد
وكتب إلى صديق له كتاباً في ظهر وكتب فيه يعتذر إليه " من السريع " :
كتابنا ياصاح في الظهر ... يخبر أني ظاهرُ الفقرِ
فاعذر بنفسي أنت من سيدٍ ... فالعذر أولى بالفتى الحُرِ
وأعلم وإن كنت الذي علمه ... يفوق أهل البدو والحضر
أن الغنى يصلح دين الفتى ... والفقر مشتق من الكفرِ
مات عبيد الله بن محمد بن عائشة بالبصرة في شهر رمضان سنة ثمان وعشرين ومائتين، وصلى عليه جعفر بن القاسم أمير البصرة وهو ابن خمس أو ست وثلاثين سنة.
43 - ومن أخبار أبي عليّ الحسن بن عليّ الحِرْمازيّ
قيل له الحرمازي لأنه كان ينزل في بني الحرماز، فنسب إليهم، وهو مولى لنبي هاشم ومن أصحاب أبي عبيدة، وقيل: مولى لآل سليمان بن عليّ، وقالوا: هو أعرابيّ راويةٌ قدم البصرة وأقام بها. وقال المبرد: الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم ومازن بن مالك بن عمرو بن تميم أخوه، وليس في الأرض حرمازي نلقاه فنسأله عن نسبه إلا قال: من بني عمرو بن تميم! ولايذكر الحرمازي لضعة فيهم. وبنوا نُميَّر لما هجاهم جرير صار النميري إذا سئل عن نسبه قال: من بني عامر بن صعصعة! وقد هجا محمد بن مناذر جماعة من ثقيف من أشراف أهل البصرة فقال " من الوافر " :
وسوف يزيدهم ضعةً هجائي ... كما وضع الهجاء بني نميرِ
قال ابن الأعرابي: الحرماز السيئُ الخُلق.
وكان الحرمازي في ناحية عمرو بن مسعدة، وكان عمرو يجري عليه، فلما خرج عمرو إلى الشأم تخلف الحرمازيُّ عنه لنقرس كان به، فأضر ذلك بحاله، فقال " من الطويل " :
أقام بأرض الشام فاختل جانبي ... ومطلبه بالشام غير قريب
ولاسيما في مفلس حلف نقرسٍ ... أما نقرسٌ في مفلسٍ بعجيبِ
كان المأمون أمر يحيى بن أكثم أن يفرض فرضاً، فصيّر يحيى أمر ذلك إلى زيد صاحبه وأمره أن لايفرض إلا لأمرد بارع الجمال، فقال الحرمازي " من السريع " :
يازيد ياكاتب فرض الفراش ... أكل هذا طلباً للمعاش
مالي أرى فرضك حملانهم ... تكتبُ في الدفتر قبل الكباشِ
وعد الحرمازيَّ بعض الهاشميين فأخلف، فكتب إليه " من الوافر " :
رأيتُ الناس قد صدقوا ومانوا ... ووعدك كُلُّه خُلفٌ ومينُ
وفيتُ فما وفيت لنا بوعدٍ ... وموعود الكريم عليه دينُ
ألا ياليتني استبقيتُ وجهي ... فإنّ بقاء وجه الحُرّ زينُ
واعتل الحرمازي، فلم يُعده بعض أصدقائه، فكتب إليه " من الوافر " :
متى تنفك واجبةُ الحقوقِ ... إذا كان اللقاءُ على الطريقِ
إذا ما لم يكن الإسلامُ ... فما يرجو الصديقُ من الصديقِ
مرضتُ فلم تعدني عُمْر شهرٍ ... وليس كذاك فعل أخٍ شفيقِ
وقال: كنتُ بباب مدينة بغداد فرأيت أعرابياً، فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من بني تميم فقلت: أتعرف القائل " من الطويل " :
تميمٌ بطُرقِ اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكتْ طُرق المكارم ضلَّتِ
ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملةٍ ... يَكُرُّ على جنبي تميمٍ لزَلَّتِ
تميمٌ كجحش السوء يرضع أمَّه ... ويتبعها دهراً إذا هي ولَّتِ
فقال: لا، ولكني أعرف غير هذا. قلتُ: فهاته! فقال " من الوافر " :
أعضَّ اللهُ من يهجو تميماً ... ومن يروي ليثلبها هجاءَ
ببظر عجوزةِ وبإسكتيها ... وأدخل رأسه من حيث جاءَ
قال: فغطيت رأسي مخافة أن يسمعه الناسُ، وانسلكت في غمار الناس.

44 - ومن أخبار أبي العالية الشامي
ّ
اسمه الحسن بن مالك مولى العمين، نزل البصرة وأقام بها وقدم بغداد، فأدب العباس بن المامون وجالس المأمون، وكان أديباً شاعراً راويةً، سمع من الأصمعي. قال أبو العالية لما مات أحمد بن المعذل " منى السريع " :
لو لم يكن جدهم عاثراً ... وحظهم طاح بها طائحُ
ما مات منهم أحمد المرتضى ... وعاش عبد الصمد الفاضحُ
وقال في تقارب الخطو " من الطويل " :
أرى بصري في كل يومٍ وليلةٍ ... يكل وخطوي عن مدى الخطو يقصرُ
ومن صاحب الأيام سبعين حجةً ... يغيرنه والدهر لا يتغيرُ
لعمري لئن أمسيتُ أمشي مُقيَّداً ... لما كنتُ أمشي مُطلقَ القيَّد أكثرُ
قال أيضاً " من الطويل " :
ولو أنني أعطيتُ من دهريّ المُنى ... وما كُلُّ من يعطي المُنى بمُسدَّدِ
لقلت ل]ام مضين: ألا ارجعي ... إلينا! وأيامٍ أتَيْنَ: ألا ابعِدي
وقال " من الطويل " :
وما آثرَ التقصيرَ إلا مُذمَّمٌ ... رأى نفسه حلَّت محلَّ المقصرِ
وكُلُّ امري يولبك ما هو أهلهُ ... فأهل لمعروف وأهل لمنكرِ
45 - ومن أخبار أبي محلَّم السَعْديّ
وهو محمد بن هشام بن عوف التميمي أعرابيُّ. قال مؤرجٌ: أبو مُحلم أحفظ الناس، أخذ مني كتاباً فحبسه ليلةً، ثمّ جاء به وقد حفظه وأنشد لأبي الأسود الدؤلي " من الطويل " :
إذا قلتُ: أنصفني ولا تظلمني ... رمى كلَّ حقٍ أدَّعيه بباطلِ
فباطلته حتى ارعوى لي كارها ... وقد يرعوي ذو الشغب بعد التجادلِ
رأى الواثق بالله في منامه كأنه يسأل الله الجنة وأن يتغمده برحمته ولا يهلكه فيما هو فيه، وأنّ قائلاً قال له: لايُهلك اللهُ إلا من قلبه مَرْتٌ. فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك، فلم يعرفوا حقيقته. فوجه إلى أبي محلم فأحضره الباب وسأله عن الرؤيا والمرت، فقال أبو محلم: المرتُ من الأرض القَفْرُ التي لانبت فيها، فالمعنى على هذا: لايهلك على الله إلا من قلبه خالٍ عن الإيمان خُلُو المرت من النبات. فوجه الواثق إليه: أريدُ شاهداً من الشعر. فأفكر أبو محلم طويلاً، فأنشده بعض من حضر بيتاً لبعض بني أسد " من الطويل " :
ومرتٍ مروراةٍ يحار بها القطا ... ويُصبحُ ذو علْمٍ بها وهو جاهلُ
فوجه بالبيت وضحك، ثمّ قال للذي أنشده: ربما بعدُ الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، واللهِ لاتبرح حتى أنشدك! فأنشده للعرب مائة بيتٍ معروفٍ لشاعرٍ معروفٍ، في كل بيتٍ منها ذكرُ المرت. فبلغ ذلك الواثق، فأمر له بألف دينار. وأراده لمجالسته، فأبى أبو محلم، وقيل للواثق: إنه حِلْفٌ جافِ! فتركه.
وقال في العبَّاس بن الأحنف " من المنسرح " :
إني وإن كنتُ لاأراك ولا ... أطمعُ في ذلك آخر الأبدِ
لقانع بالسلام يبلغني ... عنك فيشفي حرارة الكبد
وأمزج الهمَّ بالسرور اذا ... أيقنتُ أنا جاران في بلدِ
وكان يضع من العباس، فلما أنشد هذا قال: وأبيك لقد شكا وقنع، وإن كان له شيءُ مليحٌ فه1ا. - وقال بعض شعراء البصرة فيه " من البسيط " :
وخادعتك تميمٌ فانخدعت لها ... أبا المحلم والمخدوع مخدوع
لو أن موتى تميمٍ كلها نشروا ... وثبتوك لقال الناسُ: مصنوعُ
إنّ الجديد إذا ما زيد في خلقٍ ... تبين الناسُ أنّ الثوب مرقوع
قال أبو محلم: لما قدمت مكة لزمت مجلس ابن عيينة، فقال لي يوما: لاأراك تحظى بشء مما تسمع. قلتُ: وكيف؟ قال: لأني لاأراك تكتب. فقلت: أني أحفظ! فاستعاذ مني مجالس، فأعدتها على الوجه. فقال: حدثنا الزهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة من يحفز كل شيبء. قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين.
قيل لأبي محلم: مات الضعفاء، في هذا الغلاء، وسلم الأقوياء. فقال: أما سمعت " من البسيط " :
رأيتُ جلتها في الجدب باقيةٍ ... تنفي الحواشي عنها حين تزدحمُ
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأ بها السلمُ

وروي أنّ الشعبي قال: ربما حدثت عبد الملك بن مروان وقد هيأ اللقمة فيمسكها في يده مقبلاً عليَّ، فأقول: أجزها فإن الحديث من ورائها! فيقول: الحديث أشهى إليَّ منها! - أجزها أي أزدردها! وقال ابن الصباح: أنشدت أبا محلم لعمر بن أبي ربيعة " من الطويل " :
ومانلتُ منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المضرَّجِ لابسُ
فقال لي: ألا أنشدك في هذا النحو ما يسجد هذا له؟! فقلت: إن رأيت، وقيت السوء! فأنشدني لابن ميادة " من الطويل " :
وما نلتُ منها محرماً غير أنني ... أُقبل بسَّاماً من الثغر أفلجا
وألثمُ فاها تارةً بعد تارةٍ ... وأترك حاجات النفوس تحرجا
وإني على سوط الهوى ذو تجلد ... أصابرهُ مالم أجدْ عنه مخرجا
ولاعيشَ إلا أن تبيت ملهوجاً ... على نار من تهوى وتصبحُ منضجا
وأنشد أبو محلم " من البسيط " :
وما يواسيك فيما ناب من حدثٍ ... إلا أخو ثقةٍ فانظر بمن تثقُ
فأنشسده أبو محلم للقطامي " من الكامل " :
وإذا ينوبك والحوادثُ جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثقِ
توفي أبو محلم سنة خمسٍ - وقيل: ثمانٍ - وأربعين ومائتين.
46 - ومن أخبار أبي قلابة الجَرْميّ
اسمه حبيشُ بن عبد الرحمان، وقيل: ابن منقذ، أحد الرواة الفهمة، وكان شاعراً وبينه وبين الأصمعي عداوة.
قال الجرمي: تخلفت عن حلقة العتبي أياماً، فكتب إلي: تركتنا ترك رجلٍ أوجده أو أغناه علمٌ، فإن كان من جرم فعن غير إرادةٍ بقلبٍ أو تعتمد بلسان، وإن كان من علم غنيت به فتصدق علينا (إنَّ اللهَ يجزْي المُتصدقينَ).
وقال أبو قلابة " من الكامل " :
إلفانِ راحا مدنفينِ كلاهما ... خنسا السلام وسلَّمتْ عيناهما
حذرَ الرقيبِ عليهما فتصافحا ... باللحظ إذ أعياهما لفظاهما
ووعى ضميرهما العتاب لغير ما ... كانت أبانت لفظةً شفتاهما
رزُقا دقائقَ في اللحاظ مبينةً ... لهما ومشكلةً بفهم سواهما
فطنُ أرقُّ من الهواء كأنها ... إذ ترجمت لهواهما حسناهما
رقا ورقَّ على الهوى معناهما ... فتلاقت الأوهامُ دون هواهما
47 - ومن أخبار أبي عمر الجَرْميّ
واسمه صالح بن لإسحاق البجلي، مولى بجيلة بن أنمار بن أراش بن الغوث، وإنما قيل له الجَرْميّ لأنه كان يلقب الكلب وأبا عمر النباح.
قال أبو عمر: مابقي شيءٌ عند الأصمعي من العربية والغريب إلا وقد أحكمته. فسمعه الأصمعي فقال: كيف تنشد " من الكامل " :
قد كُنّ يخبأنَ الوجوهَ تستّثراً ... فالآنَ حين بدأن للنظَّارِ
أو بدين؟ فقال: بدأن. فقال: خطاٌ! فقال: بل، بدين! فقال: خطاُ، إنما هو بدون لأنه من بدا يبدو إذا ظهر.
قال المبرد: كان التوزي والحرمازي والجرمي يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وهؤلاء الثلاثة أكبر أصحابهم، وكان من دون هؤلاء في السن الزيادي والمازني والرياشي وأبو حاتم، وكان التوزي أطلع القوم في اللغة وأعلمهم بالنحو بعد الجرمي والمازني، وكان المازني أجدَّ من أبي عمر في النحو، وأبو عمر أغوص منه.
48 - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن المغيرة الأثْرم
قال: قرأت على مروان بن سليمان بن يحيى بن يزيد أبي حفصة قطعة من شعره. - ومن شعر الأثرم " من الطويل " :
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى ... وكلُّ امرئ يبلى إذا عاش ما عشتُ
أقولُ وقد جاوزت تسعين حجةً ... كأن لم أكن فيها وليداً وقد كنتُ
وأنكرت لما أن مضى جُلُّ قوَّتي ... ويزدادُ ضعفاً قوَّتي كلما زدتُ
كأني إذا أسرعتُ في المشي واقفُ ... لقربِ خطى ما مسها قصرٌ وقتُ
وصرتُ أخاف الشيء كان يخافني ... أعدُ من الموتى لضعفي وما متُ
وأسهرُ في طيب الفراش ولينه ... وإن كنت بين القوم في مجلس نمتُ
49 - ومن أخبار أبي محمد عبد الله بن محمد التوزّيّ

هو مولى لقريش، وكنَّا ندعوه أبا محمد القُرشي بالبصرة، وإنما قيل له التوّزيُّ لنزوله في أصحاب التوزيّ بالبصرة. وكان أعلم من المازنيّ والرياشيّ بالشعر خاصّةً، ومنه تعلّم أبو ذكوان الشعر وكان التوّزيّ زوج أُمه. - قال: الكاتب عند العرب العالم، ومنه (أَمْ عِنْدَهُمُ الغّيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون).
قال المبرد: كنَّا عند التوزي، فأذكره رجلٌ بحاجةٍ له فقال: شُدّ في يدك خيطاً! فأنشد التوزيّ " من الطويل " :
إذا لم تكن حاجاتنا في صدورنا ... لإخواننا لم تُغْنِ عنها الرقائمُ
وقال التوزيّ: من أجود الأبيات في قساوة لقلب قال الشاعر " من البسيط " :
يُبكى علينا ولانبكي على أحدٍ ... إنَّا لأغلَظُ أكبادناً من الإبلِ
ومن أجود الأبيات في الاحتفاظ بالمال بيتُ منجوف بن مرة السُلميّ " من الطويل " :
وأدفعُ عن مالي الحُقوقَ وإنه ... لَجَمٌّ وإنّ الدهرَ جَمٌّ عجائبه
قال المبرد: كنَّا عند التوزيّ، فجاءه عُمارة بن عقيل، فأجلسه إلى جانبه، ثمّ قال لي: اقرأ عليه من شعر أبيه! فقرأتُ قصائدُ منها " من الكامل " :
أمَّا الفُؤادُ فلن يَزالَ موكَّلاً ... بهوى جُمانةَ أو بحّبّ العاقرِ
قال التوزيّ: ماجمانةُ والعاقرُ؟ قال: مايقول صاحبكم؟ - يعني أبا عبيدة. فقال التوزيّ: قال: هما امرأتان. فضحك وقال: هما والله رمْلَتان عند بيوتنا.
وقال التوزيّ: كلّ شيءٍ من أسماءِ التمر فيه الباء فهو نَبطيٌّ نحو بربنا وبارسما، وما فيه ألف ونون فهو فارسيٌّ حركان وجيسوان وبندادجان. - وقال: يقال كتابٌ نزلُ الخط إذا كانت الكتابة كثيرة فيه، ورجلٌ ذو نزل أي ذو خيرٍ كثير، وطعامٌ له نزلٌ أي ريعٌ كثيرٌ، والعامة تقول له نزل، وذلك خطأٌ. قال لبيد " من الطويل " :
ولن تعدموا في الحرب ليثاً مُجرَّباً ... وذا نزلٍ عند العطيَّة باذلاً
أي ذا عطاء كثير. - قال: ولايقول الفصحاء إلا شهق يشهق.
50 - ومن أخبار أبي عَدْنانَ السُلَميّ
هو عبد الرحمان بن عبد الأعلى البصري، مولى بني سُليم. قال: كان جدُّ أبي من السغد، أصابه سباءٌ، سباه عبد الله بن خازم السُلَميّ فمن عليه. - سمع من أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والأصمعي وأبي مالك ونظرائهم، وكان أحد الرماة المجيدين وكان شاعراً راوية للحديث، وله كتب في الأدب حسان، منها " كتاب قِسيّ العرب " ، لم يسبقه أحدٌ إلى تصنيف مثله، وكتاب في " غريب الحديث " .
وقال ابو عدنان عن أبي زيد إن امرأة أبي رجاء الكلبي أجابته حيث يقول لها " من الطويل " :
تَدُسُّ إلى العطار ميرةَ أهلها ... ولن يصلْحَ العطاَّرُ ما أفسد الدْهرُ
ألم تَرَ أن البانَ يُجْلَبُ عُلْبَةً ... ويُتركُ عود لا ضرابٌ ولاظهرُ
فقالت " من المتقارب " :
عَدِمتُ الشيوخ وأشباههم ... وذلك من بعض أفعاليهْ
ترى زوجةَ الشيخِ مُغْبَرةً ... وتمسي بصحبته باليهْ
قال: فوثبتُ عليهل، فنادت: يال كلب! وناديتُ: يالَ كلب! فدخل علينا النساء دون الرجال، فضربتني وخنقتني وشققن مدرعتي.
وقال محمد بن الجراح: أبو عدنان الأعور السُلَميُّ البصريّ، اسمه ورد بن حكيم، راوية أبي البيداء، وهو شاعر ومن شعره " من الكامل " :
أهملتَ نفسك في هواك ولمتني ... لو كنت تنصف لُمْتَ نفسك دُوني
ما بال عينك لاترى أقذاءها ... وترى الخفيَّ من الأذى بجفوني
وقال أحمد بن سليمان: سألت أبا عدنان عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي أيّوب: " إن طلاق أُم أيّوب لَحُوبٌ " أهو الإثمُ؟ فقال: لو كان كذا لضاق على كلّ مُطلّقٍ الطلاقُ، ولكن الحُوبُ الوَحْش. وأنشد " من الرجز " :
إنّ طريقَ مِثْقَبٍ لَحُوبُ
أي لوحش، قال: ومثقب طريق الكوفة إلى مكة، وطريق البصرة إلى مكة يدعى فَلْج، وأنشد " من الرجز " :
إنّ بني العَنْبَرِ أحموا فَلْجا ... ماء رواءً وطريقاً نهجا
ويدعى طريق اليمامة إلى مكة المُنْكدر، وأنشد " من الرجز " :
لاتأخذُ العِلْمُ طريق المُنْكَدِر ... ولا تكارى من فقيمي عَسِرْ
تسيرُ يومين ويوماً تنتظرْ ... ولا يزال قد أتاك يعتذرْ

بالإفكِ والزورِ وإياك يَغُرّْ
51 - ومن أخبار الزياديّ أبي إسحاق
هو إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمان بن زياد بن أبيه، قرأ على الأصمعي وروى عنه وعن غيره. من شعره " من الرمل " :
دَفَعَ الرحمانُ لي عنك فذاك الدَفْعُ عَنّي
وأراني فيك من يعذلُني قارعَ سِنيّ
إن تكن برزت في الحُسنِ فقد برَّز حُزْني
52 - ومن أخبار أبي عمرو قَعْنَبِ بن المُحْرِز الباهليّ البصريّ
وكان أبو هفَّان يكتب عنه ويسمع منه، وكان أبو عليّ البصير ينقم ذلك على أبي هفان، ويرى أنّ موضعه من العلم والأدب يرتفع عنه، وقال فيه " من الطويل " :
رأيتُ أبا هِفَّان يسأل قعنباً ... فقلتُ له قولاً أمضَّ من الشتمِ
تعلَّمت حتى من كلابٍ عُواءها ... لعمري لقد أسرفت في طلب العلمِ
فبلغ ذلك الشعر قعنباً، فقال: ياقوم ومع أبي هِفان من العلم والأدب ما يرتفع به عن السماع مني! فاتصل ذلك بأبي هفَّان. فقال " من المتقارب " :
أباهل ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب: ياباهليُّ ... عوى الكلبُ من لُؤُم هذا النسب

53 - ومن أخبار أبي عثمان المازني
ّ
قال المبرد: اسمه بكر بن محمد بن عدي بن حبيب من بني مازن ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. وكان إمامياً، يرى رأي ابن ميثم، وكان يقول بالإرجاء. - قال المبرد: لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان. قال المازني: خرقت سبع عشرة نسخة لكتاب سيبويه من كثرة دراستي له. وكان يسمى الصندوق. وكان الرياشي قرأ سيبويه على المازني: - قال الجَمَّاز يمدحه " من الرمل " :
أعلم الناس بنحوٍ وبشعرٍ وغريبْ ... وبأيام جميع الناس بكر بنُ حبيبِ
قال المازني: كان سبب طلب الواثق لي أنّ مخارقاً غنَّى في مجلسه " من الكامل " :
أظُلَيْمُ إنّ مصابكم رجلاص ... أهدى السلام إليكمُ ظلمُ
فتابعه بعضٌ وخالفه آخرون، فسأل الواثق عن من هو من رؤساء النحو، فذكرت له، فأمر بحملي وإزاحة علتي. فلَّما وصلت إليه وسلمت عليه قال لي: ممن الرجل؟ قلتُ: من بني مازن. قال: أمن مازن تميم أم من مازن قيس أم من مازن ربيعة أم من مازن اليمن؟ قلت: من مازن ربيعة. قال لي: باسمك؟ - يريد: مااسمك؟ وهي لغة في قومنا. فقلت على القياس: مكرٌ! - أي بكر. فقال: اجلس واطمئنَّ! فجلست فسألني عن البيت فانشدته " من الكامل " :
أظليمُ إنّ مصابكم رجلا
فقال لي: أين خبر إنّ؟ قلتُ: " ظُلْمُ " الحرف الذي في آخر البيت. ثمّ قلتُ: أما ترى، يا أمير المؤمنين، أنّ البيت كلَّه مُعلَّقٌ لامعنى له حتى يتَّم بهذا الحرف؟! إذا قال:
أظلُيم إنّ مصابكم رجلاً ... أهدى السلام إليكمُ...
فكأنه ما قال شيئاً حتى يقول ؟ظُلْمُ؟. فقال: صدقت! ألك ولدٌ؟ قلت: بنية لاغير. قال: فما قالت حين ودعتها؟ قلتُ " من المتقارب " :
تقول ابنتي حين جدّ الرحيلُ ... أرانا سواءً ومن قد يتمْ
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنَّا بخيرٍ إذا لم ترمْ
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نُجفى وتُقْطَع منَّا الرَحِمْ
قال: فما قلت لها؟ قلتُ لها ما قال جرير " من الوافر " :
ثقي بالله ليس له شريكٌ ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: ثقْ بالنجاح إن شاء الله! إن ههنا قوماً يختلفون إلا أولادنا، فامتحنتهمْ! فمن كان منهم عالماً ينتفع به ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم. ثمّ أمر فجمعوا إليَّ فامتحنتهم، فما وجدت طائلاً، وحذروا ناحيتي، فقلت: لابأس على أحد! فلمَّا رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ قلتُ: يفضل بعضهم بعضا في علوم يفضل الباقون في غيرها، وكلٌّ محتاجٌ إليه. قال لي الواثق: إني خاطبت منهم واحداً، فكان في نهاية الجهل في خطابه ونظره. فقلت: ياأمير المؤمنين، أكثر من تقدم منهم بهذه الصفة، ولقد أنشدت فيهم " من الكامل " :
إنّ المعلم لايزالُ مضعفاً ... ولو ابتني فوق السماء بناء
من علَّم الصبيان صّبَّوا عقله ... حتى بنى الخلفاء والأمراء

فقال: لله درُّك يابكر! كيف لي بك؟ فقلت: ياأمير المؤمنين، الغنم والفوز في قربك والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم ويضر بهم ذلك، ومطالبة العادة أشدُّ من مطالبة الطباع. فأمر لي بألف دينار وكسوة وطيب، وانصرفت. - قال الصوليّ: البيت الأول للحارث بن خالد المخزومي.
قال عبد الصمد بن المعذَّل يهجوج " من المديد " :
وفتىً من مازنٍ سادَ أهل البصره ... أمُّه معرفةٌ وأبوه نكره
ومن شعر المازني في الفضل بن إسحاق أمير البصرة " من السريع " :
أخطأتُ في مدحك أخطأتُ ... وكُلُّ ما قلت عُضَيهاتُ
رمى لساني طمعٌ كاذبٌ ... إليك والسادات أمواتُ
والدهرُ ذو صرفٍ وفي صرفه ... أوابدُ تأتي وآفاتُ
أولَّها أنت على مصرنا ... مصيبةٌ فيها مصيباتُ
وقال يرثى رجلاً " من الوافر " :
جسورٌ لايُروَّع عند همٍ ... ولا يثني عزيمته اللقاءُ
حليمٌ في شراستهِ إذا ما ... جنى الحلماء أطلقها المراءُ
حميدٌ في عشيرته فقيدٌ ... يطيبُ عليه في الملاء الثناءُ
فإن تكن المنية أقصدته ... وحُمَّ عليه بالتلف القضاءُ
فقد أودى به كرمٌ وخيرٌ ... وعودٌ بالفضائل وابتداءُ
سمع المازني من بطن رجلٍ قرقرة فقال: هذه ضرطة مضمرة. - وقال: جاري أبو حفص بن سلمة الغفاري يخفضني منذ أربعين سنة، كلَّ غداة يمرَّ عليَّ فيها يقول لي: يا أبي عثمان، كيف أصبحت؟ توفي المازنيُّ في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في أيام المتوكل على الله.
54 - ومن أخبار دماذ غُلام ابي عبيدة
هو أبو غسان رفيع بن سلمة دماذٌ، وسلمة هو ابن مسلم بن رفيع العبديُّ. قال ابن دريد: دماذ بالفارسية الفسيلة.
قال دماذ: قلتُ لأبي العتاهية: أنشدني أحسن ماقلت في غزلك! فأنشدني " من الطويل " :
يقولُ أناسٌ: لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعتُ
سقامٌ على حسمي كبيرٌ موسَّعٌ ... ونومٌ على عيني قليلٌ مقَّوتُ
إذا اشتدَّ مابي كان أفضلَ حيلتي ... لها وضعُ كفي فوقَ خدي وأصمتُ
وأنضجُ وجه الأرض طوراً بعبرتي ... وأقرعها طوراً بظفري وأنكتُ
أما رحمتني يوم ولَّت وأسرعت ... وقد تركتني قائماً أتلَّفتُ
أُقلبُ طرفي أن أراها فلا أرى ... وأَحلُبُ عيني ماءها وأصوتُ
ولعمر بن أبي ربيعة في معناه " من المنسرح " :
لم أنس يومَ الرحيل وقفتها ... ودمعها في جفونها غرقُ
وقولها والركابُ سائرةٌ ... تتركنا هكذا وتنطلقُ
وقال دماذ " من المتقارب " :
تفكرت في النحو حتى مللت ... وأتعبتُ روحي به والبدنْ
وأتعبتُ بكراً وأصحابه ... بطول المسائلِ في كلَّ فنّ
وكنت عليماً بإضماره ... وكنتُ عليماً بما قد علنْ
وكنتُ بظاهره عالماُ ... وكنتُ بباطنه ذا فطن
سوى أنّ باباً عليه العفا ... ءُ للفاء يا ليته لم يكنْ
وللواو بابٌ إلى جنبه ... من البغض أحسبه قد لُعِنْ
إذا قلتُ: هاتوا لماذا يقال ... ل: لستُ بآتيك أو تأتين
أبيتوا لما قيل هذا كذا ... على النصب قالوا: لإضمار أنّ
وما إن علمتُ لها موضعاً ... يبينُ وأعرفُ إلا بظنّْ
فقد كدت يا بكر من طول ما ... أفكرُ في بعض ذا أن أجنّْ
قال محمد: وإنما جرى هذا لأن أهل البصرة يزعمون أنه لاينتصب فِعْلٌ إلا بإضمار أن. فإذا قال القائل " من الكامل " :
لاتنه عن خُلُقٍ وتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

فتأويله: لايجتمع فيك هذان الأمران أن تنهى عن خلق وأن تأتي مثله، وإذا قال: لستُ بآتيك أو تأتيني، فتأويله: لست بآتيك إلا أن تأتيني. وأما الفاء فقول الله تعالى: (يالَيْتَني كُنْتُ مَعَهُمْ فأفُوزَ فوزاً عظيماً) فتأويله: ياليتني يجمع لي أن أكون معهم فأن أفوز فوزاً عظيماً.
وقال دماذٌ في عبَّاد بن الممزق " من البسيط " :
عَبَّادُ تمدحُ أيري ثمّ تهجوني ... وليس يفعلُ هذا غير مجنون
أليس أيريلحاك اللهمن جسديفكيف بالمدح تحبوه وتهجوني
فكفَّ عني فما أصبحتُ من أربي ... نيك الشيوخ ولا رأيي ولا ديني
وهل يناك امرؤٌ والشيبُ شاملهُ ... قد لاح في عارضٍ منه وعثنونِ
إني لأخسرُ خلقِ اللهِ كُلهم ... إن قُمتُ أنكحُ شيخاً وابن ستين
وقال " من المنسرح " :
آبائي وجهك المفدَّى ... والوجناتُ الوُردَّاتُ
وعارضاك اللذان طابا ... حين بدا فيهما النباتُ

55 - ومن أخبار أبي عمران موسى بن سلمة النحوي
ّ
كان من أجل رواة الأصمعي وأملي كتب الأصمعي ببغداد. وكان صديقاً لأبي نواس، وكان أبو نواس يعاتبه ويقول له: ويحك لم تذهب إلى الأصمعي وأنت أعلم منه؟!
56 - ومن أخبار أبي حاتم السجستاني
ّ
واسمه سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم. وكان يؤُمُّ الناس في المسجد الجامع بالبصرة، ويقرأ الكتب على المنبر، وكان حسن الصوت جهيره حافظاً للقرآم عالماً بالقراآت والتفسير، وكان أحسن الناس علماً بالعروض واستخراج المعمى، وكان يعدُّ من الشعراء المتوسطين، وكان راوية عن أبي زيد والأصمعي وعمرو بن كركرة النميري وأبي عبيدة. - وقدم بغداد وما قام له أحدٌ لتصرفه في العلوم، وكان دون المازني في النحو، وكان فيه دعابةٌ شديدة.
قال إبراهيم بن أحمد الغفاري القاضي عن أبيه: لأهل البصرة أربعة كتبٍ يفتخرون بها على أهل الأرض العين للخليل والنحو لسيبويه والحيوان للجاحظ والقراآت لأبي حاتم. - وكان الأصمعي يجله من أجل القرآن، ويقوم له ويعانقه.
قال أبو حاتم: ولي البصرة وأعمالها رجلٌ من بني هاشم سنةٍ ستٍ وسبعين ومائتين، وكان رجلاً له جلالةٌ وسنٌّ. قال: فدخلت عليه، فقال: من علماؤكم بالبصرة؟ قلت: المازني من أعلم الناس بالنحو، والرياشي من أرواهم لعلم الأصمعي، والزيادي من أعلمهم بأخبار أبي زيد، وهلال الرأي من أعلمهم بالرأي، وابن الكلبي من أكتبهم للشروط، والشاذ كوني من أرواهم للحديث، وأنا فأنسب إلى علم القرآن. قال: فأقبل على حاجبه وقال: إذا كان غداً فاجمعهم عندي! فلما كان الغد جمعهم في مجلسٍ واحدٍ. فقال: أيكم أبو عثمان المازني؟ قال: هاأنا ذا. قال: فما تقول في الظهار، أيجوز فيها عتقُ عبد أعور؟ قال: وما علمي بهذا علم هذا عند هلال الرأي. فأقبل على هلال فقال: ماتقول في قول الله تعالى: (يَا أيها الذينَ آمنُوا عَلَيكمْ أنفُسَكُمْ) لِمَ نسب؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند أبي عثمان المازني. ثمّ أقبل على الزيادي فقال: مالعنجد في كلام العرب؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند الرياشي. فأقبل على الرياشي فقال: كيف تكتب وثيقةً بين رجلٍ وامرأةٍ إذا أختلفت من زوجها بترك صداقها؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند ابن الكلبي. فأقبل على ابن الكلبي وقال: كم رجلاً روى عن ابن عون الحديث؟ قال: وماعلمي بهذا علمه عند ابن الشاذ كوني. فأقبل على ابن الشاذكوني وقال: (ألا إنَّهُمْ يَثنُون صُدُورهم). فقال: وماعلمي بهذا علمه عند أبي حاتم. فأقبل عليَّ فقال: اكتب لي كتاباً إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة، ومانالهم من الآفات في نخلهم! قلت: أعزك الله، مالي بلاغةٌ ولاأحسن إنشاء الكتب إلى السلطان. قال: إنما مثلكم مثل الحمار، يبقى أحدكم في المعنى الواحد خمسين سنة ثمّ يقول: أنا عالم، لكن عالمنا بالكوفة، لو سئل عن هذا أجمع لأجاب فيه! - يعني نفسه. قال أبو حاتم: قضى لولايته بذلك وشرفه وموضعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو حاتم: كنت في المسجد الجامع بالبصرة وأنا إذ ذاك غلامٌ، فدخل أبو نواس فجلس إليَّ وجعل يعبث بي وينشدني، قلت: اللهمَّ خلصني منه! فدخل غلامٌ يقفيّ من أجمل الناس، فلما بصُر به هشَّ وتخلخل عن مكانه وأجلسه بيني وبينه وجعل يحادثه وينشده إلى أن أقيمت الصلاة، فالتفت إليَّ وقال " من السريع " :
أُتيحَ لي ياسهلُ مستظرفٌ ... تسحرُ عيني عينهُ الساحره
وهي أبياتٌ. ثمّ التفت إلى الغلام وقد قام، فنظر إلى كفله فإذا هو أرسح، فقال " من السريع " :
ماشئتَ من دُنياولكنّهُمُنافقٌ ليستْ له آخرهْ
قال أبو مالك عون بن محمد: كان هذا قبل التسعين ومائة، وأبو حاتم إذ ذاك غلامٌ يجمع العلم، وما مات حتى قارب التسعين. - وقال: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس، وأنشد له " من الوافر " :
ولو أني استزدتك فوق مابي ... من البلوى لأعوزك المزيدُ
ولو عرضتْ على الموتى حياتي ... بعيشٍ مثل عيشي لم يريدوا
قال: وكان أبو حاتم يميل إلى الأحداث ميلاً كثيراً ويفرط في ممازحتهم، وربما يضع يده يلمسهم، فعاتبه بعض البصريين وقال: إنك تفعل هذا وتقوم إلى الصلاة. فقال: متني قويٌّ وما أمذي! قال: وكان يحلف أنه لايتجاوز المدح.
قال محمد بن زكرياء الغلابي: كنا عند أبي حاتم بين العشاء والعتمة، فخالط عينيه الغمص، فأفلتت منه ضرطة، فقال فيه ابن الضيون " من السريع " :
إنَّا سمعنا ضرطةً افلتت ... من أستٍ سهلان أبي حاتمِ
فأفزعتْ من كان مستبهاً ... وأيقظت من كان من نائمِ
وظلَّ أهل الأرض في رجةٍ ... واعتلق المظلوم بالظالمِ
فذكر لأبي حاتم، فقال: ويلك هذه لم تكن ضرطة، هذه كانت نفخة الصور! قال: مرّ رجلٌ براهبٍ فقال له: عظني! قال: أعظكم وفيكم الفرقان ومحمد منكم؟! قال: نعم. قال: فاتعظ ببيت شعرٍ قاله رجلٌ منكم " من الطويل " :
تجرَّد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مُجرَّدُ
مات أبو حاتم رحمه الله سنة خمسٍ وخمسين ومائتين.
57 - ومن أخبار أبي الفَضْل الرياشيّ
واسمه العباس بن الفرج، ورياشٌ مولى عباسة زوجة محمد بن سليمان الهاشمي، وفرج أبوه مولاه. - قال أبو شراعة: رأيت فرجاً أبا عباس الرياشيَّ سندياً أخرم نجاراً، يجيء إلى المسجد فيصيح بابنه: ياأباَّس! فيقوم إليه، فيعطيه الخبر وغير ذلك. - وكان عبَّاس صدوق اللهجة جامعاً للعلوم، وقرأ كتاب سيبويه على المازني.
قال ابن دريد: سألت الرياشيَّ عن الفرق بين الوامق والعاشق، فقال: أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: نزل عُقفان بن قيس مكة فنزل على أروى بنت كُريز أم عثمان بن عفان، فأكرمت مثواه، فرحل عنها وأنشأ يقول " من الطويل " :
خَلِفْ على أروى السلام فإنما ... جزاء الثويّ أن يعفَّ ويحمدا
سأرحلُ عنها وامقاً غير عاشقٍ ... جزى الله خيراً ماأعفَّ وأمجدا
قال ابن دريد: ولم يزد على هذا الجواب، فسألت أبا حاتم، فقال: المَّة محبة الوالد لولده وألخ لأخيه والصاحب لصاحبه، والعشق عشقُ الرجل للمرأة ومحبة النكاح.
قال الرياشيّ: قال لي الأمير إسحاق بن إبراهيم: أقمْ عندي وأجري عليك في الشهر ألفين وأوليك القضاء. فأبيت وقلت حين أنصرفت من عنده " من الطويل " :
يقولون لي: قائضْ بنيك بمنفسٍ ... يكن لك مرأى في الحياة ومسمعُ
فكيف وقد نيطت بقلبيَّ منهمُ ... علائقُ مجموعٌ لها الحُبُّ أجمعُ
قال عليّ بن المظفر الكاتب: رأيتُ الرياشيَّ عند أبي ومعه ابنٌ له، فقال له: كُلْ واذكر سُوءَ المُتقلب. - قال الرياشيَّ: يقال المرءُ المؤمنُ ولا يقال المرء الكافر، ويقرا: (يَومَ يَنْظُرُ المرءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الكافِرُ يَاليتني كُنْتُ تُراباً). - ومن شعره " من المديد " :
أملٌ من دونه أجلي ... فمتى أُفضي إلى أملي
كلّ يوم ينقضي عُمري ... باعتقاب الحُزن والعللِ
قُتل الرياشي بالبصرة، قتله الزنج في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقتلوه قصداً لأن ملك الزنج كان يتصل به أنه يدعو عليه.

58 - ومن أخبار الجاحظ

هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب مولى لأبي القَلَمَّس عمرو بن قلع الكناني ثمّ الفقمي وهو أحد النسأة. قال: وجدَّ الجاحظ أسود، يقال له فزارة، كان جمَّالاً لعمرو بن قلع. وهو خال أمّ يموت. - قال المازني: أخبرني من رأى الجاحظ: يبيع الخبز والسمك بسيحان.
صار الجاحظ إلى منزل بعض إخوانه، فأستأذن عليه، فقال ربُّ الدار لغلامه: انظر من بالباب! قال: يقول: عمرو بن بحر الحدقي. قال ربُّ الدار: لستُ أعرفه، انظر من هو! فقال الغلام: يقول: أنا عمرو بن بحر الحلقي. فسمع الجاحظ فقال: أنا الجاحظ. فقال الغلام: يقول: عمرو بن بحر الجاحد. فصاح ثانياً: الأوّ الأوّ أحبُّ إليَّ! قال الجاحظ: لاأعرف من كلام الشعراء كلاماً هو أرفع ولا أحسن من قول أبي نواس " من السريع " :
أيّةَ نارٍ قَدَح القادحُ ... وأي جدٍ بلغَ المازحُ
للهٍ درُّ الشيبِ من واعظٍ ... وناصحٍ لو قُبِلَ الناصحُ
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهجُ الحقُ له واضحُ
لايجتلي العذراءُ في خدرها ... إلا امرءٌ ميزانه راجحُ
فاسمُ بعينيك إلى نسوةٍ ... مهمورهن العمل الصالح
من اتقى فذاك الذي ... سيق إليه المتجرُ الرابح
فاغدُ فما في الدين أغلوطةٌ ... ورُحْ لما أنت له رائحُ
مات الجاحظ سنة خمسٍ وخمسين ومائتين وقد ناطح المائة.
59 - ومن أخبار عُمر بن شَبَّة
هو أبو زيد عمر بن شبَّة بن عبيدة بن ريطة، وشبةُ اسمه زيدٌ وكنيته أبو معاذ وسُميَّ شبَّة لأن أمه كانت ترقصه وتقول: يا بأبي وشبا، وعاش حتى دبَّا، شيخاً كبيراً خبَّا.
وقال عمر بن شبَّة في موسى بن يحيى بن خالد من قصيدة " من الوافر " :
أتيتك زائراً لقضاءِ حقٍ ... فحال السترُ دونك والحجابُ
وعندك عُصبةٌ فيهم أخٌ لي ... كأن إخاءه الآلُ السرابُ
ولستُ بواقعٍ في قدرِ قومٍ ... إذا كرهوا كما وقع الذبابُ
وقال أبو جعفر محمد بن القاسم بن مهرويه قال: خرجت أنا وأبو طاهر ابن عمر بن شبَّة في يوم عيدٍ ونحن ننظر في دفتر والناس يمرون بنا، فقال أبو طاهر " من المتقارب " :
نظرتُ فلم أرَ في العسكر ... كشؤمي وشؤمِ أبي جعفرِ
غدا الناسُ للعيدِ في زينةٍ ... من النور في منظر أزهر
فنقعدُ للشؤم في عزلةٍ ... من الناس ننظرُ في دفترِ
مات عمر بن شبة سنة ثلاث وستين ومائتين وقد بلغ تسعين.
آخر أخبار البصريين وماانتخب منها، يليها ابتداء أمر الكوفة وأخبار أهلها إن شاء الله تعالى

في ابتداء أمر الكوفة ونزول المسلمين فيها
لما نزل سعد بن أبي وقاص المدائن حين أخرج كسرى عنها استوبأها، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر: إنّ المسلمين لايصلحون إلا ببلدٍ فيه الإبل. فدعا سعدٌ دهقان الحيرة فسأله، فدله على الكوفة، واتخذوا فيها الأبنية بالقصب، فشكوا إليه الحرَّ واستأذنوه في اللبن، فأذن على كرهٍ. - وقيل: إنّ سعداً بعث سلمان الفارسي مع العبادي ليرتادا موضعا، فأتى به أخصاصاً في موضع الكوفة، فأعجب به سلمان، فصلى فيه ركعتين وقال: اللهمَّ ربَّ السموات السبع وما أظللن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن، أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خيرَ المنزلين. ثم أنصرف إلى سعد فأعلمه، فرحل بالمسلمين فنزلوا على أربع غلوات من الفرات. - كان السائب بن الأقرع وأبو المهاجر الأسدي هما اختطا دار الإمارة بالكوفة والمسجد الجامع، ورميا بأربعة سهام في زواياه، وأمر المسلمين فأختطوا من وراء السهام. - ونزلوها سنة ثمان عشرة لست سنين خلت من خلافة عمر رضي الله عنه. - وسئل الشعبي عن مساحة مسجد الكوفة فقال: تسعة أجربةٍ وستة أقفزة فيما أظنُّ.

قال سفيان: إنما سميت الكوفة بها لأن العرب تُسميَّ كُلَّ أرضٍ سهلة فيها حصباء كويفة. وقال محمد بن القاسم الأنباري: إنما سُميت كوفة لاستدارتها، أخذت من قول العرب: رأيت كوفاناً بضم الكاف وفتحها للرملْة المستديرة، ولاجتماع الناس بها من قولهم: تكوَّف الرجل إذا ركب بعضه بعضاً. وقيل إنها أخذت من الكوفان، يقال: هم في كوفانٍ أي بلاءٍ ةشرٍ " من الوافر " :
وما أضحى وما أمسيتُ إلا ... وإني منكمُ في كوَّفانِ
ويقال: كوَّفه قطعةً من البلاد، ويقال: أعطيته كيفةً أي قطعة، وكفتُ أكيف كيفاً إذا قطعتُ، وكُوفة فُعلةٌ منه.
قال الشعبي: كأن ظهر الكوفة خدُّ العذراء، يُنبت الخُزامي والشيح والأقحوان وشقائق النُعمان كثير العُشب. - ومرّ النعمان بالشقائق، فأعجبته، فقال: من نزع منها فانزعوا كَتِفه! فسميت شقائق النعمان.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكوفةُ جمجمةُ الإسلام وكنز الإيمان وسيف اللهً ورُمحهُ يضعه حيث يشاء، وأيمُ اللهِ ليُنصرنَّ اللهُ بأهلها في مشارق الأرض ومغاربها كما أنتصر بالحجاز. - وسئل البصريّ عن أهل الكوفة وأهل البصرة: إذا كان الأمر كان أهل الكوفة، بها بيوتات العرب كلّها وليست بالبصرة.
وكتب عمر رضي الله عنه: ياأهل الكوفة، أنتم رأس العرب وجمجمتها، وأنتم سهمي الذي أرمي به إذا خشيتُ من ههنا وههنا، وقد بعثُ إليكم عبد الله بن مسعود معلماً - خيرةً على نفسي وقد أثرتكم به على نفسي وهو من أطولنا فُوقاً كُنيف مُلئ علماً - معلماً ووزيراً، وعمَّار بن ياسر أميراً، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما! وقال عليّ عليه السلام: مسجد الكوفة رابعُ أربعة مساجد، ركعتان فيه أحبُّ إليّ من عشرين فيما سواه، ولقد غرقت سفينة نوحٍ عليه السلام في وسطه، وفار التنُّور في زاويته اليُمنى والبركة فيه من أثنى عشر ميلاً، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم عليه السلام، ووسطه على روض من رياض الجنة، وفيه صلى ألف نبي وألف وصي.
قال قطرب...: نازعني قتادة في الكوفة والبصرة، فقلت: دخل الكوفة سبعون بدرياً وإنما دخل البصرة بدريٌّ واحد. قال قتنادة: دخل الكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفٌ وخمسون أظنه. قال: منهم ثلاثون بدريَّا. - وقال ثابتُ البُنانيّ: يقال: فقهُ كوفيٍ وعبادةُ بصريٍ. - ويقال: لاتمار أهل المدينة في المغازي ولا أهل الكوفة في الرأي ولا أهل مكة في المناسك.
قال مسروق: شاممتُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتُ علمهم انتهى إلى ستة نفر: عمر وعليّ وعبد الله وأُبيٍّ وأبي الدردراء - وفي رواية: أبي موسى - وزيد بن ثابت، شاممتُ هؤلاء فوجدت علمهم انتهى إلى ثلاثة: عليٍّ وعبد الله وأبي موسى، وكان لأهل الكوفة عليٌّ وعبد الله وأبو موسى.
وقال الأحنف بن قيس: نزل أهل الكوفة في زمان كسرى بن هرمز بين الجنان المُلتفة والمياه العذبة والأنهار المطردة، تأتيهم ثمارهم غضَّة لم تخضد. ونزلنا أرضاً هشاشةص طرفٌ في الفلاة وطرفٌ في ملحٍ أجاجٍ في سبخة نشَّاشة، لايجفُ ثراها ولا ينبتُ مرعاها. اللهمَّ إن كان أجلي قد حضرني فاقبضني في هذه البلدة - يعني الكوفة - فإنّ تُربتها كالكافور! - فمات بها ودفن بها رحمه الله تعالى.

أسامي من تضمنهم هذا الكتاب من رواة الكوفة وعلمائها وقرائها

" 60 " قبيصة بن جابر الأسدي، " 61 " عامر بن شراحيل الشعبي، عبد الملك بن عمير اللخمي، عاصم بن أبي النجود، أبان بن تغلب، " 62 " سليمان بن مهران الأعمش، " 63 " محمد بن السائب الكلبي، " 64 " عوانة بن الحكم، ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ " معاذٌ الهرَّاء، " 76 " أبو عمرو الشيباني، " 77 " بزرج العروضي، " 78 " أبو جعفر الرُؤاسيُّ، " 79 " القاسم بن معن، " 80 " أبو بكر بن عياش، " 81 " عليّ بن حمزة الكسائي، " 82 " لقيط بن بكير المحاربي، خالد بن كلثوم، " 83 " هشام بن محمد الكلبي، " 84 " الهيثم بن عدي، " 85 " محمد بن كناسة الأسدي، " 86 " أبو الحسن الأحمر، " 87 " يحيى بن زياد الفراء، " 88 " هشام النحوي، " 89 " محمد بن زياد الأعرابي، الحكم بن موسى السلُولي، ستة وثلاثون نفراً.
60 - من أخبار قبيصة بن جابرٍ الأسدي
هو أبو العلاء قبيصة بن جابر بن حبيب بن نجيم بن الحارث بن جابر بن مالك بن عوف بن سعد بن كعب بن عمرو بن أسامة بن نصر بن قعين. وقال الواقدي: هو قبيصة بن جابر بن وهب بن مالك بن عميرة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. روى عن عمر بن الخطاب وعن عبد الرحمان بن عوف، كان ثقة، له أحاديث. - وأمهُ ظاءرت أبا سفيان بن حرب فأرضعت معاوية.
قال قتادة: فصحاء العرب أربعة اثنان من أهل الكوفة: عبد الله ابن همَّام السلُوليّ وقبيصة بن جابر الأسدي، واثنان من أهل البصرة: الحسن ابن أبي الحسن وعبد الله بن الأهتم.
قال قبيصة: اًابت معاوية النقَّابة، فأسرعت إليه، فقلنا له: الناسُ قد أكثروا وأرجفوا، فلو جلست لهم مرّةً واحدةً؟ فقال: أوسعوا رأسي دهناً واحشوا عيني إثمداً، وليسلموا عليّ قياماً ولا يجلس إليَّ أحدٌ! قال: فأذن للناس، فسلموا قياماً، فلما ولَّوا أتبعهم بصره، ثمّ قال " من الكامل " :
وتجلُّدي للشامتين أريهمِ ... أني لريبِ الدهرِ لاأتضعضعُ
وإذا المنيَّة أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لاتنفعُ
فما أصبح حتى مات.
وقال قبيصة لمعاوية: يأامير المؤمنين، أسألك عن قريش؟ فقال: على الخبير سقطت! أمَّا أكرم قريش نفساً وأباً وأماً وجداً وجدةً وعماً وعمةً فالحسين بن علي، وأما سيد قريش غير مدافعٍ فسعيد بن العاص، وأما رجلُ قريش على حدةٍ فيه نزق القارئ لكتاب الله القائم بحدود الله والعالم بسنة رسول الله والفقيه في دين الله فمروان بن الحكم، وأما رجلُ قريش محبةً ونائلاً فعبد الله بن عامر بن كريز، وأما الذي يُردُّ الشريعة مع دواعي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وتوفي قبيصة بن جابر كاتب سعيد بن العاص بالكوفة سنة تسعٍ وستين، وتوفي قبيصة بن ذؤيب كاتب عبد الملك بن مروان سنة ستٍ وثمانين.

61 - ومن أخبار الشعبي
ّ
هو أبو عامر بن شراحيل الشعبيّ من حمير، وعداده في همدان وأمه من سبي جلولاء. قال الشعبي: ولدتُ عام جلولاء. قال قتادة: كان عام جلولاء في تسع عشرة سنة في سبع سنين من خلافة عمر.
قال عبد الله بن محمد بن مرة الشعباني: حدثنا أشياخ من الشعبان أنّ مطرا أصاب اليمن، فجحف السيلُ موضعاً فكشف عن أزجٍ عليه باب من حجارةٍ، فكسر الغلق ودخل فإذا بهوٌ عظيم فيه سريرٌ من ذهب وإذا عليع رجلُ، فشبرناه فإذا طوله اثنا عشر شبراً، وإذا عليه جباب من وشيٍ منسوجة من ذهب، وإلى جنبه محجنٌ من ذهب، على رأسه ياقونة حمراء، مرَّجلُ الرأس واللحية، عليه ضفران، وإلى جنبه لوحٌ مكتوب فيه: " باسمك اللُهمَّ ربَّ حمير، أنا حسّان بن عمرو القَيلُ، إذ لاقيل إلا أنا، عشتُ بأملٍ ومتُ بأجل أيَّام وخزهيد، هلك فيه اثنا عشر ألف قيلٍ، فكنتُ آخرهم قيلاً، فأتيتُ جبل ذي شعبين ليجيرني من الموت فأخفرني " ، وإلى جنبه سيفٌ مكتوبٌ فيه بالحميرية: " أنا قُبْار بي يُدرك الثار " .

قال عبد الله بن محمد بن مرة: هو حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن غوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن الحمير، وحسَّان هو ذو الشعبين. وهو جبلٌ باليمن نزله هو وولده ودفن به ونسب إليه هو وولده، ومن كان منهم بالكوفة قيل شعبيون، منهم عامر الشعبي، ومن كان منهم بالشأم قيل لهم شعبانيون، ومن كان منهم باليمن قيل لهم آلُ ذي شَعْبَين. فبنوا عليّ بن حسَّان بن عمرو رهط عامر ابن شراحيل بن عبد الشعبي، ودخلوا في أُحمور همدان، فعدادهم فيهم، والأحمور خارفٌ والصائديون وآل ذي بارق والسبيع وآل ذي حدان وآل ذي رضوان وآل ذي لعوة وآل ذي مرّان. وأعراب همدان غرر ويامٌ ونهمٌ وشاكر وأرْحبُ. وفي همدان من حمير قبائل كثيرةٌ، منهم آل ذي حوال، وكان على مقدمة تُبَّعٍ، منهم يعفر بن الصبَّاح المتغلب على مخاليف صنعاء اليوم.
كان الشعبي مليحاً فصيحاً يصبغ بالحناء، وكان دميماً، سُئل فقال: زوحمتُ في الرحم! وذاك أنه ولد توءماً.
كان الشعبي يتحدث فيقول: إن للحديث سكتات وإشارات وموافقات وتعريجات، فمواضع يتوقف فيها ومواضع يطوى فيها طيَّاً، وليس كلّ أحدٍ أعطي ذلك ويحسن ذلك. - وكان يقول له ابن شبرمة: يامُفوّت الحاجات! لما كان يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حوائجهم.
سأله رجلٌ يوم عيدٍ وعليه مطرف خزٍ: ناترى في لبس الخز؟ فقال: أحمقُ يرى عليّ مطرف خزٍ ويسألني عن لبسها. وكان أكثر ما يلبس الخز الأحمر والرداء الكتان المُوَّرد ولم يُرْخ عمامته. ورُئي جالساً على جلد أسد. قال مجالدٌ: رأيتُ عليه قباء سمُّور. وكان يتختم في يمينه ونقش خاتمه: " الحمد لله الحق المبين " ، وقيل: " حسبيَ اللهُ ونعْمَ الوكيل " . قال: وهي أوّلُ كلمة قالها الخليلُ عليه السلان حين أُلقي في النار.
وكان لايقوم من مجلسه حتى يقول: أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنّ الدين كما أمر، وأشهد أنّ الإسلام كما وصف، وأشهد أنّ الكتاب كما بلَّغ، وأشهد أنّ القول كما حدث، وأشهد (أنَّ اللهَ هُوَ الحقُّ المُبينُ)! فإذا ذهب ينهض قال: ذكر الله محمداً منا بالسلام.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز استعمل على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمان ابن زيد بن الخطاب، فاستقضى عبد الحميد الشعبيَّ بأمر عمر، فقضى سنةً ثمّ استعفاه فأعفاه.
وكان موسراً يشتري اللحم في كلّ جمعة بدرهم واحد، وكان يقول: لدرهم أعطيه في النوائب أحبُّ إليَّ من خمسة أتصدق بها. - مرّ على قوم وهم ينالون منه ولايرون، فلما سمع كلامهم قال " من الطويل " :
هنيئاً مريئاً غير داء مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضنا ما أستحلتِ
وسمع رجلاً يشتمه فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك! ثمّ تمثلَّ " من الرمل " :
ليست الأحلامُ في حال الرضى ... إنما الأحلامُ في حال الغضَبْ
وهجاه رجلٌ قضى عليه لزوجته فقال " من الرمل " :
فُتنَ الشعبيُّ لمَّا ... رفعَ الطَرْفَ إليها
فتنته حين ولَّت ... ثمّ هزَّت منكبيها
فتنته بقوامٍ ... وبخطَّي حاجبيها
وبنان كالمداري ... وبحسن معصميها
من فتاةٍ حين قامت ... رفعت مأمتيها
كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها
لصبا حتى تراه ... ساجداً بين يديها
قال للجلواز: قدمها وأحضر شاهديها
فقضى جوراً على الخصم ولم يقض عليها
بنتِ عيسى بن جرادٍ ... ظَلَمَ الخصم لديها
ما على الشعبي لم يوُ ... فِ الذي كان عليها
فلما سمع الشعبي الأبيات ضحك وقال: لا والله ماكان شيءٌ من هذا.
قال الشعبي: ماأروي شيئاً أقلَّ من الشعر، ولو شئتُ أن أنشد شهراً ولا أعيد شيئاً لفعلت. - وقال أبو بكر الهُذَلي للشعبي: أتحبّ الشعر؟ قال: نعم! قال: أما إنه يحبه الرجالُ ويكرهه مؤنثوهم!

قال أبو بكر الهذلي لابن سيرين: إذا أتيت الكوفة فالزم الشعبيَّ واستكثر من حديث! فلقد رأيته يستفتي وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأحياءٌ. - وسئل عن شيء فقال: لاعلم لي بهذا! فقال: ألا يستحي مثلك يقول هذا؟! فقال: إنّ الملائكة لم تستحي من قولهم: (لاعلم لنا)، أستحيي أنا!؟ قال ابن شبرمة: كنتُ أمضي مع الشعبي في بعض الطريق، فقال لي: احملني وأحملك! قلت: كيف ذاك!؟ قال: حدثني وأحدثك! - قال الشعبيّ: تغديتُ عند قتيبة بن مسلم بخراسان، فقال: أيُّ الشراب أحبُّ إليك حتى تؤتى به؟ أعزُّ مفقودِ وأهونُ موجود! قال: ياغلام، اسقيه ماءً! وقال: ما من بني عبد المطلب رجلٌ ولا امرأة إلا قال الشعر غير النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: وأغزلُ بيتٍ وأرقه قولهم " من الطويل " :
فدقتْ وجلَّتْ واسَكَّرتْ وأُكملتْ ... فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسنِ جُنَّتِ
ودخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: أنشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه! فقال قول امرئ القيس " من االبسيط " :
صُبَّتْ عليه وما تنْصَبُّ عن أمَمٍ ... إن الشقاءَ على الأشقَيْنَ مكتوبُ
قال زهير " من الطويل " :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفرهُ ومن لا يتقِ الشتمَ يُشتمِ
قال النابغة " من الطويل " :
ولستَ بمستبقٍ أخاً لاتلمُّه ... على شعثِ أيُّ الرجال المُهذَّبُ
وقال عدي بن زيد " من الطويل " :
عنى المرء لاتسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
وقال طرفة بن العبد " من الطويل " :
ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّدِ
قال عبيد بن الأبرص " من البسيط " :
إذا المرُ أسرى ليلةً ظنّ أنه ... قضى عملاً والمرءُ ماعاش عاملُ
وقال الأعشى " من الطويل " :
ومن يغترب عن قومه لايزل يرى ... مصارعُ مظلومٍ مجراً ومسحباً
وقال الحطيئة " من البسيط " :
من يفعلِ الخيرَ لايَعْدمْ جوازيهُ ... لايذهبُ العزْفُ بين الله والناسِ
وقال الحارث بن عمرو " من الطويل " :
فمن يلقَ خيراً يحمدِ الناسُ أمرهُ ... ومن يغوِ لايعدمُ على الغيّ لائما
وقال الشمَّاخ " من الطويل " :
وكُلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسهِ ... لوصل خليل صارمٌ أو معارزُ
فقال عبد الملك: حججتك، ياشعبيُّ، بقول طفيل الغنوي " من البسيط " :
ولا أخالسُ جاري في حليلته ... ولا ابن عمي غالتني إذا غُولُ
حتى يقال وقد دليتُ في جدثٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قرّانَ مجعولُ
وقال ابن شبرمة: سألت الشعبيَّ عن معنى هذا البيت " من الرمل " :
بدَّلته الشمسُ من منبتهِ ... بَرداَ أبيض مصقول الأُشرْ
فلم يكن عنده جوابٌ. وقيل: إنه كان الصبيُّ في الجاهلية إذا أتغر استقبل بسنه عين الشمس، فحذفها وقال: أبدليني خيراً منها.
قال: وأغزل بيتٍ قيل في العرب قول الأعشى " منى البسيط " :
غرَّاءُ فرعاء مصقولُ عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحلُ
قال: وأخبث بيتٍ قالته العربُ قوله " من البسيط " :
قالت هُريرةُ لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يارجلُ
وأشجع الناسُ من قال " من البسيط " :
قالوا: الطراد! فقلنا: تلك عاداتنا ... أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزُلُ
سئل الشعبي عن رجل لطم عين رجل فأحمرت فشرقت فاغرورقت، فقال: يقضى فيها ببيت الراعي " من الطويل " :
لها أمرها حتَّى إذا ما تبوَّأتْ ... بأخفافها مأوى تبوأ مضجعا
ومعنى هذا البيت أنّ الراعي إذا أتى بإبله عشيا تركها حتى ترتاد بأخفافها موضعاً تبرك فيه، فإذا ارتادت موضعاً وبركت نزل قبالتها. فالمعنى إن الحكم في هذه العين أن تترك حتى يستقر أمرها على شيء ما، ثمّ يقضى فيها.
وسئل عن رجل أوصى لأرامل بني فلان، فقال: الرجالُ والنساءُ سواءُ، أما سمعتم قول الشاعر " من البسيط " :
تلك الأرامل قد قضيتُ حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وقال الشعبي: لايكون الرجل سيداً حتى يكون للبيتين مستعملا، وهما " من الطويل " :
وإني للباسٌ على المقْتِ والقلى ... بني العم منهم كاشحٌ وحسودُ

أذبُّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود
ومن فتاويه: سئل عن رفع الصوت بالدعاء، فقال: أما س؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟لوا رجلاً لم تكن على كلّ واحد منهم كفارته؟! فظفر عليه الشعبيّ. - وقال: إُيما ثلاثةٍ ركبوا دابةً فأحدهم ملعون! وقال الشعبيّ: كان شُريحٌ يشرب الطلاء على النصف، فشربنا عنده في الفطر والأضحى ما لاأحصيه، ويقول: طبخه غلامي ميسرة. - وقال عمر ابن أبي خليفة عن أبيه قال: كان الشعبي عندنا، فسمعنا صوت غناء فقلنا: أترى بهذا بأسا؟ قال: لا! - وقال: إذا صلى الرجلُ المكتوبة تقدم أمامه خطوة خطوة أو خطوتين ثمّ تطوَّعَ. وقال: ليس في الصلاة على الميت قراءةٌ، ولاشيءٌ موَّقتٌ إلا دعاءٌ واستغفار للميت.
وقال: جمع القرآن ستةٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلُّهم من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُبيُّ بن كعب ومعاذ بن جبلٍ وزيد بن ثابت وأبو زيد وسعد بن عبيد ومجمع بن جارية جمعه إلا سورة أو سورتين. - وقال: القضاة أربعةٌ عمر وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت. والدهاة أربعة معاويبة وعمرو بن العاص ومغيرة بن شعبة وزياد؛ فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة لم يأخذ عقدة إلا حلها، وأمَّا زياد فللصغير والكبير. - وقال: أوّل من وضع العشور عمر بن الخطاب. وقال: وكان عليّ أشجع الناس، تقرُّ له بذلك العرب.
قدم الشعبيُّ أيَّام عبد الله بن الزبير البصرة، فجلس إلى أناس في مسجدها فيهم الأحنف بن قيس، فتذاكروا أهل الكوفة وأهل البصرة، ولم يزل بهم الحديث حتى قال قائلٌ من أهل البصرة: وما أهل الكوفة، هل هم إلا خولنا؟ استنقذناهم من عبيدهم! قال الشعبيّ: فعرض في قلبي قولُ أعشى همدان فقلتُ " من الرمل " :
أفخَرْتم أن قتلتم أعْبُداً ... وهزمتم مرّةً آلَ عَزَلْ
نحن سُقناهم إليكم عنوةً ... وجمعنا أمركم بعد الفشلِ
فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكمُ يومَ الجملْ
بين شيخٍ خاضبٍ عثنونه ... وفتىً أبيضَ وضَّاحٍ رفلْ
جاءنا يهدرُ في سابغةٍ ... فذبحناهُ ضُحىً ذبح الحملْ
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة اللهِ الأجلْ
فضحك الأحنف ثمّ قال: ياأهل البصرة، فخر عليكم الالشعبيُّ، فأحسنوا مجالسته! ثمّ قال: ياجاريةُ، هاتي الصحيفة الصفراء! فرمى بها إلى الشعبي، فإذا فيها من المختار: " من أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس مورد قومه سقر، حيثُ لايستطيع لهم الصدر، وإني لاأملك لهم ما خُطَّ في القدر، وقد بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رُسُلي، ولعمري لقد كذبت الأنبياء قبلي وأوذوا، وإن كنتُ لستُ بخيرٍ من نبي منهم، والسلامُ على من اتبع الهدى. " ثمّ أقبل عليَّ فقال: هذا منَّا أو منكم؟! فغلبني وهو ساكت.

وقال الشعبيُّ: رأيتُ عجباً، كنَّا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القومُ: ليقمْ كلُّ رجلُ منكم فليأخذ بالرُكن اليماني وليسأل الله حاجته فإنه يُعطى، قمْ، ياعبدالله بن الزبير! فإنك أولُ مولود ولد في الهجرة. فقام فأخذ بالركن اليماني فقال: اللهّمَّ إنك عظيمٌ تُرجى لكلّ عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك صلى الله عليه وسلم ألا تميتني حتى توليني الحجاز ويُسلَّم عليَّ بالخلافة! وجاء فجلس، وقالوا: قُم، يامصعب! فقام حتى إذا أخذ بالركن اليماني فقال: اللهمَّ إنك ربُّ كلّ شيء، وإليك يصير كلُّ شيء، أسألك بقدرتك على كلّ شيء ألا تميتني حتى توليني العراقين وتزوجني سكينة بنت الحسين! وجاء فجلس، وقالوا: قم، ياعبد الملك! فقام فأخذ الركن وقال: اللهم ربّ السماوات السبع وربَّ العرش العظيم ربَّ الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحرمة وجهك، وأسألك بحقك على جميع خلقك، وأسألك بحق الطائفين حول بيتك ألا تميتني حتى توليني شرق الأرض وغربها، ولاينازعني أحدٌ ألا أُتيتُ برأسه! ثمّ جاء فجلس، ثمّ قالوا: قم، ياعبد الله بن عمر! فقام حتى أخذ بالركن ثمّ قال: اللهمَّ إنك رحمان رحيم، أسألك برحمتك التي سبقت غضبك، وأسألك بقدرتك على جميع خلقك إلا تميتني حتى تُوجب لي الجنة! - قال الشعبيّ: فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيتُ كلَّ رجل منهم قد أعطي ماسأل. وبُشر عبد الله بن عمر بالجنة.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: إنه ليس شيءٌ من لذة الدنيا إلا وقد أُصبتُ به ولم يبق لي من لذة الدنيا إلا مناقلة الإخوان للحديث، وقبلك عامرٌ الشعبيُ، فابعث به إليذَ ليُحدثني! فجهزه الحجَّاج وبعث به إليه. قال: فدخلتُ فإذا عبدُ الملك جالسٌ على كرسي وبين يديه رجلٌ أبيضُ الرأس واللحية على كرسيّ، فسلمتُ فردّ السلام، ثمّ أومى إليّ بقضيبه فقعدت على يساره، ثمّ أقبل على الذي بيد يديه فقال: من أشعر الناس؟ قال: أنا! قال الشعبيّ: فأظلم عليَّ مابيني وبين عبد الملك، ولم أصبر أن قلتُ: ومن هذا، ياأمير المؤمنين، الذي يزعم أنه أشعر الناس؟ قال: فعجب عبد الملك من عجلتي، ثمّ قال: هذا الأخطل! قلتُ: ياأخطلُ، أشعر منك الذي يقول " من السريع " :
هذا غُلامٌ حَسَنٌ وجههُ ... مُقتبلُ الخيرِ سريعُ التمامْ
للحارثِ الأكبر والحارث ال ... أصغر والحارث خير الأنامْ
ثمّ لهندٍ ولهندٍ وقد ... أسرعَ في الخيراتِ منه إمامْ
ستّةُ أملاكٍ هُمُ ما هُمُ ... هُمْ خيرُ من يشربُ صوب الغمامْ
فقال عبد الملك: رُدَّها عليَّ! فرددتها عليه حتى حفظها، فقال الأخطل: من هذا، ياأمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبيُّ! قال: والجِلَّوز، ما أستعذت بالله من شر هذا! صدق والله، النابغة أشعر مني! قال الشعبيّ: ثمّ أقبل عليَّ عبد الملك فقال: كيف أنت؟ قلتُ: بخير، ياأمير المؤمنين! فلا زلتَ به! ثمّ ذهبت لأضع معاذير لي لما من خلافي على الحجاج مع عبد الرحمان ابن محمد بن الأشعث، فقال: مه، فإنا لانحتاج إلى هذا المنطق، ولا تراه منا في قول ولافعل حتى تفارقنا. ثمّ أقبل عليَّ فقال: ماتقول في النابغة؟ قلتُ: ياأمير المؤمنين، قد فضلَّه عمرُ بن الخطاب في غير موطن على جميع الشعراء! خرج عمرُ وببابه وفد غطفان، فقال: يامعشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول " من الطويل " :
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهبُ
لئن كُنت قد بُلغتَ عني رسالةً ... لمبلغك الواشي أغشُّ وأكذبُ
ولستُ بمستبقٍ أخا لاتلمهُ ... على شعثٍ أيُّ الرجال المُهذَّبُ
قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: فأيكم الذي يقول " من الوافر " :
لي ابن مُحرقٍ أعملتُ نفسي ... وراحلتي وقد هدت العُيونُ
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تُظنُّ بي الظُنُونُ
وألفيتُ الأمانةَ لم تخنها ... كذلك كان نُوحٌ لايخونُ
قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: فأيكم الذي يقول " من الطويل " :

فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسعُ
خطاطيفُ حُجْنٌ في حبالٍ متينةٍ ... تَمُدُّ بها أيدٍ إليك نوازعُ
قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: هذا أشعرُ شعرائكم. فأقبل على الأخطل فقال: أتحبُ أنك قلته؟ قال: لا، والله إلا أنني وددتُ أني كنت قلتُ أبياتا قالها رجلٌ منا، كان والله - ماعلمتُ - مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع. قال: وماقال؟ فأنشده قصيدته " من البسيط " :
إنَّا مُحيّوك فاسلم أيها الطللُ ... وإن بليت وإن طالن بك الطيلُ
ليس الجديدُ به تبقى بشاشته ... إلا قليلاً ولا ذو خلةٍ يصلُ
والعيشُ لاعيشُ إلا ماتقرُّ به ... عينٌ ولاحال إلا سوف تنتقل
إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون على المستنجح العملُ
والناسُ من تلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأمٍ المخطئ الهبلُ
قد يُدرك المُتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
قال الشعبيُّ: قلت: والقُطامي قال أفضل من هذا! قال: وماقال؟ قلتُ " من الكامل " :
طرقتُ جنوب رحالنا من مطرقٍ ... ماكنتُ أحسبها قريبَ المعنقِ
حتى أتيت على آخرها، فقال عبد الملك: ثكلت القطامي أمه! هذا والله ألشعر. قال: فالتفت إليَّ الأخطل فقال: ياشعبيُّ، إنّ لك فنوناً في الأحاديث، وإن لنا فنَّاً واحداً، لاأعرض لك في شء من الشعر أبداً، فأقلني هذه المرة! قال: من يكفل بك؟ قلتُ: أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: هو عليَّ أن لايعرض لك أبداً! ثمّ قال: ياشعبيُّ، أيُّ شعراء نساء الجاهلية كانت أشعر؟ قلت: خنساء! قال: ولم فضلتها؟ قلتُ: لقولها " من الطويل " :
وقائلةٍوالنعشُ قد فات خطوهالتدركه:يالهف نفسي على صخرِ
ألا ثكلتْ أمُّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبرِ
فقال عبد الملك: أشعرُ منها واللهِ ليلى الأخيلية حيث تقول " من البسيط " :
مهفهفُ الكشح والسربال منخرقٌ ... عنه القميصُ لسيرِ الليل محتقرُ
لايأمن الناس ممساه ومصبحه ... في كل فجٍ وإن لم يغزُ ينتظرُ
ثمّ قال: ياشعبيّ، لعله شقَّ عليك ماسمعت؟! قلت: إي والله، ياأمير المؤمنين، أشدَّ المشقة! إني إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، يقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشأم أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق. - ومكثت عنده سنتين، بعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب إليه: ياأخي، إني قد بعثت إليك بالشعبيّ، فانظر هل رأيت مثله؟! وقيل: لما دخل الشعبي على عبد الملك خطَّأه في مجلس ثلاث مرات، سمع الشعبيُّ منه حديثاً، فقال: اكتبنيه! فقال: نحن معاشر الخلفاء، ما نكتب أحداً! وذكر رجلاُ فكنَّاه، فقال: من هذا، ياأمير المؤمنين؟ فقال: الخلفاء لاتسأل عن جلسائها وهم يسألون! وقال قتادة: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن ابعث إليَّ بأجمع رجلٍ عندك! فبعث إليه بالشعبيّ. فلما قدم عليه قال له عبد الملك: علم بني ستَّ خصال، ثمّ شأنك بعد تأديبهم! علمهم صدق الحديث كما تعلمهم القرآن، وعلمهم الشعر ينجدوا ويمجدوا - يعني أنهم يكونوا أسخياء وفرساناً - وجُزَّ شعورهم تشتد رقابهم، وأطعمهم اللحم تصح قلوبهم، وجنبهم الحشم فإنه مفسدة لهم، وجالس بهم علية الرجال يناقضونهم الكلام فإنه خيار الناس! وقال عبد الملك للشعبي: لله در ابن قميئة حيث يقول " من الطويل " :
كأني وقد خلفتُ تسعين حجةً ... خلعتُ بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لاأرى ... فكيف بمن يُرمى وليس برامي
فلو أنها نبلٌ إذا لاتقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
فقال الشعبي: لقد أحسن لبيدٌ أيضاً حيث يقول:
62 - ومن أخبار سليمان بن مهران الأعمْش

أربعة آلافٍ حديث ومازاد. فقال: والله واللهِ لأحُدثنّك بحديثين يُنسيانك كلَّ حديث رويته في فضائل عليٍ عليه السلام. قلنُ: حدثني، ياامير المؤمنين! قال: كنتُ هارباً من بني أمية أدور في البلاد وأتقرَّبُ إلى الناس بفضائل عليٍّ، فيعطوني ويُكسوني حتى وردتُ بلاد الشام، فدخلتُ مسجداً وأنا أُريد أن أكلم الناس في عشاءٍ. فلمَّا سلّم الإمام دخل غُلامان من باب المسجد، فالتفت إليهما الإمام فقال: ادخُلا، مرحباً بكما وبمن اسمُه من أسمائكما! وكان إلى جنبي شابٌ فقلتُ: ياهذا، من هذا الشيخ من هذين الغلامين؟ فقال: جدُّهما وليس في هذه المدينة احدٌ يُحبُ علياً غيره. فقُمتُ إليه فرحاً وقلت: ياشيخ، هل لك في حديث أُقرُّ به عينك؟! قال: إن أقررت عيني أقررت عينك! قلت: حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: كنَّا ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلوساً، إذ أقبلت فاطمةُ عليها السلام زهي تبكي. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مايبكيك؟ قالت: ياأبه، خرج الحسن والحسين ولم يرجعا البارحة. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لاتبكينَّ! فإن الذي خلقهما ألطفُ بهما مني ومنك، وهبط جبريل عليه السلام فقال: يامحمد، الله يُقرئك السلام ويقول: لاتغتمَّ لهما ولاتحزن! فإنهما نائمان في حظيرة بني النجَّار ولقد وكلّ الله بهما ملكاً يحفظهما. قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلّم فرحاً في نفرٍ من أصحابه، وإذا الغلامان نائمان والحسن معانقٌ الحسين عليهما السلام، وإذا ذلك الملك الموكل بهما قد أدخل أحد جناحيه تحتهما والآخر قد جللهما به. قال: فانكبَّ النبي صلى الله عليه وسلّم يقبلهما حتى أنتبها، فحمل جبريل عليه السلام الحسن، وحمل النبيّ صلّى الله عليه وسلم الحسين وخرج من باب الحظيرة وهو يقول: لأشرِفّنّكما اليومَ كما شرفكما الله عز وجل. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يارسول الله، أعطني أحد الغلامين أحمله وأُخفف عنك! فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: نِعْم الحاملان ونعم الراكبان وأبوهما خيرٌ منهما! فقال عمر: أعطني، يارسول الله، أحد الغلامين أحمله وأُخفف عنك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الحاملان ونعم الراكبان وأبوهما خيرٌ منهما! ثمّ التفت إلى بلال فقال: يابلال، هَلُمَّ عليَّ الناس فناد الصلاة جامعةً! فنادى بلالٌ في المدينة الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إلى المسجد، فصعد فخطب الناس خطبةً بليغةً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناسُ، ألا أدلكم على خير الناس جداً وجدة؟ قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسين فإن جدَّهما محمّدٌ وجدَّتهما خديجة بنت خويلد سيّدة نساء أهل الجنة. أيها الناس، ألا أدلكم على خير الناس أباً وأماً. قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسين فإن أباهما يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، وأمهما فاطمة بنت محمد. ثم قال: ياأيها الناس، ألا أدلُكُم على خير الناس عمَّا وعمة؟ قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسيت فإن عمهما جعفر الطيار وعمتهما أمّ هانئ بنت أبي طالب. ثمّ قال: ياأيها الناس، ألا أدلكم على خير الناس خالاً وخالة؟ قالوا: بلى، يارسول الله! قال: عليكم بالحسن والحسبن فإن خالهما القاسم بن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله. ثمّ رفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه، ثم قال: اللهمَّ إنك، ياالله، تعلم أنَّ الحين والحسين في الجنة وجدَّهما في الجنة وجدتهما في الجنة وأباهما في الجنة وأمهما في الجنة وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة وخالهما في الجنة وخالتهما في الجنة، اللهمَّ إنك تعلم أن من أحبهما في الجنة ومن أبغضهما في النار.
قال: فلمَّا قلتُ ذلك للشيخ قال: من أنت؟ يافتى! قلت: من أهل الكوفة. قال: أعربيٌّ أم مولى؟ قلتُ: عربيٌّ. قال: وأنت تحدث بهذا الحديث وأنت في هذا الكساء!؟ فكساني حُلّةً وحملني على بغلة بعتها في ذلك الزمان بمائة دينار، وقال: قد أقررت عيني وأنا أدُلُّك على شابٍ يُقرُّ عينك. قلت: وأين؟ قال: إذا كان غداً فأت مسجد بني فلان! فإنّ ثمَّ أخوين، أما أحدهما فلم يزل يحب عليَّاً منذ خرج من بطن أمه، والآخر لم يزل مبغضاً لعليّ منذ خرج من بطن أمه، فقد غير الله مامر، فهو اليوم يحب علياً.

فطالت عليَّ تلك الليلة حتى أصبحت، فأتيتُ المسجد الذي وصف لي، فإذا شابٌ جميلٌ. فلمَّا رآني قال: يافتى، ماكساك فلان حُلَّته ولا حملك على بغلته إلا وأنت تحب الله ورسوله، حدثني في عليّ رضي الله عنه! قلت: حدثني أبي عن جدي عن أبيه قال: كُنَّا ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت فاطمة وهي تبكي. فقال لها: يافاطمة، مايبكيك؟ قالت: عيَّرتني نساء قريش وقلن: إن زوجك مُعدم، لامال له. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يافاطمة، لاتبكينَّ! فوالله ما زوَّجتك إياه حتى زوجك الله إياه من فوق العرش، وشهد ذلك أسرافيل وميكائيل وجبريل عليهم السلام، والله عزّ وجلّ اطلّع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق عليَّا، فزوجك إياه. فعليٌّ من أعلم الناس وأقدم الناس إسلاماً وأسمح الناس كفَّاً وأشجع قلباً، فإذا دعيتُ غداً في القيامة دُعي عليٌّ معي، فإذا حُييّت حُيّيَ عليٌّ معي، إذا كان يوم القيامة يكسى أبوك حُلتين وعليٌّ حُلتين، ولواءُ الحمد بيدي فأناوله عليَّاً لكرامته على الله عزّ وجلّ. يافاطمة، عليٌّ يعينني على حمل مفاتيح أبواب الجنة يوم القيامة.
فلَّما قلتُ ذلك للفتى قال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: عربيٌّ أم مولىً؟ قلتُ: بل، عربيُّ. فوهب لي عشرة ىلاف درهم وقال: يافتى، إذا كان غداً فأت مسجد بني فلان لعلك ترى أخي المبغض لعليّ.
فطالت عليَّ تلك الليلة، فلمَّا أصبحت أتيتُ المسجد، فقمتُ في الصفّ وإلى جنبي شابٌ معتمٌّ، فذهب ليركع، فسقطت العمامة عن رأسه فإذا رأسه رأس خنزير ويده يد خنزير، فوالله ما علمت ما أقول في صلاتي حتى سلّم اٌمام، فالتفت إليه فقلت: ويحك مالك وماحالك؟ قال: لعلك صاحب أخي؟ قلت: نعم. فأخذ بيدي فأتى بي باب داره وقال: ترى هذا الباب؟ ثم أدخلني دهليزه فإذا فيه دكان، فقال لي: ترى هذا الدكاَّن؟ قلت: نعم. قال: كنتُ مؤذناً في هذا المسجد منذ أربعين سنة، وكنتُ ألعنُ عليَّاً فيما بين الأذان والإقامة ألفي مرة، حتى إذا كان يوم الجمعة لعنتهُ أربعة آلاف مرة. فخرجت من المسجد فاتكأت على هذا الدكَّان، فذهب بي النوم فرأيت كأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أقبل وعليٌّ عن يمينه والحسن عن يساره وأصحابه خلفه والحسين بين يديه معه كأسٌ وإبريقٌ، فإذا النبي عليه السلام يقول: ياحسين، اسقني! فسقاه، ثمّ قال: ياحسين، اسقِ عليَّا! فسقاه، ثم قال: اسق الجماعة! فسقاهم، ثمّ قال: اسق المتكئ على الدكَّان! فقال له الحسين: ياجداه! أتأمرني أن أسقيه وهو يلعن والدي منذ أربعين سنة فيما بين الأذان والإقامة ألفي مرة وقد لعن اليوم أربعة آلاف؟! قال: فرأيت النبيّ عليه السلام عقد بيده ثلاثاً وهو يقول: أتلعن عليَّاً وعليٌّ مني؟! عليك لعنة الله! ورأيته قائماً فركلني برجله وتفل في وجهي وقال: قُمْ، غيَّر الله مابك من نعمة! - فانتبهت من منامي ورأسي ويدي كما ترى.
قال: وقال أبو جعفر: هذا الحديثان، ياسليمان، كانا عندك؟ قلت: لا، ياأمير المؤمنين. قال: ثمّ قلت: ياأمير المؤمنين، الأمان! قال: لك الأمان! قلتُ: ماتقول فيمن قتل اولادهم؟ قال: في النار، ويلك ياسليمان، الملك عقيمٌ، اخرج فحدّث الناس بما شئت! فخرجتُ من عنده.
مات الأعمش سنة ثمان وأربعين ومائة وعمره سبعٌ وثمانون سنة، وافقه هشام بن عروة في السنة ولادةً ووفتةً، ووافقهما عمر بن عبد العزيز في سنة الولادة وهي سنة احدى وستيَّن، ووافق الأولين في سنة الوفاة وفاة جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
آخر الجزء الثالث من نور القبس في أخبار النحاة والحمد لله رب العالمين
63 - ومن أخبار ابن السائب الكَلْبيّ
قال هشام بن محمد: كان أبي أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن كلب. وكان جده بشر بن عمرو وبنوه السائب وعبيد وعبد الرحمان شهدوا الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل السائب بن بشر مع مصعب بن الزبير.

وقال محمد بن السائب عن أبيه قال: إنما وضعت الشعوب والقبائل والعمائر والبطون واللإخاذ والفصائل والعشائر على خلق الإنسان، تُسمَّى شعوباً وهو الشعب لأن الجسد تشعَّب منه، ثمّ القبائل وهو رأسه من قبائل الرأس وهي الأطباق، ثمّ العمائر وهو الصدر فيه القلب، ثمّ البطون وهو البطن فيه استبطن الكبد والرئة والطحال والأمعاء فصار مسكنهن، ثمّ الأفخاذ فالفخذ أسفل من البطن، ثم الفصائل الركبة لأنها انفصلت من الفخذ، ثمّ العشائر الساقان والقدمان لأنها حملت ما فوقها بالحُبّ وحسن المعاشرة ولم يثقل عليها حمله. قال: وإنما سُميت العرب شعوباً لأنهم قيل لهم ذلك حين تفرقوا من ولد إسماعيل عليه السلام ومن ولد قحطان، وذلك حين تشعبَّوا قال الشاعر " من الوافر " :
فبادروا بعد أمتهم وكانوا ... شُعُوباً أشعبتْ من بعد عادِ
الأمة النعمة والملك. ثم القبائل حين تقابلوا ونظر بعضهم إلى بعض في حلة واحدة وكانوا كقبائل الرأس، قال الله تعالى: (وجعْلناكُمْ شُعُوباً وقبائل لِتعارفوا إنَّ أكرمَكم عِنْد اللهِ أتقاكُمْ). وقال صبح بن معبد ابن عدي بن أفلت الطائي للأجئيين " من الوافر " :
قبائلُ من شعوبٍ ليس منهم ... كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نجيبُ
وقال آخر " من البسيط " :
قبيلةٌ من شعوبٍ ضلَّ سعيهمُ ... لاخير فيهم سوى كُثْرٍ من العددِ
ثمّ العمائر حين سكنوا الأرض وعمروها، قال رجلٌ من بني عمرو بن عامر بن صعصعة يقال له فزارة " من الطويل " :
عمائرُ من دون القبيل أتوهمُ ... نماهم إلينا عامرٌ ومساجمُ
ضممناهم ضمَّ الهبلِ بناته ... فنحن لهم سلمٌ وإن لم يُسالموا
الهبلُّ الشيخ. ثمّ البطون حين استنبطوا الأودية ونزلوها وبنوا البيوت الشعر ودعموها، فقالت العربُ: بيتُ فلان وبقي من آل فلان بيتان، قال الأزدي " من الرجز " :
بُطونُ صدقٍ من ذرى العمائر ... ملْ أزد فانضمَّت إلى بحائر
بحائر مُرادٌ. ثمّ الأفخاذ والفخذ أصغر من البطن، قال الأرحبيُّ " من البسيط " :
مِقْرى بني أرْحبٍ للضيفِ مُترعَةٌ ... وكلُّ مقرى لكم يانهمث أفخاذُ
النهم قبيلة. ثم الفصائل وهي الفصيلة وهم الأحياء حين انفصلوا من الأفخاذ، قال الله عز وجل: (وَفصِيلتهِ التي تؤويه)، وقال الكنانيُّ " من الرجز " :
فصيلةُ بانت من الأفخاذ ... فحالفوا جهلاً بني مُعاذِ
ثمّ العشائر حين انضمَّ كلُّ بني أبٍ إلى أبيهم دون عمهم، فحسن تعاشرهم، قال نهيك بن قعنب الطائي لبني ثعلبة بن لأمٍ " من الوافر " :
وكنتُ لكم عشيراً من أبيكم ... بلا صفدٍ ولا قولٌ جميلُ
فصرتُ لكم عدواً ما بقيتم ... بني المقناب ما جنح الأصيل
القنب الغلاف الذي فيه جردان البعير، وليس بعد العشيرة شيءٌ ينسب إليه. فالشعب مثل ربيعة ومضر وإياد وحمير وأنمار وقضاعة والأزد وهمدان وبجيلة وخثعم وكندة ولخم وجذام وعاملة وحضرموت. ثمّ القبائل دون الشعوب مثل قيس عيلان وطابخة ومدركة. ثمّ العمائر دون القبائل مثل كنانة وأسد وهذيل وتميم وضبة والرباب ومزينة. ثمّ البطون مثل فهر بن مالك قريش، ومثل بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وبتي الحارث بن عبد مناة وبني عامر بن عبد مناة وبني مدلج بن مرة بن عبد مناة كلُّهم من كنانة. ثمّ الأفخاذ مثل لؤي بن غالب وتيم الأدْرم بن غالب ومحارب والحارص بن فهر. ثمّ الفصائل مثل قُصي بن كلابٍ وزهرة بن كلاب وبني مخزوم وبني تمبم وجمح وسهم وعدي بن كعب. ثمّ العشائر مثل عبد مناف وعلى عبد مناف اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال: إن العرب العاربة عاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح، وثمود وجديس ابنا جاثر بن إرم، وطسم وعمليق وجاسم وأميم بنو بلعم بن عابر بن اسليحا بن لوذ بن سام بن نوح، وحضرموت والسلف والموذ بنو يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وجرهم بن سبأ بن يقطن بن عابر. والعرب كلهم بنو إسماعيل بن الخليل عليهما السلام إلا أربعُ قبائل: السلف والأوزاع وحضرموت وثقيف. - وقال: الحمس قريش يدخلون بيت مدرٍ ولا وبرٍ ولايلبسون إلا ثوباً حرمياً أيام الحج. - قال: وكان كلامُ إسماعيل وإسحاق مثل كلام أبيهما عبرانية. وأول من تكلم بالعربية بعد إبراهيم يعرب بن الهميسع بن بنت إسماعيل.
ومرّ به رجل من همدان فقال: كيف تقرأ هذه الآية: (عِظَاماً ناخرة) أو (نخرة)؟ قال: من جعلها ناخرة جعل الريح تنخر فيها وفيها بقيَّة، ومن قرأها نخرة فهي البالية. قال: أخبرني عن قوله تعالى (إنَّا لَمَرْدُودوُن في الحافِرِة)! قال: الخلقُ الأول، والعرب تقول: رجع فلان على حافرته، يعني على طريقته الأولى.
وقال هشام: قال أبي: كنتُ بالحيرة فوثب إليّ رجلٌ فقال: أنت الكلبيُّ المفسر؟ قلت: نعم! قال: أخبرني عن قول الله تعالى: (وإذا قَرَأت القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَك وَبَيْن الَّذين لايُؤمنون بالآخرةِ حجاباً مَسُورا)، ماذلك القرآن الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرأه حُجب عن عدوه من الجن والإنس؟! قال: قلتُ: لاأدري. قال: فتُفسر القرآن ولاتعلمه؟! قلت: فأخبرني! قال آيةً في الكهف: (ومن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكر بآيات رَبِه)، وآيةً في النحل: (أولئك الَّذين طبع اللهُ عَلَى قُلُوبهم)، وآية في الجاثية: (أفرَأيْتَ من أتَّخذ إلهه هَواهُ). قال: فالتفت فلم أره، فكأن الأرض ابتلعته.
وقال: إن أسماء كنائن نوح إذا كتبن في زوايا برج حمام تمت الفراخ وسلمت من الآفات. قال هشام: وقد جربته فصح، اسم امرأة سام بن نوح مجلت محوّ، واسم امرأة حام بن نوح ادنو نشا، اسم امرأة يافث بن نوح زوقت نيب. - وقال: كلّ نبيّ ذُكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح. ولم يكن في العرب من الأنبياء إلا هودٌ وصالح وإسماعيل بن ذي مهرم ومحمد صلى الله عليهم اجمعين.
وقال ابن عبَّاس: لمَّا هرب إبراهيم من كوثي وخرج من النار عبر الفرات ولسانه يومئذ سُريانيٌّ، فلمَّا عبر الفرات من حرّان غُيّر لسانه، فقيل عبرانيٌّ حين عبر الفرات، ثمّ بعث نمرود في أثره فقال: لاتدعوا أحداً يتكلَّم بالسريانية إلا جئتموني به! فلقوا إبراهيم فتلكَّم بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته.
وقال: كانت العُزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة. فلمَّا افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: ايت بطن نخلة! فإنك تجد ثلاث سمراتٍ، فاعضد الأولى! فأتاها فعضدها، فلمَّا جاء إليه قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا! قال: فاعضد الثانية! فأتاها فعضدها، فلمَّا جاء إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا! قال: فاعضد الثالثة! فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقيها تصرفُ بأنيابها، وخلفها دُبَيَّةُ السُلمي وكان سادنها، فلمَّا نظر إلى خالد قال " من الطويل " :
عُزيَّةُ شُدي شدةً لاتكذبي ... على خالد ألقي الحمار وشمري
فإنك إلا تقتلي اليومَ خالدا ... تبوءي بذُلٍ عاجلاً وتنُصري
فقال خالد " من الرجز " :
ياعزَّ كفرانك لاسبحانك ... إني رأيت الله قد أهانكِ
ثمّ ضربها ففلق راسها، فإذا هي حممةٌ، ثمّ عضد الشجرة وقتل دُبَيَّةَ السادن. ثمّ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى ولا عُزَّى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد اليوم! - فقال ابو خراش الهذلي في دُبَيَّةَ يرثيه " من البسيط " :
ما لدبَيَّةَ منذ اليوم لم أرهُ ... وَسْط الشروب ولم يُلْملم ولم يطف
لو كان حيَّاً لغاداهم بمترعةٍ ... من الدواريق من شيزى بني الهطف
ضخم الرماد عظيم القدر جفنته ... حين الشتاء كحوض المنهل اللقف
الهطف بطن من بني عمرو بن أسد، واللقف الحوض المنكسر الذي يضرب أصله الماءُ فيتثلم، يقال: قد لقفَّ الحوض.

وقال ابن عباس: إذا خفت غرقاً فاكتب: بسم الله الرحمان الرحيم، ما شاء الله، لاقوة إلا بالله، وآية الكرسي، (وإنَّ ربَّكمُ اللهُ) في سورة الأعراف، (وَقُلْنا يانارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبراهيم) اكتب: اسكن! سكنت بالذي سكن له ما في الليل والنهار وهو السميع العليم، بسم الله الذي لايضر مع اسمه شيء، بسم الله لايُعاز الله شيء، الله أعزُّ من كلّ شيء.
وقال ابن عبَّاس: كان مجتمع الناس حين خرجوا من السفينة ببابل، فنزلوا سوق ثمانين بالجزيرة، فابتنى كلُّ رجلٍ منهم بيتاً، وكانوا ثمانين رجلاً فسميَّ سوق ثمانين. ثمّ ضاقت بهم حتى خرجوا، فنزلوا موضع بابل اثني عشر فرسخاً في اثني عشر فرسخاً، وكان سورها عند الفرات وبابها عند موضع دوران، فمكثوا بها حتى كثروا، وملكهم يومئذٍ نمرود بن كنعان بن حام ابن نوح. فلمَّا كفروا بلبل الله ألسنتهم، فتفرقوا على اثنين وسبعين لساناً، وفهم الله العربية عمليق وأميم وطسم بن لوذ بن سام وعاداً وعبيل ابني عُوص ابن إرم بن سام وثمود وجديس ابني جاثر بن إرم بن سام بن نوح وبني يقطن ابن عابر بن شالخ بن أفخشد بن سام. فخرجت عادٌ وعبيل، فنزلت عاد حولها ونزلت عبيل يثرب، وأقبلت العماليق وأميم فنزلت العماليق صنعاء وما حولها ونزلت أميم أُبار - وهو أُبار بن أميم - ومضى بعضهم مع عادٍ، ومضت طَسْمٌ وجديس فنزلت اليمامة، ونزلت ثمودٌ الحجر وما ولاه. فهلكت عادٌ والعماليق بصنعاء، وتحوّلت العماليق فنزلوا بمكة، ثمّ مضى بعضهم إلى يثرب - وهو يثرب بن نابتة بن مهلائيل بن رام بن عوص بن إرم وبه سُميت - فأقبلت العماليق فاجترّت عبيل من يثرب فأنزلوهم موضع الجحفة، فجاءهم سيلٌ فاجتحفهم، فسُميت الجُحفة. فذلك قولُ رجل منهم " من الخفيف " :
عَيْنُ جودي على عبيلَ وهل يُر ... جع ما فات فيضها بالسجام
عمرّوا يثرباً وليس بها شُفْرٌ ولا صارخٌ ولا ذو سنامِ
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثُمَّ حَفَّوا النخيلَ بالآجامِ
وعن ابن عبَّاس قال: لمَّا هاجر بنو جحش إلى المدينة عبد الله وعبيد الله وعبدٌ - وهو أبو أحمد بن جحش - وثب أبو سفيان على دورهم فباعها وحلف بني جحش إلى حرب بن أمية، فشكا ذلك أبو أحمد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: قل شعراً يشيعُ في العرب غدره! فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنشده " من الكامل " :
أبلغ أبا سفيان قو ... لاً في عواقبه ندامه
دارَ ابن عمك بعتها ... تقضي بها عنك الغرامه
وحليفكم بالله ... عند البيت مجتهدُ القسامهْ
اذهبْ بها اذهب بها ... طُوّقتها طوق الحمامه
قال ابن الكلبي: هذه رُخصةٌ من النبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمر بقول الشعر في عتاب وهجاء.
مات محمد بن السائب الكلبي سنة ستٍ - وقيل ثمان - وأربعين ومائة.

64 - ومن أخبار أبي الحكم الكلبي
ّ
هو أبو الحكم عوانة بن الحكم بن عياض بن وزر بن عبد الحارث الكلبيّ، الضرير من علماء الكوفة بالأخبار خاصة والفتوح مع علمٍ بالشعر.
مات أبو الحكم سنة سبع وأربعين ومائة - قال يحيى بن معين: مات هو وأبو جعفر المنصور في ساعة واحدة طسنة ثمان وخمسين ومائة " - وهو والأعمش في شهر واحد رحمهم الله تعالى.
65 - ومن أخبار أبي جنابٍ الكلبيّ
واسمه يحيى بن أبي حية. قال: أتيتُ كربلاء فقلتُ لرجلٍ من أشراف العرب بها: بلغنا أنكم تسمعون نوح الجنّ على الحسين بن علي. قال: ما تلقَى حُراً ولاعبداً إلا أخبرك أنه سمع ذلك. قلتُ: فأخبرني ما سمعت أنت! قال: سمعتهم يقولون " من الكامل " : 3مسحَ النبيُّ جبينهُ فلهُ بريقٌ في الخدودِ
أبواه من عليا قريشٍ ... جده خير الجدودِ
الجنُّ تنعي كهلهم ... لابن السعيدة والسعيدِ
وقال عمر بن الخطاب: ابنةُ عشر لذة للناظرين، ابنة عشرين لذّةٌ للعانقين، ابنة ثلاثين تَسمن وتلين، ابنة أربعين أم بنات وبنين، ابنة خمسين عجوزٌ في الغابرين.
مات أبو جناب في السنة التي مات فيها الأعمش رحمهما الله تعالى.
66 - ومن أخبار ابن عياش المنتوف

هو أبو الجراح عبد الله بن عيَّاش الهمداني المنتوف، وهو من الرواة النسَّابين، وكان عالماً بالمثالب شاعراً هجاء يتُقى لسانه. وقال المرزباني: هذا وهمٌ لأن ابن عياش هذا لم يرو له بيتٌ واحدٌ فيما أعلم، وإنما الشاعر سلمة بن عياش.
قال أبو جعفر المنصور للربيع: قُل لأبن عياش: إنْ كففت عن نتف لحيتك وصلتك. فقال ابن عيَّاش للربيع: قل له: لو ةوجدت لذَّة ذلك لعلمت أنه ألذ من الخلافة، فكيف أدعه من أجل صلتك؟! - قال: أراد محمد بن عليّ أن يتزوج ريطة بنت عبد الله الحارثية، فمنعه من ذلك الوليد ابن عبد الملك ثمّ سليمان بن عبد الملك لما كانوا يرونه من زوال الأمر عنهم على يد رجلٍ من بني العباس يقال له ابن الحارثية. فلمَّا ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه ذلك واستأذنه، فقال له: تزوج بمن أحببت! فتزوجها فولدت أبا العبَّاس السفاح.
ودخل معن بن زائدة - وكان دهرياً - على ابن عيَّاش يعوده، فلمَّا خرج من عنده رأى عجوزاً في ناحية الدار وبين يديها قدرٌ صغيرةٌ توقد تحتها، فقال معن متمثلاً طمن الطويل " :
وقدرٌ ككفِ القرد لامستعيرها ... يُعارُ ولا من ذاقها يتدسَّمُ
فسمعها ابن عيَّاش فقال: ياأبا الوليد، إنها من حلال وإن أهلها موحدون.
وقال ابن عياَّش: قال لنا المنصور: أخبروني عن خليفة جبَّار اوّل اسمه عينٌ قتل ثلاثة جبابرة أول أسمائهم عينٌ! قال: فقلتُ له: عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمان بن محمد ابن الأشعث. قال: فخليفة أول اسمه عين فعل ذلك بثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين! فقلت: أنت، ياأمير المؤمنين، عبد الله بن محمد، قتلت أبا مسلم واسمه عبد الرحمان وقتلت عبد الجبار وسقط على عمك عبد الله بن عليّ البيت! فضحك وقال: ويلك فما ذنبي إذا سقط البيت عليه؟! - وإنما أراد ابن عيَّاش أنك قتلت عمك، بنيت له بيتاً في أساس ملح فسقط عليه. فلم يُصرح ولكن عرض به لأن عمه كان خرج عليه.
وحضر بباب المنصور جماعة من أهل الكوفة فيهم ابن عيَّاش يطعنون على عاملهم ويتظلمون من أميرهم، فقال للربيع: أخرج وقُل لهم: إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقنَّ رؤسهما ولحاهما ولأضربن ظهورهما، فالزموا منازلكم وابقوا على أنفسكم! فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة، فقال له ابن عيَّاش: يا شبيه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنَّا كما أبلغتنا عنه وقل له: واللهِ مالنا بالضرب طاقةٌ فأما حلق اللحى فإذا شئت! وكان ابن عيَّاش منتوفاً، فأبلغه، فضحك وقال: قاتله الله ما أدهاه! - وكان يطعن على الربيع الحاجب في نسبه فيخدعه بقوله: فيك شبه من عيسى بن مريم! يعني ليس له أبٌ.
قال المنصور لابن عياش: لو تركت لحيتك فطالت، أما ترى عبد الله بن الربيع ما أحسنه! فقال: أنا أحسنُ منه! وحلف على ذلك. فقال ابن الربيع: انظر، ياأمير المؤمنين، إلى هذا الشيخ ما أجرأه على الله! فقال ابن عيَّاش: احلق لحيته وأجلسه إلى جنبي وانظر أينا أحسن! وقال ابن عيَّاش: حدثتث المنصور أنه كان بالكوفة رجلٌ يحدثُ عن بني إسرائيل وكان يتهم بالكذب، فقال له الحجَّاج بن خيثمة يوماً: ما اسم بقرة بني إسارئيل؟ فقال: خيثمة. فأسكته. وقال له رجلٌ من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكُتُب وجدت هذا؟ فقال: في كتاب عمرو بن العاص الذي خدع به أبا موسى. فأسكته أيضاً.
خطب المنصور بمكة وقد أمل الناس عطاءه، فقال: ياأيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وخازنه في فيئه أعمل فيه بمشيئته وأقسمه بإرادته، وقد جعلني الله قفلاً عليه، إذا شاء أن يفتحني فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله، أيها الناس، في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزل به كتابه فقال جل اسمه (اليومَ أكملتُ لكُمْ دينَكمْ وأتممتُ عَلْيكم نِعْمتي ورضيتُ لَكُمُ الإسلامُ ديناً)، وأسألم الله أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم، إنه قريبٌ مجيب. - فقال ابن عياش: أحال أمير المؤمنين على ربه عز وجل.
وقيل له: كان ألحنف بن قيس سيداً، قال: لاولكن كان شريفاً، وإنما السيد الباذل للمال. - قال رجلٌ لابن عيَّاش: لي إليك حاجةٌ صغيرة. فقال: اطلب لها صغيراً مثلها.

وقال: أول من بنى المقصورة بالبصرة زيادٌ، وأول من جعل الأذانين يوم الجمعة زياد، وهو أول من جلس الناس بين يديه على الكراسي، وأول من أتخذ السقيف في حوانيت السوق، وأول من رفع الثياب، وأول من لبس الخفاف الساذجة، وأول من دعا النقري، وكانوا يدعون الجفلى.
ودخل ابن عياش على سلم بن قتيبة وبين يديه سلة زعفران، فقال: أنشدني بيتاً لايستطيع إنسان أن يقول: كذبت! وهي لك! فأنشده " من الطويل " :
وما حملتْ من ناقةٍ فوق رحلها ... أبرَّ وأوفى ذمَّةً من محمدِ
فقال: خذها، لابارك الله لك فيها! وقال: وقع الحريق ببعض سكك المدينة فيها دار أم أبان القوَّادة، فلم يُصب منزلها شيء، فغدا الحرفاء عليها بالتهنئة، فقالت: المحسنُ معان.
حضر مطيع بن إياس وشراعة بن الزندبوذ ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب وابن عياش المنتوف وحمَّاد عجرد، فتكايدوا عند بعض الأمراء من أهل الكوفة، فغلبهم مطيع بظرفه ثمّ بدههم بهذين البيتين " من البسيط " :
وخمسةٍ قد أبانوا لي كيادهم ... وقد تلَّظى لهم مقلىً وطنجيرُ
لو يقدرون على لحمي لمزَّقه ... قرْدٌ وكلبٌ وجرواه وخنزيرُ
ومات ابن عيَّاش رحمه الله سنة ثمان وخمسين ومائة.
67 - ومن أخبار حُمران بن أعْيَنَ
هو أبو عبد الله حُمران بن أعين بن سنبس مولى الطائيين، هو قارئ حسن الصوت نحويٌ شاعرٌ شيعيٌ من شيعة جعفر بن محمد عليهما السلام. وقرأ على حمران حمزة بن حبيب، وقرأ حمران على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على عليٍّ وعثمان رضي الله عنهما.
68 - ومن أخبار زهير القُرقبيّ
هو زهير بن ميمون الهمداني القرقبيّ مولى النخع أو غيرهم، كان من علماء الكوفة، وإنما سُميّ القُرقبي لأنه كان يتجر إلى ناحية قُرقوب فنسب إليها. أخذ النحو من أصحاب أبي الأسود. ومات سنة ست وخمسين ومائة.
69 - ومن أخبار حمزة بن حبيبٍ الزّيات
هو مولى بني عجلٍ وقيل مولى تيم الله، ولد سنة سبعين، وكان ثقة صاحب قراءة وفرائض صالحاً صدوقاً. - قال حمزة: القرآن ثلاثً مائة ألف حرف وثلاثة وسبعون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفاً.
وقال: خرجت في تجارتي إلى حلوان، فلما كان منصرفي أدركني الليل في موضعه خرابٍ. قال: فسمعت قائلاً يقول: ماوجد هذا موضعاً ينزل فيه إلا ههنا؟ أما والله! وذكر كلمةً، فقلت: (شهد اللهُ أنَّه لا إله إلاَّ هُو والملائكَةُ وألولوا العلم قائماً بالقسط لاإله إلا هوَ العزيز الحكيم، إنَّ الدين عند الله الإسلام). فسمعت قائلاً يقول: أبعدك الله! احرسه الآن حتى يصبح.
قال: وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذين البيتين " من الطويل " :
نهارك يامغرور سهوٌ وغفلةٌ ... وليبك نومٌ الردى لك لازمُ
وتكدح فيما سوف تكره غبَّة ... كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ
وقال: دخل الحارث الأعور على عليٍّ رضي الله عنه فقال: ياأمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد أقبلوا على الحديث وتركوا كتاب الله؟! فقال عليُّ: قد فعلوها؟ قال: نعم! قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتمةٌ. قلت: ياأمير المؤمنين، فكيف المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر مابعدكم وحكمكم بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن أراد الهدى في غيره أضله الله، وهو حبلُ الله المتين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لاتزيغ به العقول، ولا تلتبس به الألسن، ولايخلق عن رد، ولا تنقضي عجائبه، ولايشبع منه علماؤه، وهو الذي سمتعه الجن حتى قالوا: (إنا سَمْعْنا قُرآناً، يهدي عجباً إلى الرشد)، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم، خذها ياأعور! مات حمزة بحلوان في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ست وخمسين ومائة رحمه الله تعالى.

70 - ومن أخبار حماد الراوية
هو حماد بن سابور بن عبيد الراوية، وقيل: سابور بن المبارك بن عبيد، وقيل: ابن هرمز، وقيل: حمَّاد بن أبي ليلى، ويكنى أبا القاسم. وأبوه من سبيِ الديلم، سباه ابن لعروةَ بن زيد الطائي.

قيل: رواة الكوفة أربعة: حماد - ولقبَّه الخرجوني - وجناد وابن الجصاص والمفضَّل، ورواة بغداد أربعة: أبو عمرو الراوية والأثرم وابن الأعرابي والطوسي.
تلاحوا في مجلس المنصور من أشعر الناس، فسئل حمَّاد عن ذلك فقال: صناجة العرب! - يعني الأعشى، وسُمي به لقوله " من البسيط " :
ومستجيبٍ تخالُ الصنج يسمعهُ ... إذا تُؤجع فيه القينة الفضلُ
المستجيب المزمار ههنا، وقيل: العود. وسئل عن عمر بن أبي ربيعة، فقال: ذلك الفستق المقشر. وسئل عن شعر امرئ القيس، فقال: ماأقول؟ مبتدئ ياحسان، والناسُ بعده له تبع لايلحقونه. قيل: فالنابغة الذبياني؟ قال: ذاك كاتبُ الشعراء، أحسنهم نمطاً وأحضرهم احتجاجاً. قيل: فزُهير؟ قال: ذاك حكيمُ العرب، أشدُّهم أسرَ كلامٍ ومبالغة في مدح. قيل: فالأعشى؟ قال: ذاك أجمعهم للمعاني، وأكثرهم شعراً وفنوناً، وما أقيسُ به أحداً. قيل: فجريرٌ؟ قال: جرو خراشٍ ينطبق بملء فيه ويذهب في كُلّ فنّ. قيل: فالفرزدق؟ قال: أكثر العرب شعراً وأبعدهم ذكراً وأوسعهم فكراً وأجودهم فخراً. قيل: فالأخطل؟ قال: ذاك شاعرٌ قد حبب شعره إل]ذَ النصرانية. وقال حماد: لو مات الأخطل مسلماً لشهدتُ له بالجنة بقوله " من الكامل " :
وإذا أفتقرت إلى الذخائر لم تجدْ ... ذخراً يكون كصالح الأعمالِ
وقال حماَّد: بينا أنا أسيرُ ليلاً إذ أنا برجلٍ على ظهر ظليم وهو يقول ويجئُ ويذهب " من الرجز " :
هَلْ يُبْلِغهم إلى الصباح ... هيقٌ كأنّ رأسه جُماحْ
- الجُماح السَهْم الذي لانصل له يجعل على رأسه طينٌ يُلعب به لئلا يعقر - قال: فعلمتُ أنه ليس بإنسي، فقلت له: ياهذا من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول " من الطويل " :
تَطرُدُ القُرَّ بحرٍ ساخنٍ ... وعكيك القيظ إنْ جاء بَقُرّ
قلت: ومن هذا؟ قال: ابن الثماني عشرة طرفة بن العبد. قلت: ثمّ من؟ قال: الذي يقول " من المتقارب " :
وتبردُ بَرْدَ رداءٍ العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا
وتسخنُ ليلةَ لا يستطيع ... نباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا
قلتُ: من يقول هذا؟ قال: أعشى بن قيس بن ثعلبة. ثمّ ذهب به ظليمه.
وسئل حمَّاد عن الدنقعي الشاعر وكان يزعم أنه من بني عجل، فقال حمّاد: أنا أضرب لكم مثله: رأى كرْكي مرّةً عقاباً قد أنحط على حمل فأخذه بمخاليبه فمرّ به، فقال الكركيُّ: أنا أعظمُ من هذا وأطول عُنقاً ورجلين، فما يمنعني من الصيد؟! فعلا وانقضّ على حمل فنشب في صوفه فلم يتحرَّك، ورآه الراعي فأخذه وجعله في كسائه وانصرف. فقالوا له: مامعك؟ قال: معي أنا أقول أنه كُركيُّ وهو يقول إنه عقابٌ. ولكن أقول أنّ الدنقعيّ زنجي وهو يزعم أنه عجليٌّ.
وقال عبد الله بن جعفر: كان حمّاد يتَّهم في دينه وكان يعاقر الخمر ويستخف بالصلاة، فهجاه بعض الشعراء فقال " من الكامل " :
نِعْم الفتى لو كان يعرف رَبَّه ... ويُقيمُ وقتَ صلاته حمّادُ
طمستْ محاسنه الشُمول فأنْفهُ ... مِثلُ القَدُوم يَسُنُّها الحدّادُ
وابيضَّ من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سوادُ
لايعجبنك جسمه ورواؤُه ... إنَّ المجوس تُرى لها أجسادُ
حمّادُ يا ضبعاً تُجُرُّ جراءها ... أجنى لها بالقريتين بلادُ
وقيل إنها من قصيدة لأبي الغُول النهشلي في حماد الزبرقان.
وقال: كانت العرب تقول: يعجبنا أربعة من أربعة: سُرعة بكور الغُراب، وسرعةُ إيابه قبل الليل، والكلبُ تنفع المعرفة عنده، والخنزير إذا احتفر لم يدعه حتى يأتي على أصله، والسَّنور يواظب على الشيء فلا يبرح حتى يأخذه، فمن طلب فليطلب طلب السنَّور.
71 - ومن أخبار جَنّاد بن واصل
كنيته أبو محمد أسديُّ من القدماء في قياس حمادٍ الراوية.

72 - ومن اخبار ابن الجصاص
هو أبو يعقوب إسحاق بن عمار الجصاص من موالي اليمن، مات في آخر أيام أبي جعفر المنصور.
73 - ومن أخبار المفُضَّل الضَبيّ
هو أبو العباس - وقيل: أبو عبد الرحمان - المفضَّل بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم بن أبي الريان من ثعلبة بن السيد بن ضبة.

وقال: قال لي الرشيد: كم أسم في (فَسَيَكْفيكَهُم اللهُ9؟ قلت: ثلاثة أسماء، يا أمير المؤمنين، أولها اسم الله عز وجل، والثاني اسم النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث اسم الكفرة، فالياء والكاف والفاء والياء المتصلات بالسين لله عز وجل، والكاف المتصلة بالهاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والهاءُ والميم للكفرة. قال: كذا قال الشيخ! وأشار بيده إلى الكسائي. وأنشد المفضل " من الطويل " :
لها من عُيونُ العين عينُ مريضةٌ ... ومن خضرة الريحان خضرةُ شاربِ
كأن غلاماً حاذقاً خطه لها ... فجاء بنصف الصاد من خط كاتبِ
وقال: دخلت على المهدي، فقال: أنشدني أربعة أبيات، لاتزد عليهن قبل أن تجلس! وعنده عبد الله بن مالك الخزاعي، فأنشدته " من الطويل " :
وأشعَُ قد قدَّ السفار قميصهُ ... يَجُرُ شواءً بالعصا غير منضجٍ
دعوتُ إلى مانابني فأجابني ... كريمٌ من الفتيان غير مزلَّجِ
فتىً يملأُ الشيزي ويروي سنانهُ ... ويضربُ في رأس الكمي المدجَّجِ
فتىً ليس الراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوت القوم بالمتولجِ
فقال المهدي: هذا! وأشار إلى عبد الله بن مالك. - حاشية في الأصل: ومدح بعض الأعراب الرشيد بشعرٍ حسنٍ، فقال له الرشيد: أسمعك مستحسناً وأنكرك متهماً، فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل في هذين بيتين! وأشار إلى عبد الله ومحمد، فقال: حملتني على غير الجدد روعةُ الخلافة ونهد البديهة ونفور القول في الرواية لاتتألف لي، فقرأتها إلا بفكرٍ، فليمهلني أمير المؤمنين قليلاً. قال: أمهلك وأجعل لك حسن اعتذارك بدلاً في أمتحانك. قال: يا أمير المؤمني، نفست الخناق وسهلت ميدان السباق. ثمّ قال " من الطويل " :
بنيتَ لعبد الله بعد محمد ... ذُرى قُبّةِ الإسلام فاحضر عُودها
هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أميرُ المؤمنين عمودها
قال: أحسنت! فلا تكن مسألتك دون إحسانك! فقال: الهنيدة، أمير المؤمنين! فأمر له بها.
وقال المفضل: قال لي المهدي: أسهرتني البارحة هذه الأبيات " من الطويل " :
وقد تعذرُ الدُنيا فيضحي غنيها ... فقيراً ويغني بعد بؤسٍ فقيرها
فلا تقرب الأمر الحرامَ فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها
وكم قد رأينا من تغير عيشةٍ ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فلا تلهك الدنيا عن الحق فاعتملْ ... لآخرة لا بدَّ أن ستصيرها
وقال: سايرت الرشيد يوم منصرفه من مكة، فسنح لنا ذئبٌ، فقال الرشيد: ماأحسن ما قيل في الذئب؟ فقلت " من الرجز " :
أطْلَسُ يُخفي شخصهُ غُبارهُ ... في فمهِ شفرته وناره
فقال: أحسن الشاعر ولكن أحفظ ماهو أحسن من هذا، فإنْ جئت به ولك خاتمي! فقلت: لعلَّ أمير المؤمنين يريد " من الطويل " :
ينامُ بإحدى مقلتيه ويتَّقي ... المنايا بأخرى فهو يقظان هاجعُ
فقال: ماطرح هذا على لسانك إلا لذهاب خاتمي! ورمى به إليّ.
وقال المفضل: أحسن ما قيل في القَسَم قولُ الأشتر " من الكامل " :
بقيَّتُ وفري وانحرفتُ عن العلا ... ولقيتُ أضيافي بوجه عبُوسِ
لإنْ لم أُشُنَّ على ابن هند غارةً ... لم تخل يوماً من نهاب نفوسِ
خيلاً كأمثال السعالي شُرباً ... تعدو ببيضٍ في الكريهة شوسِ
حمي الحديدُ عليهمُ فكأنهُ ... لمعانُ برقٍ أو شعاعُ شُمُوسِ
وقال: كان في خثعم رجلُ كان يقول " من الكامل " :
لو كنتُ أنهضُ في المكارم صاعداً ... مثل انحداري كنتُ سيّدَ خثعم
قال: فضرب الدهر من ضربه وتفانى القوم، فاحتاجوا إلى أن سوَّدوه عليهم، فكان يقول " من الكامل " :
خلتِ الديارُ فسدت غير مسوَّدِ ... ومن الشقاء تفرُّدي بالسُوددِ
74 - ومن أخبار الشرْقيّ بن القطاميّ
هو أبو المثنى الوليد بن الحصين بن جمال بن حبيب بن جابر بن مران - وهو مالك بن عمرو - النسابة، وكان أعور، كلبيّ.

قال: أوّلُ قتيل قتل في الإسلام الحارث بن أبي هالة الأُسيدي، وكانت أمه خديجة، وولدت الحارث وهندا ابني هالة. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أمر أن يصدع بما يؤمر قام في المسجد الحرام وقال: قولوا: لاإله إلا الله، تُفلحوا! فوثبت إليه قريشٌ، فأتى الصريخ أهله، فكان أول من أتاه الحارث بن أبي هالة، فضرب في القوم فصرفهم عنه، وعطفوا عليه فضربوه حتى قتلوه رحمه الله.
وذُكر عن أبن عبَّاس أن قابيل لمَّا قنتل هابيل رثاه أبوه آدم عليه السلام فقال " من الوافر " :
تغيَّرت البلادُ ومن عليها ... فلون الأرض مُغْبَرٌّ قبيحُ
تغيَّر كُلُّ ذي طعمٍ ولونٍ ... وقَلَّ بشاشةَ الوجه المليحُ
على هابيل لمَّا ان تولَّى ... وولت بهمه هملاً تسيحُ
فلم يلبث قابيل بعده يسيراً حتى هلك، فأنشأ إبليس يقول " من الوافر " :
دع الشكوى فقد هلكا جميعاً ... بهلكٍ ليس بالبيعِ الربيحِ
فما يغني البكاءُ ولا البواكي ... إذا ما المرءُ غودر في الضريحُ
فبك النفس منك ودع سواها ... فلست مخلَّداً بعد الذبيحُ
قال: وكان الأصل: " وقلَّ بشاشة الوجه " ، فترك التنوين وأعمله، ومثله قولُ عبيد الله بن قيس الرُذيَّات " من الخفيف " :
كيف نومي على الفراش ولمَّا ... تشمل الشأمَ غارةٌ شعواءُ
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
أراد: " عن خدام العقيلة العذراء " ، والخدام الخلخال؛ ومثله لأبي الأسود " من المتقارب " :
فألفيته غير مستعتبٍ ... ولاذاكر الله إلا قليلا
75 - ومن أخبار معاذٍ الهَرّاءِ
هو أبو عليّ - وقيل: أبو مسلم - معاذ بن مسلم من موالي محمّد بن كعب القُرظي، كان يبيع الهروي بالكوفة، وكان تاجراً نحوياً أستاذ الكسائي شيعياً، ولد في أيام عبد الملك. وممَّا هُجي به " من المنسرح " :
إنَّ مُعاذ بن مسلم رجلٌ ... قد ضجَّ من طول عُمره الأبدُ
يانسر لقمان كم تعيش وكم ... تأكلُ طُولَ الحياة يا لبدُ
فهذه دارُ آدم خربت ... وأنت فيها كأنك الوتدُ
تسأل غربانها إذا نعبتْ ... كيف يكون الصُداعُ والرمدُ
ومات معاذ في تلك السنين، وأدرك أولاد أولاده رجالاً وماتوا كلُّهم قبله، وفي ذلك يقول " من المنسرح " :
ما يرتجى بالعيش من قد طوى ... من عمره الذاهبُ تسعينا
أفنى بنيه وبنيهم فقد ... جرَّعه الدهرُ الأمَرَّينا
لابُدَّ أن يشرب من حوضهم ... وإن تراخى عمره حينا
قال عثمان بن أبي شيبة: رأيت معاذ بن مسلم وقد شدَّ أسنانه بالذهب. - ومات سنة تسعين ومائة ببغداد رحمه الله تعالى.

76 - ومن أخبار أبي عمرو الشيباني
ّ
قال الجاحظ: كان أبو عمر إسحاق بن مرار الشيباني مولى وليس من بني شيبان ولكنه كان مؤدباً لأولاد بعضهم، فنسب إليهم كاليزيدي. هو راويةُ أهل بغداد، واسعُ العلم باللغة والشعر، ثقةٌ في الحديث، كثير السماع. له كتبٌ كثيرة في اللغة جيادٌ، منها " النوادر " ومنها " كتاب الحروف " الذي لقبه بالجيم، ومصنَّفات في خلق الإنسان والخيل والإبل وسائر فنون اللغة؛ وأُخذت عنه دواوين أشعار القبائل كلّها. وله بنون وبنو بنين يروون عنه كتبه، وكان ممن يلزم مجلسه ويكتب عنه الحديث أحمد بن محمَّد ابن حنبل.
وقال: الضيون السَّنور، وأنشد " من الطويل " :
خليليَّ عُوجاً من صدور الكوادنِ ... يُمالُ علينا من ثريدِ الحواقنِ
ثَريدُ كأنَّ السَمْنَ في حجراتهِ ... نجومٌ الثريا أو عيونُ الضياونِ
وقال ابن الأعرابيّ: هو دويبة تشبه السنَّور.
قال عكرمةُ: قلتُ لابن عبَّاس: أرأيت ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت آمن شعره وكفر قلبه؟! قال: هو حقٌ، وما أنكرتم من ذلك؟ قلتُ: أنكرنا قوله " والشمس " " من الكامل " :
والشمسُ تطلعُ كُلَّ آخر ليلةٍ ... حمراء تُصبحُ لونها يتوَّردُ
ليستْ بطالعةٍ لهم في رسلها ... إلا معذبةً وإلا تُجلدُ

مابال الشمس تجلد؟ قال: والذي نفسي بيده ما طلعت الشمسُ قطُّ حتى ينخسها سبعون ألف ملكٍ يقولون لها: اطلعي اطلعي! وتقول: لاأطلع على قوم يعبدونني من دون الله عز وجل! فيأتيها ملكٌ فيستفل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطانٌ يريد أن يصَّدها عن الطلوع، فتطلع بين قرنيه، فيحرقه اللهُ تعالى تحتها. وما غربت قطُّ إلا خرت ساجدة لله عزّ وجل، فيأتيها شيطانٌ يريد أن يصدَّها عن السجود، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تعالى تحتها. وذلك قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملطلعت الشمس إلا بين قرني شيطانٍ ولا غربت إلا بين قرني شيطان.
مات أبو عمرو الشيباني وأبو العتاهية الشاعر وإبراهيم الموصلي المغني والد إسحاق ببغداد في يوم واحد سنة ثلاث عشرة ومائتين رحمهم الله. قال ابن السكيت: مات أبو عمرو الشيباني وله مائةٌ وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات.
77 - ومن أخبار بُزُرخ العَروُضيّ
هو أبو محمد بُزرخ بن محمد مولى بجيلة، وقيل: مولى كندة، كثير الحفظ وليس بصدوق.

78 - ومن أخبار أبي جعفر الرؤاسي
ّ
هو أبو جعفر النيلي ابن أخي معاذ الهراء، وهم موالي محمد بن كعب القُرظي، وسُميّ الرؤاسي لكبر رأسه، وينزل النيل، فقيل: نيليٌّ، وكان أستاذ الكسائي والفراء، وكان رجلاً صالحاً.
قال: بعث إليَّ الخليل فطلب كتابي، فبعث به إليه، ووضع كتاب العين. وإذا قال سيبويه في كتابه: قال الكوفي كذا، فإنما يعني به الرؤاسي. وهو أولُ من وضع النحو من الكوفيين، وعُمر إلى زمن الرشيد. وسئل الكسائي وابن إدريس عن الصمد فقالا: الذي تصمد الأمور إليه. وأنشد الكسائي في ذلك " من الطويل " :
ألا بكَّرَ الناعي بخيري بني أسدْ ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وسئل الرؤاسي فقال مثل ذلك، فقيل له: كيف جمعه؟ قال: جلَّ من سألت عن اسمه، لايثنى ولا يجمع. فقيل: إذا سُميَّ به مخلوقٌ؟ فقال: أصمادٌ وصمدان. وسئل عن قوله تعالى (وأنَّهُ تعالى جَدُّ ربنا)، فقال: حكاه الله عن قيل جهلة الجن.
79 - ومن أخبار القاسم بن مَعْن
هو أبو عبد الله القاسم بن معن بن عبد الرحمان المسعودي الهّذليُّ من فقهاء الكوفة، ولي القضاء عالماً بالشعر والأخبار والفقه والأنساب؛ وجدُّه عبد الرحمان هو ابن عبد الله بن مسعود صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وله في اللغة " كتاب النوادر " ، وأخذ عنه الليث بن المظفر صاحب الخليل النحو واللغة، وكان الفراء كثير الرواية عنه، وكان ثقة، وهو من أصحاب أبي حنيفة في الفقه، وكان عثمانياً. ومن شعره " من الكامل " :
الرفقُ يبلغُ بالرفيق ولا ... ينفكُّ يُتعبُ أهله الخُرُقُ
والكيس أبلغُ في الأمور ولا ... يبرأ لو داويته الحمق
ما صِحةٌ أبداً بنافعةٍ ... حتى يصحَّ اللين والخُلُقُ
قيل لعمر بن الخطاب: إن نساء بني مخزوم قد اجتمعن ونتخوَّف أن يؤذينك بأصواتهن. قال: لاعليهن أن يهرقن من دمعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعٌ أو لقلقةٌ! قال القاسم: هو أبو سليمان خالد بن الوليد المخزومي والنقع الشق واللقلقة الصوت.
قال القاسم: كانت أم سعيد بنت سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند هشام بن عبد الملك وطلقها، فتزوجها العبَّاس بن الوليد بن عبد الملك ثمّ طلقها وندم، فتزوجها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فدسَّ العبَّاس إليها أشعب بأبيات قالها وجعل له ألف دينار إن أنشدها إياها، فأنشدها، فقالت، له: دسَّك العبَّاس وجعل لك ألف دينار، فلك مثلها على أن تخبره بما أقول! ثمّ استنشدته، فلَّما قال " من الوافر " :
أسعدهةُ هل إليكِ لنا سبيلٌ ... وهَلْ حتى القيامة من تلاق
قالت: لا، إن شاء الله! فلمَّا أنشدها " من الوافر " :
بلى ولعلَّ داركِ أن تؤاتي ... بموتٍ من حليلكِ أو فراقِ
قالت: بفيك الحجر! فلمَّا أنشدها " من الوافر " :
فأرجع شاكتاً وتقرَّ عيني ... ويشعبَ صدعنا بعد انشقاقِ
قالت: بل يشمتِ اللهُ بك ويجمع شملنا! وقال ابن حبيبات الكوفي للقاسم بن معن القاضي " من المنسرح " :
ياأيها العادلُ الموفَّقُ والقاسمُ بين ألراملِ الصدقةْ
ماذا ترى في عجائز رزحٍ ... أمسينَ يشكون قلَّة النفقة

ما إن لهنَّ الغداة من نشبٍ ... يُعرفُ إلا قطيفةٌ خلقة
بناتُ تسعين قد خرقن فما ... يفصلن بين الشواء والمرقة
فهنَّ لولا انتظارهنّ دنا ... نيرك قطعن بعد في السرقة
فقال القاسم: العجب أنه يوجب علينا الدنانير ولا يوجب الدراهم. وأعطاه ثلاثة دنانير.
عرض عبد الملك بن مروان الإسلام على الأخطل، فقال له الأخطل: إني امرؤ مشغوفٌ بالخمر، أفرأيت إن سلمت ثمّ شربتها؟ أتقرني وذلك؟! فقال له عبد الملك: لاأُحلُّ ما حرَّمه الله! فقال الأخطل: لاحاجة لي في دينك. فقال له عبد الملك: انعت لي مبلغ الطرب منك في الخمر ومبلغ لذّتك في شهواتك! فقال " من الطويل " :
إذا مانديمي علَّني ثمّ علَّني ... ثلاث زجاجاتٍ لُهنَّ هديرُ
خرجتُ أُجرُّ الذيلَ مني كأنني ... عليك أميرٍ المؤمنين أميرُ
فقال عبد الملك: فإنا لانكرهك على دين الله. فقال الأخطل " من الوافر " :
ولستُ بصائمٍ رمضانَ طوعاً ... ولستُ بآكل لحمَ الأضاحي
ولستُ بقائمٍ كالعير أدعو ... إلى الصلوات: حيَّ على الفلاحِ
ولستُ بزاجرٍ عيساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاحِ
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباحِ
خرج القاسم بن معن مع بعض أسباب الرشيد إلى الرقة، فمات برأس عين سنة خمس وسبعين ومائة.
80 - ومن أخبار أبي بكر بن عيَّاشٍ
قيل: اسمه شُعبة، وقيل: عبد الله، وقيل: محمد، وقيل: مطرفٌ، وقيل: سالم، وقيل: عنترة، وقيل: لايعرف له اسم؛ وهو مولى واصل ابن حيَّان الأحدر الأسدي، ولد في زمن سليمان بن عبد الملك سنة سبع وتسعين. وقال: أنا أكبر من الثوري بسنتين. وكان ثقةً صدوقاً عالماً عارفاً بالحديث والعلم إلا أنه كان كثير الغلط، وهو من العبَّاد أحدُ قراه أهل الكوفة المشهورين، وكان يقدم عثمان على عليّ، ولايقول إلا خيراً.
قال حفص بن عبيد: كنت عند عبد الله بن المبارك حين ماتت امرأته، فسألته: مالرضا؟ قال: إلا يتمنى خلاف حاله. قال: فجاء أبو بكر بن عيَّاش فعزَّى عبد الله، فقال لي عبد الله: سله عمَّا كُنَّا فيه! فسألته، فقال: من لم يتكلم بغير الرضا فهو راض.
وقال: كنتُ إذا حزنت أمنع نفسي من البكاء حتى سمعتُ ذا الرمة ينشد بالكناسة " من الطويل " :
خليليَّ عوجاً من صدور الرواحلِ ... بأكنافِ حزوى وابكيا في المنازلِ
لعلَّ انحدار الدمع يعقب راحةٍ ... من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابلِ
مثل هذا قول ابن كناسة وهي قصيدة طويلةٌ يرثى بها إسحاق بن القاسم بن محمد بن الأشث، أولها " من الكامل " :
هل للنفوس من الحوادث من واقٍ ... أنَّى وليس على المنية باق
منها:
إنَّ السماحة والنزاهة والنهى ... كفنَّ في خرق عليك رقاقِ
وإذا برزت به برزت بمرتدٍ ... منآزرٍ بمكارم الأخلاقِ
ومنها:
وإذا غشيتُ ديارهُ خنقتني ... حتى أحلل بالبكاء خناقي
قال أبو بكر: فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنتُ أبكي فأستريح.
ومات قبل موت الرشيد بشهر سنة ثلاث وتسعين ومائة، وفيها مات غندر وعبد الله بم إدريس، فكان عمرُ ابن عيَّاش ستَّاً وتسعين سنةً وقد كُفَّ بصره.
ولمَّا حضرته الوفاة نظر إلى أخته تبكي، فقال لها: ممَّ تبكين؟ قالت لفراقك! قال: انظري إلى تلك الزاوية! فإن أخاك ختم فيها القرآن ثمان عشرة ألف ختمة.

81 - ومن أخبار الكسائي
ّ
هو أبو الحسن عليّ بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز مولى بني أسد. قيل له: لم سُميت الكسائيَّ؟ قال: لأني أحرمت في كساء. وهو إمام أهل الكوفة في النحو والقراءة، أستاذ الفراء وعليّ بن المبارك الأحمر، ورد بغداد وأدب محمّد بن الرشيد. قال الجاحظ: تعلّم الكسائي النحو بعد الكبر.

جاء أعرابيٌ إلى الكسائي فقال: ما (كوكبٌ دُرّيٌّ) ودريّ ودريُّ؟ قال: دُرّيٌّ يشبه الدُرَّ ودَرّيٌّ يلتمع ودرّي جادٍ. قال: أنت أعلم الناس! ومضى. - قيل لأبي عمر الدوري: لم صحبتم الكسائي؟ وفيه من المجانة والخلاعة والمجاهرة بشرب النبيذ ومداعبة الغلمان ومخالطتهم، مافيه؟! قال: لضبطه القراءة وعلمه بالعربية وصدقه الحديث.
قال الكسائي: أحضرني الرشيدُ في سنة اثنتين وثمانين ومائة - وهي السنة الثالثة عشرة من خلافته، فأخرج إليَّ محمَّداً الأمين وعبد الله المأمون كأنهما بدران، فقال: امتحنهما بشء! فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي: كيف تراهما، ياعليُّ؟ فقلتُ " من الطويل " :
أرى قمري أفقٌ وفلاعي بشامةٍ ... يزينها عرق كريمٌ ومحتدُ
يسدانِ آفاق السماءِ بهمةٍ ... يؤيدها حزمٌ ورأيٌ مُسدَّدُ
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريثِ ما أبقى النبيُّ محمَّدُ
حياةٌ وخصبٌ للوليِّ ورحمةٌ ... وجدبٌ لأعداء وعضبٌ مهنَّدُ
هذان، ياأمير المؤمنين، فرع رسا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، وأورق غصنه، وأينع ثمره، وزكا فرعه، أداهما ملك أغر نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما متطولان بطوله، ومستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، فأمتع اللهُ أمير المؤمنين بهما وبلغه الأمل فيهما! فقال الرشيد: تعهدهما! قال الكسائي: فكنتُ أختلفُ إليهما.
وكتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدب محمداً " من الكامل " :
قُلْ للخليفة ما تقولُ لمن ... أمسى إليك بحرمةٍ يُدلي
مازلتُ مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي
وعلى فراشي من ينبهني ... من نومتي بقيامه قبلي
أسعى برجلٍ منه ثالثةٍ ... نقصت زيادنها من الرجل
فامنن عليَّ بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل
فضحك الرشيد وأمر له ببرذون بسرجه ولجامه وجارية حسناء بآلتها وخادم وعشرة آلاف درهم.
وقال الكسلئي للرشيد: ليس أحدٌ يلحن في الدنيا ولاشيء من كلام الناس إلا وله وجه صحيحٌ، لايعلمون ما يعنون. ثمّ إنه كان يوماً مع الرشيد في موكبه، فسمع الرشيد صاحب باقليّ يقول: المقلي المقلي! فدعا الكسائي فقال له: زعمت أنه ليس أحدٌ يلحن، فما معنى هذا المقلي؟ وإنما يريد: مَقُلَّوا! وقال: ياأمير المؤمنين، إنما يعني هذا أنّ الناس قد قلوه من القلى وهجروه ولكنه لايعلم.
دخل أبو يوسف الفقيه على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه، فقال: ياأمير المؤمنين، قد سعد هذا الكوفيّ بك وشغلك. فقال الرشيد: النحو أستعين به على القرآن والشعر. فقال الكسائي: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له بجوابي عن مسألة من الفقه؟ فضحك الرشيد وقال: أبلغت - ياكسائي - إلى هذا، قل! فقال الكسائي: ماتقول في رجلٍ قال لامرأته: أنتٍ طالقٌ أن دخلت الدار؟ قال أبو يوسف: إذا دخلت طلقت. فقال الكسائي: أخطأت! إذا فتحت " ان " فقد وجب الأمر لأن " أن " بالفتح لما قد كان، وإذا كسرت فلم يقع بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.
وقال: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وماالنحو؟ فأردت أن أعلمه فضل النحو فقلت: ما تقول في رجلٍ قال لرجل: أنا قاتلُ غلامك! وقال آخر: أنا قاتلٌ غلامك! أيهما كنت تأخذ به؟ آخذهمت جميعاً! فقال الرشيد: أخطأت - وكان له علمٌ بالعربية - فاستحيي وقال: كيف ذلك؟ فقال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامك بالإضافة لأنه فعلٌ ماضس، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامك بالنصب فلا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عزّ وجل: (لاتقولنَّ لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غَداً إلا أنْ يشاءَ اللهُ)، ولولا أن المنون مستقبل ماجاز فيه غداً. فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح النحو والعربية.
سأل الرشيد عن بيت الراعي وفي المجلس الأصمعي والكسائي " من الكامل " :
قتلوا ابنَ عفّان الخليفة مُحرماً ... ودعا فلم أرَ مثله مخذولاً

مامعنى محرما؟ فقال الكسائي: أحرم بالحج. وقال الأصمعي: ماكان أحرم بالحج ولاأراد الشاعر أنه أيضاً في شهر حرام، فيقال: أحرم الرجلُ إذا دخل فيه كما يقال: أشهر إذا دخل في الشهر وأعام إذا دخل في العام. فقال الكسائي: ماهو غيرُ هذا وماأراد ذلك؟! فقال الأصمعي: ماأراد عديُّ ابن زيد بقوله " من الرمل " :
قتلوا كسرى بليلٍ محرماً ... فتولَّى لم يُمتَّعْ بكفنْ
أإحرام لكسرى؟! فقال الرشيد: فما المعنى؟ قال: كلُّ من لم يأت شيئاً يوجب عليه عقوبة فهو محرم، لايحلُّ منه شيءٌ. فقال الرشيد؟ ما تطاق في الشعر، ياأصمعي! وقال الكسائي: كنتُ داخلاً إلى الرشيد، فقام أهرابيٌّ فقال: أبا الحسن، أبلغ أمير المؤمنين ماأنشدك. قلت: هات! فأنشدني " من الطويل " :
ونحنُ أناسٌ لادراهمَ عندنا ... وللناس أخبازٌ وليس لنا خبزُ
فجمع الخبز وهو جنس،
ونحن أثافي القدر والأكل ستةٌ ... جراضمةٌ جُوفُ وأكلتنا اللبرُ
يريد أنهم في العدد ثلاثةٌ، وأكله أكل ستةٍ، والجراضمة الذين يأكلون جميع ماعلى المائدة، والجوف الذين لايشبعون أبداً، والبز القفر من الأرض،
لنا أعْنُزٌ لبنٌ ثلاثٌ فبعضها ... لأولادنا ثنتنا وفي بيننا عنزُ
فحذف النون من ثنتا وأراد ثنتان، وخفض بيننا لأنه أدخل صفة على صفة، وقوله: (قُلْ كلٌّ مِن عند اللهِ) حجةٌ في إدخال صفة على صفة. قال الكسائي: فاستفدت في هذه الأبيات عدة مسائل.
لما دخل الكسائي البصرة جلس في حلقة يونس ينتظر خروجه، فسأله ابن أبي عيينة عن أولقٍ: هل ينصرف؟ فقال: أولق أفعلُ لاينصرف. فقال له ابن أبي عيينة: خطأٌ، والله! وخرج يونس فسئل عنه فقال: هو فَوْعَل وليس بأفعل لأن الهمزة فاءُ الفعْل، لأنك تقول:س أُلقَ الرجلُ فهو مألوق، فتثبتُ الهمزة وكذلك أرنب ينصرف فَعْلَلُ لأنك تقول: أرضُ مُؤَرْنَبةٌ، فتثبتُ الهمزة. وقال: المألوق المجنون.
قال الأمصعي: كان الكسائي يأخذ اللغة عن أعراب الحطمة كانوا ينزلون قُطْرُبُّل وغيرها من سواد قرى بغداد. قال: فلمَّا ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلامهم واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه. فقال اليزيدي في ذلك " من السريع " :
كُنَّا نقيسُ النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأولُ
فجاءما قوم يقيسونه ... على لُغى أشياخ قُطْرُبُّلِ
فكُلُهم يعملً في نقض ما ... به يصاب الحقُ لا يأتلي
إنّ الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفلِ
ولأبي نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي " من الرمل " :
أفسد النحو الكسائي ... وثنى ابن غزاله
وأرى الأحمر تيساً ... فاعلفوا التيس النخاله
قال أبو زبد: قدم سيبويه على البرامكة، فجمع يحيى بينه وبين الكسائي، فلمّأ حضر أقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ قال: لابل سلني أنت! فقال له الكسائي: قد كنتُ أُظنُّ أنّ العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي! ولايجوز النصب! فقال له الكسائي: لحنت! ثمّ سأله مسائل من هذا النوع، قال: خرجت فإذا عبد الله القائمَ أو القائمُ؟ فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع دون النصب. فقال الكسائي: ليس هذا كلام العرب. فقال لهما يحيى: قد أختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين. فأمر بإحضارهم وفيهم أبو فقعس وأبو دثار وأبو الجراح وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل، فتابعوا الكسائيَّ وقالوا بقوله. ثمّ قال الكسائيّ ليحيى: أصلح اللهُ الوزير وفد عليك من بلده مؤملا، فإن رأيت أن لاترده خائباً؟ فأمر له بعشرة آلاف درهم. فخرج وصير وجهه إلى فارس ولم يعد إلى البصرة. - قال ثعلب: إنما أدخل سيبويه العماد في قوله: فإذا هو إياها لأن " فإذا " مفاجأة، أي فوجدته ورأيته، ووجدت ورأيت ينصب لشيئين ويكون معه خبر، فلذلك نصبت العرب.
قال الكسائي: غطيت الشء وغطيته، وأنشد " من الخفيف " :
رُبَّ حِلمٍ أضاعه عدم الما ... ل وجهلٍ غطى عليه النعيم

وقال الكسائي: الأطعمة التي يدعها إليها: الوليمة وهي في العرس، والمأدبة وهي في العرس وغيره، والإعذار وهي طعام الختان خاصة، والخرس الطعام على ودلاة المرأة خاصة يدعى إليها الرجال، والتوكير طعام يجعله المرء إذا فرغ من بناء داره أو بيته، قالوا: وكر لنا! والخرسة ما يصنع للمرأة عند ولادتها نصيبها من الحلبة، والحشيشة مخلوطة بتمر فتحساه المرأة في نفاسها، والنقيعة إذا قدم الرجل من سفر، قالوا: أنقع لنا! فينحر لهم، وهي تسمى نقيعة القُدام من الأسفار قال فيها مهلهل " من الكامل " :
إنا لنضربُ بالسيوفِ رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
وقال أبو الجراح يمدح الكسائي " من الطويل " :
ضحوك إذا زُفَّ الخوان وزروه ... يُحيَّى بأهلاً مرحباً ثمّ يجلس
أبا حسنٍ ما جئتكم قطُّ مطفئاً ... لظى الشوق إلا والزجاجة تقلس
قال يعقوب: يريد تمتلئ حتى تفيض.
وحكي عنه أنه أقام غلاماً ممن عنده في الكتَّاب وقام إليه يفسق به، فجاء بعض الكتَّاب ليسلم عليه، فرآه الكسائي ولم يره الغلام، فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائماً، فقال الرجل: مابالُ هذا الغلام قائماً؟ فقال الكسائي: وقع الفعل عليه فأنتصب.
قال الكسائيُ: حكى لي أبو إسحاق الفزاري أنّ أسماء بن خارجة الفزاريَّ دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: ياأسماء، إنه ليبلغني أشياء حسانٌ فأخبرني بهن! فقال: ياأمير المؤمنين، يخبرك بذلك غيري فهو أحسن! قال: أقسمت عليك لتجيرني! قال: ماقدمت رجلي بين يدي جليس قطُّ مخافة الاستطالة عليه ولا دعوت أحداً إلى طعام فأجابني إلا رأبت له الفضل عليَّ ماعاش وعشت، وماأتاني أحدٌ في حاجةِ فرأيت شيئاً من عرض الدنيا له مكافأة ببذل وجهه إليَّ. فقال عبد الملك: والله ما ألوم قومك حيث يسودونك. قال سليمان بن عبد الملك: يا امير المؤمنين، هل بلغك ما صنع؟! ال: وما صنع؟ فقال: اتاه الفرزدق في دية، فأعطاه اياها، ثم اقسم على بنيه أن يعطوه كما اعطاه، فخرج الفرزدق من عنده بخمس ديات،قال فهل قال فيه شيئاً. قال: نعم. قال: وما قال قال: قال:
إاذا فقد ابن خارجة بن حصن ... فلا مطرت على الار السماء
ولا قدم البشير بغنم وفد ... ولا حملت على الطهر النساء
فيوم منك خير من رجال ... كثير عندهم نعم وشاء
فبورك في بنيك وفي ابيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء
قال الكسائي: رأيت أعرابياً يتوضأ للصلاة في غداة باردة، فلما أتموضوءه قلت له: إن هذا لا يجزيك! فقال لي: إن المطالب كريم! ثم صلى قاعداً وقال:
اليك اعتذاري من صلاتي قاعداً ... على غير طهر مؤمنا نحو قبلتي
فوجهي لا يقوى على الماء بكرة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي
ولكنني احصيه يا رب جاهداً ... واقضيكه إن عشت في وجه صيفتي
توفي الكسائي بالري بقرية منها، يقال لها: رنبويه، هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وصلى عليهما الرشيد وقال: دفنت اليوم الفقه والنحو بالري. وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة. ورثاهما اليزيدي بقصيدته التي اولها:
أسيت على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد
فقال له الرشيد: يا يزيدي، لئن كنت تسئ بالكسائي في حياته لقد أحسنت بعد موته.

ومن اخبار ابي هلال المحاربي
واسمه لقيط بن بكير من رواة الكوفة، له كتاب مصنف في الاحخبار مبوب في كل فن، وله اشعار في المهدي والرشيد.
وقال: قال خالد بن كلثوم: أحسن ما قيل في وصف مشي المرأة قول قيس بن الخطيم:
تمشي كمشي المبهور في دهس الرمل الى السهل دونه الجرف
قلب: وسألت عن ذلك ابن سهل رواية الكميت، قال: بل قول الكميت:
يمشين مشي قطا البطاح تأوداقب البطون رواجح الأكفاليرمين بالحدق القلوب فما ترىإلا صريع هوى بغير قتال
83 - ومن اخبار ابي المنذر هشام بن محمد الكلبي
كان يحيى بن معين يحسن الثناء عليه، وكان أحمد بن حنبل يكرهه، طلب ابو نؤاس عن هشام أنساب مذحج وسعد العشيرة، فوعده فلواه وأبطأ عنه، فكتب اليه ابو نؤاس:
أبا منذر ما بال أنساب مذحج ... محجبة دوني وأنت صديق

فأن تأتني تربح ومدحتي ... وان تأب لا يسدد علي طريق
قال يعقوب بن السكيت: قال ابن الكلبي: بيوت العرب ستة: قبة من ادم ومظلة من شعر وخباء من صوف وبجاد من وبر وخيمة من شجر واقنة من حجر. وكان يقول: قنة، فقلت له في ذلك، فعاد إلى أقنة. وقال الجمال في الانف والملاحة في الفم.
وقال: لما ثقل الامر على معاوية بن ابي سفيان ويزيد غائب فأقبل وجدعثمان بن محمد بن ابي سفيان بالباب جالسا، فأخذ بيده، فدخلا على معاوية، فأذا هويجود بنفسه، فكلمه فلم يكلمه، فبكى يزيد ثم قال:
لو مات شئ يرى لفات ابو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب الاريب وهل ... يدفع ريب المنية الحيل
قال: فتضور معاوية وقال: أي شئ قلت بني؟ قال: لا شئ، كلمت عثمان بن محمد! قال: فأغمي عليه ثم افاق ثم تمثل بالبيتين كأنه قد سمعها، ثم قال لي: يا بني، إن اعظم ما أخاف الله فيه ما كنت أصنع بك،يا بني. اني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكان إذا قضي الحاجة وتوضأ أنا الذي كنت اسن عليه الماء، فنظر الى قميصي وقد تخرق من عاتقه، فقال: الا اكسوك، يا معاوية؟؟! قلت: بلى يا رسول اللهّ فكساني قميصاً، لم البسه ألا لبسة واحدة وهو عندي، واجتز ذات يوم ونقلم، فأخذت شعره واظافره وهما عندي، فأذا مت فضعه على عيني ومنخري وفمي، ثم اجعل قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم شعاراً لي، ثم كفنني إن نفع شئ، نفع هذا! قال: وكان يجود بنفسه يوقول:
إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... عذاباً لا طوق لي بالعذاب
او تجاوز فأنت رب رحيم ... عن مسئ ذنوبه كالتراب

84 - ومن اخبار الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن الطائي
كنيته ابو عبد الرحمن، كان من علماء الناس بالشعر رواية قال: حدثني ابو جعفر المنصور قال: حدثني ابو جعفر المنصور قال: حدثني ابي محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال: حججنا زمن عبد الملك بن مروان ومعنا رجل من كلب ومعه بنت عم له جزلة عاقلة. قال: رآها عمر بن ابي ربيعة فجلس اليها في الطريق فقال: يا هذه غنه قد خامر قلبي منك شر! فسكتت، فعاد فسكتت، فعاد فقالت: يا هذا إن الحر لا يصنع ما صتنع! أتحب ان ينال هذا من اختك او امراتك؟! فقال لمولى له: اما إذ تكلمت فقد ظفرت بها.فقالت لابن عمها: أحب ان اروح معك الى المسجد. قال ولم؟ قالت: اتوكأ عليك فقد شق علي المشي. قال: فخرج وخرجت معه متوكئة عليه. قال: وعمر جالس في الطريق، فلما رآها وثب وولى، فقالت: ايها الرجل على رسلك مكانك وانشدت:
تغدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتثقي مربض المستأسد الحامي
قال الهيثم: قال لي يوماً المهدي: ويحك إن الناس يخبرون عن الاعراب بسخاء ولوم، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك؟ فقلت: على الخبير سقطت! أخبرني ابي قال: خرجت اريد ديار قرابة لي، ومعي بعير عليه زادي وناقة اركبها، فبينا انا اسير إذ ند البعير فذهب، فجعلت اتبه اثره حتى امسيت،فنظرت فأذا خيمة اعرابي، فأتيتها، فقالت ربة الخباء، من انت؟ قلت: ضيف. قالت: وما يصنع الضيف عندنا؟ ان الصحراء لواسعة! قال: ثمقامت الى بر فطحنته، ثم اعتجنت وخبزت، ثم قعدت وأكلت، ولم البث ان جاء زوجها معه لبن فسلم، ثم قال: من الرجل؟ فقلت: ضيف.

قال: حياك الله! ثم قال: يا فلانة اطعمت ضيفك شيئاً؟ قالت: نعم. فدخل الخباء فملأ قعباً من لبن، ثم اتاني به وقال: اشرب! فشربت شرباًهنيئاً، فقال: ما اراك اكلت شيئاً وما اراها اطعمتك. فقلت لا والله. فدخل اليها مغضباً فقال: ويلك أكلت وتركت ضيفك! فقالت: وما اصنعبه، اطعمه طعامي؟! وجاراها في الكلام حتى شجها، ثم اخذ شفؤة وخرج الى ناقتي فنحرها، فقلت: وما صنعت؟ عافاك الله! قال: والله لا يبيت ضيفي جائعا. ثم جمع حطباً وأجج نارا واقبل يكبب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول: كلي لا اطعمك الله حتى اصبح. ذهب وتركني، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر إن ينظر اليه، فقال لي: هذا مكان ناقتك! ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره، وخرجت من عنده. فضمني الليل الى خباء، فسلمت، فردت صاحبة الخباء. وقالت: من الرجل: فقلت: ضيف. فقالت: مرحباً بك، حياك الله، انزل، عافاك الله!فنزلت، فعمدت الى بر فطحنته ثم اعتجنت ثم خبزت خبزة روتها بالزبد واللن، ثم وضعتها بين يدي وقالت: كل واعذر! فلم البث ان اقبل اعرابي كريه الوجه فسلم، فرددت. فقال: من الرجل؟ فقلت: ضيف. فقال: ما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل الى اهله فقال: اين طعامي.؟!. فقالت اطعمته الضيف. فقال: اتطعمين طعامي الضياف؟! فتجاريا الكلام، فرفع عصاه فضرب بها رأسها فشجها. قال: فجعلت اضحك، فقال: ما يضحكك؟ فقلت: خبر. فقال: شد لتخبرني! فأخبرته بقصة المرأة والرجل اللذين نزلت عليهما قبله، فأقبل علي وقال: إن التي عندي والله اخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده اختي، فبت متعجباً، ثمانصرفت.
دخل مروان بن ابي حفصة على ابي يوسف القاضي وعنده الهيثم بن عدي وعاصم الغساني، فسأل حاجة، فلم يقضها له، فخرج وهو يقول: " من الرجز " :
هذا لعمري مجلسٌ دنيءُّ ... ثلاثةٌ كُلُهمُ دعيُّ
فبلغ ذلك الهيثم فقال " من الرجز " :
مروانُ عِلجٌ ليس بالقويِّ ... ولا بمرضيٍ ولا زكيِّ
وقال أبو الهول الحميري فيه، وقيل: لبي نواس " من البسيط " :
الحمدُ للهِ هذا أعجبُ العجبِ ... الهيثمُ بن عديِ بُحترٌ عربي
إن كان من طلب الأنسابَ من كُتُبٍ ... حتى تُحوله نبعاً عن الغربِ
فهؤلاءِ الكيميائيون ما لهم ... ممَّا يقلاقون طول الدهرِ في تعبِ
هيهات هيهات قد طال العناءُ بهم ... لم يخلقوا ذهباً إلا من الذهب
والهيثم بن عُديِ من تنقلَهِ ... في كل يوم له رَحْلٌ على قتب
فما يزال أخا حلٍ ومرتحلٍ ... إلى الموالي وأحياناً إلى العرب
منها:
للهِ أنت فما قُربى تَهُمُّ بها ... إلا اجليت لها الأنسابَ من كثبِ
وحضر أبو نواس مجلسه، فقصر في حقه لم يحتشمه، فقال " من الوافر " :
أتيتُ الهيثمّ بن عديِّ أرجو العلومَ وكنتُ أمحضهُ الصفاء
فأعرض هيثمٌ لمَّا رآني ... كأني قد هجوت الأدعياءَ
وقال الهيثم: لمَّا ولي عبد الله بن شبرمة القضاء ركب لحاجة، فلمَّا أراد النزول عن البغلة وثبت فرمت به، فدخلنا عليه نعوده، وجاء رجلٌ يُكنى أبا المثنى سليطيٌّ، فلمَّا رآه ابن شبرمة قال: مرحباً ارتفع! فرفعه معه على السرير، فأنشأ أبو المثنى يقول " من المتقارب " :
أقولُ غداة أتاني الخبرث ... فدسَّ أحاديثه هيثمهُ
لك الويلُ من مخبرِ ماتقول ... أبن لي وعدٍ عن الجمجمه
فقال: خرجت وقاضي القضا ... ة منفكةٌ رجله مؤلمهُ
فغزوان حُرّق وأُمُّ الوليدِ ... إن اللهُ عافى أبا شُبرمَهْ
جزاء لمعروفه عندنا ... وما عتقُ عبدٍ له أو أَمَهْ

قال الهيثم: فما زلتُ من غزوان وأُمّ الوليد في عجبٍ وهو جاري جارُ الجنب، فما أعرف له عبداً ولاأمة، فلمَّا خرج أخذت بيده فقلت: ياأبا المثنَّى، من غزوان وأم الوليد؟ فواللهِ ما عرفتها لك قبل ساعتيّ فقال: استر عليَّ، هما سنَّوران في بيتي! قال الهيثم: قال لي: اشعب، ياأبا عبد الرحمان! لقد أحرزت في يدي اثني عشر ألف دينار. قلتُ: فأتقِ اللهَ ولا تسأل الناس! فقال: ويحك إني قد أحكمت المسألة إحكاماً، أكره أن أُضيعها فقد حذقتها.
وقال: أولُ من ضرب الدراهم المدوَّرة عبد الله بن الزبير، وكتب على أحد الوجهين: " محمدٌ رسول الله " ، وعلى الوجه الآخر: " أمر اللهُ بالعدل والوفاء " . فلمَّا قتله الحجَّاج أمر بدراهمه فقطعت، وكتب إلى الأمصار أن اضربوا هذه الدراهم التي عليها " هو هو اللهُ أحد " . وكان على بيت المال رجلٌ من طيء يقال له سُميرٌ، فأمره وأعطى الناس، فجعلوا يقولون: دراهمُ سُميريّةٌ! فلذلك سُميت.
وقيل للهيثم: لم كره الناس البناء في شوال؟ فقال: مات فيه في الطاعون الجارف بضعة عشر ألف عروسٍ، فتطيَّر الناسُ منه.
توفيَ الهيثم بن عدي بفمٍ الصلح غُرة المحرَّم سنة سبع ومائتين.

85 - ومن أخبار ابن كناسة
ً
هو أبو يحيى محمد بن عبد الأعلى بن كناسة الأسدي من بني نصر بن قُعين، من شعراء الكوفة وعلمائهم الرواة للحديث والأخبار والشعر، وقيل: هو أبو يحيى محمَّد بن عبد الله بن كُناسة بن عبد الأعلى بن عبد الله ابن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن كعب بن رويبة بن أسامة بن نصر بن قعين، كذا هو في هذا النسب والصحيح أن كناسة هو عبد اللهُ أبو محمد كُناسة. - ويقال إنَّ أُمَّه رأت وهي حامل به كأنها وجدت في كناسة سواراً، ويقال: كان آخر أولادها كأنه كناسة بطنها.
مات له ولدٌ اسمه يحيى، فقال فيه " من الطويل " :
تفاءلتُ لو يغني التفاؤلُ باسمهِ ... وما خلت فألاً قبل ذاك يفيلُ
فسميَّته يحيى ليحيى ولم يكن ... إلى قدر الرحمان فيه سبيلُ
قال محمد بن سعد: ابنُ كُناسة الأسدي من أنفسهم، وهو ابن أخت إبراهيم بن أدهم الزاهد. روى عن الأعمش وهشام بن عروة، وكان عالماً بالعربية وأيامِ الناس والشعر. - قال يحيى بن معين: هو ثقةٌ. - وقال ابن المديني: هو ثقة صدوق.
مرّ ابنُ كناسة وبيده بطنُ شاةٍ يحمله، فقال له رجلٌ: ياأبا يحيى، إليَّ أحمل عنك! فقال: لا " من الرجز " :
ما نقصَ الكاملَ من كمالهِ ... ما جَرَّ من نفعٍ إلى عيالهِ
قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: كنتُ عند ابن كناسة يوماً في شهر رمضان، فاشتد الحرُ والعطش، فشكوت إليه ذلك، فأنشد " من البسيط " :
بين العشاء وبين العصر منزلةٌ ... يكادُ يذبحُ فيها الصائمَ العطشُ
قال يحيى بن معين: سمعتُ محمّد بن كناسة ينشد لنفسه " من المنسرح " :
فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... جالستُ أهلَ الوفاء والكرمِ
أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلت: ماشئت غير مُحتشمِ
قال: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة، فبعثتني أمي إليه بهديَّة، فقبلها ولمَّا مات رثاه محمد فقال " من الطويل " :
رأيتك لايكفيك مادونه الغنى ... وقد كان يكفي دون ذاك ابن أدهْما
تخلَّى من الدنيا وكان بمنظرٍ ... ومسمتعٍ منها أنيقٍ وأنعما
وكان يرى الدنيا صغيراً كبيرها ... وكان لحق الله فيها معظما
وللحلم سلطانٌ على الجهل عنده ... فما يستطيع الجهلُ أن يترمرما
وأكثر ما يُلقى على القوم صامتا ... فإن قال بذَّ القائلين وأحكما
يُرى مستكيناً خاشعاً متواضعاً ... وليثاً إذا لاقى الكريهةَ ضيغما
وقال الموصليُّ: أنشد ابن كناسة " من المنسرح " :
أبعطت من يومك الفرار فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدرُ
أبعطت بمعنى أبعدت، أراد: أسرفت في التباعد،
لو كان ينجي من الردى حذرٌ ... نجَّاك ممَّا أصابك الحذَرُ
يرحمك اللهُ من أخي ثقةٍ ... لم يك في صفو ودهِ كدرُ
فهكذا يفسدُ الزمانُ ويفنى ... العلمُ منهُ ويدرسُ الأثرُ

أخذ هذا المعنى من كلام عبد الله بن العباَّس وقد دُلي زيد بن ثابتٍ في قبره، قال: من سرَّه أن يرى كيف ذهاب العلم فكذا ذهابه. وقيل: إنه في 'سماعيل بن زيد بن حماد.
وقال: كانت العرب تُسمي ليالي الشهر عشرة أسماء، لكلّ ثلاثٍ منها اسمٌ، فالثلاثُ الأولُ الغُرر وذلك أن أول كلّ شيءٍ غُرته، ثمّ النفلُ ومعنى النُفل أنّ العرب كانت تصوم الغرر كأنها وظيفة عليها والنفل شبه النافلة، ثمّ الدرع ومعنى الدرع أنّ الأرض قد لبسها القَمَرُ، ثمّ العُشر لقولك عشرة إحدى عشرة اثنتي عشرة، ثمّ البيض فإنها من أول الليل إلى آخره قَمَرٌ، ثمّ الظُلّم، ثمّ الحندس أشدُ ظلمةً من الظُلم، والدآدي والمُحاق، فادآدئ كأنه وقع في القمر الداءُ فهو يذهب، والمُحاق آخر الشهر إذا وقع فيه المحاق، والعاشرة - أي تمام الثلاثين - الفلتة ومعناها أن ليس كلُّ شهر يتمُّ فإذا أتمّ سمَّوه الفلتة.
وقال محمّد بن كناسة " من الطويل " :
تعلمْ فليس المرءُ يُخلقُ عالماً ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
وإنّ كبير القوم لاعلمَ عنده ... صغيرٌ إذا ألتفَّتْ عليه المحافلُ
وقال رحمه الله تعالى " من الطويل " :
وما أنا فيما أُخرجتُ داخلٌ ... ولا أنا عمَّا حيزَ دوني بسائلِ
إذا المرءُ يوماً أغلق الباب مُرتجاً ... ليستر أمراً كنتُ كالمتغافلِ
وأُعرضُ حتى يحسبَ المرءُ أننيّ ... جهلتُ الذي يأتي ولستُ بجاهلِ
وإني لأغضي عن أمورٍ كثيرةٍ ... وفي دونها قطعُ الحبيبِ المواصلِ
حفاظاً وضناً بالإخاء وعقدةً ... إذا ضيَّع الإخوان عقد الحبائلِ
وقال " من الكامل " :
أسدٌ على أعدائه ... ما إن يلينُ ولايهونُ
فإذا تمكنَّ منهمُ ... فهناكَ أحلمُ ما يكون
وقال: العسبار ولدُ الضبع من الذئب والسمع ولدُ الذئب من الضبع. - ومن بارع شعره " من الطويل " :
على حين أن شابت لداتي ولم أشبْ ... فمنها لحىً مبيضةٌ وقرونُ
وناصيتُ رأس الأربعين فأقبلت ... قساوةُ جِنيِّ الشبابِ تلينُ
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له: كُن! قولةً فيكونُ
ويعني الفتى بالأمر ما لم يكن ... من الله في الدنيا عليه مُعينُ
وقال " من الرمل " :
حسدوا النعمةَ لمَّا ظهرتْ ... فرموها بأباطيلِ الكَلِمْ
وإذا ما اللهُ أسدى نعمةً ... لم يضرْها قولُ حُسَّاد النعمْ
وقال " من الوافر " :
ومن قرأ الكتاب فأدبته ... من الفرقان آي محكماتُ
وجالس عليه العلماء حتى ... وعى ماثور قولهم فماتوا
وطالبَ سائر الآداب حتى ... تقصر عن مبالغة الصفاتِ
روى فوعى وقال فساعدته ... ينابيعُ الكلامِ المعجباتُ
فإن يك بعدُ مثقياً تكاملْ ... له المتخيَّرات الصالحات
وإلا فهو مأفونٌ شقيٌّ ... بما سعدت به قبل النجاةُ
وقال ابن عبَّاس في قوله: (وإذ ابْتلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فأتمَّهُنَّ)، قال: خمسٌ في الرأس وخمس في الجسد، فأما اللواتي في الرأس فالمضمضمة والاستنشاق وقصُّ الشارب والفرْق والسواك، وأما اللواتي في الجسد فالختان والاستنجاء والاستحداد ونتف الإبط وقص الاظافر.
توفيّ ابن كناسة رحمه الله في شوال من سنة سبع ومائتين وهو ابن أربع وثمانين سنة.
86 - ومن أخبار الأحْمر غُلام الكسائي
هو أبو الحسن عليّ بن المبارك، كان مؤدب محمّد بن زبيدة بعد الكسائي لأن الكسائي كان قد أصابه وضحٌ، فقالت له أمّ جعفر: أجلس بعض أصحابك مع ابني للعلَّة التي كانت به لئلا يُعديه! فأجلس معه الأحمر. - وقال: جَمْعُ المقصور ممدوداٌ أبداً، مثلُ (والملكُ عَلَى أرجائها)، فالواحد منه رجاً، وهي الناحية.
توفي الأحمر سنة أربع وتسعين ومائة.
87 - ومن أخبار أبي زكرياء الفرّاء
واسمه يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي مولى بني عبس، وكان يميل إلى الاعتزال. وقال الفراء: أموتُ وفي نفسي من " حتى " شيءٌ لأنها تخفض وترفع وتنصب.

وتوفيّ الفرّاء رحمه الله سنة سبع ومائتين وله سبع وستين سنة.

88 - ومن أخبار هشام النحوي
ّ
هو هشام بن معاوية الضرير النحويّ الكوفيّ، كان يؤدب ولد فرج الرخجيّ. مات رحمه الله سنة تسع ومائتين.
89 - ومن أخبار ابن الأعرابي
ّ
هو أبو عبد الله محمّد بن زياد الأعرابيّ، وكان زيادٌ أبوه عبداً سندياً مملوكاً لسليمان بن مجالد، وكان سليمان من أهل بلخ، وقيل: مولى العبَّاس بن محمد. وكان أحول أعرج، وكان مؤدباً ناسباً عالماً بالشعر واللغة نحويَّاً كثير السماع من المفضّل راوية لشعر القبائل. وكان المفضل الضبيَّ زوج أمّ ابن الأعرابيّ.
قال ابن الأعرابيّ: ولدتُ ليلةُ توفي أبو حنيفة لإحدى عشرة ليلةً خلت من جمادى الأولى سنة خمسين ومائة. ومات لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان عمره إحدى وثمانين سنةً وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.
وغُنّي الأخطل في مجلس الواثق " من البسيط " :
وشاربٍ مُربْحٍ بالكأسِ نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسَّوارِ
فقيل: سأ ار. فوجه إلى الأعرابي، فقالك بسَّوار! يريد: بوثاب يثبُ على ندمائه، وسأ ارٌ أي لايفضل في القدح سُؤراً، وقد رويا جميعاً. فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال: أمَّا أشعار هؤلاء المحدثين - مثل أبي نواس وغيره - بمنزلةِ الريحان يُشم يوماً ويذوي فيرى على المزبلة، وأشعار القدماء مثلُ المسك والعبير كلما حركته ازداد طيباً.س وقال: بيتُ عبدةَ بن الطبيب ما له ثانٍ في جاهلية ولا إسلام، قائمٌ بنفسه، وهو " من الطويل " :
فما كان قيسٌ هُلْكهُ هُلْك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدَّما
وقال: أحسنُ ما قيل في صفة المشي قولُ ابن مُقبل " من الطويل " :
مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ غصونٌ تسفهَّت ... أعاليها مَرُّ الرياحِ النواسيمِ
قال: وأحسن ما وصفت به الرماح " من الكامل " :
وبكلَّ عرّاص المهزَّةِ مارنٍ ... فيه سنانٌ مثلُ ضوء الفرقدِ
سُمْرُ موران من رماح درينةٍ ... زرقُ الظباتِ يقين سُمَّ الأسودِ
قال: وأهجأ بيت قالته العرب " من الطويل " :
وقد علمتْ عرساك أنك آئبٌ ... تُخبرهم عن جيشهم كُلَّ مربعِ
أخبر أنّ من عاداته أن ينهزم فيتحدَّث بخبر جيشه. - وقال: أشعرُ ما قيل في شدة الحر قولُ القُطامي " من البسيط " :
فهُنَّ مُعترضاتٌ والحصى رمضٌ ... والريحُ ساكنةٌ والظلُ معتدلُ
حتى وَردْنَ ركيَّاِ الغويرِ وقد ... كاد المُلاء من الكتان يشتعلُ
وبيتُ جرير بن الخطفى " من الطويل " :
أنِخْنَ لتغويرٍ وقدْ وقَدَ الحصى ... وذابَ لُعابُ الشمس فوق الجماجمِ
وقال أبو عمرو بن العلاء: أحسن الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها لايقبح، مثلُ قول بن حجر " من الطويل " :
إذا ناقةٌ شُدَّتْ برحلٍ وتمرقٍ ... إلى حَكم يُعدي فضَلَّ ضلالها
كأني حلوت الشعر حين مدحته ... صفا صخرةٍ صمَّاء صلدٍ بلالها
قال ابن ألعرابيّ: يعجبني من الهجاء قولُ جرير " من الكامل " :
وَلَوَ أنَّ تغلب جمعَّتْ أحسابها ... يومَ التفاضلِ لم تزنْ مثقالا
عرض رجلٌ على ابن ألعرابي قول جرير " من الكامل " :
إنّ الذين غدوا بلبلك غادروا ... وشلا بعينك ما يزالُ معينا
غيَّضْن من عبراتهنَّ وقلنَّ لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ولقد تسقطني الوشاةُ فصادفوا ... حصراً بسرك ياأمامَ ضنينا
فقال ابن الأعرابيّ: هذا نسيبٌ يستحقُّ أن تشقَّ له الجُيوبُ. - قال: وهذا من طُرز الشعر، وأنشد " من الطويل " :
أُحِبُّكمُ، ياميَّ، حُبَّين منهما ... قديمٌ وحُبذُ حين شبَّتْ شبائبُه
إذا اجتمعا قال القديمُ: غلبته ... وقال الذي من بعده: أنا غالبهْ
فإن أستطعْ أغلبْ وإن يغلبِ الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغلبُ صاحبهْ
قال: وكان يتعجب من قول بَشَّار في الليل " من الطويل " :
خَليليَّ ما بالُ الدُجى لاتزحزحُ ... وما بالُ ضوءِ الصُبح لا يتوضَّحُ

أضلَّ الصباحُ المستنيرُ طريقهُ ... أم الدَهْرُ ليلٌ كُلُه ليس يبرحُ
أُظنُّ الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليلَ هَمٌّ مُبرحُ
وكان ابن الأعرابي يستملح هذين البيتين وقال: هذا وإن لم يكن من جيد الشعر ولا في طريقته فقد ذهب به صاحبه مذهباً مليحاً! وهو في خلال روايته يستملحه " من السريع " :
تحرَّك الهجرُ فقال الهوى ... ما هذه الضوضاء في عسكري
فجيءَ بالهجر يُجرونه ... فلم يزل يصفعُ حتى خري
قال: وأحسن ما قيل في الخمر قولُ أبي نواس " من المنسرح " :
لاينزلُ الليلُ حيثُ حلَّتْ ... فدهرُ شرابها نهارُ
فهيَ إذا استودعتْ سراراً ... لم يخف في ضوئها السرار
وقوله " من الطويل " :
إذا ما حساها شاربُ القومِ خلته ... يُقبلُ في داجٍ من الليلِ كوكباً
وقال: أنشدوني بيتاً لأبي نواس أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي وآخره ابن ماسويه في الطب! قالوا: مانعرفه. قال: قوله " من البسيط " :
دَعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ ... ودواني بالتي كانت هي الداءُ
ولكن هذا معنى قول الأعشى " من المتقارب " :
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأُخرى تداويتُ منها بها
قيل: إن السبب في طعن ابن الأعرابيّ على الأصمعي وقدحه ونسبته إلى الكذب أن الأصمعي دخل على سعيد بن سلم وابن الأعرابي يؤدب ولده، فقال لبعضهم: أنشد أبا سعيد! فأنشد لرجلٍ من بني كلاب شعراً رواه إياه ابن الأعرابي وهو " من الطويل " :
رأت نضو أسفارٍ أميمةُ قاعداًس ... على نضوٍ أسفارٍ فجُنَّ جُنونها
فقالت: من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك راعي صرمة لاتزينها
فقلت لها: ليس الشحوب على الفتى ... بعارٍ ولا خيرُ الرجال سمينها
عليك براعي ثلَّةٍ مسلحبةٍ ... يروح عليه محضها وحقينها
سمينُ الضواحي لم تؤرقه ليلةٌ ... وأنْعَمَ أبكارُ الهمومِ وعونها
ورفع " ليلة " فقال له الأصمعي: من روّاك هذا؟ قال: مؤدبي. وأحضره واستنشده البيت، فأنشده ورفع " ليلة " ، فأخذ ذلك عليه وفسر البيت فقال: إنما أراد: " لم تؤرقه ليلةً أبكارُ الهُموم وعُونها " - جمع عوانٍ، " وأنعم " أي زاد على هذه الصفة، " سمين الضواحي " يريد: ماظهر منها وبدا سمينٌ، " ليلةً " ينصب على الظرف، " وانعم " أي بولغ له في ذلك كما جاء في الحديث: زإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما! أي زادا وبولغ في ذلك لهما، من قولهم: دققتُ الشيء دقاً نعماً ودقاً ناعماً. ثمَ قال الأصمعي لابن سلمٍ: من لم يحسن هذا المقدار فليس موضعاً لتأديب ولدك، فنحه! وقدم عليه قادمٌ من سُرَّ من رأى، فأخبره بنكبة سليمان بن وهب وأحمد ابن الخصيب في أيام الواثق فأنشده " من الرمل " :
رُبَّ قومٍ رفعوا في نعمةٍ ... زمناً والعيشُ ريَّانُ غدقْ
سكتَ الدهرُ زماناً عنهمُ ... ثمَّ أبكاهم دماً حين نطقْ
وقال لابن الربعة الكلبي دليل آل المُهلَّب حيث هربوا من الحجَّاج إلى الشأم إلى سليمان بن عبد الملك " من الطويل " :
وقمٌ هُمْ كانوا الملوك هديتهم ... بظلماء لايسري بها ضوءُ كوكبِ
ولا قَمرٌ إلا صغيراً كأنه ... سوارٌ حناه صانعُ السور مذهبِ
نفرُّ فرار الشمس ممَّنْ وراءنا ... وننجو بجلباب من الليل غيهبِ
فإلاَّ تُصبحْ بعد خمس ركابُنا ... سليمان من بعد الملا تتأوبِ
قوله " نفر فرار الشمس " يقول: نذهب إلى المغرب حيث تغيب الشمس.
آخر أخبار الكوفيين، الحمد لله وحده وصواته على محمد وآله وصحبه

في ابتداء أمر مدينة السلام واختطاط أبي جعفر المنصور إياها ونزولها
وابتنائها

قال البغويون الذي كانوا مع أبي مسلمٍ: مكثنا مع أبي جعفر المنصور هنة نغدو من قطربل إلى الموضع الذي فيه المدينة نرتاد موضعاً، فبينا نحن إذ وقف على قائم - في باب الشأم - وفيه راهبٌ، فأشرف عليه، فقال: أراك منذ شهور تدور وتكثر الترداد. فقال: أريد أن أبني في هذا الموضع مدينة. فقال له الراهب: لست صاحبها، إنَّا نجد أن صاحبها يقال له مقلاصٌ! فقال أبو جعفر المنصور: أنا والله صاحبها، كنتُ أُدعى وأنا صبيٌّ في الكتَّاب بمقلاص! فأمر حينئذ أن تُصور له المدينة.
ووضع المنصور أول لبنة بيده وقال: بسم الله والحمد لله (يُورثها مَنْ يشاء من عبادهِ والعاقبةُ للمُتَّقين)، ابنوا على بركة الله! - ووليَّ أبا حنيفة الفقيه القيام ببناء المدينة وبضرب اللبن وعدده حتى فرغ من استتمام بناء المدينة مما يلي الخندق، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائة.
وخرج الأمر بأن يعمل على المدينة ثمانية أبوابٍ حديد ممَّا يلي كلُّ ربع - بابين باباً على الخندق وباباً على السور. قال: فمن الثمانية خمسةٌ مما كان على مدينة الزندورد، وهي مدينة كانت في ظهر واسد من عمل الشياطين لسليمان ان داود، فنقلها الحجَّاج إلى واسط حين بناها، وهي الأربعة الأبواب الداخلة من كل باب، والخامس بابُ البصرة الخارج؛ وأمَّا الباب السادس الخارج من باب خراسان من عمل الشأم فهو من عمل الفراعنة، وباب الخارج من باب الكوفة جيء به من الكوفة عمله خالد بن عبد الله القسري، وباب الشأم الخراج عمله المنصور وهو أضعفها.
ولمَّا تمّ بناء المدينة وأراد المنصور النقلة إلى قصره بباب الذهب وقف على باب القصر يتأمله، فإذا على الحائط مكتوب: ادخل القصر " من الخفيف " :
ادخُلِ القَصْر لاتخافُ زوالا ... بعد ستين من سنيك رحيل
فوقف ملياً، فتغرغرت عينه، ثمّ قال: بقية لعاقل وفسحة لجاهل! كأنه حسب ما بقي من السنين. - ومات أبو جعفر المنصور ببئر ميمون لست من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وهو ابن أربع وستين سنة، فعاش بعد بناء المدينة اثنتي عشرة سنة، وفد عليه بطريق من بطارقة الروم، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها. فلمَّا انصرف قال: كيف رأيتها.؟ قال: حسنا إلا أنّ أعداءك معك. قال: ومن هم؟ قال: السوقى. قال: فلمَّا خرج البطريق أمر بإخراجهم من المدينة، ثمّ أمر ببناء القصر الجديد الذي يُسمَّى الخُلد، وكان ينهي عن تسميته بهذا الاسم.

ومن أخبار العلماء والنحاة والرواة من أهل بغداد ومن طرأ عليها من
الامصار
منهم ابن يسارٍ القُرشيّ المَدَني هو
90 - محمّد بن إسحاق بن يسارٍ
أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، ويسارٌ مولى عبد الله بن قيس بن مخرمة وهو أول سبيٍ دخل المدينة من العراق. سمع من ابن شهابٍ والأعمْش، وهو أوّلُ من جمع مغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفيّ ببغداد سنة أربع وخمسين ومائة. وقال عنه سُفيان: هو أمير المؤمنين في الحديث لحفظه، وكان يتشيع يقدم عليَّاً على عثمان.
91 - ومن أخبار ابن دَأبٍ
كان أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب من رواة الأخبار والأشعار وحُفَّاظهم، وكان من الحجاز، وجدَّهُ دأب بن كرز بن عبد الله بن أحمر.
وعد المَهدي ابن دأبٍ جاريةً، ثمّ وهبها له، فأنشد عبد الله بن مصعب الزُبيري قول مُضرسّ الأسدي " من الطويل " :
فلا تيأسَنْ من صالحٍ أن تناله ... وإن كان قدماً بين أيْدٍ تُبادرهْ
فضحك المهدي وقال: ادفعوا إلى عبد الله فُلانة لجاريةٍ أخرى! فقال عبد الله " من الرجز " :
أنْجز خيرُ الناس قَبْل وعده ... أراح من مطل وطولٍ كَدّهِ
فقال أبن دأب: ماقلت شيئاً؟ هلاَّ قلت " من الرجز " :
حلاوةث الفْضلِ بوعدٍ يُنجزُ ... لا خيرَ في العُرف كَنْهبٍ يُنهزُ
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: أملي عليَّ محمّد بن مناذر " من الوافر " :
ومَن يَبْغ الوصاة فإنّ عندي ... وصاةً للكُهُول وللشبابِ
خُذوا عن مالكٍ وعن ابن عونٍ ... ولا ترزووا أحاديث ابن دأبِ
ترى الغاوينَ يتَّبعون منها ... ملاهي من أحاديث الكذابِ
إذا طُلبت منافعها اضمحلتْ ... كما يرفضُّ رقراقُ السرابِ

وقال ابن دأب: سألت بطون بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر فما وجدتُ أحداً يعرفه.

92 - ومن أخبار الواقدي
ّ
هو أبو عبد الله محمّد بن عمر الواقدي مولى بني سهْم من الأسلميين، تحوّل من المدينة فنزل بغداد وولي القضاء للمأمون بعسكر المهديّ أربع سنين، وكان عالماً بالمغازي والسير والفتوح وباختلاف الناس في الحديث. ولد سنة ثلاثين ومائة، ويختلف في ثقته.
ورفع الواقديّ رقعة إلى المأمون يشكو فيها غلبة الدين عليه، فوقع عليها بخطه: فيك خلتان: السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق يدك بما ملكت، وأمّا الحياء فهو الذي حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك بضعف ماذكرت، فإن كنَّا قصرنا عن بلوغ حاجتك فجنايتك على نفسك، وإن كنَّا بلغنا بغيتك فزد في بسط يدك! فإن خزائن الله مفتوحة ويده بكلٍ مبسوطة.
وسئل الواقديّ عن النار التي توقد بالمزدلفة على قُزح، فقالك كانت الجاهلية توقدها، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
مات الواقديّ ومحمّد بن كناسة الأسدي ويحيى بن زياد الفراء وطاهر بن الحسين وجعفر بن عون ووهب بن جرير وعبد الصمد بن عبد الوارث في سنة سبع ومائتين، ومات بعدهم بمُديدة أبو عبادة روح بن عبادة القَيسيّ.
93 - ومن أخبار أبي البَخْتَريّ القاضي
واسمه وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العُزَّى بن قصيّ القُرشيّ، وأُمه عبدة بنت عليّ بن يزيد بن رُكانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وأُمها ابنة علي بن أبي طالب.
ولاه الرشيد القضاء بعسكر المهدي، ثمّ ولاه قضاء المدينة وإمارتها بعد أبي يوسف القاضي. قال أحمد بن كامل: أبو البخْتري مُتَّهماً بوضع الأحاديث لايحتج به. - وقال فيه بعض الشعراء " من المتقارب " :
هلاَّ فعلتهداك الإلهُفينا كفعْل أبي البَخْتري
تذكر إخوانه في البلاد ... فأغنى المُقِلَّ عن المُكثرِ
قال المرزباني: أبو البختري يضع الأحاديث الباطلة وينحرف عن آل الرسول، وكان هو السبب في قتل عبد الله بن حسن بن حسن رضي الله عنه.
قال يحيى بن معين: أبو البختري كذابٌ خبيث. وقال عبد الباقي بن قانع: مات أبو البختري في سنة مائتين، وهو مدنيٌّ متروك الحديث.
94 - ومن أخبار أبي المُنذرِ العَروضيّ
واسمه يعلى بن عقيل بن زياد بن سليمان بن هند بن عبد الله بن ربيعة بن إلياس بن ربيعة بن يعلى بن محمد بن زيد بن مُعَلَّى بن عبد الله العنزيّ من العلماء الرواة للعلم.
95 - ومن أخبار أبي مِسْحَلٍ الأعرابيّ
واسمهُ الحجَّاج بن زين من بني ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر، حضر بغداد مع أبيه بعد مالا بنيت وجاز المائة.
قال أبو مسحلً: سألني الحسن بن سهل الشري: هل في مدة حيلة؟ قلتُ: نعم، يُمَدّ ويقصر. فسأل الأصمعيَّ، فقال: مقصور لايمدّ. فجمع بيننا، فقال الأصمعيُّ: ياأنوك! أنَّى وجدتَّ الشرى يُمدُّ؟ فقلت: أشهر مثل للعرب: لاتحمدنَّ أمةً عام شرائها ولا عروساً عام هدائها. قال: فسكت. - وأنشد أبو مسحل " من الرجز " :
المالُ ما أمسكته فليس لكْ ... وكُلمَّا أنفقته فالمالُ لكْ
96 - ومن أخبار ابن قادمٍكان يؤدب أولاد سعيد بن سلم بن قتيبة، وكان الأصمعي يغشاهم، وكان ابن قادم يسأله عن معاني الشعر واللغة، فقيل له إنّ هذا رجلٌ متقدم لا تزاحمه فإنه يغلبك! فلم يزل حتى سأله الأصمعيُّ يوماً عن قول الشاعر " من السريع "
واحدةٌ أعضلكم شأنها ... فكيف لو قمت على أربعِ
وأشار الأصمعي إلى القيام على أربع بيديه ورجليه، فأجابه بجوابِ خطاءٍ، فاخجله الأصمعيُّ وأضحك منه من حضر، فقيل لابن قادم: قد نصحناك فلم تقبل.
97 - ومن أخبار أبي عُبيد القاسم بن سَلاّم
كان يخضب بالحنَّاء. قال إبراهيم الحربيّ: كان أبو عبيد كأنه جبلٌ نُفخ فيه الروح لم يُعيه إلا إتقان الحديث. كان يؤدب ولد ثابت ابن نصر بن مالك الخُزاعي، فولي ثابت طرسوس ثماني عشرة سنة، فولي أبو عبيد القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة. وكتب في حداثته عن هُشيم وغيره.

وانصرف أبو عبيد يوماً من الصلاة فمرّ بدار إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فقالوا له: ياأبا عبيد، صاحبُ هذه الدار يقول: إنّ في كتابك " غريب المصنَّف " ألف حرفٍ خطأٌ. فقال أبو عبيد: كتابٌ فيه أكثر من مائة ألف حرفٍ يقع فيه ألف حرفٍ خطأ ليس بكثير، فلعلّ إسحاق عنده رواية وعندنا رواية ولم يعلم فخطأنا والروايتان صواب، ولعله أخطأ حروفاً وأخطأنا في حروف فيبقى الخطأ شيءٌ يسير! - وقال أبو عمرو: فيه خمسةُ وأربعون حديثاً لاأصل لها، أُتي فيها أبو عبيد عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، منها: إنّ أهل قاهٍ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب لهم كتاباً. وما علمتُ في الدنيا أهل قاهٍ ولا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب لهم. وعنه: إذا شبعتن بطرتن، وإذا جُعتن دقعتنّ. قال: والذي عندي أنّ أبا عبيد أُتي من قبل أبي عبيدة.
قال أحمد بن كامل: كان أبو عبيد فاضلاً في علمه ودينه ربانيَّاً مفتياً في أصناف علوم الإسلام صحيح النقل، لاأعلم أحداً طعن عليه في شيء من أمره ودينه. - وكان مؤدباً لأولاد الهراثمة، وصار في ناحية عبد الله بن طاهر.
روى عن أبي زيد الأنصاريّ وأبي عبيدة والأصمعي واليزيدي وغيرهم من البصريين، وروى عن ابن الأعرابيّ وأبي زياد الكلابيّ والأُموي وأبي عمرو الشيباني والكسائي والأحمر والفراء. وروى الناسُ من كتبه المصنَّفة بضعةً وعشرين كتاباً في الفقه والقرآن وغريب الحديث والغريب المصنَّف والأمثال ومعاني الشعر، وله كتب لم تُرْو.
قال أبو عبيد: ربانيو العلم أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقةً للحديث وأداءً له عليّ بن المدينيّ، وأحسنهم وضعاً لكتابٍ ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه يحيى بن معين.
حجّ أبو عبيد، فتوفي بمكة ثلاث وعشرين ومائتين. ورثاه عبد الله ابن طاهر " من البسيط " :
ياطالبَ العلم قد أودى ابن سَلاّم ... قد كان فارسَ علمٍ غير محجام
أودى الذي كان فينا رُبع أربعةٍ ... لم يُلف مثلهمُ إستارُ أحكامِ
خير البَريَّة عبد اللهُ عالمها ... وعامرٌ ولنعم المرءُ يا عامِ
هما أنافا بعلمٍ في زمانها ... والقاسمان: ابن معنٍ وابنُ سَلاَّمِ

98 - ومن أخبار النضر بن حديد
كنيته أبو صالح، وكان صديقاً للمعتصم أيام الحسن بن سهل وهو إذ ذاك كأحد بني هاشم. فلمَّا علا أمره في أيام المأمون جفاه وحجبه، فقال النضر " من الطويل " :
تصغَّرْ أبا إسحاق في الإذن إنني ... رأيتك تجفوني وأنت كبيرُ
قد اغنى إله الناسُ طُرَّاً بفضله ... فتركك لي خطبٌ عليَّ يسيرُ
إذا ما أتيتُ البابَ لم أر آذناً ... ضحوكاً ولا من بالسلام يُشيرُ
فبلغت أبياته المعتصم، فدعاه ووصله واعتذر إليه وأمر ألا تحجب عنه.
99 - ومن أخبار أبي محمّد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ
كان أحد العلماء باللغة والغريب وأخبار الشعر وأيَّام الناس، وكان شاعرا مجيداً، وقد روى من العلم والأخبار قطعة حسنة. روى عنه مصعب بن عبد الله الزبيري والزبير بن بكار وغيرهما. وله مع أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما من أهل العلم أخبار قد بينُت في " كتاب المستنير " .
قال إسحاق: نحنُ فُرسٌ من أهل أرَّجان وموالينا قوم من الحنظليين. - وكان سبب قولهم الموصلي أنه سافر إلى الموصل في طلب الغناء، فلمَّا رجع بعد سنة قال إخوانه من الفتيان: مرحباً بالفتى الموصليّ! فلجَّت عليه.
وهو من أهل بيت شرف وفخر وقد في العجم، ثمّ إنه نبت به الدار، فخرج ماهان بأم إبراهيم وهي حاملٌ به حتى نزل الكوفة في بني دارم، ولهج إبراهيم بالغناء، فطلبه عربيةً وعجميةً عند كلّ من لقي من أهله من الرجال والنساء، وشخص فيه إلى البلدان حتى خرج إلى الري، وكان أول ما شهر من غنائه ما غني بالري، وصادق الأشراف، فأحبوه، وكان كثير الإخوان.
ولد في آخر أيام المنصور. - قال ثعلب: رأيتُ لإسحاق ألف جزء من لغات العرب سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحدٍ قطٌّ أكثر منها في منزل إسحاق ثمّ في منزل ابن الأعرابيّ. - وكان إسحاق ثقةً صدوقاًعالماً.

قال أحمد بن أبي خيثمة: كان أبي ويحيى بن معين وغيرهما يجلسون بالعشيات إلى مصعب الزُبيريّ وكنتُ أحضرُ، فمر بنا رجلٌ على حمارٍ فاره فسلم ووقف، فقالوا: إلى أين، ياأبا الحسن؟ فقال: إلى من يملأ أسماعنا علماً وأكمامنا دنانير. فقال له يحيى: من هو؟ قال: إسحاق الموصليّ. قال يحيى: والله ذاك أصح الناس سماعاً وأصدقهم لهجة. فسألت عن الرجل، فإذا هو المدائني.
قال إسحاق: أنشدت الرشيد شعراً لي، فلمَّا بلغتُ قولي " من الطويل " :
وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها: اقصري ... فذلك شيءٌ ما إليه سبيلُ
وكيف أخافُ الفقر أو أُحرمُ الغنى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميلُ
فقال: لله درُّ أبيات تأتينا بها، ما أحسن فصولها وأحكم أصولها! فقلت: كلامُ أمير المؤمنين أحسن من شعري! فقال: أحسنت والله، أعطه مائة ألف درهم! - ومنها " من الطويل " :
أرى الناس خُلاّن الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليلُ
ومن خير حالات الفتى ... إذا نال خيراً أن يكون ينيلُد
وإني رأيتُ البخلَ يُرزي بأهله ... ويُحقر يوماً أن يقال بخيلُ
ويروى:
رأيت قليل البخل يُزرى بأهله ... وأكرمت نفسي أن يقال بخيل
عطاآئي عطآء المكثرين تكرُّماً ... ومالي كما قد تعلمين قليلُ
وفضائل إسحاق ومحاسنه ومناقبه كثيرة جدَّاً، وجالس الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق، وبقي إلى صدر أيَّام المتوكل ومدحه. - توفي أسحاق سنة ست وثلاثين ومائتين.
100 - ومن أخبار مُصْعب الزُبيريّ
وهو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أمه أمة الجبَّار بنت إبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير.
قال: أدخلني أبي إلى الرشيد وأنا صبيٌّ، فدعوت له، فاستملح كلامي، فقال له أبي: إنه قد مدح أمير المؤمنين بشعر ولكنه يستحي أن ينشده لهيبة أمير المؤمنين. فقال: هات ماقلت! فأنشدته شعراً، منه " من الوافر " :
كأنك جئت محتكماً عليهم ... تخيَّرُ في الأبوة من تشاءُ
لك الفضل المُبرُّ على قريشٍ ... كما فضل الظلام لنا الضياءُ
فقال: زعمتُ أنّ هذا يستحي؟! هذا أوقح الناس! ووهب لي ألفي دينار. - وقال: وجّه صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي إلى سعيد بن سلم بجوذابة إوَزَّةٍ وليست الإوزة معها، فكتب إليه سعيد " من المتقارب " :
بعثتَ إلينا بجوذابةٍ ... فأين التي كان جوذابها
فقال صالحٌ لابنه موسى: أجبه عنيّ! فقال " من المتقارب " :
بعثنا إليك بجوذابةٍ ... وحاز الإوزةَ أربابها
وذلك حظ الفتى الباهلي ... فلا يَعْنينَّك تطلابهاس
101 - ومن أخبار أبي جعفر الجُرجاني محمّد بن عمر
أحد رواة الكوفة، أنشد " من البسيط " :
إنيّ لأُعرضُ عن أشياء تؤلمني ... حتى يُظنَّ رجالٌ أنّ بي حُمقا
أخشى جواب سفيهٍ لاحياء له ... فسلٍ يظنُّ رجالُ أنه صدقا
102 - ومن أخبار ابن السكِّيت
قال عبد الله بن جعفر: من علماء بغداد أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت، مؤدباً لولد المتوكل، وكان عالماً بنحو الكوفييّن وعلم القرآن واللغة والشعر رواية ثقة، وهو صحيحُ السماع، وله كتب في علم النحو واللغة جيادٌ وفي معاني الشعر، وفسر من دواوين الشعر شيئاً كثيراً.
قال أبو العينآء: قال لي أبن السكيت يوماً بيد يدي المتوكل - وقد تجاورا شيئاً من الأدب - : أتراك أحطت من هذا بما لم أحط به؟ فقلتُ: وما أنكرت؟! فوالله لقد قال الهدهد وهو أخس طائر لسليمان: (أَحَطتُ بما لَمْ تُحْط بهِ).
وكان يعقوب يؤدب المؤيد، وكان بينه وبين رجل من اهل الادب مقارضة، فقال هذه الابيات وبعث بها الى المتوكل:
قل للإمام الذي ترجى فواضله ... إن المؤيد مقرون إلى ذيب
معلم يختل الصبيان غفلتهم ... ويجعل الضرب منه باب تأديب
وإن خلا خلوة بالظبي ساوره ... بمسغد طويل الشخص يعبوب
وللمؤيد نفس غير خاضعة ... فأطلب له بدلاً من قرب يعقوب
والمهر يمكن بعد الرمح رائضة ... حتى تلين له بعد تصعيب

فأقرن ولاة عهود المسلمين يمن ... ترضى خلائقه واطرد أخا الحوب
كان المتوكل ألزم يعقوب ليردب المعتز بالله، فلما جلس عنده قال له: بأي شئ يحب الامير ان نبدأ من العلوم؟ قال له: بالانصراف! قال: فأقوم. أنا اخاف نهوضاً منك! فقام المعتز واستعجل فعثر بسراويله وسقط فالتفت إلى ابن السكيت كالخجل، فأنشد ابن السكيت:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته في الرجل تبرأ في مهل
توفي ابن السكيت سنة ست واربعين ومائتين، ويقال: إن المتوكل ناله بشئ حتى قتل.

103 - ومن أخبار أبي محمد سلمة بن عاصم النحوي
قال: قال ابن حبيب: إذا قلت للرجل: أيش صناعتك؟ فقال: معلم! فأصفع وانشد:
إن المعلم لا يزال معلماً ... لو كان علم آدم الاسماء
من علم الصبيان صبوا عقله ... حتى بني الخلفاء والامراء
104 - ومن اخبار الزبير بن بكار
قال: هو الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام. قال: عادلت المتوكل على الله من الجوسق الى المحمدية، فلما سرنا قال: يا زبير، من افضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخفت أن اقول علي، فيقول: قدمته على ابي بكر، مع ما اعرف من رأيه، وخشيت ان اقول ابو بكر، فيقول فضلت على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرهم. قال: فسكتت، فأقتضاني الجواب، فسكتت، فقال: ما لك لا تجيب؟ فقلت: سمعت الناس بالمدينة يقولون: ابو بكر خير الصحابة وعلي خير القرابة. قال: فأرضاه ذلك وكف.
وقال: أتيت الفتح بن خاقان أسأله أن يستأذن لي المتوكل في الحج، فوعدني، فأنشدته:
ما انت بالسبب الضعيف وانما ... نجح الاكور بقوة الاسباب
فاليوم حاجتنا إليك وغنما ... يدعي الطبيب لساعة الاوصاب
فأستأذن لي على المتوكل، فودعته ثم خرجت، وخرج الفتح بن خاقان فقال: جائزتك تلحقك وكتاب عهدك بلاقضاء على مكة لاحق بك! فلما صرت الى منزلي إذا خادم معه ثلاثون الف درهم، فخرجت، فلما وافيت مكة إذا رسوله ومعه عهدي، فدخلتها واليا عليها.
قال الزبير بن بكار: كان العباس بن الاحنف أطرف الناس في قوله:
اقول اسرارا واعلانا ... النب إن كنت غضبانا
ما شامني غيري ولا عذر لي ... عن كان ما كان كما كانا
يا أمس في سائر عسالة ... ما كان أحلاك وأحلانا
إذ كاسنا معملة بيننا ... مزاجها التقبيل أحيانا
وقال: العباس هو اشعر الناس في قوله:
تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن
توفي بمكة سنة ست وخمسين ومائتين وهو ابن اربع وثمانين سنة.
105 - ومن اخبار حماد بن اسحاق بن ابراهيم الموصلي
كنيته ابو الفضل، كان اديباً راوية، شارك اباه في كثير سماعه، وسمع عن ابي عبيدة والاصمعي، وألف كتباً واخذ اكثر علم ابيه.
106 - ومن اخبار ابي العيناء
هو ابو عبدالله محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، وابو العيناء لقب غلب عليه. ولد سنة إحدى وتسعين ومائة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. قيل: كم تعد؟ قال: قبضة! يعني ثلاثاً وتسعين. وكان فصيحاً سريع الجواب. وقال له بعض الكتاب وقد رآه ضعيفاً من الكبر: كيف اصبحت؟ فقال: في الداء الذي يتمناه الناس. ولأبي علي البصير فيه:
قد كنت خفت يد الوما ... ن عليك إذ ذهب البصر
لم ادر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر
قال له المتوكل يوماً: كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما احسنوا وأساوا وهذا ادب الله، إذا رضي عن عبد قال: (نعم العبد انه اواب)، واذا غضب على ىخر قال " هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد اثيم، عتل بعد ذلك زنيم).
وقال خطب رجل الى قوم، فبينما هو في ذلك إذا انعظ، فضرب ذكره بيده وقال: إليك يساق الحديث.
قيل له: إن ابراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب! فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).

وقال: قلت لرجل من ولد بشر بن داود: إن اباك كان سيف السلطان. قال: وظانا جعبته. قلت: فكان ينيك وانت تناك. قال: اقضي دينه. قال ابو هفان لابي العيناء: هذا اشد حراً من مكانك في لظى. فقال: بردهل بشعرك! وقال احمد بن ابي طاهر في ابي العيناء:
سجع ابي العيناء من رجعه ... فلعنه الله على سجعه
كأن من يسمع الفاظه ... يقذف صم الصخر سمعه
قد طبع الله على قلبه ... فالكفر مستول على طبعه
لا تكثروا فيه فلابد لي ... أساء أو احسن من صفعه
وكتب ابو العيناء، ألى ابن مكرم: قد اصبت لك غلاما من بني ناعط، ثم: من بني ناشرة، ثم: من بني نهد. فكت اليه ابن مكرم: " فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين " . قال لابن مكرم: ألست عفيفاً؟ قال: بلى إنك عفيف الفرج زاني الحرم. قال انما صار ذلك منذ تزوجت بأمك. وقال الجماز في ابي العيناء:
كذبوا ليس ابي العيناء في الكفر دعياً
ظلموا البائس ما زا ... ل من الله برياً
وبذا نعرفه مذ ... كان لا كان طبياً
فأخبروه تجدوه ... بالذي قلت ملياً
وما اخبار ًالمبرد
قال الصولي: هو ابو العباس محمد بن يزيد بن عبد الاكبر بن عمير بن حسان بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن زيد بن مالك بن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن اسلم - وهو ثمالة - بن احجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد بن الغوث. وكان سبب تلقيبه بالمبرد ان اب حاتم سهل بن محمد جعله في غلاف مزملة فارغ، حين طلبه صاحب الشرطة لمنادمة الامير. فدخل بيته وفتشه فلم يجده. فلما خرج جعل ابو حاتم يصفق وينادي: المبرد المبرد! وتسامع الناس فلهجوا بذلك ولقبوه به. ولد في سنة ست ومائتين. قال المبرد: النحو عبارة الاشياء. وحلي الالسن وجلاء الاسماع.
وقال: حضرت يوماً مجلس المتوكل، وبين يديه البحتري وهو ينشد قصيدة يمدح لها المتوكل، وبالقرب من البحتري ابو العنبس الصميري، فأنشد البحتري قصيدته:
يا باني المجد الذي ... قد كان قوض فأنهدم
اسلم لدين محمد ... فإذا سلمت فقد سلم
نلنا الهدى بعد العمى ... بك والغنى بعد العدم
فلما اتمها مشى القهقري للانصراف، فوثب أبو العنبس الصميري فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت ان ترده؟ فرد! فقال له ابو العنبس: قد عارضتكفي قصيدتك وكنيتك بحضرة امير المؤمنين. ثم اندفع ينشد يوقول:
في أي سلح ترتطم ... و[أي كف تلتقم
أدخلت رأس البحتري ... ابي عبادة في الرحم
فضحك المتوكل وقال: ادفعوا إلى ابي العنبس عشرة الاف درهم! فقال الفتح:فالبحتري الذي هجي واسمع المركوه ينصرف خائباً؟ فقال: ويدفع اليه عشرة الاف درهم.
قال ابن المعتز: جائني المبرد، فجرى ذكر أبي تمام الطائي، فلم يوفه حقه،فقال له رجل من الكتاب كان في المجلس ما رأيت احداً أحفظ لعر ابي تمام منه: يا ابا العباس، ايحسن احد ان يقول مثل ما قال ابو تمام لابي المغيث موسى بت ابراهيم الرافقي يعتذر اليه:
لعمري لقد اقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد
وانجدتكم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع انجدني على ساكني نجد
ثم قال في الاعتذار:
اتاني مع الركبان ظن ظنته ... لففت له رأسي حياء من المجد
اسربل هجر القول من لو هجرته ... اذا لهجاني عنه معروف عندي
كريم متى امدحه امدحه والورى ... معي ومتى ما لمته وحدي
فقال ابو العباس: ما سمعت احسن من هذا قط.
وقال: ما اهتظم الرجل حقه إلا احد رجلين: أما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام واما عالم لم يتبخر ه ولم يسمعه. وكتب البحتري الى المبرد يسأله ان يصير اليه.
يوم سبت وعندنا ما كفى الحر ... طلابا والورد منا قريب
ولنا مجلس على النهر فيا ... ح فسيح ترتاح فيه القلوب
وروام المادم يدنيك ممن ... كنت تهوى وإن جفاك الحبيب

فأتنا يا محمد بن يزيد ... في استتار كيلا يراك الرقيب
نطرد الهم باصطباح ثلاث ... مترعات تنفي بهن الكروب
إن في الراح راحة من جوى الحب ... وقلبي إلى الاديب طروب
لا يرعك المشيب مني فأني ... ما ثناني عن التصابي المشيب
وكتب اليه ابو العباس في يوم مطير، فكتب اليه البحتري:
ان التزاور فيما بيننا خطر ... والارض من وطاة البرذون تنخسف
إذا اجتمعنا على يوم الشتاء فلي ... هم بما لاق حين انصرف
ومدحه ابن الرومي وهجاه. ولابي حاتم السجستاني في المبرد:
ماذا لقيت اليوم من ... متمجن خنث الكلام
وقف الجمال بوجهه ... فسمت له حزق الانام
وكأنما وجناته ... غرض تكلل بالسهام
كالبدر إلا انه ... يختال في زي الغلام
فأرحم اخاك فإنه ... نزر الكرى بادي السقام
وأنله من دون الحرا ... م فليس يقصد للحرام
وقال المبرد: كتب الي احمد بن علي المادرائي الكاتب:
كم ذا القعود مع المدابر ... والعرض في هي الدفاتر
لو شئت قمت الى العقا ... ر وطيب اصوات المزاهر
ثم اقترحت على الفتى ... قف بالديار وقوف زائر
هذاك احرى بأختيا ... لا مسامر للدهر خابر
وقال ابو الحسن بن كيسان التحوي: انصرفت من عند ابي العباس أحمد بن يحيى ثعلب إلى المبرد، فقال لي: اين كنت؟ فقلت: عند افضل اهل زمانه. فقال: تعني احمد بن يحيى؟ قلت: نعم. فأنشأ يقول:
اقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصب الى الصب
لو كتب النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى قلب
فحفظتهما وعدت الى تغلب، فقال لي: لم رجعت؟ فقلت: طنت عند المبرد. فقال: كني به وقد ثلبني. فقلت: قد صانك الله منه! فأقسم علي والح، فذكرت له الابيات، فأمسك ساعة ثم انشدني:
شاتمني كلب بني مسمع ... فصنت عنه النفس
ولم اجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب اذا عضا
ودخل عليه رجل، فأراد القيام له، فقال: انشدك الله، ابا العباس، إن قمت! فقال: فلمن أخبأ قيامي؟ وانشد:
اذا ما بصرنا به مقبلا ... حللنا الحبى وابتدرنا القياما
فلا تنكرن قيامي له ... فإن الكريم يحل الكراما
وله:
اتعجب ان اقوم إذا بدا لي ... لاكرمه واعظمه هشام
فلا تعجب لاسراعي اليه ... فإن لمثله ذخر القيام
وفي مثله:
لئن قمت في ذاك منها غضاضة ... علي وأني للكريم مذلل
على انها مني لغيرك هجنة ... ولكنها بيني وبينك تحل
وقال المبرد:
هي المقادير تجري في أعنتها ... فأصبر فليس لها صبر على حال
يوم تريش خسيس الحال ترفعه ... نحو السماء ويوم تخفض العالي
وقال: لله درك من ذي نعمة كملت موصولة بجميل الجد واللعب
للدين منه نصيب لا يخل به ... وحظه وافر في اللهو والطرب
وقف أحمد بن الطيب يوماً على المبرد مسلماً، فقال له المبرد: انت والله كما قال البحتري:
ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع
خصال النبل في أهل المعاني ... مفرقة وانت لها جماع
وكان يباكر الغداء ثم يخرج الى احابه ويقول:
اذا تغديت وطابت نفسيه ... فليس في الحي غلام مثليه
الا غلام قد تغدى قبليه ثم يقول هاتوا ما معكم! قال له الجاحظ يوماً: اتعرف مثل قول إسماعيل بن القاسم:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على النائبات الدهر حين تنوب
فقال: نعم، قول كثير عزة: فقلت لها: يا عو، كل مصيبة إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت قال رجل للمبرد: تأخرت عنك لان برذوني اعتل. فأنشد:
اذا اعتل برذون الفتى وهو واحد ... فصاحبه حتى يصح عليل

قال الصولي: كنا عند المبرد، فجاءه رجل فسلم عليه واستجفى نفسه في لقائه، فأنشد المبرد:
ان الزمان وإن شطت مشاهده ... مني ومنك فأن القلب مقترب
لن ينقص النأي ودي ما حييت لكم ... ولا يميل به جد ولا لعب
ذكر المعتصم عند المبرد، فقال: هو كما قال الاخطل:
تسمو العيون إلى امام عادل ... معطى المهابة نافع ضرار
وترى عليه إذا العيون رمقنه ... سمة الحليم وهيبة الجبار
اشترى المبرد نبقاً وجعله بين يديه مخافة ان يبعث به الى النساء فيؤكل، ابنه فجلس الى جنبه كأنه يسمع ما يمر في المجلس وجعل يتناول من النبق ويلقيه الى فيه، فألتفت ابو العباس فرآه فأنشد:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن
فخجل ابنه فقام ودخل وانشد يرد قول سعيد بن جميد في صديق له يستنجزه وعدا:
سبقت الى عدة بالنوال ... جعلت الوفاء بها لي ضمينا
فلا تعذرن فإن الحلال ... يجلك عن خلق الغادرينا
تعلمت بعدي طول المطال ... وعلمتني ذلة الصابرينا
فما اسمج الغدر بعد الوفاء ... وما اقبح البخل بالقادرينا
وقال: دخلت يوماً الى موضع المجانين فمررت برجل تلوح صلعته وتبرق جبهته وهو جالس على حصير نظيف وهو متوجه الى القبلة كأنه يصلي، فجاوزته إلى غيره، فناداني: سبحان الله! اين السلام؟ من المجنون، انا ام انت؟! فأستحييت منه فقلت: السلام عليكم! فقال: لو كنت ابتدأت لاوجبت علينا حسن الرد عليك على انا نصرف سوء ادبك الى احسن الجهاتمن العذر لانه يقال: إن للداخل على القوم دهشة. اجلس، اعزك الله عندنا!وأومى إلى حصير وجعل ينفضه كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فناداني ابن ابي حميضة القيم: عليهم إياك إياك! فأحجمت في ذلك ووقفت ناحية أستجلب مخاطبته، فقال لي وقد رأى معي محبرة: يا هذا، ارى معك آلة رجلين ارجو ان لا تكون احدهما، أتجالس اصحاب الحديث الاغثاثاام الادباء اهل النحو والشعر؟ قلت: الادباء! قال: اتعرف ابا عثمان المازني؟ قلت نعم. قال: أفتعرف الذي يقول فيه:
وفتى من مازن ساد اهل البصرة ... أمه معرفة وابوه نكرة
قلت: لا قال: افتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر له ذهن وحفظ يعرف بالمبرد؟ قلت: انا والله عين الخبير له! قال: فهل انشدك شيئاً من مخبثات اشعاره؟ قلت: لا احسبه يحسن قول الشعر. قال: سبحان الله، اليس هو الذي يقول:
حبذا ماء العناقيد بريق الغانيات ... بهما ينبت لحمي ودمي أي انبات
ايها الطالب اشهى من لذيذ الشهواتكل بماء المزن تفاح خدود الناعمات
قلت: قد سمعته ينشد هزله مجلس انس. قال: سبحان الله، اوستحي ان ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! أما سمعت ما يقول الناس في نسبه؟! قلت يقولون هو من ازد شنوة ثم من ثمالة. قال: قاتله الله، ما ابعد غوره، اتعرف من قال:
سألنا عن ثمالة كل حي ... فقال القائلون ومن ثمالة
فقلت: محمد بن يزيد منهم ... فقالوا: زدتنا بهم جهالة
فقال لي المبرد: خل قومي ... فقومي معشر فيهم نذالة
قلت: اعرف هذه الابيات لعبد الصمد بن المعذل. قال: كذب من ادعاها غير المبرد، هذا كلام رجل لا نسب له! يريد ان يثبت بهذا الشعر له نسباً. قلت: انت اعلم! قال: يا هذا، قد غلبت بخفة روحك على قلبي وتمكنت بفصاحتك من استحساني، وقد ارت ما كان يجب ان اقدمه، ما الكنية؟ اصلحك الله! قلت: ابو العباس. قال: فما الاسم؟ قلت: محمد. قال: فألاب؟ قلت:يزيد. قال: قبحك الله، احوجتني الى الاعتذار اليك مما قدمت ذكره! ثم وثب باسطاً يديه لمصافحتي، فرأيت القيد في رجله قد شد إلى خشبة في الارض؟، فأمنت عند ذلك غائلته، فقال لي: يا ابا العباس، صن نفسك عن الدخول الى هذه المواضع! فقبلت قوله ولم اعاود الدخول الى مخيس. وقال بعض اصحاب ثعلب:
اسم المبرد من معناه مسترق ... حقا كما اقتد داجي الليل من نسبه
وقلما ابصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فتشت في لقبه

وذكر قول الحسن: أن امرأ لا يعد بينه وبين ادم أبا حيا لمعرق في الموت. فذا قول اخذا من قول لبيد:
فأنت لم ينفعك علمك فأنتسب ... لعلك تسليك القرون الاوائل
فأن لم تجد من دون عدنان والداً ... ودون معد فلتزعك العواذل
وكلام الحسن أخصر وكلام لبيد اوزان، واول هذا قول أمرئ القيس:
فكفى اللوم عاذلتي فإني ... ستكفيني التجارب وانتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عرقوي ... وهذا الموت يسلبني شبابي
" عرق الثرى " ادم عليه السلام، وقوله " ستكفيني.. انتسابي " أي انتسب فأجد آبائي واجدادي موتى، فأعلم اني ميت لا محالة، فهذا كلام عربي محض. وقال لبيد بن ربيعة:
كانت قناني لا تلين لغامز ... فألانها الاصباح والامساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء
يقول: تقربني من اجلي. ومثله للنمر بن تولب:
يسر الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة تفعل
ترد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقوله عليه السلام: كفى بالسلامة داء. وقال جرير.
حملت عليك حماة قيس خيلها ... شعثاً عوابس تحمل الابطالا
ما زلت تحسب كل شئ بعدهم ... حيلا تكر عليكم ورجالا
اخذه من قوه تعالى (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذروهم). وقالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على اخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل اخي ولكن ... اعزي النفس عنه بالتآسي
قال تعالى (ولن ينفعك اليوم اذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) أي ما نزل بكم أجل من أن يقع معه التآسي ونظر بعضهم إلى بعض.
مات المبرد والبحتري بمنبج في سنة اربع وقيل خمس، وقيل: ست وثمانين ومائتين، ودفن في مقابر باب الكوفة في دار اشتريت له، وله تسع وسبعون سنة. ورثاه محمد بن علي بن يسار العلاق الضرير:
ذهب المبرد وانقضت ايامه ... وليمصين مع المبرد ثعلب
بيت من الاداب اصبح نصفه ... خرباً وباقي نصفه فسيخرب
فتزودوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب
واستجلبوا الفاظه وكأنكم ... بسريره وعليه جمع مجلب
ورأى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الانفاس مما تكتب
فليحلقن بمن مضى متخلف ... من بعده وليذهبن ويذهب

108 - ومن اخبار ثعلب
قي الصولي: ولد ابو العباس احمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب واسماعيل ابن اسحاق القاضي وابو مسلم الكجي والمغيرة بن محمد المهلبي وميمون بن هارون الكاتب وعلي بن يحيى المنجم في سنة مائتين.
ذكر ابو الفرج محمد بن اسحاق الوراق المعروف بأبن ابي يعقوب النديم البغدادي صاحب كتاب الفهرست له في ترجمة ثعلب قال: نقلت من خط أبي عبد الله بن مقلة: قال ابو العباس احمد بن يحيى: رأيت المأمون لما قدم من خراسان، وذلك في سنة اربع ومئتين، وقد خرج من باب الحديد وهو يريد قصر الرصافة والناس صفان الى المصلى، قال: وكان ابي حملني على يده، فلما مر المأمون رفعني على يده وقال لي: هذا المامون وهذه سنة اربع! فحفظت ذلك عنه إلى الساعة، وكانت سني يومئذ اربع سنين.
وكان ثعلب والمبرد علمتين ختم تأريخ الادباء بهما. وكانا كما قال عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي صاحب التأريخ:
ايا طالب النحو لا تجهلن ... وعذ بالمبرد او ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الاجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب
وكان ثعلب يؤدب اولاد محمد بن عبد الله بن طاهر. وقال: سألني ابن الاعرابي: كم لك من الولد؟ فقلت: ابنه. وانشدته:
لولا اميمة لم اجزع من العدم ... ولم اجب في الليالي حندس الظلم
تهوى حياتي واهوى موتها شفقاً ... والموت اكرم نزال على الحرم
فأنشد ابن الاعرابي:
عميمة تهوى عمر شيخ يسره ... لها الموت قبل الليل لو انها تدري

يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا ختن يرجى اود من القبر
وانشد فيه رجل:
تبقى على الارض البسيطة واحد ... ساد الانام وانت ذاك الوحيد
قال رجل لابي العباس: المسجد هذا المعروف، فما المسجد؟ قال: مصدر السجود! قال: فعرفني ما لا يجوز من ذا ! فقال: لا يجوز مسجد ولا مسجد! وضحك وقال: هذا يطول ان وصفنا ما لا يجوز، ومثلك مثل ابن ماسويه وصف لانسان دواء، ثم قال: كل الفروج وشيئاً من الفاكهة! فقال: اريد ان تخبرني بالذي لا آكل. فقال: لا تأكلني ولا حماري ولا غلامي، وهئ القراطيس وبكر الي، فإن هذا يكثر إن وصفته لك!.
وسأله رجل عن قول الله تعالى (انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون)، فقال: كل من احب ان يعبدمن دون الله، فهو ومن يعبده في النار. فقال له الرجل: فقد عبد المسيح وعبدت الملائكة!؟ فقال ثعلب: تجيئني بهذا العقل الضغير تسألني عن هذه المسئلة الكبيرة، أليس قد قلت لك: كل من احب ان يعبد من دون الله!؟ أفترى المسيح والملائكة أحبوا ان يعبدوا من دون الله!.
وسأله ابو موسى عن قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليماً) ما اراد بقوله (تكليماً) في الكلام؟ فقال: إن المصدر إذا أكد به الفعل لم يكن الفعل لغواً كما قال بعض من يدعي ذلك! ألا ترى ان العرب تقول: قمت فضربت زيداً، فقمت كاللغو، ولا يقولون: قمت قياماً فضربت زيداً، ولو قال قائل: كلمت زيداً، لجاز أن يكون كلمه برسالة وكتاب وشفاها، فإذا اكده بالمصدر كان شفاها، فلم يكن غير ذلك(وكلم الله موسى تكليماً) تولى ذلك بنفسه.
وسئل عن معنى قوله: ما منكم من أحد إلا سيخلوا به ربه ليس بينه وبينه ترجمان فيسأله! فقال: كفاحا، ليس بينهما رسول ولا ترجمان.
قال الصولي: كنا يوماً عند ابي العباس ثعلب، فغضب على المدائني في شئ، فأفرط ثم سكن فقال: حدثني من رأى العتابي يخاصم وقد زادفي القول واظطرب، فعوتب على ذلك، فقال: اذا تشاجرت الخصوم طاشت الحلوم ونسيت العلوم.
استعار بعض اهل العلم من ثعلب كتاباً لينسخ ويسمع، فدفع إليه فرعاً من فروعه. فسقط عنه، فرجه فأخبره بسقوط الكتاب منه وذهب يعتذر، فدخل ثعلبٌ إلى منزله وأخرج الأصل ثمّ أنشد " من الطويل " :
إذا كان لي شيئانِ يا أُمَّ مالكٍ ... فإنّ لجاري منهما ما تخيَّرا
وفي واحدٍ إن لم يَكُنْ غَيَرَ واحدٍ ... أراه له أهلاً وإن كنتُ مًعسرا
جاء رجلٌ إلى ثعلب مودعاً، فلمَّا فرغ من وداعه قال: أعزَّك الله، تزودني بيتين!؟ اكتب " من البسيط " :
أضسْتودعُ اللهَ جيراناً لنا شسعوا ... خلَّوا ديارهم للجدْبِ وانتجعوا
من ذا يخبرهم عن ريفِ أرضهم ... من ماء عيني له البشرى إذا رجعوا
قال أبو الحسن الأسديّ: تركتُ النبيذ وأخبرتُ أبا العباس بتركي إياه، ثمّ لقيتُ محمّد بن عبد الله بن طاهر، فسقاني، فمررتُ على ثعلب وهو جالسٌ على باب منزله، فلمَّا رآني علم أنيّ شاربٌ، فقام ليدخل منزله، ثمّ وقف على بابه، فلمَّا أن حاذيتهُ أنشأ يقول " من المنسرح " :
قد كنتَ من بعدما نسكتَ وصا ... حبتَ ابن سهلان صاحب السقطِ
إنْ كنتَ أحدثت زلَّةً غلطا ... فاللهُ يَعْفو عن زَلَّةِ الغلطِ
وتركني ودخل منزله. ثمّ سألته بعد ذلك: من ابن سهلان؟ فقال: أهلُ الطائف يُسمون الخمار صاحب السَقَط.
تُوفي ثعلبٌ في إحدى وتسعين ومائتين، ودفن في صبيحة يومه ذلك بمقابر باب الشأم. وكان سبب وفاته أنه خرج من مسجد الجامع بعد صلاة العصر يريد منزله وبيده دفترٌ ينظُرُ فيه، وثقلَ سمعهُ، فصدمه دابةٌ، فسقط على رأسه فو هوَّةٍ، فحُمل إلى بيته، فما زال يتأوَّهُ من رأسه حتى مات رحمه الله تعالى.
109 - ومن أخبار أبي العباس محمّد بن الحسن الأحْوَل
قال إسماعيل بن نُوبْخت: مررنا بخرابة الحسن بن سهل، فشممتُ من بيوتها رائحة المسك، فأخبرتُ بذلك أبا العباس الأحول، فقال: إنّ الديار القديمة تطيب روائحها إذا اجتنبها ما يقذرها. ثمّ أنشدني " من المنسرح " :
غّدَتْ بهم عنك نيَّةٌ قذفٌ ... غادرت الشعب غير ملتمئمِ
واستودعتْ نشرها الديارَ فما ... تزدادُ إلا طيباً على القدِمِ

110 - ومن أخبار ابن عُليَل العَنَزيّ
هو أبو عليّ الحسن بن عُليل بن الحسين بن عليّ بن حبيش بن سعد العنزي، أحدُ الرواة الثقات، مقيماً بسُر من رأى لم سنتقل عنها إلى أن تُوفيَ. روى عن أبيه عن جده الحسين بن عليّ.
قال: تقدم أعرابيٌّ من بني العنبر إلى سوار بن عبد الله في خصومة، فحكم عليه، فأقبل الأعرابيّ على سوار فقال: واللهِ لقد رأيتُ رؤيا، ما أخطأت الرؤيا " من السريع " :
رأيتُ رُؤيا فعبَّرْتها ... وكنتُ للأحلام عبَّارا
رأيتني أخنُقُ في رَقدْتي ... ضَبَّا فكان الضَبُّ سَوّارا
ثمّ برك على سوّار يخنقهُ، وتصايح الناسُ وأقاموه. فكان سوّار بعد ذلك لا يقعدُ للُحكم إلاّ وعلى رأسه رجُلان قائمان.
111 - ومن أخبار ابن مَهْديّ الكِسْرَويّ
هو أبو الحسن عليّ بن مهديّ الإصبهانيّ، كتب إليه عبد الله بن المعتز " من الكامل " :
يا باخلاً بكتابهِ ورسولهٍ ... أأردتَ تَجعَلُ في الفراق فراقا
إنَّ العُهُود تموتُ إن لم تُحيّها ... والنأيُ يُحدثُ للفتى أخلاقا
فكتب إليه عليّ بن مهديّ " من البسيط " :
لا والذي أنتَ أسْنى من أُمجّدهُ ... عندي وأوفاهمُ عَهْداً وميثاقا
ما حلتُ عن خيرِ ما قد كُنتَ تعْهدُه ... ولا تبدَّلتُ بعد النأْي أخلاقا
لكنَّ عَجْزي عن نُعماك أفحمني ... فانقدتُ للعجزِ مغلوباً ومُشتاقا
112 - ومن أخبار المُفضَّل بن سَلَمَة بن عاصم
كُنيته أبو طالب. هجاه أحمد بن أبي طاهر بقصيدة أولها " من الكامل " :
إنّ المُفضَّل نقصُه في نفسه ... وفعالهِ قد حَطَّ فَضْلَ أبيه
وكأن نكهته روائحُ عرضه ... فجليسهُ بالنتنِ في مكروهِ
ولعليّ بن العبَّاس الروُميّ فيه " من الخفيف " :
لو تلففّت في كساء الكسائي ... وتلبَّستَ فرْوةَ الفراء
وتخللَّت بالخليلِ وأضْحى ... سيبويه لديك رَهْنَ سِباءِ
وتكونتَ من سواد أبي الأسود شخصاً يُكنى أبا السوداءِ
لأبي اللهُ أن يعُدَّك أهلَ العلمِ ... إلاّ من جملة الأغبياءِ
113 - ومن أخبار يحيىَ بن عليّ المُنجِّم
وكُنيتهُ أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى بن أبي منصور المنجّم، حَسَن العلمِ بالعربية مفنناً في الآداب شاعراً مُفلِقاً، جالس الموَّفق بالله ومن بعده من الخلفاء، وخُصَّ بالمعتضد بالله. وُلد في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتُوفي فجأةً سنة ثلاثمائة.
قال يحيى: قال لي أبو العبَّاس بن المعتز في يوم جعلت مُقامي فيه عنده وداعاً له وقد عزمت على الشخوص عن سُرّ من رأى " من السريع " :
وكَلت بي الهَمَّ فسر راشداً ... بصحبةِ الله وشَرطِ الرُجوعِ
خلَّيتني بعدك ذا حَسرةٍ ... بمقلةٍ عبرى وقلبٍ صديعِ
فقلت مجيباً له " من السريع " :
لايبكيك اللهُ ولا زلت في ... عيشٍ رغيدٍ وجنابٍ مريعِ
فالدهرُ قد يجمع بعد النوى ... أجَلْ كما فرَّق بعد الجميعِ

114 - ومن أخبار أبي الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي
ّ
قال: كنتُ مؤدب أولاد المُعز، فتحمَّل أحمد بن يحيى بن جابر الفلاذُريّ على قبيحةَ أُمِّ المعتز بقوم سألوها أن تأذن له في أن يدخُل إلى ابن المعتز وقتاً من النهار، فأجابت. واتصل الخبر بي، فجلستُ في منزلي غضبان، فكتب إليّ أبو العباس عبد الله بن المعتز وله إذ ذاك ثلاث عشرة سنة " من البسيط " :
أصبحتُ ياأبن سعيدٍ حُزْت مَكْرمةً ... عنها يُقصر من يحفى ونتعلُ
سربلتني حكمة قد هذبت شيمي ... وأجَّجت غرب ذهني فهو مُشتعلُ
أكونُ إن شِئت قُسَّاً في خطابته ... أو حارثاً وهو يوم الفخْرِ مُرْتجِلُ
وإنْ أشأ فكزيدٍ في فرائضهِ ... أو مثل نُعمان لمَّا ضاقت الحِيلُ
أو الخليلَ عَروُضيَّا أخا فِطنٍ ... أو الكسائي نحوياً له عِللُ
تغلي بُداهة ذهني في مُركَّبها ... كمثلِ ما عُرِفتْ آبائي الأُولُ

وفي فمي صارمٌ ما سلَّه أحدٌ ... من غمدهِ فدرى مالعيشُ والجذلُ
عُقْباكَ شُكرٌ طويلٌ لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطَّتِ الإبلُ
115 - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن سليمان بن الفضْل الأخْفش
قال المرزبانيّ: لم يكن متسعاً في الرواية للأخبار والعلم. شهدتهُ يوماً وصار إليه رجلٌ من حُلْوان، فحين رآه قال " من الكامل " :
حَيَّاك ربُّك أُيها الحُلواني ... وكفاك ما يأتي من الأزمانِ
ثمّ التفت إلينا وقال: ما نحسنُ من الشعر إلا هذا وما جرى مجراه. - وقال: أنشدنا المُبّرد " من الكامل " :
لا تَكْرهَنْ لَقباً شُهرتَ بهِ ... فلرُبَّ محظوظٍ من اللقبِ
قد كان لُقبَ مرَّةً رَجُلٌ ... بالوائليّش فجازَ في العَرَبِ
وقال ابن الروميّ فيه " من المنسرح " :
قُولا لنحويّنا أبي حسنٍ ... إنّ حُسامي متى ضربتُ مضى
وإنّ نبلي متى هممتُ بأنْ ... أرميَ بسلّتها بجمرِ غضا
لا تحسبَنَّ الهجاء يحفلُ بالرّفع ولا خفضِ خافضٍ خفضا
ومدحه أيضاً. - ومات الأخفش سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
116 - ومن أخبار أبي إسحاق إبراهيم بن السّريّ الزَجّاج
هو أقدم أصحاب المبّرد، وقد صنف " معاني القرآن " و " الاشتقاقط و " العروض " وكتباً في النحو واللغة.
117 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن السَريّ السَرّاج
من أحدث غلمان المبّرد سِنَّاً مع ذكاء فطنة، وكان يميل إليه المبّرد ويقربه.
118 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزْديّ
ولُد بالبصرة وتأدب بها، وعلم اللغة والأشعار والأنساب، وقرأ على علماء البصرة. وهو محمّد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حَنْتم بن حسن بن حماميّ - وهو منسوب إلى قرية من نواحي عمان يقال لها حمامي - بن جروْ بن واسع بن وهب بن سلَمة بن جُشم بن حاضر بن جشم بن ظالم بن حاضر ابن أسد بن عدي بن عمرو بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عُدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. روى عن أبي حاتم.
وقال ابن ديد: خرجتُ أريد زهران بعد دخول البصرة، فمررت بدارٍ قد خربت، وكتبت على حائطها " من الرمل " :
أصبحوا بعد جميعِ فرقاً ... وكذا كُلُّ جميعٍ مُفترقْ
ومضيتُ، فلمَّا رجعتُ فإذا تحته مكتوبٌ " من الرمل " :س
ضحكوا والدهرُ عنهمُ صامتٌ ... ثمّ أبكاهم دماً حين نطقْ
قال ابن دريد: سقطتُ من منزلي بفارسٍ، فانكسرت توقوتي وسهرت ليلتي، فلمّا كان في آخر الليل حملتني عيناي، فرأيت في نومي رجلاً ظريفاً أصفر الوجه كوسجاً دخل عليَّ فقال: أنشدني أحسن ماقلت في الخمر! فقلت: ماترك أبو نواس لأحدٍ شيئاً! فقال: أنا أشعر منه! قلتُ: ومن أنت؟ قال: أبو زاجية الشامي. وأنشدني " من الطويل " :
وحمراءَ قَبْلَ المَزْج صفراءَ بعده ... بدت بين ثَوبي نرجسٍ وشقائقِ
حكت وجنةَ المعشوقِ صرفاً فسلَّطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لونْ عاشقٍ
قال أبو بكر: قلتُ له: أسأت! قال: ولمّ؟ قلتُ: لأنك قلت " حمراء " فقدمت الحُمرة، ثمّ قلت " بدت بين ثَوْبي نرجسٍ وشقائقِ " فقدمتَ الصُفرة، فألاّ قدمتها على الأخرى كما قدَّمتها على الأولى؟! فقال: وما هذا الاستقصاء في مثل هذا الوقت، يابغيضُ؟! - وقال ابن دريد " من البسيط " :
عانقتُ منه وقد مال النُعاسُ به ... والكأسُ تقسمُ سُكراً بين جُلاَّسي
ريحانةً ضمخت بالمسك ناضرةً ... تَمُجُّ بَرْد الندى في حرِّ أنفاسي
وقال يرثي عبد الله بن عمارة " من الطويل " :
بنفسي ثرى ضاجعت في ثنبه البلى ... لقد ضمَّ منك الغيثَ والليثَ والبَدْرا
فلو أنّ حَيَّا كان قبراً لميّتٍ ... لصيَّرت أحشائي لأعظمه قبرا
وما خلت قبراً وهو أربعُ أذْرُعٍ ... يَضُمُّ ثقال المُزن والطود وتلبحرا
وقال من قصيدة انتظم في بيتٍ اسم رجلٍ ونسبه " من الطويل " :

لَنْعْم فَتى الجُلَّى ومستنبطُ الندى ... وملجأُ محرومٍ ومفزعُ لاهثِ
عياذ بن عمرو بن الجليس بن جابر بن زيد بن منظور بن زيد بن وارث.
119 - ومن أخبار ابن عَرَفة المُهلَّبيّ
هو ابو عبد الله ابراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن عبد الله بن عبيد الله ابن قبيصة بن المهلب بن ابي صفرة، كان ثقة فقيهاً على مذهب داود الاصبهاني. انشد لنفسه:
لنا صديق غير عالي الهمم ... يحصي على القوم سقاط الكلم
ما استمتع الناس بشئ كما ... يستمتع الناس بطرح الحشم
وقال:
كم قد ظفرت بمن اهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر
كم قد خلوت بمن اهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
اهوى الملاح واهوى ان اجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان فاحشة ... لا خير في لذة من بعدها سقر
وقال: تشكو الفراق وانت تزمع رحلة هلاَّ أقمت ولو على جَمْر الغضا 3فالآن عُذْ بالصبر أو متْ حسرةً فعسى تَرُدُّ لك النوى ما قد مضى وقال في مدح الشيب " من الكامل " :
لاتجزَعنَّ من المشيبِ فإنّه ... فيه كماُ المرِْ والتعميرُ
ودعِ السّواد فإنما أيَّامه ... في عَدِ أيَّام البياض يسيرُ
وقال " من الكامل " :
أتخالُني من زلَّةٍ أتعتبُ ... قَلبي عليكَ أرقُّ ممّا تحسبُ
قلبي وروحي في يديك وإنما ... أنت الحياةُ فأين عنك المذهبُ
120 - ومن أخبار أبي بكر محمّد بن القاسم بن محمّد الأنباريّ
كان ثقةً صدوقاً ديّناً، وأبوه أبو محمّد أحدُ الرواة الثقات من أهل سُرَّ من راى، وكان أبو بكر مُتقن الحفظ للقرآن والنحو واللغة والشعر، وله تصنيفات في علم القرى، وغيره.
مات في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
121 - ومن أخبار الصُوليّ
هو أبو بكر محمّد بن يحيى بن عبد الله بن العبَّاس بن محمد بن صُول ملك جُرجان، كان عزيزُ الرواية كثير العلم حسن المّذاكرة حافظاً للأخبار والأشعار والملح والنوادر رأسا في تصنيف الأخبار وجمع الكتب، وجالس المُكتفي بالله واخُتصَّ بالرارضي بالله في حياة أبيه وعند تقلُّده الخلافة.
توفي في سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة.

ذكر النسابين
122 - منهم دَغْفل بن حَنْظَلةَ
قال أبو حاتم: سمعتُ الأصمعيَّ يذكر نسّابُ العرب، فذكر دغفلا من بكر بن وائل والنخَّار العُذري وابن القريَّة وصُبيحاً وأبا ضَمْضَم البكريّ وكيساً النمري، وقال: هؤلاء كلُّهم أُميون.
وقيل: إنّ دغفلاً سدوسيٌّ أدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، ووفد على معاوية، فضمه إلى يزيد مؤدباً. - سئل عن نسب النمل، فقال: إنها ثلاثة أبطن: ذَرٌّ وهي الصغار الصفر، وفازرٌ وهي التي رأسها كبير ومؤخرها صغير، وعقفان وهي الطوال القوائم. قال له معاوية: من أين ضبطت هذا؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول. وقال: أيُّ بيت قالته العرب أندى وأفخر؟ قال " من الطويل " :
له هممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمَّتهُ الدُنيا أجلُّ من الدهرِ
له راحةٌ لو أن معشارَ جُودها ... على البَرّ كان البَرُّ أندى من البحرِ
وقال دغفل: يا معشر العرب، فاخروا العجم بثلاث خصال! فإنكم إن فاخرتموهم بغيرهن غلبوكم، فاخروهم بأنكم حفظتم أنسابكم ونسوها، وبأنكم عففتم عن الحرم وأتوهنّ، وبأنكم أحسنُ الناس شعراً.
123 - ومن النسلبين أبو ضَنْضَم البَكْري
وهو أحد بني عمرو بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال الأصمعيّ عن عمه قال: تذاكرنا عند أبي ضمضم البكري من يسمى من الشعراء عمراً، فأنشدنا لسبعين أو ثمانين شاعراً كلُّهم اسمه عمروٌ. قال الأصمعيّ: فعددتُ أنا وخلف الاحمر، فلم نقدر على أكثر من ثلاثين.
124 - ومنهم النخّار العُذْريّ

وهو أحد بني الحارث بن سعد بن هذيم. قال ابن الأعرابيّ: دخل النخَّار ابن أوس العُذري على معاوية وعليه عباءة فكلمه، فأعرض عنه، فقال: يا معاوية، إنّ العباءة لاتكلمك، إنما يكلمك من فيها. فأقبل عليه، ثمّ تكلم فملأ سمعه ثمّ نهض ولم يسأله، فقال معاوية: مارأيت رجلاً أحقر أولاّ ولاأجلَّ آخراً منه.
125 - ومن أخبار وَهْب بن مُنَبِّهٍ
كنيته أبو عبدالله، ومنبه بن كامل بن سيج - وقيل: شمخ - من الفرس الذين بعثهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لقتال الحبشة. وكان وهب من القراء الفقهاء العلماء بالكتب السالفة.
وكتب وهبٌ إلى عمر بن عبد العزيز وكان على بيت المال: أمَّا بعدُ، فإني افتقدتُ مالا من بيت المال ولا أدري كيف ضاع، فاكتب إليّ كيف رأيك في ذلك. فكتب إليه عمر: أمَّا بعدُ، فإني لستُ أتهمُ دينك ولا أمانتك، ولكنيّ أتهمُ تفريطك وتضييعك، فأنا حجيجُ المسلمين في أموالهم، وإنما لأشحهم عليك يمينٌ، فاحلف، والسلام! وقال وهبٌ في قوله تعالى: (فلنُحْييَنَّهُ حَيَاةً طيّبَةً)، قال: القناعة. - وقالك كاد كلُّ شيء يكون سبعا: الطواف ورمي الجمار والأيام والأرضون والسموات والبحار وأبواب جهنم وأوديتها، ومابين كلّ سمائين منها مقدار سبعمائة عام، وما بين طرفي الأرض مقدار سبعة آلاف سنة، والبقرَّات سبعٌ، ومكث يوسف عليه السلام في السجن سبعاً، والسنابل الخضر سبع، واليابسة سبع، والحطمة التي حطموا سبع ورزقوا سبعاً، والبلاء الذي أصاب أيُّوب عليه السلام سبع، وأم القرآن سبع، والبلاء الذي خرج فيه نخت نصَّر سبع، وما شقّ الله عزّ وجل في وجه الإنسان سبعة: فمه وعينيه ومنخريه وأُذنيه، ويقع على سبعة إذا سجد: على وجهه ويديه ورجليه ورُكبتيه، وخلق الله الإنسان من سبعة، فقال تعالى: (ولقد خلَقْنا الإنْسَانَ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطفةً في قرارٍ مكين، ثُمَّ خَلَقْنا النُطفةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقةَ مُضْغةَ فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاماً فَكَسْونا العِظامَ لَحْماً ثُمَّ أنِشأناهُ خَلْقاً آخر فَتَبَاركَ اللهُ أحسَنُ الخالقين).
وقال: الدّنيا ثُلُثُ بَرٌّ وثلث بحر وثلُث دابّة تُسمى بهوت، والخلق بنو آدم وبنو إبليس: بنو آدم الثلث وبنو إبليس الثلثان، والثلثان من بني آدم ياجوج ومأجوج، فمن الثلث الباقي ثلاثةُ أثلاثٍ: ثلثُ أندلس وثلثٌ الحبشة وثلث سائر الناس من العرب والعجم والروم والفرس.
قال رجلٌ لوهب: إن فلاناً شتمك. فقال: أما وجد الشيطان بريداً غيرك؟! - وقال: قال لقمان لابنه: يابنيّ، اعلم أنّ أشدَّ العدم عدم العقل وأعظم المصائب مصيبة الدين وأبين المرازي مرزئة الحلم وأنفع الغنى غنى النفس، فتثَّبت في ذلك والزم القناعة والرضا! - وقال: يتشعبُ من العقل عشرة أخلاق صالحة: التفُّهُم والتفقه والتعلم والتفكر والحيلة والإربة والاعتبار والتدبر والازدجار والتنزه.
وقال: ولد لهودٍ أربعة وهم العرب كلّهم قحطان بن هود ومقحط بن هود وقاحط بن هود وفالغ بن هود وهو مضر وقحطان أبو اليمن، والباقون ليس لهم نسل، وأبو هودٍ أول من تكلم بالعربية وهو شالخ بن أرفخشذ ابن سام بن نوح.
وقال: يحشر الخلق يوم القيامة يتكلمون بالسريانية، فمن دخل منهم الجنة تكلم بالعربية. وقال: إذا في الصبي خلقان طُمع في رشده - الحياء والرهبة. وقال: اجتمعت الأطباء على أن رأس الطب الحمية، واجتمعت الحكماء أنّ رأس الحكمة الصمت. - وقال: وجدتُ في التوراة أربعة أسطر متوالياتٍ: من قرأ كتاب الله فظن أن لن يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، والثاني: من شكا مصيبته فإنما شكا ربَّه عزّ وجلّ، والثالث: من حزن على ما في يديّ غيره فقد سخط قضاء ربه، والرابع: من تضعضع ذهب ثلثا دينه.

وقال: بنى مدينة حمص رجلٌ يقال له صوري من ولد كنعان بن حام ابن نوح من بعد الغرق. ودمشق بناها العادي غلام إبراهيم عليه السلام، وكان حبشياً، وهبه له نمرود حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام قبل ذلك دمشق، فسماها على اسمه. وبيت المقدس بناه أربون النبطي من ولد كنعان بعد الغرق. وحرّان بناها هاران أبو لوط وهو أخو إبراهيم. ومصر بناها مصرايم بن حام بن نوح وهو أبو القبط بعد الغرق. وإفريقية بناها كامن بن يافث بن نوح. والإسكندرية بناها الإسكندر، وكانت مدينته التي ولد فيها مقدونية. والجزيرة بناها سام بن نوح. والموصل بناها أشون بن سام بن نوح إلى خراسان. والأهواز بناها عالم بن سام بن نوح وهو الذي بنى السوس. وسمرقند بناها شمر يرغش وهو في " الجمهرة " من ملوك اليمن. ومدينة بُصرى بناها بُصر بن إسحاقز وهمذان بناها مادى بن يافث بن نوح. وإرمينية بناها ياوان بن يافث بن نوح.
مات وهب في سنة أربع عشرة ومائة، ثمّ بعده أخوه معقل ثمّ أخوه غيلان ثمّ أخوه همام.
آخر المختصر المسَّمى بنور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة والأدباء والشعراء والعلماء تأليف الحافظ أبي عبيد الله محمّد بن عمران بن موسى المرزباني رحمه الله تعالى والحمد لله وحده وصلواته على خيرته من خلقه محمّد نبيّه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً وحسبنا الله ونعم الوكيل

أقسام الكتاب
1 2