كتاب : ثمرات الأوراق
المؤلف : ابن حجة الحموي

فقال لي لا شيء فقلت لم قلت ذلك وما عيب هذا البيت فقال لو قلت صافياً لكان حسناً وكان طباقا لأن الكدر يقابله الصافي قلت له هذا حسن فمن أنت يرحمك الله قال أبو مرة قلت لا خير ولا مير قال بك ثم بعد ذلك بشهر رأيته في المنام على الهيئة المتقدمة فسلم عليَّ سلام من يعرفني ثم قال هل تعرف من الشعر الميشوم شيئاً قلت نعم قال فأنشدني وكنت قد عملت قطعة شعر حال ضعفي بالنزلة فأنشدته إياها:
لله ما أشكوه من نزلةٍ ... قد ضرَّ منها ضيق أنفاسي
ومن صداعس ضقت ذرعاً به ... باتت يدي منه على راسي
فقال هذا والله الشعر ثم قال: أضف إليهما:
فأعجب إلى دائين قد عزِّزا ... بثالثٍ من داء إقلاس
وحكي في مرآة الزمان وغيرها من ترجمة شمس الدين توران شاه بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين قال محمد بن علي الحكيم الأديب رأيت شمس الدولة بعد موته فمدحته بأبيات فلفّ كفنه ورمى به إلي وقال:
لا تستقلنَّ معروفاً سمحت به ... ميتاً فأمسيت منه عاري بذليَ
ولا تظنّن جوداً شانه بخلٌ ... من بعد بذليَ ملك الشام واليمن
إني خرجت من الدنيا وليس معي ... من كلّ ما ملكت كفّي سوى الكفن
حكي أنه كان ببغداد شخص يعرف بأبي القاسم الطنبوري صاحب نوادر وحكايات وله مداس له مدة سنين كلما انقطع منه موضع جعل عليه رقعة إلى أن صار في غاية الثقل وصار يضرب به المثل فيقال أثقل من مداس أبي القاسم الطنبوري فاتفق أنه دخل سوق الزجاج فقال له سمسار: يا أبا القاسم قد وصل تاجر من حلب ومعه زجاج مذهب قد كسد فابتعه منه وأنا ابيعه لك بعد مدة بمكسب المثل مثلين فإبتاعه بستين ديناراً ثم دخل سوق العطارين فقال سمسار آخر قد ورد تاجر نصيبين بما ورد في غاية الحسن والرخص ابتعه منه وأنا أبيعه لك بفائدة كثيرة فإبتاعه بستين ديناراً أخرى ثم جعله في الزجاج المذهب ووضعه على رفع في صدر البيت ثم دخل الحمام بغلس فقال له بعض أصدقائه يا أبا القاسم: أشتهي أن تغير مداسك فإنه في غاية الوحاشة وأنت ذو مال فقال السمع والطاعة ولما خرج من الحمام ولبس ثيابه وجد إلى جانب مداسه مداساً جديداً فلبسه ومضى إلى بيته وكان القاضي دخل الحمام يغتسل ففقد مداسه فقال الذي لبس مداسي ما ترك عوضه شيئا فوجدوا مداس أبي القاسم فإنه معروف فكبسوا بيته فوجدوا مداس القاضي عنده فأخذ منه وضرب أبو القاسم وحبس وغرم جملة مال حتى خرج من الحبس فأخذ المداس وألقاه في الدجلة فغاص في الماء فرمى بعض الصيادين شبكة فطلع فيها المداس فقال هذا مداس أبي القاسم والظاهر أنه سقط منه فحمله إلى بيت أبي القاسم فلم يجده فرماه من الطاق إلى بيته فسقط على الرف الذي عليه الزجاج فتبدد ماء الورد وأنكسر الزجاج فلما رأى أبو القاسم ذلك لطم على وجهه وصاح وافقراه أفقرني هذا المداس ثم قام يحفر له في الليل حفرة فسمع الجيران حسَّ الحفرة فظنوا أنه نقب فشكوه إلى الوالي فأرسل إليه من اعتقله وقال له تنقب على الناس حائطهم اسجنوه ففعلوا فلم يلخج من السجن إلى أن غرم جملة مال فأخذ المداس ورماه في مستراح الخان فسد قصبة المستراح وفاض فكشف الصناع ذلك حتى وقفوا على موضع السد فوجدوا مداس أبي القاسم فحملوه إلى الوالي وحكوا له ما وقع فقال غرموه المصروف جملة فقال ما بقيت أفارق هذا المداس وغسله وجعله على السطح حتى يجف فرآه كلب ظنه رمّة فحمله وعبر به إلى سطح آخر فسقط على امرأة حامل فأرتجفت وأسقطت ولدا ذكراً فنظروا ما السبب فإذا مداس أبي القاسم فرفع إلى الحاكم فقال يجب عليه غرة فابتاع لهم علاماً وخرج وقد افتقر ولم يبق معه شيء فأخذ المداس وجاء به إلى القاضي وحكى له جميع ما اتفق له فيه وقال أشتهي أن يكتب مونا القاضي بيني وبين هذا المداس مبارأة بأنه ليس مني ولست منه وإني بريء منه ومهما فعله يؤاخذ به ويلزمه فقد أفقرني فضحك القاضي ووصله بشيء ومضى وانتهى.
هذه قصيدة ليزيد بن معاوية وهي عزيزة الوجود:
وسربٍ كعين الديك ميلٍ إلى الصبا ... رواتعُ الحاديَ سود المدامع
سمعن غناءً بعد ما عنَّ نومةً ... من الليل يمللهنّ فوق المضاجع

أيا دهر هل شرخ الشبيبة راجعٌ ... مع الخفرات البيض أو غير راجع
قنعت بزورٍ من خيال بعثنه ... وكنت بوصلٍ منهُمُ غيرُ قانع
إذا رمت من ليلى على البعد نظرةً ... لتطفي جوىً بين الحشا والأضالع
تقول رجال الحيِّ تطمع أن ترى ... لليلى وصالاً من بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعينٍ ترى بها ... سواها وما طهّرتها بالمدامع
أجلُّك يا ليلى عن العين إنّما ... أراك بقلبٍ خاضعٍ لك خاشع
وما سرّ ليلى ما حييت بذائعٍ ... وما عهد ليلى أن تناءت بضائع
ومن غريب ما يحكى أن عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والدة يزيد بن عبد الملك بن مروان حرمت على اثني عشر من الخلفاء من بني أمية معاوية جدها ويزيد أبوها ومروان أبو زوجها والوليد وسليمان وهشام بنو عبد الملك أولاد زوجها والوليد بن يزيد بن ابنها ويزيد بن الوليد بن زوجها وابراهيم بن مروان بن الوليد بن زوجها أيضاً ويزيد من عبد الملك ابنها ومعاوية بن يزيد بن معاوية أخوها وزوجها عبد الملك بن مروان ولم يتفق ذلك لامرأة غيرها انتهى. وجد بخط قاضي القضاة. شهاب الدين أحمد بن حجر حافظ العصر قال وجد بخط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى ابن أبي حجلة التلمساني قال أنشدني القاضي فخر الدين عبد الوهاب المصري لنفسه في الأهرام سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأجاد:
أمباني الأهرام كم من واعظٍ ... صدع القلوب ولم يفُهْ بلسانه
أذْكَرْنَني قولاً تقادم عهدُهُ ... أين الذي الهرمان من بنيانه
هنّ الجبال الشامخات تكاد أن ... تمتدَّ فوقَ الأفق عن كيوانه
لو أن كسرى جالسٌ في سفحها ... لأجلّ مجلسه على إيوانه
ثبتت على حرّ الزمان وبرده ... مدداً ولم تأسف على حدثانه
والشمس في إحراقها والريح عن ... د هبوبها والسيل في جريانه
هل عابدٌ قد خصّها بعبادةٍ ... فمباني الأهرام من أوثانه
أو قائلٍ يقضي برجعة نفسه ... من بعد فرقته إلى جثمانه
فاختارها لكنوزه ولجسمه ... قبراً ليأمن من أذى طوفانه
أو أنها للسائرات مراصدٌ ... يختار راصدها أعزّ مكانه
أو أنها وضعت بيوت كواكبٍ ... أحكام فُرسِ الدَّهر أو يونانه
أو أنهم نقشوا على حيطانها ... علماً يحار الفكر في تبيانه
في قلب رائيها ليعلم نقشها ... فكرٌ يعضُّ عليه طرف بنانه
يحكى أن القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني كان يمر على الناس ولا يسلم عليهم فلامه بعض أصحابه في ذلك فقال:
يقولون لي فيك أنقباضٌ وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذلّ أحجما
ارى الناس من واناهُمُ هان عندهم ... ومن أكرمته عزّة النفس أُكرما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أكن ... أقلِّب كفي إثره متندّما
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا مطمعٌ صيَرته ليَ سُلَّما
وما كلُّ برقٍ لاح لي ستفزّني ... ولا كلُّ من في الأرض أرضاه منعما
إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى ... ولكنَّ نفس الحر تحتمل الظما
أنهيتها عن بعض ما لايشينها ... مخافة أقوال العدا فيمَ أو لِما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكنْ لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أ؛زما
ولو أنّض أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لَعُظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتى تجهّما

قال شيخ الإسلام تاج الدين عبد الوهاب بن شيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي سقى الله عهده لقد صدق هذا القائل لو عظموا العلم عظمهم قال وأنا أقرأ قوله لعظم بفتح العين فإن العلم إذا عظم تعظم وهو في نفسه عظيم ولكن أهانوه فهانوا ولكن الرواية فهان وعظم بضم العين والأحسن ما أشرت إليه انتهى.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي في أجوبته عن الاعتراضات التي على جمع الجوامع ومن ظريف ما يستفاد قول أبي نواس:
أباح العراقيُّ النبيذَ وشُرَبَهُ ... وقال حرامان المدامة والسكرُ
وقال الحجازيُّ الشرابان واحدٌ ... فحلِّت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما ... وأشربُها لا فَارقَ الوازرَ الوزرُ
وقد سألني الأديب صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي رحمه الله عن معنى هذه الأبيات ومعناها أ، العراقي وهو أبو حنيفة رحمه الله أباح النبيذ وحرم المدامة وهي الخمر أسكرت أم لم تسكر وحرم أيضاً المسكر من كل شيء وأن الحجازي وهو الشافعي رحمه الله قال الشرابان واحد فأخذ أبو نواس بالموجب فكأنه قال أنهما واحد ولكن في الحل لا في الحرمة وإليه الإشارة بقوله: " فحلّ لنا من بين قوليهما الخمر " ثم هذا إنما ذكره أبو نواس على عادة الشعراء في الكيس والظرافة ولا يقصد حقيقته فإنه لا يقول به أحد ولعله أشار بقوله " سآخذ من قوليهما طرفيهما " إلى آخره أنه لا يعتقده بل هو شاعر كما يقول ولا يفعل كذلك لايعتقد فهو على زعم يشربها وإن لم يعتقد الحل إذ كيف يمكن أن يقال أنه يعتقد الحل وقد قال " لا فارق الوازر الوزر " فهذا إن شاء الله معنى هذه الأبيات وهي على حال من كلمات الشعراء التي لايحتج بها في دين الله تعالى.
أعتلّ ذو الرياستين الفضل بن سهل بخراسان مدة طويلة ثم أبلَّ واستقبل وجلس للناس فدخلوا إليه وهنأوه بالعافية فانصت لهم حتى انقضى كلامهم ثم أندفع فقال إن في العلل لنعما لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها منها تمحيص الذنوب وثواب الصبر وإيقاظ من الغفلة وإذكار بالنعمة في حال الصحة واستدعاء للتوبة وحض على الصدقة ورضاء بقضاء الله وقدره فانصرف الناس بكلامه ونسوا ما قاله غيره انتهى.

وحكي عن ابن المبارك أنه قال حججت إلى بيت الله الحرام فبينما أنا في الطواف إذ عييت فجلست أستريح ووضعت راسي على ركبتي فغلبني النوم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول يا ابن المبارك إذا أنت قضيت حجك وحللت عقدك ورجعت إلى أرض العراق ودخلت دار السلام فأقصد الحلة اليت بها بهرام المجوسي فإذا لقيته فأخبره أن النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم يسلم عليه وهو يقول لك أبشر فإن قصرك في الجنة غدا من أقرب القصور إلى قصري قال عبد الله فانتبهت لذلك فزعا مرعوباً وتفكرت ساعة فغلبني النوم ثانيا فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول يا ابن المبارك لا تشك في منامك فهو حق والشيطان لا يتمثل بصورتي قط فإذا قضيت حجَّك وحللت عقدك وأنصرفت إلى العراق فاطلب هذا المجوسي بهرام وبشره بما قلت لك فانتبهت أيضاً مرعوباً واستعذت بالله واستغفرته وتفكرت ساعة فغلبني النوم فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ثالث مرة وهو يقول يا ابن المبارك أنا محمد رسول الله فلا ترتبك في ذلك وامتثل أمري فهو حق فقلت يا رسول الله أريد بذلك علامة ألقاه بها فأخذ رسول كفي بيمينه ثم قال: يا ابن المبارك هذا المجوسي شيخ زمنٌ قد أتى عليه مائة وأربعون سنة وقد ضعف بصره وثقل سمعه وأبيض شعره ودق عظمه ويبس عصبه وجلده فإذا أتيته وسلمت عليه وبشرته بما قلت لك وطلب منك علامة فأمسح بيدك هذه التي أخذتها بيميني على رأسه ومر بها على وجهه وسائر جسده وبدنه فإنه يعود شاباً ويرجع إليه بصره وسمعه ويسود شعره ويطرى جسده ويقوى عصبه وتعود إليه قوته فانتبهت وأنا كالولهان فلما أن قضيت حجي وحللت عقدي وانصرفت إلى العراق ودخلت بغداد سألت عن دار المجوسي فقلت يا غلام استأذن لي على مولاك فقال الغلام أغريب أنت قلت أجل قال أدخل ليس هنا من يحجبك قال فدخلت إلى دار لم أرّ مثلها وإذا بكتبة ومجوس وصياريف قعود وهم يقبضون الرهون ويعطون الدنانير والدراهم فقلت يا قوم افيكم بهرام فقيل أدخل الدار الثانية فدخلتها فإذا ليس بينها وبين الدار الأولى نسبة بل تفاوت وإذا بشيخ قاعد على دست ومرتبة على الصفة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله جماعة من الكتاب والحساب وبين أيديهم الدنانير والدراهم كالبيادر الصغار وهم في الحساب فسلمت كما أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فرد علي السلام وكان قد شد حاجبه بعصابة فرفعها عن عينه ثم قال من الرجل قلت عبد الله بن المبارك فقال مرحباً بك لقد شممت بك رائحةً زال بها الهم عن قلبي أدنُ من فجلست إلى جانبه فقال هل لك من حاجة قلت نعم قال وما هي قلت أرى أن أخلو بك ساعة فقال نعم وأمر من هناك بالخروج فتهيأوا ثم خرجوا فبقيت أنا وهو وثلاثة شبان قلت هؤلاء أصرفهم يا بهرام كم تعد من السنين قال أعد مائة وأربعين سنة قلت فهل تعرف أنك عملت شيئاً استوجبت به من الله الجنة قال لا أدري إلا أني رزقت ثلاثة بنين وثلاث بنات فزوجت بعضهم من بعض وأعطيت مهروهن من عندي وافردت لكل واحد منهم مالاً وداراً وعقارات قلت لا تستوجب الجنة بل تستوجب النار فهل عملت شيئاً صالحا لآخرتك قال قسمت ليلي ثلاثة أجزاء أما الجزء الأول فإني أقعد للمساهرة وتُقرأ عليَّ سير الأول فانفرج بذلك والجزء الثاني أعبد فيه النار وأسجد لها من دون الله الواحد القهار والجزء الثالث أفكر فيه في أمر معاشي ومعادي وأمنع نفسي عن النوم في ذلك الجزء فإن النوم فيه جهل وخمول ودماء إلا لضرورة فقلت هل لك فعل غير هذا قال لا قلت يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد فيم استحقيت يا بهرام الجنة قال ويحك يا بن المبارك أتقطع لي بالجنة وأنت عالم المسلمين من أخبرك بذلك قلت أخبرني الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم قال فما القصة فحدثته بالمنام الذي رأيته وبما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فقال يا بن المبارك وهل لذلك علامة ظاهرة قلت نعم أدنُ مني فدنا فمسحت بيدي رأسه ووجهه وصدره وبدنه وأولاده ينظرون فصار شاباً حسناً طرياً سميعاً بصيراً وأسود شعره وأبيضت بشرته فلما عاين ذلك قال أمدد يدك يا شيخ أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم قال يا شيخ أأخبرك السبب الذي أوجب الله لي به هذه المنزلة قلت نعم قال كنت من مدة قد أولمت وليمة عامة للمسلمين والنصارى

واليهود والمجوس على خاصة فأكلوا وانصرفوا وانقضت الوليمة فلما كان في بعض الليل طرق طارق الباب وقد هدأ الناس ونام الخدم لما أصابهم من التعب بسبب الوليمة وأنا جالس منتبه فقلت من بالباب فقالت يا بهرام أنا امرأة من جيرانك فاوقد لي هذا السراج قال بهرام والمجوس لا ترى إخراج النار من بيوتهم ليلاً فتحيرت في أمري وقمت ولم أنبه أحداً فاسرجت لها السراج فانصرفت وأطفأت السراج وعادت وقالت يا بهرام قد انطفأ فاسرجه لي فلما أسرجته قالت يا بهرام والله ما جئتك لأجل سراج ولكن جئتك من أجل ثلاث بنات شممن روائح طعامك فهن ملقيات على وجوههن يتضاوون كالمرأة الثكلى أو كالحبة في المقلى فإن كان قد بقي في دارك فضل طعام فأعطني فإنك إن شاء الله تملك بذلك الجنة فقلت حباً وكرامة فأخذت منديلاً كبيراً فجعلت فيه من كل شيء كان في البيت من الحلو والحامض وأخرجت كيساً فيه ألف دينار وكيسا فيه ستة آلاف درهم وستة أثواب من ديباج وستة أثواب مروزية وشددت الجميع وقلت أحملي هذا إلى عيالك واقسمي عليهم فمدت يدها فلم تطق حمله لضعفها فقالت يا بهرام أعني أعانك الله على الوقوف بين يديه وخفف عليك الحساب في ذلك اليوم الشديد فقلت يا هذه كيف أفعل وأنا شيخ كبير وقد مضى عليَّ مائة ونيف وثلاثون سنة ثم تفكرت لحظة وطاب لذلك قلبي فقلت لها شيلي على رأسي فشالته واستقل على رأسي فسال لذلك عرقي حتى صرت في منزلها فحططت الطعام ووضعت الرزمة وجعلت ألقم البنات إلى أن شبعن ونشطن ثم قسمت عليهن الثياب والدراهم والدنانير ففرحن وتبسمن فلما أردت القيام قلن بأجمعهن يا برهام أصلح الله لك أمورك وأدام سرورك كما أصلحت أمورنا وأدمت سرورنا وفرحك يوم القيامة كما فرحتنا وختم لك بخير وأنزلك أقرب قصر من قُصُر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دار الجنان وأنا أقول آمين وما زلت أرجو استجابة دعائهن قلت يا بهرام أبشر فإن الله حقق لك ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحقر من المعروف شيئا ولو أنك تفرغ من دلوك في إناء أخيك ماء قال عبد الله بن المبارك فتصدق بهرام في ذلك اليوم بمائة ألف درهم وبمائة ألف دينار وبمائة ألف ثوب مروزيات وبألفي ثوب ديباج وفرق سائر أمواله على أولاده وبناته وأسلموا جميعاً وتفرق الأخوة عن الأخوات وزوج أولاده بالمسلمات وبناته بالمسلمين وأسلم في ذلك اليوم خلق كثير من المجوس ثم انفرج عن أهله ولزم المحراب يعبد الله فلم يلبث إلا قليلاً حتى توفي رحمة الله عليه ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.د والمجوس على خاصة فأكلوا وانصرفوا وانقضت الوليمة فلما كان في بعض الليل طرق طارق الباب وقد هدأ الناس ونام الخدم لما أصابهم من التعب بسبب الوليمة وأنا جالس منتبه فقلت من بالباب فقالت يا بهرام أنا امرأة من جيرانك فاوقد لي هذا السراج قال بهرام والمجوس لا ترى إخراج النار من بيوتهم ليلاً فتحيرت في أمري وقمت ولم أنبه أحداً فاسرجت لها السراج فانصرفت وأطفأت السراج وعادت وقالت يا بهرام قد انطفأ فاسرجه لي فلما أسرجته قالت يا بهرام والله ما جئتك لأجل سراج ولكن جئتك من أجل ثلاث بنات شممن روائح طعامك فهن ملقيات على وجوههن يتضاوون كالمرأة الثكلى أو كالحبة في المقلى فإن كان قد بقي في دارك فضل طعام فأعطني فإنك إن شاء الله تملك بذلك الجنة فقلت حباً وكرامة فأخذت منديلاً كبيراً فجعلت فيه من كل شيء كان في البيت من الحلو والحامض وأخرجت كيساً فيه ألف دينار وكيسا فيه ستة آلاف درهم وستة أثواب من ديباج وستة أثواب مروزية وشددت الجميع وقلت أحملي هذا إلى عيالك واقسمي عليهم فمدت يدها فلم تطق حمله لضعفها فقالت يا بهرام أعني أعانك الله على الوقوف بين يديه وخفف عليك الحساب في ذلك اليوم الشديد فقلت يا هذه كيف أفعل وأنا شيخ كبير وقد مضى عليَّ مائة ونيف وثلاثون سنة ثم تفكرت لحظة وطاب لذلك قلبي فقلت لها شيلي على رأسي فشالته واستقل على رأسي فسال لذلك عرقي حتى صرت في منزلها فحططت الطعام ووضعت الرزمة وجعلت ألقم البنات إلى أن شبعن ونشطن ثم قسمت عليهن الثياب والدراهم والدنانير ففرحن وتبسمن فلما أردت القيام قلن بأجمعهن يا برهام أصلح الله لك أمورك وأدام سرورك كما أصلحت أمورنا وأدمت سرورنا وفرحك يوم القيامة كما فرحتنا وختم لك بخير وأنزلك أقرب قصر من قُصُر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دار الجنان وأنا أقول آمين وما زلت أرجو استجابة دعائهن قلت يا بهرام أبشر فإن الله حقق لك ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحقر من المعروف شيئا ولو أنك تفرغ من دلوك في إناء أخيك ماء قال عبد الله بن المبارك فتصدق بهرام في ذلك اليوم بمائة ألف درهم وبمائة ألف دينار وبمائة ألف ثوب مروزيات وبألفي ثوب ديباج وفرق سائر أمواله على أولاده وبناته وأسلموا جميعاً وتفرق الأخوة عن الأخوات وزوج أولاده بالمسلمات وبناته بالمسلمين وأسلم في ذلك اليوم خلق كثير من المجوس ثم انفرج عن أهله ولزم المحراب يعبد الله فلم يلبث إلا قليلاً حتى توفي رحمة الله عليه ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

روي عن سعد بن سعيد أنه قال كان في جوار معروف الكرخي رجل مجوسي من أبناء الأغنياء وجد الخليفة عليه فصادره وأخذ منه ألف ألف دينار فافتقر بعد الغنى وذل بعد العز وكان له أعداء وحساد فقالوا للخليفة أنه قد بقي له مال جسيم فلا تظن أنه عديم فأمر بمصادرته ثانياً فلما علم المجوسي ذلك دخل بيت النار وقصد ما كان يعبد من دون الجبار وقال إن لم تخلصيني آمنت برب معروف فلم يجبه أحد ولم ينتفع بسجوده للنار ولا للنور فلما جنَّ عليه الليل اغتسل وأتى مسجد معروف الكرخي فلم يجده في المسجد فرفع رأسه وقال يا إله إبراهيم عيسى ومحمد وإله معروف ويما من لا إله إلا هو تحققت أن ما عبدته من دونك باطل لا يضر ولاينفع وإني جئتك تائباً مما فعلت متبرئاً مما عبدت منفصلا عما اعتقدت موقنا بك شاهداً بأن لا إله إلا أنت إله الأولين والآخرين وأنت المعبود الحق تفعل ما تشاء ولا يكون إلاما تريد إنك على كل شيء قدير فأغفر لي ما تقدم من ذنبي وجهلي وإسرافي ولا تنظر إلى سوء عملي ومعصيتي واصرف شر الخليفة وأعوانه عني فقد وجهت وجهي إليك ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله يا محمد تشفعت بك إلى الله فاقبلني ثم سجد وأطال سجوده وهو يناجي ربه ويبكي فأتى معروف المحراب فرآه كذلك فبقي متفكراً في أمره لا يتحقق من هو وإذا هو بغلام من خواص الخليفة قد دخل المسجد يسأل عن المجوسي بإسمه ونسبه فقال معروف بيته في موضع كذا وكذا فقال من هناك جئت وقيل لي إنه في مسجد معروف فوالله لا بأس عليه فإن الخليفة قد بعثني إليه برسالة لطيفة تسر قلبه وهو منتظره على أن يؤمنه ويرد عليه ما أخذه منه وكفى بالله شهيداً فقال معروف لست أرى في المسجد أحداً يشبه من تذكره إلا هذا الساجد لله المناجي لربع فاصبر له حتى يرفع رأسه فوقف صاحب الخليفة على رأسه ساعة ثم قال يا هذا ارفع رأسك ولا تبك أمير المؤمنين قد قضى حاجتك وبعثني برسالة لطيفة لتسير إليه حتى يرد عليك ما أخذه منك فرفع رأسه وإذا معروف واقف فقال يا معروف ما أكرم هذا الباب وما أحلم صاحبه وما أقربه إلى من دعاه ثم قال يا معروف أمدد يدك إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وإني رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولاً وأن القرآن كلام الله جاء به محمد بن عبد الله وأنا مؤمن بذاك كله ثم تبع الرسول وذهب معروف الكرخي معه فلما وصلوا إلى دار الخليفة وإذا به واقف على الباب فاستقبلهما وسلم عليهما وصافح كلا منهما ومشى معهما إلى مجلسه وأقعدهما إلى جانبه واقبل يعتذر إليهما مما وقع منه وأمر بالأموال التي أخذت من المجوسي فأحضرت بين يديه عن آخرها ثم قال له تأمل هذه الأموال أليست هي التي أخذت منك قال نعم قال فخذها بارك الله فيها واجعلني في حل ما وقع مني واستغفر الله لي فقال يعفر الله لك ثم قال يا أمير المؤمنين أما الأموال فهي لك حلال بعد أن هداني الله إلى دين الإسلام ولكن أعلمني ما الذي دعاك إلى طلبي في هذا الوقت قال نعم كنت نائماً وإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليَّ ومعه صف من الملائكة وصف من الصحابة فسلم علي وقال إن الله تبارك وتعالى يقرئك السلام ويقول لك إن عبدنا فلاناً المجوسي كنا قد دعوناه في الذرا فأجابنا وكان في المجوسية مستتراً ولنا معه عناية وقد جاء الآن إلّي تائباً وهو في مسجد معروف الكرخي مستجيراً بجانبنا منك فإبعث في طلبه ورد عليه ما أخذ منه ولا تقطع المعاملة بيننا فانتبهت مرعوباً فأرسلت في طلبك وها هو مالك قد رددناه عليك ودفعناه إليك فخر الرجل ساجداً لله تعالى ثم رفع رأسه وبكى وقال واندماه وأسفاه والهفاه كيف تركت عبادة الرحمن الرحيم واشتغلت بعبادة النيران وضيعت العمر والزمان ثم قال يا أمير المؤمنين لا حاجة لي في هذا المال خذه فهو حلال لك فقال أمير المؤمنين لا أرجع بشيء أمرني ربي بإخراجه فقال يا أمير المؤمنين لا حاجة لي في المال أشهد أني قد جعلته صدقة في فقراء المسلمين لا حظ لي فيه ولا لأحد من أهلي فقال الخليفة لمعروف بقي الأمر إليك فإحمل المال وتصدَّق به على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأيتام والأرامل فدعا له معروف وأخذ بد الرجل وحمل المال على البغال وصافحهما أمير المؤمنين وسأل الرجل أن يحالله

عما وقع منه ولازم الرجل معروفاً الكرخي إلى أن مات تغمده الله برحمته. وقع منه ولازم الرجل معروفاً الكرخي إلى أن مات تغمده الله برحمته.
وحكي عن معن بن زائدة الشيباني إن شاعراً قصده فأقام مدة يريد الدخول إليه فلم يتهيأ له ذلك فلما أعياه ذلك قال لبعض خدمه إذا دخل الأمير البستان فعرفني فلما دخل معن البستان عرَّفه الخادم عنه فكتب الشاعر بيتا من الشعر على خشبة وألقاها في الماء الداخل إلى البستان فإتفق أن معنا كان جالساً في ذلك الوقت على رأس الماء فمرت به فأخذها فإذا فيها كتابة فقرأها وهي:
أيا جود معنٍ ناج معناً بحاجتي ... فمالي إلى معنٍ سواك شفيعُ
فقال من صاحب هذه فدعي بالرجل فقال له كيف قلت فأنشد البيت فأمر له بمائة ألف درهم فأخذها وأخذ الأمير الخشبة فوضعها تحت بساطه فلما كان اليوم الثاني قرأها ودعا بالرجل فدفع له مائة ألف درهم على العادة ثم دعاه ثالث مرة فقرأ البيت ودفع له مائة ألف درهم فلما أخذ الجائزة الثالثة خشي الشاعر أن يندم فيأخذ منه ما دفع إليه فسافر فلما كان في اليوم الرابع طلبه معن فلم يجده فقال معن حق عليَّ لو مكث لأعطينه حتى لا يبقى في بيتي درهم ولا دينار.
وحكي عنه أيضاً أنه أتى بجملة من الأسرى فعرضهم على السيف فقال له بعضهم أصلح الله الأمير نحن أسراك وبنا جوع وعطش فلا تجمع علينا الجوع والعطش والقتل فأمر لهم بطعام وشراب فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم فلما فرغوا قال الرجل أصلح الله الأمير كنا أسراك ونحن الآن أضيافك فأنظر ما تصنع بأضيافك قال قد عفوت عنكم فقال الرجل أيها الأمير ما ندري أي يوم أشرف يوم ظفرك بنا أو يوم عفوك عنا فأمر لهم بمال وكسوة.
وحكي أن المنصور أهدر دم رجل كان يسعى في فساد دولته من الخوارج من أهل الكوفة وجعل لمن دل عليه وجاء به مائة ألف درهم ثم ظهر في بغداد فينما هو يمشي مختفياً في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأخذ بمجامع ثيابه وقال هذا بغية أمير المؤمنين فبينما الرجل على تلك الحالة إذ سمع وقع حوافر الخيل فالتفت فإذا معن بن زائدة فقال يا أبا الوليد أجرني أجراك الله فوقف وقال للرجل المتعلق به ما شأنك قال بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وجعل لمن دل عليه وأتى به مائة ألف درهم فقال دعه يا غلام أنزل عن دابتك وأحمل الرجل عليها فصاح الرجل بالناس وقال أيحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين فقال له معن أذهب إليه وأخبره أنه عندي فانطلق إلى باب المنصور فأخبره فأمر المنصور بإحضار معن فلما أتى الرسول إلى معن دعا أهل بيته ومواليه وقال أعزم عليكم لا يصل إلى هذا الرجل مكروه وفيكم عين تطرف ثم سار إلى المنصور فدخل عليه وسلم عليه فلم يرد عليه السلام وقال يا معن أتتجرأ عليَّ قال نعم يا أمير المؤمنين قال ونعم أيضاً وأشتد غضبه فقال يا أمير المؤمنين مضت أيام كثيرة قد عرفتم فيها حسن بلائي في خدمتكم فما رأيتموني أهلا أن يوهب إليَّ رجل واحد استجار بي بين الناس وتوسَّم أني عند أمير المؤمنين من بعض عبيده وكذلك أنا فمر بما شئت ها أنا بين يديك فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقد سكن ما به من الغضب وقال قد أجرنا من أجرت يا معن قال فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بين الأجرين فيأمر له بصدقة فيكون قد أحياه وأغناه قال قد أمرنا له بخمسين ألف درهم قال يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة قال قد أمرنا له بمائة ألف درهم قال فعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر تعجيله فإنصرف معن بالمال للرجل وقال له خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله في أمورهم.

وحكى الجاحظ قال أخبرني فتى من أصحاب الحديث قال دخلت ديراً في بعض المنازل لما ذكر لي أن به راهباً حسن المعرفة بإخبار الناس وأيامهم فسرت له لأسمع كلامه فوجدته في حجرة معتزلة بالدير وهو على أحسن هيئة في زي المسلمين فكلمته فوجدت عنده من المعرفة أكثر مما وصفوا فسألت عن سبب إسلامه فحدثني أن جارية من بنات الروم كانت في هذا الدير نصرانية كثيرة المال بارعة الجمال عديمة الشكل والمثال فأحبت غلاماً مسلماً خياطاً وكانت تبذل له مالها ونفسها والغلام يعرض عن ذلك ولا يلتفت إليها وامتنع عن المرور بالدير فلما أعيتها الحيلة فيه طلبت رجلاً ماهراً في التصوير وأعطته مائة دينار على أن يصور لها صورة الغلام في دائرة على شكله وهيئته ففعل المصور فلم تخطىء الصورة شيئاً منه غير النطق وأتى بها إلى الجارية فلما أبصرتها أغمي عليها فلما أفاقت أعطت المصور مائة دينار أخرى وأخرج الراهب لي الصورة فرأيتها فكاد أن ينزل عقلي فلما خلت الجارية بالصورة رفعتها إلى حائط حجرتها وما زالت كل يوم تأتي الصورة وتقبلها وتلثم ما تحب منها ثم تجلس بين يديها وتبكي فإذا امست فما زالت على تلك الحال شهراً فمرض الغلام ومات فعملت الجارية مأتماً وعزاء سار ذكره في الآفاق وصارت مثلاً بين الناس ثم رجعت إلى الصورة وصارت تلثمها وتقبلها إلى أن أمست فماتت إلى جانبها فلما أصبحنا دخلنا عليها لنأخذ من خاطرها فوجدناها ميتة ويدها ممدودة إلى الحائط نحو الصورة وقد كتب عليه هذه الأبيات:
يا موتُ حسبك نفسي بعد سيّدها ... خذها إليك فقد أودت بما فيها
أسلمت وجهي إلى الرحمن مسلمةً ... ومتُّ حبيبٍ كان يعصيها
لعلّها في جنان الخلد يجمعها ... بمن تحبُّ غداً في البعث باريها
مات الحبيب وماتت بعده كمداً ... محبّةٌ لم تزل تُشقي محبّيها
قال الراهب فشاع الخبر وحملها المسلمون ودفنت إلى جانب قبر الغلام فلما أصبحنا دخلنا حجرتها فرأينا تحت شعرها مكتوباً:
اصبحت في راحةٍ مما جنته يدي ... وصرت جارة ربٍّ واحدٍ صمد
محا الإله ذنوبي كلّها وغدا ... قلبي خليّاً من الأحزان والكمد
لما قدمت إلى الرحمن مسلمةً ... وقلت: إنّك لم تولد ولم تلد
أثابني رحمةً منه ومغفرةً ... وأنعماً باقياتٍ آخر الأبد
قيل اجتمع الصوفية إلى أبي القاسم الجُنيد، وقالوا يا أستاذ أنخرج ونسعى في طلب الرزق قال لهم إن علمتم أين هو فاطلبوه فنسأل الله أن يرزقنا قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا فنجلس إذاً ونتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة.

قيل اجتمع أربعة من الأئمة الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ومحمد بن الحكم رضي الله عنهم عند أحمد بن حنبل يتذاكرون فصلوا صلاة المغرب وقدموا الشافعي ثم ما زالوا يصلون في المسجد إلى أن صلوا العتمة ثم دخلوا بيت أحمد بن حنبل ودخل أحمد على امرأته ثم خرج على أصحابه وهو يضحك فقال الشافعي مم تضحك يا أبا عبد الله قال خرجت إلى الصلاة ولم يكن في البيت لقمة من طعام والآن فقد وسع الله علينا قال الشافعي فما سببه قال أحمد قالت لي أم عبد الله أنكم لما خرجتم إلى الصلاة جاء رجل عليه ثياب بيض حسن الوجه عظيم الهيئة ذكي الرائحة فقال يا أحمد بن حنبل فقلنا لبيك فقال هاكم خذوا هذا فسلم إلينا زنبيلاً أبيض وعليه مندل طيب الرائحة وطبق مغطى منديل آخر وقال كلوا من رزق ربكم وأشكروا له فقال الشافعي يا أبا عبد الله فما في الزنبيل والطبق فقال عشرون رغيفاً قد عجنت باللبن واللوز المقشور أبيض من الثلج وأذكى من المسك ما رأى الراءون مثله وخروف مشوي مزعفر حار وملح في سكرجة وخل في قارورة على الطبق وبقل وحلواء متخذة من سكر طبرزد ثم أخرج الكل ووضعه بين أيديهم فتعجبوا من شأنه وأكلوا ما شاء الله قال فلم تذهب حلاوة ذلك الطعام والحلواء مدة طويلة وكل من أكل من ذلك الطعام ما أحتاج إلى طعام غيره مدة شهر فلما أن فرغوا من الأكل حمل أحمد ما بقي منه وأدخله إلى أهله فأكلوا وشبعوا وبقي منه شيء فأجمع رأيهم على أن الطعام كان من غيب الله وأن الرسول كان ملكاً من الملائكة قال صالح بن حنبل ما أصابتنا مجاعة قط ما دام ذلك الزنبيل في بيتنا وكان يأتينا الرزق من حيث لا تحتسب رضي الله عنهم وأعاد علينا من بركاتهم.
قيل أن عبد الله بن معمر القيسي كان أميراً من أمراء العرب وكان بطلا شجاعاً جواداً ذا مروءة وافرة قال حججت سنة من السنين إلى بيت الله الحرام وصحبت مالاً كثيراً ومتجراً عزيزاً، فلما قضيت حجي عدت لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبينما أنا ذات ليلة بين القبر والمنبر في الروضة إذا سمعت أنيناً عالياً وحسَّاً بادياً فانصت إليه فإذا هو يقول:
أشجاك نوحُ حمائم الدرِّ ... فأهجن منك بلابلَ الصدر
أم ذاد نومك ذكر غانيةٍ ... أهدت إليك وساوس الفكر
في ليلةٍ نام الخليُّ بها ... وخلفت بالأحزان والذكر
يا ليلةً طالت على دنفٍ ... يشكو الغرام وقلّة الصبّر
أسلمت من يهوى لحرِّ جوىً ... متوقّدٌ كتوقُّدِ الجمر
فالبدر يشهد أنّني دنفٌ ... بجمال حبِّ مشبّه البدر
قال ثم أنقطع الصوت ولم أر من أين جاء فبهت حائراً وإذا به قد أعاد البكاء والنحيب وهو يقول:
أشجاك من ريّا خيالُ زائرٌ ... والليل مسودُّ الذوائب عاكرُ
وأعتاد مهجتك الهوى فأبادها ... وأهتاج مقلتك المنام البائر
ناديت ليلى والظلام كأنّهُ ... يمٌّ تلاطم فيه موجٌ زاخر
والبدر يسري في السماء كأنّه ... ملكٌ تبدّى والنجوم عساكر
وإذا تعرضت الثريا خلتها ... كأساً بها حبُّ السلافة دائر
وترى يد الجوزاء ترقص في الدجا ... رقص الحبيب علاه سكرٌ ظاهر

يا ليل طلت على حبيبٍ مالهإلاَّ الصباح مؤازر ومسامرفأجابني متْ حتف أنفك وأعلمنْأنَّ الهوى لهو الهوان الحاضرقال عبد الله فنهضت عند ابتدائه بالأبيات أؤم الصوت فما انتهى إلى آخرها إلا وأنا عنده فرأيت غلاماً جميلاً قد نزل عذاره لكن قد علا محاسنه الإصفرار والدموع تجري على خده كالأمطار فقال نعمت ظلاما من الرجل قلت عبد الله بن معمر القيسي فقال ألك حاجة يا فتى قلت إني كنت جالساً في الروضة فما راعني في هذه الليلة إلا صوتك فبنفسي أقيك وبروحي أفديك وبمالي أواسيك ما الذي تجد قال إن كان ولابد فاجلس فجلست فقال أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري غدوت إلى مسجد الأحزاب ولم أزل فيه راكعاً ساجداً ثم اعتزلت غير بعيد فإذا نسوة يتهادين كأنهن القطا وفي وسطهن جارية بديعة الجمال في نشرها بارعة الكمال في عصرها نورها ساطع يتشعشع وطيبها عاطر يتضوَّع فوقفت عليَّ وقالت يا عتبة: ما تقول في وصل من طلب وصلك ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبراً ولا قفوت لها أثراً فأنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان ثم صرخ صرخة عظيمة وأكبَّ على الأرض مغشياً عليه ثم أفاق بعد ساعة وكأنما صبغت ديباجة خده بورس وأنشد يقول:
أراك بقلبي من بلادٍ بعيدةٍ ... تُراكَمْ تروني بالقلوب على بعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكُمُ ... وعندِكُمُ روحي وذكركم عندي
ولست ألذُّ العيش حتى أراكُمُ ... ولو كنت في الفردوس أو جنّة الخلد
قال فقلت يا أخي تب إلى ربك واستقل من ذنبك واتق هول المطلع وسوء المضجع فقال هيهات هيهات ما أنا مبال حتى يكون ما يكون ولم أزل به إلى طلوع الصباح فقلت له قم بنا إلى مسجد الأحزاب فلعل الله أن يكشف عنك ما بك قال أرجو ذلك ببركة طلعتك إن شاء الله فنزلنا إلى أن وردنا مسجد الأحزاب فسمعته يقول:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفكُّ يحدث لي بعد النهى طربا
ما إن يزال غزالٌ فيه يظلمني ... يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخمِّنُ الناس أن الأجر هَّمته ... وما أنا طالباً للأجر مكتسبا
لو كان يبغي ثواباً ما أتى ظهراً ... مضمَّخاً بفتيت المسك مختضبا
فجلسنا ثم حتى صلينا به الظهر فإذا النسوة أقبلن وما الجارية بينهن فلما بصرن به قلن يا عتبة وما ظنك بطالبة وصالك وكاسفة بالك قال وما لها قلن قد أخذها أبوها وأرتحل بها إلى السماوة فسالتهن عن الجارية فقلن هي ريا ابنة الغطريف السلمي فرفع الشاب رأسه إليهن وأنشد يقول:
خليليَّ ريّا قد أجدّ بكورها ... وسار إلى أرض السماوة عيرُها
خليليَّ ما تقضي بها أمُّ مالكٍ ... عليَّ فما يعدو عليَّ أميرها
خليليَّ إنيّ قد خشيت من البكا ... فهل عند غيري مقلٌ أستعيرها

فقلت يا عتبة طب قلبا وقر عينا فقد وردت الحجاز بمال جزيل وطرف وتحف وقماش ومتاع أريد به أهل السفر ووالله لأبذلنه أمامك وبين يديك وفيك وعليك حتى أوصلك إلى المنى وأعطيك الرضا وفوق الرضا فقم بنا إلى مجلس الأنصار فقمنا حتى أشرفنا على ناديهم فسلمت فأحسنوا الرد ثم قلت أيها الملأ الكرام ما تقولون في عتبة وأبيه قالوا خيراً إنّه من سادات العرب قلت فإنه قد رمى بفؤاده الجوى وما أريد منكم إلا المعونة فركبنا وركب القوم حتى أشرفنا على منازل بني سليم من السماوة فقلنا أين منزل الغطريف فخرج بنفسه مبادراً فاستقبلنا استقبال الكرام وقال حييتم بالأكرام والرحب والأنعام قلنا وأنت حييت ثم حييت أتيناك أضيافاً قال نزلتم أفضل معقل ثم نادى يا معشر العبيد أنزلوا القوم وسارعوا إلى الأكرام ففرشت في الحال الأنطاع والنمارق والزرابي فنزلنا وأرحنا ثم ذبحت الذبائح ونحرت النحائر وقدمت الموائد فقلنا يا سيد القوم لسنا بذائقين لك طعاماً حتى تقضي حاجتنا وتردنا بمسرتنا قال وما حاجتكم أيها السادة قلنا نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن الحباب ابن المنذر الطيب العنصر العالي المفخر فأطرق وقال يا أخوتاه إن التي تخطبونها أمرها إلى نفسها وها أنا داخل إليها أخبرها ثم نهض مغضباً فدخل على ريّا وكانت كاسمها فقالت يا أبتاه إني أرى الغضب بيِّناً عليك فما الخبر قال لها ورد الأنصار يخطبونك مني قالت سادات كرام وأبطال عظام استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم فلمن الخطبة منهم قال لفتى يعرف بعتبة بن الحباب قالت بالله لقد سمعت عن عتبة هذا أنه يفي بما وعد ويدرك إذا قصد ويأكل ما وجد ولا ياسف على ما فقد قال الغطريف أقسم بالله لا أزوجك به أبداً فقد نما إليَّ بعض حديثك معه فقالت ما كان ذلك ولكن إذ أقسمت فإن الأنصار لا يردون مرداً قبيحاً فأحسن لهم الرد وأدفع بالتي هي أحسن قال يا ريَّا فأي شيء أقول قالت أغلظ لهم المهر ما استطعت فإنهم يرجعون ولا يجيبون وقد أبررت قسمك وبلغت مأربك وراعيت أضيافك قال ما أحسن ما قلت ثم خرج مبادراً فقال يا إخوتاه إن فتاة الحي قد أجابت ولكن أريد لها مهراً مثلها فمن القائم به قال عبد الله فقلت أنا القائم بما تريد فقال أريد ألف مثقال من الذهب الأحمر قلت لك ذلك قال وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر قلت لك ذلك قال ومائة ثوب من الأبراد والحبر قلت لك ذلك قال وعشرين ثوباً من الوشي المطرز قلت لك ذلك قال وأريد خمسة أكرشة من العنبر قلت لك ذلك قال وأريد مائة نافجة من المسك الأذفر قلت لك ذلك قال فهل أجبت قلت أجل ثم أجل قال عبد الله فأنفذت نفراً من الأنصار أتوا بجميع ما ضمنته وذبحت النعم والغنم واجتمع الناس لأكل الطعام فأقمنا هناك نحو أربعين يوما على هذا الحال ثم قال الغطريف يا قوم خذوا فتاتكم وانصرفوا مصاحبين السلامة ثم حملها في هودج وجهز معها ثلاثين راحلة عليها التحف والطرف ثم دعنا ورجع فسرنا حتى إذا بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة وأحسب أنها من بني سليم فحمل عليها عتبة بن الحباب فقتل منها عدة من رجالها وردها وانحرف راجعاً وبه طعنة تفور دما حتى سقط إلى الأرض فلم يلبث عتبة أن قضى نحبه فقلنا يا عتباه فسمعت الجارية فألقت نفسها عليه وجعلت تقبله وتصيح بحرقة وتقول:
تصبّرت لا إني صبرت وإنّما ... أعلل نفسي إنّها بك لاحقه
ولا أنصفت نفسي لكانت إلى الردى ... أمامك من دون البريّة سابقه
فما واحدٌ بعدي وبعدك منصفٌ ... خليلاً ولا نفسٌ لنفسٍ مصادقه
ثم شهقت شهقة واحدة قضت فيها نحبها فاخترنا لهما مكانا وجدثا وواريناهما فيه ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين بعدها ثم عدت إلى الحجاز ووردت إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت والله لأعودن إلى قبر عتبة فأزوره فأتيت إلى قبر فإذا عليه أوراق شجرة نابتة عليها أوراق حمر وصفر وخضر وبيض فقلت لأرباب الجهة ما يقال لهذه الشجرة فقالوا شجرة العروسين فأقمت عند القبر يوما وليلة وانصرفت.
وحكي أن شخصا جاء إلى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي رحمه الله تعالى سلطان العلماء فقال رأيتك في المنام تنشد:

وكنت كذي رجلين رجلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رمى فيها الزمان فشُلّتِ
فسكت، ثم قال أعيش ثلاثا وثمانين سنة فإن هذا الشعر لكثير عزة وقد نظرت فلم أجد بيني وبينه نسبة فإني سنّي وهو شيعي وأنا طويل وهو قصير وهو شاعر ولست بشاعر وأنا سلمي وهو خزاعي وأنا شامي وهو حجازي فلم يبق إلا السن فأعيش مثله فكان كذلك انتهى.
ومن ظرف ما يحكى أن الجاحظ قال عبرت يوما على معلم كتاب فوجدته في هيئة حسنة وقماش مليح فقام إليّ وأجلسني معه ففاتحته في القرآن فإذا هو ماهر ففاتحته في شيء من النحو فوجدته ماهرا ثم أشعار العرب واللغة فإذا به كامل في جميع ما يراد منه فقلت قد وجب عليَّ تقطيع دفتر المعلمين فكنت كل قليل أتفقده وأزوره قال فأتيت بعض الأيام إلى زيارته فوجدت الكتاب مغلقا فسألت جيرانه فقالوا مات عنده ميت فقلت أروح أعزيه فجئت إلى بابه فطرقته فخرجت إليَّ جارية وقالت ما تريد قلت مولاك فقالت مولاي جالس وحده في العزاء ما يعطي لأحد الطريق قلت قولي له صديقك فلان يطلب يعزيك فدخلت وخرجت وقالت بسم الله فعبرت إليه فإذا هو جالس وحده فقلت أعظم الله أجرك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهذا سبيل لا بد منه فعليك بالصبر ثم قلت أهذا الذي توفي ولدك قال لا قلت فوالدك قال لا قلت فأخوك قال لا قلت فمن قال حبيبتي فقلت في نفسي هذا أول المناحس وقلت له سبحان الله تجد غيرها وتقع عينك على أحسن منها فقال وكأني بك وقد ظننت أني رأيتها فقلت في نفسي هذه منحسة ثانية ثم قلت وكيف عشقت من لا رأيته فقال أعلم أني كنت جالسا وإذا رجل عابر يغني وهو يقول:
يا أمَّ عمروٍ جزاك الله مكرمةً ... ردّي عليَّ فؤادي أينما كانا
فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان الشعراء يتغزلون فيها فلما كان بعد يومين عبر عليَّ ذلك الرجل وهو يغني ويقول:
إذا ذهب الحمارُ بأمِّ عمروٍ ... فلا رجعت ولا رجع الحمارُ
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وقعدت في العزاء منذ ثلاثة أيام فقال الجاحظ فعادت عزيمتي وقويت على كتابة الدفتر لحكاية أم عمرو.

ومن غريب ما يحكى ما حكاه القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة: أنّ منارة صاحب الخلفاء قال رفع إلى هارون الرشيد أن رجلا بدمشق من بقايا بني أمية عظيم المال كثير الجاه مطاع له في البلدان جماعة وأولاد ومماليك وموال يركبون الخيول ويحملون اليلاح ويغزون الروم وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة وأنه لا يؤمن من فتق يبعد رتقه فعظم ذلك على الرشيد قال الرشيد قال منارة وكان وقوف الرشيد على هذا وهو بالكوفة في بعض حججه في سنة 186 وقد عاد من الموسم وبايع للأمين والمأمون والمؤتمن أولاده فدعاني وهو خال وقال أني دعوتك لأمر يهمني وقد منعني النوم فانظر كيف تعمل ثم قص علّي خبر الأموي وقال أخرج الساعة فقد أعددت لك الجائزة والنفقة والآلة ويضم إليك مائة غلام واسلك البرية وهذا كتبي إلى أمير دمشق وهذه قيود فادخل فأبدأ بالرجل فإن سمع وأطاع فقيده وجئني به وإن عصى فتوكل به أنت ومن معك وأنفذ هذا الكتاب إلى نائب الشام ليركب في جيشه ويقبضوا عليه وجئني به وقد أجلتك لذهابك ستا ولمجيئك ستا وهذا محمل تجعله في شقة إذا قيدته وتقعد أنت في الشق الآخر ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها وأهله وولده وحشمه وغلمانه وقدر النعمة والحال والمحل واحفظ ما يقوله الرجل حرفا بحرف من ألفاظه من حين وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به وإياك أن يشذ عنك شيء من أمره انطلق، قال منارة، فودعته وخرجت وركبت الإبل وسرت أطوي المنازل أسير الليل والنهار ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول وتنفيس النفس قليلاً إلى أن وصلت دمشق في أول الليلة السابعة وأبواب البلد مغلقة فكرهت الدخول ليلا فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح الباب فدخلت على هيئتي حتى أتيت دار الرجل وعليها صف عظيم وحاشية كثيرة فلم أستأذن ودخلت بغير إذن فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض غلماني فقالوا هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم فلما صرت في صحن الدار أنزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوما جلوساً فظننت أن الرجل فيهم فقاموا رحبوا بي فقلت افيكم فلان قالوا لا نحن أولاده وهو في الحمام فقلت استعجلوه فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والأحوال والحاشية فوجدتها قد ماجت بأهلها موجا شديداً فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن طال واستربت به واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شيخاً بزي الحمام يمشي في الصحن وحواليه جماعة كهول وأحداث وصبيان وهم أولاده وغلمانه فعلمت أنه الرجل فجاء حتى جلس فسلم علي سلاماً خفياً وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته فأخبرته كما وجب وما قضى كلامه حتى جاءوا بأطباق فاكهة فقال تقدم يا منارة فكُلْ معنا فقلت مالي إلى ذلك من حاجة فلم يعاودني وأقبل يأكل هو ومن عنده ثم غسل يديه ودعا بالطعام فجاءوا بمائدة عظيمة لم أرّ مثلها إلا للخليفة فقال تقدم يا منارة فساعدنا على الأكل لا يزيدني على أن يدعوني بإسمي كما يدعوني الخليفة فامتنعت عليه فما عاودني وأكل هو ومن عنده وكانوا تسعة من أولاده فتأملت أكله في نفسه فوجدته أكل الملوك ووجدت جأشه رابضاً وذلك الأضطراب الذي في داره قد سكن ووجدتهم لا يرفعون من بين يديه شيئاً قد وضع على المائدة إلا نهبا وقد كان غلمانه أخذوا المال لما نزلت الدار وجمالي وجميع غلماني بالمنع من الدخول فما أطاقوا ممانعتهم وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي فقلت في نفسي هذا جبار عنيد وإن امتنع علي من الشخوص لم أطق إشخاصه بنفسي ولا بمن معي ولا أطيق حفظه إلى أن يلحقني أمير البلد فجزعت جزعاً شديداً ورابني منه استخفافه بي في الأكل ولا يسألني عما جئت به ويأكل مطمئناً وأنا مفكر في ذلك فلما فرغ من أكله وغسل يديه دعا ببخور فتبخر وقام إلى الصلاة فصلى الظهر وأكثر من الدعاء والابتهال فرأيت صلاته حسنة فلما انتقل من المحراب أقبل علي وقال ما أقدمك يا منارة فقلت أمر لك من أمير المؤمنين وأخرجت الكتاب ودفعته إليه فقرأه فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته فاجتمع منهم خلق كثير فلم أشك أنه يريد أني وقع بي فلما تكاملوا ابتدأ فحلف إيماناً غليظة فيها الطلاق والعتاق والحج وأمرهم أن ينصرفوا ويدخلوا منازلهم ولا يجتمع منهم إثنان في مكان واحد

ولا يظهروا إلى أن يظهر لهم أمر يعملون عليه وقال هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالتوجه إليه ولست أقيم بعد نظري فيه لحظة واحدة فاستوصوا بمن ورائي من الحرم خيرا وما بي حاجة من أن يصحبني غلام هات قيودك يا منارة فدعوت بها وكانت في سفط فأحضر حداداً فمد ساقيه فقيدته وأمرت غلماني بحمله في المحمل وركبت في الشق الآخر وسرت من وقتي ولم ألق أمير البلد ولا غيره فسرت بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة فقال لي ترى هذا قلت نعم قال أنه لي وقال إن فيه من غرائب الأشجار كيت وكيت ثم انتهى إلى آخر فقال مثل ذلك ثم انتهى إلى مزارع حسان وقرى سنية وقال هذه لي فاشتد غيظي منه فقلت له أعلم أني شديد التعجب منك قال ولم تعجب قلت أليس تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك ومالك وولدك وأخرجك عن جميع ما لك فريداً وحيداً مقيداً ما تدري إلى ما يصير إليه أمرك ولا كيف يكون وأنت فارغ القلب من هذا تصف ضياعك وبساتينك هذا وقد رأيتك وقد جئت وأنت لا تعلم فيم جئت وأنت ساكن القلب قليل الفكر لقد كنت عندي شيخاً فاضلاً فقال لي مجيباً إنا لله وإنا إليه راجعون أخطأت فراستي فيك ظننتك رجلاً كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا بعد أن عرفك بذلك فإنا والله رأيت عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقلهم والله المستعان أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة من الله عز وجل الذي بيده ناصيتي ولا يملك أمير المؤمنين لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرا إلا بإذن الله ومشيئته ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه وبعد فإذا عرف أمري وعلم سلامتي وصلاحي وبعد ناحيتي وإن الحسدة والاعداء رموني عنده بما ليس فيَّ وتقوّلوا عليَّ الأباطيل الكاذبة لم يستحل دمي وتحلل من أذاي وإزعاجي وردني مكرما وأقامني ببابه معظماً وإن كان سبق في علم الله عز وجل أنه يبدر إليَّ منه بادرة سوء وقد حضر أجلي وكان سفك دمي على يده فلو اجتمعت الأنس والجن والملائكة وأهل الأرض وأهل السماء على صرف ذلك عني ما استطاعوه فلم أتعجل الغم وأتسلف الفكر فيما قد فرغ الله منه وإني حسن الظن بالله عز وجل الذي خلق ورزق وأحيا وأمات وأحسن وأجمل وإن الصبر والرضا والتفويض والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة أولى وقد كنت أحسب أنك تعرف هذا فإذا قد عرفت مبلغ فهمك فإني لا أكلمك بكلمة واحدة حتى تفرق حضرة أمير المؤمنين بيننا إن شاء الله تعالى قال ثم أعرض عني فما سمعت منه لفظة غير القرآن والتسبيح أو حاجة أو ما يجري مجراها حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر والنجب قد استقبلنني على فراسخ من الكوفة يتجسسون خبري فحين رأوني رجعوا عني بالخبر إلى أمير المؤمنين فانتهينا إلى الباب في آخر النهار فحططت ودخلت على الرشيد فقبلت الأرض بين يديه ووقفت فقال هات ما عندك يا منارة وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة فسقت والحديث من أوله إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والبخور والصلاة وما حدثت به نفسي من امتناعه والغضب يظهر في وجه الرشيد ويتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته ومسئلته عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته إلى إحضار ولده وأهله وحلفه عليهم أن لا يتبعه أحد منهم وصرفه إياهم ومد رجليه حتى قيدته فما زال وجه الرشيد يسفر حتى أنتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخه إياي لما ركبنا المحمل قال صدق والله ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه لعمري لقد أزعجناه وآذيناه وروعنا أهله فبادر ينزع قيوده عنه وائتني به قال فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد فما هو إلا أن رآه حتى رأيت ماء الحياء يجول في وجه الرشيد فسأله عن حاله ثم قال بلغنا عنك فضل هيئة وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن إليك فأذكر حاجتك فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا فقال ما لي إلا حاجة واحدة قال مقضية ما هي قال يا أمير المؤمنين تردني إلى بلدي وأهلي وولدي قال نحن نفعل ذلك إن شاء الله تعالى ولكن سل ما تحتاج إليه في مصالح جاهك ومعاشك فإن مثلك لا يخلوا أن يحتاج إلى شيء من هذا فقال عمال أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدله عن مسئلته

فأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة وكذلك أمور أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين فقال الرشيد انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك فودعه فلما ولى خارجاً قال الرشيد يا منارة أحمله من وقتك وسر به راجعاً إلى أهله كما جئت به حتى إذا أوصلته إلى محله الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف ففعلت والله أعلم.موري منتظمة وأحوالي مستقيمة وكذلك أمور أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين فقال الرشيد انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك فودعه فلما ولى خارجاً قال الرشيد يا منارة أحمله من وقتك وسر به راجعاً إلى أهله كما جئت به حتى إذا أوصلته إلى محله الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف ففعلت والله أعلم.
وحكي في الكتاب المذكور قال حدثني أبو الربيع سليمان بن داود قال كان في جوار القاضي قديماً رجل انتشرت عنه حكاية وظهر في يده مال جليل بعد فقر طويل وكنت أسمع أن أبا عمر حماه من السلطان فسألته عن الحكاية فأطرق طويلاً ثم حدثني قال ورثت مالا جزيلاً فأسرعت في اتلافه وأتلفته حتى أنهيت بيع أبواب داري وسقوفها ولم يبقَ لي حيلة وبقيت مدة لا قوت لي إلى والدتي لما تغزله وتطعمني وتأكل منه فتمنيت الموت فرأيت ليلة في منامي كأن قائلاً يقول لي غناك بمصر فأخرج إليها فبكرت إلى دار أبي عمر القاضي وتوسلت بالجوار وبالخدمة وكان أبي قد خدمه اياماً وسألته أن يزودني كتاباً إلى مصر لاتصرف فيها ففعل وخرجت فلما حصلت بمصر أوصلت الكتاب وسألت التصرف فسد الله عليَّ باب الرزق حتى لم أظفر بتصرف ولا لاح لي شغل ونفدت نفقتي فبقيت متفكراً في أن أسأل الناس فلم أستبح المسئلة ولم يحملني الجوع عليها وأنا ممتنع إلى أن مضى من الليل صدر صالح فلقيني الطائف فقبض علي ووجدني غريباً فأنكر حالي فسألن فقلت رجل ضيف فلم يصدقني وبطحني وضربني مقارع فصحت وقلت أنا أصدق فقال هات فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها وحديث المنام فقال ما رأيت أحمق منك والله لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة في النوم كأن رجلاً يقول لي ببغداد في الشارع الفلاني في المحلة الفلانية قال فذكر شارعي ومحلتي وأصغيت فتم الشرطي الحديث فقال دار يقال لها دار فلان فذكر داري وأسمي وفيها بستان وفيه سدرة تحتها مدفون ثلاثون ألف دينار فامض وخذها فما فكرت في هذا الحديث ولا التفت إليه وأنت يا أحمق فارقت وطنك وجئت إلى مصر بسبب منام قال فقوي قلبي وأطلقني الطائف فبت في المسجد وخرجت من الغد من مصر وقدمت بغداد فقلعت السدرة وأثرت مكانها فوجدت جراباً فيه ثلاثون ألف دينار فأخذتها وأمسكت يدي ودبرت أمري وأنا أعيش من تلك الدنانير ومن فضل ما ابتعته منها من ضياع وعقار إلى الآن.

وحكى القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتابه في أخبار المذاكرة ونشوان المحاضرة قال حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهمة قال حدثني بعض الكتاب قال سافرت أنا وجماعة من أصدقائي نريد مصر للتصرف فلما حصلنا بدمشق وكان معنا عدة بغال عليها ثقل وغلمان لنا ونحن على دوابنا أقبلنا نخترق الطرق لا ندري أين ننزل فاجتزنا برجل شاب حسن الوجه جالس على باب دار شاهقة وبناء فسيح وغلمان بين يديه فقام إلينا وقال أظنكم سفراً وردتم الآن فقلنا نحن كذلك قال فتنزلون علينا ألح علينا فاستحيينا من محله وحسن ظاهره وهيئته فحططنا على بابه ودخلنا وأقبل أولئك الغلمان يحملون ثقلنا ويدخلونه الدار ولا يدخلون أحدا من غلماننا يخدمنا حتى حملوه بأسره في أسرع وقت وجاءونا بالطسوت والأبارق فغسلنا وجوهنا واجلسونا في مجلس حسن مفروش بأنواع الفرش التي لم نر مثلها وإذا الدار في نهاية الحسن والفخر والكبر وفيها دور وبستان عظيم وصاحب الدار يخدمنا بنفسه وعرض علينا الحمام فقلنا نحن إليه محتاجون فأدخلنا إلى الحمام في الدار في غاية السرور ودخل إلينا غلامان أمردان وصبيان في نهاية الحسن فخدمونا بدلا من القين وأخرجنا من الحمام إلى غير ذلك المجلس فقدم إلينا مائدة حسنة جليلة عليها من الحيوان وفاخر الطعام والألوان ونادر الخبز وغريب البوادر من كل شيء وإذا بغلامين أمردين في ناهية الحسن والزي قد دخلوا إلينا فغمزوا أرجلنا فلحقنا من ذلك مع الغربة وطول العهد بالجماع عنت فأمرناهم بالانصراف وفينا من لم يستحل التعرض لهم وتعففنا عن ذلك لنزولنا على صاحبهم ثم انتهينا إلى مجلس في بستان حسن وأخرج إلينا من آلات النبيذ كل ظريف وأحضر من الأنبذة كل شيء طيب حسن وشربنا أقداحا يسيرة ثم ضرب بيده على ستارة ممدودة وإذا جوار خلفها فقال غنين فغنت الجواري اللواتي كن خلفها أحسن غناء وأطيبه فلما توسطنا الشرب قال ما هذا الاحتشام لأضيافنا أعزهم الله أخرجن وهتك الستارة قال فخرج علينا جوار لم ير قط أحسن ولا أملح ولا أظرف منهن ما بين عوادة وطنبورية وزامرة وصناجة ورقاصة ودفافة بفاخر الثياب والحلي فغنيننا واحتطن بنا في المجلس فاشتدت محبتنا ولكن ضبطنا أنفسنا فلما كدنا أنا نسكر ومضى قطعة من الليل أقبل صاحب الدار علينا وقال يا سادة إن تمام الضيافة وحقها الوفاء بشرطها وأن يقوم المضيف بحق الضيف في جميع ما يحتاج إليه من طعام وشراب وجماع وقد أنفذت إليكم نصف النهار الغلمان فأخبروني بعفافكم عنهم فقلت هم أصحاب نساء فأخرجت هؤلاء فرأيت من انقباضكم عن ممازحتهن ما لو خلوتم بهن كانت الصور واحدة فما هذا فقلنا يا سيدي أجللناك عن تبذل ما في دارك وفينا من لم يستحل الحرام فقال هؤلاء مماليك وهن أحرار لوجه الله تعالى إن كان بد من أن يأخذ كل واحد منكم بيد واحدة يتمتع بها ليلة فمن شاء زوجته بها ومن شاء غير ذلك فهو أبصر لأكون قد قضيت حق الضيافة فلما سمعنا بهذا وقد انتشينا طربا أخذ كل واحد منا بيد واحدة فأجلسها إلى جانبه وأقبل يقبلها ويقرصها ويمازحها فتزوجت أنا بواحدة وغيري من رغب في ذلك وبعضنا لم يفعل وجلس معنا بعد ذلك ساعة ثم نهض فإذا بخدم قد جاءوا فأدخلوا كل واحد وصاحبته إلى بيت في نهاية الحسن والطيب مفروش بفاخر الفرش الوطيئة فبخرونا عليها ونمنا والجواري إلى جنوبنا وتركوا معنا شمعة في البيت وما نحتاج إليه من آلة البيت وأغلقوا علينا وانصرفوا فبتنا في أرغد عيش ليلتنا فلما كان السحر بادر الخدم فقالوا ما رأيكم في الحمام فقد أصلح فقمنا ودخلنا ودخل المردان معنا فمنا من أطلق نفسه معهم فيما كان امتنع منه بالأمس وخرجنا فبخرنا بالند الفتيق وأعطينا الماورد والمسك والكافور وقدمت إلينا المرآة المجلاة وأخبرنا غلماننا أن صورتهم في ليلتهم كصورتنا وأنهم أتوا بجواري الخدمة الروميات فوطؤهن فأقبل بعضنا على بعض يعجب من قضيتنا وبعضنا يقول هذا في النوم نراه ونحن في الحديث إذ أقبل صاحب الدار فقمنا إليه وعظمناه فأكبر بذلك وأخذ يسألنا عن ليلتنا فوصفناها له وسألنا عن خدمة الجواري لنا فأجبناه بحسنها فقال أيما أحب إليكم الركوب إلى بعض البساتين للتفرج إلى أن يدرك الطعام أو اللعب بالشطرنج والنرد أو النظر في الدفاتر فقلنا أما الركوب فلا نؤثره ولكن الشطرنج والنرد والدفاتر فأحضر لنا

ذلك وتشاغل كل منا بما اختاره ولم يكن إلا ساعتان أو ثلاث من النهار حتى أحضر لنا مائدة كالمائدة الأمسية فأكلنا وقمنا إلى الفرش وجاء المردان فغمزونا وغمزهم منا من كان يدخل في ذلك وزالت المراقبة فلما انتهينا حملنا إلى الحمام وخرجنا فتبخرنا وجلسنا في مجالسنا بالأمس وجاء أولئك الجواري ومعهن غيرهن ممن هو أحسن منهن وتصدت كل واحدة صاحبها بالامس بغير احتشام وشربنا إلى نصف الليل وحملوا معنا إلى الفراش وكانت هذه حالنا مدة الأسبوع فقلت لأصحابي ويحكم أرى الأمر متصلا ومن المحال أن يقول لنا الرجل ارتحلوا عني وقد استطبتم أنت مواضعكم وانقطعتم عن سفركم في هذا فقالوا ما ترى فقلت أرى أن نستأنس الرجل فننظر أي شيء هو فإن كان ممن يقبل هدية أو بر عملنا على تكرمته وارتحلنا عنه وإن كان بخلاف ذلك كنا معتقدين له المكافأة في وقت ثان وسألناه أن يحضر لنا من نكرى منه ورحلنا فتقرر رأينا على ذلك فلما جلسنا تلك الليلة على الشرب قلنا له قد طال مقامنا عندك وما أضاف أحد أحدا أحسن مما ضفتنا ونريد الرحيل إلى مصر لما أردناه من طلب التصرف وأنا فلان بن فلان فعرفته نفسي والجماعة وقد حملتنا من أياديك ومننك ما لا يسعنا معه أن نجهلك ونحب أن تعرفنا بنفسك لنأتي بشكرك ونقضي حقك ونعمل على الرحيل فقال أنا فلان بن فلان أحد أهل دمشق فلم نعرفه فقلنا إن رأيت تزيدنا في الشرح فقال جعلت فداءكم إن لقيادتي خبراً أظرف مما شاهدتموه فقلت إن رأيت أن تخبرنا فقال نعم أنا رجل كان أبي تاجراً عظيم النعمة والأموال وكان ممسكا مكثرا ونشأت له فكنت متخرّقا مبذّرا محباً للفساد والنساء والمغنيات والشرار فأتلفت مالا عظيما من مال أبي إلا أنه لم يؤثر في ماله لعظمه ثم اعتل وايس من نفسه فدعاني فقال يا بني غني قد خلّفت لك النعمة وقميتها مائة ألف دينار بعد أن أتلفت علي خمسين ألف دينار وأن الإنفاق لا آخر له إذا لم يكن بإزائه داخل ولو أردت أن أتلف هذا المال عليك في حياتي أو الآن حتى لاتصل إلى شيء منه لفعلت ولكن هو ذا أتركه عليك فاقض حقي بحاجة تقضيها إليَّ لا ضرر عليك فيها فقلت افعل فقال أنا أعلم أنك ستتلف المال في مدة يسيرة فعرفني إذا افتقرت ولم يبق معك شيء أتقتل نفسك ولا تعيش في الدنيا فقلت لا قال فعرفني من أين تعيش قال ففكرت ساعة فلم يقع لي إلا أن قلت أصير قوادا قال فبكى ساعة ثم مسح عينيه وقال لست بصارف عنك هذه الصناعة فإنها ما جرت على لسانك إلا وقد دارت في فكرك ولا دارت في فكرك إلا وأنت لا تنصرف عنها أبدا بعدي ولكن أخبرني كيف يتم لك المعاش منها فقلت قد تدبرت بكثرة دعواتي القحبات والمغنيات ومعاشرتي لشراب النبيذ فأجمعهم على الرسم فيقيمون في بيتي ويعملون ما يريدون وآخذ أنا منهم الدراهم وأعيش بها فقال إذا يبلغ السلطان خبرك في جمعة فيلحقون رأسك ولحيتك وينادى عليك ويفرق جمعك ويبطل معاشك ويقول أهل بلدك انظروا إلى فلان كيف ينادى عليه وقد صار بعد موت أبيه قوادا ولكن إذا أردت هذه الصناعة فأنا أعلمك وإن كنت لا أحسنها فلا تستغني فيها ولا تفتقر ولا يتطرق عليك السلطان بشيء فقلت افعل قال إذا أنا متُّ فاعمل على أنك قد أنفقت جميع مالك وافتقرت تكون قوادا ولك ضياع وعقار وأثاث ودور وجوار وآلة وقماش وخدم وجاه وتجارات واعمل على ما كان في نفسك أن تعمله إذا افتقرت فاعمله وأنت مستظهر على زمانك بما معك وهبه عند إخوانك واعمل أنك قد أنفقته واجعل معيشتك ما تريد أن تجعله إذا افتقرت فإنك تستفيد بذلك أمورا منها أنك تبتدىء أمرك بهذا فلا ينكر عليك في آخره ومنها أنك تفعل ذلك بجاه وعقار وضياع وأحوال قوية فلا يطمع فيك سلطان وإن طمع فيك سلطان بذلت أو أعطيت من ناوأك فتخلصت فقلت كيف أفعل قال تجلس إذا أنا متُّ ثلاثة أيام للعزاء إلى أن تنقضي المصيبة فإذا انقضت نفذت وصيتي وتجملت بذلك عند الناس وقضيت حقي ثم تظهر أنك قد تركت اللعب وأنك تريد حفظ مالك مع ضرب من اللذة ثم تبتدىء فتشتري من الجواري المغنيات والسراري كل لون ومن الغلمان المردان والخدم السود والبيض ما تحتاج إليه وتشتهيه ودارك كما تحب في السرور وتنوف على سرور من تريد ان تعاشره ولا تخل إلا الأمير والعاقل وادعهما مرة في شهر أو شهرين وهادهما أيام الأعياد بالألطاف الحسنة والقهما في كل أسبوع مرة واجتهد أن

تعاشرهما على النبيذ في دورهما والقهما بالسلام وقضاء الحاجة واتخذ في كل يوم مائدة حسنةوادع القوم ومن يتفق معهم وليكن ذلك بعقل وترتيب فإن ذلك أولا لا يظهر مدة فإذا ظهر صدق به أعداؤك وكذب به إخوانك وقالوا هذه على سبيل المجون والشهوة على طرق التخالع أو مسامحة الإخوان وإلا فأي لذة له في ذلك وليس هو مجنونا ولا مخنثا ولا فقيرا ولا محتاجا إلى هذه فيبقى الخلاف فيك مدة أخرى وقد اتصلت مع سلطانك ولعل العشرة بينكما قد وقعت فيستدعي مغنياتك ويسمعهن في منزله فيصير لك بمنادمته رسم وجاهك باق بملاقاتك لهم فهم يحتاجون إليك وسيحافظ عليك الأمير فتصير في مراتب ندمائه وفي جملته وتصير قيادتك نفعا عليك بغير ضرر وتخرج عن حد القواد المحض الذين يؤذون وتكبس منازلهم قال فاعتقدت في الحال أن الصواب ما قاله ومات في علته فجلست ثلاثة أيام ثم أنفذت وصيته وما فيها كما أمرني ثم بيضت الدور وهي هذه وزدت فيها ما اشتهيت واستزدت في الآلات والفرش والأبنية كما أردت وابتعت هذه الجواري والغلمان والخدم من بغداد ودبرت أمري على ما قاله لي من غير مخالفة لشيء منه وأنا أفعل هذه منذ سنين كثيرة ما لحقني منه ضرر ولا خسران ولا فيه أكثر من إسقاط المروءة وقلة الاكتراث بالعيب وأنا أعيش أطيب عيش وأهنأه وأمر معاشي عليهم ودخلي بهم أكثر من خرجي ونعمتي الموروثة باقية بأسرها ما بعت منها شيئاً بحبة قط فما فوقها وقد اشتريت من هذه الصناعة عقارا جليلا وضفته إلى ما خلف علي وأمري يمشي كما ترون فقلنا يا هذا فرجت والله عنا واريتنا طريقاً إلى قضاء حقك وأخذنا نمازحه ونقول فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع لأنك قواد ابن قواد وما كان الشيخ ليدبر لك هذه الأمر وهو بالقيادة أحذق منك فضحك وضحكنا وكان الفتى أديباً خفيف الروح وبتنا ليلتنا على تلك الحال فلما كان من الغد جمعنا له من بيننا ثلثمائة دينار وحملناها إليه ورحلنا عنه.ما على النبيذ في دورهما والقهما بالسلام وقضاء الحاجة واتخذ في كل يوم مائدة حسنةوادع القوم ومن يتفق معهم وليكن ذلك بعقل وترتيب فإن ذلك أولا لا يظهر مدة فإذا ظهر صدق به أعداؤك وكذب به إخوانك وقالوا هذه على سبيل المجون والشهوة على طرق التخالع أو مسامحة الإخوان وإلا فأي لذة له في ذلك وليس هو مجنونا ولا مخنثا ولا فقيرا ولا محتاجا إلى هذه فيبقى الخلاف فيك مدة أخرى وقد اتصلت مع سلطانك ولعل العشرة بينكما قد وقعت فيستدعي مغنياتك ويسمعهن في منزله فيصير لك بمنادمته رسم وجاهك باق بملاقاتك لهم فهم يحتاجون إليك وسيحافظ عليك الأمير فتصير في مراتب ندمائه وفي جملته وتصير قيادتك نفعا عليك بغير ضرر وتخرج عن حد القواد المحض الذين يؤذون وتكبس منازلهم قال فاعتقدت في الحال أن الصواب ما قاله ومات في علته فجلست ثلاثة أيام ثم أنفذت وصيته وما فيها كما أمرني ثم بيضت الدور وهي هذه وزدت فيها ما اشتهيت واستزدت في الآلات والفرش والأبنية كما أردت وابتعت هذه الجواري والغلمان والخدم من بغداد ودبرت أمري على ما قاله لي من غير مخالفة لشيء منه وأنا أفعل هذه منذ سنين كثيرة ما لحقني منه ضرر ولا خسران ولا فيه أكثر من إسقاط المروءة وقلة الاكتراث بالعيب وأنا أعيش أطيب عيش وأهنأه وأمر معاشي عليهم ودخلي بهم أكثر من خرجي ونعمتي الموروثة باقية بأسرها ما بعت منها شيئاً بحبة قط فما فوقها وقد اشتريت من هذه الصناعة عقارا جليلا وضفته إلى ما خلف علي وأمري يمشي كما ترون فقلنا يا هذا فرجت والله عنا واريتنا طريقاً إلى قضاء حقك وأخذنا نمازحه ونقول فضلك في هذه الصناعة غير مدفوع لأنك قواد ابن قواد وما كان الشيخ ليدبر لك هذه الأمر وهو بالقيادة أحذق منك فضحك وضحكنا وكان الفتى أديباً خفيف الروح وبتنا ليلتنا على تلك الحال فلما كان من الغد جمعنا له من بيننا ثلثمائة دينار وحملناها إليه ورحلنا عنه.

وحكى أحمد بن فضل العمري في كتابه المسمى مسالك الأبصار في ممالك الأمصار في ترجمة صفي الدين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر المويسيقي قال ذكر العم حسن الاربلي في تاريخه قال جلست مع صفي الدين عبد المؤمن بالمدرسة المستنصرية جرى ذكر واقعة بغداد فأخبرني أن هلاكو طلب رؤساء البلد وعرفاءها وطلب منهم أن يقسموا دروب بغداد ومحالها وبيوت دوي يسارها على أمراء دولته فقسموها وجعلوا كل محلة أو محلتين أو سوقين باسم أمير كبير فوقع الدرب الذي كنت أسكنه في حصة أمير مقدم على عشرة آلاف فارس اسمه نانو نوين وكان هلاكو قد رسم لبعض الأمراء أن يقتل ويأسر وينهب مدة ثلاثة أيام ولبعضهم يومين ولبعضهم يوما واحداً على حسب طبقاتهم فلما دخل الأمراء إلى بغداد كان أول درب جاء إليه الأمير الدرب الذي أنا ساكنه وقد اجتمع فيه خلق كثير من ذوي اليسار واجتمع عندي نحو خمسين جارية من أرباب المغاني وذوات الحسن والجمال فوقف نانو نوين على باب الدرب وهو مننَّرس بالأخشاب والتراب وطرقوا الباب وقالوا افتحوا لنا وادخلوا في الطاعة ولكم الأمان وإلا أحرقنا الباب وقتلناكم ومعه النجارون وخلافهم وأصحابه بالسلاح قال صفي الدين عبد المؤمن فقلت السمع والطاعة أنا أخرج إليه ففتحت الباب وخرجت وحدي عليَّ أثواب وسخة وأنا أنتظر الموت فقبلت الأرض بين يديه فقال للترجمان قل له أنت كبير هذا الدرب فقلت نعم فقال إن أردتم السلامة من الموت فأحملوا لنا كذا وكذا وطلب شيئاً كثيراً فقبلت الأرض مرة ثانية وقلت كل ما طلبه الأمير يحضر وصار كل ما في هذا الدرب بحكمك ومن تريد من خواصك فإنزل لأجمع لك كل ما طلبت فشارو أصحابه ونزل في نحو ثلاثين رجلا من خواصه فأتيت به داري وفرشت له الفرش الخليفية الفاخرة والسرر المطرزة بالزركش وأحضرت له في الحال أطعمة فاخرة وشواء وحلواء وجعلتها بين يديه فلما فرغ من الأكل عملت له مجلساً ملوكياً وأحضرت الأواني المذهبة من الزجاج الحلبي وأواني فضة فيها شراب مروق فلما دارت الأقداح وسكر قليلاً أحضرت عشر مغنيات كل واحدة تغني بملهاة غير ملهاة الأخرى فغنين كلهن فارتج المجلس وطرب وانبسطت نفسه فضم واحدة من المغنيات أعجبته فواقعها في المجلس ونحن نشاهده وأتم يومه في غاية الطيبة فلما كان وقت العصر وحضر أصحابه بالنهب والسبايا قدمت له ولأصحابه الذين كانوا معه تحفاً جليلة من أواني الذهب والفضة ومن النقد ومن الأقمشة الفاخرة شيئاً كثيراً سوى العليق ووهبت له الغواني التي كان بين يديه واعتذرت من التقصير وقلت جاء الأمير على غفلة لكن غدا إن شاء الله تعالى أعمل للأمير دعوة أحسن من هذه فركب وقبلت ركابه ورجعت فجمعت أهل الدرب من ذوي النعمة واليسار وقلت لهم أنظروا لأنفسكم هذا الرجل غدا عندي وكذا بعد غد وكل يوم أزيد اضعاف اليوم المتقدم فجمعوا إلي من بينهم ما يساوي خمسين ألف دينار من أنواع الذهب والأقمشة الفاخرة والسلاح فما طلعت الشمس إلا وقد وافاني فرأى ما أذهله وجاء في هذا اليوم ومعه نساؤه فقدمت له ولنسائه من الذخائر والذهب النقد ما قيمته عشرون ألف دينار وقدمت له في اليوم الثالث لآلىء نفيسة وجواهر ثمينة وبغلة جليلة بآلات خليفية وقلت هذه من مراكب الخليفة وقدمت لجميع من معه وقلت هذا الدرب صار بحكمك وإن تصدقت على أهله بأرواحهم فيكون لك وجه أبيض عند الله وعند الناس فما بقي عندهم سوى أرواحهم فقال قد عرفت ذلك من أول يوم وهبتهم أرواحهم وما حدثتني نفسي بقتلهم ولا سلبهم لكن أنت تجهز معي إلى حضرة الأمير فقد ذكرتك وقدمت له شيئاً من المستظرفات التي قدمتها إلي فأعجبته ورسم بحضورك فخفت على نفسي وعلى أهل الدرب وقلت هذا يخرجني إلى خارج بغداد ويقتلني وينهب الدرب فظهر عليَّ الخوف وقلت يا خوند هلاكو ملك كبير وأنا رجل حقير مغن أخشى منه ومن هيبته فقال لا تخف ما يصيبك إلا الخير فإنه رجل يحب أهل الفضائل فقلت في ضمانك أنه لا يصيبني مكروه قال نعم فقلت لأهل الدرب ما عندكم من النفائس فائتوني بكل ما تقدرون عليه فأخذت معي من المغنيات الجليلة ومن النقد الكثير من الذهب والفضة وهيأت مآكل كثيرة طيبة وشراباً كثيراً عتيقاً فائقا وأواني فاخرة كلها من الفضة المنقوشة بالذهب وأخذت معي ثلاث جوار مغنيات من أجلِّ من كان عندي وأنفسهن للضرب ولبست بدلة من القماش

الخليفي وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت إلى الخليفة فلما رآني نانو نوين بهذه الحالة قال لي أنت وزير قلت لا أنا مغني الخليفة ونديمه ولكن لما خفت منك لبست القماش الوسخ ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت وهذا الملك هلاكو ملك عظيم وهو أعظم من الخليفة فما ينبغي أن أدخل عليه إلا بالحشمة والوقار.ي وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت إلى الخليفة فلما رآني نانو نوين بهذه الحالة قال لي أنت وزير قلت لا أنا مغني الخليفة ونديمه ولكن لما خفت منك لبست القماش الوسخ ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت وهذا الملك هلاكو ملك عظيم وهو أعظم من الخليفة فما ينبغي أن أدخل عليه إلا بالحشمة والوقار.
فأعجبه مني هذا وخرجت معه إلى مخيم هلاكو فدخل عليه وأدخلني معه وقال لهلاكو هذا الرجل الذي ذكرته لك وأشار إليَّ فلما وقعت عين هلاكو عليَّ قبلت الأرض وجلست على ركبتي كما هو من عادة التتار فقال نانو نوين هذا كان مغني الخليفة وقد فعل معي كذا وكذا وقد أتاك بهدية فقال قد قبلتها فقبلت الأرض مرة ثانية ودعوت له وقدمت له ولخواصه الهدايا التي كانت معي فكلما قدمت شيئاً منها يفرقه ثم فعل بالمأكول كذلك ثم قال لي أنت مغني الخليفة فقلت نعم فقال أي شيء أجود ما تعرف قلت أحسن أن أغني غناء أذا سمعه الإنسان ينام فقال غن لي الساعة حتى أنام فندمت وقلت إن غنيت له ولم ينم قال هذا كذاب وربما قتلني ولا بد من الخلاص منها بحيلة فقلت يا خوند الطرب بأوتار العود لا يطيب إلا بشرب الخمر ولا بأس بأن يشرب الأمير قدحين أو ثلاثة حتى يقع الطرب في موقعه فقال أنا ما لي في الخمر رغبة لأنه يشغلني عن مصالح ملكي ولقد أعجبني من نبيكم تحريمه ثم شرب ثلاثة أقداح كبار فلما أحمر وجهه أخذت عوداً وغنيته وكان معي مغنية اسمها ضياء لم يكن في بغداد أحسن منها صورة ولا أطيب منها صوتا فأصلحت أنغام العود وضربت ضروباً جالبة للنوم مع زمر رخيم الصوت وغنيت فلم أتم النوبة حتى رأيته قد نعس فقطعت الغناء بغتة وقويت ضرب الأوتار فانتبه فقبلت الأرض وقلت نام الملك فقال صدقت نمت تمنَّ علي فقلت أتمنى على الملك أن يطلق لي على السمكية قال وأي شيء هي السمكية قلت بستان للخليفة فتبسم وقال لأصحابه هذا مسكين مغن قصير الهمة وقال للترجمان قل له لم لا تمنيت قلعة أو ومدينة أي شيء هذا البستان فقبلت الأرض وقلت يا ملك العالم هذا البستان يكفيني وأنا ما يجيىء مني صاحب قلعة ولا صاحب مدينة فرسم لي بالبستان وبجميع ما كان لي من الراتب في أيام الخليفة وزادني علوفة تشتمل على خبز ولحم وعليق دواب تساوي دينارين وكتب بذلك فرماناً مكمل العلائم وخرجت من بين يديه وأخذ لي نانو نوين أميراً بخمسين فارساً ومعهم علم أسود هو كان علم هلاكو الخاص به برسم حماية داري فجلس الأمير على باب الدرب ونصب العلم الأسود على أعلى باب الدرب فبقي الأمر كذلك إلى أن رحل هلاكو عن بغداد قال الأربلي فقلت له كم نابك من المغارم في الثانية قال أكثر من ستين ألف دينار وذهب أكثرها مما كان انزوى إلى دربي من ذوي اليسار والباقي من نعم موفرة كانت عندي من صدقات الخليفة فسألته عن المرتب والبستان فقال البستان أخذه مني أولاد الخليفة وقالو هذا إرث من أبينا والعلوفة قطعها عني الصاحب شمس الدين ألجويني وعوضني عنها وعن البستان في السنة مائة ألف درهم.

وقال كان بمدينة السلام مغن يعرف بالغيور وكان عنده من الجواري عدد كثير ذوات حسن وكان خبره فاشياً يقصده المتصون وغيره فبلغ رجلاً من الكتاب المشهورين خبره فتشوقت نفسه إلى قصده ثم تجنبته لما شهر به فحمل نفسه على أن جعل بينه وبين الرجل حالاً بأن دعاه وبرَّه ووصله وكان قصد الناس منزله آثر عندهم من دعاء من يدعونه من جواريه لما يجتمع لهم فيه قال الكاتب يسألني المصير إليه وأقشعر لشناعة لقبه إلى أن لقيني بالقرب من منزله فحلف على أن لا أفارقه فكان ذلك أن صادف مني موافقة فمضيت معه فرأيت أحسن موافقة وآلة فلما استقر بنا الجلوس قال لغلماني إذا كان في غد بكروا فجيئوا بالدواب فاستوحشت وقلت بلى يقيم بعضهم عندي ويعود الباقون ليلا للأنصراف إلى منزلي فأبى وحلف فاتبعت ما أراد فأحضر أحسن طعام وألطفه وأكلنا وأتى بأنواع الأشربة والفواكه والرياحين وأخذنا في أمرنا وخرجت وجوه كالشموس وكنت عند دخولي إلى الدار قد رأيت على بعض الأبواب طبلاً معلقاً فظننته لبعض الجواري فلم أسأل عنه فلما صرنا على حالنا وأخذ النبيذ منا أحضر عموداً فجعله بين يديه فأوحشني جداً وقلت رجل غيور كما لقب وجوار حسان ونبيذ شديد ولست آمن أن أعبث بهن فيضربني بالعمود قال أخبرك يا أخي أني رجل غيور كما قد بلغك ويحضر منزل قوم معهم سوء أدب فما هو إلا أن تغنى الجارية حتى أرى الواحد منهم قد لاحظها وضحك في وجهها وضحكت في وجهه فأقول أقوم بهذا العمود فإنما هي ضربة له وضربة لها فأقتلهما وأستريح إلا أني على ما ترى رجل معي تأن شديد فأقول شرب الرجل فسر وضحك ولعله بعد يعرفها وتعرفه فضحكت إليه وضحك إليها قال فلما ذكر هذا الحديث طابت نفسي وأصغيت إلى حديثه فقلت ثم ماذا قال ثم إن الأمر يزيد حتى أراه قد دنا فسارَّها وسارته فتقوم عليَّ القيامة وأقول ضحك إليها وضحكت إليه للمعرفة فما وضع السر ثم أهم بالعمود والتأني الذي فيَّ يقول لعله طالبها بصوت تغنيه فأمسك فلا يطول الأمر بينهما حتى أراه قد أدخل يده في ثوبها فقرصها وعبث بثديها فتداخلني الغيرة وأقول ما بعد هذا شيء وأهم بضربهما بالعمود لكن على ما ترى عندي تأن فأقول بعد لم يبلغ الأمر بهما إلى القتل وهي أوائل وسيكون لها أواخر فإن أتى بما يوجب القتل قتلتهما فاسترحت فأمسك فيطول الأمر حتى أرى الواحدة قد قامت وقام الرجل في أثرها فيدخلان ذلك البيت وبابه وثيق جداً فأسعى خلفهما بهذا العمود لأقتلهما البتة فيسبقاني فيغلقان الباب وأبقى أنا خارجه وأنا غيور كما قد علمت فأقول متى علمت حركتهما مت أو قتلت نفسي فلا يكون والله يا أخي لي إعتصام إلا بذلك الطبل المعلق فأتناوله وأضعه في عنقي فلا أزال أضرب أبداً حتى يخرجا قال فما قمت والله وأنا أرى أوفى منه قولا وفعلا.
قال صلاح الدين الصفدي في الجزء الخامس والثلاثين من التذكرة ومن خطه نقلت حجَّت جميلة الموصلية بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان أخت أبي ثعلب سنة ست وثمانين وثلثمائة فسقت أهل الموسم كلهم السويق بالطبرزد والثلج واستصحبت البقول المزروعة في المواكب وعلى الجمال وأعدت خمسمائة راحلة للمنقطعين ونثرت على الكعبة عشرة آلاف دينار لم تستصبح عندها وفيها إلا بشموع العنبر واعتقت ثلثمائة عبد ومائتي جارية وأغنت الفقراء والمجاورين. وحج عبد الله بن جعفر ومعه ثلاثون راحلة وهو يمشي على رجليه بثلاثين ألفا وقال أعتقهم لله تعالى لعل الله أن يعتقني من النار.
وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقيم عشية عرفة مائة بدنة ومائة رقبة فيعتق الرقاب عشية عرفة وينحر البدن يوم النحر وكان يطوف بالبيت ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم الرب ونعم الإله أحبه وأخشاه.

عمر بن زر الهمداني لما قضى مناسكه أنسد ظهره إلى الكعبة الشريفة ثم قالت مودعاً للبيت ما زلنا نحل لك عروة ونشد أخرى ونصعد أكمة ونهبط وادياً وتخفضنا أرض وترفعنا أخرى حتى أتيناك غير محجوبين فليت شعري بم يكون منصرفنا أبذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من إليه خرجنا وإليه قصدنا وبحرمه أنخنا أرحم إملاق الوفد لغناك فقد أتيناك بعيسنا معراة جلودها ذابلة أسنتها نقبة أخفافها وإن أعظم الرزية أن نرجع وقد اكتفينا الغيبة اللهم وإن للزائرين حقا فأجعل حقنا غفران ذنوبنا فإنك جواد ماجد لا ينقصك نائل ولا يخصبك سائل.
ونقلت من خط الشيخ صلاح الدين الصفدي من الجزء الثامن والثلاثين من تذكرته ما صورته نقلت من خط شيخنا الشيخ الإمام الحافظ علم الدين البرزلي رحمه الله تعالى ما صورته قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة المحروسة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادي الآخرة في سنة اثنين وسبعمائة ظهرت دابة عجيبة من بحر النيل إلى ارض المنوفية صفة لونها لون الجاموس بلا شعر وآذانها كآذان الجمال وعيناها وفرجها مثل الناقة يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمكة ورقبتها مثل غلظ التيس المحشو تبناً وفمها وشفتاها مثل الكربال ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل طولهن دون الشبر وعرضهن أصبعين وفي فمها ثمانية واربعون ضرساً وسناً مثل بيادق الشطرنج وطول يدها من باطنها الى الارض شبران ونصف ومن ركتبها الى حافرها مثل بطن الثعبان أصغر مجعد ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل وعرض ظاهرها مقدار ذراعين ونصف وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما وفي بطنها ثلاث كروش ولحمها أحمر زفرته مثل السمك وطعمه كطعم الجمل وغلظ جلدها أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه إلى القلعة المعمورة بحضرة السلطان وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه.
ونقلت منه أيضاً كُتب إلى زين الدين الرحبي أنه وجد بالقاهرة بالقرب من المشهد كلبة ميتة ولها جروان يرضعان مقدار عشرين يوما بعد موتها ويلعبان حولها واللبن يخرج من أبزازها من الجانب الأعلى وأما الجانب الأسفل فإنه يبس وكان الناس يمرون بها ويتعجبون فسبحان من لايعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
وذكر الشيخ في حوادث سنة 726 قال قال شيخنا علم الدين رحمه الله تعالى نقلت من خط الصدر بدر الدين الفرازي قال في السابع من ذي الحجة سنة 721 أخبرني شخص أن كلبة ولدت بالقاهرة ثلاثين جرواً وأنها أحضرت بين يدي السلطان فلما رآها عجب من أمرها وسأل المنجمين عن ذلك فأعترفوا أنهم ليس لهم علم بذلك.
يحكى أن المهدي خرج يتصيد فلقيه الحسين بن مطير الأسدي فأنشده:
أضحت يمينك من جودٍ مصوّرةً ... لا بل يمينك منها صورة الجودِ
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقةً ... ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي كذبت يا فاسق وهل تركت في شعرك موضعاً لأحد مع قولك في معن بن زائدة:
المَّا بمعنٍ ثم قولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ كنت أول حُفرةٍ ... من الأرض خطَّت للمكارم مضجعا
ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرُّ والبحر مترعا
ولكن حويت الجود والجود ميّتٌ ... ولو كان حيّا ضقت حتى تصدّعا
وما كان إلاّ الجود صورة وجهه ... فعاش ربيعاً ثم ولىّ فودّعا
فلما مضى معنٌ مضى الجود والندى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
فأطرق الحسين وقال يا أمير المؤمنين وهل معن إلا حسنة من حسناتك فرضي عنه وأمر له بألفي دينار.
قال سعيد بن مسلم لما ولَّى المنصور معن بن زائدة أذربيجان قصده قوم من أهل الكوفة فلما صاروا ببابه استأذنوا عليه فدخل الآذن فقال أصلح الله الأمير وفد من أهل العراق قال من أي أهل العراق قال من الكوفة قال ائذن لهم فدخلوا عليه فنظر إليهم معن في هيئة مزرية ووثب على أريكته وأنشد يقول:
إذا نوبةٌ نابت صديقك فاغتنمْ ... ترقُّبها فالدهر بالناس قالبُ

فأحسنُ ثوبيك الذي هو لابسٌ ... وأفره مهريك الذي هو راكب
وبادرْ بمعروفٍ إذا كنت قادراً ... زوال اقتدارٍ فهو عنك يعاقب
قال فوثب إليه رجل من القول فقال أصلح الله الأمير ألا أنشدك أحسن من هذا قال لمن قال لابن عمك هرمة قال هات فأنشد يقول:
والنفس تاراتٌ تحلّ بها العرى ... وتسخو عن المال النفوس الشحائحُ
إذا المرء لم ينفعك حيًّا فنفعه ... أقلّ إذا ضمّت عليه الصفائح
لأيّة حالٍ يمنع المرء ماله ... غداً فغداً والموت غادٍ ورائح
فقال معن أحسنت والله وإن كان الشعر لغيرك يا غلام اعطهم أربعة آلاف يستعينون بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد الغلام اجعلها دنانير أم دراهم فقال معن والله لا تكون همتك أرفع من همتي.
مدح مطيع بن أياس معن بن زائدة فقال له معن إن شئت مدحتك وإن شئت أثنيتك فاستحي من اختيار الثواب وكره اختيار المدح فقال:
ثناءٌ من أميرٍ خيرُ كسبٍ ... لصاحب مغنمٍ وأخي ثراءٍ
ولكنَّ الزمان برى عظامي ... وما مثل الدراهم من داوء
فأمر له بألف دينار.
ولما قدم معن بن زائدة أتاه الناس فأتاه ابن جحفة فإذا المجلس غاص بأهله فدق بعصاه الباب ثم قال:
وما أحجم الأعداء عنك تقيَّةً ... عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الجود والحتف فيهما ... أبا الله إلا أن يضرَّ وينفعا
فقال معن تحكم يا ابا السمط فقال عشرة الاف فقال معن ونزيد له ايضاً.
أتى أعرابي إلى معن بن زائدة ومعه نطع فيه صبي حين ولد فاستأذن عليه فلما دخل جعل الصبي بين يديه وقال:
سَمَّيَت معناً بمعنٍ ثم قلت له ... هذا سميُّ فتىً في الناس محمودِ
أنت الجواد ومنك الجود نعرفه ... ومثل جودك فينا غير معهودِ
أمست يمينك من جودٍ مصوّرةً ... لا بل يمينك منها صورة الجود
قال كم الأبيات: قال ثلاثة قال أعطوه ثلثمائة دينار ولو كنت زدتنا لزدناك قال حسبك ما سمعت وحسبي ما أخذت.
أخبرنا الشيخ الجليل العدل الأصيل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن غانم بن وافد المهدي قال أخبرنا المشايخ الثلاثة الإمام فخر الدين أبو الحسن علي ابن أحمد بن عبد الواحد البخاري وأبو العباس أحمد بن شيبان بن ثعلب الشيباني وأم حميد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني قال أخبرنا أبو حفص عمر بن عمر ابن محمد بن أبي نصر الحميدي قال أنشدني أبو غالب محمد بن سهل النحوي الواسطي المعروف بابن شبران بواسط قال أنشدني الأمير أبو الهيجاء محمد بن عمران بن زريق الكاتب البغدادي لنفسه هذه القصيدة إلى آخرها وقد أنشدنيها جماعة بالمغرب وقال لي أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد وغيره يقال من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف وهي:
لا تعذليه فإنّ العذل يوجعُهُ ... قد قلت حقّاً ولكنْ ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في لومه حدَّاً أضرَّ به ... من حيثُ قدّرتِ أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً ... من عنفه فهو مُضنى القلب موجعُهُ
قد كان مضطلعاً بالبين يحمله ... فضُلِّعت بخطوب البيت أضلعُه
يكفيه من لوعة التفنيد أنَّ له ... من النَّوى كلَّ يومٍ ما يروِّعُهُ
ما آبَ من سفرٍ إلاَّ وأزعجَهُ ... رأيٌ إلى سفرٍ بالرغم يتبعُهُ
كأنّما هو في حِلٍّ ومُرتحَلٍ ... موكّلٌ بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه بالرحيل غنىً ... ولو إلى السدّ أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلاّ أنْ تجشّمه ... للرزق كدًّا وكم ممّن يودعه
وما مجاهدةُ الإنسان واصلةٌ ... رزقاً ولا دِعةُ الإنسان تقطعه
والله قسّم بين الناس رزقَهُمُ ... لم يخلقِ الله مخلوقاً يضيّعه
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
لكنّهم ملؤوا حرصاً فلست ترى ... بغيٌ إلا إنّ بغيَ المرءِ يصرعه

والحرص في المء والارزاق قد قسمت ... بغي الا ان بغي المرء يصرعه
والدهرُ يعطي الفتى ما ليس يطلُبُهُ ... حقّاً ويطعمُهُ من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودّعته وبودّي لو يودّعني ... طيبُ الحياة وأنيّ لاأودعه
كم قد تشفّع بي أنْ لا أفارقه ... وللضرورات حالٌ لا تشفِّعه
وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحىً ... وأدمعي مستهلاتُ وأدمعه
لا أكذبُ الله ثوبُ العذر منخرقٌ ... عنيّ برقته لكنْ أرقّعه
إنيّ أوسَّع عذري في جنايته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسّعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعُهُ
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فإنّ الله ينزعه
اعتضت من وجه خلِّي بعد فرقته ... كأساً تجرع منها ما أجرعه
كم قائلٍ لي ذنبُ البين قلت له ... الذنب والله ذنبي لست أدفعه
إلاَّ أقمت مكان الرشد أتبعه ... لو أنني يوم بان الرشد أجمعه
أن لا أقطّع أياماً وأنفذها ... بحسرةٍ منه في قلبي تقطّعه
بمن إذا هجع النّوام بتُّ به ... بلوعةٍ منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجعٌ وكذا ... لا يطمئن له مذْ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني ... به ولا أظنُّ بيَ الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيدٍ ... عسراء تمنعني حظّي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعاً فرقا ... فلم أوقّ الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل الأنس الذي درست ... آثاره وعفت مذ بنت أربُعُه
هل الزمان معيدٌ فيك لذّتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيثٌ على مغناك يمرعه
من عِنده ليَ عهدٌ لا يضيع كما ... عندي له عهدُ ودٍّ لا أضيّعه
ومن يصدّع قلبي ذكره وإذا ... جرى على قلبه ذكري يصدّعه
لأصبرن لدهرٍ لا يمتّعُني ... به ولا بيَ في حالٍ يمتّعه
علماً بأن اصطباري معقبٌ فرجاً ... فأضيق الأمر إن فكّرتُ أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تنل أحداً منّا منيته ... فما الذي بقضاء الله يصنعه
يحكى أنه وقع في ليلة الجمعة خامس عشر المحرم سنة 831أن حضرت صلاة العشاء بالجامع النووي بحماة فتقدم إمامه للصلاة بعد الإقامة وكبر تكبيرة الافتتاح وقرأ دعاء الإفتتاح والفاتحة ثم قرأ ألم السجدة ولما أتى على آية السجدة سجد ثم أتمها إلى آخرها وركع وسجد السجدتين ثم قام إلى الركعة الثانية وقرأ الفاتحة ثم قرأ سورة النحل وبني إسرائيل والكهف ومريم وجانبا من طه فأرتجَّ عليه فركع ثم اعتدل واقفاً ثم سجد السجدتين وتشهد وسلم على رأس الركعتين.

حكى الدينوري في المجالسة في ترجمة أبي عبد الله سعيد بن يزيد البناجي قال سمعت أبي يقول قال: قال خالي أحمد بن محمد بن يوسف سمعت محمد بن يوسف يقول كان أبو عبد الله البناجي مجاب الدعوة وله آيات وكرامات، بينما هو في بعض أسفاره إما حاجاً وإما غازياً على ناقة وكان في الطريق رجل عائن قلَّما ينظر إلى شيء إلا أتلفه وأسقطه وكان ناقة أبي عبد الله ناقة فارهة فقيل له إحفظها من العائن فقال أبو عبد الله ليس له إلى ناقتي سبيل فأخبر العائن بقوله فتخيَّر غيبة ابي عبد الله فجاء إلى رحله وعان ناقته فاضطربت وسقطت تضطرب فأتى عبد الله فقيل قد عان ناقتك وهي كما تراها تضطرب قال دلوني على العائن فدل عليه فقال بسم الله حبس حابس وحجر يابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه في كليتيه رشيق وفي ماله يليق فإرجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير فخرجت حدقة العائن وقامت الناقة لا بأس بها.
وله في أسماء الولائم:
وليمة أعراسِ وخرس ولادة ... عقيقة مولودٍ نقيمة قادم
وخيمة حزنٍ والبناء وكيرةُ ... عذيرة ختنٍ مأدبات المكارم
وله أيضاً في أسماء أيام العجوز على الترتيب:
بصنٌ وصنبرٌ ووبرٌ معللٌ ... بمطفىء جمرٍ آمرٌ نعم مؤتمر
تولّت عجوزٌ ثم أعقب بعدها ... شبابُ ربيعٍ زهره يانعُ نضر
ولغيره في أسماء خيل الحلبة:
سبق المجلّي والمصلّي والمسلّي ... بعد تاليه ترى المرتاحا
وبعاطفٍ وبفسكلٍ وحطيَّة ... حَلْبُ اللطيم على الكميتِ صباحا
لأبي العلائ المعري:
سألن فقلتُ مقصدُنا سعيدٌ ... فكان اسم الأمير لهنّ فالا
إذا ما الغيمُ لم يمطرْ بلاداً ... فإنّ له على يدك اتكالا
ولو أنَّ الرياح تهبُّ غرباً ... وقلتَ لها هلا هبّت شمالا
وأقسم لو غضبت على ثبيرٍ ... لأزمع عن محلَّته ارتحالا
نبذة لغوية يفتقر كل متأذب إليها: البلج هو أن ينقطع الحاجبان فلا يكون بينهما تضام للشعر وكان العرب تمدج البلج ويقال رجل أبلج وامرأة بلجاء.
ثم العين فجملة العين المقلة وهي الشحمة التي تجمع البياض والحدقة والناظر هو موضع البصر وفيه الإنسان والإنسان ليس بخلق له حجم والحجم ما وجدت مسه والعين كالمرآة إذا استقبلتها بشيء رأيت شخصه فيها وفيها الناظران وهما عرقان على حرف الأنف يسيلان من الموقين إلى الوجه وفيها الأجفان وهي غطاء المقلة من أعلى وأسفل وفيها الأشفار وهي حروف الأجفان التي تلتقي عند الغمض الواحد شفر والشفر الذي ينبت فيه الهدب الواحد هدب فإذا طالت الأهداب قيل رجل أهدب وامرأة هدباء ورجل أوطف وامرأة وطفاء وكذلك أذن هدباء إذا كانت كثيرة الشعر ووطفاء دليل على الطول والمحجر ما خرج من النقاب من الرجل والمرأة من الجفن الأسفل وفي العين الحماليق والواحد حملاق والحماليق النواحي وفيها اللحاظ وهي في مؤخرها الذي يلي الصدغ والموق طرفها الذي يلي الأنف وهو مخرج الدموع وفي العين الحوص وهو ضيق في مؤخرها يقال رجل أحوص امرأة حوصاء وفيها النجل وهو سعة العين وعظم المقلة وكثرة البياض وفيها الخنس وهو ضعف في النظر وفيها الكحل وهو سواد العين بين الحمرة والسواد والشهل أن يشوب سوادها زرقة يقال رجل أشهل وامرأة شهلاء ويقال نظر إليَّ شزراً وذلك إذا نظر عن يمينه أو عن شماله ولم يستقبله بنظره في النظر والإغضاء وهو أن يطبق جفنه على حدقته فيقال رايته مغضياً.
ثم الفم وفي الفم الثنايا والرباعيات والضواحك والأرحاء والنواجذ فالضواحك أربعة أضراس تلي الأنياب إلى جنب كل باب من أسفل الفم وأعلاه ضاحك وأما الأرحاء فهي ثمانية أضراس من أسفل الفم وأعلاه وفي الظلم ساكن وهو ماء الأسنان وفي الأسنان الشنب وهو برد وعذوبة في المذاق والفلج تباعد ما بين الأسنان.
ثم اللثة هو اللحم تنبت فيه الأسنان وفي اللثة اللمى وهو سمرة تضرب إلى سواد وكذلك الحوة واللهاة واللحمة الحمراء المعلقة على الحنك

نقلت من الجزء الثالث والعشرين من التذكرة للصفدي أن شهاب الدين أحمد الحموي النقاش ورد إلى القاهرة سنة 732 وكتب الختمة الشريفة على خوصة من أولها إلى آخرها مفصلة الأجزاء والسور أخبرني بذلك الموالي السادة الموقعون بالباب الشريف وقدمها لمولانا السلطان الملك الصالح وسألته عن مولده فقال في سنة 699 وله نظم رائق. وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: عشر تورث النسيان كثرة الهم والحجامة في النقرة والبول في الماء الراكد وأكل التفاح الحامض وأكل الكسفرة وأكل سؤر الفأرة وقراءة ألواح القبور والنظر إلى المصلوب والمشي بين القطارين والقاء القملة حية والله أعلم هذا آخر التذييل.
وهذا تذييل آخر.

بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمدا لله على نعمائه والصلاة والسلام على خير أنبيائه. يقول العبد الفقير إلى عفور مولاه الكريم إبراهيم بن الحاج علي الأحدب قد رأيت أن أذيل الثمرات بما جنيته من الثمار الدانية والفوائد العالية وبالله التوفيق.
فمن ذلك ما يحكى أن الصاحب بدر الدين وزير اليمن كان له أخ بديع الجمال وكان شديد الحرص عليه فأتى له بشيخ ذي دين وعفة وهيبة وعقل ليعلمه فأسكنه في منزل قريب منه فأقام على ذلك مدة ثم إن الشيخ امتحن بمحبة ذلك الشاب وقوي غرامه فيه فشكا يوما له حاله فقال له ما حيلتي وأنا لا أستطيع مفارقة أخي لا ليلاً ولا نهاراً أما الليل فإن سريري بجانب سريره وأما النهار فكما ترى تلازمنا فقال الشيخ إن منزلي ملاصق لداركم فيمكن إذا غمضت عين أخيك أن تقوم لتستعمل ماء فتأتي إلى الحائط وأنا أتناولك من وراء الجدار فتجلس عندي لحظة لطيفة من غير أن يشعر أخوك بشيء فقال السمع والطاعة وتواعدا على ليلة فهيأ له الشيخ من التحف والظرف ما يليق بمقامه فلما نام الصاحب واستغرق في النوم وأمن انتباهه قام الشاب وتمشى خطوات وفتح باب يتوصل منه إلى الحائط فوجد شيخه واقفاً ينتظره فتناوله وصار عنده في المنزل وكان ليلة البدر وتنادما ودارت بينهما كؤوس الشراب ممزوجة ببرد الرضاب وانتشى الشيخ وأخذ في الغناء وقد رمى القمر جرمه عليهما وانتبه الصاحب فلم يجد أخاه فقام فزعا مرعوباً ووجد الباب الذي استطرق منه أخوه مفتوحاً فقال من هنا جاء الشر فدخل منه وصعد الحائط فوجد نوراً ساطعاً من البيت ونظر فرآهما على هذه الحالة والكأس بيد الشيخ وهو ينشد أحسن صوت:
سقاني خمرةً من ريق فيه ... وحيّا بالعذار وما يليه
وبات معانقاً خدّا بخدٍ ... غزالٌ في الأنام بلا شبيه
وبات البدر مطَّلعاً علينا ... سلوه لا ينمُّ على أخيه
فكان من لطافة الصاحب أن قال والله لا أنمُّ عليكما وتركهما وانصرف انتهى.
ومن بديع ذلك ما حكاه ابن خلكان في تاريخه في ترجمة شرف الدين المعروف بابن المستوفي قال قد وصل إلى اربل بعض الشعراء وهو الشريف عبد الرحمن بن أبي الحسين بن عيسى بن علي بن يعرب في سنة ثمان وعشرين وستمائة وشرف الدين يومئذ وزير فسير له مثلوماً على يد شخص كان في خدمته يقال له الكمال بن الشعار الموصلي صاحب التاريخ والمثلوم عبارة عن دينار يقطع منه قطعة صغيرة وقد جرت عادتهم في العراق وتلك البلاد أن يفعلوا هذا لأنهم يتعاملون بالقطع الصغار ويسمونها القراضا ويتعاملون أيضاً بالمثلوم وهذا كثير الوجود بأيديهم فجاء الكمال إلى ذلك الشاعر وقال له الصاحب يقول لك أنفق الساعة هذا حتى يجهز لك شيئاً فتوهم الشاعر أن الكمال يكون قد قرض القطعة من الدينار وأن شرف الدين ما سيره إلا كاملاً وقصد استعلام الحال من جهة شرف الدين فكتب إليه:
يا أيُّها المولى الوزير ومن به ... في الجود حقَّاً تضرب الأمثالُ
أرسلت بدر التمِّ عند كماله ... حسناً فوافى العبد وهو هلال
ما غاله النقصان إلاَّ أنّه ... بلغ الكمال كذلك الآجال
فأعجب شرف الدين بهذا المعنى وحسن الاتفاق وأجاز الشاعر وأحسن إليه انتهى.

ومنه ما حكي أن إبراهيم بن سهل الأشبيلي كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه حتى أنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم وكان يحب يهودياً اسمه موسى وأكثر شعره فيه فلما أسلم أحب شاباً اسمه محمد وترك هوى اليهودي فقيل له في ذلك فأنشد:
تركت هوى موسى بحب محمدٍ ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي
وما عن قلىً تركي هواه وإنما ... شريعة موسى عُطِّلت بمحمد
وكان إبراهيم هذا شاعراً مجيداً اتفق له في صباه أن الهيثم نظم قصيدة مدح بها المتوكل على الله بن يوسف بن هود ملك الأندلس وقد كانت أعلامه سوداً لأنه كان بايع الخليفة ببغداد فأرسل إليه بالتولية والألوية والنيابة ولا يعلم أحد من ملوك الأندلس قبله ولا بعده بايع بني العباس قط فوقف إبراهيم بن سهل والهيثم ينشد قصيدته لبعض أصحابه فقال إبراهيم للهيثم زد بين البيت الفلاني والبيت الفلاني:
أعلامه السود إعلامٌ بسُؤدده ... كأنهَّنَّ بخد الملك خيلانُ
فقال الهيثم أهذا البيت شيء ترويه أم نظمته فقال بل نظمته الساعة فقال الهيثم أن عاش هذا الغلام فسيكون أشعر أهل الأندلس.
ومنه ما اتفق سنة ثمان وستمائة أن الملك المعظم عيسى سار إلى أخيه الملك الأشرف فاستعطفه على أخيه الكامل محمد وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعاً نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الأفرنج الذين قد أخذوا دمياط واستحكم أمرهم هناك من سنة أربع عشرة بعد حروب كثيرة يطول شرحها حتى عرض عليهم في بعضها أن يرد عليهم بيت المقدس وجمع ما كان صلاح الدين فتحه في الساحل ويتركوا دمياط فامتنعوا من ذلك فقدر الله سبحانه وتعالى أن قدمت عليهم مراكب فيها أميرة لهم فأخذتها مراكب المسلمين وأرسلت من أراضي دمياط المياه من كل ناحية فلم يمكن الأفرنج أن يتصرفوا بأنفسهم وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة من غير مفاوضة فجاء مقدمهم إلى الملك الكامل وعنده أخواه المذكوران كانا قائمين بين يديه وكان يوماً مشهوداً وأمر محموداً فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد وملوك الأفرنج والعساكر كلها واقفة بحضرته ومد سماطا عظيماً اجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر فقام المحلِّي الشاعر وأنشد:
هنيئاً فإن السعد راح مخلّدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحاً به المنى ... مبيناً وإنعاماً وعزّاً مؤيَّدا
تهلَّل وجه الأرض بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغا البحر الخضمُّ بأهله الط ... غاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام بهذا الدين من سلّ عزمه ... صقيلاً كما سلّ الحسام مجرّدا
فلم ينج إلاّ كلّ شلوٍ مجدّلٍ ... ثوى منهُمُ أو من تراه مقيّدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعاً ... عقيرته في الخافقين مشيّدا
أعبَّاد عيسى إنّ عيسى وقومه ... وموسى جميعاً يخدمون محمّدا
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بلغني أنه وقت الإنشاد أشار عند قوله عيسى إلى المعظم وعند قوله موسى إلى الأشرف وعند قوله محمد إلى الكامل وهذا من أحسن الاتفاق انتهى.
ومنه ما حكي عن جمال الدين كاتب سر الملك المعظم عيسى أنه كان بينه وبين السلطان مداعبة ومنادمة فاتفق أنه حضر في بعض الليالي عنده فلما رجع إلى منزله قالت له زوجته أين إنعام السلطان فقال ما أنعم عليَّ الليلة بشيء فقالت أنا أعوض عنه وقامت إليه هي وجواريها في الحال وتناولته بالخفاف الثقال إلى أن ألانت أعطافه وأدارت في حالة الصفع صلافه فكتب للمعظم رقعة في ذلك منها:
وتخالفت بيض الأكفّ كأنهّا الت ... صفيق عند مجالس الأعراس
وتتابعت سود الخفاف كأنهّا ... وقع المطارق من يديْ نحّاس
وقال أجب عنها فأجابه بما في آخره:
فاصبرْ على أخفافهنّ ولا تكنْ ... متخلّقا إلاّ بخلق الناس
وأعلم إن اختلفت عليك بأنّه ... ما في وقوفك ساعةٌ من باس
وضمنه أبو جعفر الأندلسي فقال:

ومورّدُ الوجنات دبَّ عِذارَهُ ... فكأنَّهُ خطٌّ على قرطاس
لمّا رأيتُ عذاره مستعجلاً ... قد رام يخفي الوردّ منهُ بآس
ناديته قفْ كي أودّع ورده ... ما في وقوفك ساعةٌ من باس
ومن البديع ما يحكي أن الشيخ ابن كثير صاحب التاريخ كان له صفَّة على باب داره يجلس ويطالع فيها استئناساً بالمارة لسآمة الوحدة وإلى جواره جار له رث الثياب وكان إذا رأى الشيخ جالساً على الصفَّة يجيء ويركب أكتافه فتفوح منه رائحة فيتأذى ويستحي أني يصرفه فاشتد غيظه يوماً فقال له: يا شيخ أما تستحي كلما تراني جالساً تجيء تركب أكتافي وأنت لست تعرف ما أطالعه ولا لك شعور به فلما أخجله بهذا التعنيف قال له يا سيدي الشيخ ما هذا الذي تطالع فيه من العلوم فقال شيء في الأقتباس فقال له أنشدني منه شيئاً ففكر ابن كثير ساعة واقتبس في مطالعة الحال وقال:
كيد حسودي وهَنَا ... ولي سرورٌ وهنا
الحمد لله الذي ... أذهب عنّا الحزنا
فلما فرغ من إنشاده قال له هذا الذي أفكرت فيه وتتكثر به أسمع ما أقول فأنشد ارتجالاً من غير وقفة:
قلبي إلى الرشد يسير ... وعنده النَّظم يسيرْ
الحمد لله الذي ... فضّلنا على كثير
واعتذر له وقال له إياك أن تزدري بأحد فإن مواهب الله تعالى في الصدور لا في الثياب انتهى.
ومن اللطائف ما حكي أن بعض الملوك حاصر ملكاً وأطال في حصاره فلما اشتد به المحاصرة استدعى بوزرائه فقال ما ترون وقد تأخرت بنا هذه الحال هل نسلمه أم نخرج عليه ليلاً ويفعل الله بنا ما يشاء فقال بعض وزرائه قد بدا لي رأي أرى أنهم ينصرفون به عنا من غير قتال فقال ما هو قال يجمع مولاي ما في خزانته من الذهب ويحضره فلما أحضره استدعى بالصياغ وأمرهم أن يصوغوه جميعه سهاما زنة كل سهم قدر معلوم فعملت على الأمر المذكور فكتب الوزير على كل نصل سطرين ثم أمر أن تركب السهام فلما ركبت أمر حاشية الملك بأن يأخذ كل واحد سهماً وأمرهم أن يرموها عن قوس واحد على العسكر المحتاط بهم فتلألأ لمعان نصالها حتى أدهش العيون فأمر الملك أن تجمع فلما جمعت بين يديه أمر أن يقرأ ما عليها فإذا هو مكتوب:
ومن جوده يرمي العفاة بأسهمٍ ... من الذهب الابريز صيغت نصولها
لينفقها مجروحها في دوائه ... ويشتري الأكفان منها قتيلها
فلما سمع ذلك أمر بالرحيل من ساعته وقال مثل هذا لا يحاصر ولا يقاتل.
ومن ذلك ما يحكي أن الشيخ شمس الدين المعروف بالدجوي رحمه الله تعالى كان يتعشق مليحاً فرآه بعد مدة وهو يتوجع من دمل طلع في دبره فسأله فقال دمل في ذلك المحل فضحك الشيخ ضحكاً شديداً وقال ما رأيت أعجب من هذا الدمل فقال له الشاب ولم قال الدمامل تطلع في أضيق المواضع وهذا على غير القياس جاء في أوسع المواضع فتبسم الشاب خجلاً ومضى انتهى.
لطيفة يحكى أن نقيب الأشراف ببغداد كان يهوى غلاماً اسمه صدقة فأخذه ابن المنير الطرابلسي يوماً وأضافه وجلس في طبقة له فذهب إليهم على خفية وقال:
يا من هُمُ في الطبقّةْ ... هل عندكم من شفقة
لسائلٍ متيّمٍ ... يطلب منكم صدقة
فأجابه ابن المنير ارتجالاً في الحال بقوله:
يا من أتانا سرقة ... بمهجةٍ محترقة
جدّك يا ذا لم يجز ... أخذك منّا صدقة
ومن المستعذب ما يحكى عن الفضل قال دخلت على الرشيد وبين يديه طبق ورد وعنده جاريته مارية وكانت تحسن الشعر والأدب مع الحسن والجمال فقال يا فضل قل في هذا الورد فأنشده بديها:
كأنهّا فم محبوبٍ يقبِّله ... فم الحبيب وقد أبدى به خجلا
فقال الرشيد ما تقولين يا مارية فأنشدته:
كأنّه لون خدي حين تدفعني ... كفُّ الرشيد لأمرٍ يوجب الغسلا
فقال الرشيد قم يا فضل فقد هيجتني هذه الماجنة فقمت وقد أرخيت الستور.

ومن الغايات التي لا تدرك ما حكاه الشريف المقّري في شرح بديعته أن صائغا نصرانياً اسمه نجم صاغ خاتماً لبعض أولاد وزراء بيت المقدس وكان اسمه يحيى فنقش عليه نجم عشق يحيى ودفعه له فلما قرأه طاش عقله وامتلأ غيظاً وذهب إلى أبيه وقال له اقرأ ما على هذا الخاتم فلما قرأه حصل في نفسه تأثير فأرسل خلفه وعقد مجلساً لدى القاضي وأراد قتله فلما حضر أعلم بذلك فقال ما ذنبي وأنتم تروون عن نبيكم: من قتل ذميا كنت خصمه يوم القيامة فقال له أو تتكلم وخطك يشهد عليك كيف تكتب نَجَمَ عشق يحيى فقال والله ما كتبت إلا ما تتبركون به في كتابكم فكتبت نجم عشق يحيى فطرب المجلس لذلك واستحسنوا ذكاءه وأشاروا عليه بالإسلام فهذا من الاتفاق العجيب.
ومثل ذلك قول أبو نواس يهجو خالصة جارية الرشيد:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع درُّ على خالصه
فلما بلغ الرشيد أنكر عليه وهدده فقال لم أقل إلا ضاء واستحسن مواربته وقال بعض من حضر هذا البيت قلعت عينه فأبصر.
حكي عن أبي العيناء أنه قال رأيت جارية مع النخاس وهي تحلف أن لا ترجع لمولاها فسألتها عن ذلك فقالت يا سيدي: أنّه يواقعني من قيام ويصلي من قعود ويشتمني بأعراب ويلحن في القرآن ويصوم الخميس والاثنين ويفطر رمضان ويصلي الضحى ويترك الفرض فقلت لا أكثر الله مثله في المسلمين.
وقيل زنى رجل بجارية فأحبلها فقيل له يا عدو الله هلا إذا ابتليت بفاحشة عزلت قال قد بلغني أن العزل مكروه قالوا فما بلغك أن الزنا حرام.
وقيل لأعرابي كان يتعشق قينة ما يضرك لو اشتريتها ببعض ما تنفق عليها قال فمن لي إذ ذاك بلذة الخلسة ولقاء المسارقة وانتظار الموعد.
وحكي أن علية بنت المهدي كانت تهوى غلاماً خادماً اسمه طلٌّ فحلف الرشيد أن لا تكلمه ولا تذكره في شعرها فاطلع الرشيد يوما عليها وهي تقرأ سورة البقرة فإن لم يصبها وابل فالذي نهى عنه أمير المؤمنين.
قيل دخلت امرأة على هارون الرشيد وعنده جماعة من وجوه أصحابه فقالت يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وفرحك بما آتاك وأتم سعدك لقد حكمت فقسطت فقال لها من تكونين أيتها المرأة فقالت من آل برمك ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم فقال: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قدره وأما المال فمردود إليك ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال أتدرون ما قالت المرأة فقالوا ما نراها قالت إلا خيراً قال ما أظنكم فهمتم ذلك أما قولها أقر الله عينك أي أسكنها عن الحركة وإذا أسكنت العين عن الحركة عميت وأما قولها وفرحك بما آتاك فأخذته من قوله تعالى حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة وأما قولها وأتم الله سعدك فأخذته من قول الشاعر.
إذا تمَّ أمرٌ بدا نقصه ... ترقَّب زوالاً إذا قيل تم
وأما قولها لقد حكمت فقسطت فأخذته من قوله تعالى وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا فتعجبوا من ذلك.
وحكي أن المأمون ولّى عاملاً على بلاد وكان يعرف منه الجور في حكمه فأرسل إليه رجلاً من أرباب دولته ليمتحنه فلما قدم عليه أظهر أنه قدم في تجارة بنفسه ولم يعلمه أن أمير المؤمنين عنده علم منه فأكرم نزله وأحسن إليه وسأله أن يكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين المأمون يشكر سيرته عنده ليزداد فيه أمير المؤمنين رغبة فكتب كتابا فيه بعد الثناء على أمير المؤمنين أما بعد الثناء على أمير المؤمنين أما بعد فقد قدمنا على فلان فوجدناه آخذاً بالعزم عاملاً بالحزم قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته أغنى القاصد وأرضى الوارد وأنزلهم منه منازل الأولاد وأذهب ما بينهم من الضغائن والأحقاد وعمر منهم المساجد الدائرة وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة يعني أن الكل صاروا فقراء لايملكون شيئاً من الدنيا يريدون النظر إلى وجه أمير المؤمنين أي ليشكو حالهم وما نزل بهم فلما جاء الكتاب إلى المأمون عزله عنهم لوقته وولى عليهم غيره.

وحكي أن بعض الملوك طلع يوماً إلى أعلى قصره يتفرج فلاحت منه التفاتة فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم ير الراءون أحسن منها فالتفتت إلى بعض جواريه فقال لها لمن هذه فقالت يا مولاي هذه زوجة غلامك فيروز قال فنزل الملك وقد خامره حبها وشغف بها فاستدعى بفيروز وقال له خذ هذا الكتاب وأمض به إلى البلد الفلانية وائتني بالجواب فأخذ فيروز الكتاب وتوجه إلى منزله فوضع الكتاب تحت رأسه فلما أصبح ودع أهله وسار طالباً لحاجة الملك ولم يعلم بما قد دبره الملك ثم إنّه لما توجه فيروز قام الملك مسرعاً وتوجه مختفياً إلى دار فيروز فقرع الباب قرعاً خفيفاً فقالت امرأة فيروز من بالباب قال أنا الملك سيد زوجك ففتحت له فدخل وجلس فقالت له أرى مولانا اليوم عندنا فقال جئت زائراً فقالت أعوذ بالله من هذه الزيارة وما أظن فيها خيراً فقال لها ويحك إنني أنا الملك سيد زوجك وما أظنك عرفتيني فقالت يا مولاي لقد علمت أنك الملك ولكن سبقتك الأوائل في قولهم:
سأترك ماءكم من غير وردٍ ... وذاك لكثرة الورّاد فيه
إذا سقط الذبابُ على طعامٍ ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ ... إذا كان الكلاب ولغن فيه
ويرتج الكريم خميص بطنٍ ... ولا يرضى مساهمة السفيه
وما أحسن يا مولاي قول الشاعر:
قل للذي شفّه الغرام بنا ... وصاحب الغدر غير مصحوب
والله لا قال قائلٌ أبداً ... قد أكل الليث فضلة الذيب
ثم قالت أيها الملك تأتي إلى موضع شرب كلبك تشرب منه فاستحى الملك من كلامها وخرج وتركها فنسي نعله في الدار هذا ما كان من الملك وأما فيروز فإنه لما خرج وسار تفقد الكتاب فلم يجده معه في رأسه فتذكر انه نسيه تحت فراشه فرجع إلى داره فوافق وصوله عقب خروج الملك من داره فوجد نعل الملك في الدار فطاش عقله وعلم أن الملك لم يرسله في هذه السفرة إلا لأمر يفعله فسكت ولم يبد كلاماً وأخذ الكتاب وسار إلى حاجة الملك فقضاها ثم عاد إليه فأنعم عليه بمائة دينار فمضى فيروز إلى زوجته فسلم عليها وقال لها قومي إلى زيارة بيت أبيك قالت وما ذاك قال إن الملك أنعم علينا وأريد أن تظهري لأهلك ذلك قالت حبا وكرامة ثم قامت من ساعتها إلى بيت أبيها ففرحوا بها وبما جاءت به معها فأقامت عند أهلها عدّة أشهر فلم يذكرها زوجها ولا ألم بها فأتى إليه أخوها وقال له يا فيروز إما أن تخبرنا بسبب غضبك وأما أن تحاكمنا إلى الملك فقال إن شئتم الحكم فافعلوا فما تركت لها عليَّ حقا فطلبوه إلى الحكم فأتى معهم وكان القاضي إذ ذاك عند الملك جالساً إلى جانبه فقال أخو الصبية أيَّد الله مولانا قاضي القضاة إني أجرت هذا الغلام بستاناً سالم الحيطان ببئر ماء معين عامرة وأشجار مثمرة فأكل ثمره وهدم حيطانه وأخرب ببئره فالتفت القاضي إلى فيروز وقال له ما تقول يا غلام فقال فيروز أيها القاضي قد استلمت هذا البستان وسلمته إليه أحسن ما كان فقال القاضي هل سلم إليك البستان كما كان قال نعم ولكن أريد منه السبب لرده قال القاضي ما قولك قال والله يا مولاي ما رددت البستان كراهية فيه وإنما جئت يوما من الأيام فوجدت فيه أثر الأسد فخفت أن يغتالني فحرمت دخول البستان إكراماً للأسد قال وكان الملك متكئاً فاستوى جالساً وقال يا فيروز إرجع إلى بستانك آمناً مطمئناً فوالله أن الأسد دخل البستان ولم يؤثر فيه أثراً ولا التمس منه ورقا ولا تمرا ولا شيئاً ولم يلبث فيه غير لحظة يسيرة وخرج من غير بأس، والله ما رأيت مثل بستانك ولا أشد احترازاً من حيطانه على شجره قال فرجع فيروز إلى داره ورد زوجته ولم يعلم القاضي ولا غيره بشيء من ذلك.

وحكي أن الحجاج سأل يوماً الغضبان بن القبعثري عن مسائل يمتحنه فيها من جملتها أنه قال له: من أكرم الناس قال أفقههم في الدين وأصدقهم لليمين وأبذلهم للمسلمين وأكرمهم للمهانين وأطعمهم للمساكين قال فمن ألأم الناس قال المعطي على الهوان والمقتر على الخوان الكثير الألوان قال فمن شر الناس قال أطولهم جفوة وأدومهم صبوة وأكثرهم خلوة وأشدهم قسوة قال فمن أشجع الناس قال أضربهم بالسيف وأقراهم للضيف وأتركهم للحيف قال فمن أجبن الناس قال المتأخر عن الصفوف المنقبض عن الزحوف المرتعش عند الوقوف المحب ظلال السقوف الكاره لضرب السيوف قال فمن أثقل الناس قال المتفنن في الملام الضنين بالسلام المهذار في الكلام المقبب على الطعام قال فمن خير الناس قال أكثرهم إحساناً وأقومهم ميزاناً وأدومهم غفراناً قال لله أبوك فكيف يعرف الرجل الغريب أحسيب هو أم غير حسيب قال أصلح الله الأمير إن الرجل الحسيب يدلك أدبه وعقله وشمائله وعزة نفسه وكثرة احتماله وبشاشته وحسن مداراته على أصله فالعاقل البصير بالإحسان يعرف شمائله والنذل الجاهل يجهلها فمثله كمثل الدرة إذا وقعت عند من لايعرفها ازدراها وإذا نظر إليها العقلاء عرفوها وأكرموها فهي عندهم لمعرفتهم بها عظيمة فقال الحجاج لله أبوك فمن العاقل والجاهل قال أصلح الله الأمير العاقل الذي لا يتكلم هذراً ولا ينظر شزراً ولا يضمر غدراً ولا يطلب عذراً والجاهل هو المهذار في كلامه المنَّان بطعامه الضنين بسلامه المتطاول على إمامه الفاحش على غلامه قال لله أبوك فمن الحازم الكيِّس قال المقبل على شأنه التارك لما لا يعنيه قال فمن العاجز قال المعجب بآرائه الملتفت إلى ورائه قال هل عندك من النساء خبر قال أصلح الله الأمير إني بشأنهن خبير إن شاء الله إن النساء من أمهات الأولاد بمنزلة الأضلاع إن عدّلتها انكسرت ولهن جوهر ولا يصلح إلا على المدارة فمن دارهنَّ انتفع بهن وقرّت عينه ومن شاورهنَّ كدرن عيشته وتكدرت عليه حياته وتنغصت لذاته فأكرمهن أعفهن وأفخر أحسابهن العفة فإذا زلن عنها فهن أنتن من الجيفة فقال له الحجاج يا غضبان إني موجهك إلى ابن الأشعث وافداً فماذا أنت قائل له قال أصلح الله الأمير أقول ما يرديه ويؤذيه ويضنيه فقال أني أظنك لا تقول له ما قلت وكأني بصوت خلاخلك تجلجل في قصري هذا قال كلا أصلح الله الأمير سأحدد له لساني وأجريه في ميداني فعند ذلك أمره بالمسير إلى كرمان فلما توجه إلى ابن الأشعث وهو على كرامان بعث الحجاج عينا عليه أي جاسوساً وكان يفعل ذلك مع جميع رسله فلما قدم الغضبان على ابن الأشعث قال له أن الحجاج قد هم بخلعك وعزلك فخد حذرك وتغدَّ به قبل أني يتعشى بك فأخذ حذره عند ذلك ثم أمر للغضبان بجائزة سنية وخلع فاخرة فأخذها وانصرف راجعاً فأتى إلى رملة كرمان في شدة الحر والقيظ وهي رملة شديدة الرمضاء فضرب قبته فيها وحط على رواحله فبينما هو كذلك إذا بإعرابي من بني بكر ابن وائل قد أقبل على بعير قاصداً نحوه وقد اشتد الحر وحميت الغزالة وقت الظهيرة وقد ظمىء ظمأ شديداً فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال الغضبان هذه سنة وردها فريضة فاز قائلها وخسر تاركها ما حاجتك يا إعرابي قال أصابتني الرمضاء وشدة الحر والظمأ فتيممت قبتك أرجو بركتها قال الغضبان فهلا تيممت قبة أكبر من هذه وأعظم قال: أيتهن تعني قال قبة الأمير بن الأشعث قال تلك لايوصل إليها قال ان هذه أمنع منها فقال الأعرابي ما أسمك يا عبد الله قال آخذ فقال وما تعطي قال أكره أن يكون لي إسمان قال بالله من أين أنت قال من الأرض قال فأين تريد قال أمشي في مناكبها فقال الأعرابي وهو يرفع رجلاً ويضع أخرى من شدة الحر أتقرض الشعر قال إنما يقرض الشعر الفأر فقال أفتسجع قال إنما تسجع الحمامة فقال يا هذا ائذن لي أن أدخل قبتك قال خلفك أوسع لك فقال قد أحرقتني الشمس قال مالي عليها من سلطان قال الرمضاء أحرقت قدمي قال بل عليها تبرد فقال أني لا أريد طعامك ولا شرابك قال لاتتعرض لما لا تصل إليه ولو طلعت روحك فقال الأعرابي سبحان الله قال نعم من قبل أن تطلع أضراسك فقال الأعرابي ما رأيت رجلاً أقسى منك أتيتك مستغيثاً فحجبتني وطردتني هلا أدخلتني وطارحتني القريض قال مالي بمحادثتك من حاجة فقال الأعرابي بالله ما أسمك ومن أنت فقال أنا

الغضبان ابن القبعثري فقال اسمان منكران خلقا من غضب قال قف متوكئاً على باب قبتي برجلك هذه العوجاء فقال قطعها الله أن لم تكن خيراً من رجلك هذه الشنعاء فقال الغضبان لو كنت حاكماً لجرت في حكومتك لأن رجلي في الظل قاعدة ورجلك في الرمضاء قائمة فقال الأعرابي أني لأظنك حرورياً قال اللهم اجعلني ممن يتحرى الخير ويريده فقال أني لا أظن عنصرك فاسداً قال ما أقدرني على إصلاحه فقال الإعرابي لا أرضاك الله ولا حياك ثم ولى وهو يقول:ن ابن القبعثري فقال اسمان منكران خلقا من غضب قال قف متوكئاً على باب قبتي برجلك هذه العوجاء فقال قطعها الله أن لم تكن خيراً من رجلك هذه الشنعاء فقال الغضبان لو كنت حاكماً لجرت في حكومتك لأن رجلي في الظل قاعدة ورجلك في الرمضاء قائمة فقال الأعرابي أني لأظنك حرورياً قال اللهم اجعلني ممن يتحرى الخير ويريده فقال أني لا أظن عنصرك فاسداً قال ما أقدرني على إصلاحه فقال الإعرابي لا أرضاك الله ولا حياك ثم ولى وهو يقول:
لا بارك الله في قومٍ تسودهم ... إنّي أظنُّك والرحمن شيطانا
أتيت قبته أرجو ضيافته ... فأظهر الشيخ ذو القرنين حرمانا
فلما قدم الغضبان على الحجاج وقد بلغه الجاسوس ما جرى بينه وبين ابن الأشعث وبين الأعرابي قال له الحجاج يا غضبان كيف وجدت أرض كرمان قال أصلح الله الأمير أرضا يابسة الجيش بها ضعاف هزلاء أن كثروا جاعوا وإن قلوا ضاعوا فقال له الحجاج ألست صاحب الكلمة التي بلغتني إنك قلتها لابن الأشعث تغدَّ بالحجاج قبل أن يتعشى بك فوالله لأحبسنك عن الوساد ولأنزلنك عن الجياد ولأشهرنك في البلاد قال الأمان أيها الأمير فوالله ما ضرَّت من قيلت فيه ولا نفعت من قيلت له فقال له ألم أقل لك كأني بصوت خلاخلك تجلجل في قصري هذا اذهبوا به إلى السجن فذهبوا به فقيد وسجن فمكث ما شاء الله ثم أن الحجاج ابتنى الخضراء بواسط فأعجب بها فقال لمن حوله كيف ترون قبتي هذه وبناءها فقالوا أيها الأمير إنها حصينة مباركة منيعة نضرة بهجة قليل عيبها كثير خيرها قال لم لم تخبروني بنصح قالوا لا يصفها لك إلا الغضبان فبعث إلى الغضبان فأحضره وقال كيف ترى قبتي هذه وبناءها قال أصلح الله الأمير: بنيتها في غير بلدك لا لك ولا لولدك لا تدوم لك ولا يسكنها وارثك ولا تبقى لك وما أنت لها بباق فقال الحجاج قد صدق الغضبان ردوه إلى السجن فلما حملوه قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين فقال أنزلوه كرِّرت قال رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين فقال اضربوا به الأرض فلما ضربوا به الأرض قال منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى فقال جروه فأقبلوا يجرونه وهو يقول بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم فقال الحجاج ويلكم اتركوه فقد غلبني دهاء وخبثا ثم عفا عنه وأنعم عليه وخلِّى سبيله: وقيل بينما كثير عزة مار بالطريق يوما إذا هو بعجوز عمياء على قارعة الطريق تمشي فقال لها تنحَّي عن الطريق فقالت له ويحك ومن تكون قال أنا كثير عزة قالت قبحك الله وهل مثلك يتنحى له عن الطريق قال ولم قالت: ألست القائل:
وما روضةٌ بالحسن طيّبة الثرى ... يمجُّ الندى جنحاتها وعرارها
بأطيب من أردان عزّة موهناً ... إذا أوقدت بالمجمر اللدان نارها
ويحك يا هذا لو تبخر بالمجمر اللدن مثلي ومثل أمك لطاب ريحها لم لا قلت مثل سيدك أمرىء القيس.
وكنت إذا ما جئت بالليل طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطّيب
فقطعته ولم يرد جواباً.

وحكى عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام فبينما أنا في الطريق إذا أنا بسواد على الطريق فتميزت ذاك فإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقالت سلام قولا من رب رحيم قال فقلت لها رحمك الله ما تصنعين في هذا المكان قالت ومن يضلل الله فلا هادي له فعلمت أنها ضالة عن الطريق فقلت لها أين تريدين قالت " سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " فعامت أنها قد قضت حجها وهي تريد بيت المقدس فقلت لها: أنت منذ كم في هذا الموضع؟ قالت: ثلاث ليال سويا. فقلت ما أرى معك طعاما تأكلين قالت: " هو يطعمني ويسقيني " فقلت: فبأي شيء تتوضئين. قالت: فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. فقلت لها: إنّ معي طعام فهل لك في الأكل قالت ثم أتموا الصيام إلى الليل فقلت قد أبيح لنا الإفطار في السفر قالت وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون لم لا تكلميني مثل ما أكلمك قالت: ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد فقلت فمن أي الناس أنت قالت ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فقلت قد أخطأت فاجعليني في حل قالت لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم فقلت فهل لك أن أحملك على ناقتي فتدركي القافلة قالت وما تفعلوا من خير يعلمه الله قال فأنخت الناقة قالت قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم فغضضت بصري عنها وقلت لها اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها فقالت وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فقلت لها اصبري قالت سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون قال فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح فقالت واقصد في مشيك واغضض من صوتك فجعلت أمشي رويدا رويدا وأترنم بالشعر فقالت فاقرأوا ما تيّسر من القرآن فقلت لها لقد أوتيت خيرا كثيرا قالت وما يذكّر إلا أولوا الألباب فلما مشيت بها قليلا قلت ألك زوج قالت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدُ لكم تسؤكم فسكتُّ ولم أكلمها حتى أدركت بها القافلة فقلت لها هذه القافلة فمن لك فيها فقالت المال والبنون زينة الحياة الدنيا فعلمت أن لها أولاداً فقلت وما شأنهم في الحج قالت وعلامات وبالنجم هم يهتدون فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت القباب والعمارات فقلت هذه القباب فمن لك فيها قالت واتخذ الله إبراهيم خليلا وكلم الله موسى تكليما يا يحيى خذ الكتاب بقوة فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد اقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فمضى أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي فقالت كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية فقلت الآن طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها فقالوا هذه أمنا لها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن فسبحان القادر على ما يشاء فقلت ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
قيل إن معن بن زائدة دخل على المنصور فقال له هيه يا معن تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زادت به ... شرفاً على شرفٍ بنو شيبان
فقال كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله:
مازلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كلِّ مهندٍ ووسنان
فقال أحسنت والله يا معن وأمر له بالجوائز والخلع.
ووفد ابن أبي محجن على معاوية فقام خطيبا فأحسن فحسده معاوية فقال له أنت الذي أوصاك أبوك بقوله:
إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمةٍ ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنَّني في الفلاة فإنّني ... أخافُ إذا ما متُّ أن لا أذوقها
قال بل أنا الذي يقول أبي:
لا تسأل الناس ما مالي وكثرته ... وسائل الناس ما جودي وما خلقي
أعطي الحسام غداة الروع حصّته ... وعاملُ الرمح أرويه من العلق
وأطعن الطعنة النجلاء عن عرضٍ ... وأكتم السّر فيه ضربة العنق

ويعلم الناس أنّي من سراتهم ... إذا سما بصر الرعديد بالفرق
فقال له معاوية أحسنت والله يا ابن أبي محجن وأمر له بصلة وجائزة.
وقيل دخل مجنون الطاق يوما إلى الحمام وكان بغير مئزر فرآه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكان في الحمام فغمض عينيه فقال له المجنون متى أعماك الله فقال منذ هُتك سترك.
ومن ذلك ما يحكى أن الحجاج خرج يوما متنزها فلما فرغ من نزهته انصرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه فإذا هو بشيخ من بني عجل فقال له من أين أيها الشيخ قال من هذه القرية قال كيف ترون عمالكم قال شر عمال يظلمون الناس ويستحلون أموالهم قال فكيف قولك في الحجاج قال ذاك ما ولي العراق شر منه قبحه الله وقبح من استعمله قال أتعرف من أنا قال لا قال أنا الحجاج قال جعلت فدائَك أو تعرف من أنا قال لا قال أنا فلان ابن فلان مجنون بني عجل أصرع في كل يوم مرتين قال فضحك الحجاج منه وأمر له بصلة.
وحكى أبو محمد الحسين بن محمد الصالحي قال كنا حول سرير المعتضد بالله ذات يوم نصف النهار فنام بعد أن أكل فانتبه منزعجاً وقال يا خدم فأسرعنا الجواب فقال ويحكم أعينوني بالشط فأول ملاح ترونه منحدراً في سفينة فارغة فاقبضوا عليه وائتوني به ووكلوا بالسفينة من يحفظها فأسرعنا فوجدنا ملاحا في سفينة فجئنا به المعتضد فلما رآه الملاح كاد يتلف فصاح عليه صيحة عظيمة كادت روحه تذهب منها وقال أصدقني يا ملعون عن قضيتك مع المرأة التي قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك فتلعثم وقال نعم كنت سحراً في المشرعة الفلانية فنزلت امرأة لم أر مثلها عليها ثياب فاخرة وحلي كثيرة وجواهر فطمعت فيها واحتلت عليها حتى سددت فمها وغرقتها وأخذت جميع ما كان عليها ثم طرحتها في الماء ولم أجسر على حمل سلبها إلى داري لئلا يفشو الخبر عليَّ فعولت على الهروب والانحدار إلى واسط فصيرت إلى أن خلا الشط في هذه الساعة من الملاحين فأخذت في الانحدار فتعلق بي هؤلاء القوم فحملوني إليك فقال أين الحلي والمسلب قال في صدر السفينة تحت البواري قال المعتضد عليَّ به الساعة فحضروا به فأمر بتغريق الملاح ثم أمر أن ينادى ببغداد من خرجت له امرأة إلى المشرعة الفلانية سحرا وعليها ثياب فاخرة وحلي فليحضر فحضر في اليوم الثاني أهلها واعطوا صفاتها وصفة ما كان عليها فسلم ذلك إليهم قال فقلت يا مولاي من أعلمك أأوحي إليك بهذه الحالة وأمر هذه الصبية فقال بل رأيت في منامي رجلا شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب وهو ينادي يا أحمد أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه وقرره على المرأة التي قتلها اليوم ظلما وسلبها ثيابها وأقم عليه الحد ولا يفتك فكان ما شهدتم.
وحكي أن بهرام الملك خرج يوما للصيد فأنفرد عن أصحابه فرأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتى بعد عن عسكره فنظر إلى راع تحت شجرة فنزل عن فرسه يبول وقال للراعي احفظ على فرسي حتى أبول فعمد الراعي إلى العنان وكان ملبساً ذهباً كثيراً فاستغفل بهرام وأخرج سكيناً فقطع أطراف اللجان وأخذ الذهب الذي عليه فرفع بهرام نظره إليه فرآه فغض بصره وأطرق برأسه إلى الأرض وأطال حاجته ثم قام بهرام فوضع يده على عينيه وقال للراعي قدم إليَّ فرسي فإنه قد دخل في عيني من سافي الريح فلا أقدر على فتحهما فقدمه إليه فركب وسار إلى أن وصل إلى عسكره فقال لصاحب مراكبه أن أطراف اللجام قد وهبتها فلا تتهمن بها أحداً.
قيل مرض أحمد بن أبي داود فعاده المتصم وقال نذرت أن عافاك الله تعالى أن اتصدق بعشرة آلاف دينار فقال له أحمد يا أمير المؤمنين فاجعلها في أهل الحرمين فقد لقوا من غلاء الأسعار شدة فقال نويت أن أتصدق بها على من ههنا وأطلق لأهل الحرمين مثلها فقال أحمد متع الله الإسلام وأهله بك يا أمير المؤمنين فإنك كام قال النميري لأبيك الرشيد رحمة الله تعالى عليه:
إنّ المكارم والمعروف أوديةٌ ... أحلَّكَ الله منها حيث تجتمعُ
من لم يكن بأمين الله معتصماً ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع

ومن محاسن الأخلاق ما حكي عن القاضي يحيى بن أكثم قال كنت نائماً ذات ليلة عند المامون فعطش فامتنع ان يصيح بغلام يسقيه وانا نائم فينغص عليَّ نومي فرأيته قد قام يمشي على أطراف أصابعهِ حتى أتى موضع الماء وبينه وبين المكان الذي فيه الكيزان نحو من ثلثمائة خطوة فأخذ منها كوزاً فشرب ثم رجع على أطراف أصابعه حتى قرب من الفراش الذي أنا عليه فخطا خطوات خائفاً لئلا ينبهني حتى صار إلى فراشه ثم رأيته آخر الليل قام يبول وكان يقوم في أول الليل وآخره فقعد طويلاً يحاول أن أتحرك فيصيح بالغلام فلما تحركت وثب قائماً وصاح يا غلام وتأهب للصلاة ثم جاءني فقال لي كيف أصبحت يا أبا محمد وكيف كان مبيتك قلت خير مبيت جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين قد خصك الله تعالى بأخلاق الأنبياء وأحب لك سيرتهم فهناك الله تعالى بهذه النعمة وأتمها عليك فأمر لي بألف دينار فأخذتها وأنصرفت.
قال وبت عنده ذات ليلة فانتبه وقد عرض له السعال حتى غلبه فسعل وأكب على الأرض لئلا يعلو صوته فانتبه.
وكنت معه يوماً في بستان ندور فيه فجعلنا نمر بالريحان فيأخذ منه الطاقتين ويقول لقيِّم البستان أصلح هذا الحوض ولا تغرس في هذا الحوض شيئاً من البقول قال يحيى ومشينا في البستان من أوله إلى آخره وكنت أنا ما يلي الشمس والمأمون مما يلي الظل فكان يجذبني أن أتحول أنا في الظل ويكون هو في الشمس فامتنع من ذلك حتى بلغنا آخر البستان فلما رجعنا قال يا يحيى والله لتكونن في مكاني ولأكونن في مكانك حتى آخذ نصيبي من الشمس كما أخذت نصيبك وتأخذ نصيبك من الظل فقلت والله يا أمير المؤمنين لو قدرت أن أقيك يوم الهول بنفسي لفعلت فلم يزل بي حتى تحولت إلى الظل وتحول هو إلى الشمس ووضع يده على عاتقي وقال بحياتي عليك إلا وضعت يدك على عاتقي مثل ما فعلت أنا فإنه لا خير في صحبة من لا ينصف.

أمنية أحمقين
وحكي أن أحمقين أصطحبا في طريق فقال أحدهما تعالَ نتمنَّ على الله فإن الطريق تقطع بالحديث فقال أحدهما أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها وقال الآخر أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئاً قال ويحك أهذا من حق الصحبة وحرمة العشرة فتصايحا واشتدت الخصومة بينهما حتى تماسكا بالأطواق ثم تراضيا على أن أول من يطلع عليهما يكون حكماً بينهما فطلع عليهما شيخ بحمار عليه زقان من عسل فحدثاه بحديثهما فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب ثم قال صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين.
بكاء زين العابدين
وقال الأصمعي بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول:
يا من يجيب دعا المضطّر في الظُّلم ... يا كاشف الضرُّ والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ... وأنت يا حيُّ يا قيومُ لم تنم
أدعوك ربّي حزيناً هائماً قلقاً ... فأرحم بكائي بحقّ البيت والحرم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سفهٍ ... فمن يجود على العاصين بالكرم
ثم بكى بكاء شديداً وأنشد يقول:
الا أيها المقصود في كلِّ حاجةٍ ... شكوت إليك الضرَّ فأرحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي ... فهبّ لي ذنوبي كلّها وأقضِ حاجتي
أتيت بأعمالٍ قباحٍ رديئةٍ ... وما في الورى عبدٌ جنى كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي ثم أين مخافتي

ثم سقط على الأرض مغشياً عليه فدنوت منه فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين فرفعت رأسه في حجري وبكيت فقطرت دمعة من دموعي على خده ففتح عينيه وقال من هذا الذي يهجم علينا قلت عبدك الأصمعي سيدي ما هذا البكاء والجزع وأنت من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة أليس الله تعالى يقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً قال: هيهات هيهات يا أصمعي إن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً أليس الله تعالى يقول: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنَّم خالدون انتهى.
وكان أبو العباس السفاح يعجبه السمر ومنازعة الرجال بعضهم بعضاً فحضر عنده ذات ليلة إبراهيم بن مخرمة الكندي وخالد بن صفوان بن الأهيم فخاضوا في الحديث تذاكروا مضر واليمن فقال إبراهيم بن مخرمة يا أمير المؤمنين أن أهل اليمن هم العرب الذي دانت لهم الدنيا ولا يزالوا ملوكاً ورثوا الملك كابرا عن كابر وآخراً من أول منهم النعمان والمنذر ومنهم عياض صاحب البحرين ومنهم من كان يأخذ كل سفينة غصباً وليس من شيء له خطر إلا إليهم ينسب إن سئلوا أعطوا وإن نزل بهم ضيف أقروه فهم العرب العاربة وغيرهم المتعربة فقال أبو العباس ما أظن التميمي رضي بقولك ثم قال ما تقول أنت يا خالد قال إن أذن لي أمير المؤمنين في الكلام تكلمت قال تكلم ولا تهب أحدا قال أخطأ المقتحم بغير علم ونطق بغير صواب وكيف يكون ذلك لقوم ليس لهم ألسن فصيحة ولا لغة صحيحة نزل بها كتاب ولا جاءت بها سنة يفتخرون علينا بالنعمان والمنذر ونفتخر عليهم بخير الأنام وأكرم الكرام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فللَّه المنة به علينا وعليهم فمنا النبي المصطفى والخليفة المرتضى ولنا البيت المعمورة زمزم والحطيم والمقام والحجابة والبطحاء وما لا يحصى من المآثر ومنا الصديق والفاروق وذو النورين والوصي والولي وأسد الله وسيد الشهداء وبنا عرفوا الدين وأتاهم اليقين فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اضطلمناه ثم أقبل خالد على إبراهيم فقال ألك علم بلغة قومك قال نعم قال فما اسم العين عندكم قال الجمجمة قال فما اسم السن قال الميدن قال فما اسم الأذن قال الصنارة قال فما اسم الأصابع قال صنّاراتهم قال فما اسم الذئب قال الكنع قال أفعالهم أنت بكتاب الله عز وجل قال نعم فإن الله تعالى يقول: " إنا أنزلناه قرآناً عربيا " وقال: " بلسان عربي مبين " وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " فنحن العرب والقرآن بلساننا أنزل ألم تر أنّ الله تعالى قال والعين بالعين ولم يقل والجمجمة بالجمجمة وقال تعالى والسن بالسن ولم يقل والميدن بالميدن وقال تعالى والأذن بالأذن ولم يقل الصنارة بالصنارة وقال تعالى يجعلون أصابعهم في آذانهم ولم يقل صنَّاراتهم في صنَّاراتهم وقال تعالى فأكله الذئب ولم يقل فأكله الكنع ثم قال لإبراهيم: أني أسألك عن أرعب أن أقررت بهن مهرت وإن جحدتهن كفرت فقال وما هن قال الرسول منا أو منكم قال منكم قال والقرآن أنزل علينا أو عليكم قال عليكم قال المنبر فينا أو فيكم قال فيكم قال فالبيت لنا أو لكم قال لكم فأذهب فما كان بعد هؤلاء فهو لكم بل ما أنت إلا سائس قرد أو دابغ جلد أو ناسج برد قال فضحك أبو العباس وأقر لخالد وحباهما جميعاً.

وحكي أن الحجاج أخذ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعذبه واستأصل موجوده وسجنه فتوصل يزيد بحسن تلطفه وأرغب السجان واستماله وهرب هو والسجان وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك فلما وصل يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه وأقامه عنده فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن وأنه عند سليمان بن عبد الملك أخي أمير المؤمنين وليّ عهد المسلمين وأن أمير المؤمنين أعلى رأيا فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك فكتب سليمان إلى أخيه يقول يا أمير المؤمنين إني ما أجرت يزيد بن المهلب إلا لأنه هو وأبوه وأخوته من صنائعنا قديماً وحديثاً ولم أجر عدواً لأمير المؤمنين وقد كان الحجاج قصده وعذبه وغرمه أربعة آلاف ألف درهم ظلما ثم طالبه بثلاثة آلاف ألف درهم وقد صار إلي وأستجار بي فأجرته وأنا أغرم عنه هذه الثلاثة آلاف ألف درهم فإن رأى أمير المؤمنين أن لايجزيني في ضيفي فليفعل فإنه أهل الفضل والكرم فكتب إليه الوليد أنّه لابد أن ترسل إليّ يزيد مغلولا مقيداً فلما ورد ذلك على سليمان أحضر ولده أيوب فقيده ودعا يزيد بن المهلب فقيده ثم شد قيد هذا إلى قيد هذا بسلسلة وغلهما جميعاً بغلين وأرسلهما إلى أخيه الوليد وكتب إليه أما بعد يا أمير المؤمنين فقد وجهت إليك يزيد وابن أخيك أيوب بن سليمان ولقد هممت أن أكون ثالثهما فإن هممت يا أمير المؤمنين بقتل يزيد فبالله عليك أبدأ بأيوب من قبله ثم اجعل يزيد ثانياً واجعلني إذا شئت ثالثاً والسلام فلما دخل يزيد بن المهلب وأيوب بن سليمان في سلسلة واحدة فأطرق الوليد استحياء وقال لقد أسأنا إلى أبي أيوب إذ بلغنا به هذا المبلغ فأخذ يزيد يتكلم ويحتج لنفسه فقال له الوليد ما نحتاج إلى الكلام فقد قبلنا عذرك وعلمنا ظلم الحجاج ثم أنه أحضر حداداً وأزال عنهما الحديد وأحسن إليهما ووصل أيوب ابن أخيه بثلاثين ألف درهم وصل يزيد بن المهلب بعشرين ألف درهم وردهما إلى سليمان وكتب كتاباً إلى الحجاج يقول له لا سبيل لك على يزيد بن المهلب فإياك أن تعاودني فيه بعد اليوم فسار يزيد إلى سليمان بن عبد الملك وأقام عنده في أعلى المراتب وأرفع المنازل انتهى.
وحكى أبو علي المصري قال: كان لي جار شيخ يغسل الموتى فقلت له يوما حدثني بأعجب ما رأيت من الموتى فقال جاءني شاب في بعض الأيام مليح الوجه حسن الثياب فقال لي أتغسل لنا هذا الميت قلت نعم فتبعته حتى أوقفني على باب فدخل هنيهة فإذا بجارية هي أشبه الناس بالشاب قد خرجت وهي تمسح عينيها فقالت أنت الغاسل قلت نعم قالت بسم الله أدخل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فدخلت الدار وإذا بالشاب الذي جاءني يعالج سكرات الموت وروحه في لبَّته وقد شخص بصره وقد وضع كفنه وحنوطه عند رأسه فلم أجلس إليه حتى قبض فقلت سبحان الله هذا ولي من أولياء الله تعالى حيث عرف وقت وفاته فأخذت في غسله وأنا أرتعد فلما أدرجته أتت الجارية وهي أخته فقبلته وقالت أما إني سألحق بك عن قريب فلما أردت الأنصراف شكرت لي وقالت أرسل إليَّ زوجتك إن كانت تحسن ما تحسنه أنت فأرتعدت من كلامها وعلمت أنها لاحقة به فلما فرغت من دفنه جئت أهلي فقصصت عليها القصة وأتيت بها إلى تلك الجارية فوقفت بالباب واستأذنت فقالت بسم الله تدخل زوجتك فدخلت زوجتي فإذا بالجارية مستقبلة القبلة وقد ماتت فغسلتها زوجتي وأنزلتها على أخيها رحمة الله عليهما:
أأحبابَنا بِنتُم عنِ الار فاشتكتْ ... لبعدكم آصالُها وضُحاها
وفارقتم الدار الأنيسة فاستوت ... رسومُ مبانيها وفاح كلاها
كأنكم يوم الفراقِ رحلتمُ ... بنومي فعيني لا تصيبُ كراها
وكنت شحيحاً من دموعي بقطرةٍ ... فقد صرت سمحاً بعدكم بدماها
يراني بساماً خليلي يظنُ بي ... سرورا وأحشائي السقامُ ملاها
وكم ضحكةٍ في القلب منها حرارةٌ ... يشبُّ لظاها لو كشفتُ غطاها
رعى الله أياماً بطيبِ حديثكمْ ... تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها
فما قلت إيهاً بعدها لمسامرٍ ... من الناس إلا قال قلبيَ آها

قيل لقيس بن سعد هل رأيت قط أسخى منك قال نعم نزلنا بالبادية على امرأة فجاء زوجها فقالت له: إنه نزل بنا ضيفان فجاء بناقة فنحرها وقال شأنكم فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها وقال شأنكم فقلنا ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا القليل فقال إني لا أطعم ضيفاني الفائت فبقينا عنده أياماً والسماء تمطر وهو يفعل كذلك فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة أعتذري لنا إليه ومضينا فلما ارتفع النهار إذا برجل يصيح خلفنا قفوا فوقفنا فلما دنا منا قال خذوا دنانيركم فإني لا آخذ على إكرامي ثمناً وإن لم تأخذوها طعنتكم برمحي هذا فأخذناها وانصرفنا.
وكان يزيد بن المهلب من الأجواد الأسخياء وله أخبار في الجود عجيبة من ذلك ما حكاه عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال لما أراد يزيد بن المهلب الخروج إلى واسط أتيته فقلت أيها الأمير إنْ رأيت أن تأذن لي فأصحبك قال إذا قدمت واسط فائتنا إن شاء الله تعالى فسافر وأقمت فقال لي بعض إخواني أذهب إليه فقلت كان جوابه فيه ضعف قال أتريد من يزيد جواباً أكثر مما قال فسرت حتى قدمت عليه فلما كان في الليل دعيت إلى السمر فتحدث القوم حتى ذكروا الجواري فالتفت إليَّ يزيد وقال إيه يا عقيل فقلت:
أفاض القوم في ذكر الجواري ... فأمّا الأعزبون فلن يقولوا
قال إنك لا تبقى عزبا فلما رجعت إلى منزلي إذا أنا بخادم قد أتاني ومعه جارية وفرش بيت وبدرة عشرة آلاف درهم وفي الليلة الثانية كذلك فمكثت عشر ليالي وأنا على هذه الحالة فلما رأيت ذلك دخلت عليه في اليوم العاشر فقلت أيها الأمير قد والله أغنيت وأقنيت فإن رأيت أن تأذن لي في الرجوع فأكتب عدوي وأسِرُّ صديقي فقال إنما أخيِّرك بين خلَّتين إما أن تقيم فنوليك أو ترحل فنغنيك فقلت أو لم تغنني أيها الأمير قال إنما هذا أثاث المنزل ومصلحة القدوم فنالني من فضله ما لا أقدر على وصفه.
وحدث أبو اليقظان عن أبيه قال حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقاً يحلق رأسه فجاءوه بحلاق فحلق رأسه فأمر له بخمسة آلاف درهم فتحير الحلاق ودهش وقال آخذ هذه الخمسة ألاف وأمضي إلى أم فلان أخبرها أني قد استغنيت فقال أعطوه خمسة آلاف أخرى فقال امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك.
وقيل إن الحجاج حبسه على خراج وجب عليه مقداره مائة ألف درهم فجمعت له وهو في السجن فجاءه الفرزدق يزوره فقال للحاجب استأذن لي عليه فقال إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه فقال الفرزدق إنما أتيت متوجعا لما هو فيه ولم آت ممتدحاً فأذن له فلما أبصره قال:
أبا خالدٍ ضاقتْ خراسانُ بعدكُمُ ... وقال ذوو الحاجات أين يزيدَ
فما قطرتْ بالشرق بعدك قطرةٌ ... ولا أخضرّ بالمروين بعدك عود
وما لسرورٍ بعد عزّك بهجةٌ ... وما لجوادٍ بعد جودك جود
فقال يزيد للحاجب ادفع إليه المائة ألف درهم التي جمعت لنا ودع الحجاج ولحمي يفعل فيه ما يشاء فقال الحاجب للفرزدق هذا الذي خفت منه لما منعتك من دخولك عليه فأخذها وانصرف.
ومر يزيد بن المهلب عند خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه بعجوز اعرابية فذبحت له عنزاً فقال لابنه ما معك من النفقة قال مائة دينار قال ادفعها إليها فقال هذه يرضيها اليسير وهي لا تعرفك قال إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا الكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
وقال أبو العيناء تذاكروا السخاء فاتفقوا على آل المهلب في الدولة المروانية وعلى البرامكة في الدولة العباسية ثم اتفقوا على أن أحمد بن داود أسخى منهم جميعاً وأفضل.
وسئل اسحق الموصلي عن سخاء أولاد يحيى بن خالد فقال أما الفضل فيرضيك فعله وأما جعفر فيرضيك قوله وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد وفي يحيى يقول القائل:
سألت الندى هل أنت حرٌّ فقال لا ... ولكنّني عبدٌ ليحيى بن خالد
فقلتُ شراءً قال لا بل وراثةً ... توارثني عن والدٍ بعد والد
وفي الفضل يقول القائل:
سألت الندى والجود مالي أراكما ... تبدّلتما عزّاً بذلٍّ مؤبّدِ
وما بال ركن المجد أمسى مهدّماً ... فقالا أُصبنا بابن يحيى محمد

فقلت فهلاّ متُّما بعد موته ... وقد كنتما عبديه في كلِّ مشهد
فقالا أقمنا كي نعزّي بفقده ... مسافة يومٍ ثم نتلوه في غد
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم الله تعالى وجهه: من كانت له إليَّ حاجة فليرفعها إليَّ في كتاب لأصون وجهه عن المسئلة.
وجاءه رضي الله تعالى عنه أعرابي فقال له يا أمير المؤمنين إن لي حاجة إليك يمنعني الحياء أن أذكرها فقال خطها في الأرض فكتب إني فقير فقال يا قنبر أكسه حلتي فقال الأعرابي:
كستوتني حلَّةً تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إيهٍ أبا حسن قد نلت مكرمةً ... ولست تبغي بما قدّمته بدلا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرفٍ بدأت به ... كلُّ أمرىء سوف يجزي بالذي فعلا
فقال يا قنبر زده مائة دينار فقال يا أمير المؤمنين لو فرقتها في المسلمين لأصلحت بها من شأنهم فقال رضي الله تعالى عنه صه يا قنبر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اشكروا لمن أثنى عليكم وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
وسئل اسحق الموصلي عن المخلوع فقال كان أمره كله عجبا كان لا يبالي أين يقعد مع جلسائه وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر كان عنده سليمان بن أبي جعفر يوماً فأراد الرجوع إلى أهله فقال له سفر البر أحب إليك أم سفر البحر قال البحر ألين عليَّ فقال أوقروا له زورقه ذهباً وأمر له بألف ألف درهم.
وشكا سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان موسى بن شهوان إلى سليمان بن عبد الملك وقال قد هجاني يا أمير المؤمنين فاستحضره سليمان وقال لا أم لك تهجو سعيداً قال يا أمير المؤمنين أخبرك الخبر عشقت جارية مدنية وأتيت سعيداً فقلت إني أحب هذه الجارية وإن مولاتها أعطيت فيها مائتي دينار وقد أتيتك فقال لي بورك فيك قال فأتيت يا أمير المؤمنين سعيد بن خالد فذكرت له حالي فقال يا جارية هاتي مطرفا فأتته بمطرف خز فصر لي في زاويته مائتي دينار فخرجت وأنا أقول:
أبا خالد أعني سعيد بن خالدٍ ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيدِ
ولكنَّني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بعقيد
ذروه ذروه إنّكم قد رقدتموا ... وما هو عن إحسانكم برقود
فقال سليمان قل ما شئت، وكتب كلثوم بن عمر إلى بعض الكرماء رقعة فيها:
بُثِّ تكرّهت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعةٍ لم يظهر الجودُ
بث النوال ولا تمنعك قلّته ... فكل ما سدَّ فقراً فهو محمود
فشاطره ماله حتى بعث إليه وبنصف خاتمه وفرد نعله.
دخل طلحة بن عبد الله بن عوف السوق يوماً فوافق فيه الفرزدق فقال يا أبا فراس اختر عشرا من الأبل ففعل فقال ضم إليها مثلها فلم يزل يقول مثل ذلك حتى بلغت مائة فقال هي لك فقال:
يا طلح أنت أخو الندى وعقيدُه ... إنّ الندى ما مات طلحة ماتا
إن الندى ألقى إليك رحاله ... فبحيث بتّ من المنازل باتا
ووفد أبو الشمقمق إلى مدينة سابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها توجه إلى منزله فوجده في دار الخراج يطالب فدخل عليه يتوجع فلما رآه محمد قال:
ولقد قدمت على رجالٍ طالما ... قدم الرجال عليهم فتموّلوا
أخنى الزمان عليهم فكأنّما ... كانوا بأرض أقفرت فتحوّلوا
فقال أبو الشمقمق:
الجود أفلسهم وأذهب مالهم ... فاليوم إن راموا السماحة يبخلوا
قال فخلع محمد ثوبه وخاتمه ودفعهما إليه فكتب بذلك مستوفي الخراج إلى الخليفة فوقع إلى عامله بإسقاط الخراج عن محمد ابن عبد السلام تلك السنة وإسقاط ما عليه من البقايا وأمر له بمائة ألف درهم معونة على مروءته.

وحكي عن أبي العيناء أنه قال حصلت لي ضيقة شديدة فكتمتها عن أصدقائي فدخلت يوماً على يحيى بن أكثم القاضي فقال: أن أمير المؤمنين المأمون جلس للمظالم وأخذ القصص فهل لك في الحضور قلت نعم فمضيت معه إلى دار أمير المؤمنين فلما دخلنا عليه أجلسه وأجلسني ثم قال يا أبا العيناء بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة فأنشدته:
لقد رجوتك دون الناس كلِّهم ... وللرجاء حقوقٌ كلُّها تجَبُ
إن لم يكنْ ليّ أسبابٌ أعيش بها ... ففي العُلا لَكَ أخلاقٌ هي السبب
فقال: يا سلامة أنظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين. فقال: بقية من مال. قال: فأدفع له مائة ألف درهم وابعث له بمثلها في كل شهر، فلما كان بعد أحد عشر شهراً مات المأمون، فبكى عليه أو العيناء حتى تقرحت أجفانه، فدخل عليه بعض أولاده فقال: يا أبتاه، بعد ذهاب العين ماذا ينفع البكاء؟ فأنشأ أبو العيناء يقول:
شيآن لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقَّيهما ... فَقْدُ الشباب وفرقة الأحباب
وقال الأعمش كانت عندي شاة فمرضت وفقدت الصبيان لبنها فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هي استوفت علفها وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها وكان تحتي لبد أجلس عليه فكان إذا خرج يقول خذ ما تحت اللبد حتى وصل إليَّ من علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.
وحكى أبو قدامة العشيري قال كنا مع يزيد ابن مزيد يوماً فسمع صائحاً يقول يا يزيد بن مزيد فطلبه إليه فقال ما حملك على هذا الصياح قال فقدت دابتي ونفذت نفقتي وسمعت قول الشاعر:
إذا قيل مَنْ للجود والمجد والندى ... فناد بصوتٍ يا يزيد بن مزيد
فأمر له بفرس أبلق كان معجباً به وبمائة دينار وخلعة سنية فأخذها وانصرف.
ومن الغرائب ما حكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم يزورونه فباتوا عند قبره فرأى رجل منهم صاحب القبر في المنام وهو يقول له هل لك أن تبيعني بعيرك بنجيبي وكان الميت قد خلف نجيباً وكان للرائي بعير سمين فقال نعم وباعه في النوم بعيره بنجيبه فلما وقع بينهما عقد البيع عمد صاحب القبر إلى البعير فنحره في النوم فانتبه الرائي من نومه فوجد الدم يسيح من نحر بعيره فقام وأتم نحره وقطع لحمه وطبخوه وأكلوه ثم رحلوا وساروا فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق سائرون استقبلهم ركب فتقدم منهم شاب فنادى هل فيكم فلان فقال صاحب البعير نعم ها أنا فلان ابن فلان فقال هل بعت من فلان الميت شيئاً قال نعم بعته بعيري بنجيبه في النوم فقال هذا نجيبه فخذه وأنا ولده وقد رأيته في النوم وهو يقول إن كنت ولدي فادفع نجيبي إلى فلان فانظر إلى هذا الرجل الكريم كيف أكرم أضيافه بعد موته.
قيل أن شاعراً قصد خالد بن يزيد فأنشد شعراً يقول فيه:
سألت الندى والجود حرّان أنتما ... فقالا يقيناً إنّنا لعبيدُ
فقلت ومن مولاكما فتطاولا ... إليَّ وقالا خالد بن يزيد
فقال يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له أن زدتنا زدناك فأنشد يقول:
كريمٌ كريمُ الأمهات مهذّبٌ ... تدفَّق كفّاه الندى وشمائله
هو البحر من أي الجهات أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
جوادٌ بسيط الكفّ حتى لو أنّه ... دعاها لقبضٍ لم تجبه أنامله
فقال يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له أن زدتنا زدناك فأنشد يقول:
تبرَّعت لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعبُ
وأنبتَّ ريشا في الجناحين بعدما ... تساقط منيّ الريش أو كاد يذهب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب
فقال يا غلام أعطه مائة ألف درهم وقل له إن زدتنا زدناك فقال حسب الأمير ما سمع وحسبي ما أخذت وانصرف.
وجاء إلى خالد بن عبد الله بعض الشعراء ورجله في الركاب يريد الغزو فقال له أني قلت فيك بيتين من الشعر فقال في مثل هذا الحال قال نعم فقال هاتهما فأنشد يقول:

يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظيرْ
لو كان مثلك آخرٌ ... ماكان في الدنيا فقير
فقال يا غلام أعطه عشرين ألف دينار فأخذها وانصرف.
وحيث ذكرنا نبذة من أخبار الكرماء نبذة من أخبار البخلاء فمن ذلك، أن رجلاً من البخلاء اشترى داراً وانتقل إليها فوقف ببابه سائل فقال له فتح الله عليك ثم وقف ثان فقال له مثل ذلك ثم وقف ثالث فقال له مثل ذلك ثم التفت إلى ابنته فقال لها ما أكثر السؤال في هذا المكان فقالت يا أبت ما دمت متمسكاً لهم بهذه الكلمة فما تبالي كثروا أم قلوا.
وألأم الئام وأبخلهم حميد الأرقط الذي يقال له هجاء الأضياف وهو القائل في ضيف له يصف أكله من قصيدة:
ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور
وقال فيه أيضا:
تجُهِّز كفّاه ويحسك حلقه ... إلى الزور ما ضمّت عليه الأناملُ
وأكل أعرابي مع أبي الأسود رطبا فأكثر ومد أبو الأسود يده إلى رطبة ليأخذها فسبقه الأعرابي إليها فسقطت منه في التراب فأخذها أبو الأسود وقال لا أدعها للشيطان يأكلها فقال الأعرابي والله ولا لجبريل وميكائيل لو نزلا من السماء ما تركتها.
وقال أعرابي لنزيل نزل به نزلت بواد غير ممطور ورجل بك غير مسرور فأقم بعدم أو أرحل بندم.
وللحمدوني:
رأيت أبا زرارة قال يوماً ... لحاجبه وفي يده الحسامُ
لئن وضع الخوانُ ولاح شخصٌ ... لاختطفنّ رأسك والسلام
فقال سوى أبيك فذاك شيخٌ ... بغيضٌ ليس يردعه الكلام
فقام وقال من حنقٍ عليه ... ببيتٍ لم يرد فيه القيام
أبي وابنا أبي والكلب عندي ... بمنزلةٍ إذا حضر الطعام
وقال له ابنْ لي يا ابن كلبٍ ... على خبزي أصادر أو أضام
إذا حضر الطعام فلا حقوقٌ ... عليَّ لوالديَّ ولا ذمام
فما في الأرض أقبح من خوانٍ ... عليه الخبز يحضره الزّحام
ويعجبني قول بعضهم:
زففت إلى نبهان من صفو فكرتي ... عروساً غدا بطن الكتاب لها صدرا
فقبَّلها عشراً وهام بحبّها ... فلما ذكرت المهر طلقها عشرا
ومن أخبار البخلاء ما حكاه بعضهم قال كنت في سفر فضللت في الطريق فرأيت بيتاً في الفلاة فأتيته فإذا به أعرابية فلما رأتني قالت من تكون قلت ضيف قالت أهلا ومرحباً بالضيف أنزل على الرحب والسعة قال فنزلت فقدمت لي طعاماً فأكلت وماء فشربت فبينما أنا على ذلك إذا أقبل صاحب البيت فقال من هذا فقالت ضيف فقال لا أهلا ولا مرحباً ما لنا وللضيف فلما سمعت كلامه ركبت من ساعتي وسرت فلما كان من الغد رأيت بيتا في الفلاة فقصدته فإذا فيه أعرابية فلما رأتني قالت من تكون قلت ضيف قالت لا أهلا ولا مرحباً بالضيف ما لنا وللضيف فبينما هي تكلمني إذ أقبل صاحب البيت فلما رآني قال من هذا قالت ضيف قال مرحباً وأهلاً بالضيف ثم أتى بطعام حسن فأكلت وماء فشربت فتذكرت ما مر بي بالأمس فتبسمت فقال مم تبسمك فقصصت عليه ما اتفق لي مع تلك الأعرابية وبعلها وما سمعت منه ومن زوجته فقال لا تعجب إن تلك الأعرابية التي رأيتها هي أختي وإن بعلها أخو امرأتي هذه فغلب على كل طبع أهله.
وقال عمر بن ميمون مررت ببعض طرق الكوفة فإذا أنا برجل يخاصم جاراً له فقلت ما بالكما فقال أحدهما أن صديقاً لي زارني فاشتهى رأساً فاشتريته وتغدينا وأخذت عظامه فوضعتها على باب داري أتجمل بها فجاء هذا فأخذها ووضعها على باب داره يوهم الناس أنه هو الذي اشترى الرأس.
وقال رجل من البخلاء لأولاده اشتروا لي لحماً فاشتروه فأمر بطبخه فلما استوى أكله جميعه حتى لم يبق في يده إلا عظمة وعيون أولاده ترمقه فقال ما أعطي أحد منكم هذه العظمة حتى يحسن وصف أكلها فقال ولده الأكبر أمشمشها يا أبت وأمصها حتى لا أدع للذر فيها مقيلا قال لست بصاحبها فقال الأوسط ألوكها يا أبت وألحسها حتى لا يدري أحد ألعام هي أم لعامين قال لست بصاحبها فقال الأصغر يا أبت أمصها ثم أدقها وأسفها سفا قال إنك صاحبها وهي لك زادك الله معرفة وحزما.

وقيل خرج إعرابي قد ولاه الحجاج بعض النواحي فأقام بها مدة طويلة فلما كان في بعض الأيام ورد عليه أعرابي من حيِّه فقدم إليه الطعام وكان إذ ذاك جائعاً فسأل عن أهله وقال ما حال ابني عمير قال ما تحب قد ملأ الأرض والحي رجالاً ونساء قال فما فعلت أم عمير قال صالحة أيضاً قال فما حال الدار قال عامرة بأهلها قال وكلبنا ايقاع قال قد ملأ الأرض نباحاً قال فما حال جملي زريق قال على ما يسرك قال فالتفت إلى خادمه وقال أرفع الطعام فرفعه ولم يشبع الأعرابي ثم أقبل عليه يسأله وقال يا مبارك الناصية أعد عليَّ ما ذكرت قال سل عما بدا لك قال فما حال كلبي إيقاع قال مات قال وما الذي أماته قال اختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات قال أو مات جملي زريق قال نعم قال وما الذي أماته قال كثرة نقل اللبن إلى قبر أم عمير قال أو ماتت أم عمير قال نعم قال وما الذي أماتها قال كثرة بكائها على عمير قال أو مات عمير قال نعم قال وما الذي أماته قال سقطت عليه الدار قال أو سقطت الدار قال نعم قال فقام له بالعصا ضارباً فولى من بين يديه هارباً.
وقال دعيل كنا عند سهل بن هارون فلم نبرح حتى كاد يموت من الجوع فقال ويلك يا غلام آتنا غداءنا فأتى بقصعة فيها ديك مطبوخ تحته ثريد قليل فتأمل الديك فرآه بغير رأس فقال لغلامه وأين الرأس فقال رميته فقال والله إني لأكره من يرمى برجله فكيف برأسه ويحك أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء ومنه يصيح الديك ولولا صوته ما أريد وفيه فرقه الذي يتبرك به وعينه التي يضرب بها المثل فيقال شراب كعين الديك ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم نر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه وهبك ظننت أني لا آكله ما قلت عنده من يأكله أنظر في أي مكان رميته فائتني به فقال لا أعرف أين رميته فقال لكني أنا أعرف أين رميته قد رميته في بطنك الله حسبك.
واشتكى رجل مروزي صدره من سعال فوصفوا له سويق اللوز فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه من الدواء فبينما هو يماطل الأيام ويدفع الآلام أتاه بعض أصدقائه فوصف له ماء النخالة وقال له أنه يجلوا الصدر فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب من مائها فجلا صدره ووجده يعصم فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لامرأته أطبخي لأهل بيتنا النخالة فإني وجدت ماءها يعصم ويجلو الصدر فقالت لقد جمع الله لك بهذه النخالة بين دواء وغداء فالحمد لله على هذه النعمة.
وعن خاقان بن صبح قال دخلت على رجل من أهل خراسان ليلا فأتانا بمسرجة فيها فتيلة في غاية الرقة وقد علق فيها عودا بخيط فقلت له ما بال هذا العود مربوطاً قال قد شرب الدهن وإذا ضاع ولم نحفظه احتجنا إلى غيره فلا نجد إلا عوداً عطشان ونخشى أن يشرب الدهن قال بينما أنا أتعجب وأسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو فنظر إلى العود فقال للرجل يا فلان لقد فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه أما علمت أن الريح والشمس يأخذان من سائر الأشاء وينشفان هذا العود لم لا أتخذت مكان هذا العود ابرة من حديد فإن الحديد أملس وهو مع ذلك غير نشاف والعود أيضاً ربما يتعلق به شعرة من قطن الفتيلة فينقصها فقال له الرجل الخراساني أرشدك الله ونفع بك فلقد كنت في ذلك من المسرفين.
وقال الهيثم بن عدي نزل على أبي حفصة الشاعر رجل من اليمامة فأخلى له المنزل ثم هرب مخافة أن يلزمه قراه في هذه الليلة فخرج الضيف واشترى له ما احتاج إليه ثم رجع وكتب له:
يا أيهّا الخارج من بيته ... وهارباً من شدّة الخوفِ
ضيفك قد جاء بزادٍ له ... فارجعْ وكن ضيفاً على الضيف
وكان أبو العتاهية ومروان ابن أبي حفصة بخيلين يضرب ببخلهما المثل قال مروان ما فرحت بشيء أشد مما فرحت بمائة ألف درهم وهبها إليَّ المهدي فوزنتها فرجحت درهما، واشترى لحماً بدرهم فلما وضعه في القدر دعاه صديقه فرد اللحم على القصاب بنقصان دانقين فجعل القصاب ينادي على اللحم ويقول هذا لحم مروان. واجتاز يوما بأعرابية فأضافته فقال إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهم وهبت لك درهما فوهبه سبعين ألف درهم فوهبها أربعة دوانق.

ومن الموصوفين بالبخل آلا مرو يقال أن من عادتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم ويشبكها في خيط ويجمعون اللحم كله في قدر ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه فإذا استوى جرَّ كل منهم خيطه وأكل لحمه وتقاسموا المرق.
وكان عمر بن يزيد الأسدي بخيلاً جداً أصابه القولنج في بطنه فحقنه الطبيب بدهن كثير فأنحل ما في بطنه في الطست فقال لغلامه اجمع الذي نزل من الحقنة واسرج به.
وكان المنصور شديد البخل جداً مر به مسلم الحادي في طريقه إلى الحج فحدا له يوماً بقول الشاعر:
أغرُّ بين الحاجبين نوره ... يزينه حياؤه وخيرُهُ
ومسكه يشوبه كافوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره
فطرب حتى ضرب برجله المحمل وقال يا ربيع أعطه نصف درهم فقال نصف درهم يا أمير المؤمنين والله لقد حدوت لهشام فأمر لي بثلاثين ألف درهم فقال تأخذ من بيت مال المسلمين ثلاثين ألف درهم يا ربيع: وكِّل به من يستخلص منه هذا المال قال الربيع فما زلت أمشي بينهما وأروضه حتى شرط مسلم على نفسه أن يحدو له في ذهابه وإيابه بغير مؤنة وأخبار البخلاء كثيرة وفيما أوردناه كفاية.
نادرة قيل لأبي الحرث ما تقول في الفالوذجة قال وددت لو أنها وملك الموت اختلجا في صدري والله لو أن موسى لقي فرعون بالفالوذجة لآمن به ولكنه لقيه بعصا.
ودخل ابن قزعة يوماً على عز الدولة وبين يديه طبق فيه موز فتأخر عن استدعائه فقال ما بال مولانا ليس يدعوني إلى الفوز بأكل الموز فقال صفه حتى أطعمك فقال ما الذي أصف من حسن لونه فيه سبائك ذهبية كأنها حشيت زبداً وعسلا وأطيب الثمر كأنه مخ الشحم سهل المقشر لين المكسر عذب المطعم بين الطعوم سلس في الحلقوم ثم مد يده وأكل.
وسمع رجلا يذم الزبد فقال له ما الذي ذممت منه سواد لونه أم بشاعة طعمه أم صعوبة مدخله أم خشونة ملمسه.
وقيل له ما تقول في الباذنجان قال أذناب المحاجم وبطون العقارب وبزور الزقوم قيل له أنه يحشى باللحم فيكون طيباً فقال لو حشي بالتقوى والمغفرة ما أفلح.
وصنع الحجاج وليمة وأحتفل فيها ثم قال لزاذان هل عمل كسرى مثلها فاستعفاه فأقسم عليه فقال: أولَمَ عبد عند كسرى فأقام على رؤوس الناس ألف وصيفة في يد كل واحدة أبريق من ذهب فقال الحجاج أف والله ما تركت فارس لمن بعدها من الملوك شرفا.
وقال معاوية لرجل على مائدته خذ الشعرة من لقمتك فقال وإنك تراعيني مراعاة من يرى الشعرة في لقمتي لا أكلت لك طعاماً أبداً.
وحضر أعرابي على مائدة بعض الخلفاء فقدم جدي مشوي فجعل الأعرابي يسرع في أكله منه فقال له الخليفة أراك تأكله بحرد كأن أمه نطحتك فقال أراك تشفق عليه كأن أمه أرضعتك.
ودعت أبا الحرث صبية له فحادثته ساعة فجاع فطلب الأكل فقالت له أما في وجهي ما يشغلك عن الأكل قال جعلت فداك فلو أن جميلا وبثينة قعدا ساعة لا يأكلان لبصق كل منهما في وجه صاحبه وافترقا.
وقال الشمردل وكيل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف فدخل هو وعمر بن عبد العزيز إليَّ وقال يا شمردل ما عندك ما تطعمني قلت عندي جدي كأعظم ما يكون سمنا قال عجل به فأتيته به كانه عكة سمن فجعل يأكل منه ولا يدعو عمر حتى إذا لم يبق منه إلا فخذاً قال هلم يا أبا جعفر فقال إني صائم فأكله ثم قال يا شمردل ويلك أما عندك شيء قلت ست دجاجات كأنهن أفخاذ نعام، فأتيته بهن فأتى عليهن، ثم قال يا شمردل: أما عندك شيء. قلت: سويق كأنه قراضة الذهب فأتيته به فعبه حتى أتى عليه ثم قال يا غلام أفرغت من غدائنا قال نعم قال ما هو قال نيف وثلاثون قدرا قال أتئني بقدر قدر فأتاه به ومعه الرقاق فأكل من كل قدر ثلثه ثم مسح يده واستلقى على فراشه وأذن للناس فدخلوا، وصُفَّ الخوان وأكل مع الناس.
ونزل رجل بصومعة راهب فقدم إليه الراهب أربعة أرغفة وذهب ليحضر إليه العدس فحمله وجاء فوجده قد أكل الخبز فذهب وأتى بخبز فوجده قد أكل العدس ففعل معه ذلك عشر مرات فسأله الراهب أين مقصدك قال إلى الأردن قال لماذا قال بلغني أن بها طبيباً حاذقاً أسأله عما يصلح معدتي فإني قليل الشهوة للطعام فقال له الراهب إن لي إليك حاجة قال وما هي: قال إذا ذهبت وأصلحت معدتك فلا تجعل رجوعك من ههنا.

يحكى أن زياد أمر بضرب عنق رجل فقال: أيها الأمير إن لي بك حرمة قال وما هي قال إن أبي جارك بالبصرة قال ومن أبوك قال يا مولاي أني نسيت اسم نفسي فكيف لا أنسى اسم ابي فرد زياد كمه في فمه وضحك وعفا عنه.
وحكي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن غلاماً له وقف يصب الماء على يديه فوقع الإبريق من يد الغلام في الطست فطار الرشاش في وجهه فنظر جعفر إليه نظرة مغضب فقال ي مولاي والكاظمين الغيظ قال كظمت غيظي قال والعافين عن الناس قال عفوت عنك قال والله يحب المحسنين قال إذهب فأنت حر لوجه الله الكريم.
وقيل لما قدم نصر بن منيع بين يدي الخليفة وكان قد أمر بضرب عنقه قال يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمات أقولهن قال قل فأنشأ يقول:
زعموا بأن الصقر صادف مرّةً ... عصفور برٍّ ساقه التقديرُ
فتكلّم العصفور تحت جناحه ... والقصر منقضٌ عليه يطير
إني لمثلك لا أتّمم لقمةً ... ولئن شويت فانّني لحقير
فتهاون الصقر المدلُّ بصيده ... كرماً وألفت ذلك العصفور
قال فعفا عنه وخلي سبيله.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمر بأن يبعث إليه برأس عباد بن أسلم البكري فقال له عباد: أيها الأمير أنشدك الله لا تقتلني فوالله أني لأعول أربعاً وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري فرق لهن واستحضرهن فإذا واحدة منهن كالبدر فقال لها الحجاج ما أنت منه قالت أنا ابنته فاسمع يا حجاج مني ما أقول ثم قالت:
أحجاج إمَّا أنْ تمنّ بتركه ... علينا وإمَّا أن تقتّلنا معا
أحجاج لا تفجع به إن قتلته ... ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج لا تترك عليه بناته ... وخالاته يندبنه الدهر أجمعا
فبكى الحجاج ورق له واستوهبه من أمير المؤمنين عبد الملك وأمر له بصلة.
وحكي أن رجلاً زوَّر ورقة عن خط الفضل بن الربيع تتضمن أنه أطلق له ألف دينار ثم جاء به إلى وكيل الفضل فلما وقف الوكيل عليها لم يشك أنها خط الفضل فشرع في أن يبذل له الألف دينار وإذا بالفضل قد حضر ليتحدث مع وكيله في تلك الساعة في أمر مهم فلما جلس أخبره الوكيل بأمر الرجل وأوقفه على الورقة فنظر الفضل فيها ثم نظر وجه الرجل فرأه كاد يموت من الوجل والخجل فأطرق الفضل بوجهه ثم قال للوكيل أتدري لم أتيتك في هذا الوقت قال لا قال جئت لأستنهضك حتى تعجل لهذا الرجل اعطاء المبلغ الذي في هذه الورقة فأسرع عند ذلك الوكيل في وزن المال وناوله الرجل فقبضه وصار متحيراً في أمره فالتفت إليه الفضل وقال له طب نفسا فقال له سترتني سترك الله في الدنيا والآخرة ثم أخذ المال ومضى.
من اللطائف والغرائب الدالة على الوفاء بالذمم ما حكاه بعض خدم أمير المؤمنين المأمون قال طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي خذ معك فلاناً وفلانا وسماهما أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم وأذهب مسرعاً لما أقول لك فإنه قد بلغني أن شيخاً يحضر ليلاً إلى دور البرامكة وينشد شعراً ويذكرهم ذكرا كثيراً ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف فأمض الآن أنت وعلي ودينار حتى تروا هذه الخربات فاستتروا في بعض الجدران فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد شيئاً فائتوني به قال فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخربات وإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي جديد وإذا بشيخ وسيم له جمال وعليه مهابة ووقار قد أقبل فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول:
ولما رأيت السيف جندل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسّفي ... عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا

مع أبيات أطالها ورددها فلما قبضنا عليه وقلنا له أجب أمير المؤمنين فزع فزعا شديداً وقال دعوني حتى أوصي وصية فإن لا أوقن بعدها بحياة ثم تقدم إلى بعض الدكاكين فاستفتح وأخذ ورقة وكبت فيها وصية ودفعها إلى غلامه ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين، زجره. وقال له: ومن أنت؟ وبماذا استوجبت البرامكة منك ما تفعله في خرائب دورهم وما تقوله فيها فقال يا أمير المؤمنين: إنَّ للبرامكة عندي أيادي خطيرة أفتأذن لي أن أحدثك حديثي معهم قال قل: قال يا أمير المؤمنين: أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورؤوس أهلي أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبي وصبية وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فدعوت بثويبات لي كنت قد أعددتها لأستمنح بها الناس فلبستها وخرجت وتركتهم جياعاً لا شيء عندهم ودخلت شوارع بغداد سائلاً عن دور البرامكة فإذا أنا بمسجد مزخرف وفيه مائة شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان فطمعت في القوم وولجت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم وأؤخر والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي وإذا بخادم قد أقبل فدعا القوم فقاموا وأنا معهم فدخلوا دار يحيى بن خالد ودخلت معهم وإذا بيحيى جالس على دكة له في وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحداً وبين يديه عشرة من ولده وإذا غلام أمرد قد عذر خداه أقبل من بعض المقاصير بين يديه مائة خادم ممنطقون في وسط كل خادم منطقة من ذهب يقرب وزنها من ألف مثقال ومع كل خادم مجمرة من ذهب في كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهرقد قرن بها مثلها من الغنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام إلى جنب يحيى ثم قال يحيى للقاضي تكلم وزوّج بنتي عائشة من ابن عمي هذا فخطب القاضي وزوجه وشهد أولئك الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر فالتقطت والله يا أمير المؤمنين ملء كمي ونظرت فإذا نحن في المكان ما بيني والمشايخ وولده والغلام مائة واثنا عشر رجلا فخرج إلينا مائة واثنا عشر خادما مع كل خادم صينية من فضة عليها ألف دينار فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي بين يدي يحيى لا أجسر على أخذ الصينية فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي وأخذت الصينية في يدي وقمت وجعلت ألتفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهب به فبينما أنا كذلك في صحن الدار ويحيى يلحظني إذ قال للخادم ائتني بذلك الرجل فرددت إليه فأمر بصب الدنانير والصينية وما كان في كمي ثم أمرني بالجلوس فجلست فقال لي ممن الرجل فقصصت عليه قصتي فقال للخادم ائتني بولدي موسى فأتى به فقال يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك فقبض موسى علي يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال أن الوزير قد أمرني بالعطف على هذا الرجل وقد علمت اشتغالي في دار أمير المؤمنين فأقبضه إليك وأكرمه ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام فلما كان من الغد تسلمني أخوه ثم لم أزل في أيدي القوم يتداولونني عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم في الأحياء فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جمعة من الخدم فقالوا لي قم فأخرج إلى عيالك بسلام فقلت واويلاه سلبت الدنانير والصينية وأخرج إلى عيالي على هذه الحالة أنا لله وإنا إليه راجعون فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي مهما كان لك من الحوايج فارفعها إليَّ فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به فلما رفع الستر رأيت حجرة كالشمس حسنا ونوراً واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إليَّ ألف ألف درهم وعشر آلاف دينار ومنشورين بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب اصطنعوني فلما جاءتهم البلية ونزل بهم من أمير

المؤمنين الرشيد ما نزل أجحفني عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به فلما تحامل علي الدهر كنت في أواخر الليل أقصد خربات القوم فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي أشكرهم على إحسانهم فقال المأمون عليَّ بعمرو بن مسعدة فلما أتي به قال له يا عمرو أتعرف هذا الرجل قال نعم يا أمير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة قال كم ألزمته في ضيعتيه قال كذا وكذا قال رد له كل ما استأديته منه في مدته ووقع له بهما ليكونا له ولعقبه من بعده قال: فعلا نحيب الرجل وبكاؤه فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال يا هذا قد أحسنا إليك فلم تبكي قال يا أمير المؤمنين وهذا أيضا من صنائع البرامكة إذ لو لم آت خرباتهم وأندبهم حتى أتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل بي ما فعل فمن أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين قال إبراهيم بن ميمون فلقد رأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك وإياهم فاشكر ولهم فأوف ولإحسانهم فأذكر.نين الرشيد ما نزل أجحفني عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به فلما تحامل علي الدهر كنت في أواخر الليل أقصد خربات القوم فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي أشكرهم على إحسانهم فقال المأمون عليَّ بعمرو بن مسعدة فلما أتي به قال له يا عمرو أتعرف هذا الرجل قال نعم يا أمير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة قال كم ألزمته في ضيعتيه قال كذا وكذا قال رد له كل ما استأديته منه في مدته ووقع له بهما ليكونا له ولعقبه من بعده قال: فعلا نحيب الرجل وبكاؤه فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال يا هذا قد أحسنا إليك فلم تبكي قال يا أمير المؤمنين وهذا أيضا من صنائع البرامكة إذ لو لم آت خرباتهم وأندبهم حتى أتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل بي ما فعل فمن أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين قال إبراهيم بن ميمون فلقد رأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك وإياهم فاشكر ولهم فأوف ولإحسانهم فأذكر.
ومن ذلك أنه خرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلب في بعض جبانات الشام فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي قال سليمان: فرفعت البرقع عن وجهها فحكت شمساً عن متون غمامة فوقفنا متحيرين ننظر إليها فقال لها يزيد بن المهلب يا أمة الله هل لك في أمير المؤمنين فنظرت إلينا ثم أنشأت تقول:
فإن تسألاني عن هواي فإنّه ... يحول بهذا القبر يا فتيانِ
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني

قصة أحمد اليتيم

ومن ذلك ما ذكره عبد الله بن عبد الكريم قال: أن أحمد بن طولون وجد عند سقاية طفلاً مطروحاً فالتقطه ورباه وسماه أحمد وشهره باليتيم فلما كبر ونشأ كان أكثر الناس ذكاء وفطنة وأحسنهم زيا وصورة فصار يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرن فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ولده أبا الجيش خمرويه به فأخذه إليه فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير أبو الجيش إليه وقال له أنت عندي بمكانة أرعاك بها ولكن عادتي أني آخذ العهد على كل أحد أعرفه أن لايخونني في شيء فعاهده ثم حكمه في أمواله وقدمه في أشغاله فصار أحمد اليتيم مستحوذاً على المقام حاكماً على جميع الحاشية الخاص والعام والأمير أبو الجيش بن طولون يحسن إليه فلما رأى أحواله متصفة بالنصح ومساعيه متسمة بالنجح ركن إليه واعتمد في أمور بيوته عليه فقال له يوماً يا أحمد أمض إلى الحجرة الفلانية ففي المجلس حيث أجلس سبحة جوهر فائتني بها فمضى أحمد فلما دخل الحجرة وجد جارية من مغنيات الأمير وحظاياه مع شاب من الفراشين ممن هم من الأمير بمحل قريب فلما رأياه خرج الفتى وجاءت الجارية إلى أحمد وعرضت نفسها عليه ودعته إلى قضاء وطره فقال معاذ الله أن أخون الأمير وقد أحسن إليَّ وأخذ العهد عليَّ ثم تركها وأخذ السبحة وأنصرف إلى الأمير وسلمها إليه وبقيت الجارية شديدة الخوف من أحمد بعدما أخذ السبحة وخرج من الحجرة لئلا يذكر حالها للأمير فأقامت أياما لم تجد من الأمير ما غيره عليها ثم أتفق أن الأمير اشترى جارية وقدمها على حظاياه وغمرها بعطاياه واشتغل بها عمن سواها وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جارية غيرها ولا يراها وكان أولا مشغولاً بتلك الجارية الخائنة العاهرة فلما أعرض عنها اشتغالاً بالجارية الجديدة وصرف لبهجة محاسنها وكثرة أدابها وجهه عن ملاعبة أترابها وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف رضاب أضرابها وكانت تلك الجارية الأولى لحسنها متآمرة على تأميره لا تخاف من وليه ولا نصيره كبر عليها أعراضه عنها ونسبت ذلك إلى أحمد اليتيم لاطلاعه على ما كان منها فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب نكرها وأعلنت بين يديه لاتمام كيدها وقالت أن أحمد اليتيم راودني عن نفسي فلما سمع الأمير ذلك استشاط غضباً وهمَّ في الحال بقتله ثم عاوده حاكم عقله فتأنى في فعله واستحضر خادماً يعتمد عليه وقال إذا أرسلت إليك إنساناً ومعه طبق من ذهب وقلت لك على لسانه املأ هذا الطبق مسكا فأقتل ذلك الإنسان وأجعل رأسه في الطبق وأحضره مغطى ثم عن الأمير أبا الجيش جلس لشربه وأحضر عنده ندماءه الخواص وأدناهم لمجلس قربه وأحمد اليتيم واقف بين يديه آمن من سربه لم يخطر بخاطره شيء فلما مثل بين يدي الأمير وأخذ منه الشراب شرع في التذكير فقال يا أحمد خذ هذا الطبق وأمض به إلى فلان الخادم وقل له يقول لك أمير المؤمنين املأ هذا الطبق مسكا فأخذه أحمد اليتيم ومضى فاجتاز في طريقه بالمغنين وبقية الندماء والخواص فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم فقال أنا ماض في حاجة الأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق فقالوا له أرسل من ينوب عنك في إحضارها وخذها أنت وأدخل بها على الأمير فأدار عينيه فرأى الفتى الفراش الذي كان معه الجارية فأعطاه الطبق وقال له امض إلى فلان الخادم وقل له يقول لك الأمير املأ هذا الطبق مسكاً فمضى ذلك الفراش إلى الخادم فذكر له ذلك فقتله وقطع رأسه وغطاه وجعله في الطبق وأقبل به فناوله لأحمد اليتيم فأخذه وليس عنده علم من باطن الأمر فلما دخل به على الأمير كشفه وتأمله وقال ما هذا فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم وما كان من أنفاذ الطبق وإرساله مع الفراش وأنه لا علم عنده غير ما ذكر قال أتعرف لهذا الفراش خبرا يستوجب به ما جرى عليه فقال أيها الأمير إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة وقد كنت رأيت الأعراض عن إعلام الأمير بذلك وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره لما أنفذه لاحضار السبحة الجوهر فدعا الأمير أبو الجيش بتلك الجارية واستقررها فأقرت بصحة ما ذكره أحمد فأعطاه إياها وأمره بقتلها ففعل وأزدادت مكانة أحمد عنده وعلت منزلته لديه وضاعف إحسانه إليه وجعل أزمَّة جميع ما يتعلق به بيديه.

قلت ويقرب من ذلك ما حكي أن ملكا من ملوك الفرس يقال له أزدشير وكان ذا مملكة متسعة وجند كثير وكان ذا بأس شديد وقد وصف له بنت ملك بحر الأردن بالجمال البارع وأن هذه البنت بكر ذات خدر فسيَّر أزدشير من يخطبها من أبيها فامتنع من إجابته ولم يرضَ بذلك فعظم ذلك على أزدشير وأقسم بالأيمان المغلظة ليغزون الملك أبا البنت وليقتلنه هو وابنته شر قتلة وليمثلن بهما أخبث مثلة فسار إليه أزدشير في جيشه فقاتله أزدشير وقتل سائر خواصه ثم سأل عن ابنته المخطوبة فبرزت إليه جارية من القصر من أجمل النساء وأكمل البنات حسناً وجمالاً وقدا واعتدالاً فبهت أزدشير من رؤيته إياها فقالت له أيها الملك إنني ابنة الملك الفلاني ملك المدينة الفلانية وأن الملك الذي قتلته أنت قد غزا بلدنا وقتل أبي وقتل سائر أصحابه قبل أن تقتله أنت وإنه أسرني في جملة الأسارى وأتى بي في هذا القصر فلما رأتني ابنته التي أرسلت تخطبها أحبتني وسألت أباها أن يتركني عندها لتأنس بي فتركني لها فكنت أنا وهي كأننا روحان في جسد واحد فلما أرسلت تخطبها خاف أبوها عليها منك فأرسلها إلى بعض الجزائر في البحر الملح عند بعض أقاربه من الملوك فقال أزدشير وددت لو أني ظفرت بها فكنت أقتلها شر قتلة ثم إنه تأمل الجارية فرآها فائقة في الجمال فمالت نفسه لها فأخذها للتسري وقال هذه أجنبية من الملك ولا أحنث في يميني بأخذها ثم إنّه أوقعها وأزال بكارتها فحملت منه فلما ظهر عليها الحمل اتفق أنها تحدثت معه يوماً وقد رأته منشرح الصدر فقالت له أنت غلبت أبي وأنا غلبتك فقال لها ومن أبوك فقالت له هو ملك بحر الأردن وأنا ابنته التي خطبتها منه وإنَّني سمعت أنك أقسمت لتقتلني فتحيلت عليك بما سمعت والآن هذا ولدك في بطني فلا يتهيأ لك قتلي فعظم ذلك على أزدشير إذ قهرته امرأة وتحيلت عليه حتى تخلّصت من بين يديه فانتهرها وخرج من عندها مغضباً وعوّل على قتلها ثم ذكر للوزير ما اتفق له معها فلما رآى الوزير عزمه قويا على قتلها ثم خشي أن يتحدث الملوك عنه بمثل هذا وأنه لا يقبل فيها شفاعة شافع فقال أيها الملك إن الرأي هو الذي خطر لك والمصلحة هي التي رأيتها أنت وقتل هذه الجارية في هذا الوقت أولى وهو عين الصواب لأنه أحق من أن يقال إن امرأة قهرت رأي الملك وحنثته في يمينه لأجل شهوة النفس ثم قال أيها الملك إنّ صورتها مرحومة وحمل الملك معها وهي أولى في الستر ولا أرى في قتلها أهون ولا أستر عليها من الغرق فقال له الملك نعم ما رأيت خذها غرِّقها فأخذها الوزير ثم خرج بها ليلاً إلى بحر الأردن ومعه ضوء ورجال وأعوان فتحيل إلى أن طرح شيئاً في البحر أوهم من كان معه أنها الجارية ثم إنه أخفاها عنده فلما أصبح جاء إلى الملك فأخبره أنه غرَّقها فشكره على فعله ثم إن الوزير ناول الملك حقاً مختوماً وقال أيها الملك إني نظرت مولدي فرأيت أجلي قد دنا على ما يقتضيه حساب حكماء الفرس في النجوم وإن لي أولاداً وعندي مال قد ادخرته من نعمتك فخذه إذا متُّ إن رأيت وهذا الحق فيه جوهر أسأل الملك أن يقسمه بين أولادي بالسوية فإنه إرثي الذي قد ورثته من أبي وليس عندي شيء أكتسبته منه إلا هذا الجوهر فقال له الملك يطول الرب في عمرك ومالك لك ولأولادك سواء كنت حيا أو ميتاً فألحَّ عليه الوزير أن يجعل الحق عنده وديعة فأخذه الملك وأودعه عنده في صندوق ثم مضت أشهر فوضعت ولدا ذكراً جميلاً حسن الخلقة مثل القمر فلاحظ الوزير جانب الأدب في تسميته فرأى أنه إن إخترع له إسما وسماه به وظهر لوالده بعد ذلك فيكون قد أساء الأدب وإن هو تركه بلا إسم لم يتهيأ له ذلك فسماه شاه بور ومعناه بالفارسية ابن ملك فإن شاه ملك وبور ابن ولغتهم مبنية على تأخير المتقدم وتقديم المتأخر وهذه تسمية ليس فيها مؤاخذة ولم يزل الوزير يلاطف الجارية والولد إلى أن راهق البلوغ هذا كله وأزدشير ليس له ولد وقد طعن في السن وأقعده الهرم فمرض وأشرف على الموت فقال للوزير أيها الوزير قد هرم جسمي وضعفت قوتي وإني أرى إني ميت لا محالة وهذا الملك يأخذه بعدي من قضي له به فقال الوزير: لو شاء الله أن يكون للملك ولد كان قد ولي بعده الملك ثم ذكره بأمر بنت ملك الأردن وبحملها فقال الملك لقد ندمت على تغريقها ولو كنت أبقيتها حتى تضع فلعل حملها يكون ذكراً فلما شاهد الوزير

من الملك الرضا قال أيها الملك إنها عندي حية وقد ولدت ذكراً من أحسن الغلمان خُلُقاً وخَلْقاً فقال الملك أحق ما تقول فاقسم الوزير أن نعم ثم قال: أيها الملك إن في الولد روحانية تشهد بأبوة الأب وفي الوالد روحانية تشهد ببنوة الابن لا يكاد ذلك ينخرم أبداً وإني آتي بهذا الغلام بين عشرين غلاماً في سنه وهيئته ولباسه وكلهم ذوو آباء معروفين خلا أباه وإني أعطي كل واحد منهم صولجاناً وكرة وآمرهم أن يلعبوا بين يديك في مجلسك هذا ويتأمل الملك صورهم وخلقتهم وشمائلهم فكل من مالت إليه نفسك وروحانيتك فهو هو فقال الملك نعم التدبير الذي قلت فأخضرهم الوزير على هذه الصورة ولعبوا بين يدي الملك فكان الصبي فيهم إذا ضرب الكرة وقربت من مجلس الملك تمنعه الهيبة أن يتقدم ليأخذها إلا شاه بور فإنه كان إذا ضربها وجاءت عند مرتبة أبيه تقدم فأخذها ولا تأخذه الهيبة منه فلاحظ أزدشير ذلك منه مراراً فقال أيها الغلام ما أسمك قال شاه بور فقال له صدقت أنت ابني حقاً ثم ضمه إليه وقبله بين عينيه فقال له الوزير هذا ابنك أيها الملك ثم أحضر بقية الصبيان ومعهم عدول فأثبت لكل صبي منهم والداً بحضرة الملك فتحقق الصدق في ذلك ثم جاءت الجارية وقد تضاعف حسنها وجمالها فقبلت يد الملك فرضي عنها فقال الوزير أيها الملك قد دعت الضرورة في الوقت إلى إحضار الحق المختوم فأمر الملك بإحضاره ثم أخذه الوزير وفتح ختمه وفتحه فإذا في ذكر الوزير وأنثياه مقطوعة مصانة فيه من قبل أن يتسلم الجارية من الملك وأحضر عدولاً من الحكماء وهم الذين كانوا فعلوا به ذلك فشهدوا عند الملك بأن هذا الفعل فعلناه به من قبل أن يتسلم الجارية بليلة واحدة قال فدهش الملك أزدشير وبهت لما أبداه هذا الوزير وإثبات نسب الولد ولحوقه به ثم إن الملك عوفي من مرضه الذي كان به وصح جسمه ولم يزل يتقلب في نعمه وهو مسرور بابنه إلى أن حضرته الوفاة ورجع الملك إلى ابنه شاه بور بعد موت أبيه وصار ذلك الوزير يخدم ابن الملك أزدشير وشاه بور يحفظ مقامه ويرى منزلته حتى توفاه الله تعالى. الملك الرضا قال أيها الملك إنها عندي حية وقد ولدت ذكراً من أحسن الغلمان خُلُقاً وخَلْقاً فقال الملك أحق ما تقول فاقسم الوزير أن نعم ثم قال: أيها الملك إن في الولد روحانية تشهد بأبوة الأب وفي الوالد روحانية تشهد ببنوة الابن لا يكاد ذلك ينخرم أبداً وإني آتي بهذا الغلام بين عشرين غلاماً في سنه وهيئته ولباسه وكلهم ذوو آباء معروفين خلا أباه وإني أعطي كل واحد منهم صولجاناً وكرة وآمرهم أن يلعبوا بين يديك في مجلسك هذا ويتأمل الملك صورهم وخلقتهم وشمائلهم فكل من مالت إليه نفسك وروحانيتك فهو هو فقال الملك نعم التدبير الذي قلت فأخضرهم الوزير على هذه الصورة ولعبوا بين يدي الملك فكان الصبي فيهم إذا ضرب الكرة وقربت من مجلس الملك تمنعه الهيبة أن يتقدم ليأخذها إلا شاه بور فإنه كان إذا ضربها وجاءت عند مرتبة أبيه تقدم فأخذها ولا تأخذه الهيبة منه فلاحظ أزدشير ذلك منه مراراً فقال أيها الغلام ما أسمك قال شاه بور فقال له صدقت أنت ابني حقاً ثم ضمه إليه وقبله بين عينيه فقال له الوزير هذا ابنك أيها الملك ثم أحضر بقية الصبيان ومعهم عدول فأثبت لكل صبي منهم والداً بحضرة الملك فتحقق الصدق في ذلك ثم جاءت الجارية وقد تضاعف حسنها وجمالها فقبلت يد الملك فرضي عنها فقال الوزير أيها الملك قد دعت الضرورة في الوقت إلى إحضار الحق المختوم فأمر الملك بإحضاره ثم أخذه الوزير وفتح ختمه وفتحه فإذا في ذكر الوزير وأنثياه مقطوعة مصانة فيه من قبل أن يتسلم الجارية من الملك وأحضر عدولاً من الحكماء وهم الذين كانوا فعلوا به ذلك فشهدوا عند الملك بأن هذا الفعل فعلناه به من قبل أن يتسلم الجارية بليلة واحدة قال فدهش الملك أزدشير وبهت لما أبداه هذا الوزير وإثبات نسب الولد ولحوقه به ثم إن الملك عوفي من مرضه الذي كان به وصح جسمه ولم يزل يتقلب في نعمه وهو مسرور بابنه إلى أن حضرته الوفاة ورجع الملك إلى ابنه شاه بور بعد موت أبيه وصار ذلك الوزير يخدم ابن الملك أزدشير وشاه بور يحفظ مقامه ويرى منزلته حتى توفاه الله تعالى.

قلت ومن بديع ما جاء في المكافأة على الصنيع ما حكي عن الحسن بن سهل قال كنت عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلا في مجلسه لأحكام أمر من أمور الرشيد فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياما أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال يا بني: إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثاً فإذا فرغت من شغلي هذا فأذكرني أحدثك به فلما فرغ من شغله قال له ابنه الفضل أعزك الله يا أبي أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول قال نعم يا بني لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيراً لا يملك شيئاً فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي إنا قد كتمنا حالنا وزاد ضررنا ولنا ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتاته قال: فبكيت يا بني لذلك بكاء شديداً وبقيت ولهان حيران مطرقاً مفكراً ثم تذكرت منديلاً كان عندي فقلت لهم ما حال المنديل فقالوا هو باق عندنا فقلت أدعوه إلي فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له بعه بما تيسر فباعه بسبعة عشر درهما فدفعتها إلى أهلي وقلت أنفقوها إلى أن يرزق الله غيرها ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي فإذا الناس وقوف على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبا فلما رآني سلم علي وقال كيف حالك فقلت يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلاً بسبعة عشر درهما فنظر إلي نصراً شديداً وما أجابني جواباً فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد فقالوا بئس والله ما فعلت توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرَّك وأطلعته على مكنون أمرك فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلاً فما يراك بعد اليم إلا بهذه العين فقلت قد مضى الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة فلما بلغت الباب استقبلني صاحب أبي خالد فقال لي أين تكون قد أمرني أبو خالد بأجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين فجلست حتى خرج فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فركبت وسرت معه إلى منزله فلما نزل قال علي بفلان وفلان الخياطين فأحضرا فقال لهما ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم قالا نعم قال ألم أشترط عليكما شركة رجل معكم قالا بلى قال هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما ثم قال لي قم معهما فلما خرجنا قالا لي أدخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه الربح الهنيء فدخلنا مسجداً فقالا لي إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف فقلت لهما وكم تبذلان لي فقالا مائة ألف درهم فقلت لا افعل فما زالا يزيدانني وأنا لاأرضى إلى أن قالا لي ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا فقلت حتى أشاور أبا خالد قالا ذلك لك فرجعت إليه وأخبرته فدعا بهما وقال لهما هل وافقتماه على ما ذكر قالا نعم قال اذهبا فاقبضاه المال الساعة ثم قال لي أصلح أمرك وتهيأ قد قلدتك العمل فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار ثم قال لولده الفضل يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاءه قال: حق لعمري وجب عليك له فقال والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أن أعزل نفسي وأوليه ففعل ذلك وهكذا تكون المكافأة.

ومن ذلك ما حكي عن العباس صاحب شرطة المأمون قال: دخلت يوماً إلى مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد فلما رآني قال لي يا عباس قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال خذ هذا إليك فاستوثق منه واحتفظ وبكر به إلّي في غد واحترز عليه كل الاحتراز قال العباس فدعوت جماعة فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الإحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري ثم أخذت أسأله عن قضيته وعن حاله ومن أين هو فقال من دمشق فقلت جزى الله دمشق وأهلها خيراً فمن أنت من أهلها قال وعمن تسأل قلت أتعرف فلاناً قال ومن أين تعرف ذلك الرجل فقلت وقع لي معه قضية فقال ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه فقال ويحك كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وأصحابه وهربت في جملة القوم فبينما أنا هارب في بعض الدروب وإذا بجماعة يعدون خلفي فما زلت أعدو أمامهم حتى فتهم فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت أغثني أغاثك الله قال لا بأس عليك: أدخل الدار فدخلت فقالت زوجته أدخل تلك المقصورة فدخلتها ووقف الرجل على باب الدار فما شعرت إلا وقد دخل الرجال معه يقولون هو والله عندكم فقال دونك الدار فتشوها ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها فقالوا ههنا فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف فقالت المرأة أجلس لا بأس عليك فجلست فلم ألبث حتى دخل الرجل فقال لا تخف قد صرف الله عنك شرهم وصرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى فقلت له جزاك الله خيراً فما زال يعاشرني أحسن معاشرة وأجملها وافرد لي مكاناً في داره ولم يحوجني إلى شيء ولم يفتر عن تفقد أحوالي فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها فقلت له أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني فلعلي اقف منهم على خبر فأخذ علي المواثيق بالرجوع فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثراً فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا كله لا يعرفني ولا يسألني ولا يعرف اسمي ولا يخاطبني إلا بالكنية فقال لي علام تعزم فقلت قد عزمت على التوجه إلى بغداد فقال إن القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج وها أنا قد أعلمتك فقلت له إنك قد تفضلت علي هذه المدة ولك علي عهد الله إني لا أنسى لك هذا الفضل ولا وفينك مهما استطعت قال: فدعا غلاما له أسود وقال له أسرج الفرس الفلاني ثم جهز آلة السفر فقلت في نفسي أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحر وقال لي يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها فقلت في نفسي كيف أصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوباً ثم قمت فإذا هو وامرأته يحلان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي ثم قدم بغلاً فحمل عليه صندوقين وفوقهما فرش ورفع إلي نسخة ما في الصندوقين وفيهما خمسة ألاف درهم وقدم إليَّ الفرس الذي كان جهزه وقال أركب وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك وأقبل هو وامرأته يعتذران إليَّ من التقصير في أمري وركب معي يشيعني وأنصرفت إلى بغداد وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته أنا أسأل عنه فلما سمع الرجل الحديث قال لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء له ومكافأته على فعله ومجازاته على صنعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك فقلت وكيف ذلك قال أنا ذلك الرجل وإنما الضر الذي أنا فيه غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه ثم قلت له فما الذي آل بك إلى ما أرى فقال هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم وهو قاتلي لا محالة وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري وهو نازل عند فلان فإن رأيت أن

تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره حتى أوصيه بما أريد فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك قال العباس قلت يصنع الله خيراً ثم أحضر حداداً في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره والبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم أرسل من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل يبكي ويوصيه فاستدعى نائبه وقال: عليَّ بالفرس الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشر من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل وأحضر لي بدرة عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة ألاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار فقلت له إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي فقال لي أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقلت والله لا ابرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت إلى حضوري وحضرت فقال لصاحب الشرطة إن كان الأمر على ما يقول فليكن في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لايذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد وقال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون في طلبي يقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين فإذا هو جالس عليه ثيابه وهو ينتظرنا فقال أين الرجل فسكت فقال ويحك أين الرجل فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني فقال لله عليَّ عهدٌ لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري فقال قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أوفي له وأكافئه على ما فعله معي وقلت أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين أما أن يصفح عني فأكون قد وافيت وكافأت وأما أن يقتلني فاقيه بنفسي وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيراً أنها فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير، هلا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له فقلت يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف أن لا يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر فقال المأمون وهذه منَّةٌ أعظم من الأولى أذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته قال العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لايحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه منه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفى فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة بغال بآلاتها وعشرة بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به واطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك والله تعالى أعلم.عل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره حتى أوصيه بما أريد فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك قال العباس قلت يصنع الله خيراً ثم أحضر حداداً في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره والبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم أرسل من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل يبكي ويوصيه فاستدعى نائبه وقال: عليَّ بالفرس الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشر من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل وأحضر لي بدرة عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة ألاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار فقلت له إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي فقال لي أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقلت والله لا ابرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت إلى حضوري وحضرت فقال لصاحب الشرطة إن كان الأمر على ما يقول فليكن في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لايذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد وقال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون في طلبي يقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين فإذا هو جالس عليه ثيابه وهو ينتظرنا فقال أين الرجل فسكت فقال ويحك أين الرجل فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني فقال لله عليَّ عهدٌ لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري فقال قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أوفي له وأكافئه على ما فعله معي وقلت أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين أما أن يصفح عني فأكون قد وافيت وكافأت وأما أن يقتلني فاقيه بنفسي وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيراً أنها فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير، هلا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له فقلت يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف أن لا يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر فقال المأمون وهذه منَّةٌ أعظم من الأولى أذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته قال العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لايحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه منه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفى فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة بغال بآلاتها وعشرة بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به واطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك والله تعالى أعلم.

ومن عجائب هذا الأسلوب وغرائبه ما أورده محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله تعالى أن سواراً صاحب رحبة سوار وهو من المشهورين قال انصرفت يوما من دار الخليفة المهدي فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام فلم تقبله نفسي فأمرت به فرفع ثم دعوت جارية كنت أحبها وأحب حديثها وأشتغل بها فلم تطب نفسي فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم فنهضت وأمرت ببلغة لي فأسرجت فركبتها فلما خرجت من المنزل استقبلني وكيل لي ومعه مال فقلت ما هذا فقال ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد قلت أمسكها معك واتبعني وأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء ثم رجعت إلى باب الأنبار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم. فعطشت فقلت للخادم أعندك ماء تسقينيه قال نعم ثم دخل وأحضر قلَّة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل فناولني فشربت وحضر وقت العصر فدخلت مسجداً على الباب فصليت فيه فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يلتمس فقلت ما تريد يا هذا: قال إياك اريد قلت فما حاجتك فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال شممت منك رائحة طيبة فظننت أنك من أهل النعيم فاردت أن أحدثك بشيء فقلت قل قال ألا ترى إلى باب هذا القصر قلت نعم قال هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت فقدمت هذه المدينة فأتيت صاحب هذه الدار لأساله شيئا يصلني به وأتوصل إلى سوار فإنه كان صديقاً لأبي فقلت ومن أبوك قال فلان ابن فلان فتعرفته فإذا هو كان من أصدق الناس إليَّ فقلت له يا هذا إن الله تعالى قد أتاك بسوار منعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت له إذا كان الغد فسر إلى منزلي ثم مضيت وقلت ما أحدث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذه فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت عليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك وأمر لي بألف دينار فأحضرت فقال ادفعها إلى الأعمى فنهضت لأقوم فقال اجلس فجلست فقال أعليك دين قلت نعم قال كم دينك قلت خمسون ألفا وقال يقول لك أمير المؤمنين أقض بها دينك قال: فقبضت منه ذلك فلما كان من الغد أبطأ علي الأعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته فقال قد فكرت البارحة في أمرك فقلت يقضي دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضاً وقد أمرت لك بخمسين ألفا أخرى قال فقبضتها وأنصرفت فجاءني الأعمى فدفعت إليه الألفي دينار وقلت له قد رزقك الله تعالى بكرمه وكافأك على إحسان أبيك وكافأني على أسداء المعروف إليك ثم أعطيته شيئاً آخر من مالي فأخذه وانصرف والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن ذلك ما حكاه القاضي يحيى بن أكثم رحمة الله تعالى عليه قال دخلت يوماً على الخليفة هارون الرشيد ولد المهدي وهو مطرق مفكر فقال لي أتعرف قائل هذا البيت:
الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ من زدا

فقلت يا أمير المؤمنين إن هذا البيت شأنا مع عبيد بن الأبرص فقال عليَّ بعبيد فلما حضر بين يديه قال له أخبرني عن قضية هذا البيت فقال يا أمير المؤمنين كنت في بعض السنين حاجاً فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في القافلة ألحقت أولها بآخرها فسألت عن القصة فقال لي رجل من القوم تقدم ترَ ما بالناس فتقدمت إلى أول القافلة فإذا أنا بشجاع أسود فأغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء البعير فهالني أمره وبقيت لا أهتدي إلى ما أصنع في أمره فعدلنا عن طريقه إلى ناحية أخرى فعارضنا ثانياً فعلمت أنه لسبب ولم يجسر أحد من القوم أن يقربه فقلت أفدي هذا العالم بنفسي وأتقرب إلى الله تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا فأخذت قربة من الماء تقلدتها وسللت سيفي وتقدمت فلما رآني قربت منه سكن وبقيت متوقعاً منه وثبة يبتلعني فيها فلما رأى القربة فتح فاه فجعلت فم القربة في فيه وصببت الماء كما يصب في الإناء فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى فتعجبت من تعرضه لنا وإنصرافه عنا من غير سوء لحقنا منه ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحططنا في منزلتنا تلك في ليلة مظلمة مدلهمة فأخذت شيئاً من الماء وعدلت إلى ناحية عن الطريق فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت وجلست أذكر الله تعالى فأخذتني عيني فنمت مكاني فلما استيقظت من النوم لم أجد للقافلة حساً وقد ارتحلوا وبقيت منفرداً لم أرَ أحداً ولم أهتدِ إلى ما أفعله وأخذتني حيرة وجعلت أضطرب فإذا بصوت هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول:
يا أيها الشخص المضلّ مركبه ... ما عنده من ذي رشادٍ يصحُبُه
دونك هذا البكر منّا تركبه ... وبكرك الميمون حقاً تجنبه
حتى إذا ما الليل غاب غيهبه ... عند الصباح في الفلا تسيّبه
فنظرت فإذا أنا ببكر قائم عندي وبكري إلى جانبي فانخته وركبته وجنبت بكري فلما سرت قدر عشرة أميال لاحت لي القافلة وانفجر الفجر ووقفت البكر فعلمت أنه قد حان نزولي فتحولت إلى بكري وقلت:
يا أيها البكر قد أنجيت من كربٍ ... ومن هموم تضلُّ المدلج الهادي
الا تخبّرني بالله خالقنا ... من الذي جاء بالمعروف في الوادي
وارجع حميداً فقد أبلغتنا منناً ... بوركت من ذي سنامٍ رائحٍ غادي
فالتفت البكر إلي وهو يقول:
أنا الشجاع الذي ألفيتني رمضاً ... والله يكشف ضرَّ الحائر الصادي
فجدت بالماء لمَّا ضنَّ حامله ... تكرُّماً منك لم تمنن بإنكاد
فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشرُّ أخبثُ من أوعيت من زاد
هذا جزاؤك منيّ لا أمنُّ به ... فإذهب حميداً رعاك الخالق الهادي
فعجب الرشيد من قوله وأمر بالقصة والأبيات فكتبت عنه وقال لا يضيع المعروف أين وضع.

موعظة حكي أنه كان بمدينة بغداد رجل يعرف بأبي عبد الله الأندلسي وكان شيخا لكل من بالعراق وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقرأ القرآن بجميع الروايات فخرج في بعض السنين إلى السياحة ومعه جماعة من أصحابه مثل الجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ العراق قال الشبلي فلم نزل في خدمته ونحن مكرمون بعناية الله تعالى إلى أن وصلنا قرية من قرى الكفار فطلبنا ماء نتوضأ به فلم نجد فجعلنا ندور بتلك القرية وإذا نحن بكنائس وبها شمامسة وقساقسة ورهبان وهم يعبدون الأصنام والصلبان فتعجبنا منهم ومن قلة عقلهم ثم انصرفنا إلى بئر في آخر القرية وإذا نحن بجوارٍ يستقين الماء على البئر وبينهن جارية حسنة الوجه ما فيهن أحسن ولا أجمل منها وفي عنقها قلائد الذهب فلما رآها الشيخ تغير وجهه وقال هذه ابنة من فقيل له هذه ابنة ملك هذه القرية فقال الشيخ فلم لا يدلّلها أبوها ويكرمها ولا يدعها تستقي الماء فقيل له أبوها يفعل ذلك بها حتى إذا تزوجها رجل أكرمته ولا تعجبها نفسها فجلس الشيخ ونكس رأسه ثم أقام ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يكلم أحداً غير أنه يؤدي الفريضة والمشايخ واقفون بين يديه ولا يدرون ما يصنعون قال الشبلي فتقدمت إليه وقلت له يا سيدي أن أصحابك ومريديك يتعجبون من سكوتك ثلاثة أيام وأنت ساكت لم تكلم أحداً قال فأقبل علينا وقال يا قوم اعلموا أن الجارية التي رأيتها بالأمس قد شغفت بها حباً واشتغل قلبي بها وما بقيت أقدر أفارق هذه الأرض قال الشبلي فقلت له يا سيدي أنت شيخ أهل العراق ومعروف بالزهد في سائر الآفاق وعدد مريديك أثنا عشر ألفا فلا تفضحنا وإياهم بحرمة الكتاب العزيز فقال يا قوم جرى القلم بما حكم ووقعت في بحار العدم وقد انحلت مني عرى الولاية وطويت أعلام الهداية ثم إنه بكى بكاء شديداً وقال يا قوم انصرفوا فقد نفذ القضاء والقدر فتعجبنا من أمره وسالنا الله تعالى أن يجيرنا من مكره ثم بكينا وبكى حتى أروى التراب ثم انصرفنا عنه راجعين إلى بغداد فخرج الناس إلى لقائه ومريدوه فبي جملة الناس فلم يروه فسالونا عنه فعرفناهم بما جرى فمات من مريديه جماعة كثيرة حزناً عليه وجعل الناس يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرده عليهم وأغلقت الرباطات والزوايا والخوانق ولحق الناس حزن عظيم فأقمنا سنة كاملة وخرجت مع بعض أصحابي نكشف خبره فأتينا القرية فسألنا عن الشيخ فقيل لنا إنه في البرية يرعى الخنازير قلنا وما السبب في ذلك قالوا إنه خطب الجارية من أبيها فأبى أن يزوجها إلا ممن هو على دينها ويلبس العباءة ويشد الزنار ويخدم الكنائس ويرعى الخنازير ففعل ذلك كله وها هو في البرية يرعى الخنازير قال الشبلي فانصدعت قلوبنا وانهملت بالبكاء عيوننا وسرنا إليه وإذا به قائم قدام الخنازير فلما رآنا نكس رأسه وإذ عليه قلنسوة النصارى وفي وسطه زنار وهو متوكىء على العصا التي كان يتوكأ عليها إذا قام في الخطبة فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقلنا يا شيخ ما ذاك وما هذه الكروب والهموم بعد تلك الأحاديث والعلوم فقال يا إخواني ليس لي من الأمر شيء سيدي تصرّف فيَّ كيف شاء وحيث أراد أبعدني عن بابه بعد أن كنت من جملة أحبابه فالحذر الحذر يا أهل وداده من صده وإبعاده والحذر الحذر يا أهل المودة والصفاء من القطيعة والجفاء ثم رفع طرفه إلى السماء وقال يا مولاي ما كان ظني فيك هذا ثم جعل يستغيث ويبكي ونادى يا شبلي اتعظ بغيرك فنادى الشبلي بأعلى صوته بك المستعان وأنت المستغاث وعليك التكلان أكشف عنا هذه الغمة بحلمك فقد دهمنا أمر لا كاشف له غيرك قال فلما سمعت الخنازير بكاءهم وضجيجهم أقبلت إليهم وجعلت تمرغ وجوهها بين أيديهم وزعقت زعقة واحدة دوت منها الجبال قال الشبلي فظننت أن القيامة قد قامت ثم إن الشيخ بكى بكاء شديداً قال الشبلي فقلنا له هل لك أن ترجع معنا إلى بغداد فقال كيف لي بذلك وقد استرعيت الخنازير بعد أن كنت أرعى القلوب فقلت يا شيخ كنت تحفظ القرآن وتقرؤه بالسبع فهل بقيت تحفظ منه شيئاً فقال نسيته كله إلا آيتين فقلت وما هما قال قوله تعالى: " ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " والثانية قوله تعالى: " ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوء السبيل " فقلت يا شيخ كنت تحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم فهل تحفظ منها شيئاً قال حديثاً واحداً وهو قوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه قال الشبلي فتركناه وانصرفنا ونحن متعجبون من أمره فسرنا ثلاثة أيام وإذا به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع وهو يشهد شهادة الحق ويجدد إسلامه فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور فنظر إلينا وقال يا قوم اعطوني ثوباً طاهراً فأعطيناه ثوباً فلبسه ثم صلى وجلس فقلنا الحمد لله الذي ردك علينا وجمع شملنا بك فصف لنا ما جرى لك وكيف كان أمرك فقال يا قوم لما ولَّيتم من عندي سألته بالوداد القديم وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني فعفا عني بجوده وبستره غطاني فقلت له بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب قال نعم لما وردنا القرية وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي ما قدر هؤلاء عندي وأنا مؤمن موحد فنوديت في سري ليس هذا منك ولو شئت عرفناك ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي فكان ذلك الطائر هو الإيمان قال الشبلي ففرحنا به فرحاً شديدا وكان يوم دخولنا يوماً عظيماً مشهوداً وفتحت الزوايا والرباطات والخوانق ونزل الخليفة للقاء الشيخ وأرسل إليه الهدايا وصار يجتمع عنده لسماع علمه وأربعون ألفاً وأقام على ذلك زماناً طويلاً ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث وزاده على ذلك فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح إذا بطارق يطرق باب الزاوية فنظرت من الباب فإذا شخص ملتف بكساء أسود فقلت له ما الذي تريد فقال قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك قال فدخلت فعرفت الشيخ فاصفر لونه وارتعد ثم أمر بدخولها فلما أدخلت عليه بكت بكاء شديداً فقال لها الشيخ كيف مجيئك ومن أوصلك إلى هنا قالت يا سيدي: لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك فبت ولم يأخذني قرار فرأيت في منامي شخصاً وهو يقول إن أحببت أن تكون من المؤمنات فأتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام واتبعي ذلك الشيخ وادخلي في دينه فقلت وما دينه قال دين الإسلام قلت وما هو قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقلت كيف لي بالوصول إليه قال أغمضي عينيك وأعطيني يدك ففعلت فمشى قليلاً ثم قال افتحي عينيك ففتحتهما فإذا أنا بشاطىء دجلة فقال أمضي إلى تلك الزاوية واقرئي الشيخ مني السلام وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك قال فأدخلها الشيخ إلى جواره وقال تعبدي ههنا فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها وتغير لونها فمرضت مرض الموت وأشرفت على الوفاة ومع ذلك لم يرها الشيخ فقالت قولوا للشيخ يدخل علي قبل الموت فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها فلما رأته بكت فقال لها لا تبكي فإن اجتماعنا غداً في القيامة في دار الكرامة ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياماً قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه قال الشبلي فرأيته في المنام وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما. وسلم فهل تحفظ منها شيئاً قال حديثاً واحداً وهو قوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه قال الشبلي فتركناه وانصرفنا ونحن متعجبون من أمره فسرنا ثلاثة أيام وإذا به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع وهو يشهد شهادة الحق ويجدد إسلامه فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور فنظر إلينا وقال يا قوم اعطوني ثوباً طاهراً فأعطيناه ثوباً فلبسه ثم صلى وجلس فقلنا الحمد لله الذي ردك علينا وجمع شملنا بك فصف لنا ما جرى لك وكيف كان أمرك فقال يا قوم لما ولَّيتم من عندي سألته بالوداد القديم وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني فعفا عني بجوده وبستره غطاني فقلت له بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب قال نعم لما وردنا القرية وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي ما قدر هؤلاء عندي وأنا مؤمن موحد فنوديت في سري ليس هذا منك ولو شئت عرفناك ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي فكان ذلك الطائر هو الإيمان قال الشبلي ففرحنا به فرحاً شديدا وكان يوم دخولنا يوماً عظيماً مشهوداً وفتحت الزوايا والرباطات والخوانق ونزل الخليفة للقاء الشيخ وأرسل إليه الهدايا وصار يجتمع عنده لسماع علمه وأربعون ألفاً وأقام على ذلك زماناً طويلاً ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث وزاده على ذلك فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح إذا بطارق يطرق باب الزاوية فنظرت من الباب فإذا شخص ملتف بكساء أسود فقلت له ما الذي تريد فقال قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك قال فدخلت فعرفت الشيخ فاصفر لونه وارتعد ثم أمر بدخولها فلما أدخلت عليه بكت بكاء شديداً فقال لها الشيخ كيف مجيئك ومن أوصلك إلى هنا قالت يا سيدي: لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك فبت ولم يأخذني قرار فرأيت في منامي شخصاً وهو يقول إن أحببت أن تكون من المؤمنات فأتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام واتبعي ذلك الشيخ وادخلي في دينه فقلت وما دينه قال دين الإسلام قلت وما هو قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقلت كيف لي بالوصول إليه قال أغمضي عينيك وأعطيني يدك ففعلت فمشى قليلاً ثم قال افتحي عينيك ففتحتهما فإذا أنا بشاطىء دجلة فقال أمضي إلى تلك الزاوية واقرئي الشيخ مني السلام وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك قال فأدخلها الشيخ إلى جواره وقال تعبدي ههنا فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها وتغير لونها فمرضت مرض الموت وأشرفت على الوفاة ومع ذلك لم يرها الشيخ فقالت قولوا للشيخ يدخل علي قبل الموت فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها فلما رأته بكت فقال لها لا تبكي فإن اجتماعنا غداً في القيامة في دار الكرامة ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياماً قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه قال الشبلي فرأيته في المنام وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.

فليتأمل العاقل في ذلك ولا يُرى له فضلاً على أحد من خلق الله تعالى فهو الفاعل المختار يعطي من يشاء ويمنع فالكل منه وإليه.
موعظة قيل عشش ورشان في شجرة في دار رجل فلما همت أفراخه بالطيران زينت امرأة ذلك الرجل له أخذ أفراخ ذلك الورشان ففعل ذلك مراراً وكلما خرج الورشان أخذ أفراخه فشكا الورشان ذلك إلى سليمان عليه الصلاة والسلام وقال يا رسول الله أردت أن يكون لي أولاد يذكرون الله تعالى من بعدي فأخذها الرجل بأمر امرأته ثم أعاد الورشان الشكوى فقال سليمان لشيطانين إذا رأيتماه يصعد الشجرة فشقاه نصفين فلما أراد الرجل أن يصعد الشجرة أعترضه سائل فأطعمه كسرة من خبز شعير ثم سعد وأخذ الأفراخ على عادته فشكا الورشان ذلك إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فقال للشيطانين ألم تفعلا ما أمرتكما به فقالا اعترضنا ملكان فطرحانا في الخافقين.
وكان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه فإن لم يكن عنده من ذلك شيء أعطاه دهنا أو غيره مما ينتفع به فإن لم يكن عنده شيء أعطاه كحلا أو أخرج إبرة وخيطاً فرقع بهما ثوب السائل.
وحكي أن رجلاً جلس يوماً يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية فوقف سائل ببابه فخرج إليه وانتهره فذهب فاتفق بعد ذلك أن الرجل افتقر وزالت نعمته وطلق زوجته وتزوجت بعده برجل آخر فجلس يأكل معها في بعض الأيام وبين أيديهما دجاجة مشوية وإذا بسائل يطرق الباب فقال الرجل لزوجته ادفعي إليه هذه الدجاجة فخرجت بها إليه فإذا هو زوجها الأول فدفعت إليه الدجاجة ورجعت إليه وهي باكية فسألها زوجها عن بكائها فأخبرته أن السائل كان زوجها وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول فقال لها أنا والله ذلك السائل.
ومما وقفت عليه ما حكي أن بعضهم قال: دخلت البادية فإذا أنا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وإلى جانبها جرو ذئب فقالت أتدري ما هذا فقلت لا قالت هذا جرو ذئب أخذناه صغيراً وأدخلناه بيتنا وربيناه فلما كبر فعل بشاتي ما ترى وأنشدت:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا إبنٌ ربيبُ
غذيت بدرِّها ونشأت معها ... فمن أنباك أنّ أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوءٍ ... فلا أدبٌ يفيد ولا أديب
قيل مر عمر بن عبيد بجماعة وقوف فقيل ما هذا قيل السلطان يقطع سارقاً فقال لا إله إلا الله سارق العلانية يقطع سارق السر.

ومن ذلك ما حكي أنا رجلاً من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه وصار يدخل على حريمه من غير استئنذان وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال في نفسه أن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله فطبخ له طعاماً وأكثر فيه من الثوم فيتأذى من ذلك فإنه يكره رائحته ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به وقال يا أمير المؤمنين إن البدوي يقول عنك للناس إن أمير المؤمنين أبخر وهلكت من رائحة فمه فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم فلما رآه أمير المؤمنين كتب كتاباً إلى بعض عماله يقول له فيه إذا وصل إليك كتابي هذا فأضرب رقبة حامله ثم دعا بالبدوي ودفع الكتاب إليه وقال له أمض به إلى فلان وائتني بالجواب فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال أين تريد قال أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان فقال الوزير هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل فقال يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار فقال له أنت الكبير وأنت الحاكم ومهما أردت أفعل فقال أعطني الكتاب فدفعه إليه فأعطاه الوزير الفي دينار وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الويزر فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير فأخبر بأن له أياماً ما ظهر وأن البدوي بالمدينة مقيم فتعجب من ذلك وأمر بإحضار البدوي فحضر فسأله عن حاله فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها فقال له أنت قلت للناس عني إني أبخر فقال يا أمير المؤمنين أنا أتحدث بما ليس لي به علم إنما كان ذلك مكراً منه وحسداً وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه فقال يا أمير المؤمنين قاتل الله الحسد ما عد له بدأ بصاحبه فقتله ثم أتخذ البدوي وزيراً وراح الوزير بحسده انتهى.
وحكي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه لما مرض مرضه الذي مات فيه دخل عليه بعض بني هاشم ليعوده فلما استأذن عليه قام وجلس وأظهر القوة والتجلد وأذن للهاشمي فدخل عليه ثم قال متمثلاً بقول أبي ذؤيب الهذلي من قصيدة رثى بها أولاداً له ماتوا بالطاعون:
وتجلُّدي للشامتين أُريهُمُ ... أنِّي لريب الدهر لا أتضعضعُ
فأجابه على الفور من القصيدة المذكورة بعينها:
وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارها ... ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفع
ومما يشاكل ذلك ما حكاه لي سيدي ومولاي عمدة العلماء الأعلام ونتيجة قضايا الأدباء الفخام الشيخ عبد الغني أفندي الرافعي حفظه الله تعالى أنه حكى له عبد الله أفندي ابن قاضي الموصل أن بعض علماء بغداد وفد على دار الخليفة العلية في أيام السلطان سليم بن السلطان عثمان خان ونزل في دار صاحب المشيخة العظمى إذ ذاك فاتفق له أن رأى السلطان سليمان في القائق بين أسكي دار واسلامبول فمر قائق الشيخ بالقرب من قائق السلطان فلما وقع عليه نظر الملك ورأى سيما أهل العلم أحب أن يداعبه فقال عندما ناداه:
فيم أقتحامك لجَّ البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصّة الوشل
فأجابه على الفور من القصيدة:
أريد بسطة كفٍّ أستعين بها ... على قضاء حقوقٍ للملا قِبَلي
فعند ذلك سأله عن مكانه فأخبر أنه نزيل شيخ الإسلام ثم مر كل منهما بقائقه وبعد أيام اجتمع السلطان سليم بشيخ الإسلام وسأله عن الشيخ فذكر له صفته ثم أمره أن يسأله عن مراده فسأله من غير أن يعلمه أن ذلك عن أمر الملك فقال بغيتي القرية الفلانية في محل كذا وكذا إن قطعنيها كفتني ولا أريد سواها فأخبر الملك بذلك فأقطعه القرية وعاد وقد ربحت تجارته ببضاعة أدبه.
ومن هذا القبيل ما وقع ما وقع في عصرنا لعوض بيك الأسعد رحمه الله تعالى أنه حين بدا تغير إبراهيم باشا سر عسكر الدولة المصرية على بكوات عكا وكان جالساً على دكان في سوق العقادين من طرابلس الشام وكان أحد أمراء الآلايات جالساً على دكان يقابله فكتب له أمير الآلاي يهدده ضمنا بقول عنترة من قصيدة وأرسل يقول له أنظر خطي وهو:

ليَ النفوس وللطير اللحوم ولل ... وحش العظام وللخيّالة السَّلبُ
فأجابه بقوله من القصيدة بعينها وأرسل يقول له أنظر خط من أحسن:
إن كنت تعلم يا نعمان أن يدي ... قصيرةٌ عنك فالأحوال تنقلب
وكتب العلامة زين الدين بن الوردي إلى قاضي القضاة الكمال البازري وقد كان عزله من منصب القضاء وولى أخاه:
حَملتني وأخي تباريح البلا ... وتركتنا ضدّين مختلفين
أيا حيّ عالم عصرنا وزماننا ... ألك التصرف في دم الأخوين
فأجابه بقوله:
يا عمرُ أنزجرْ عن مثل هذا ... فأحمدُ بالولاية مطمئن
فإن يك فيك معرفةٌ وعدلٌ ... فأحمدُ فيه معرفةٌ ووزن
قال صاحب التالد والطريف وأذكر لك هنا حكاية لطيفة فيها لفظ أمرع من كلام الخصيب أبي محمد أغرب فيه وأبدع كنت أقرأ عليه زمن الحداثة فذكر له أنني أزن الشعر فأخبرني بكلام هذا نصه أدام الله عزك أن بيني وبينك ما شددت عليه من بعد ذلك راحتي وبحق ذا كم علينا فأعلموا من ود أمرع والحمد لله وقال لي أخرج من هذا الكلام بيتين تامين فقلت له هذا الشعر من بحر الوافر وآخر البيت الأول حرف العين من بعد وآخره أمرع فقال أحسنت انتهى.
وذكر ابن خلكان في تاريخه أنه كان بين الملك العادل نور الدين وبين أبي الحسن سنان صاحب قلاع الأسماعيلية ومقدم الفرق الباطنية مكاتبات ومحاورات فكتب إليه نور الدين كتابا يهدده فيه ويتوعده بسبب اقتضى ذلك فشق على سنان فكتب جوابه نثراً وأبياتاً منها:
يا ذا الذي بقراع السيف هدّدني ... لا قام مصرعُ جنبي حين تصرعُهُ
قام الحمام إلى البازي يهُدِّده ... وأستيقظت لأسود البرِّ أضبعه
وقفنا على تفصيله وجمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل وبعوضة تعض في التماثيل ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمنا عليهم وما كان لهم ناصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وهي عجيبة طويلة غريبة.
قال صاحب التالد والطريف أنشدت بعض الإخوان الظرفاء بيتي ذي القرنين ابن حمدان الحمداني وهما:
إنيّ لأحسد لا في أسطر الصحف ... إذا رأيت أعتناق اللام للألف
وما أظنهما طال اعتناقهما ... إلاّ لما لقيا من شدَّة الشغف
فلما سمعهما قال وقد وقع لي في هذين البيتين حكاية لطيفة غريبة ظريفة وهي أني كنت أحب غلاماً لطيفاً أديباً ظريفاً فكتبت له صورة لام ألف لا وقصدت بها ما قاله الشاعر في البيتين فكتب ل ا مفترقين هكذا وقصد أذيتي بها وأرسلها إلي كأنه يقول لا أملكك من عناقي أبدا فكتبت له لفظ لام هكذا وأردت مقلوب ذلك فكتب لا متصلة هكذا وأرسلها إليَّ فعلمت بذلك رضاه وتعجبت من فهمه وحذقه فلما اجتمعنا عتب عليَّ وقال عميت الأمر عليَّ وأعتبتني قلت مثلك يصلح للمنادمة والمجالسة.
قلت وهذه الحكاية تشبه أن تكون عن أبي زيد السروجي أو من باب التجريد.
قلت مثل هذين البيتين المتقدمين قول القائل:
يا من إذا قرأ الإنجيل ظلّ به ... قلب الحريف عن الإسلام منحرفا
إنِّي رأيتك في نومي تعانقني ... كما تعانق لام الكاتب الالفا
وقولي من قصيدة:
إن تنأ عمَّن يعاني فيك كلّ عنا ... فحسبه صوب دمعِ للنوى وكفا
بالحب صيّرت لاماً قامتي أترى ... يوماً تعانق من أعطافك الألفا
وما أرق قول بعضهم في المعنى:
حكت قامتي لاماً وقامة منيتي ... حكت ألفاً للوصل قلت مسائلا
إذا اجتمعت لامي مع الألف التي ... حكتك قواماً ما يصير فقال لا
وذكر ابن خلكان في تاريخه أنه اجتمع الإمام أبو بكر محمد ابن الإمام داود الظاهري وأبو العباس بن شريح في مجلس الوزير الجراح فتناظرا فقال له ابن شريح أنت الذي تقول من كثرت لحظاته دامت حسراته أنا أبصر منك بالكلام فقال له أبو بكر لئن قلت ذلك فإني أقول:
أنزِّهُ في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال المحرَّما
وأحمل من ثقل الهوى ما لوانَّه ... يصب على الصخر الأصمّ تهدّما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي ردّه لتكلَّما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلّهم ... فما أن أرى حبًّا صحيحاً مسلَّما
فقال له ابن شريح ولم تفتخر عليَّ ولو شئت أنا أيضاً لقلت:
ومسامرٍ بالغنج من لحظاته ... قد بتُّ أمنعه لذيذ سناتِهِ
ضنَّاً بحسن حديثه وغنائه ... وأكرِّر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولَّى بخاتم ربّه وبراته
فقال أبو بكر يحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل أنه ولى بخاتم ربه فقال أبو العباس بن شريح يلزمني من ذلك ما يلزمك في قولك:
أنزِّهُ في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال المحرما
فضحك الوزير وقال جمعتما لطفاً وظرفاً وفهماً وعلماً.
ويذكر أبو بكر الخطيب أنه كان في مدينة بغداد محلة تسمى باب الطاق كان بها سوق الطير يزعمون أنه من عسر عليه أمر أطلق طيراً فتيسر أمره فمر عبد الله بن طاهر وقد طال مكثه في بغداد ولم يأذن له الخليفة بالذهاب فمر بذلك السوق فرأى قمرية تنوح فأمر بشرائها فامتنع صاحبها فدفع له بها خمسمائة درهم فاشتراها وأطلقها في ذلك السوق وأنشد يقول:
ناحت مطوّقةٌ بباب الطاق ... فجرت سوابق دمعي المهراق
كانت تغرّد بالأراك وربّما ... كانت تغرِّد في فروع الساق
فرمى الفراق بها العراق فأصبحت ... بعد الأراك تنوح في الأسواق
فجعت بأفراخٍ فأسبل دمعها ... إنَّ الدموع تبوح بالأشواق
تعِسَ الفراق وبتَّ حبل متينه ... وسقاه من سمّ الأساود ساقي
ماذا أراد بقصده قمريةً ... لم تدر ما بغداد في الآفاق
بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي ... من فكّ أسرك أن يحلّ وثاقي
قيل أنه في ثاني يوم أطلق ورجع إلى بلاده.
وحكي عن خالد الكاتب أنه قال جاءني يوماً رسول إبراهيم فسرت إليه فوجدته على فرش قد غاص فيها فاستجلني وقال أنشدني من أجود شعرك فأنشدته:
رأت عينيَّ منه منظرين كما رأت ... من الشمس والبدر المنير على الأرض
عشية حيّاني بوردٍ كأنّه ... خدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض
ونازعني كأساً كأنَّ حبابها ... دموعيَ لمَّا صدّ عن مقلتي غمضي
وراح فكلُّ الرّاح في حركاته ... كفعل نسيم الريح في الغصن الغضّ
فزحف حتى صار في ثلثي الفراش وقال يا فتى شبهوا الخدود بالورد وأنت شبهت الورد بالخدود فزدني فأنشدته:
عاتبت نفسي في هواك فلم أجدها تقبل ... وأطعت داعيها إليك ولم أطع من يعزلُ
لا والذي جعل الوجوه بحسن وجهك تمثل ... لا قلت إنَّ الصبر عنك من الصبابة أجمل
فزحف حتى انحدر من الفراش واستخف طرباً ثم قال لخادمه كم معك لنفقتنا قال ثمانمائة وخمسون درهماً فقال له أقسمها بيني وبين خالد فدفع لي نصفها وانصرفت.
لطيفة جاز بعض اللطفاء على باب دار فعزمه شيخها وأدخله عنده وأجلسه في المكان منفرداً ثم استدعى بجاريتين أحداهما صفراء والأخرى سوداء ودفع لكل واحدة مزهراً وقال لهما اضربا له عليهما وغنيا وشاغلاه ثم ذهب الشيخ وبقي الضيف والجاريتان فلما اشتد به الجوع ومضى النهار ولم ير للطعام رائحة كتب في مكان الشيخ هذين البيتين:
دعوةٌ كانت علينا دعوةً ... عُزَّا الطعام بها وغيض الماءُ
سودا وصفرا كلّما غنَّين لي ... لعبت بي السوداء والصفراء
يحكى أن شهاب الدين الخفاجي المصري شرب الدخان هو وجماعة فاعترض عليهم شيخي زادة فكتب له الشهاب بقوله:
إذا شُرِب الدخان فلا تلمنا ... وجُدْ بالعفو يا روض الأماني
تريد مهذّباً لا عيب فيه ... وهل عودٌ يفوح بلا دخان
فأجابه شيخي أفندي بقوله:
إذا شرب الدخان فلا تلمني ... على لومي لأبناء الزمان
أريد مهذّباً من غير ذنبٍ ... كريح المسك فاح بلا دخان

وحكي عن شرف الدين بن الشريحي أنه اجتمع هو وشهاب الدين في ليلة أنس عند الملك الناصر فاتفق أن قام شرف الدين إلى الطهارة وعاد فأمره الناصر بالإشارة أن يصفع شهاب الدين فلما صفعه أمسك التلعفري بذقن شرف الدين وأنشد سريعاً وذقنه بيده:
قد صفعنا بذا المحلِّ الشريف ... وهو إن كان يرتضي تشريفي
فارثِ للعبد من مصيف طباعٍ ... يا ربيع الندى وإلاّ خريفي
فانقلب المجلس ضحكا.
وروي أن ابن القطان الشاعر البغدادي دخل يوماً على الوزير الرضى وعنده الحيص بيص الشاعر المشهور فقال ابن القطان قد نظمت بيتين لا يمكن أن يعمل لهما ثالث لأني قد استوفيت المعنى فيهما فقال له الوزير ما هما فأنشده:
زار الخيال بحيلاً مثل مرسله ... فما شفاني منه الضمّ والقبلُ
ما زارني قطُّ إلا كي يوافقني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل
فقال الوزير للحيص بيص:
وما درى أنّ نومي حيلةٌ نصبت ... لطيفه حين أعيا اليقظة الحيلُ
ومما يشاكل ذلك ما اتفق للوزير القوصي وقد أنشد ابن المرصَّص بيتين بين يديه نظمها في جارية حسناء كاملة المعاني والأوصاف وزعم أنه لا ثالث لهما وهما:
تبدَّت فهذا البدر منكسفٌ بها ... وحقّك مثلي في دجى الليل حائرُ
وماست فشقَّ الغصن غيظاً ثيابه ... ألست ترى أوراقه تتناثر
فأطرق الوزير يسيرا وقال:
وفاحت فألقى العود في النار نفسه ... كذا نقلت عنه الحديثَ المجامرُ
وقالت فغار الدرُّ واصفر لونه ... كذلك ما زالت تغار الضرائر
وكان في المجلس النواجي الشاعر فأنشد ارتجالاً:
وغنّت فظل الجنك يطرق نفسه ... وجادت لها بالروح منها المزامرُ
ومن لحظها الهنديُّ في غمده اختفى ... وظبي الفلا في لفتةٍ وهو نافر
ومن وجنتيها الورد راح بخجلةٍ ... ألست تراه أحمراً وهو فاتر
ومن ريقها الصهبا شكت نار شوقها ... فاطفأها بالماء ساقٍ مسامر
ذكر ابن شاكر الكتبي في تاريخه في ترجمة شمس الدين بن عفيف الدين التلمساني أن جماعة من أهل الأدب اجتمعوا وعملوا سماعا وفيهم غلمان حسان فبعثوا منهم غلاماً مليحاً إلى الشيخ عفيف الدين يطلبون شمس الدين للحضور فلما جاء الرسول كتب عفيف الدين على يده:
أرسلتما لي رسولاً في رسالته ... حلو المراشف والأعطاف والهيفِ
وقد تمادى يسيراً ذاك أنّكما ... أوقدتما النار في أحشاء ذي دنف
فلما حضر والده شمس الدين وأخبره بالقضية كتب إلى ولده:
مولاي كيف انثنى عنك الرسول ولم ... تكن لوردة خدَّيه بمقتطف
جاءتك من بحر ذاك الحسن لؤلؤةٌ ... فكيف ردّت بلا ثقبٍ إلى الصدف
ومما نقلته من التاريخ المذكور أن علية بنت المهدي العباسية أخت أمير المؤمنين هارون الرشيد كانت من أحسن خلق الله وجها وأظرف النساء وأعقلهنَّ ذات صيانة وأدب بارع تزوجها موسى بن عيسى العباسي وكان الرشيد يبالغ في إكرامها واحترامها ولها ديوان شعر عاشت خمسين سنة وتوفيت سنة عشر ومائتين وكان سبب موتها أن المأمون سلم عليها وضمها إلى صدره وجعل يقبل رأسها ووجهها مغطى فشرقت من ذلك وماتت بعد أيام يسيرة وكانت تتغزل بشعرها في خادمين اسم الواحد طل والآخر رشاء فمن قولها في طل وصحفت اسمه:
أيا سروة البستان طال تشوّقي ... فهل إلى ظلٍّ لديك سبيلُ
متى يلتقي من ليس يُقضى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه وصول
فبلغ الرشيد ذلك فحلف أنها لا تذكره أبدا ثم تسمَّع عليها الرشيد يوما فوجدها وهي تقرأ في آخر سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالى فإن لم يصيبها وابل فقالت فإن لم يصبها وابل فالذي نهى عنه أمير المؤمنين فدخل الرشيد وقبل رأسها وقال لها قد وهبتك طلا ولا منعتك بعد هذا عما تريدين وكانت من أعف الناس كانت إذا طهرت لازمت المحراب وإن لم تكن طاهرة غنت ولما خرج الرشيد إلى الري أخذها معه فلما وصل إلى المرج نظمت قولها:
ومغتربٍ بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحبّ

إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشّق يستسقي برائحة الركب
ونمنت بعما فلما سمع الرشيد الصوت علم انها قد اشتاقت الى العراق واهلها وامر برادها واما شعرها:
إنّي كثرت عليه في زيارته ... فملَّ والشيء مملولُ إذا كثرا
ورابني منه أنّي لا أزال ارى ... في طرفه قصراً عنّي إذا نظرا
انتهى.
لطيفة يحكى أن عبد الملك بن مروان جمع بن أبي ربيعة وكثيرة عزة وجميل بثينة وأحضر لديه ناقة موقرة ودعاهم وقال ينشد كل واحد منكم بيتاً في الغزل فأيكم كان أبدع فهي له بما عليها فقال جميل:
ولو أنَّ راقي الموت يرقى جنازتي ... بمنطقها في العالمين حييتُ
وقال كثير:
وسعى إليَّ بعيب عزّة نسوةُ ... جعل الإله خدودهنَّ نعالها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فليت الثريا في المنام ضجيعتي ... لدى الجنة الخضراء أو في جهنَّم
فقال له عبد الملك خذها يا صاحب جهنم والثريا هي بنت علي بن عبد الله الأموية تزوجها سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فقال فيه عمر:
أيُّها المنكحُ الثريّا سهيلاً ... عمرُك الله كيف يلتقيان
هي شاميةٌ إذا ما استقلَّت ... وسهيلٌ إذا استقلّ يماني
وكان يتشبب بذكرها كثيراً.
حكي أنها واعدته يوما فجاءت في الوقت الذي وعدته به فصادفت أخاه الحرث قد نام مكانه فلم يشعر الحرث إلا والثريا قد ألقت نفسها عليه فانتبه وجعل يقول اغربي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله فانصرفت فلما جاء عمر أخبره الحرث بذلك فاغتم لفواتها وقال له أيم الله لا تمسك أبدا وقد ألقت نفسها عليك فقال له الحرث عليك وعليها لعنة الله. ومات عمر بعد أن تاب وأحسن التوبة وقد عاش ثمانين سنة ويقال إنه تغزل أربعين سنة وتنسك أربعين سنة رحمه الله تعالى.
روي أنه عرضت جارية على الرشيد ليشتريها فطلب بها البائع مبلغا جليلا فقال الرشيد أنا أعرض عليها بيتا إن أجابت عنه أعطيتك ما تقول وزدتك والتفت إليها وقال:
ماذا تقولين فيمن شفّه ارقٌ ... من أجل حبّك حتى صار حيرانا
فقالت بديها:
إذا رأينا محبّاً قد أضرّ به ... أمر الصبابة أوليناه إحسانا
فأعجبه جوابها واشتراها.
ومن اللطائف ما حكي عن الشيخ يحيى المسالخي أنه لما قدم إلى دمشق الشام، وقرأ في الجامع الأموي، نظر إلى غلام بديع الجمال فوقع حبه في قلبه فافتتن به فسأل عنه فأخبر عن أبيه وكان ممن يتردد إلى الشيخ فاجتمع معه وقال له لم لا تحضر ولدك يتعلم عندي العلم قال له أنه يحضر علم الحساب عند بعض المشايخ فقال أنا أقرِّأ قبل شيخه فإذا حضر عندي يكون محصلاً للفضيلتين فأجابه لذلك وأمر ابنه بما ذكر فتوجه الغلام عند الشيخ يحيى فأجلسه بجانبه وأطال القراءة في ذلك اليوم أكثر من الأيام الماضية فلما انقضى الدرس وأراد الغلام الإنصراف لقراءة علم الحساب دفع له الشيخ يحيى رقعة وقال أدفعها إلى شيخك فلما حضر قال له ما أبطأك عن الحضور فأخبره بالقصة ودفع له الورقة فإذا فيها:
يا جاعلاً علم الحساب وسيلةً ... تصطاد فيه فاتن الألباب
إن كنت في علم الحساب رزقته ... فالله يرزقنا بغير حساب
فكتب له على ظهر الرقعة وأمره أن لا يحضر عنده بعدها فأخذ الغلام الرقعة ودفعها للشيخ يحيى فإذا فيها:
لهوت به ظبياً غريراً مهفهفاً ... ومذ صار تيساً بعته للمسالخي
ومما نقلته أن أحد أمراء العرب كان عنده جماعة من أجلاَّء العرب فقام صاحب المنزل إلى الطهارة وعاد وهو قابض بيده على شيء من تحت ثوبه كهيئة المستبرىء من البول ودخل على الجماعة وهو على تلك الصفة قال من يأخذ الذي بيدي إلى زوجته فأطرق القوم خجلاً فقام رجل منهم وقال زوجتي أولى به يا أمير العرب فأطلق الأمير يديه وقال هو لك خذه وإذا بعقد مجوهر في يده فبهت القوم وحسدوا الرجل فقال الأمير للرجل ما أجرأك على ذلك قال ثقتي أنه لا يظهر منك إلا الكمال فدفع له ألف دينار.
ذكر ابن خلكان في تاريخه في ترجمة يحيى بن أكثم ما نصه رأيت في بعض المجاميع أنه أي يحيى بن أكثم مازح الحسن بن وهب وهو يومئذ صبي ثم جمشه فغضب الحسن فأنشد يحيى:

أيا قمراً أجمشته فتغضّبا ... وأصبح لي من تيهه متجنّبا
إذا كنت للجمش والعضّ كارهاً ... فكن أبداً يا سيدي متنقِّبا
ولا تظهر الاصداغ للناس فتنةً ... وتجعل منها فوق خدّيك عقربا
فتقتل مشتاقاً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذَّبا
قال صاحب التالد والطريف أنشد الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إمام الشافعية لنفسه:
جاء الربيع وحُسْنُ ورده ... ومضى الشتاء وقبح بردِهِ
فأشرب على وجه الحبي ... ب ووجنتيه وحسن خدّه
قال ابن السمعاني قال لي المظفر شعيب بن الحسين القاضي أنشدني الشيخ أبو اسحق الشيرازي هذين البيتين لنفسه ثم بعد مدة كنت جالساً عند الشيخ فذكر بين يديه أن هذين البيتين أنشدا عند القاضي عين الدولة حاكم صور بلد على ساحل بحر الروم فقال لغلامه أحضر ذاك الشأن يريد الشراب فقد أفتانا به الإمام أبو إسحق فبكى الشيخ ودعا على نفسه وقال ليتني لم أقل هذين البيتين ثم قال لي كيف تردهما من أفواه الناس فقلت يا سيدي هيهات قد سار بهما الركبان أورد ذلك ابن البخاري في تاريخه واسمه محمد ويلقب بمحب الدين انتهى.
لطيفة حكى الصفدي رحمه الله بالوافي بالوفيات أن أبا الحسين الجزار رحمه الله تعالى سأله طلبته يوماً للتنزه فقالوا له يا سيدي أنت أجدر بشراء اللحم منا فتقدم للجزار وأطلعه من مكانه ووقف هو وأخذ السكين وقطع قطعاً ثم أنه قطع قطعة رديئة فقالوا له يا سيدي هذه ليست جيدة فقال الشيخ معتذراً والله يا أولادي لما وقفت خلف الفرمة أدركني لؤم الجزارين.
قصد أبو عيينة قبيصة المهلبي واستباحه فلم يسمح له بشيء فأنصرف مغضباً فتوجه إليه داود بن زيد بن حاتم فترضاه وأحسن إليه فقال في ذلك:
داود محمودٌ وأنت مذمّمٌ ... عجباً لذاك وأنتما من عود
ولربَّ عودٍ قد يشقُّ لمسجدٍ ... نصفاً وباقيه لحشّ يهودي
فالحشُّ أنت له وذاك بمسجدٍ ... كم بين موضع مسلحٍ وسجود
وله هجاء في خالد:
أبوك لنا غيثٌ نعيش بوبله ... أنت جرادٌ لست تبقي ولا تذر
له أثرٌ في المكرمات يسرُّنا ... وأنت تعفّي دائماً ذلك الأثر
ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس فقيل له أتبكي على جعفر وأنت هجوته فقال كان ذلك لركوبه الهوى وقد بلغه والله أني قلت:
ولست وإن اطنبت في وصف جعفرٍ ... بأوّل إنسانٍ خري في ثيابه
فكتب: يُدفع إليه عشرة آلاف درهم ويغسل بها ثيابه.
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده اسماعيل بن علي وعيسى بن موسى والعباس بن محمد وجماعة من بني هاشم فقال له المهدي والله إن لم تهج واحداً ممّن في هذا البيت لأقطعن لسانك فنظر إلى القوم وتحيرّ في أمره وجعل ينظر إلى كل واحد فيغمزه بأن عليه رضاه قال أبو دلامة فازددت حيرة فما رأيت أسلم من أن أهجو نفسي فقلت:
ألا بلّغ لديك أبا دلامة ... فلست من الكرام ولا كرامة
جمعت دمامةً وجمعت لؤماً ... كذاك اللؤم تتبعه الدمامة
إذا لبس العمامة قلت قردٌ ... وخنزيرٌ إذا نزع العمامة
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.
وكان لأعرابي امرأتان فولدت إحداهما جارية والأخرى غلاماً فرقصته أمه يوماً وقالت معيرة لضرّتها:
الحمد لله الحميد العالي ... أنقذني اليوم من الجوالي
من كلّ شوهاء كشنٍّ بالي ... لا تدفع الضيمَ عن العيال
فسمعتها فأقبلت ضرتها ترقِّص ابنتها وتقول:
تغسل رأسي وتكون الفالية ... وترفع الساقط من خماريه
حتى إذا ما بلغت ثمانية ... أزَّرتها بنقبةٍ يمانية
أنكحتها مروان أو معاوية ... أصهار صدقٍ ومهورٍ غالية
قال فسمعها مروان فتزوجها على مائة ألف مثقال وقال إن أمها حقيقة أن لا يكذب ظنها ولا يخان عهدها فقال معاوية لولا مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر لكن لا تحرم الصلة فبعض إليها بمائة ألف درهم.
قيل إن رجلاً قال لولده وهو في المكتب في أي سورة أنت فقال لا أقسم بهذا البلد ووالدي بلا ولد فقال لعمري من كنت ولده فهو بلا ولد.

وأرسل رجل ولداً يشتري له رشاء للبئر طوله عشرون ذراعاً فوصل إلى نصف الطريق ثم رجع فقال يا أبتي عشرون ذراعاً في عرض كم. قال في عرض مصيبتي فيك يا بني.
وكان لرجل من الأعراب ولد اسمه حمزة فبينما هو يوما مع أبيه إذا برجل يصيح بشاب يا عبد الله فلم يجبه ذلك الشاب فقال ألا تسمع فقال يا عم كلنا عبيد الله فأي عبد الله تعني فالتفت أبو حمزة إليه وقال يا حمزة فقال حمزة بن الأعرابي كلنا جماميز الله فأي حمزة تعني فقال أبوه أعنيك يا من أخمد الله به ذكر أبيه.
ويعجبني قول الصفدي:
لولا شفاعة شعره في صبِّه ... ما كان زار ولا أزال سقاما
لكنْ تنازل في الشفاعة عنده ... وغدا على أقدامه يترامى
وقال ابن الصائغ:
ثنى غصناً ومدّ عليه فرعاً ... كحظّي حين أطلب منه وصلا
وبلبله على الأرداف منه ... فلم أر مثل ذاك الفرع أصلا
وقول الآخر:
أبدت ثريا قرطها وشعرها ... متصلٌ بكعبها كما ترى
يا عجباً لشعرها لما ابتدى ... من الثريا فانتهى إلى الثرى
وقول ابن نباتة:
وبمهجتي رشأٌ يميس قوامه ... فكأنّه نشوانُ من شفتيه
شغف العذار بخدّه ورآه قد ... نعست لواحظه فدبّ عليه
وقوله أيضا مضمنا:
وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يغازل بالألحاظ من لا يغازله
وسال عذارٌ فوق خدّيه سائلٌ ... على خدّه فليتق الله سائله
ولبعضهم في ذم العذار:
غدا لمَّا التحى ليلاً بهيماً ... وكان كأنذه قمرٌ منيرُ
وقد كتب السواد بعارضيه ... لمن يقرا وجاءكم النذير
ولآخر:
ما زال ينتف ريحاناً بعارضه ... حتى استطال عليه صار يحلقه
كأنّه طور سينا فوق عارضه ... طول الزمان فموسى لا يفارقه
برهان الدين القيراطي:
شبّه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلاّ
فأبى السيف والسنان وقالا ... حدّنا دون ذاك حاشا وكلاّ
ابن الصائغ:
لمثلي من لواحظها سهام ... لها في القلب فتكٌ أيُّ فتكِ
إذا رامت تشكُّ به فؤاداً ... يموت المستهام بغير شكِّ
الصلاح الصفدي:
يا عاذلاً لي على عينٍ محجّبةٍ ... خفْ سحر ناظرها فالسحر فيه خفي
وخذ فؤادي ودعه نصب مقلتها ... لا ترمِ نفسك بين السهم والهدف
آخر:
أنفقت كنز مدامعي في ثغره ... وجمعت فيه كلَّ معنىً شاردِ
وطلبت منه جزاء ذلك قبلةً ... فمضى وراح تغزّلي في البارد
عز الدين الموصلي:
كالزرد المنظوم أصداغه ... وخدّه كالورد لما وردْ
بالغت في اللثم قبّلته ... في الخدّ تقبيلاً يفكُّ الزرد
ابن نباتة:
انسيةً في مثال الجنِّ تحسبها ... شمساً بدت بين تشريقِ وتغميم
شقَّت لها الشمس ثوباً من محاسنها ... فالوجه للشمس والعينان للريم
آخر:
بصدرها كوكباً درٍّ كأنهمّا ... ركنان لم يدنسا من لمس مستلم
صانتهما بستورٍ من غلائلها ... فالناس في الحلّ والركنان في الحرم
الصلاح الصفدي:
تقول له الأغصان مذْ هزَّ عطفه ... أتزعم أنَّ اللين عندك ما قوى
فقم نحتكم للروض عند نسيمه ... ليقضي على من مال منّا إلى الهوى
وكأنه ينظر إلى قول السراج:
ومهفهفٍ عنيّ يميل ولم يمل ... يوماً إليَّ فَصِحْتُ من ألم الجوى
لم لم تميل إليَّ يا غصن النقى ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى
أراد ملك الروم أن يباهي أهل الإسلام فبعث إلى معاوية رجلين أحدهما طويل والثاني قصير شديد القوة فدعا للطويل بقيس بن سعد بن عبادة فنزع قيس سراويله ورمى بها إليه فلبسها الطويل فبلغت ثدييه فلاموا قيساً على نزع السراويل فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنَّها ... سراويل قيسٍ والوفود شهودُ
وكيلا يقولوا خان قيسٌ وهذه ... سراويل عادٍ أحرزتها ثمود

وإني من القوم اليمانين سيّدٌ ... وما الناس إلاّ سيّدٌ ومسود
ثم دعا معاوية للرجل الشديد القوة بمحمد بن الحنفية فخيره بين أن يقعد فيقيمه أو يقوم فيقعده فغلبه في الحالتين وأنصرفا مغلوبين.
وحكى الجاحظ ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له أعمل مثل هذا فبقيت مبهوتاً ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان فقلت: لا أدري كيف أصوِّره فأتت بك إليَّ لأصوره على صورتك وفي الجاحظ يقول بعضهم:
لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً ... ما كان إلاّ دون قبح الجاحظ
رجلٌ ينوب عن الجحيم بوجهه ... وهو القذى في عين كل ملاحظ
لو أن مرآةً جلت لمثاله ... ورآه كان له كأعظم واعظ
قيل إنه قدم تاجر إلى المدينة يحمل من أخمرة العراق فباع الجميع غلا السود فشكا إلى الدارمي وقد تنسك وتعبد فعمل بيتين وأمر من يغني بهما في المدينة وهما:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهدٍ متعبد
قد كان شمر للعبادة ذيله ... حتى وقفت له بباب المسجد
فشاع الخبر في المدينة أن الدارمي رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق في المدينة مليحة إلا اشترت لها خماراً أسود فلما أنفذ التاجر ما كان معه رجع الدارمي إلى تعبده وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها.
ومر رجل أشمط بامرأة عجيبة في الجمال فقال يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه وإلا فاعلمينا فقالت كأنك تخطبني قال نعم فقالت إنَّ في عيباً قال وما هو قالت شيب في رأسي فثنى عنان دابته فقالت على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنة ولكنني أحببت أن أعلمك أني أكره منك مثل ما تكره مني.
وقال عبد الله الماجشون وهو من فقهاء المدينة قال لي المهدي يوما يا ماجشون ما قلت حين فارقت أحبابك قال قلت يا أمير المؤمنين:
لله باكٍ على أحبابه جزعاً ... قد كنت أحذر هذا قبل أن يقعا
ما كان والله شؤمُ الدهر يتركني ... حتى يجرّعني من بعدهم جزعا
إنّ الزمان راى إلف السرور لنا ... فدبّ بالبين فيما بيننا وسعى
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهداً ... فلا زيادة شيءٍ فوق ما صنعا
فقال والله لأعيننك فأعطاه عشرة آلاف دينار.
وحكى بعضهم قال دخلنا إلى دير هرقل فنظرنا إلى مجنون في شباك وهو ينشد شعراً فقلنا له أحسنت فأومأ بيده إلى حجر يرمينا به وقال لمثلي يقال أحسنت ففررنا منه فقال أقسمت عليكم إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أنا أحسنت فقولوا أحسنت وإن أنا أسأت فقولوا أسأت فرجعنا إليه فأنشد يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمُ ... وحَّملوها وسارت بالدّمى الإبلُ
وقلّبت بخلال السجف ناظرها ... ترنو إليَّ ودمع العين ينهمل
وودعت ببنانٍ زانها عنمٌ ... ناديت لاحملت رجلاك يا جمل
يا حادي العيس عرّج كي أودّعهم ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل
إنيّ على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري لطول البعد ما فعلوا
فقلنا له ماتوا فقال وأنا والله أموت ثم شهق شهقة فإذا هو ميت.
قيل لما وفد المهدي من الري إلى العراق امتدحه الشعراء فقالوا أبو دلامة:
إني نذرت لئن رأيتك قادماً ... أرض العراق وأنت ذو وفرِ
لتصلِّينَّ على النبيّ محمّدٍ ... ولتملأنّ دراهماً حجريَ
فقال المهدي صلى الله على محمد فقال أبو دلامة ما أسرعك للأولى وأبطأك عن الثانية فضحك وأمر ببدرة فصبت في حجره.
وتزوج مغنٍّ بنائحة فسمعها تقول اللهم أوسع لنا في الرزق فقال لها يا هذه إنما الدنيا فرح وحزن وقد أخذنا بطرفي ذلك فإن كان فرح دعوني وإن كان حزن دعوك.

وكان عروة بن الزبير صبوراً حين يبتلي حكي أنه خرج إلى الوليد بن يزيد فوطىء عظماً فما بلغ دمشق حتى بلغ به كل مذهب جمع له الوليد الأطباء فأجمع رأيهم على قطع رجله فقالوا له اشرب مرقداً فقال ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى فأحمي له المنشار وقطعت رجله فقال ضعوها بين يدي ولم يتوجع ثم قال لئن كنت ابتليت في عضو فقد عوفيت في أعضاء فبينما هو كذلك إذا أتاه خبر ولده أنه اطلع من سطح على دواب الوليد فسقط بينها فمات فقال الحمد لله على كل حال لئن أخذت واحداً لقد أبقيت جماعة.
وقدم على الوليد وفد من عبس فيهم شيخ ضرير فسأله عن حاله وسبب ذهاب بصره فقال خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي ولا أعلم عبسياً يزيد على مالي فعرسنا في بطن واد فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد غير صبي صغير وبعير فشرد البعير فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لآخذ البعير فسمعت صيحة الصغير فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه فرجعت إلى البعير فحطم وجهي برجليه فذهبت عيناي فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل فقال الوليد اذهبوا به إلى عروة ليعلم إن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.
ومما نقلته ما حكي عن مسلم بن الوليد أنه قال: كنت يوماً جالساً عند خباء لي بازاء منزلي فمر بي إنسان أعرفه فقمت إليه وسلمت عليه وجئت به إلى منزلي لأضيفه وليس معي دراهم بل كان عندي زوج أخفاف فأرسلتهما مع جاريتي لبعض معارفي فباعهما بتسعة دراهم واشترى بها ما قلته لها من الخبز واللحم فجلسنا نأكل وإذا بالباب يطرق فنظرت من شق الباب وإذا بإنسان يسأل هذا منزل فلان ففتحت الباب وخرجت فقال أنت مسلم بن الوليد قلت نعم واستشهدت له بالضيف على ذلك فأخرج لي كتاباً وقال هذا من الأمير يزيد بن مزيد فإذا فيه قد بعثنا لك بعشرة آلاف درهم لتكون في منزلك وثلاثة آلاف درهم تتجمل بها لقدومك علينا فأدخلته إلى داري وزدت في الطعام واشتريت فاكهة وجلسنا فأكلنا ثم وهبت لضيفي شيئاً يشتري به هدية لأهله وتوجهنا إلى باب يزيد بالرقة فوجدناه في الحمام فلما خرج استؤذن لي عليه فدخلت فإذا هو جالس على كرسي وبيده مشط يسرِّح به لحيته فسلمت عليه فرد أحسن رد وقال ما الذي أقعدك عنا قلت ذات اليد وأنشدته قصيدة مدحته بها قال أتدري لم أحضرتك قلت لا أدري قال كنت عند الرشيد منذ ليال أحادثه فقال لي يا يزيد من القائل فيك هذه الأبيات:
سلَّ الخليفة سيفاً من بني مضرٍ ... يمضي فيخترق الأجسام إلهاما
كالدهر لا ينثني أبداً عمَّا يهمُّ به ... قد أوسد الناس إنعاماً وإرغاما
فقلت والله لا أدري يا أمير المؤمنين فقال سبحان الله أيقال فيك مثل هذا ولا تدري من قاله: فسألت فقيل لي هو مسلم بن الوليد فأرسلت إليك فانهض بنا إلى الرشيد فسرنا إليه واستؤذن لنا فدخلنا عليه فقبلنا الأرض وسلمت فرد علي السلام فأنشدته ما لي فيه من شعر فأمر لي بمائتي ألف درهم وأمر لي يزيد بمائة وتسعين ألف درهم وقال ما ينبغي لي أن أساوي أمير المؤمنين في العطاء انتهى.
نادرة قيل ترافق رجلان في طريق فلما قربا من مدينة من المدن قال أحدهما للآخر قد صار لي عليك حق وإني رجل من الجان ولي إليك حاجة قال وما هي قال إذا وصلت إلى المكان الفلاني من هذه المدينة فهناك عجوز عندها ديك فاشتره منها وإذبحه فقال له الآخر وأنا أيضاً لي إليك حاجة قال وما هي قال إذا ركب الجني إنساناً ما يعمل له قال تشد إبهاميه بسير من جلد اليحمور وتقطر في أذنيه من ماء السَّذاب أربعاً وفي السرة ثلاثاً فإن الراكب له يموت ثم تفرقا ودخل الأنسي ففعل ما أمره به الجني من شراء الديك وذبحه فلم يشعر بعد إلا وقد أحاط به أهل صبية من تلك البلدة وقالوا له أنت ساحر ومن حين ذبحت الدين سلبت صبية عندنا عقلها فلا نفلتك إلى إلى صاحب المدينة قال فقلت لهم أئتوني بسير من جلد اليحمور وقليل من ماء السَّذاب ودخلت على الصبية فربطت إبهاميها وقطرت ماء السذاب في أذنيها فسمعت صوتاً يقول آه علمتك على نفسي ثم مات من ساعته وشفى الله تلك الشابة واليحمور دابة وحشية لها قرنان طويلان كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر وقيل هو كالإبل يلقي قرنيه كل سنة وهما صامتان وقال الجوهري هو الحمار الوحشي.

أقسام الكتاب
1 2 3 4