كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر
المؤلف : ابن أبي الأصبع

فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وكقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي طويل:
ظللت كأني لرماح دريئة ... أطاعن عن أبناء حرب وفرت
وقال ابن الأعرابي: أهجي بيت وأمضه قول الشاعر طويل:
وقد علمت عرساك أنك آيب ... تخبرهم عن جيشهم كل مرتع
ومن شواهد هذا الباب للمولدين قول أبي تمام: بسيط
مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جوهر معروفها عرض
وقوله:
بني لهيعة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب
لجاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب
وكالذي قاله معد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قوماً إلى سماع قينة له، ثم انكشف له بعد ذلك أنهم ينالون منها القبيح بسيط
ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود
لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... وأنت غاد بها في مسرح البيد
فانظر إلى هذه المعاني ونزاهة ألفاظها، وقس على ذلك.
وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون " فإن ألفاظ الذم للمخبر عنهم في هذه الآية أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الهجاء واتفق في هذه الآية من النزاهة صحة الأقسام، فإنه لم يبق بعد قوله " أفي قلوبهم مرض " إلى قوله " أن يحيف الله عليهم ورسوله " قسماً من هذا المعنى حتى ذكره، لأن المرض عبارة عن إبطان الكفر، والريبة والشك والتردد وذكر الخوف من الحيف، فذكر جميع الأقسام التي هي أسباب القعود عن الإجابة لحكم الله ورسوله، وحصل مع ذلك الافتنان، فإنها تضمنت فن الفخر بوصف نفسه ورسوله بالعدل مدمجاً في الإيغال الذي وقع في فاصلة الآية، فإن ملزوم قوله تعالى " بل أولئك هم الظالمون " وصفه ورسوله بالعدل، فاقترن التشكيك بصحة الأقسام، وأدمج الافتنان في الإيغال، فسبحان المتكلم بهذا الكلام.

باب التسليم
وهو أن يفرض المتكلم فرضاً محالاً إما منفياً أو مشروطاً بحروف الامتناع، ليكون ما ذكره ممتنع الوقوع لامتناع وقوع مشروطه، ثم يسلم بوقوع ذلك تسليماً جدلياً، ويدل على تقدير عدم الفائدة في وقوعه على تقدير وقوعه، كقوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إليه إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " فكأن معنى الكلام والله أعلم أنه ليس مع الله سبحانه من إليه، وكأن قائلاً قال: لو سلمنا أن معه إلهاً للزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله بما خلق، وعلو بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم، والواقع خلاف ذلك، ففرض إلهين فصاعداً محال، ومثال ذلك قول الطرماح بسيط
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد
فهذا أيضاً على تقدير التسليم أن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تخفى عليه خافية، فقال الشاعر: لو كان مما يجوز أن يخفى عليه شيء من خلقه خفيت عليه هذه القبيلة.
باب الافتنان
وهو أن يفتن المتكلم فيأتي بفنين متضادين من فنون الكلام في بيت واحد أو جملة واحدة مثل النسيب والحماسة والهجاء والهناء والعزاء.
فأما ما افتن فيه بالجمع بين النسيب والحماسة فكقول عنترة كامل:
إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس، المستلئم
وكقول عبد الله بن طاهر بن الحسين وافر:
أحبك يا ظلوم وأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان
ومما جمع فيه بين تهنئة وتعزية قول بعض الشعراء ليزيد بن معاوية حين دفن أباه وجلس للناس بسيط
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا
لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
وأحسن شعر فنن فيه بالجمع بين تهنئة وتعزية قول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنئه بالأمين طويل:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن

حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً. ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فجمع هذا الكلام بين الوعد والوعيد.
ومما جمع فيه بين التعزية والفخر قوله سبحانه: " كل من عليها فان ويبق وجه ربك ذو الجلال والإكرام " .

باب المراجعة
وهو أن يحكى المتكلم مراجعة في القول، ومحاورة في الحديث جرت بينه وبين غيره أو بين اثنين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وأسهل ألفاظ، إما في بيت واحد، أو في أبيات، أو جملة واحدة، كقول عمر بن أبي ربيعة " رمل " :
بينما ينعتني أبصرنني ... مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر
قالت الكبرى: ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها: هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟
وفي الأبيات خبئان يدلان على قوة عارضة الشاعر وحذقه بمعرفة وضع الكلام مواضعه: أحدهما، وهو الذي يدل على قوة العارضة، أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت كلها مرفوعة كما قيل في أرجوزة رؤبة التي أولها " رجز " :
قد جبر الدين الإله فجبر
فإنهم قالوا: إنها تزيد على التسعين شطراً، ولو أطلقت قوافيها لكانت كلها مفتوحة.
والخبء الآخر كونه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيهاً يدل على شغفها به هي الصغرى، ليدل بدليل الالتزام على أنه فتى السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلا للفتى من الرجال غالباً وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزوناً، ولا يقال إنما مالت الصغرى له دون أختها لضعف عقلها وعدم تجربتها، فإني أقول: قد تخلص من هذا الدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل، وإنما كانت تهواه على السماع به، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها، أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه فحسب، ولم تتجاوز ذلك، أو سألت عنه وقد علمته لتلتذ بسماع اسمه من باب تجاهل العارف الذي توجبه شدة الوله والعقل يمنعها من التصريح، والوسطى سارعت إلى التعريف باسمه للعلم، فكانت دون الكبرى في الثبات الذي توجبه سنها وتوسطها، والصغرى لكون منزلتها في الثبات دون الأختين أظهرت من معرفته وصفته ما دلت به على شدة شغفها به، وكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشعر تدل عليه.
ومن جيد أمثلة هذا الباب قول أبي نواس مجزوء الرمل:
قال لي يوماً سليما ... ن وبعض القول أشنع
قال صفني وعلياً ... أينا أتقى وأنفع
قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع
قال: كلا قلت: مهلاً ... قال قل لي: قلت: فاسمع
قال: صفه قلت: يعطى ... قال: صفني قلت: تمنع
وإلى لطافة البحتري في باب المراجعة تنتهي الرياسة حيث قال خفيف:
بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الكأس مائلاً يتكفا
قلت: عبد العزيز تفديك روحي ... قال: لبيك قلت: لبيك ألفا
هاكها، قال: هاتها، قلت: خذها ... قال: لا أستطيعها، ثم أغفى
باب السلب والإيجاب
وهو أن يقصد المادح أن يفرد ممدوحه بصفة مدح لا يشركه فيها غيره، فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس، ويثبتها لممدوحه بعد ذلك، كقول الخنساء في أخيها طويل:
وما بلغت كف امرئ متناولاً ... من المجد إلا والذي نلت أطول
وما بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
فقصد أبو نواس أخذ معنى الثاني من البيتين فلم يتهيأ له أخذه إلا في بيتين، وقصر عنه بعد ذلك تقصيراً كثيراً، وناهيك بأبي نواس، وذلك أنه قال طويل:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني

أما كون معنى البيتين من معنى البيت الثاني من شعر الخنساء فلأن حاصل بيتي أبي نواس أنك فوق ثنائنا الصالح عليك، وإن مدحنا غيرك كان له لفظ المدح ولك معناه، وهذا كله هو عين قول الخنساء:
وما بلغ المهدون للناس مدحة
لأن حاصل قولها إن مدح المادحين فيك أفضل من مدحهم للناس، وإن أطنبوا في مدح الناس هو قول أبي نواس في بيته الأول طويل:
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وقصر أبو نواس عن لحاقها في الزيادة التي هي قولها: وإن أطنبوا، وقولها: " وما بلغ المهدون للناس " فكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس، وأما قول أبي نواس في بيته الثاني " فأنت الذي نثني " هو عين قولها إلا الذي فيك أفضل فإن مفهومه أن كل من يهدي مدحاً لأحد من البشر له فيك فضل مما أهدى لغيرك، ووجه تقصير أبي نواس في هذا المعنى أنه جعل ممدوحه يمدح بالنية دون القول، وبالتأويل دون التصريح، والخنساء جعلت أخاها ممدوحاً من جميع الناس بالتصريح والمعنى بأفضل ما مدح به كل الناس، فبين المعنيين من البون ما تراه.
ومن هذا الباب ما يقع في التشبيه والإخبار وغيرهما بحيث يكون للمشبه أو المخبر عنه صفات فينفي بعضها ليثبت بعضها وينفي واحدة ليوجب أختها، أو يسلبها ويوجب غيرها، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " فسلب النبوة ليوجب بقية المنازل التي كانت لهارون من موسى عليهما السلام.
ومن ذلك قول الشاعر طويل:
فصرت كأني يوسف بين اخوتي ... ولكن تعدتني النبوة والحسن
فسلب نفسه هاتين الصفتين من صفات يوسف عليه السلام ليثبت ما عداهما مما امتحن به يوسف من إخوته، وهذا البيت وإن كان من شواهد الاستدراك فهو مما يليق أن يستشهد به هاهنا.
ومن ذلك قول ابن الرومي طويل:
كأنا مع الجدران في جنباته ... دمى في انقطاع الرزق لا في المحاسن
لما كانت الدمى موصوفة بهاتين الصفتين، وكانت إحداهما لائقة بالمعنى الذي قصده، أثبتها ونفى ما عدها من الصفة التي لا تليق بغرضه، والله أعلم.

باب الإبهام
وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متضادين، لا يتميز أحدهما على الآخر، ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد ذلك، بل يقصد إبهام الأمر فيهما قصداً، والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يقع إلا في لفظة مفردة لها مفهومان، لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المركبة المفيدة، ويختص بالفنون كالمديح، والهجاء، وغيرهما، ولا كذلك الاشتراك، والفرق بينه وبين الإيضاح أن البيت الملتبس الذي يفتقر إلى الإيضاح يتضمن ألفاظ المديح الصريح والهجاء البين فيكون فيه مدح وهجاء، والإبهام لا يفهم من ألفاظه مدح ولا هجاء البتة، بل يكون لفظه صالحاً للأمرين، وإن لم يكن فيه من لفظ المدح والهجاء شيء.
ومثاله ما حكى أن بعض الشعراء هنأ الحسن بن سهيل بصهر المأمون مع من هنأه، فأثاب الناس كلهم وحرمه، فكتب إليه: إن أنت تماديت على حرماني عملت فيك بيتاً لا يعلم أحد مدحتك فيه أم هجوتك؟ فاستحضره وسأله عن قوله، فاعترف، فقال: لا أعطيك أو تفعل، فقال مجزوء الخفيف:
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن
يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من؟
فلم يعلم أراد بقوله: " ببنت من " في الرفعة أو في الضعة، فاستحسن الحسن منه ذلك، وناشده، أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته؟ فقال: لا والله، إلا نقلته من شعر شاعر مطبوع كان بعث به، ففصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد، قال له الخياط على طريق العبث به: سآتيك به لا يدري أٌباء هو أم دواج فقال الشاعر: لئن فعلت لأعلمن فيك بيتاً لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك فيه أم دعوت عليك؟ ففعل الخياط، فقال الشاعر مجزوء الرمل:
جاء من زيد قباء ... ليت عينيه سواء
فما علم أحد هل أراد أن الصحيحة تساوي السقيمة أو العكس، قال: فاستحسن الحسن صدقه، أضعاف استحسانه حذقه، وأضعف جائزته.
ومن إبهام العرب قول رجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم طويل:
تضيفني وهنا فقلت أسابقي ... إلى الزاد شلت من يدي الأصابع

ولم تلق للسعدي ضيفاً بقفرة ... من الأرض إلا وهو صديان جائع
فإن ظاهر الشعر مبهم معناه، فيظن سامعه أنه أراد ضيفاً من البشر، فيكون قد هجا به نفسه، وإنما هو يصف ذئباً غشى رحله في الليل وهو بالقمر وهو فخر محض، والله أعلم.

باب القول بالموجب
وهو أن يخاطب المتكلم مخاطباً بكلام فيعمد المخاطب إلى كل كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظة ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب، لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه كقول ابن حجاج خفيف:
قلت: طولت قال، لي: بل تطول؟ ... ت وأبرمت قلت: حبل ودادي
ومن شواهده أيضاً كامل:
إن قال: قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي
أو قال: قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع
وقد مر هذان البيتان في باب الاستدراك، والفرق بين القول بالموجب وبين التعطف من وجهين: أحدهما أن اللفظة التي تزيد في التعطف لا تكون مع أختها في قسم واحد، وإنما تكون كل لفظة في شطر. والثاني أن الثانية من كلمتي التعطف لا تكون عكس معنى الكلام، وهذه تعكس معناه، والله أعلم.
؟
باب حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم له جنساً بعد حصر أقسام الأنواع منه والأجناس كقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر " الآية فإنه سبحانه تمدح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد حاصراً لجرئيات المولدات ورأى أن الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح، لاحتمال أن يظن ضعيف أنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، فقال لكمال التمدح " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " وعلم أن علم ذلك يشاركه فيه من مخلوقاته كل ذي إدراك، فتمدح بما لا يشارك فيه، فقال: " ولا حبة في ظلمات الأرض " ثم ألحق هذه الجزئيات بعد حصرها بالكليات حيث قال: " ولا رطب ولا يابس " لأن جميع المولدات لا تخرج عن هذين القسمين، وتنظم إليها الأمهات التي هي العناصر الأربع التي تولدت منها المولدات، ثم قال: " إلا في كتاب مبين " إشارة إلى أن علمه بذلك علم من معلومه مقيد في كتاب مبين فهو يأمن الضلال والنسيان كما قال: " علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ومثل هذا التمدح قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " فإنه سبحانه لما تمدح بعلم الغيب، وعلم أن التمدح بذلك على انفراده لا يحصل به كمال التمدح، فقال: " والشهادة " لأن علم الغيب بالنسبة إلينا علم كلي، وعلم الشهادة بالنسبة إلينا علم بالجزئيات، والاقتصار على علم الغيب يوهم بعض الضعفاء أنه لا يعلم من المشاهدات ما يعلمه، فكان التمدح بعلم الشهادة أبلغ، ولذلك شاع الانتقال إليه.
وكقول الشاعر طويل:
إليك طوى عرض البسيطة جاهل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
وكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
والبيت الأخير أردت، فإن هذا الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصده فيها، ومدح يومه الذي لقيه فيه، فجعل الممدوح جميع الورى والدار التي لقيه فيها الدنيا، واليوم الذي رآه فيه الدهر فجعل الجزئي كلياً بعد حصر أقسام الجزئي، أما جعله الجزئي كلياً فلأن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر، وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، فقد حصر ذلك.
باب المقارنة

وهو أن يقرن الشاعر الاستعارة بالتشبيه أو المبالغة، أو غير ذلك من المعاني في كلامه بوصل يخفي أثره ويدق موضعه، إلا عن الحاذق المدمن النظر في هذه الصناعة ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون " فإن هذه الآية الكريمة اقترن فيها التنكيت بتجنيس التغاير، أما التنكيت ففي قوله تعالى " على ظهورهم " والنكتة في ترجيح الحمل على الظهور دون الرؤوس كون الظهور أقوى للحمل، فأشار بها سبحانه إلى ثقل الأوزار، والتجنيس بين أوزارهم ويزرون، لأن الأولى اسم، والثانية فعل وأكثر ما يقع ذلك بالجمل الشرطية، كقول إدريس بن اليمان من شعراء المغرب طويل:
وكنت إذا استنزلت من جانب الرضا ... نزلت نزول الغيث في البلد المحل
وإن هيج الأعداء منك حفيظة ... وقعت وقوع النار في الحطب الجزل
فإن هذا الشاعر لاءم بين الاستعارة بقوله في صدر البيت الأول.
وكنت إذا استنزلت من جانب الرضا
وبين التشبيه بقوله في عجز البيت: " نزلت نزول الغيث " : أي مثل نزول الغيث، أحسن ملاءمة، إذ جعل أول العجز فعلاً مضارعاً للفعل الذي في الصدر، ومصدر ذلك الفعل هو الذي لاءم بين القسمين في المعنى، فحصل بذلك التلاحم اللطيف، والاتصال الدقيق، وقارن بين الاستعارة والتشبيه أحسن مقارنة، وكذلك فعل في البيت الثاني حيث قال بعد ذكر تهييج الحفيظة: وقت وقوع النار، فهذا مثال ما اقترنت فيه الاستعارة بالتشبيه، وأما ما اقترنت فيه الاستعارة بالمبالغة فمثاله قول النابغة الذبياني طويل:
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع
فإنه سمى الممدوح ربيعا استعارة لكونه يحيا به النبات والحيوان وسماه سيفاً لأنه تموت به الأقران، وفي ضمن كل استعارة منها مبالغة تامة أما الأولى منها فجارية على التحقيق بأن إحياء الربيع أعم من إحياء الكريم فجعل الكريم ربيعاً مبالغة ممكنة جارية على التحقيق، وأما الثانية فإنها أبلغ من الأولى حيث جعل سيفاً أعيرته المنية قاطعاً، فإنه لو عكس حتى يجعله مستعيراً للمنية كان ذلك بليغاً، والأول أبلغ فقد اقترن في هذا البيت المبالغة والتكميل، فإنه لما فرغ من صدر البيت ورأى نفسه قد مدح ممدوحه بمجرد الكرم وعلم أن المدح غير كامل، فكمله بالشجاعة فحصل في البيت تكميل مقترن بالمبالغة.
ومن أحسن ما سمعت في المقارنة قول أبي تمام طويل:
فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد
فإن هذا البيت وقعت فيه مقارنتان: إحداهما في ظاهره، والأخرى في باطنه، فوقع في ظاهره المبالغة مقترنة بالتكميل في قوله: " يحمدك عدوك صاغراً " ، لأن حمد العدو مبالغة، وكونه صاغراً تكميل، وفي باطن البيت الافتنان مقترن بالإدماج، إلا أن الافتنان فيه مدمج في المبالغة، وذلك أنه لا يقدر على أن يجعل عدو الممدوح يمدحه صاغراً إلا بما يجيد فيه من المدائح التي تدعو استجادتها واستحسانها كل من يسمعها إلى حفظها واللهج بها من صديق وعدو، فيضطر العدو إلى أن يلهج بتلك المدائح المقولة فيه: وهو صغير عند نفسه وعند من يسمعها، يقول: ليس بعاقل من يعادي من يقال فيه مثل هذا فيصغر عند نفسه وعند غيره، ويهون مقداره، وفي ذلك افتخار للشاعر ومدح للممدوح ،وهذان فنان: أحدهما مديح، والآخر افتخار، الأول ظاهر وهو المديح، والثاني باطن وهو الافتخار وحصل بسبب ذلك في البيت تعليق لطيف، وهو تعليق صحة مدح الشاعر على مدح عدو الممدوح له صاغراً، فإنه شرط على نفسه أنه ما لم يمدح ممدوحه عدوه فهو غير حامد له.
ومن أحسن ما سمعت في ذلك قول تميم بن مقبل طويل:
لدن غدوة حتى نزعنا عشية ... وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف
وهذا مما اقترن فيه الإرداف بالاستعارة، لأنه عبر عن الغروب بموت شطر الشمس في أول العجز، واستعار للشطر الثاني الدنف في آخر العجز، وهذا بليغ جداً، حيث أتت المقارنة فيه في قسم واحد.
والفرق بين المقارنة والتعليق والإدماج أنها في المعاني، وذانك في الفنون والمعاني معاً.

ومن المقارنة ما يقرنه الشاعر من شعره غيره بشعره، وهو عكس الإبداع والاستعانة، لأن الشاعر في هذين البابين يقدم شعر نفسه على شعر غيره وفي المقارنة يقدم شعر غيره على شعر نفسه، كما قال الرشيد هارون للجماز يوماً: أجز وابده، الملك لله وحده، فقال الجماز: وللخليفة بعده وللمحب إذا ما حبيبه بات عنده، وهذا شاهد القسم الثاني منها.
ومن المقارنة ما يقرنه الشاعر من شعر نفسه فيكون في فن، فإذا قرن البيت بآخر صار من فن غيره، وقد جاء من شواهد هذا القسم ما استشهدنا به في باب الهجاء في معرض المدح، وهو الذي قاله بعض الشعراء في بعض الأشراف وافر:
له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرسول
فإن البيت الأول مدح محض، فلما اقترن بالثاني صار هجواً بحتاً، وهذا أوضح فرق بين المقارنة والتعليق والإدماج.

باب المناقضة
وهو تعليق الشرط على نقيضين: ممكن ومستحيل، ومراد المتكلم المستحيل دون الممكن، ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط، فكأن المتكلم ناقض نفسه في الظاهر، إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين، ومثال ذلك قول النابغة الذبياني وافر:
وإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب
فإن تعليقه وقوع حلم المخاطب على شيبه ممكن، وعلى شيب الغراب مستحيل، ومراده الثاني لا الأول، لأن مقصوده أن يقول: إنك لا تحلم أبداً.
والفرق بينه وبين نفي الشيء بإيجابه أن هذا الباب ليس فيه نفي ولا إيجاب، ونفي الشيء بإيجابه ليس فيه شرط ولا معناه.
ومن المناقضة نوع آخر يرجع أصله إلى الأول، وهو أن يأتي في لفظ الوعد ما يدل على الوعيد، فيسر المخاطب ويسوءه في وقت واحد، فيتوجه على ذلك اللفظ إشكال يوضحه بعده، كقوله تعالى: " إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون " فقوله سبحانه: " إنا كاشفوا العذاب " وعد، ووصف كشف العذاب بالقلة وعيد، فهو يسر ويسوء في حالة واحدة، وإنما وصفه بالقلة المنافية للكرم من أجل أنه علق كشف العذاب بشرط عدم العود إلى موجب العذاب، فاقتضت البلاغة أن يقول قليلاً ليدمج في دلائل النبوة الإخبار بالغيب، وهو وقوع العود، فيرشح بذكر لفظة " قليلاً " للإيضاح والإخبار بوقوع العود الذي اقتضى أن يكون كشف العذاب قليلاً من أجله. والشرط المأخوذ من قوة الكلام هو الذي يرد هذا النوع إلى النوع الأول. والله أعلم.
باب الانفصال
وهو أن يقول المتكلم كلاماً يتوجه عليه فيه دخل إذا اقتصر عليه، فيأتي بعده بما ينفصل به عن ذلك إما ظاهراً أو باطناً يظهره التأويل كقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " فإن على ظاهر هذه الآية حصل من جهة أن الطائر يطير بجناحيه، فيكون الإخبار بذلك عرياً عن الفائدة، والانفصال عن ذلك هو أنه سبحانه لما قال: " وما من دابة في الأرض " أوجبت البلاغة أن يردف ذلك بقوله " ولا طائر " في السماء أو في الجو " يطير بجناحيه " فأراد الإيجاز، فوجب أن يحذف إحدى الجملتين إما في السماء أو يطير وما فيها من الضمير، ولا سبيل إلى حذف الفعل، لأنه الذي يتعلق به الجار والمجرور الذي يمر بجناحيه وذكره مطلوب في الآية، لأن ذكر الجناح يفصل صاحبه من الهمج الذي يظهر وهو يخال أنه يطير كالنمل والجعلان وغير ذلك، لأن هذا الصنف قد ذكر في صنف ما دب ودرج في الأرض، والآية قصد بها صحة التقسيم، لأنه سبحانه لما استوعب كل ما يدب على الأرض في صدرها أراد الإتيان بما يعم الذي يطير في الجو، ولا يطير في الجو إلا طائر، ولا يسمى طائراً إلا إذا طار بجناحين، ولا تسمى آلة الطيران جناحاً إلا إذا كانت ذات قصب وريش وأباهر وخوافي وقوادم، فقوله سبحانه: " ولا طائر " بعد ذكر الدواب موضح لما أراد من صحة التقسيم، ولفظة طائر رشحت لفظة يطير لمجيئها بعدها، ولفظة يطير رشحت الإتيان بلفظة الجناحين، فحصل من مجموع ذلك الانفصال عن الدخل المتوجه على ظاهر الآية، والله أعلم.
وكقول أبي فراس مجزوء الرمل:
في حرام الناس إن كن؟ ... ت من الناس تعد
؟ولقد نبيت إبلي؟ - س إذا راك يصد
ليس من تقوى ولكن ... ثقل فيك وبرد

فإن أبا فراس لو اقتصر على البيت الثاني لكان الهجاء فيه غير مخلص، وكان يتوجه دخل بسبب احتمال البيت للمدح، والإتيان به في معرض الهجو، فانفصل عن هذا الدخل بالبيت الثالث.
والفرق بينه وبين الاحتراس عموم الاحتراس وخصوص هذا الباب، لأن البيت المدخول من هذا الباب يكون الدخل المتوجه عليه من جهة كونه صالحاً لضدين من الفنون، وهو في سياق أبيات مقصودة في فن واحد منهما، والاحتراس يكون بيته مدخولاً من هذا الوجه وغيره، والله أعلم.
؟

باب الإبداع

وهو أن تكون مفردات كلمات البيت من الشعر، أو الفصل من النثر، أو الجملة المفيدة، متضمنة بديعاً بحيث تأتي في البيت الواحد والقرينة الواحدة عدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جملته، وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان فصاعداً من البديع، ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع، وما رأيت في جميع ما استقريت من الكلام المنثور والشعر الموزون كآية كريمة من كتاب الله تعالى: استخرجت منها إحداً وعشرين ضرباً من المحاسن، وهي قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين " . وهي المناسبة التامة بين أقلعي وابلعي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله " يا سماء " فإن المراد والله أعلم يا مطر السماء، والاستعارة في قوله " أقلعي " ، والإشارة في قوله تعالى " وغيض الماء " فإنه عبر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة، والتمثيل في قوله تعالى " وقضي الأمر " فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظ فيه بعد عن لفظ المعنى الموضوع له، والإرداف في قوله تعالى: " واستوت على الجودي " فإنه عبر عن استقرارها بهذا المكان، وجلوسها جلوساً متمكناً لا زيغ فيه ولا ميل، بلفظ قريب من لفظ المعنى، والتعليل، لأن غيض الماء علة الاستواء، وصحة التقسيم إذ استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، واحتقان الماء الذي ينبع من الأرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها. والاحتراس في قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " إذ الدعاء يشعر بأنهم مستحقوا الهلاك احتراساً من ضعيف يتوهم أن الهلاك لعمومه ربما شمل من يستحق ومن لا يستحق فتأكد بالدعاء على الهالكين لكونهم مستحقين ذلك، والإيضاح في قوله للقوم ليتبين لهم أن القوم هم الذين سبق ذكرهم في الآية المتقدمة عليها، حيث قال تعالى: " وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه " وفي قوله قبل ذلك " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " فأتى سبحانه في آخر هذا الآية بلفظة القوم التي الألف واللام فيها للعهد ليبين أنهم القوم الذين سبق ذكرهم ووصفهم بالظلم كما وصفهم في أول الكلام بالظلم، وذلك مما يوضح المعنى ويبينه، فعلم أن لفظة القوم هاهنا ليست فضلة في الكلام، وأنها يحصل بسقوطها لبس في المعنى، وعدم بيان الكلام محتاج له، والمساواة، لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها، وحسن النسق لأنه سبحانه عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب حسبما ما وقعت وائتلاف اللفظ مع المعنى، لأن كل لفظة لا يصلح موضعها غيرها، والإيجاز لأنه سبحانه اقتص القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخل منها بشيء في أخصر عبارة، والتسهيم، لأن أول الآية إلى قوله تعالى: أقلعي يقتضي آخرها، والتهذيب، لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن كل لفظة سمحة سهلة، مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة، مع الخلو عن البشاعة والتركيب، سليمة من التعقيد وأسبابه، والتقديم والتأخير والحذف المخل والزيادة المسهبة وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء من هذا النظام، والتمكين، لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، مطمئنة في مكانها، غير قلقة ولا مستدعاة، والانسجام، وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء وينساب انسياب العليل من الهواء، وما في مجموع الآية من الإبداع وهو الذي سمى به هذا الباب من أن كل لفظة لا تخلو عن أن يستخرج منها ضرب أو ضربان من البديع، فهذه آية عدة ألفاظها سبع عشرة لفظة تتضمن إحدا وعشرين ضرباً من البديع غير ما يتعدد من ضروبها، فإن الاستعارة وقعت منها في موضعين: وهما استعارة الابتلاع للأرض، والإقلاع للسماء. والمجاز في مكانين، في قوله سبحانه " ويا سماء " وفي الإشارة والتمثيل والإرداف لأن المجاز مجازان: مجاز بالحذف، ومجاز بالتغيير، وقد وقعا معاً فانظر رحمك الله إلى عظمة هذا الكلام، لتعلم ما انطوى عليه نظمه، وما تضمنه لفظه، وقد وقع لي بيت من قصيدة أشرفية وقع فيه ستة عشر ضرباً من البديع بعد ما تكرر فيه من ضروب البديع، وهو طويل:
فضحت الحيا والبحر جوداً فقد بكى ال؟ ... حيا من حياء منك والتطم البحر

فاتفقت فيه الاستعارة في ثلاثة مواضع: في افتضاح الحياة، وبكائه، وحيائه، والمبالغة إذ جعلت الممدوح يفضح الحيا والبحر بجوده، والتفسير في قولي " جودا " وقولي " من حياء منك " ، والإغراق لما في جملة القافية من زيادة المبالغة، والترشيح بذكر الاستعارة الأولى للاستعارة الثانية، والتجنيس بين الحيا والحيا، التورية في قولي والتطم البحر والترشيح للتورية بذكر البكاء، فإن ذكره هو الذي يرشح للتورية، وصحة التقسيم في حصر القسمين اللذين يضرب بهما المثل في الجود، إذ لا ثالث لهما، والتصدير في كون البحر مذكوراً في صدر البيت، وهو قافية، والتعليل في كون العلة في بكاء الحيا والتطام البحر فضيحتهما بجوده، والتسهيم في كون صدر البيت عطف بعضها على بعض بأصح ترتيب، والإرداف، لأني عبرت عن نهاية جوده بفضوح الحيا والبحر، والتمثيل في كوني عبرت عن عظم الجود ببكاء الحيا من الحياء والتطام البحر، فهذا ما في تفاصيل البيت وأما ما في جملته، فالمساواة، لكون لفظه قالباً لمعناه، وائتلاف لفظه مع معناه في كون ألفاظ البيت ملائمة مختارة، لا يصلح موضع كل لفظة غيرها، ولم يحصل فيه من تعقيد السبك والتقديم وأسبابه وسوء الجوار ما يوجب له الاستثقال. والإبداع هذا بابه، لكون كل لفظة من مفرداته تتضمن نوعاً أو نوعين من البديع، فقد حصل فيه ستة عشر ضرباً من البديع، وتكررت الاستعارة فيه في ثلاثة مواضع، والترشيح في موضعين، والتفسير في موضعين، وهو ثنتا عشرة لفظة، والله عز وجل أعلم.
؟

باب حسن الخاتمة
يجب على الشاعر والناثر أن يختما كلامهما بأحسن خاتمة، فإنها آخر ما يبقى في الأسماع، ولأنها ربما حفظت من دون سائر الكلام في غالب الأحوال فيجب أن يجتهد في رشاقتها ونضجها وحلاوتها وجزالتها، وقد رأيت القاضي الفاضل عبد الرحيم رحمه الله تعالى كثيراً ما كان يحترز في ذلك ويتوخاه، فيأتي منه بكل نكتة ترقص لها القلوب، وتغنى عن النسيب في المحبوب، فمن ذلك خاتمة كتاب أجاب به القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله حيث قال: وهذا القاضي مسؤول في أن يتخولنا ببدائعه ويؤمننا دثور الفكر بروائعه، ولا يضن علينا بما هو سهل عليه من منافعه وإلا دخل فيمن منع الماعون، وخرج من الذين هم لأمانات الفضيلة وعهدها راعون.
وقوله في خاتمة رسالة كتبها للملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى في حق أولاد ابن أبي اليسر، وقد قصدوه بعد موت أبيهم، فخلع عليهم ، فأعلموا الفاضل بذلك، وسألوه كتاباً إليه على يدهم بالوصية عليهم، والإذن لهم في تقبيل يده، فقال في آخره، وإن يبسط لهم وجهه الكريم عند مثولهم وسلامهم، لينزع بشره حداد الحزن عن قلوبهم كما نزع بره حداد المآتم عن أجسامهم؟ لا زال مولانا عاقلة الدهران جنى على أوليائه وداهم ولا عدموه منعماً إن سألوه أعطاهم، وإن لم يسألوه بدأهم، والمتقدم في جميع فنون البلاغة، وخصوصاً هذا النوع منها على بلغاء البدو والحضر، بل على جميع فصحاء البشر، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن خواتم كلامه قوله في آخر جواب أجاب به معاوية: ثم ذكرت أن ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بني عبد المطلب من الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوفين، لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وإني مرقل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية، عرفت مواقع نضالها في أخيك وخالك وجدك، " وما هي من الظالمين ببعيد " .
وأما حسن الخاتمة في الشعر فقليل في أشعار المتقدمين، وأكثر ما عني بذلك المحدثون، فمن المجيدين في ذلك أبو نواس، حيث قال في خاتمة قصيدة مدح بها الأمين كامل:
فبقيت للعلم الذي تهدى به ... وتقاعست عن يومك الأيام
وكقوله في خاتمة قصيدة مدح بها الخصيب عامل مصر كامل:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر
لا تعقدا بي عن مدى أملي ... شيئاً فما لكما به عذر
ويحق لي إذ صرت بينكما ... ألا يحل بساحتي فقر
وكقوله فيه طويل:

وإني جدير إذ بلغتك بالغنى ... وأنت بما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور
وكقوله للعباس بن الفضل بن الربيع طويل:
إليك غدت بي حاجة لم أبح بها ... أخاف عليها شامتاً فأدراي
فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدماً على عواري
وكقول أبي تمام في خاتمة القصيدة التي ذكر فيها فتح عمورية بسيط
إن كان بين ليالي الدهر من رحم ... موصولة وذمام غير منقضب
فبين أيامك اللاتي نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النسب
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
وكقوله في خاتمة قصيدة اعتذر بها إلى ابن الهيثم كامل:
أأقنع المعروف وهو كأنه ... قمر الدجى إني إذا للئيم
مثر من المال الذي ملكتني ... أعناقه ومن الوفاء عديم
فأروح في بردين لم يلبسهما ... قبلي فتى وهما الغنى واللوم
وكقوله في قصيدة استعطف بها ابن الزيات طويل:
أكابرنا عطفاً علينا فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل
وكقوله في خاتمة قصدية اعتذر فيها إلى موسى بن إبراهيم الرافقي طويل:
فإن يك ذنب عن أوتك هفوة ... على خطاء مني فعذري على عمد
وكقوله في خاتمة قصيدة مخاطباً مالك بن طوق بسيط
لا توقظوا الشر عن قوم فقد غنيت ... دياركم وهي تدعي زهرة النعم
هذا ابن خالكم يهدي نصيحته ... من يتهم فهو فيكم غير متهم
وكقول أبي الطيب المتنبي في خاتمة قصيدة من السيفيات وافر:
فلا حطت لك الهيجاء سرجاً ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا
وكقوله في خاتمة أخرى من السيفيات بسيط
لا زلت تضرب من عاداك عن عرض ... يعاجل النصر في مستأخر الأجل
وكقوله أيضاً لسيف الدولة وقد ذكر الخيل بسيط
فلا هممت بها إلا على ظفر ... ولا وصلت بها إلا إلى أمل
وكقوله فيه أيضاً طويل:
أخذت على الأرواح كل ثنية ... من العيش تعطي من تشاء وتحرم
فلا موت إلا من سنانك يتقى ... ولا رزق إلا من يمينك يقسم
وكقوله في خاتمة القصيدة التي هنأ بها أبا وائل بخلاصه من الأسر متقارب:
فذي الدار أغدر من مومس ... وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها ... ولا يحصلون على طائل
وقوله في خاتمة قصيدة ودع بها ابن العميد طويل:
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني ... أخلف قلبي عند من فضله عندي
فلو فارقت جسمي إليك حياته ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد

وجميع خواتم السور الفرقانية في غاية الحسن ونهاية الكمال، لأنها بين أدعية ووصايا وفرائض، وتحميد وتهليل، إلى غير ذلك من الخواتم التي لا يبقى في النفوس بعدها تطلع ولا تشوف إلى ما يقال، كالدعاء الذي ختمت به سورة البقرة، والوصايا التي ختمت بها آل عمران، والفرائض التي ختمت بها النساء، والتبجيل والتعظيم الذي ختمت بهما المائدة، والوعد والوعيد الذي ختمت بهما، الأنعام، والتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة التي ختمت به الأعراف، والحض على الجهاد وصلة الأرحام اللذين ختمت بهما الأنفال، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه والاعتداد على الأمم به، ووسيلته ووصيته، والتهليل، الذي ختمت به براءة وتسليته عليه السلام التي ختمت بها سورة يونس، ومثلها خاتمة هود، ووصف القرآن ومدحه الذي ختمت بها سورة يونس، ومثلها خاتمة هود، ووصف القرآن ومدحه الذي ختمت به يوسف، والرد على من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ختمت به الرعد، ومدح القرآن وذكر فائدته والعلة في إنزاله الذي ختمت به إبراهيم، ووصية الرسول التي ختمت بها الحجر، وتسلية الرسول عليه السلام وطمأنينته ووعد الله سبحانه الذي ختمت به النحل، والتحميد الذي ختمت به سبحان وتحضيض الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبلاغ والإقرار بالبشرية والأمر بالتوحيد الذي ختمت به الكهف، وقد أتيت على نصف القرآن ليكون مثالاً لمن نظر في بقيته ولم أطل بالبقية لكثرة سور النصف الأخير والله أعلم.
هذا آخر الأبواب التي استنبطها، وهي ثلاثون باباً، وبها تكملت عدة أبواب الكتاب مائة وواحد وعشرون باباً سليمة من التداخل والتوارد، بعد ما حذفت من أبواب ليس فيها للمتقدمين سوى الأسماء ومسمياتها متداخلة في غيرها، ومن أأنعم النظر في الكتب التي نظرت فيها ودقق الفكر في كتابي، وقع على صحة ما ذكرت، فرحم الله من نظر فيه، وسد ما يجده من الخلل، واغتفر ما يقع عليه من السهو الزلل، وعمل بقولي سريع:
ما أحسن الإغضاء من منصف ... يعلم أن الكامل الله
إن أبصرت عيناك عيباً فجد ... بفضل عفوٍ عند رؤياه
قال صاحب الكتاب: كنت قد سودت من هذا الكتاب نسخة قبل هذا النسخة مختصرة جداً حسبما ما رسم لي من ألفته له، ورسم أن يبيضها الفاضل ضياء الدين موسى بن ملهم الكاتب، وفقه الله تعالى، فلما بيضها تفضل وكتب في آخرها بسيط
هذا كتاب بديع ما رأى أحد ... مثلاً له في مبانيه ومعناه
حوى تصانيف هذا العلم أجمعها ... وزادنا جملاً عما سمعناه
لا تعجبوا من لطيف الحجم قام به؟ ... ذا الفن أجمع أقصاه وأدناه
فقد رأيتم عصا موسى كم التقفت ... ولم يزيد قدرها عما عهدناه
لقد عجبت من غفلة السابقين إلى هذا العلم عما اهتدى إليه هذا المصنف، وكيف مروا معرضين عما استخرج من درر هذا المؤلف، وصفوا صورة جواد وتركوا وصف سبق، وشببوا بظبي وأضربوا عن حسن عينيه وعنقه، واشتغلوا عن حمد الغيث، وشكر ودقه، بالإطناب في تشبيه رعده وبرقه، فذكر ما نسوه، وكمل ما نقصوه لا جرم أنه سبق أولهم، وأصبح أفضلهم وكل هذا بسعادة من صنف لأجله كتابه، وقصد به بابه وجنابه، فإن سعادته ترد الآجن عذباً، واليابس رطباً، وتنشر موتى الإملاق قبل المعاد، وتغير اسمي شر وظلوم بسعدي وسعاد، وهمته تنظر من أعلى العلو إلى الشمس، وقدرته تكاد ترد الماضي وتصير اليوم أمس، لا زال بابه مقصوداً، وقاصده محسوداً، والقدر من أعوانه معدوداً، وإن كان القدر بهذا القدر مسعوداً.
تم الكتاب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

أقسام الكتاب
1 2 3