كتاب:شرح العقيدة الأصفهانية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

الخلق وأفضلهم وأنه لا يصلح لأحد أن يعارضهم برأيه ولا يخالفهم بهواه لكن لا يفيد العلم بحقيقة النبوة إلا أن يعترف أن النبي أعلم منه فلا يمكنه أن يقول هو أعلم منه فكل من حصل له من المخاطبات والمشاهدات ما يحصل للأولياء فإنه يعلم أن الذي للأنبياء فوق الذي له من ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه قد ثبت في الصحيح أنه ص - قال أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر وقال ص - إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وفي الترمذي عنه ص - أنه قال لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وكان عمر بهذا يعلم أن ما يأتي النبي ص - من الوحي والملائكة وما يخبر به من الغيب وما يأمر به وينهى عنه أمر زائد على قدره ومجاوز لطاقته بل يجد بينه وبين ذلك من التفاوت ما يعجز القلب واللسان عن معرفته وتبيانه بل كان عمر بما حصل له من المكاشفة والمخاطبة يعلم أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أكمل منه معرفة ويقينا وأتم صدقا وأخلاقا وأعلم منه بقدر الرسول ص - فكان خضوع عمر هذا الذي هو أفضل الأولياء المحدثين الملهمين المخاطبين لأبي بكر الصديق كخضوع من رأى غيره من مشاركيه في فنه أكمل منه كخضوع الأخفش لسيبويه وزفر لأبي حنيفة وابن وهب لمالك ونحو ذلك أو خضوع فقهاء المدينة لسعيد بن المسيب وعلماء البصرة للحسن البصري وفقهاء مكة لعطاء بن أبي رباح
وإذا كان هذا مثل عمر مع أبي بكر لأن أبا بكر الصديق يأخذ ما يأخذه عن الرسول المعصوم عليه الصلاة و السلام الذي قد عصم أن يستقر فيما جاء به خطأ فهو لخبرته بحال صديق النبي بهذه المثابة وكل من كان عالما بالصحابة يعلم أن عمر رضي الله تعالى عنه كان متأدبا معظما بقلبه لأبي بكر رضي الله عنه مشاهدا أنه أعلى منه إيمانا ويقينا فكيف يكون حال عمر وغيره مع النبي ص -
وإذا كان هذا حال أفضل المحدثين المخاطبين فكيف حال سائرهم ولا ريب أن الرجل كلما عظمت ولايته وعظم نصيبه من انكشاف الحقائق له كان

تعظيمه للنبوة أعظم والناس في هذه الطريق متفاوتون بحسب درجاتهم لكن طريق الصوفية لا ينهض بانكشاف جميع ما جاء به الرسول ص - بل ولا بأكثره بل عامة ما يخبر به الرسول ص - لا يمكن أبو بكر وعمر فضلا عن غيرهما أن يعلمه بدون خبره وإن كان عند المخبرين علم بجمل ذلك أو أصله لكن ما يخبر به من التفصيل لا يعلم بدون خبره أصلا وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن الكشف يحصل ذلك وقول القائل أن الأولياء شاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ليس بسديد بل لا يزال الأولياء مع الأنبياء في إيمان بالغيب ولا يتصور أن الولي يعطى ما أعطيه النبي من المشاهدة والمخاطبة وأفضل الأولياء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم
وليس في هؤلاء من شاهد ما شاهده النبي ص - ليلة المعراج ولا شاهد الملائكة الذين كانوا ينزلون بالوحي على النبي ص - ولا سمع أحد منهم كلام الله الذي كلم به نبيه ليلة المعراج ولا سمع عامة الأنبياء فضلا عن الأولياء كلام الله كما سمعه موسى بن عمران ولا كلم الله تكليما لداود وسليمان بل ولا إبراهيم ولا عيسى فضلا عن أن يكون ذلك يحصل لأحد من الأولياء والإيمان بكل ما جاء به الأنبياء واجب فإنهم معصومون ولا يجب الإيمان بكل ما يقوله الولي بل ولا يجوز فإنه ما من أحد من الناس إلا يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله ص - ومن سب نبيا من الأنبياء قتل وكان كافرا مرتدا بخلاف الولي
قال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقوله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم

فإن قيل ففي قراءة ابن عباس ولا محدث قيل هذه القراءة ليست متواترة ولا معلومة الصحة ولا يجوز الاحتجاج بها في أصول الدين وإن كانت صحيحة فالمعنى أن المحدث كان فيمن كان قبلنا وكانوا يحتاجون إليه وكان ينسخ ما يلقيه الشيطان وإليه كذلك وأمة محمد ص - لا تحتاج إلى غير محمد ص - ولهذا كانت الأمم قبلنا لا يكفيهم نبي واحد بل يحيلهم هذا النبي في بعض الأمور على النبي الآخر وكانوا يحتاجون إلى عدد من الأنبياء ويحتاجون إلى المحدث وأمة محمد أغناهم الله بمحمد ص - وعن غيره من الأنبياء والرسل فكيف لا يغنيهم عن المحدث ولهذا قال ص - أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر فعلق ذلك بأن ولا يجزم به لأنه علم استغناء أمته عن محدث كما استغنت عن غيره من الأنبياء سواء كان فيها محدث أولا أو كان ذلك لكمالها برسولها الذي هو أكمل الرسل وأجملهم وهؤلاء كبعض في أمته عن الأمم قبلهم
وقد وقع في كلام أبي حامد وغيره نحو من هذا في مواضع أخر حتى ذكر فيما يتأول وما لا يتأول أن ذلك لا يعلم إلا بتوفيق إلهي يشاهد به الحقائق على ما هي عليه ثم ينظر في السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق مشهوده أقره وما خالفه تأوله وذكر في موضع آخر أن الواحد من الأولياء قد يسمع كلام الله سبحانه كما سمعه موسى بن عمران وأمثال هذه الأمور ولهذا تبين له في آخر عمره إن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور مما أنكره الناس عليه حتى قال المازري وغيره ما معناه إن كلامه يؤثر في الإيمان بالنبوة فينقص قدرها أو نحو هذا وكذلك ما ذكره من أن النبوة انفتاح قوة أخرى فوق العقل
ولا ريب أن هذا مما يكون للنبي وليست للنبوة قوة تدرك بها الأمور وإنما

يشبه هذا أصول الفلاسفة الذين يزعمون أن الفيض دائم من العقل الفعال وإنما يحصل في القلوب بسبب استعداد الأشخاص فأي عبد كان استعداده أتم كان الفيض عليه أتم من غير أن يكون من الملأ الأعلى سبب يخص شخصا دون شخص بالخطاب والتكليم
وليس هذا مذهب المسلمين بل ولا اليهود ولا النصارى بل هؤلاء كلهم إلا من الحد منهم متفقون على أن الله سبحانه خصص موسى بالتكليم دون هارون وغيره وإنه يخص بالنبوة من يشاء من عباده لا أنه بمجرد استعداده يفيض عليه العلوم من غير تخصيص إلهي وهنا صار الناس ثلاثة أصناف صنف يقولون ليست النبوة إلا مجرد أنباء الله تعالى للعبد وهو تعلق كلامه كما يقولون أن الأحكام الشرعية ليست إلا مجرد خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من غير أن يكون للفعل في نفسه صفة اقتضت تخصيصه بالحكم
وكذلك يقول هؤلاء ليس للنبي في نفسه صفة اقتضت تخصيصه بالنبوة وهذا يقوله طوائف من متكلمة أهل الإثبات القدريين أصحاب جهم وأبي الحسن وغيرهما الذين يخالفون المعتزلة والفلاسفة فيما يقولونه في فعل الرب وحكمه إذ المتفلسفة يقولون بالطبع والعلة الموجبة والمعتزلة يقولون بالاختيار المتضمن لشريعة عقلية ألزموه بها في التعديل والتجويز ونحو ذلك والمنتسبون إلى السنة والجماعة من الكلابية والأشعرية والكرامية وسائر المنتسبين إلى السنة والجماعة يردون عليهم الأصول التي فارقوا بها أهل السنة والجماعة بالتكذيب من القدر والصفات وتخليد أهل الكبائر كما يردون على المتفلسفة ما فارقوا به المسلمين لكن لهؤلاء في مسائل الحكمة والمصالح وتعليل الأفعال والأحكام وهل للأفعال صفات يدرك بها حسنها وقبحها نزاع ليس هذا موضع تفصيله وإنما نذكره مجملا
ومعلوم أن الإنباء والإرسال من باب كلام الله تعالى وكذلك الأمر والنهي هو من باب كلام الله تعالى والأمر متعلق بالفعل والإرسال والإنباء

متعلق بالرسول والنبي وللناس في هذا وهذا ثلاثة أقوال
أحدها أنه ليس ذلك إلا مجرد كلام الله المتعلق بذلك أو تعلق الخطاب بذلك وهو من الصفات النسبية الإضافية عندهم قالوا لأنه ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية وهذا قول هؤلاء
والقول الثاني إن ذلك يعود إلى صفة قائمة بالنبي وبالفعل
والقول الثالث إن ذلك يتضمن الأمرين فالحكم الشرعي يتضمن خطاب الشارع وصفة قائمة بالفعل والنبوة تتضمن خطاب الرب لتضمن صفة قائمة بالنبي أيضا وهذا معنى قول السلف والأئمة وجمهور المسلمين والفلاسفة والمعتزلة أيضا يثبتون أيضا فيه حسن الفعل وقبحه إلى صفة فيه توجب الحمد والذم وخطاب الشارع كاشف لها لا مثبت لها والمتفلسفة عندهم يعود ذلك إلى صفة في الفعل توجب كمال النفس أو نقصها ولذلك يقولون إن النبوة هي كمال للنفس الناطقة تستعد به لأن تفيض عليها المعارف من العقل الفعال من غير أن يكون هناك خطاب حقيقي لله تعالى ولكن كلام الله سبحانه عندهم هو ما يحدث في نفس النبي من أصوات يسمعها في نفسه لا خارجا عن نفسه والملائكة عبارة عن أشعال نورانية يراها تكون في نفسه لا خارجا عن نفسه كما يرى النائم في منامه صورا يخاطبها وكلاما يسمعه وذلك في نفسه ولهذا جعل أبو حامد هذا طريقا لهم إلى إثبات النبوة كما سلك ابن سينا وغيره ولا ريب أن كل ما يقربه من مقر من الحق فإن أهل الإيمان يقرون به لكن يعلمون أشياء فوق ذلك لا يعلمها أهل الباطل فما علمته المتفلسفة من هذه الأمور لا ينكرها أهل الإيمان لكن ينكرون عليهم اقتصارهم في التصديق عليها
وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في جواب المسألة الخراسانية التي سئلت فيها عن ما يتعلق بالقرآن العظيم وكلام الله سبحانه وتعالى وذكرت مراتب تكليم الله تعالى لخلقه وأنها درجات وأن المتفلسفة أقروا ببعض الدرجات دون بعض بل لعلهم لم يتجاوزوا أدنى الدرجات وهي درجات

الإلهام وما يناسبه وما أعطوا هذه الدرجة حقها وأما المعتزلة فهم خير منهم فإنهم يقرون بما أخبر به القرآن من أصناف الملائكة وأوصافهم لكنهم مع هذا لا يقرون بأن لله كلاما قائما به فحقيقة مذهبهم أن الله سبحانه لا يتكلم إنما يخلق كلامه في غيره ولما ابتدعت الجهمية هذه المقالة كانوا يقولون إن الله تعالى لا يتكلم أو يتكلم مجازا
لكن المعتزلة امتنعت من هذا الإطلاق وقالوا إنه متكلم أو يتكلم حقيقة لكنهم فسروا ذلك بأن خلق كلاما في غيره فلم ينازعوا قدماء الجهمية في حقيقة المذهب وإنما نازعوهم في اللفظ
والسلف والأئمة لما عرفوا حقيقة مذهبهم عرفوا أن هذا كفر وأن هذا في الحقيقة تعطيل للرسالة وأنه يمتنع أن يكون متكلم بكلام لا يقوم به بل بغيره كما يمتنع أن يكون عالما بعلم لا يقوم به بل بغيره وأن يكون قادرا بقدرة لا تقوم به بل بغيره وإنه لو كان كذلك لكان ما يخلقه من الكلام في مخلوقاته كلاما له
وقد قال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وقال عز و جل اليوم نختم أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون بل لما ثبت أن الله خالق كل شيء فيجب أن يكون على قولهم كل كلام في الوجود كلامه وقد أفصح بذلك الاتحادية الذين يقولون الوجود واحد كابن عربي صاحب الفصوص ونحوه وقالوا ... وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه ...
ومذهبهم منتهى مذهب الجهمية وهو في الحقيقة تعطيل الخالق والقول بأن هذا الوجود هو الوجود الواجب كما ذكر ذلك أبو حامد عن دهرية الفلاسفة فإن قول هؤلاء هو قول أولئك وهو قول فرعون الذي أظهره لكن فرعون وغيره من الدهرية لا يقولون هذا الوجود هو الله وهؤلاء بجهلهم يقولون إن الوجود هو الله وقد أضلوا طوائف من الشيوخ الذين لهم عبادة

وزهادة حتى أنه كان ببيت المقدس رجل من أعبد الناس وأزهدهم وكان طوال ليله يقول الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله وهؤلاء سلكوا في كثير من أصولهم ما ذكره أبو حامد وبنوا على ما في كتابه المضنون به وغيره من أصول الفلاسفة المكسوة عبادة الصوفية فالأمور التي أنكرها عليه علماء المسلمين ما عليها هؤلاء حتى جعل ابن سبعين الناس خمس طبقات أدناها الفقيه ثم المتكلم الأشعري ثم الفيلسوف ثم الصوفي ثم الخامس هو المحقق وهؤلاء يجعلون ما أشار إليه أبو حامد من الكشف هو ما حصل لهم وإنه لتعبده بالشريعة لم يصل إلى القول بوحدة الوجود وهم ينتقصونه بما يحمده عليه المسلمون من الأقوال التي اعتصم فيها بالكتاب والسنة وبالأقوال التي يعلم صحتها بصريح العقل ويرون أن ذلك هو الذي حجبه عن أن يشهد حقيتهم التي هي وحدة الوجود وإنما طمعوا فيه هذا الطمع لما وجدوه في الكلام المضاف إليه مما يوافق أصول الجهمية المتفلسفة ونحوهم
والمقصود هنا أن المعتزلة خير من المتفلسفة حيث يثبتون لله كلاما منفصلا ويقولون أن الرسالة والنبوة تتضمن نزول كلام الله تعالى منفصل عن النبي ص - ينزل عليه كما يقول ذلك سائر المسلمين ثم قد يقول من يقول من المعتزلة أن النبوة جزاء على عمل متقدم وإن النبي لما قام بواجبات عقلية أكرمه الله تعالى عليها بالنبوة مع كون النبي متميزا بصفات خصه الله تعالى بها وهذا القول موافق في الجملة قول أكثر الناس وهو أن النبوة والرسالة تتضمن كلام الله سبحانه الذي ينزل على رسوله ونبيه وإنه مع ذلك مختص بصفات اختصه الله تعالى بها دون غيره من الأنبياء وأنه لا يكون النبي والرسول كسائر الناس في العقل والخلق وغير ذلك بل هو متميز عن الناس بذلك والنبوة فضل الله يؤتيه من يشاء لكن مع ذلك الله أعلم حيث يجعل رسالته
وما ذكره أبو حامد فيه من تقرير النبوة في الجملة على الأصول التي يسلمها المتفلسفة ويعرفونها ما ينتفع به من كان متفلسفا محضا فإن ذلك يوجب

أن يدخل في الإسلام نوع دخول وكلام أبي حامد في هذا ونحوه يصلح أن يكون برزخا بين المتفلسفة وبين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى فالمتفلسفة تنتفع به حيث يصير عندهم من الإيمان والعلم مالا يحصل لهم بمجرد الفلسفة
وأما من كان مسلما يريد أن يستكمل العلم والإيمان فإن ذلك يضره من وجه ويرده عن كثير من كمال الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وإن كان ينفعه من حيث يحول بينه وبين الفلسفة المحضة إلا أن يكون حسن الظن بالفلسفة دون أصول الإسلام فإنه يخرجه إلى الإلحاد المحض كما أصاب ابن عربي الطائي وابن سبعين وأمثالهما وقد أخبر هو بما حصل له من السفسطة وإنه انحصرت فرق الطالبين عنده في أربع فرق المتكلمين والباطنية والفلاسفة والصوفية
ومعلوم أن هذه الفرق كلها حادثة بعد عصر الصحابة بل وبعد عصر التابعين بل إنما ظهرت وانتشرت بعد القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم ثم الفلاسفة والباطنية هم كفار كفرهم ظاهر عند المسلمين كما ذكر هو وغيره وكفرهم ظاهر عند أقل من له علم وإيمان من المسلمين إذا عرفوا حقيقة قولهم لكن لا يعرف كفرهم من لم يعرف حقيقة قولهم وقد يكون قد تشبث ببعض أقوالهم من لم يعلم أنه كفر فيكون معذورا لجهلة ولكن في المتكلمين والصوفية ممن له علم وإيمان طوائف كثيرون بل في من بعد من الصوفية مثل الفضيل بن عياض وابي سليمان الداراني وإبراهيم بن أدهم ومعروف الكرخي وأمثالهم ممن هو خيار المسلمين وساداتهم عند المسلمين وفي عصرهم حدث اسم الصوفية وظهر الكلام أيضا
وكلام السلف والأئمة في ذم البدع الكلامية في العلم والبدع المحدثة في طريقة الزهد والعبادة مشهور كثير مستفيض ولم يتنازع أهل العلم والإيمان فيما استعاض عن النبي ص - من قوله خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين

يلونهم وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة
وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة ولا تجد إماما في العلم والدين كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوايه ومثل الفضيل وأبي سليمان ومعروف الكرخي وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقهم المتبعون لها وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر
فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهم أبو حامد وذلك لأن هؤلاء لا يعرف طريقهم إلا من كان خبيرا بمعاني القرآن خبيرا بسنة رسول الله ص - خبيرا بآثار الصحابة فقيها في ذلك عاملا بذلك وهؤلاء هم أفضل الخلق من المنتسبين إلى العلم والعبادة وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء ولا تلقى عن هذه الطبقة ولا كان خبيرا بطريقة الصحابة والتابعين بل كان يقول عن نفسه أنا مزجى البضاعة في الحديث ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة والحكايات الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار ولكن نفعه الله تعالى بما وجده في كتب الصوفية والفقهاء من ذلك وبما وجد في كتب أبي طالب ورسالة القشيري وغير ذلك وبما وجده في كتب أصحاب الشافعي ونحو ذلك فخيار ما يأتي به ما يأخذ من هؤلاء وهؤلاء
ومعلوم أن طريقة أئمة الصوفية وأئمة الفقهاء أكمل من طريقة أبي القاسم القشيري ومن طريقة أبي طالب والحارث ومن طريقة أبي المعالي وأمثاله وأولئك الأئمة كانوا أعلم بطريقة الصحابة وأتبع لها من أتباعهم فالقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثاله أعلم بالأصول والسنة وأتبع لها من أبي المعالي وأمثاله

والأشعري والقلانسي ونحوهما أعلى طبقة في ذلك من القاضي أبي بكر وعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي أعلى طبقة في ذلك من هؤلاء ومالك والأوزاعي وحماد بن زيد والليث بن سعد وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء والتابوعو أعلى من هؤلاء والصحابة أعلى من التابعين
وكذلك أبو طالب المكي يأخذ عن شيخه ابن سالم وابن سالم يأخذ عن سهل بن عبد الله التستري وسهل أعلى درجة عند الناس من أبي طالب ثم الفضل وأبو سليمان وأمثالهما أعلى درجة من سهل وأمثاله وأيوب السختياني وعبد الله بن عون ويونس بن عبيد وغيرهم من أصحاب الحسن أعلى طبقة من هؤلاء وأويس القرني وعامر بن عبد قيس وأبو مسلم الخولاني وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وامثالهم أعلى طبقة من هؤلاء
ومعلوم إن كل من سلك إلى الله جل وعز علما وعملا بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها فلابد أن يقع في بدعة قولية أو عملية فإن السائر إذا سار على غير الطريق المهيع فلابد أن يسلك بينات الطريق وإن كان ما ما يفعله الرجل من ذلك قد يكون مجتهدا فيه مخطئا مغفورا له خطؤه وقد يكون ذنبا وقد فسقا وقد يكون كفرا بخلاف الطريقة المشروعة في العلم والعمل فإنها أقوم الطرق ليس فيها عوج كما قال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هى أقوم وقال عبد الله بن مسعود خط رسول الله ص - خطا وخط خطوطا عن يمينه ومشماله ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال الزهري كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة ولهذا قيل مثل السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهو يروي عن مالك ومن سلك الطريق الشرعية النبوية لم يحتج في إثباتها إلى أن يشك في إيمانه الذي

كان عليه قبل البلوغ ثم يحدث نظرا يعلم به وجود الصانع ولم يحتج إلى أن يبقى شاكا مرتابا في كل شيء وإنما كان مثل هذا يعرض لمثل الجهم بن صفوان وأمثاله فإنهم ذكروا أنه بقي أربعين يوما لا يصلي حتى يثبت إنه له ربا يعبده فهذه الحالة كثيرا ما تعرض للجهيمة وأهل الكلام الذين ذمهم السلف والائمة وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه فإن هذا لا بد منه كما ثبت في الصحيح إن الصحابة قالوا يا رسول الله أن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به فقال أفقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان وفي السنن من وجه آخر أنهم قالوا إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة قال غير واحد من العلماء معناه أن ما تجدونه في قلوبكم من كراهة الوساوس والنفرة عنه وبغضه ودفعه هو صريح الإيمان
وهذا من الزبد الذي قال الله تعالى فيه فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال وهذا مذكور في غير هذا الوضع وكلام السلف والأئمة فيما أحدث من الكلام وما أحدث من الزهد مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعرف مراتب الناس في العلم بالنبوة ومعرفة قدرها وتعدد الطرق في ذلك وإن عامة الطرق التي سلكها الناس في ذلك هي طرق مفيدة نافعة لكن تختلف مقادير فوائدها ومنافعها وفيها ما يضر من وجه كما ينفع من وجه وفيها ما ينتفع به من كان عديم الإيمان أو ضعيف الإيمان فيحصل به له بعض الإيمان أو يقوي إيمانه وإن كان ذلك يضر من كان قوي الإيمان ويكون رجوعه إليه ردة في حقه بمنزلة من كان معتصما بحبل قوي وعروة وثقى لا انقصام لها فاعتاض عن ذلك بحبل ضعيف يكاد ينقطع به وهذا باب يطول وصف حال الناس فيه

وأما ما ذكره أبو حامد من أن هذه الطريقة التي سلكها تفيد العلم الضروري بالنبوة دون طريقة المعجزات فالإنسان خبير بما حصل له من العلم الضروري وغيره وليس هو خبير بما حصل لغيره من ذلك وكثير من أهل النظر والكلام يقولون نقيض هذا يقولون لا يحصل العلم بالنبوة إلا بطريقة المعجزات دون غيرها كما قال ذلك أكثر أهل الكلام ومن اتبعهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والمازري وأمثال هؤلاء والتحقيق ما عليه أكثر الناس أن العلم بالنبوة يحصل بطرق متعددة المعجزات وغير المعجزات ويحصل له العلم الضروري بها كما ذكره أبو حامد بل يحصل له العلم الضروري بالنبوة على الجمل كما ذكره وعامة من حصر العلم بهذا أو غيره في طريق معينة وزعم أنه لا يحصل بغيرها فإنه يكون مخطئا وهذا كثير ما سلكه كثير من أهل الكلام في إثبات العلم بالصانع أو إثبات حدوث العالم أو إثبات التوحيد أو العلم بالنبوة أو غير ذلك يسلك أحدهم طريقا يزعم أنه لا يحصل العلم إلا به وقد يكون طريقا فاسدا وربما قدح خصوصه في طريقه الصحيحة وادعوا أنها فاسدة
وكثيرا ما يكون سبب العلم الحاصل في القلب غير الحجة الجدلية التي يناظر بها غيره فإن الإنسان يحصل له العلم بكثير من المعلومات بطريق وأسباب قد لا يستحضرها ولا يحصيها ولو استحضرها لا توافقه عبارته على بيانها ومع هذا فإذا طلب منه بيان الدليل الدال على ذلك قد لا يعلم دليلا يدل به غيره إذا لم يكن ذلك الغير شاركه في سبب العلم وقد لا يمكنه التعبير عن الدليل إن تصوره فالدليل الذي يعلم به المناظر شيء والحجة التي يحتج بها المناظر شيء آخر وكثيرا ما يتفقان كما يفترقان
وليس هذا موضع بسط ذلك وإنما المقصود التنبيه على تعدد طرق العلم بالنبوة وغيرها وكلام الناس في هذا الباب ونحوه على درجات متفاوتة فيحمد كلام الرجل بالنسبة إلى من دونه وإن كان مذموما بالنسبة إلى من فوقه

إذ الإيمان يتفاضل وكل له من الإيمان بقدر ما حصل له منه
ولهذا كان أبو حامد مع ما يوجد في كلامه من الرد على الفلاسفة وتكفيره لهم وتعظيم النبوة وغير ذلك ومع ما يوجد فيه أشياء صحيحة حسنة بل عظيمة القدر نافعة يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت إليه توافق أصول الفلاسفة الفاسدة المخالفة للنبوة بل المخالفة لصريح العقل حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب كرفيقه أبي إسحاق المرغيناني وأبي الوفاء بن عقيل والقشيري والطرطوشي وابن رشد والمازري وجماعات من الأولين حتى ذكر ذلك الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فيما جمعه من طبقات أصحاب الشافعي وقرره الشيخ أبو زكريا النووي قال في هذا الكتاب فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته ولم يرتضيها أهل مذهبه وغيرهم من الشذوذ في تصرفاته منها قوله في مقدمة المنطق في أول المستصفي
هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط فلا ثقة له بعلومه أصلا قال الشيخ أبو عمرو وسمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد وكان من النظار المعروفين إنه كان ينكر هذا الكلام ويقول فأبو بكر وعمر وفلان وفلان يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها قال الشيخ أبو عمرو قد ذكرت بهذا ما حكى صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة يعني أبا حيان التوحيدي أن الوزير ابن الفرات احتفل مجلسه ببغداد بأصناف من الفضلاء من المتكلمين وغيرهم وفي المجلس متى الفيسلوف النصراني فقال الوزير أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متي في قوله إنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق واستفدناه من واضعه على مراتبه فانتدب له أبو سعيد السيرافي وكان فاضلا في علوم غير النجوم وكلمه في ذلك حتى أفحمه وفضحه قال أبو محمد وليس هذا موضع التطويل بذكره

قال الشيخ أبو عمرو وغير خائف استغناء العقلاء والعلماء قبل واضع المنطق أرسطاطاليس وبعده مع معارفهم الجمة عن تعلم المنطق وإنما المنطق عندهم بزعمهم آلة قانونية صناعية تعصم الذهن من الخطأ وكل ذي ذهن صحيح منطقي بالطبع قال فكيف غفل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين ومن قبله من كل إمام هو له مقدم ولمحله في تحقيق الحقائق رافع ومعظم ثم لم يرفع أحد منهم بالمنطق رأسا ولا بنى عليه في شيء من تصرفاته أسا
ولقد أتى بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعة عظم شؤمها على المتفقهة حتى كثر فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان قال ولأبي عبد الله المازري الفقيه المتكلم الأصولي وكان إماما محققا بارعا في مذهبي مالك والأشعري وله تصانيف في فنون منها شرح الأرشاد والبرهان لإمام الحرمين رسالة يذكر فيها حال الغزالي وحال كتابه الإحياء أصدرها في حال حيدة الغزالي جوابا لما كوتب به من الغرب والشرق في سؤاله عن ذلك عند اختلافهم في ذلك فذكر فيها ما اختصاره أن الغزالي كان قد خاض في علوم وصنف فيها واشتهر بالإمامة في إقليمه حتى تضاءل له المنازعون واستبحر في الفقه وفي وأصول الفقه وهو بالفقه أعرف
وأما أصول الدين فليس بالمستبحر فيها شغله عن ذلك قراءته علوم الفلسفة وأكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني وتسهيلا للهجوم على الحقائق لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها وليس لها شرع يزعها ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها فلذلك خامره ضرب من الأدلال على المعاني فاسترسل فيها استرسال من لا يبالي بغيره قال وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على قراءة رسائل إخوان الصفا وهذه الرسائل هي إحدى وخمسون كل رسالة مستقلة بنفسها وقد ظن في مؤلفها ظنون وفي الجملة هو يعني واضع الرسائل رجل فيسلوف قد خاض في علوم الشرع فمزج ما بين العلمين وحسن الفلسفة في قلوب أهل الشرع بآيات وأحاديث يذكرها عندها

ثم أنه كان في هذا الزمان المتأخر فيلسوف يعرف بأبن سينا ملأ الدنيا تأليف في علوم الفلسفة وكان ينتمي إلى الشرع ويتحلى بحلية المسلمين وأدته قوته في علم الفلسفة إلى أن تلطف جهده في رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة وتم له من ذلك ما لم يتم لغيره من الفلاسفة قال ووجدت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه في علوم الفلسفة حتى إنه في بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير وأحيانا يغيره وينقله إلى الشرعيات أكثر مما نقل ابن سينا لكونه أعلم بأسرار الشرع منه فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عول الغزالي في علم الفلسفة قال وأما مذهب المتصوفة فلست أدري على من عول فيها ولا من ينتسب إليه في علمها قال وعندي إنه على أبي حيان التوحيدي الصوفي عول على مذاهب الصوفية
وقد علمت أن أبا حيان هذا ألف ديوانا عظيما في هذا الفن ولم يصل إلينا منه شيء ثم ذكر أن في الإحياء فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له مثل ما استحسن في قص الأظافر أن يبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة ثم بالوسطى لأنها ناحية اليمين ثم باليسرى على هيئة دائرة وكأن الأصابع عنده دائرة فإذا أدار أصابعه مر عليها مرور الدائرة ثم يختم بإبهام اليمنى هكذا حدثني به من أثق به عن الكتاب قال فانظر إلى هذا كيف أفاد قراء الهندسة وعلم الدوائر وأحكامها أن نقله إلى الشرع فأفتى به المسلمين قال وحمل إلى بعض الأصحاب من هذا الإملاء الجزء الأول فوجدته يذكر فيه إن من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلما إجماعا ومن تساهل في حكاية الإجماع في مثله هذا الذي الأقرب أن يكون فيه الإجماع بعكس ما قال فحقيق أن لا يوثق بكل ما ينقل وإن يظن به التساهل في رواية ما لم يثبت عنده صحته قال ثم تكلم المازري في محاسن الإحياء ومذامه ومنافعه ومضاره بكلام طويل ختمه بأن من لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من وغوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز له وإن كان فيه ما ينتفع به

ومن كان عنده من العلم ما يأمن به على نفسه من غوائل هذا الكتاب ويعلم ما فيه من الرموز فيجتنب مقتضى ظواهرها ويكل أمر مؤلفها إلى الله تعالى وإن كان كلها تقبل التأويل فقراءته له سائغة به اللهم إلا أن يكون قارؤه ممن يقتدي به ويغتر به فإنه ينهى عن قراءته وعن مدحه والثناء عليه قال ولولا أن علمنا أن إملاءنا هذا إنما يقرؤه الخاصة ومن عنده علم يأمن به على نفسه لم نتبع محاسن هذا الكتاب بالثناء ولم نتعرض لذكرها ولكنا نحن أمنا من التغرير ولئلا يظن أيضا من يتعصب للرجل إنا جانبنا الإنصاف في الكلام على كتابه ويكون اعتقاده هذا فينا سببا لئلا يقبل نصيحتنا قال الشيخ أبو عمرو وهذا آخر ما نقلناه عن المازري قلت ما ذكره المازري في مادة أبي حامد من الصوفية فهو كما قال المازري عن نفسه لم يدر على من عول فيها ولم يكن للمازري من الاعتناء بكتب الصوفية وأخبارهم ومذاهبهم ماله من الاعتناء بطريقة الكلام وما يتبعه من الفلسفة ونحوها
فلذلك لم يعرف ذلك ولم تكن مادة أبي حامد من كلام أبي حيان التوحيدي وحده بل ولا غالب كلامه منه فإن أبا حيان تغلب عليه الخطابة والفصاحة وهو مركب من فنون أدبية وفلسفية وكلامية وغير ذلك وإن كان قد شهد عليه بالزندقة غير واحد وقرنوه بابن الراوندي كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره وإنما كان غالب استمداد أبي حامد من كتاب أبي طالب المكي الذي سماه قوت القلوب ومن كتب الحارث المحاسبي وغيرها ومن رسالة القشيري ومن منثورات وصلت إليه من كلام المشايخ وما نقله في الإحياء عن الأئمة في ذم الكلام فإنه من كتاب أبي عمر ابن عبد البر في فضل العلم وأهله وما نقله من الأدعية والأذكار ونقله من كتاب الذكر لابن خزيمة ولهذا كانت أحاديث هذا الباب جيدة وقد جالس من اتفق له من مشايخ الطرق لكنه يأخذ من كلام الصوفية في الغالب ما يتعلق بالأعمال والأخلاق والزهد والرياضة والعبادة وهي التي يسميها علوم المعاملة

وأما التي يسميها علوم المكاشفة ويرمز إليها في الإحياء وغيره ففيها يستمد من كلام المتفلسفة وغيرهم كما في مشكاة الانوار والمضنون به على غير أهله وغير ذلك وبسبب خلطه التصوف بالفلسفة كما خلط الأصول بالفلسفة صار ينسب إلى التصوف من ليس هو موافقا للمشائخ المقبولين الذين لهم في الأمة لسان صدق رضي الله تعالى عنهم بل يكون مباينا لهم في أصول الإيمان كالإيمان بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر ويجعلون هذه مذاهب الصوفية كما يذكر ذلك ابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأبو الوليد ابن رشد الحفيد وصاحب خلع العلم وابن العربي صاحب الفتوحات وفصوص الحكم وابن سبعين وأمثال هؤلاء ممن يتظاهر بمذاهب مشايخ الصوفية وأهل الطريق وهو في التحقيق منافق زنديق ينتهي إلى القول بالحلول والاتحاد واتباع القرامطة أهل الإلحاد ومذهب الإباحية الدافعين للأمر والنهي والوعد والوعيد ملاحظين لحقيقة القدر التي لا يفرق فيها بين الأنبياء والمرسلين وبين كل جبار عنيد وقائلين مع ذلك بنوع من الحقائق البدعية غير عارفين بالحقائق الدينية الشرعية ولا سالكين مسلك أولياء الله الذين هم بعد الأنبياء خير البرية فهم في نهاية تحققيهم يسقطون الأمر والنهي والطاعة والعبادة مشاقين للرسول متبعين غير سبيل المؤمنين ويفارقون سبيل أولياء الله المتقين إلى سبيل أولياء الشياطين ثم يقولون بالحلول والاتحاد وهو غاية الكفر ونهاية الإلحاد ولهذا في كلام العارفين كأبي القاسم الجنيد وأمثاله من بيان أن التوحيد هو إفراد الحدوث عن القدم ونحو ذلك ومن بيان وجوب اتباع الأمر والنهي ولزوم العبادة إلى الموت ما يبين به أن أولئك السادة المهتدين حذروا من طريق هؤلاء الملحدين ولهذا نجد هؤلاء كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما يردون على مثل الجنيد وأمثاله من أئمة المشايخ ويدعون أنهم ظفروا في التحقيق بنهاية الرسوخ وإنما ظفروا بتحقيق الإلحاد والدخول في الحلول والاتحاد وما زال شيوخ الصوفية المؤمنون يحذرون من مثل هؤلاء الملبسين كما حذر أئمة الفقهاء

من سبيل أهل البدعة والنفاق من أهل الفلسفة والكلام ونحوهم حتى ذكر ذلك أبو نعيم الحافظ في أول حلية الأولياء وأبو القاسم القشيري في رسالته دع من هو أجل منهما وأعلم منهما بطريق الصوفية وأقل غلطا وأبعد عن الاعتماد على المنقولات الضعيفة والمنقولات المبتدعة قال أبو نعيم في أول الحلية
أما بعد أحسن الله تعالى توفيقك فقد استعنت بالله عز و جل وأجبتك إلى ما أبغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة وبعض أحاديثهم وكلامهم من أعلام المحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق وباشر الأحوال والطرائق وساكن الرياض والحدائق وفارق العوارض والعلائق وتبرأ من المنقطعين والمتعمقين ومن أهل الدعاوى من المسوفين ومن الكسالى والمثبطين المتشبهين بهم في اللباس والمقال والمخالفين لهم في العقيدة وانفعال وذلك لما بلغك من بسط ألسنتنا وألسنة أهل الفقه والأثر في كل الأقطار والأمصار في المنتسبين إليهم من الفسقة الفجار والمباحية والحلولية الكفار وليس ما حل بالكذبة من الوقيعة والإنكار بقادح في منقبة البررة الأخيار وواضع من درجة الصفوة الأطهار بل في إظهار البراءة من الكذابين والنكير على الحشوية البطالين نزاهة الصادقين ورفعة المحققين
ولم لم ينكشف عن مخازي المبطلين ومساويهم ديانة للزمنا إبانتها وإشاعتها حمية وصيانة إذ لأسلافنا في التصوف العلم المنشور والصيت والذكر المشهور فقد كان جدي محمد بن يوسف رحمه الله تعالى أحد من يسر الله تعالى به ذكر بعض المنقطعين إليه وكيف يستجيز نقيصة أولياء الله تعالى ومؤذيهم مؤذن بمحاربة ربه ثم أسند حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي ص - أنه قال إن الله تعالى قال من آذى لي وليا وفي الرواية الأخرى من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه

فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه
قلت قد ذم أهل العلم والإيمان من أئمة العلم والدين من جميع الطوائف من خرج عما جاء به الرسول ص - في الأقوال والأعمال باطنا أو ظاهرا ومدحهم هو لمن وافق ما جاء به الرسول ص - ومن كان موافقا من وجه ومخالفا من وجه كالعاصي الذي يعلم أنه عاص فهو ممدوح من جهة موافقته مذموم من جهة مخالفته
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن سلك سبيلهم في مسائل الأسماء والأحكام والخلاف فيها أول خلاف حدث في مسائل الأصول حيث كفرت الخوارج بالذنب وجعلوا صاحب الكبيرة كافرا مخلدا في النار ووافقتهم المعتزلة على زوال جميع أيمانه وإسلامه وعلى خلوده في النار لكن نازعوهم في الاسم فلم يسموه كافرا بل قالوا هو فاسق لا مؤمن ولا مسلم ولا كافر ننزله منزلة بين المنزلتين فهم وإن كانوا في الاسم إلى السنة أقرب فيهم في الحكم في الآخرة مع الخوارج
وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقا للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها وقالوا الإيمان هو الطاعة فيزول بزوال بعض الطاعة ثم تنازعوا هل يخلفه الكفر على القولين ووافقتهم المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله ويزول شيء منه وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين لكن فقهاء المرجئة قالوا إنه الاعتقاد والقول وقالوا إنه لا بد من أن يدخل النار ومن فساق الملة من شاء الله تعالى كما قالت الجماعة فكان خلاف كثير من كلامهم للجماعة إنما هو في الاسم لا في

الحكم وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينا الفرق بين دلالة الاسم مفردا ودلالته مقرونا بغيره كاسم الفقير والمسكين فإنه إذا أفرد أحدهما يتناول معنى الآخر كقوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله فإنه يدخل فيهم المساكين وقوله تعالى إطعام عشرة مساكين فإن يدخل فيهم الفقراء وأما إذا قرن بينهما كقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين فهما صنفان وكذلك قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يدخل في المعروف كل واجب وفي المنكر كل قبيح والقبائح هي السيئات وهي المحظورات كالشرك والكذب والظلم والفواحش
فإذا قال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فخص بعض أنواع المنكر بالذكر وعطف أحدهما على الآخر صارت دلالة اللفظ عليه نصا مقصودا بطريق المطابقة بعد أن كانت بطريق العموم والتضمن سواء قيل إنه داخل في اللفظ العام أيضا فيكون مذكورا مرتين أو قيل إنه باقترانه بالاسم العام تبين أنه لم يدخل في الاسم العام لتغيير الدلالة بالأفراد والتجرد والافتراق والاجتماع كما قدمنا وهكذا اسم الإيمان فإنه تارة يذكر مفردا مجردا لا يقرن بالعمل الواجب فيدخل فيه العمل الواجب تضمنا ولزوما وتارة يقرن بالعمل فيكون العمل حينئذ مذكورا بالمطابقة والنص ولفظ الإيمان يكون مسلوب الدلالة عليه حال الاقتران أو دالا عليه كما في قوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة وقوله سبحانه لموسى عليه السلام إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري وقوله تعالى اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة ونظائر ذلك كثيرة فالأعمال داخلة في الإيمان تضمنا ولزوما في مثل قول تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا

وفي مثل قوله سبحانه إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقوله عز و جل إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه
وأمثال ذلك من الكتاب والسنة ومن استقرأ ذلك علم أن الاسم الشرعي كالإيمان والصلاة والوضوء والصيام لا ينفيه الشارع عن شيء إلا لانتفاء ما هو واجب فيه لا لانتفاء ما هو مستحب فيه وأما قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ونحو ذلك فالعمل مخصوص بالذكر إما توكيد وإما لأن الاقتران لا يغير دلالة الاسم فهذا موقف يزول فيه كثير من النزاع اللفظي في ذلك وأيضا فإن الإيمان يتنوع بتنوع ما أمر الله تعالى به العبد فحين بعث الرسول لم يكن الإيمان الواجب ولا الإقرار ولا العمل مثل الإيمان الواجب في آخر الدعوة فإنه لم يكن يجب إذ ذاك الإقرار بما أنزله الله تعالى بعد ذلك من الإيجاب والتحريم والخبر ولا العمل بموجب ذلك بل كان الإيمان الذي أوجبه الله تعالى يزيد شيئا فشيئا كما كان القرآن ينزل شيئا فشيئا والدين يظهر شيئا فشيئا حتى أنزل الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
وكذلك العبد أول ما يبلغه خطاب الرسول عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام إنما يجب عليه الشهادتان فإذا مات قبل أن يدخل عليه وقت صلاة لم يجب عليه غير الإقرار ومات مؤمنا كامل الإيمان الذي وجب عليه وإن كان إيمان غيره الذي دخلت عليه الأوقات أكمل منه فهذا إيمانه ناقص كنقص دين النساء حيث قال النبي ص - إنكن ناقصات عقل ودين أما نقصان عقلكن فشهادة امرأتين بشهادة رجل واحد وأما نقصان دينكن فإن إحداكن إذا حاضت لم تصل ومعلوم أن الصلاة حينئذ ليست واجبة عليها وهذا نقص لا تلام عليه المرأة لكن من جعل كاملا كان أفضل منها بخلاف من نقص شيئا

مما وجب عليه فصار النقص في الدين والإيمان نوعين نوعا لا يذم العبد عليه لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حسا أو شرعا وإما لكونه مستحبا ليس بواجب ونوعا يذم عليه وهو ترك الواجبات
فقول النبي ص - لجارية معاوية بن الحكم السلمي لما قال لها أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة ليس فيه حجة على أن من وجبت عليه العبادات فتركها وارتكب المحظورات يستحق الاسم المطلق كما استحقته هذه التي لم يظهر منها بعد ترك مأمور ولا فعل محظور ومن عرف هذا تبين أن قول النبي ص - لهذه إنها مؤمنة لا ينافي قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فإن ذلك نفى عنه الاسم لانتفاء بعض ما يجب عليه من ترك هذه الكبائر وتلك لم تترك واجبا تستحق بتركه أن تكون هكذا ويتبع هذا أن من آمن بما جاء به الرسل مجملا ثم بلغه مفصلا فأقر به مفصلا وعمل به كان قد زاد ما عنده من الدين والإيمان بحسب ذلك
ومن أذنب ثم تاب أو غفل ثم ذكر أو فرط ثم أقبل فإنه يزيد دينه وإيمانه بحسب ذلك كما قال من قال من الصحابة كعمير بن حبيب الخطمي وغيره الإيمان يزيد وينقص قيل له فما زيادته ونقصانه قال إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فذلك زيادة وإذا غفلنا ونسينا وأضعنا فذلك نقصانه فذكر زيادته بالطاعات وإن كانت مستحبة ونقصانه بما أضاعه من واجب وغيره وأيضا فإن تصديق القلب يتبعه عمل القلب فالقلب إذا صدق بما يستحقه الله تعالى من الألوهية وما يستحق الرسول من الرسالة تبع ذلك لا محالة محبة الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة و السلام وتعظيم الله عز و جل ورسوله والطاعة لله ورسوله أمر لازم لهذا التصديق لا يفارقه إلا لعارض من كبر أو حسد أو نحو ذلك من الأمور التي توجب الاستكبار عن عبادة الله تعالى والبغض لرسوله عليه الصلاة و السلام ونحو ذلك من الأمور التي توجب الكفر ككفر إبليس وفرعون وقومه

واليهود وكفار مكة وغير هؤلاء من المعاندين الجاحدين
ثم هؤلاء إذا لم يتبعوا التصديق بموجبه من عمل القلب واللسان وغير ذلك فإنه قد يطبع على قلوبهم حتى يزول عنها التصديق كما قال تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فما زاغوا أزاغ الله قلوبهم فهؤلاء كانوا عالمين فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب إلى قوله سبحانه كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية لؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم انها جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
فبين سبحانه أن مجيء الآيات لا يوجب الإيمان بقوله تعالى وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم أي فتكون هذه الأمور الثلاثة أن لا يؤمنوا وأن نقلب أفئدتهم وأبصارهم وأن نذرهم في طغيانهم يعمهون أي وما يدريكم أن الآيات إذا جاءت تحصل هذه الأمور الثلاثة وبهذا المعنى تبين أن قراءة الفتح أحسن
وإن من قال أن المفتوحة بمعنى لعل فظن أن قوله ونقلب أفئدتهم كلام مبتدأ لم يفهم معنى الآية وإذا جعل ونقلب أفئدتهم داخلا في خبر أن تبين معنى الآية فإن كثيرا من الناس يؤمنون ولا تقلب قلوبهم لكن قد يحصل تقليب أفئدتهم وأبصارهم وقد لا يحصل أي فما يدريكم إنهم لا يؤمنون والمراد وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون بل نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة والمعنى وما يدريكم أن الأمر بخلاف ما تظنونه من إيمانهم عند مجي الآيات ونذرهم في طغيانهم يعمهون فيعاقبون على ترك

الإيمان أول مرة بعد وجوبه عليهم إما لكونهم عرفوا الحق وما أقروا به أو تمكنوا من معرفته فلم يبطلوا معرفته ومثل هذا كثير
والمقصود هنا أن ترك ما يجب من العمل بالعلم الذي هو مقتضى التصديق والعلم قد يفضي إلى سلب التصديق والعلم كما قيل العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وكما قيل كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به فما في القلب من التصديق بما جاء به الرسول إذا لم يتبعه موجبه ومقتضاه من العمل قد يزول إذ وجود العلة يقتضي وجود المعلول وعدم المعلول يقتضي عدم العلة فكما أن العلم والتصديق سبب للإرادة والعمل فعدم الإرادة والعمل سبب لعدم العلم والتصديق ثم إن كانت العلة تامة فعدم المعلول دليل يقتضي عدمها وإن كانت سببا قد يتخلف معلولها كان له بخلفه أمارة على عدم المعلول قد يتخلف مدلولها وأيضا فالتصديق الجازم في القلب يتبعه موجبه بحسب الإمكان كالإرادة الجازمة في القلب فكما أن الإرادة الجازمة في القلب إذا اقترنت بها القدرة حصل بها المراد أو المقدور من المراد لا محالة كانت القدرة حاصلة ولم يقع الفعل كان الحاصل هي لا إرادة جازمة وهذا هو الذي عفي عنه
فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب تبعه عمل من عمل القلب لا محالة لا يتصور أن ينفك عنه بل يتبعه الممكن من عمل الخوارج فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب علم أنه ليس بتصديق جازم فلا يكون إيمانا لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه لعارض من الأهواء كالكبر والحسد ونحو ذلك من أهواء النفس لكن الأصل أن التصديق يتبعه الحب وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له ولهذا قال الصحابة كل من يعصي الله فهو جاهل وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا ولهذا كان التكلم بالكفر من غير إكراه كفرا في نفس الأمر عند الجماعة وأئمة الفقهاء حتى المرجئة خلافا للجهمية ومن اتبعهم ومن هذا الباب سب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وبغضه وسب القرآن وبغضه وكذلك سب

الله سبحانه وبغضه ونحو ذلك مما ليس من باب التصديق والحب والتعظيم والموالاة بل من باب التكذيب والبغض والمعاداة والاستخفاف
ولما كان إيمان القلب له موجبات في الظاهر كان الظاهر دليلا على إيمان القلب ثبوتا وانتفاء كقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وقوله جل وعز ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء وأمثال ذلك
وبعد هذا فنزاع المنازع في أن الإيمان في اللغة هل هو اسم لمجرد التصديق دون مقتضاه أو اسم للأمرين يؤول إلى نزاع لفظي وقد يقال أن الدلالة تختلف بالأفراد والاقتران والناس منهم من يقول أن أصل الإيمان في اللغة التصديق
ثم يقول والتصديق يكون باللسان ويكون بالجوارح والقول يسمى تصديقا والعمل يسمى تصديقا كقول النبي ص - العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصد ذلك أو يكذبه
وقال الحسن البصري ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل ومنهم من يقول بل الإيمان هو الإقرار وليس هو مرادفا للتصديق فإن التصديق يقال على كل خبر عن شهادة أو غيب وأما الإيمان فهو أخص منه فإنه قد قيل لخبر إخوة يوسف وما أنت بمؤمن لنا وقيل يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين إذ الإيمان بالنبي عليه الصلاة و السلام تصديق به والإيمان له تصديق له في ذلك الخبر وهذا في المخبر ويقال لمن قال الواحد نصف الاثنين والسماء فوق الأرض قد صدقت ولا يقال آمنت له ويقال أصدق بهذا ولا يقال أؤمن به إذ لفظ الإيمان أفعال من إلا من فهو يقتضي طمأنينة وسكونا فيما من شأنه أن يستريب فيه القلب فيخفق ويضطرب وهذا إنما يكون في الأخبار بالمغيبات لا بالمشاهدات
والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود أن فقهاء

المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير وبعضه لفظي ولم يعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة وأما قول الجهمية وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب دون اللسان فهذا لم يقله أحد من المشهورين بالإمامة ولا كان قديما فيضاف هذا إلى المرجئة وإنما وافق الجهمية عليه طائفة من المتأخرين من أصحاب الأشعري
وأما ابن كلاب فكلامه يوافق كلام المرجئة لا الجهمية وآخر الأقوال حدوثا في ذلك قول الكرامية إن الإيمان اسم للقول باللسان وإن لم يكن معه اعتقاد القلب وهذا القول أفسد الأقوال لكن أصحابه لا يخالفون في الحكم فإنهم يقولون إن هذا الإيمان باللسان دون القلب هو إيمان المنافقين وأنه لا ينفع في الآخرة وإنما أوقع هؤلاء كلهم ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض بل إذا ذهب بعضه ذهب كله ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه كما قال النبي ص - يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان
فالأقوال في ذلك ثلاثة الخوارج والمعتزلة نازعوا في الاسم والحكم فلم يقولوا بالتبعيض لا في الاسم ولا في الحكم فرفعوا عن صاحب الكبيرة بالكلية اسم الإيمان وأوجبوا له الخلود في النيران وأما الجهمية والمرجئة فنازعوا في الاسم لا في الحكم فقالوا يجوز أن يكون مثابا معاقبا محمودا مذموما لكن لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض وكثير من المرجئة والجهمية من يقف في الوعيد فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره ويذكر عن غلاتهم أنهم نفوا الوعيد بالكلية لكن لا أعلم معينا معروفا أذكر عنه هذا القول ولكن حكي هذا عن مقاتل بن سليمان والأشبه أنه كذب عليه

وأما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه وولاية الله تعالى بحسب إيمان العبد وتقواه فيكون مع العبد من ولاية الله تعالى بحسب ما معه من الإيمان والتقوى فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون
وعلى هذا فالمتأول الذي أخطأه في تأويله في المسائل الخبرية والأمرية وإن كان في قوله بدعة يخالف بها نصا أو إجماعا قديما وهو لا يعلم أنه يخالف ذلك بل قد أخطأ فيه كما يخطىء المفتي والقاضي في كثير من مسائل الفتيا والقضاء باجتهاده يكون أيضا مثابا من جهة اجتهاده الموافق لطاعة الله تعالى غير مثاب من جهة ما أخطأ فيه وإن كان معفوا عنه ثم قد يحصل فيه تفريط في الواجب أو اتباع الهوى يكون ذنبا منه وقد يقوى فيكون كبيرة وقد تقوم عليه الحجة التي بعث الله عز و جل بهما رسله ويعاندها مشاقا للرسول من بعد ما تبين له الهدى متبعا غير سبيل المؤمنين فيكون مرتدا منافقا أو مرتدا ردة ظاهرة فالكلام في الأشخاص لا بد فيه من هذا التفصيل وأما الكلام في أنواع الأقوال والأعمال باطنا وظاهرا من الاعتقاد والإرادات وغير ذلك فالواجب فيما تتوزع فيه ذلك أن يرد إلى الله والرسول فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالفهما فهو باطل وما وافقهما من وجه دون وجه فهو ما اشتمل على حق وباطل فهذا هو
والمقصود هنا أن أهل العلم والإيمان في تصديقهم لما يصدقون به وتكذيبهم لما يكذبون به وحمدهم لما يحمدونه وذمهم لما يذمونه متفقون على هذا الأصل فلهذا يوجد أئمة أهل العلم والدين من المنتسبين إلى الفقه والزهد يذمون البدع المخالفة للكتاب والسنة في الاعتقادات والأعمال من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف ونحوهم وإن كان في أولئك من هو مجتهد له أجر

على اجتهاده وخطؤه مغفور له
وقد ثبت عن النبي ص - من غير وجه أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فكان القرن الأول من كمال العلم والإيمان على حال لم يصل إليها القرن الثاني وكذلك الثالث وكان ظهور البدع والنفاق بحسب البعد عن السنن والإيمان وكلما كانت البدعة أشد تأخر ظهورها وكلما كانت أخف كانت إلى الحدوث أقرب فلهذا حدث أولا بدعة الخوارج والشيعة ثم بدعة القدرية والمرجئة وكان آخر ما حدث بدعة الجهمية حتى قال ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم أن الجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة بل هم زنادقة وهذا مع أن كثيرا من بدعهم دخل فيها قوم ليسوا زنادقة بل قبلوا كلام الزنادقة جهلا وخطأ قال الله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعو خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم فأخبر سبحانه أن في المؤمنين من هو مستجيب للمنافقين فما يقع فيه بعض أهل الإيمان من أمور بعض المنافقين هو من هذا الباب
والمقصو هنا أن يعلم أنه لم يزل في أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأن أمته لا تبقى على ضلالة بل إذا وقع منكر من ليس حق بباطل أو غير ذلك فلا بد أن يقيم الله تعالى من يميز ذلك فلا بد من بيان ذلك ولا بد من إعطاء الناس حقوقهم كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننزل الناس منازلهم رواه أبو داود وغيره وهذا الموضع لا يحتمل من السعة وكلام الناس في مثل هذه الأمور التي وقعت ممن وقعت منه بل المقصود التنبيه على جمل ذلك لأن هذا محتاج إليه في هذه الأوقات فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كلاهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق

وأما كتب الفلسفة فبالباطل غالب عليها بل الكفر الصريح وكثير فيها وكتاب الإحياء له حكم نظائره ففيه أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث كثيرة ضعيفة أو موضوعة فإن مادة مصنفه في الحديث والآثار وكلام السلف وتفسيرهم للقرآن مادة ضعيفة وأجود ماله من المواد المادة الصوفية ولو سلك فيها مسلك الصوفية أهل العلم بالآثار النبوية واحترز عن تصوف المتفلسفة الصابئين لحصل مطلوبه ونال مقصوده لكنه في آخر عمره سلك هذا السبيل وأحسن ما في كتابه أو أحسن ما فيه ما يأخذه من كتاب أبي طالب في مقامات العارفين ونحو ذلك فإن أبا طالب أخبر بذوق الصوفية حالا وأعلم بكلامهم وآثارهم سماعا وأكثر مباشرة لشيوخهم الأكابر
والمقصود هنا أن طرق العلم بصدق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بل وتفاوت الطرق في معرفة قدر النبوة والنبي متعددة تعددا كثيرا إذ النبي يخبر عن الله سبحانه أنه قال ذلك إما إخبارا من الله تعالى وإما أمرا أو نهيا ولكل من حال المخبر عنه والمخبر به بل ومن حال المخبرين مصدقهم ومكذبهم دلالة على المطلوب سوى ما ينفصل عن ذلك من الخوارق وأخبار الأولين والهواتف والكهان وغير ذلك فالمخبر مطلقا يعلم صدقه وكذبه أمور كثيرة لا يحصل العلم بآحادها كما يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة بل بمخبر الخبر الواحد الذي احتف بخبره قرائن أفادت العلم
ومن هذا الباب علم الإنسان بعدالة الشاهد والمحدث والمفتي حتى يزكيهم ويفتي بخبرهم ويحكم بشهادتهم وحتى لا يحتاج الحاكم في عدالة كل شاهد إلى تزكيته فإنه لو احتاج كل مزكي إلى مزكي لزم التسلسل بل يعلم صدق الشخص تارة باختياره ومباشرته وتارة باستضافه صدقه بين الناس ولهذا قال العلماء إن التعديل لا يحتاج إلى بيان السبب فإن كون الشخص عدلا صادقا لا يكذب لا يتبين بذكر شيء معين بخلاف الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا عند جمهور العلماء لوجهين

أحدهما أن سبب الجرح ينضبط
الثاني أنه قد يظن ما ليس بجرح جرحا وأما كونه صادقا متحريا للصدق لا يكذب فهذا لا يعرف بشيء واحد حتى يخبر به وإنما يعرف ذلك من خلقه وعادته بطول المباشرة له والخبرة له ثم إذا استفاض ذلك عند عامة من يعرفه كان ذلك طريقا للعلم لمن لم يباشره كما يعرف الإنسان عدل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وظلم الحجاج
ولهذا قال الفقهاء إن العدالة والفسق يثبتان بالاستفاضة وقالوا في الجرح المفسر يجرحه بما رآه أو سمعه أو استفاض عنه وصدق الإنسان في العادة مستلزم لخصال البر كما أن كذبه مستلزم لخصال الفجور كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا وكما أن الخبر المتواتر يعلم لكونه خبر من يمتنع في العادة اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب والخبر المنكر المكذب يعلم لكونه لم يخبر به من يمتنع في العادة اتفاقهم على الكتمان فخلق الشخص وعادته في الصدق والكذب يمتنع في العادة إتفاقهم على الكتمان فخلق الشخص وعادته في الصدق والكذب يمتنع في العادة أن يخفي على الناس فلا يوجد أحد يظهر تحرى الصدق وهو يكذب إذا أراد إلا ولا بد أن يتبين كذبه فإن الإنسان حيوان ناطق فالكلام له وصف لازم ذاتي لا يفارقه والكلام إما خبر وإما إنشاء والخبر أكثر من الإنشاء وأصل له كما أن العلم أعم من الإرادة وأصل لها والمعلوم أعظم من المراد فالعلم يتناول الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع وما كان وما سيكون وما يختاره العالم وما لا يختاره
وأما الإرادة فتختص ببعض الأمور دون بعض والخبر يطابق العلم فكل

ما يعلم يمكن الخبر به والإنشاء يطابق الإرادة فإن الأمر إما محبوب يؤمر به أو مكروه ينهى عنه وأما ما ليس بمحبوب ولا مكروه فلا يؤمر به ولا ينهى عنه وإذا كان كذلك فالإنسان إذا كان متحريا للصدق عرف ذلك منه وإذا كان يكذب أحيانا لغرض من الأغرض لجلب ما يهواه أو دفع ما يبغضه أو غير ذلك فإن ذلك لا بد أن يعرف منه وهذا أمر جرت به العادات كما جرت بنظائره فلا تجد أحدا بين طائفة من الطوائف طالت مباشرتهم له إلا وهم يعرفونه هل يكذب أو لا يكذب
ولهذا كان من سنة القضاة إذا شهد عندهم من لا يعرفونه كان لهم أصحاب مسائل يسألون عنه جيرانه ومعامليه ونحوهم ممن له به خبرة فمن خبر شخصا خبرة باطنة فإنه يعلم من عادته علما يقينا أنه لا يكذب لا سيما في الأمور العظام ومن خبر عبد الله ابن عمر وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى ابن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وأضعاف أضعافهم حصل عنده علم ضروري من أعظم العلوم الضرورية أن الواحد من هؤلاء لا يتعمد الكذب على رسول الله ص - ومن تواترت عنه اخبارهم من أهل زماننا وغيرهم حصل له هذا العلم الضروري ولكن قد يجوز على أحدهم الغلط الذي يليق به ثم خبر الفاسق والكافر بل ومن عرف بالكذب قد تقترن به قرائن تفيد علما ضروريا أن المخبر صادق في ذلك الخبر فكيف ممن عرف منه الصدق في الأشياء فمن كان خبيرا بحال النبي ص - مثل زوجته خديجة وصديقه أبي بكر إذا أخبره النبي ص - بما رآه أو سمعه حصل له علم ضروري بأنه صادق في ذلك ليس هو كاذبا في ذلك ثم إن النبي لا بد أن يحصل له علم ضروري بأن ما أتاه صادق أو كاذب فيصير إخباره عما علمه بالضرورة كأخبار أهل التواتر عما علموه بالضرورة
وأيضا فالمتنبيء الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما يظهر لمخاطبه من كذبه في أثناء الأمور أعظم مما يظهر من كذب غيره فإنه إذا كان الإخبار عن

الأمور المشاهدة لا بد أن يظهر فيه كذب الكاذب فما الظن بمن يخبر عن الأمور الغائبة التي تطلب منه ومن لوازم النبي التي لا بد منها الإخبار عن الغيب الذي أنبأ الله تعالى به فإن من لم يخبر عن غيب لا يكون نبيا فإذا أخبرهم المتنبىء عن الأمور الغائبة عن حواسهم من الحاضرات والمستقبلات والماضيات فلا بد أن يكذب فيها ويظهر لهم كذبه وإن كان قد يصدق أحيانا في شيء كما يظهر كذب الكهان والمنجمين ونحوهم وكذب المدعين للدين والولاية والمشيخة بالباطل فإن الواحد من هؤلاء وإن صدق في بعض الوقائع فلا بد أن يكذب في غيرها بل يكون كذبه أغلب من صدقه بل تتناقض أخباره وأوامره وهذا أمر جرت به سنة الله التي لن تجد لها تبديلا قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وأم النبي الصادق المصدوق فهو يخبر به عن الغيوب توجد أخباره صادقة مطابقة وكلما زادت أخباره ظهر صدقه وكلما قويت مباشرته وامتحانه ظهر صدقه كالذهب الخالص الذي كلما سبك خلص وظهر جوهره بخلاف المغشوش فإنه عند المحنة ينكشف ويظهر أن باطنه خلاف ظاهره ولهذا جاء في النبوات المتقدمة أن الكذاب لا يدوم أمره أكثر من مدة قليلة أما ثلاثين سنة وأما أقل فلا يوجد مدعي النبوة كذابا إلا ولا بد أن ينكشف ستره ويظهر أمره والأنبياء الصادقون لا يزال يظهر صدقم بل الذين يظهرون العلم ببعض الفنون والخبرة ببعض الصناعات والصلاح والدين والزهد لا بد أن يتميز هذا من هذا وينكشف فالصادقون يدوم أمرهم والكذابون ينقطع أمرهم هذا أمر جرت به العادة وسنة الله التي لن تجد لها تبديلا
وأما المخبر عنه وبه كالنبي يخبر عن الله تعالى بأنه أخبر بكذا أو أنه أمر بكذا فلا بد أن يكون خبره صدقا وأمره عدلا وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم والأمور التي يخبر بها ويأمر بها تارة تنبه العقول على الأمثال والأدلة العقلية التي يعلم بها صحتها فيكون ما علمته العقول بدلالته وإرشاده من الحق الذي أخبر به والخبر الذي أمر به شاهد بأنه

هاد ومرشد معلم للخير ليس بمضل ولا مغو ولا معلم للشر وهذه حال الصادق البر دون الكاذب الفاجر فإن الكاذب الفاجر لا يتصور أن يكون ما يأمر به عدلا وما يخبر به حقا وإذا كان أحيانا يخبر ببعض الأمور الغائبة كشيطان يقرن به يلقي إليه ذلك أو غير ذلك فلا بد أن يكون كاذبا فاجرا كما قال تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون
وهذا بيان لأن الذي يأتيه ملك لا شيطان فإن الشيطان لا ينزل على الصادق البار ما دام صادقا بارا إذ لا يحصل مقصوده بذلك وإنما ينزل على من يناسبه في التشيطن وهو الكاذب الأثيم والأثيم الفاجر وتارة يخبر النبي بأمور ويأمر بأمور لا يتبين للعقول صدقها ومنفعتها في أول الأمر فإذا صدق الإنسان خبره وأطاع أمره وجد في ذلك من البيان للحقائق والمنفعة والفوائد ما يعلم به أن عنده من عظيم العلم والصدق والحكمة ما لا يعلمه إلا الله تعالى أعظم مما يتبين به صدق الطبيب إذا استعمل ما يصفه من الأدوية وصدق العقل المشير إذا استعمل ما يراه من الآراء وأمثال ذلك وحينئذ فيحصل للنفوس علم ضروري بكمال عقله وصدقه فإذا أخبر بعد ذلك عن أمور ضرورية يراها أو يسمعها حصل للنفوس علم ضروري بأنه صادق لا يتعمد الكذب وإنه متيقن لما أخبر به ليس فيه خطأ ولا غلط أعظم مما يتبين به صدق من أخبر عما رآه من الرؤيا أو عما رآه من العجائب وأمثال ذلك فإن الخبر إنما تأتيه الآفة من تعمد الكذب أو الخطأ بأن يظن الأمر على خلاف ما هو عليه فإن كان من العلوم الضرورية التي كلما دامت قويت وظهرت وزادت زال احتمال الخطأ وما كان يتحرى الصدق الذي يعلم معه بالضرورة وانتفاء تعمد الكذب هو وغيره من الأمور التي يعلم معها انتفاء تعمد الكذب ويزول معه احتمال تعمده وأما العلم بالعدل فيما يؤمر به وبالعدل الفاضل فيما يأمره
فهذا يعلم تارة مما نبينه من الأدلة العقلية ونضربه من الأمثال وهذا هو

الغالب على ما يذكره الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أصول الدين علما وعملا وتارة يظهر ذلك بالتجربة والامتحان وتارة يستدل بما علم على ما يعلم
وأيضا فقد علم أن العالم ما زال فيه نبوة من آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد ص - فالنبي الثاني يعلم صدقه بأمور منها إخبار النبي الأول به كما بشر نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام الأنبياء قبله وكذلك بشر بالمسيح الأنبياء قبله وتارة يعلم صدقه بأن يأتي بمثل ما أتوا به من الخبر والأمر فإن الكذاب الفاجر لا يتصور أن يكون في أخباره وأوامره موافقا للأنبياء بل لا بد أن يخالفهم في الأصول الكلية التي اتفق عليها الأنبياء كالتوحيد والنبوات والمعاد كما أن القاضي الجاهل أو الظالم لا بد أن يخالف سنة القضاة العالمين العادلين وكذلك المفتي الجاهل أو الكاذب والطبيب الكاذب أو الجاهل فإن كل هؤلاء لا بد أن يتبين كذبهم أو جهلهم بمخالفتهم لما مضت به سنة أهل العلم والصدق
وإن كان قد يخالف بعضهم بعضا في أمور اجتهادية فإنه يعلم الفرق بين ذلك وبين المخالفة في الأصول الكلية التي لا يمكن انخرامها ولهذا يتميز للناس في الأمراء والحكام والمفتين والمحدثين والأطباء وسائر الأصناف بين العالم الصادق وإن خالف غيره من أهل العلم في الصدق في أشياء وبين من يكون جاهلا أو كاذبا ظالما ويفرقون بين هذا وهذا كما أنهم يعلمون من سيرة أبي بكر وعمر من العلم والعدل مالا يرتابون فيه وإن كان بينهما منازعات في أمور اجتهادية كالتفصيل في العطاء ونحو ذلك
وأيضا فإذا أخبر اثنان عن قضية طويلة ذات أجزاء وشعب لم يتواطأ عليها ويمتنع في العاد اتفاقهما فيها على تعمد الكذب والخطأ علمنا صدقهما مثل أن يشهد رجلان واقعة من وقائع الحروب أو يشهدا الجمعة أو العيد أو موت ملك أو تغير دولة ونحو ذلك أو يشهد خطبة خطيب أو كتابا لبعض

الولاة أو يطالعا كتابا من الكتب أو يحفظاه ونعلم أنهما لم يتواطأ ثم يجيء أحدهما فيخبر بذلك كله مفصلا شيئا فشيئا من غير تواطيء فيعلم أنهما صادقان ويخبر الآخر بمثل ما أخبر به الأول مفصلا شيئا فشيئا من غير تواطيء فيعلم أنهما صادقان حتى لو كان رجلان يحفظان بعض قصائد العرب كقصيدة امرىء القيس أو غيرها وهناك من لا يحفظها وهناك شخصان لا يعرف أحدهما الآخر فقال الذي لا يحفظها لأحدهما أنشدنيها فأنشدها ثم طلب الآخر وقال له أنشدنيها فأنشدها كما أنشد الأول علم المستمع إنها هي هي بل وكذلك كتب الفقه والحديث واللغة والطب وغير ذلك ولو بعث بعض الملوك رسلا إلى أمارئه ونوابه في أمر من الأمور ثم أخبر أحد الرسولين بأنه أمر بأمر ذكره وفصله وأخبر الآخر بمثل ذلك للقوم الذين أرسل إليهم من غير علم منه بإرسال الآخر لعلم قطعا أن ذلك الأمر هو الذي أمر به المرسل وإنهما صادقان فإنه يعلم علما ضروريا أنه يمتنع في الكذب والخطأ أن يتفق في مثل هذا
ومعلوم أن موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين كانوا قبل نبينا محمد ص - قد أخبروا عن الله سبحانه وتعالى من توحيده وأسمائه وصفاته وملائكته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وإرساله بما أخبروا به
ومعلوم أيضا لمن علم حال سيدنا محمد ص - أنه كان رجلا أميا نشأ بين قوم أميين ولم يكن يقرأ كتابا ولا يكتب بخطه شيئا كما قال تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا رتاب المبطلون وإن قومه الذين نشأ بينهم لم يكونوا يعلمون علوم الأنبياء بل كانوا من أشد الناس شركا وجهلا وتبديلا وتكذيبا بالمعاد
وكانوا من أبعد الأمم عن توحيد الله سبحانه ومن أعظم الأمم إشراكا بالله عز و جل ثم إذا تدبرت القرآن والتوراة وجدتهما يتفقان في عامة المقاصد الكلية من التوحيد والنبوات والأعمال الكلية وسائر الأسماء والصفات من

كان له علم بهذا علم علما ضروريا ما قاله النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وما قاله ورقة بن نوفل إن هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى قال تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله وقال تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك وقال تعالى قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
وأمثال ذلك مما يذكر فيه شهادة الكتب المتقدمة بمثل ما أخبر به نبينا محمد ص - وهذه الأخبار منقولة عند أهل الكتاب بالتواتر كما نقل عندهم بالتواتر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام وإن كان كثير مما يدعونه من أدق الأمور لم يتواتر عندهم لانقطاع التواتر فيهم فالفرق بين الجمل الكلية المشورة التي هي أصل الشرائع التي يعلمها أهل الملل كلهم وبين الجزئيات الدقيقة التي لا يعلمها إلا خواص الناس ظاهر ولهذا كان وجوب الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والكذب ونحو ذلك متواترا عند عامة المسلمين وأكثرهم لا يعلمون تفاصيل الأحكام والسنن المتواترة عند الخاصة فإذا كان في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب وفيما ينقلونه بالتواتر ما يوافق ما أخبر به نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان في ذلك فوائد جليلة هي من بعض حكمه إقرارهم بالجزية
أحدها أنه إذا علم اتفاق الرسل على مثل هذا علم صدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى حيث أخبر محمد عليه الصلاة و السلام بمثل ما أخبر به موسى من غير تواطيء ولا تشاعر
الثاني أن ذلك دليل على اتفاق الرسل كلهم في أصول الدين كما يعلم أن رسل الله قبله كانوا رجالا من البشر لم يكونوا ملائكة فلا يجعل سيدنا محمد ص - هو الذي جاء بها كما قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل

القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
الثالث أن هذه آية على نبوة نبينا محمد ص - حيث أخبر بمثل ما أخبرت به الأنبياء من غير تعلم من بشر وهذه الأمور هي من الغيب قال تعالى تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين وقال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذا أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وقال تعالى وما كنت بجانبي الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلنت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قال فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستحيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدروؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين

وكثير من أهل الكتاب آمنوا بمثل هذه الطرق قال تعالى قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب وقال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد
ولا ريب أن منكري النبوات لهم شبه منها إنكار أن يكون رسول الله بشرا ومنها دعوى أن الذي يأتيه شيطان لا ملك وغير ذلك وكل ذلك قد أجاب الله تعالى عنه في القرآن العظيم وقرر ذلك بأبلغ تقرير لكن جواب هذا السؤال لا يتسع لبسط ذلك في القرآن قال تعالى ألر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال تعالى ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون بين أن الرسول لو كان ملكا لكان في صورة رجل إذ لا يستطيعون الأخذ عن الملك على صورته ولو كان في صورة رجل لعاد اللبس وقالوا أبعث الله بشر رسولا وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون

وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين فأمر سبحانه بمسألة أهل الذكر إذ ذلك مما تواتر عندهم أن الرسل كانوا رجالا وقال تعالى ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية
وبالجملة فتقرير النبوات من القرآن أعظم من أن يشرح في هذا المقام إذ ذلك هو عماد الدين وأصل الدعوة النبوية وينبوع كل خير وجماع كل هدي وأما حال المخبر عنه فإن النبي والرسول يخبر عن الله تعالى بأنه أرسله ولا أعظم فرية ممن يكذب على الله جل وعز كما قال تعالى ومن أظلم من افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ذكر هذا بعد قوله وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدقا لذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله
فنقض سبحانه دعوى الجاحد النافي للنبوة بقوله قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وذلك الكتاب ظهر فيه من الآيات والبينات وأتبعه كل الأنبياء والمؤمنين وحصل فيه ما لم يحصل في غيره فكانت البراهين والدلائل على صدقه أكثر وأظهر من أن تذكر بخلاف الإنجيل وغيره
وأيضا فإنه أصل والإنجيل تبع له إلا فيما أحله المسيح وهذا كما يقول سبحانه أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا أي القرآن والتوراة وفي القراءة الأخرى قالوا ساحران أي محمد والقرآن وكذلك

قوله إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا وكذلك قوله أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وكذلك قول الجن إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم
ولهذا كانت قصة موسى هي أعظم قصص الأنبياء المذكورين في القرآن وهي أكبر من غيرها وتبسط أكثر من غيرها قال عبد الله بن مسعود كان رسول الله ص - عامة نهاره يحدثنا عن بني إسرائيل ولما قرر الصدق بين حال الكذابين بأنهم ثلاثة أصناف إذ لا يخلو الكذاب من أن يضيف الكذب إلى الله تعالى ويقول إنه أنزله أو يحذف فاعله ولا يضيفه إلى أحد أ أن يقول إنه هو الذي وضعه معارضا فقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وأما المخبر عنه فإنه الله تعالى
ولا ريب أنه يعلم من أمور الرب سبحانه بما نصبه من الأدلة المعاينة الحسية التي يعقل بها نفسها وبالأمثال المضروبة وهي الأقيسة العقلية ما يمتنع معه خفاء كذب الكاذب بل يمتنع معه خفاء صدق الصادق فالدجال مثلا قد علم بوجوه متعددة ضرورية إنه ليس هو الله وإنه كافر مفتر وإذا كانت دعواه معلوما كذبها ضرورة لم يكن ما يأتي به من الشبهات مصدقا لها إذ العصمة الضرورية لا تقدح فيها الطرق النظرية فإن الضروريات أصل النظريات فلو قدح بها فيها لزم إبطال الأصل بالفرع فيبطلان جميعا فإنه يظهر أيضا من عجزه ما ينفي دعواه
وكذلك من أباح الفواحش والمظالم والشرك والكذب مدعيا للنبوة يعلم بالاضطرار كذبه للعلم الضروري بأن الله سبحانه لا يأمر بهذا سواء قيل أن الفعل يعلم به حسن الأفعال وقبحها أو لا يعلم به فليس كلما أمكن في العقل

وقوعه وكان الله قادرا عليه يشك في وقوعه بل نحن نعلم بالضرورة أن البحار لم تقلب دما وإن الجبال لم تنقلب يواقيت وأمثال ذلك من المعادن وإن لم يسند ذلك إلى دليل معين وإن كنا عالمين بأن الله تعالى قادر على قلب ذلك لكن العلم بالوقوع وعدمه شيء والعلم بإمكان ذلك من قدرة الله سبحانه شيء وكل ذي فطرة سليمة يعلم بالاضطرار أن الله تعالى لا يأمر عباده بالكذب والظلم والشرك والفواحش وأمثال ذلك مما قد يأتي به كثير من الكذابين بل يعلم بفطرته السليمة ما يناسب حال الربوبية وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه ولكن نذكر ما أشار إليه مصنف العقيدة

فصل
فهذه الطرق سلكها أكثر أهل الكلام وغيرهم ولهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق أحدها أن إظهار المعجزة على يدي المتنبي الكذاب قبيح والله سبحانه منزه عن فعل القبيح وهذه الطرق سلكها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بالتحسين والتقبيح وطعن فيها من ينكر ذلك ثم إن المعتزلة جعلوا هذه أصل دينهم والتزموا بها لوازم خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة بل وصريح العقل في مواضع كثيرة وحقيقة أمرهم أنهم لم يصدقوا الرسول إلا بتكذيب بعض ما جاء به وكأنهم قالوا لا يمكن تصديقه في البعض إلا بتكذيبه في البعض لكنهم لا يقولون إنهم يكذبونه في شيء بل تارة يطعنون في النقل وتارة يتأولون المنقول ولكن يعلم بطلان ما ذكروه إما ضرورة وإما نظرا وذلك أنهم قالوا إن السمع مبني على صدق الرسول وصدقه على أن الله تعالى منزه عن فعل القبيح فإن تأييد الكذاب بالمعجزة قبيح والله منزه عنه قالوا والدليل على أنه منزله عنه أن القبيح لا يفعله إلا جاهل بقبحه أو محتاج والله سبحانه منزه عن الجهل والحاجة والدليل على ذلك أن المحتاج لا يكون إلا جسما والله تعالى ليس بجسم
والدليل على أنه ليس بجسم هو ما دل على حدوث العالم والدليل على حدوث العالم أنه أجسام وأعراض وكلاهما محدث والدليل على حدوث الأجسام إنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث والدليل على ذلك أنها لا تنفك عن الحركة والسكون وهما حادثان لامتناع حوادث لا أول لها ثم التزموا لذلك حدوث كل موصوف بصفة لأن الصفات هي الأعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم وقد قام الدليل على حدوث الجسم فالتزموا لذلك أن لا يكون لله علم ولا قدرة وأن لا يكون متكلما قام به الكلام

بل يكون القرآن وغيره من كلامه تعالى مخلوقا خلقه في غيره ولا يجوز أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا هو مباين للعالم ولا مجانبه ولا داخل فيه ولا خارج عنه ثم قالوا أيضا لا يجوز أن يشاء خلاف ما أمر به ولا أن يخلق أفعال عباده ولا يقدر أن يهدي ضلالا ولا يضل مهتديا لأنه لو كان قادر على ذلك وقد أمر به ولم يعن عليه لكان قبيحا منه فركبوا عن هذا الأصل التكذيب بالصفات والتكذيب بالقدر وسموا أنفسهم أهل التوحيد والعدل وسموا من أثبت الصفات من سلف الأمة وأئمتها مشبهة ومجسمه ومجبرة وحشوية وجعلوا مالكا وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وغيرهم من هؤلاء الحشوية إلى أمثال هذه الأمور التي بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع وأصل ضلالهم في القدر إنهم شبهوا المخلوق بالخالق سبحانه فهم مشبهة الأفعال
وأما أصل ضلالهم في الصفات فظنهم أن الموصوف الذي تقوم به الصفات لا يكون إلا محدثا وقولهم من أبطل الباطل فإنهم يسلمون إن الله حي عليم قدير ومن المعلوم إن حيا بلا حياة وعليما بلا علم وقديرا بلا قدرة مثل متحرك بلا حركة وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الأسماء المشتقة التي يدعي فيها نفي المعنى المشتقة منه وهذا مكابرة للعقل والشرع واللغة
الثاني أنه أيضا من المعلوم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا غيره فإذا خلق سبحانه كلاما في محل وجب أن يكون ذلك المحل هو المتكلم به فتكون الشجرة هي القائلة لموسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ويكون كلما أنطقه الله تعالى من المخلوقات كلامه كلاما لله تعالى وبسط هذا له موضع غير هذا
والمقصود هنا ما يتعلق بتقرير النبوة وقد يقال يمكن تقرير كونه سبحانه منزها عن تأييد الكذاب بالمعجزة من غير بناء على أصل المعتزلة بما علم من

حكمة الله تعالى في مخلوقاته ورحمته ببريته وسنته في عباده فإن ذلك دليل على أنه لا يؤيد كذابا بمعجزة لا معارض لها
ويمكن بسط هذه الطريقة وتقريرها بما ليس هذا موضعه في أنه كما علم بما في مصنوعاته من الأحكام والإتقان أنه عالم وبما أن فيها من التخصيص أنه مريد فيعلم بما فيها من النفع للخلائق أنه رحيم وبما فيها من الغايات المحمودة أنه حكيم والقرآن يبين آيات الله الدالة على قدرته ومشيئته وآياته الدالة على إنعامه ورحمته وحكمته ولعل هذا أكثر في القرآن كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزراعون لو نشاء لجعلناه حكاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أءنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم وقوله سبحانه ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا وقاله عز و جل فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم

وقوله جل وعز أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون وهو سبحانه في سورة الرحمن يقول في عقب كل آية فبأى آلاء ربكما تكذبان وهو يذكر فيها ما يدل على خلقه وعلمه وقدرته ومشيئته وما يدل على إنعامه ورحمته وحكمته
وكذلك ذكر في مخاطبة الرسل للكفار كقوله سبحانه قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى
مثل هذا في القرآن كثير وما فطر فيه من المخلوقات دل على ذلك وفي نفس الإنسان عبرة تامة فإن من نظر في خلق أعضائه وما فيها من المنافع له وما في تركيبها من الحكمة والمنفعة مثل كون ماء العين مالحا ليحفظ شحمة العين من أن تذوب وماء الأذن مرا ليمنع الذباب من الولوج وماء الفم عذاب ليطيب ما يمضغ من الطعام وأمثال ذلك علم علما ضروريا أن خالق ذلك له من الرحمة والحكمة ما يبهر العقول مع ما في ذلك من الدلالة على المشيئة ثم إذا استقرأ ما يجده في نوع الإنسان من أن كل من عظم ظلمه للخلق وضراره لهم كانت عاقبته سوء واتبع اللعنة والذم
ومن عظم نفعه للخق وإحسانه إليهم كانت عاقبته عاقبة خير وأمثال ذلك استدل بما علم ما لم يعلم حتى يعلم أن الدولة ذات الظلم والجبن والبخل سريعة الانقضاء كما قال تعالى ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا وقال عز و جل ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا

في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم كذلك سنته في الأنبياء الصادقين وأتباعهم من المؤمنين وفي الكذابين بالحق إن هؤلاء ينصرهم ويبقى لهم لسان صدق في الآخرين وأولئك ينتقم منهم ويجعل عليهم اللعنة
فبهذا وأمثاله يعلم أنه لا يؤيد كذابا بالمعجزة لا معارض لها لأن في ذلك من الفساد والضرر بالعباد ما تمنعه رحمته وفيه من سوء العاقبة ما تمنعه حكمته وفيه من نقص سنته المعروفة وعادته المطردة ما تعلم به مشيئته قال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وقال تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهن شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ثم قال بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وقال تعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد

فصل
وهذه الطريق لم يسلكها أبو الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقه من علماء المذهب كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني والأستاذ أبي المعالي وصاحبه الأنصاري والشهرستاني وأمثالهم وأبي الوليد الباجي والمازري ونحوهم ونحوهم بناء على أنهم لا يرون تنزيه الرب سبحانه عن فع من الأفعال لأنهم قد علموا أن له أن يفعل ما يشاء وهم لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين حتى يقولوا إن الفعل الفلاني قبيح وهو منزه عن فعل القبيح بل عندهم أن الظلم غير مقدور إذ الظلم التصرف في ملك غيره فبما فعل كان تصرفا في ملكه فلم يكن ظلما بل ويقولون إنه يجوز أن يأمر بكل شيء وينهى عن كل شيء ولا يجعلون للأفعال صفات باعتبارها يكون الحسن والقبح وانتهى ما أثبتوه من الصفات بالعقل إلى أنه حي عليم قدير مريد وأثبتوا مع ذلك أنه سميع بصير متكلم فأما الرحمة والحكمة ونحو ذلك فلم يثبتوها بالعقل بل قد ينفون الحكمة التي هي الغايات والمقاصد في أفعاله ويمنعون أن يفعل شيئا لأجل شيء كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
فإن المقصود هنا التشبيه على طرق الناس في النبوة والكلام بحسب العدل والإنصاف لأبسط الكلام في كل ما تنازعوا فيه ومسألة التحسين والتقبيح العقليين هي كما تنازع فيها عامة الطوائف فقال بكل من القولين طوائف من المالكية والشافعية والحنبلية ومن قال بالإثبات من الحنبلية أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب ومن قال بالنفي أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبو يعلى وأكثر أصحابه
ومسألة حكم الأعيان قبل ورود الشرع هي في الحقيقة من فروعها وقد قال فيها بالحظر أو الإباحة أعيان من هذه الطوائف وأما الحنفية فالغالب

عليهم القول بالتحسين والتقبيح العقليين وذكروا ذلك نصا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأهل الحديث فيها أيضا على قولين ومن قال بالإثبات أبو النصر السجزي وصاحبه الشيخ أبو القاسم سعيد ابن علي الزنجاني فأما ما اختصت به القدرية فهذا لا يوافقهم عليهم أحد من هؤلاء ولكن هؤلاء هم وجمهور الفقهاء بل وجمهور الأمة يرون أن للأفعال صفات يتعلق الأمر والنهي بها لأجلها وملخص ذلك أن الله تعالى إذا أمر بأمر فإنه حسن بالاتفاق وإذا نهى عن شيء فإنه قبيح بالاتفاق لكن حسن الفعل وقبحه إما أن ينشأ من نفس الفعل والأمر والنهي كاشفان أو ينشأ من نفس تعلق الأمر والنهي به أو من المجموع
فالأول هو قول المعتزلة ولهذا لا يجوزون نسخ العبادة قبل دخول وقتها لأنه يستلزم أن يكون الفعل الواحد حسنا قبيحا وهذا قول أبي الحسن التميمي من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء
والثاني قول الأشعرية ومن وافقهم من الظاهرية وفقهاء الطوائف وهؤلاء يجعلون علل الشرع مجرد أمارات ولا يثبتون بين العلل والأفعال مناسبة لكن هؤلاء الفقهاء متناقضون في هذا الباب فتارة يقولون بذلك موافقة للأشعرية المتكلمين وهم في أكثر تصرفاتهم يقولون بخلاف ذلك كما يوجد مثل هذا في كلام فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية
وإما أن يكون ذلك ناشئا من الأمرين وهذا مذهب الأئمة وعليه تجرى تصرفات الفقهاء في الشريعة فتارة يؤمر بالفعل لحكمة تنشأ من نفس الأمر دون المأمور به وهذا هو الذي يجوز نسخه قبل التمكين كما نسخت الصلاة ليلة المعراج من خمسين إلى خمس وكما نسخ أمر إبراهيم بذبح ابنه عليهما السلام
وبالجملة فجمهور الأئمة على أن الله تعالى منزه عن أشياء هو قادر عليها ولا يوافقون هؤلاء على أنه لا ينزه عن مقدور الظلم الذي نزه الله

سبحانه عنه نفسه في القرآن وحرمه على نفسه وهو قادر عليه وهو هضم الإنسان من حسناته أو حمل سيئات غيره عليه كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وهؤلاء الجمهور لا يوافقون المعتزلة على قولهم أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد ولا شاء الكائنات بل يقولون إن الله خلق كل شيء وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لكنهم مع هذا يثبتون لفعله حكمة وينزهونه عن القبائح وهذا قول الكرامية وغيرهم من أهل الكلام وهو قول أكثر الصوفية وأكثر أهل الحديث وجمهور السلف والأئمة وجمهور المسلمين والنظار لكن ليس هذا موضع بسطه
وهؤلاء يسلكون في إثبات النبوة ما سلكه ابن عقيل وغيره في مواضع أخرى إذ أثبت حكم الله تعالى فيها حيث قال النبوات واسطة بين الله تعالى وبين خلقه في الأفعال والتروك المتضمنة لمصالح المكلفين والثقة بها طريقها ما سبق في علومنا باستدلالنا على أن الباري حكيم لا يؤيد كذابا بالمعجزة ولا يمكن من معجزاته إلا من صدق فيها يخبر به عنه فلما علمنا ذلك وتحققناه حصلت لنا الثقة بمن تكاملت فيه شرائط النبوة وعلمنا أنه سفير فيما بيننا وبين الله تعالى وأنه رسوله فيما أخبرنا به عند قبلناه من غير تكشف عليه بعقولنا ولا نضرب له الأمثال بآرائنا وعادتنا بل نعتقد أنه جاء من عند حكمته فوق حكمتنا وتدبيره فوق تدبيرنا ولا يمتنع في العقل ولا تمنع الحكمة من أن يجعل الأنبياء مذكرين للعقلاء وموقظين لهم ومرشدين إلى الأصلح الذي لا يدرك بالعقل ولا يبلغ كنهه بالرأي والفحص وما هذا إلا كما جعل بعض العقلاء حكيما واعظا مذكرا مؤديا وبعضهم يحتاج إلى مذكر ومؤدب ولا أحد منع من ذلك فثبت حسن الرسالة بالعقل ولأن الله جل وعز في الأفعال والتروك أسرارا من المصالح التي لا يعلمها العقلاء ولا يدركونها بعقولهم فاحتاجوا إلى النبوات
قلت والمقصود هنا إن من لم ينزهه عن فعل مقدور له بل جوز أن يفعل كلما يمكن ولم يثبت لفعله حكمة غير تعلق الحكم بالمفعولات وتعلق

المشيئة بها فإنه احتاج في دلالة المعجزة على الصدق إلى غير تلك الطريق فسلكوا طريقين سلك كل طائفة من أهل الكلام والفقه من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد
أحدهما وهو قول أكثر شيوخهم المتقدمين أن وجه دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة امتناع تعجيز الإله عن نصب الدلالة على صدق الرسل فإن تصديقهم ممكن وذلك معلوم بالضرورة والاستدلال ولا دليل إلى التصديق إلا خلق المعجزات وبظهورها على يد الكذاب يبطل دليل صدقهم فلا يبقى في المقدور طريق يصدقون به فيلزم عجز الإله عن الممكن وذلك ممتنع وقد عول على هذه الطريقة أبو الحسن الأشعري وأصحابه كالأستاذين أبي إسحاق وأبي بكر بن فورك وكذلك القاضي أبو بكر في مواضع من كتبه وكذلك القاضي أبو يعلى وأبو الحسن ابن الزاغوني
الطريق الثاني هي التي اختارها أبو المعالي وأتباعه وقال إنها الطريقة المرضية عند القاضي أبي بكر وهي التي أشار إليها أبو الحسن في الأمالي وهي طريقة أبي محمد الصابوني ونحوه من الحنفية أن المعجزات تدل من حيث نزلت منزلة التصديق بالقول والعلم بذلك يقع ضروريا بقرائن أحوال كالعلم بخجل الخمل ووجل الوجل وغضب الغضبان وحرارة الحر وفحوى كلام المخاطب المتكلم ولا يتوقف العلم بما هذا سبيله على نظر واستدلال فيقبل عليه اعتراض قالوا ووجه ذلك أن الفعل الخارق للعادة إذا علم أنه من قبل الله تعالى وأنه خارق للعادة وأنه سبحانه فعله عند دعوى الرسالة والطلب وعند قول جار مجرى الطلب أما معينا وإما غير معين من المعجزات وإنه متعلق بالدعوى ومطابق لها وأن الله تعالى سامع لدعوى النبوة عليه وعالم بها في مواضعة أهل لغة الرسول ثم فعل ما يدعيه الرسول إنه ليس من فعله علم أنه قاصد بذلك إلى تصديقه وإن ما يفعله من الآيات في مثل هذه الحال قائم مقام تصديقه له بالقول صدق أنا أرسلته على وجه يفهم الأمة التي يدعي فيها النبوة

إنه قول صدق به من قبله بل التصديق له بالفعل أبعد من دخول الشبهة والاحتمال فيه وهو جار مجرى قول مدعي الرسالة على زيد إن كنت رسولك وصاحبك فاكتب بذلك رقعة أو اركب أو قم أو اقعد وما جرى مجرى ذلك من الأفعال الظاهرة للحواس التي يعلم تصديقه بها إذا فعلها فإذا فعل زيد ذلك قام مقام قوله صدق هو رسولي وصاحبي الذي يعلم ضرورة قصده إلى تصديقه به وهذا واجب لا محالة قالوا وليس يمكن أن تدل المعجزات على صدق الرسل إلا على هذه الطريقة فهي كذلك جارية مجرى أدلة الأقوال
هذا حاصل كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني في أحد قوليه وأبي المعالي ونحوهما وضربوا لذلك مثلا فقالوا إذا تصدى ملك للناس وتصدر لتلج عليه رعيته وأتباعه وغيره واحتفل المجلس واحتشد وقد أرهق الناس شغل شاغل فلما أخذ كل مجلسه وترتب الناس على مراتبهم انتصب واحد من خواص الناس وقال معاشر الأشهاد قد حدث بكم أمر عظيم وأظلكم خطب جسيم وأنا رسول الملك إليكم ومؤتمنه لديكم ورقيبه عليكم ودعواي هذه بمرأى من الملك ومسمع فإن كنت أيها الملك صادقا في دعواي فخالف عادتك وجانب سجيتك وانتصب في خدرك قائما ثم اقعد ففعل الملك ذلك على وفق دعواه وموافقة هواه فيتيقن الحاضرون علم الضرورة بتصديق الملك إياه وتنزيل الفعل الصادر منه منزلة القول المصرح بالتصديق
فهذا العمدة في ضرب المثال فإن تعسف متعسف في الصورة التي فرضنا الكلام فيها وزعم أنه لا يحصل العلم بتصديق الملك لمن يدعي الرسالة كان ذلك جحدا منه لما علم اضطرارا فإن نعلم ببديهة العقول عندما قدمناه من القرائن حالا ومقالا إن أحدا من الذين شهدوا وشاهدوا لا يستريب في تصديق الملك لمدعي الرسالة ولا يعرض أحد منهم بعد ظهور الإمارات على تشكيك النفس وترديد القول ولا تحوجهم قضية الحال إلى سبر ونظر وإطالة فكر بل يستوي النظار الذين لا خبرة لهم في النظر

فصل
قال المصنف والدليل على نبوة الأنبياء المعجزات والدليل على نبوة نبينا ص - القرآن المعجز نظمه ومعناه قلت قد تبين أن النبوة تعلم بالمعجزات وبغيرها على أصح الأقوال وأما نبوة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام فإنها تعرف بطرق كثيرة منها المعجزات ومعجزاته منها القرآن ومنها غير القرآن والقرآن معجز بلفظه ونظمه ومعناه وإعجازه يعلم بطريقين جملي وتفصيلي أما الجملي فهو أنه قد علم بالتواتر أن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ادعى النبوة وجاء بهذا القرآن وأن في القرآن آيات التحدي والتعجيز كقوله تعالى أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فتحداهم هنا أن يأتوا بمثله
وقال في موضع آخر فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقال في موضع آخر فأتوا بسورة من مثله وأخبر مع ذلك أنهم لن يفعلوا فقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوى شهداؤكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار بل أخبر أن جميع الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يأتون بمثله فقال قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقد علم أيضا بالتواتر أنه دعا قريشا خاصة والعرب عامة وأن جمهورهم في أول الأمر كذبوه وآذوه وآذوا الصحابة وقالوا فيه أنواع القول مثل قولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومعلم ومجنون وأمثال ذلك وعلم أنهم كانوا يعارضونه ولم يأتوا بسورة من مثله وذلك يدل على عجزهم عن معارضته لأن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة

ومعلوم أن إرادتهم كانت من أشد الإرادات على تكذيبه وإبطال حجته وأنهم كانوا أحرص الناس على ذلك حتى قالوا فيه ما يعلم أنه باطل بأدنى نظر وفيلسوفهم الكبير الوحيد فكر وقدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر وليس هذا موضع ذكر جزئيات القصص إذ المقصود ذكر ما علم بالتواتر من أنهم كانوا من أشد الناس حرصا ورغبة على إقامة حجة يكذبونه بها حتى كانوا يتعلقون بالنقض مع وجود الفرق فأنه لما نزل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم عارضوه بالمسيح حتى فرق الله تعالى بينها بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وقال تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أءلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون فمن عارضوا خبره بمثل هذا كيف لا يدعون معارضة القرآن وهم لا يقدرون على ذلك وقوله وما تعبدون خطاب للمشركين لم يدخل فيه أهل الكتاب ولا تناول اللفظ المسيح كما يظنه ظان من الظانين بل هم عارضوه بالمسيح من باب القياس يقولون إذا كانت الأنبياء من حصب جهنم لأنها معبودة كذلك المسيح وهذا كما قال تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا فإنهم جعلوه مثلا لآلهتهم ولم يوردوه لشمول اللفظ كما يظن ذلك بعض المصنفين في الأصول
ولهذا بين الله الفرق بين المسيح وبين آلهتهم بأن المسيح عبد الله يستحق الثواب ولا يظلم بذنب غيره بخلاف الحجارة وإن في جعلهم من الأنبياء حصب جهنم إهانة له بذلك من غير ظلم ثم انتشرت دعوته في أرض العرب ثم في سائر الأرض إلى هذا الوقت وآيات التحدي قائمة متلوة وما قدر أحد أن يعارضه بما يظن أنه مثل
ولما جاء مسيلمة ونحوه بما أتوا به يزعمون أنهم أتوا بمثله كان ما أتوا به من المضاحك التي لا تحتاج للمعرفة بانتفاء مماثلها إلى نظر وذلك كمن جاء إلى

الرجل الفارس الشجاع ذي اللامة التامة فأراد أن يبارزه بصورة مصورة ربطها على الفرس كقوله مسيلمة يا ضفدع بنت ضفدعين كم تنقنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين وقوله أيضا الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل وأمثال ذلك
ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر وسألهم أن يقرأوا له شيئا من قرأن مسيلمة فاستعفوه فأبى أن يعفيهم حتى قرأوا شيئا من هذا فقال لهم الصديق ويوحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي من رب فاستفهم استفهام المنكر عليهم لفرط التباين وعدم الالتباس وظهور الافتراء على هذا الكلام وإن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بمثل هذا الهذيان وأما الطرق فكثيرة جدا متنوعة من وجوه وليس كما يظنه بعض الناس وإن معجزته من جهة صرف الدواعي عن معارضته وقول بعضهم إنه من جهة فصاحته وقول بعضهم من جهة إخباره بالغيوب إلى أمثال ذلك فإن كلا من الناظرين قد يرى وجها من وجه الإحجار وقد يريد الحجر وإن لم ير غيره ذلك الوجه واستيعاب الوجوه ليس هو مما يتسع له شرح هذه العقيدة

فصل
قال المصنف ثم نقول كلما أخبر به محمد ص - من عذاب القبر ومنكر ونكير وغير ذلك من أهوال القيامة والصراط والميزان والشفاعة والجنة والنار فهو حق لأنه ممكن وقد أخبر به الصادق فيلزم صدقه والكلام على هذا في فصول
أحدها
أن يقال أن هذه العقيدة اشتملت على الكلام في الإيمان بالله سبحانه وبرسله واليوم الآخر ولا ريب أن هذه الأصول الثلاثة هي أصول الإيمان الخبرية العلمية وهي جميعها داخلة في كل ملة وفي إرسال كل رسول فجميع الرسل اتفقت عليها كما اتفقت على أصول الإيمان العملية أيضا مثل إيجاب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وإيجاب الصدق والعدل وبر الوالدين وتحريم الكذب والظلم والفواحش فإن هذه الأصول الكلية علما وعملا هي الأصول التي اتفقت عليها الرسل كلهم والسور التي انزلها الله تعالى على نبيه عليه الصلاة و السلام قبل الهجرة التي يقال لها السور المكية تضمنت تقرير هذه الأصول كسورة الأنعام والأعراف وذوات ألر وحم وطس ونحو ذلك والإيمان بالرسل يتضمن الإيمان بالمكتوب وبمن نزل بها من الملائكة وهذه الخمسة هي أصول الإيمان المذكورة في قوله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وفي قوله عز و جل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا وهي التي أجاب بها النبي ص - لما جاءه جبريل في صورة أعرابي وسأله عن الإيمان فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره والحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب وهو من أصح الأحاديث فتلك الثلاثة

تتضمن هذه الخمسة والله تعالى أنزل سورة البقرة وهي سنام القرآن وجمع فيها معالم الدين واصوله وفروعه إلى أمثال ذلك فإن النظر فيها وجه من وجوه الإيجاب ولما ذكر في أولها أصناف الخلق وهم ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق أخذ بعد ذلك يقرر أصول الدين فقرر هذه الأصول الثلاثة الإيمان بالله ثم الرسالة ثم اليوم الآخر فإنه أنزل أربع آيات في المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضعة عشرة آية في صفة المنافقين ثم قال تعالى تقريرا للنبي ص - يا أيها الناس اعبدوا ركبم الذي خلقكم إلى قوله تعالى بسورة من مثله فإنه ذكر التحدي هكذا في غير موضع من القرآن
الفصل الثاني
إن مسائل ما بعد الموت ونحو ذلك الأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية يسمونها السمعيات بخلاف باب الصفات والقدر وذلك بناء على أصلين
أحدهما أن هذه لا تعلم إلا بالسمع والثاني إن ما قبلها يعلم بالعقل وكثير منهم أو أكثرهم يضم إلى ذلك أصلا آخر وهو أن السمع لا يعلم صحته إلا بتلك الأصول التي يسمونها بالعقليات مثل إثبات حدوث العالم ونحو ذلك وأما محققوهم فيقولون إن العلم بحدوث العالم ليس من الأصول التي تتوقف صحة السمع عليها بل يمكن العلم بصحة السمع ثم يعلم بالسمع خلق السموات والأرض ونحو ذلك وأما الأصلان الأولان فنازعهم فيها طوائف مثل أمر المعاد فإنه قد ذهب طوائف إلى أنه يعلم بالعقل أيضا وهذا قاله طوائف من المعتزلة ومن غير المعتزلة أيضا من أتباع الأئمة الأربعة حتى من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره والفلاسفة الإلهيون يثبتون معاد النفوس بالعقل وقد وافقهم على إثبات معاد الأرواح بالعقل طوائف من أهل الكلام والتصوف وغيرهم وإن كان هؤلاء يثبتون معاد الأبدان أيضا أما بالسمع وأما بالعقل
فالمقصود أن العقل عندهم قد يعلم به أما معاد الأرواح وأما المعاد

مطلقا وأما إنكار الفلاسفة لمعاد الأبدان مما اتفق أهل الملل على إبطاله
الفصل الثالث
إن من انتسب إلى الملل منهم من المسلمين واليهود والنصارى هم مضطربون في ما جاءت به الأنبياء في المعاد فالمحققون منهم يعلمون أن حججهم على قدم العالم ونفي معاد الأبدان ضعيفة فيقبلون من الرسل ما جاؤوا به ومنهم قوم واقفة متحيرون لتعارض الأدلة وتكافئها عندهم ومنهم قوم أصروا على التكذيب ثم زعموا أن ما جاءت به الرسل هو أمثال مضروبة لتفهم المعاد الروحاني وهؤلاء إذا حقق عليهم الأمر صرحوا بأن الرسل تكذب لمصلحة العالم وإذا حسنوا العبارة قالوا إنهم يخيلون الحقائق في أمثال خيالية وقالوا إن خاصة النبوة تخييل الحقائق للمخاطبين وإنه لا يمكن خطاب الجمهور إلا بهذا الطريق كما يزعم ذلك الفارابي وأمثاله مع أن الفارابي له في معاد الأرواح ثلاثة أقوال متناقضة تارة يقول لا تعاد وينكر المعاد بالكلية وتارة يقول إنها تعاد وتارة يفرق بين الأنفس العالمة والجاهله فيقر بمعاد العالمة دون الجاهلة ولهم في تفضيل النبي على الفيلسوف أو بالعكس نزاع فعقلاؤهم كابن سينا وأمثاله يفضل النبي على الفيلسوف وأما غلاتهم فيفضلون الفيلسوف ولا ريب أن أوليهم ليس لهم في النبوات كلام محصل وكلامهم في الإلهيات قليل وإنما توسع القوم في الأمور الطبيعية والرياضية ومصنفات معلمهم الأول أرسطو عامتها من ذلك والذي فيها من الإلهيات أمر في غاية القلة مع اضطرابه وتناقضه فإذا عرف ذلك فما جاء به السمع من أمر المعاد قرره عليهم النظار بطريقين أحدهما ببيان الكلام الصريح في إثبات معاد الأبدان وتفاصيل ذلك والثاني إن العلم بأن الرسل جاءت بذلك علم ضروري فإن كل من سمع القرآن والأحاديث المتواترة وتفسير الصحابة والتابعين لذلك علم بالاضطرار إن الرسول ص - أخبر بمعاد الأبدان وإن القدح في ذلك كالقدح في أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت العتيق ونحو ذلك والقرامطة الباطنية

وهم من الفلاسفة أنكروا هذا وهذا وزعموا أن هذه كلها رموز وإشارات إلى علوم باطنة كما يقولون إن الصلاة معرفة أسرارنا والصيام كتمان أسرارنا والحج زيارة شيوخنا المقدسين ونحو ذلك مما هو مذكور في الكتب المؤلفة في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ولهؤلاء القرامطة صنفت رسائل أخوان الصفا وهم الذين يقال لهم الإسماعيلية لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر
قال ابن سينا كان أبي وأخي من أهل دعوتهم ولهذا اشتغلت بالفلسفة وأما الفلاسفة الذين لم يدخلوا في القرامطة المحضة فهم لا ينكرون العبادات والشرائع العملية بل قد يوجبون إتباعها والعمل بها لا سيما من دخل منهم في التصوف أو الكلام لكن منهم من يوجب اتباعها على العامة دون الخاصة أو يوجبها من غير الوجه الذي أوجبها الرسول كما يجوزون أن يكون بعد محمد ص - من يأتي بشريعة أخرى ويقولون أن أحدهم يخاطبه الله سبحانه وتعالى كما خاطب موسى بن عمران ويعرج به كما عرج بالنبي ص - وأمثال هذه المقالات التي كثرت لما ظهرت الفلسفة التي أفسدت طوائف من أهل التصوف والكلام
الفصل الرابع
إنه إذا ثبتت الرسالة ثبت ما أخبر به الرسول مما ينكره بعض أهل البدع كعذاب القبر وسؤال منكر ونكير وكالصراط والشفاعة والحوض ونحو ذلك مما استفاضت به الأحاديث الصحيحة عن النبي ص - وقد يستدل عليه بدلائل من القرآن أيضا لكن ليس التصريح به في القرآن والتصريح بالجنة والنار وقيام القيامة وحشر الخلق ولهذا لم ينكر القيامة ومعاد الأبدان أحد من أهل القبلة وأنكر هذه الأمور التي جاءت بها الأحاديث المستفيضة بل المتواترة عند علماء أهل الحديث طوائف من أهل البدع إما من المعتزلة وإما من الخوارج وإما من غيرها
الفصل الخامس
إن هذا المصنف وأمثاله إنما يذكرون الإيمان بالسمعيات على طريق

الإجمال وأما العلم بتفصيل ذلك فإنما يعرفه من عرف الأحاديث الصحيحة في هذا الباب وما جاء في ذلك من آيات القرآن الكريم وتفسيرها الثابت عن الصحابة والتابعين ونحوهم
الفصل السادس
أنه إذا علم أن محمدا ص - رسول الله وأن الله تعالى مصدقه في قوله إني رسول الله إليكم فالرسول هو المخبر عن المرسل بما أمره أن يخبر به علم بذلك أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى إذ الكاذب فيما يخبر به ليس برسول في ذلك كما أن الذي لم يرسل بشيء قط هو كاذب في كل ما يخبر به عمن زعم أنه أرسله بالأمر كما قال ص - إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله وكما يعلم أنه صادق في قوله إني رسول الله إليكم يعلم أنه صادق في قوله إن الله تعالى يقول لكم كذا ويأمركم بكذا فتكذيبه في هذا الخبر المعين كتكذيبه في الأخبار بأصل الرسالة والطرق التي بها يعلم صدقه في المطلق يعلم بها صدق في المعين وأولى فإن ما دل على الصدق في كل ما يخبر عن الله دل على الصدق في هذا الخبر المعين كالمعجزة وإن المعجزة دلت على صدقه في دعواه ودعواه أني صادق على الله فيما أخبر به عنه لم يدع الصدق عليه في بعض الأمور التي يخبر بها عنه دون بعض بل قال الله فيما أخبر به عنه ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشاء الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور وقال تعالى وإذا تتلى عليهم آيتاتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون وقال تعالى وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري

علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وقال تعالى وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق والرسول الذي يكذب على مرسله مثل الذي يكذب في أصل الرسالة والله تعالى عالم بحقائق الأمور فلا فرق بين إظهار المعجز على يد من يكذب في أصل الرسالة أو يكذب فيما يخبر به عن مرسله
الفصل السابع
إنه إذا ثبت صدقه في كل ما يخبر به عن الله تعالى فمما أخبر به عنه القرآن فإنه قد علم بالاضطرار أنه بلغ القرآن عن الله سبحانه وأخبر ان القرآن كلام الله لا كلامه ومما أخبر به الله في القرآن إن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وأنه أمر أزواج نبيه عليه الصلاة و السلام أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة وإنه امتن على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
ومن المعلوم أن ما يذكر في بيوت أزواج النبي ص - إما القرآن وإما ما يقوله من غير القرآن وذلك هو الحكمة وهو السنة فثبت إن ذلك مما أنزله الله وأمر بذكره وقد أمر الله تعالى بطاعته في القرآن في آيات كثيرة وقال ومن يطع الرسول فقط أطاع الله وقال عز و جل والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وقال سبحانه وتعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فهذا وأمثاله يبين أن الله عز وشأنه أوجب اتباعه فيما يقوله وإن لم يكن من القرآن وأيضا فرسالته اقتضت صدقه فيما يخبر به عن الله تعالى من القرآن وغير القرآن الله فوجب بذلك تصديقه فيما أخبر به وإن لم يكن ذلك من القرآن والله سبحانه أعلم
والحمد لله والصلاة على خاتم رسول الله محمد وآله وصحبه أجمعين

أقسام الكتاب
1 2