كتاب:الاختيارات الفقهية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

كتاب الطهارة
باب المياه
كتاب الاختيارات العلمية في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية
رتبه علي ترتيب الأبواب الفقهية الشيخ الإمام العالم أقضى القضاة مفتى المسلمين علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن عباس البعلي الدمشقي
"قال في الرد الوافر" وجمع في مصنف اختياراته من مسائل الفروع ورتبها على أبواب الفقه مع زيادات من فوائده على المجموع
ولما كان كتاب الاختيارات من أجل ما برحل إليه لا سيما في هذا العصر الجديد فإن النفوس مشتاقة إلى اختيارات شيخ الإسلام وكان شديد المناسبة لهذا المجلد بل خلاصة الفتاوى وزبدتها لهذا ألحقناه به تتميما للفائدة

كتاب الطهارة
باب المياه
الطهارة تارة تكون من الأعيان النجسة وتارة من الأعمال الخبيثة وتارة من الأحداث المانعة فمن الأول: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} المدثر 4 على أحد الأقوال ومن الثاني: قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} التوبة: 108 الآية ومن الثالث قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} المائدة: 6 وقد اختلف في الطهور هل هو بمعنى الطاهر أم لا وهذا النزاع معروف بين المتأخرين من أتباع الأئمة الأربعة
قال كثير من أصحاب مالك وأحمد والشافعي: الطهور متعد والطاهر لازم وقال كثير من أصحاب أبي حنيفة: الطاهر هو الطهور وهو قول الخرقي وفصل الخطاب: أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مُجمل يراد به اللزوم الطاهر يتناول الماء وغيره وكذلك الطهور فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل التراب طهوراً ولكن لفظ الطاهر يقع على جامدات كثيرة: كالثياب والأطعمة وعلى مائعات كثيرة: كالأدهان والألبان وتلك لا يجوز أن يطهر بها فهي طاهرة ليست بطهور
قلت: وذكر ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" عن بعض المالكية المتأخرين معنى ما أشار إليه أبو العباس قال بعض الناس: لا فائدة في النزاع في المسألة قال القاضي أبو يعلى: فائدته أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء لا لاختصاصه بالتطهير عندنا وعندهم تجوز لمشاركته غير الماء في الطهارة
قال أبو العباس: له فائدة أخرى الماء يدفع النجاسة عن نفسه بكونه مطهراً كما دلّ عليه قوله: "الماء طهور لا ينجس بشيء" وغيره ليس بطهور فلا يدفع وعندهم الجميع سواء

وتجوز طهارة الحدث بكل ما يُسمّى ماء وبمعتصر الشجر قاله ابن أبي ليلى والأوزاعي والأصم وابن شعبان وبمتغير بطاهر وهو رواية عن أحمد رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة وبماء حلت به امرأة لطهارة وهو رواية عن أحمد -رحمه الله تعالى- وبمستعمل في رفع حدث وهو رواية اختارها ابن عقيل وأبو البقاء وطوائف من العلماء وذهبت طائفة إلى نجاسته وهو رواية عن أحمد رحمه الله وحمل كلامه على الغدير يغتسل فيه أقل من قلتين من نجاستة الحدث وليست من موارد الظنون بل هي قطعية بلا ريب ولا يستحب غسل الثوب والبدن منه وهو أصح الروايتين عنه وأوَّل القاضي القول بنجاسة الماء بجعله في صفة النجس في معنى الوضوء لا أنه جعله نجساً حقيقة وكلامه في التعليق لا يرتفع عن الأعضاء إلا بعد الإنفصال كما لا يصير مستعملاً إلا بذلك هذا إذا نوى وهو في الماء وإذا نوى قبل الانغماس ففيه الوجهان وأما إذا صب على العضو فهنا ينبغي أن يرتفع الحدث ويكره الغسل لا الوضوء بماء زمزم قاله طائفة من العلماء
ولا ينجس الماء إلا بالتغيير وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل وابن المني وأبو المظفر بن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحابنا وهو مذهب مالك ولو كان تغييره في محل التطهير وقاله بعض أصحابنا وفرقت طائفة من محققي أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بين الجاري والواقف وهو نص الروايتين فلا ينجس الجاري إلا بالتغير سواء كان قليلاً أو كثيراً وحوض الحمام إذا كان فائضاً يجري إليه الماء فإنّه جار في أصح قولي العلماء كما نُص عليه وإذا وَقَعَت نجاسةٌ في ماء كثير هل يقتضي القياس فيه أنّ النجاسة كاختلاط الحلال بالحرام إلى حين يقوم الدليل على تطهيره أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر النجاسة فيه قولان والثاني الصواب
والمائعات كلها حكمها حكم الماء قَلَّت أو كثُرت وهو رواية عن أحمد ومذهب الُّزهري والبخاري وحكي رواية عن مالك وذُكر في "شرح العمدة": أن نجاسة الماء ليست عَينية لأنّه يُطهِّر غيره فنفسه أولى

وفي الثياب المشتبهة بنجس أنه يتحرى ويصلي في واحد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي سواء قلَّت الطاهرة أو كثرت
ذكره ابن عقيل في "فنونه" و "مناظراته"
قلت: ورجحه ابن القيم قال: وهو الرواية الأخرى عن مالك كما يتحرى في القبلة وقال ابن عقيل: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة وإن قل عمل باليقين ونص الإمام أحمد رحمه الله: إذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه ولا إمارة على النجاسة لم يلزم السؤال عنه بل يكره
وإن سئل فهل يلزمه رد الجواب فيه وجهان واستحب بعض الأصحاب وغيرهم السؤال وهو ضعيف وأضعف منه من أوجبهما
قال الأزجي: إن علم المسؤول نجاسته وجب الجواب وإلا فلا وإذا شك في النجاسة هل أصابت الثوب أو البدن فمِن العلماء مَن يأمر بنضحه ويجعل حكم المشكوك فيه النضح كما يقوله مالك ومنهم َ لا يوجبه فإذا احتاط ونضح كان حَسناً كما رُوي في نضح أَنس للحصير الذي قد اسودَّ ونضح عمر ثوبه ونحو ذلك

باب الآنية
"باب الآنية"
يحرم استعمال آنية الذهب والفضة واتخاذها ذكره القاضي في "الخلاف" ويحرم استعمال إناء مفضض إذا كان كثيراً ولا يكره يسيره لحاجة ويكره لغيرها ونص على التفضيل في رواية الجماعة وفي رواية أبي الحارث رأس المكحلة والميل وحلقة المرأة إذا كانت من فضة فهي من الآنية
وقال في رواية أحمد بن نصر وجعفر بن محمد: لا بَأس بما يضببه وأكره الحلقة وقال في رواية مهنا وأبي منصور لا بأس في إناء مفضض إذا لم يقع فمّه على الفضة وقال القاضي: قد فرق بين الضبة والحلقة ورأس الحلقة
قال أبو العباس: وكلام أحمد رحمه الله لمن تدبره لم يتعرض للحاجة وعدمها وإنّما فَرَّق بين ما يستعمل وبين ما لا يستعمل فأمّا يسير الذهب فلا

يباح بحال نص عليه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث في "النص": إذا خاف عليه أن يسقط هل يجعل له مسمار من ذهب فقال: إنّما رُخص في الأسنان على الضرورة فأمّا المسمار فلا فإذا كان هذا في اللباس ففي الآنية أولى وقد غلطت طائفة من أصحاب أحمد حيث حَكت قولاً بيسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز وأبو بكر إنّما قال ذلك في باب اللباس والتحلي وباب اللباس أوسع ولا يجوز تمويه السقوف بالذهب والفضة ولا يجوز لطخ اللجام والسرج بالفضة نص عليه وعنه ما يدل على إباحته وهو مذهب أبي حنيفة وحيث أبيحت الضبة يراد من إباحتها أن تحتاج إلى تلك الصورة لا إلى كونها من ذهب أو فضة فإنّ هذه ضرورة وهي تبيح المُتَعَذر ويباح الاكتحال بميل الذهب والفضة لأنها حاجة ويباحان لها قاله أبو المعالي

باب آداب التخلي
"باب آداب التخلي"
يحرم استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي مطلقاً سواء في الفضاء والبنيان وهو رواية اختارها أبو بكر عبد العزيز ولا يكفي انحرافه عن الجهة
قلت: وهو ظاهر كلام جده ويحمد الله في نفسه إذا عطس بخلاء وكذلك في صلاته قال أبو داود للإمام أحمد: أَيُحرك بها لسانه قال: نعم
قال القاضي: ونقل بكر بن محمد: يحرك به شفتيه في الخلاء
قال القاضي: بحيث لا يسمعه وقال: ما لا يسمعه لا يكون كلاماً فيجري مجرى الذكر في نفسه ولا تبطل الصلاة في الرواية عنه وفاقاً للقاضي وجعلها أولى الروايتين
قال أبو العباس: أمّا مسألة الصلاة فتقارب مسألة الخلاء فإنّ الحمد لله ذكٌر لله ونص أحمد أنه يقوله في الصلاة بمنزلة أذكار المخافتة لكن لا يجهر به كما يجهر خارج الصلاة ليس أنه لا يسمع نفسه وأما
مسألة الخلاء: فيحتمل أن يكون ما قال القاضي ويحتمل أن يكون

في المسألة روايتان: إحداهما في نفسه بلا لفظ والثانية باللفظ ويكره السلت والنتر ولم يصح الحديث في الأمر والمشي والتنحنح عقيب البول بدعة ويجزي الاستجمار ولو بواحدة في الصفحتين والحشفة وغير ذلك لعموم الأدلة بجواز الاستجمار ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك تقدير ويجزى بعظم وروث
قلت: وما نهى عنه في ظاهر كلامه لحصول المقصود ولأنّه لم ينه عنه لأنه لا ينفي بل لإفساده فإذا قيل: يزول بطعامنا مع التحريم فهذا أولى والأفضل الجمع بينهما ولا يكره الإقتصار على الحجر على الصحيح وليس له البول في المسجد ولو في وعاء وقال في موضع آخر في البول حول البركة في المسجد: هذا يشبه البول في قارورة في المسجد ومنهم مَن نهى عنه ومنهم مَن يُرخص فيه للحاجة فأمّا اتخاذه َمبالاً فلا ولا يجوز أن يذبح في المسجد ضحايا ولا غيرها وليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقاً فكيف إذا اتخذه الكافر طريقاً ويُحرم منع المحتاج إلى الطهارة ولو وقفت على طائفة معينة في رباط ولو في ملكه لأنّها بموجب الشرع والعرف مبذولة للمحتاج ولو قدرت أن لواقف صرح بالمنع فإنّما يسوغ مع الاستغناء وإلا فيجب بذل المنافع المحصنة للمحتاج كسكنى داره والانتفاع بما حوته ولا أجرة لذلك وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد ويُمنع أهل الذمة من دخول بيت الخلاء إن حصل منهم تضييق أو فساد ماء أو تحبيس وإن لم يكن بهم ضرر ولهم ما يستغنون به فليس لهم مزاحمتهم

باب السواك
"باب السواك وغيره"
يطلق على الفعل ما يتسوك به وهو مُذكَر قال الليث: وتؤنثه العرب أيضاً وغلطه الأزهري في ذلك وتبعه ابن سيده في "المحكم" وهو في جميع الأوقات مستحب والأصح ولو للصائم بعد الزوال وهو رواية وقاله مالك وغيره والأفضل بيده اليسرى

وقال أبو العباس: ما علمت إماماً خالف فيه والسواك ما علمت أحداً كرهه في المسجد والآثار تدل عليه ويكره ترك شعره في المسجد وإن لم يكن نجساً ويفعل الأصلح كل بلد بما يناسبه في العمل والأفضل قميص من سراويل لا رداء وإزار ولو مع القميص وهو أحد قولي العلماء ويحرم حلق اللحية ويجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة وينبغي إذا راهق البلوغ أن يختتن كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ إلا وهو مختون

باب صفة الوضوء
"باب صفة الوضوء"
لم يرد الوضوء بمعنى غسل اليد إلا في لغة اليهود فإنّه روي أن سليمان الفارسي قال: إنّا نَجده في التوراة وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من بركة الطعام الوضوء قبله وبعده" وهو من خصائص هذه الأمة كما جاءت الأحاديث الصحيحة أنهم يبعثون يوم القيامة وحديث ابن ماجه: "وضوء الأنبياء قبلي" ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الاحتجاج بمثله وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعاً ولم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء ويجب الوضوء بالحدث ذكره ابن عقيل وغيره وفي "الانتصار": بإرادة الصلاة نزاع لفظي والراجح أنه لا يكره الوضوء في المسجد وهو قول الجمهور إلا أن يحصل معه بصاق أو مخاط والأفضل بثلاث غرفات المضمضة والاستنشاق يجمعها بغرفة واحدة وتجب النية لطهارة الحدث لا الخبث وهو مذهب جمهور العلماء ولا يجب نطقه بها سراً باتفاق الأئمة الأربعة وشذ بعض المتأخرين فأوجب النطق بها وهو خطأ مخالف للإجماع وقولين في مذهب أحمد وغيره في استحباب النطق بها والأقوى عدمه واتفق الأئمة على أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكرارها وينبغي تأديب مَنْ اعتاده وكذا بقية العبادات لا يستحب النطق بها إلا الإحرام وغيره
قال أبو داود لأحمد: يقول قبل الإحرام شيئاً والجهر بلفظها منهى عنه

عند الشافعي وسائر أئمة المسلمين وفاعله مسيء وإنْ اعتقده ديناً خرج عن إجماع المسلمين ويجب نهيه ويعزل عن الإمامة إن لم يتب ويجوز مسح بعض الرأس للعذر
قاله القاضي في "التعليق" ويمسح معه العمامة ويكون كالجبيرة فلا توقيت وإن لم يكن عذر وجب مسح جميعه وهو مذهب أحمد الصحيح عنه وما يفعله بعض الناس من مسح شعره أو بعض رأسه بل شعره ثلاث مرات خطأ مخالف للسنة المجمع عليها ولا يسن تكرار مسح جميعه وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة ولا يُمسح العنق وهو قول جمهور العلماء ولا أخذه ماء جديداً للاذنين وهو أصح الروايتين عن أحمد وهو قول أبي حنيفة وغيره وإن مُنع يسير وسخ الظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة وهو وجه لأصحابنا ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان: كدم وعجين ولا يستحب إطالة الغرة وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد والوضوء إن كان مستحباً له أن يقتصر على البعض لوضوء ابن عمر لنومه جنباً

باب المسح على الخفين
"باب المسح على الخفين"
قال أبو العباس: وخفي أصله على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة وطائفة من أهل المدينة وأهل البيت وصنّف الإمام أحمد كتاباً كبيراً في "الأشربة في تحريم المسكر" ولم يذكر فيه خلافاً عن الصحابة فقيل له في ذلك فقال: هذا صح فيه الخلاف عن الصحابة بخلاف المسكر ومالك مع سعة علمه وعلو قدره أنكره في رواية وأصحابه خالفوه في ذلك
قلت: وحكى ابن أبي شيبة إنكاره عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وضعف الرواية عن الصحابة بإنكاره غير واحد والله أعلم والذين خُفي عليهم ظنوا معارضة آية المائدة للمسح لأنّه أمر بغسل الرجلين فيها واختلف في الآية مع المسح على الخفين فقالت طائفة: المسح على الخفين ناسخ للآية قاله الخطابي قال: وفيه دلالة على أنهم كانوا يروُن نسخ القرآن بالسنة

قال الطبري: مُخصص وهو قول طائفة: هو أمر زائد على ما في الكتاب وطائفة: بيان لما في الكتاب ومال إليه أبو العباس وجميع ما يدعى من السنة أنه ناسخ للقرآن غلط أما أحاديث المسح فهي تبين المراد بالقرآن إذ ليس فيه أن لابس الخف يجب عليه غسل الرجلين وإنّما فيه أنّ مَن قام إلى الصلاة يَغسل وهذا عام لكل قائم إلى الصلاة لكن ليس عاماً لأحواله بل هو مطلق في ذلك مسكوت عنه
قال أبو عمر بن عبد البر معاذ الله أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله بل يبين مراده به وطائفة قالت: كالشافعي وابن القصّار ومال إليه أبو العباس أيضاً: أن الآية قرئت بالخَفْض والنَّصب فيُحمَل النصب على غسل الرجلين والخفض على مسح الخفين فيكون القرآن كآيتين وهل المسح أفضل أم غسل الرجلين أم هما سواء ثلاث روايات عن أحمد والأفضل في حق كل أحد بحسب قدمه فللابس الخف أن يمسح عليه ولا ينزع خفيه اقتداء به صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولمن قدماه مكشوفتان الغسل ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه وكان صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين ويمسح إذا كان لابس الخفين
ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهيْن حكاه ابن تميم وغيره وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقياً والمشي فيه ممكن وهو قديم الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء وعلى القدم ونعلها التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل كما جاءت به الآثار والاكتفاء بأكثر القدم هنا والظاهر منها غسلاً ومسحاً أولى من مسح بعض الخف ولهذا لا يتوقت
وذكر في موضع آخر أن الرِّجل لها ثلاث أحوال الكشف له الغسل وهو أعلى المراتب والستر المسح وحالة متوسطة وهي في النعل فلا هي بارزة فيجب الغسل فأعطيت حالة متوسطة وهو الرش وحيث أطلق عليها لفظ المسح في هذا الحال فالمراد به الرش وقد ورد الرش على النعلين والمسح عليها في "المسند" من حديث أوس ورواه ابن أوس ورواه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس ومنصوص أحمد المسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين فإذا أجاز عليهما فالزربول الذي لا يثبت إلا بسير يشده به متصلاً ومنفصلاً عنه أولى بالمسح عليه من الجوربين وما لبسه من فرو أو قطن وغيرهما وثبت بشده بخيط متصل أو منفصل مسح عليه وأما اشتراط الثبات بنفسه

فلا أصل له في كلام أحمد وإنّما المنصوص عنه ما ذكرناه وعلى القول باعتبار ذلك فالمراد به ما ثبت في الساق ولم يسترسل عند المشي ولا يعتبر موالاة المشي فيه كما ذكره أبو عبد الله بن تيمية ويجوز على العمامة الصماء وهي كالقلانس والمحكي عن أحمد الكراهة والأقرب أنها كراهة السلف لغير المحنكة على الحاجة إلى ذلك لجهاد أو غيره والعمائم المكلبة بالكلاب تشبه المحنكة من بعض الوجوه فإنّه يمسكها كما تمسك الحنك العمامة ومَنْ غسل إحدى رجليه ثم أدخلها الخف قبل غسل الأخرى فإنّه يجوز المسح عليها من غير اشتراط خُلع ولبسه قبل إكمال الطهارةكلبسه بعدها وكذا لبسها قبل كمالها وهو إحدى الروايتين وهو مذهب أبي حنيفة ولو غسل الرجلين في الخفين بعد أن لبسها محدثاً جاز المسح وهو مذهب أبي حنيفة وقول مخرج في مذهب أحمد
قلت: وهو رواية في "المنهج" ولا تتوقت مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين وعليه يحمل قصة عقبة بن عامر وهو نص مذهب مالك وغيره ممَن لا يرى التوقيت ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه وهو مذهب الحسن البصري كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور وإذا حل الجبيرة فهل تنتقض طهارته كالخف على قول مَن يقول بالنقض أو لا تنتقض كحلق الرأس الذي ينبغي أن لا تنتقض الطهارة بناء على أنّها طهارة أصل لوجوبها في الطهارتين وعدم توقيتها وأن الجبيرة بمنزلة باقي البشرة إلا أن الفرض استتر بما يمنع وصول الماء إليه فانتقل الفرض إلى الحائل في الطهارتين كما ينتقل الوضوء إلى منبت الشعر في الوجه والرأس للمشقة لا للشعر وهذا قوي على قول مَن لا يشترط الطهارة لشدها فأمّا مَنْ اشترط الطهارة لشدها فألحقها الحوائل البنيلية فتنتقض الطهارة بزوالها كالعمامة والخف ويتوجه أن تنبني هذه على الروايتين في اشتراط الطهارة
قلت: البدل عندنا في حل الجبيرة إن كان بعد البرء وإلا فكالخف إذا خلعه وإن كان قبله فوجهان أصحهما كذلك والله سبحانه وتعالى أعلم

باب ما ظن ناقضا وليس بناقض
"باب ماظن ناقضاً وليس بناقض"
ماظن ناقضاً وليس بناقض والأحداث اللازمة: كدم الاستحاضة وسلس البول لا تنقض الوضوء مالم يوجد المعتاد وهو مذهب مالك والدم والقيء وغيرهما من النجاسات الخارجة من غير المخرج المعتاد: لا تنقض الوضوء ولو كثرت وهو مذهب مالك والشافعي
قلت: اختاره الأجرمي في غير القيء والنوم: لا ينقض مطلقاً إن ظن بقاء طهارته وهو أخص من رواية حكيت عن أحمد: أن النوم لا ينقض بحال ويستحب الوضوء من أكل لحم الإبل وأمّا اللحم الخبيث المباح للضرورة: كلحم السباع فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي فلا يتعدى إلى غيره أو معقول المعنى فيعطى حكمه بل هو أبلغ منه ويستحب الوضوء عقيب الذنب ومن مس الذكر إذا تحركت الشهوة بمسه وتردد فيما إذا لم تتحرك ومال أبو العباس أخيراً إلى استحباب الوضوء دون الوجوب من مس النساء والأمرد إذا كان لشهوة
قال: إذا مس المرأة لغير شهوة فهذا مما علم بالضرورة أن الشارع لم يوجب منه وضوء ولا يستحب الوضوء منه
قال أبو العباس في قديم خطه: خطي لي أن الردة تنقض الوضوء لأن العبادة من شرط صحتها دوام شرطها استصحاباً في سائر الأوقات وإذا كان كذلك فالنية من شرائط الطهارة على أصلنا والكافر ليس من أهلها وهو مذهب أحمد ولا يفتح المصحف للفأل قاله طائفة من العلماء خلافاً لأبي عبد الله بن بطة ويجب احترام القرآن حيث كتب وتحرم كتابته حيث يهان ببول حيوان أو جلوس عليه إجماعاً والناس إذا اعتادوا القيام وإن لم يقيم لأحدهم أفضى إلى مفسدة فالقيام دفعاً لها خير من تركه

وينبغي للإنسان أن يسعى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعادتهم واتباع هديهم والقيام بكتاب الله أولى والدراهم المكتوبة عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يجوز للمحدث لمسها وإذا كانت معه في منديل أو خريطة وشق إمساكها جاز أن يدخل بها الخلاء

باب الغسل
"باب الغسل" إذا وجب الغسل بخروج المني فقياسه وجوبه بخروج الحيض ويجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره وهو بعض من بعض مطلقاً بطريق الأولى ولو اغتسل الكافر بسبب يوجبه ثم أسلم لا يلزمه إعادته إن اعتقد وجوبه بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم ويكره الذكر للجنب لا للحائض ولا يستحب الغسل لدخول مكة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار ولا لطواف الوداع ولو قلنا باستحبابه لدخول مكة كان نوع عبث للطواف لا معنى له وفي كلام أحمد ما ظاهره وجوب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم وظاهر كلام أبي العباس: إذا أحدث أعاده لمبيته على الطهارة وظاهر كلام أصحابنا: لا يعيده
لتعليلهم بخفة الحدث أو بالنشاط ويحرم على الجنب اللبث في المسجد إلا إذا توضأ ولا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب إلا إذا توضأ وإذا نوى الجنب الحدثين الأصغر والأكبر ارتفعا قاله الأزجي ولا يستحب تكرار الغسل على بدنه وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد ويكره الاغتسال في مستحم أو ماء: عرياناً وعليه أكثر النصوص ونهيه عليه السلام عن الاغتسال في الماء بعد البول فهذا إن صح فهو كنهيه عن البول في المستحم

ويجوز التطهير في الحياض التي في الحمامات سواء كانت فائضة أو لم تكن وسواء كان الأنبوب يصب فيها أو لم يكن وسواء كان نائتاً أو لم يكن ومن اعتقد غسله من الحوض الفائض مسطراً أو ديناً فهو مبتدع مخالف للشريعة مستحق التعزير الذي يردعه وأمثاله أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ولا يجب غسل باطن الفرج من حيض أو جنابة وهو اصح القولين في مذهب أحمد
قال أبو العباس في تقسيمه للحمام بعد ذكر مَن ذمّه ومَن مدحه من السلف فصلاً للنزاع: الأقسام أربعة: يحتاج إليها ولا محظور فلا ريب في جوازه ولا محظور ولا حاجة فلا ريب في جواز بنائها فقد بنيت الحمامات في الحجاز والعراق على عهد علي -رضي الله عنه- وأقروها وأحمد لم يقل ذلك حرام ولكن كره ذلك لاشتماله غالباً على مباح ومحظور وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى لله وأرعى لحدوده من أن يكثر فيها المحظور فلم يكن مكروهاً إذ ذاك للحاجة ولا محظور غالباً فالحاجات: منها ما هو واجب: كغسل الجنابة والحيض والنفاس ومنها ما هو مُؤكد قد نوزع في وجوبه: كغسل الجمعة والغسل في البلاد الباردة ولا يمكن إلا في حمام وإن اغتسل من غيره خيف عليه التلف ولا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة عليه بالماء في الحمام وهل يبقى مكروهاً عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبة هذا مَحل تردد فإذا تبين ذلك فقد يقال: بناء الحمام واجب حيث يحتاج إليه لأداء الواجب العام ّ إذا اشتمل على محظور مع إمكان الاستغناء كما في حمامات الحجاز في الأزمان المتأخرة فهذا محل نص أحمد وبحث ابن عمر وقد يقال عنه: إنّما يكره بناؤها ابتداء فأمّا إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها لما في ذلك من الفساد وكلام أحمد إنّما هو في البناء لا في الإبقاء والاستدامة أقوى من الابتداء وإذا انتفت الإباحة: كحرارة البلد وكذا إذا كان في البلد حمامات تكفيهم كره الأحداث
ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع وإلا ظهر أن الصاع خمسة أرطال وثلث عراقية سواء صاع الطعام والماء وهو قول جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة

وذهبت طائفة من العلماء كابن قتيبة والقاضي أبي يعلى في "تعليقه" وأبي البركات: أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الماء ثمانية أرطال عراقية والوضوء ربع ذلك

باب التيمم
"باب التيمم"
ويجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض إذ لم يجد تراباً وهو رواية ويلزمه قبول الماء فرضاً وكذا ثمنه إذا كان له ماء يوفيه ولا يكره لعادمه وطء زوجته ومن أبيح له التيمم فله أن يصلي به أول الوقت ولو علم وجوده آخر الوقت وفيه أفضلية وقال غير واحد من العلماء: ومسح الجرح بالماء أولى من مسح الجبيرة وهو خير من التيمم ونقله الميموني عن أحمد ويجوز التيمم لمن يصلي التطوع بالليل وإن كان في البلد ولا يؤخر ورده إلى النهار ويجوز لخوف فوات صلاة الجنازة وهو رواية عن أحمد وأسحاق وألُحِقَ به مَن خاف فوات العيد وقال أبو بكر عبد العزيز والأوزاعي: بل لمن خاف فوات الجمعة ممن انتقض وضوءه وهو في المسجد ولا يتيمم للنجاسة على بدنه وهو قول الثلاثة خلافاً لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى ويجب بذل الماء للمضطر المعصوم ويعدل إلى التيمم كما قاله جمهور العلماء ومَن استيقظ آخر وقت صلاة وهو جنب وخاف إن اغتسل خرج الوقت اغتسل وصلى ولو خرج الوقت وكذا من نسيها بخلاف من استيقظ أول الوقت فليس له أن يفوت الصلاة بل يتيمم ويصلي ومَن أمكنه الذهاب إلى الحمام لكن لا يمكنه الخروج منه إلا بعد خروج الوقت: كالغلام والمرأة التي معها أولادها ولا يمكنها الخروج حتى تغسلهم ونحو ذلك فالأظهر يتيمم ويصلي خارج الحمام لأن الصلاة في الحمام وبعد الوقت منهى عنها وتصلي المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام

ولا تقدر على الاغتسال في البيت وكل مَن صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه وسواء كان العذر نادراً أو معتاداً قاله أكثر العلماء وصفة التيمم أن يضرب بيديه الأرض يمسح بهما وجهه وكفيه لحديث عمّار بن ياسر الذي في "الصحيح" والجريح إذا كان محدثاً حدثاً أصغر فلا يلزمه مراعاة الترتيب وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره فيصح أنْ يتيمم بعد كمال الوضوء بل هذا هو السنة والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة ولا يستحب حمل التراب معه للتيمم قاله طائفة من العلماء خلافاً لما نقل عن أحمد ومَن عدم الماء والتراب يتوجه أن يفعل ما يشاء من صلاة فرض أو نفل وزيادة قراءة على ما يجزء وفي "الفتاوى المصرية" على أصح القولين وهو قول الجمهور وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة
قلت: والذي ذكره جده وغيره: أن من عدم الماء والتراب لا ينتفل ولا يزيد في القراءة على ما يجزئ والله أعلم
والتيمم يرفع الحدث وهو مذهب أبي حنيفة ورواية أحمد واختارها أبو بكر محمد الجوزي
وفي "الفتاوى المصرية": التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى: كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو أعدل الأقوال ولو بذل ماء الأولى من حي وميت فالميت أولى ولو كان الحي عليه نجاسة وهو مذهب الشافعي واختيار أبي البركات
قال أبو العباس: وهذه المسألة في الماء المشترك أيضاً وهو ظاهر ما نقل عن أحمد لأنه أولى من التشقيص وإذا كان على وضوء وهو حاقن يحدث ثم يتيمم إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاته بالوضوء وهو حاقن

باب إزالة النجاسة
"باب إزالة النجاسة" واختلاف كلام أبي العباس في نجاسة الكلب ولكن الذي نقل عنه أخيراً أن مذهبه نجاسة غير شعره وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره أبو بكر عبد العزيز والمسك وجلدته طاهران عند جماهير العلماء كما دلّت

لا تخليلها فعموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تحل سداً للذريعة ويحتمل أن تحل وإذا انقلبت بفعل الله تعالى فالقياس فيها مثل أن يكون هناك ملح فيقع فيها من غير فعل أحد فينبغي على الطريقة المشهورة أن تَحل وعلى طريقة مَن علل النجاسة بإلقاء شيء لا تحل فإنّ القاضي ذكر في خمر النبيذ: أنها على الطريقة لا تحل لما فيها مَن الماء وأن كلام الإمام أحمد يقتضي حِلها
أما تخليل الذمي الخمر بمجرد إمساكها فينبغي جوازها على معنى كلام أحمد فإنّه علل المنع بأنه لا ينبغي لمسلم أن يكون في بيته الخمر وهذا ليس بمسلم ولأن الذمي لا يُمنع من إمساكها وعلل القول بأن النجاسة لا تَطْهُر بالاستحالة فيعفى من ذلك عمّا يشق الاحتراز عنه كالدخان والغُبار المستحيل من النجاسة كما يُعفى عمّا يشق الاحتراز عنه من طين الشوارع وغبارها وإنْ قيل: أنّه نجس فإنّه يعفى عنه على أصح القولين ومَنْ قال: أنّه نجس ولم يَعفُ عما يَشُق الاحتراز عنه فقوله أضعف الأقوال ولو كان المانع غير الماء كثيراً فزال تغيره بنفسه توقف أبو العباس في طهارته وتُطهر الأرض النجسة بالشمس والريح إذا لم يبق أثر النجاسة وهو مذهب أبي حنيفة لكن لا يجوز التيمم عليها بل تجوز الصلاة عليها بعد ذلك ولو لم تغسل ويَطْهر غيرها بالشمس والريح أيضاً وهو قول في مذهب أحمد ونص عليه أحمد في حبل الغسال وتكفي غلبة الظن بإزالة نجاسة المذي أو غيره وهو قول في مذهب أحمد ورواية عنه في المذي ونقل عن أحمد في جوارح الطير إذا أكلت الجيف فلا يعجبني عرقها فدلَّ على أنه كرهه لأكلها فقط أولى ولا فرق في الكراهة بين جَوارح الطير وغيرها وسواء كان يأكل الجيف أم لا وإذا شك في الروثة هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو لا فيه وجهان في مذهب أحمد مبنيان على أن الأصل في الأرواث الطهارة إلا ما استثنى وهو الصواب أو النجاسة إلا ما استثنى
قلت: والوجهان يمكن أن يكون أصلهما روايتين: إحداهما: قال عبد الله: أن الأبوال كلها نجسة إلا ما أكل لحمه

والثانية: قال أحمد في رواية محمد بن أبي الحارث في رجل وطئ على روث لا يدري هل هو روث حمار أو برذون فرخص فيه إذ لم يعرفه وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه بل القول بنجاسته قول مُحْدَث لا سلف له من الصحابة وروث دود القز طاهر عند أكثر العلماء ودود الجروح ومني الآدمي طاهر وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي وبول الهرة وما دونها في الخلقة طاهر يعني أن جنسه طاهر وقد يعرض له ما يكون نجس العين: كالدود المتولد من العذرة فإنه نجس ذكره القاضي وتتخرج طهارته بناء على أن الاستحالة إذا كانت بفعل الله تعالى طهرت ولا بد أن يلحظ طهارة ظاهرة من العذرة بأن يغمس في ماء ونحوه إلى أن لا يكون على بدنه شيء منها ويَطْهُر جلد الميتة الطاهرة حال الحياة بالدباغ وهو رواية عن أحمد أيضاً ولا يجب غسل الثوب والبدن من المذي والقيح والصديد ولم يقم دليل على نجاسته وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته والأقوى في المذي: أنه يجزئ فيه النضح وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويد الصبي إذا أدخلها في الإناء فإنّه يكره استعمال الماء الذي فيه وكذلك تكره الصلاة في ثوبه وقد سئل أحمد رحمه الله تعالى في رواية الأثرم عن الصلاة في ثوب الصبي فكرهه وقرن الميتة وعظمها وظهرها وما هو من جنسه: كالحافر ونحوه طاهر وقاله غير واحد من العلماء
ويجوز الانتفاع بالنجاسات وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره وهو قول الشافعي وأومأ إليه وأحمد في رواية ابن منصور ويعفى عن يسير النجاسة حتى بعر فأرة ونحوها في الأطعمة وغيرها وهو قول في مذهب أحمد ولو تحققت نجاسة طين الشارع عفى عن يسيره لمشقة التحرز عنه ذكره أصحابنا وما تطاير من غبار السرجين ونحوه ولم يمكن التحرز عنه عفى عنه وإذا قلنا يعفى عن يسير النبيذ المختلف فيه لأجل الخلاف فيه فالخلاف في الكلب أظهر وأقوى فعلى إحدى الروايتين يعفى عن يسير نجاسته وإذا أكلت الهرة فأرة ونحوها فإذا طال الفصل طهر فمها بريقها لأجل الحاجة وهذا أقوى الأقوال واختاره طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وكذلك أفواه الأطفال والبهائم والله أعلم

باب الحيض
"باب الحيض لله"
ويحرم وطء الحائض فإنْ وطئ في الفرج فعليه دينار كفارة ويعتبر أن يكون مضروباً وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج ولم ينزجر فرِّق بينهما كما قلنا فيما إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر
ويجوز للحائض الطواف عند الضرورة ولا فدية عليها وهو خلاف ما يقوله أبو حنيفة من أنه يصح منها مع لزوم الفدية ولا يأمرها بالإقدام عليه وأحمد رحمه الله تعالى يقول ذلك في رواية إلا أنهما لا يقيدانه بحال الضرورة وإن طافت مع عدم الضرورة فمقتضى توجيه هذا القول يجب الدم عليها
ويجوز للحائض قراءة القرآن بخلاف الجنب وهو مذهب مالك وحكي رواية عن أحمد وإن ظنت نسيانه وجب وإذا انقطع دمها فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إن كانت قادرة على الاغتسال وإلا تيممت وهو مذهب أحمد والشافعي ولا يتقدر أقل الحيض ولا أكثر بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض وإن نقص عن يوم أو زاد على الخمسة أو السبعة عشر ولا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة ولا لأكثره ولا لأقل الطهر بين الحيضتين والمبتدأة تحسب ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم
والمستحاضة ترد إلى عادتها ثم إلى تمييزها ثمّ إلى غالب عادات النساء كما جاءت في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث فقال: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة بنت أبي حبيش وحديث أم حبيبة وحديث حمنة واختلفت الرواية عنه في تصحيح حديث حمنة وفي رواية عنه: وحديث أم سلمة فكان في حديث

أم حبيبة والصفرة والكدرة بعد الطهر لا يليفت إليها قال أحمد وغيره لقول أم عطية: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً.
ولا حد لأقل النفاس ولا لأكثره ولو زاد على الأربعين أو الستين أو السبعين وأنقطع فهو نفاس ولكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب، والامل قد تحيض وهو مذهب الشافعي وحكاه البيهقي رواية عن أحمد بل حكى أنه رجع إليه.
ويجوز التداوي لحصول الحيض إلا في رمضان لئلا تفطر وقال أبو يعلي الصغير والأحوط أن المرأة لا تستعمل دواء يمنع تفوق المني في مجاري الحبل والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصلاة

*
...
كتاب الصلاة
وقد تنازع الناس في أسم الصلاة هل هو من الأسماء المنقولة عن مسماها في اللغة أو أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة، أو أنها تصرف فيها الشارع تصرف أهل العرف، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة على ثلاثة أقوال.
والتحقيق أن الشارع لم يغيرها ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما تستعمل نظائرها، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فذكر بيتا خاصا فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه، ومن كان قبلنا كانت لهم صلاة ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات.
ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد ، فعلى هذا لا تلزم الصلاة حربيا أسلم في دار الحرب ولا يعلم وجوبها ، والوجهان في كل من ترك واجبا قيل بلوغ الشرع كمن لم يتيمم لعدم الماء لظنه عدم الصحة ، أو لم يزك أو أكل حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة، والأصح لا قضاء ولا إثم إذا لم نقصد اتفاقا للعفو عن الخطأ والنسيان

ومَن عقد عقداً فاسداً مختلفاً فيه باجتهاد أو تقليد واتصل به القبض لم يؤمر برده وإن كان مخالفاً للنص وكذلك النكاح إذا بان له خطأ الاجتهاد أو التقليد وقد انقضى المفسد لم يفارق وإن كان المفسد قائماً فارقها
بقي النظر فيمَن ترك الواجب وفعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه ولكن جهلاً وإعراضاً عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو من سماع إيجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه إعراضاً لا كفراً بالرسالة فإنّ هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي كما ترك الكافر الإسلام فهل يكون حال هذا إذا تاب فأقر بالوجوب والتحريم تصديقاً والتزاماً بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها كالإسلام وأمّا على القول الذي جزمنا بصحته فهذا فيه نظر وقد يقال ليس هذا بأسوأ حالاً من الكافر المعاند والتوبة والإسلام يهدمان ما قبلهما ولا تلزم الصلاة صبياً ولو بلغ عشراً وقاله جمهور العلماء وثواب عبادة الصبي له
قلت: وذكره الشيخ أبو محمد المقدسي في غير موضع والله أعلم
ولا يجب قضاء الصلاة على من زال عقله بمحرم وفي "الفتاوى المصرية": يلزمه بلا نزاع ومَن كفر بترك الصلاة الأصوب أنه يصير مسلماً بفعلها من غير إعادة الشهادتينلأن كفره بالامتناع كإبليس وتارك الزكاة كذلك وفرضها متأخروا الفقهاء
مسألة يمتنع وقوعها: وهي أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع ثلاثاً مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قُتل هل يموت كافراً أو فاسقاً على قولين وهذا الفرض باطل إذ يمتنع أن يعتقد أن الله فرضها ولا يفعلها ويصبر على القتل هذا لا يفعله أحد قط ومَن ترك الصلاة فينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي ولا ينبغي السلام عليه ولا إجابة دعوته والمحافظ على الصلاة أقرب إلى الرحمة ممن لم يصلها ولو فعل ما فعل

ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لغير الجمع وأما المسافر العادم للماء إذا علم أنه يجد الماء بعد الوقت: لا يجوز له التأخير إلى ما بعد الوقت بل يصلي بالتيمم في الوقت بلا نزاع وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا علم بعد الوقت أنه يمكنه أن يصلي بإتمام الركوع والسجود والقراءة: كان الواجب أن يصلي في الوقت بحسب إمكانه
وأمّا قول بعض أصحابنا: لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناس وجمعهما أو مشتغل بشرطها فهذا لم يقله أحد قبله من الأصحاب بل ولا من سائر طوائف المسلمين إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي وهذا لا شك ولا ريب أنه ليس على عمومه وإنّما أراد صوراً معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلاً يستقي به ولا يفرغ إلا بعد الوقت أو أمكن العريان أن يخيط ثوباً ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصورة ومع هذا فالذي قاله في ذلك هو خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وجماهير العلماء وما أظنه يوافقه إلا بعض أصحاب الشافعي ويؤيد ما ذكرناه أيضاً أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري منها ثوباً ولا يصلي إلا بعد الوقت لا يجوز له التأخير بلا نزاع وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد الأخير إذا ضاق الوقت صلى على حسب حاله وكذلك المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها التأخير بل تصلي في الوقت بحسب حالها

باب المواقيت
"باب المواقيت"
بدأ جماعة من أصحابنا كالخرقي و القاضي في بعض كتبه وغيرهما بالظهر ومنهم من بدأ بالفجر كابن أبي موسى وأبي الخطاب والقاضي في موضع وهذا أجود لأن الصلاة الوسطى هي العصر وإنّما تكون الوسطى إذا كان الفجر الأول ومن زعم أن وقت العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء وفي الصيف فقد غلط غلطاً بيناً باتفاق الناس وجمهور العلماء يرون تقدم الصلاة أفضل إلا إذا كان في التأخير مصلحة

راجحة مثل المتيمم يؤخر ليصلي آخر الوقت بوضوء والمنفرد يؤخر حتى يصلي آخر الوقت مع جماعة ونحو ذلك ويعمل بقول المؤذن في دخول الوقت مع إمكان العلم بالوقت وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين وكما شهدت له النصوص خلافاً لبعض أصحابنا ومَنْ دخل عليه الوقت ثم طرأ مانع من جنون أو حيض: لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها ثم يوجد المانع وهو قول مالك وزفر رواه زفر عن أبي حنيفة ومتى زال المانع مِن تكليفه في وقت الصلاة لزمته إن أدرك فيها قدر ركعة وإلا فلا وهو قول الليث وقول الشافعي ومقالة في مذهب أحمد ولا تسقط الصلاة بحج ولا تضعيف في المساجد الثلاثة ولا غير ذلك إجماعاً وتارك الصلاة عمداً لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يُكثر مِن التطوع وكذا الصوم وهو قول طائفة من السلف: كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وداود وأتباعه وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه وأمره عليه السلام المجامع بالقضاء ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه وقال أبو الخطاب في "الانتصار": إذا مات في أثناء الصلاة قال بعض الحنفية: لا يكون عاصياً بالاجماع وقال أبو الخطاب: يحتمل عصيانه لأنّه إنّما يجوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما يجوز له التأخير في قضاء رمضان وقضاء الصلاة والنذر والكفارة وكل ذلك بشرط سلامة العاقبة وإن قلنا لا يعصى وهو الصحيح فلأن ما وجب وجوباً موسعاً لا يعصى من أخره إلى آخر الوقت إذا مات كالمسائل التي ذكرناها
قال أبو العباس: أماّ قضاء الصلاة والنذر والكفارة فعندنا على الفور وقد قيل أنه على التراخي فلا تناظر المسألة وإنّما نظيرها قضاء رمضان فإنّه وقت مُوسع والمذاهب هناك أنه إذا مات بعد استطاعة القضاء أطعم عنه المشهور في الصلاة لا يعصى فيتوجه التخريج فيهما كما اقتضاه كلامه وقال أبو الخطاب اتفق على الإيجاب الموسع في القضاء والحج والكفارة

والزكاة والدين المؤجل وهذا غلط فإنَّ فيه ما هو مضيق وما هو على التراخي ويجب قضاء الفوائت على الفور وهو مذهب أحمد وغيره والنائم ليس عليه أن يفعل الصلاة حال نومه بلا نزاع لكن تنازع العلماء هل وجبت في ذمته بمعنى أنه وجب عليه أن يفعلها إذا استيقظ أو يقال: لم تجب في ذمته لكن انعقد سبب وجوبها على قولين
وجمهور العلماء: على أنها قضاء ومنهم من يقول: هي أداء والنزاعان لفظيان ويشبه هذا النزاع فيمن غلب على ظنّه في الواجب على التراخي أنه يموت في هذا الوقت فإنه يجب تقديمه فلولم يمت ثم فعله فهل يكون أداء كقول الجمهور أو قضاء كقول الباقلاني وغيره: فيه نزاع ولا تأثير لهذا النزاع في الأحكام وإنّما هو نزاع لفظي فقط بل لو اعتقد بقاء الوقت فصلى أداء ثم تبين خروجه أو بالعكس: صحت الصلاة من غير نزاع أعلمه وقال أبو العباس في قديم خطه: قول الباقلاني قياس المذاهب إذ الاعتبار بحالة غلبة الظن لا بما يخالفها وذلك كما قلنا من غير خلاف أعلمه في المذاهب في المعضوب الذي لا يرجى برؤه إذا حج عن نفسه ثم برأ أنه لا يلزمه إعادة الحج فاعتبرنا حالة غلبة الظن ولم نعتبر تبين فساده ولا أعرف بينهما فرقاً

باب الآذان والإقامة
"باب الأذان والإقامة"
والصحيح أنهّما فرض كفاية وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره وقد أطلق طوائف من العلماء أن الأذان سنة ثم مِن هؤلاء مَن يقول: أنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قُوتلوا والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي فإنّ كثيراً من العلماء مَن يطلق القول بالسنة على ما يُذم تاركه ويعاقب تاركه شرعاً وأما من زعم أنه سُنّة لا إثم على تاركه فقد أخطأ وليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة وإذا صلى وحده أداء أو قضاء وأذن وأقام فقد أحسن وإن اكتفى بالإقامة أجزأه وإن كان يقضي صلوات فأَذن أول مرة وأقام لبقية الصلوات كان حَسناً أيضاً وهو أًَفضل من الإمامة وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر أصحابه

وأمّا إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عنده فإنّها وظيفة الإمام الأعظم ولم يُمكن الجمع بينها وبين الأذان فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل ويتخرج أن لا يجزئ الأذان القاعد لغير عذر كأحد الوجهيْن في الخطبة وأولى إذ لم يُنقل عن أحد من السلف الأذان قاعداً لغير عذر وخطب بعضهم قاعداً لغير عذر وأطلق أحمد الكراهة والكراهة المطلقة هل تنصرف إلى التحريم أو التنزيه على وجهيْن
قلت: قال أبو البقاء العبكري في "شرح الهداية": نقل عن أحمد إن أَذّن القاعد يعيد قال القاضي: محمول على نفي الاستحباب وحمله بعضهم على نفي الاعتداد به والله أعلم
وأكثر الروايات عن أحمد المنع من أذان الجنب وتوقف عن الإعادة في بعضها وصرح بعدم الإعادة في بعضها وهو اختيار أكثر الأصحاب وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة واختارها الخرقي وفي إجزاء الأذان من الفاسق روايتان أقواهما عدمه لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا ترتيب الفاسق مؤذناً فلا ينبغي قولاً واحداً والصبي المميز يستخرج أذانه للبالغ روايتان كشهادته وولايته وقال في موضع آخر اختلف الأصحاب في تحقيق موضع الخلاف منهم من يقول: موضع الخلاف سقوط الفرض به والسنة المؤكدة إذا لم يوجد سواه وأمّا صحة أذانه في الجملة وكونه جائزاً إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه ومنهم من أطلق الخلاف لأن أحمد قال: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم إذا كان قد راهق وقال في رواية علي بن سعيد: وقد سئل عن الغلام يُؤذن قبل أن يحتلم فلم يعجبه والأشبه أن الأذان الذي يسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام لا يجوز أن يباشره صبي قولاً ولا يسقط الفرض ولا يعتمد في مواقيت العبادات وأمَّا الأذان الذي يكون سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك فهذا فيه الروايتان والصحيح جوازه ويكره أن يوصل الأذان بما قبله مثل قول بعض المؤذنين قبل الأذان: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الإسراء: 111

ويستحب للمؤذن أن يرفع فمه ووجهه إلى السماء إذا أذن أو أقام ونص عليه أحمد كما يستحب للذي يتشهد عقيب الوضوء أن يرفع رأسه إلى السماء وكما يستحب للمحرم بالصلاة أن يرفع رأسه قليلاً لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له فاستحب الإشارة له كما تستحب الإشارة بالإصبع الواحدة في التشهد والدعاء هذا بخلاف الصلاة والدعاء إذ المستحب فيه خفض الطرف
وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم يستحب له أن يجلس وإن لم يكن صلى تحية المسجد
قال ابن منصور رأيت أبا عبد الله أحمد يخرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس والخروج من المسجد بعد الأذان منهي عنه وهل هو حرام أو مكروه في المسألة وجهان إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت فلا يكره الخروج نص عليه أحمد والإقامة كالنداء بالأذان والسنة أن ينادي للكسوف بالصلاة جامعة لحديث عائشة: خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً الصلاة جامعة ولا ينادي للعيد والاستسقاء وقاله طائفة من أصحابنا ولهذا لا يشرع للجنازة ولا للتراويح على نص أحمد خلافاً للقاضي لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار وقال الآمدي: السنة أن يكون المؤذن من أولاد من جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم الأذان وإن كان من غيرهم جاز
قال أبو العباس: ولم يذكر هذا أكثر أصحابنا وظاهر كلام أحمد لا يقدم بذلك فإنه نص على أن المتنازعين في الأذان لا يقدم أحدهما بكون أبيه هو المؤذن وأما ما سوى التأذين قبل الفجر من تسبيح ونشيد ورفع الصوت بدعاء ونحو ذلك في المآذن فهذا ليس بمسنون عند الأئمة
بل قد ذكر طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: أنَّ هذا من جملة البدع المكروهة ولم يقم دليل شرعي

على استحبابه ولا حدث سبب يقتضي أحداثه حتى يقال أنه مِن البدع اللغوية التي دلت الشريعة على استحبابها وما كان كذلك لم يكن لأحد أن يأمر به ولا ينكر على مَن تركه ولا يعلق استحقاق الرزق به وإنّ شرطه واقف وإذا قيل: أنّ في بعض هذه الأصوات مصلحة راجحة على مفسدتها فتقتصر من ذلك على القدر الذي يحصل به المصحلة دون الزيادة التي هي ضرر بلا مصلحة راجحة ويستحب أن يجيب المؤذن ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة وكذلك يقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة ويجيب مؤذناً ثانياً وأكثر حيث يستحب ذلك كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعاً باتفاق الأئمة بل ذلك بدعة منكرة وقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب التبليغ وراء الإمام بل يكره إلا لحاجة وقد ذهب طائفة من الفقهاء أصحاب مالك وأحمد إلى بطلان صلاة المبلغ إذا لم يحتج إليه وظاهر كلامه هذا أن المجيب يقول مثل ما يقول حتى في الحيعلة وقيل: يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويجوز الأذان للفجر قبل دخول وقتها وقاله جمهور العلماء وليس عند أحمد نص في أول الوقت الذي يجوز فيه التأذين إلا أن اصحابنا قالوا: يجوز بعد نصف الليل كما يجوز بعد نصف الليل الإفاضة من مزدلفة وعلى هذا فينبغي أن يكون الليل الذي يعتبر نصفه أوله غروب الشمس وآخره طلوها كما أن النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس وآخره غروبها لانقسام الزمان ليلاً ونهاراً ولعل قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الحديثين: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل" الذي ينتهي لطلوع الفجر وفي الآخر حين يمضي نصف الليل يعني الليل الذي ينتهي بطلوع الشمس فإنه إذا انتصف الليل الشمسي يكون قد بقي ثلث الليل الفجري تقريباً ولو قيل: تحديد وقت العشاء إلى نصف الليل تارة وإلى ثلثه أخرى من هذا الباب لكان متوجهاً ويستحب إذا أخر

المؤذن في الأذان أن لا يقوم إذ في ذلك تشبه بالسلطان
قال أحمد: لا يقوم أو ما يبدي أو يصير

باب ستر العورة
"باب ستر العورة"
اختلف عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة فقال بعضهم: ليس بعورة وقال بعضهم: عورة وإنّما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة والتحقيق: أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه ولا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصاً وعلى الشريعة عموماً وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول ولا يصح الصلاة في الثوب المغصوب والحرير والمكان المغصوب هذا إذا كانت الصلاة فرضاً وهو أصح الروايتين عن أحمد وإن كانت نفلاً فقال الآمدي: لا تصح رواية واحدة
وقال أبو العباس: أكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب لأنَّ منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه وينبغي أن يكون الذي يجر ثوبه خيلاء في الصلاة على هذا الخلاف لأن المذهب أنه حرام وكذلك مَن لبس ثوباً فيه تصاوير
قلت: لازم ذلك أن كل ثوب يحرم لبسه يجري على هذا الخلاف وقد أشار إليه صاحب "المستوعب" والله أعلم ولو كان المصلي جاهلاً بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه سواء قلنا: أن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة وأمّا المحبوس في مكان غصب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولاً واحداً لأن لبثه فيه ليس بمحرم ومن أصابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد

إلا الثوب النجس وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع الغصب فيه الروايتان وأولى وكذلك كل مكره الكون بالمكان النجس والغصب بحيث يخاف ضرراً من الخروج في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس وذكر ابن الزاغوني في صحة الصلاة في ملك غيره بغير أذنه إذا لم يكن محوطاً عليه وجهين وأن المذهب الصحة يؤيده أنه يدخله ويأكل ثمره فلأن يدخله بلا أكل ولا أذى أولى وأجزى والمقبوض بتعد فاسد من الثياب والعقار أفتى بعض أصحابنا بأنّه كالمغصوب سواء وعلى هذا فإنْ لم يكن المال الذي يلبسه ويسكنه حلالاً في نفسه لم يتعلق به حق الله تعالى ولا لعبادهوإلا لم تصح فيه الصلاة
وكذلك الماء في الطهارة وكذلك المركوب والزاد في الحج وهذا يدخل فيه شيء كثير وفيه نوع مشقة ومَنْ لم يجد إلا ثوباً لطيفاً أرسله على كتفه وعجزه وصلى جالساً ونص عليه أو اتزر به وصلى قائماً وقال القاضي: يستر منكبيه ويصلي جالساً والأول هو الصحيح وقول القاضي ضعيف ولو صلى على راحلة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان أظهرهما البطلانولو غصب مسجداً وغيره بأن حوله عن كونه مسجداً بدعوى ملكه أو وقفه على جهة أخرى لم تصح صلاته فيه وإن أبقاه مسجداً ومنع الناس من الصلاة فيه في صحة صلاته فيه وجهان اختار طائفة من المتأخرين الصحة والأقوى البطلان ولو تلف في يده لم يضمنه عند ابن عقيل وقياس المذهب ضمانه وإن لم يجد العريان ثوباً ولا حشيشاً ولكن وجد طيناً لزمه الاستتار عند ابن عقيل ولا يلزمه عند الآمدي وغيره وهو الصواب المقطوع به وقيل: إنه المنصوص عن أحمد لأن ذلك يتناثر ولا يبقى ولكن يستحب أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إن أمكن وتستحب الصلاة بالنعل وقاله طائفة من العلماء والعبد الآبق لا يصح نفله ويصح فرضه عند ابن عقيل وابن الزاغوني وبطلان فرضه قوي أيضاً كما جاء في الحديث مرفوعاً وينبغي قبول صلاته والله تعالى أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: 31 فعلق الأمر

باسم الزينة لا بستر العورة إيذاناً بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة

باب اجتناب النجاسات ومواضع الصلاة
"باب اجتناب النجاسة ومواضع الصلاة"
وجوب تطهير البدن من الخبث يحتج عليه بأحاديث الاستنجاء وحديث التنزه من البول وبقوله صلى الله عليه وسلم: "حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء ثم صلي فيه" من حديث أسماء وغيرها وبحديث أبي سعيد في دلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما وطهارة البقعة يستدل عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة" وأمره بصب الماء على البول ومَنْ صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً فلا إعادة عليه وقاله طائفة من العلماء لأن مَن كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئاً أو ناسياً لا تبطل العبادة به وذكر القاضي في "المجرد" والأمدي: أن الناسي يعيد رواية واحدة عن أحمد لأنه مفرط وإنّما الروايتان في الجاهل والروايتان منصوصتان عن أحمد في الجاهل بالنجاسة فأمّا الناسي فليس عنه نص فلذلك اختلف الطريقان والنهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم ونحوه عام في كل مسجد عند عامة العلماء وحكى القاضي عياض أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهي عن ذلك إنّما هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة لأنه لا يتناول اسم المقبرة وإنّما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور وهو الصواب والمقبرة كل ما قبر فيه
لا أنه جمع قبر وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه فهذا يعين أن المنع يكون متناً ولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه وذكر الأمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد ولا تصح الصلاة في الحش ولا إليه ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون

الحُش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلى وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره والأول هو المأثور عن السلف والمنصوص عن أحمد والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنسية المصورة فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك ومقتضى كلام الأمدي وأبي الوفاء بن عقيل: أنه لا تصح الصلاة في أرض الخسف وهو قوي ونص أحمد لا يصلى فيها وقال الأمدي: ويكره في الرحى ولا فرق بين علوها وسفلها
قال أبو العباس: ولعل هذا لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله ولا تصح الفريضة في الكعبة بل النافلة وهو ظاهر مذهب أحمد وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فإنها كانت تطوعاً فلا يلحق الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت ركعتين ثم قال: "هذه القبلة" فيشبه -والله أعلم- أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقيب الصلاة خارج البيت بياناً لأن القبلة المأمور بإستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض لأجل أنه صلى التطوع في البيت وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد لهذا الكلام من فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بمعنى ما سمع وإنْ نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحة وأما إن نذر الصلاة مطلقاً اعتبر فيها شروط الفريضة لأن النذر المطلق يحذى به حذو الفرائض

باب استقبال القبلة
"باب استقبال القبلة"
قال الدارقطني وغيره في قول الراوي أنه صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حمار غلط من عمرو بن يحيى المازني وإنّما المعروف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أو البعير والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم في رواية أخرى ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو هذا وقيل في أن تغليطه نظراً وقيل: إنه شاذ لمخالفته رواية الجماعة وقوله

صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" هذا خطاب منه لأهل المدينة ومَن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق وأمّا أهل مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب من مطلع الشمس في الشتاء وذكر طائفة من الأصحاب أن الواجب في استقبال القبلة هواؤها دون بنيانها بدليل المصلي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية فإنّه إنّما يستقبل الهواء لا البناء وبدليل لو انتقضت الكعبة والعياذ بالله فإنّه يكفيه استقبال العرصة
قال أبو العباس: الواجب استقبال البنيان وأمَا العرصة والهواء فليس بكعبة ولا ببناء وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه فإنّما ذلك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة وإن لم تكن مسامتة فإنَّ المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام وأما إذا زال بناء الكعبة فنقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئاً يصلي إليه لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص وكذلك قال الآمدي: إن صلى بإزاء البيت وكان مفتوحاً لاتصح صلاته وإن كان مردوداً صحت وإن كان مفتوحاً وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت لأنه يصلي إلى جزء من البيت فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى بين يديه شيء صحت الصلاة وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح وهذا من كلام الآمدي يدل على أن البناء لو زال لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء وإنّما يعني به والله -أعلم- ما كان شاخصاً كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب ولأنّه علل ذلك بأنّه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت فعلم أن مجرد العرصة غير كاف ويدلّ على هذا ما ذكره الأزرقي في "أخبار مكة": أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل الستور عليها حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير وهذا من ابن عباس وابن الزبير دليل على أن الكعبة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئاً منصوباً شاخصاً وأن العرصة ليست قبلة ولم ينقل أن أحداً من السلف خالف في ذلك ولا أنكره نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بأن يقع ذلك إذا

هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة كما يكتفي المصلي أن يخط خطاً إذا لم يجد سترة فإنّ قواعد إبراهيم كالخط وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أن البناء إذا زال صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم أنه لا يصلي على ظهر الكعبة ومَن قال هذا يفرق بأنه إذا لم يبق هناك شيء شاخص يستقبل بخلاف ما إذا كان هناك قبلة تستقبل ولا يلزم من سقوط الشيء الشاخص إذا كان معدوماً سقوط استقباله إذا كان موجوداً كما فَرّقنا بين حال إمكان نصب شيء وحال تعذره وكما يفرق في سائر الشروط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز فإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنّه يكفي شخوصه ولو أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل
وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان مفتوحاً لكن إذا كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها بل لا بد أن يكون مثل آخرة الرحل لأنها السترة التي قدر بها الشارع السترة المستحبة فلأن يكون تقديرها في الواجب أولى ثم إن كانت السترة التي فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة ونحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت وإن كان هناك لبن وآجر بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت ويتوجه أن يكتفي في ذلك بما يكون سترة في الصلاة لأنه شيء شاخص ولأن حديث ابن عباس وابن الزبير دليل على الاكتفاء بكل ما يكون قبلة وسترة فإنَّ الخشب والستور المعدة عليها لا يتبع في مطلق البيع
قلت: وقد يقال: إنّما اكتفي بما نصبه ابن الزبير وإن لم يتبع في مطلق البيع لأنه حال ضرورة ولا ضرورة بالمصلي إلى الصلاة على ظهر الكعبة أو باطنها إذ يمكنه أن يتوجه إلى جزء منها أو أن يستقبل جميعها والله أعلم وقال ابن حامد بن عقيل في "الواضح" وأبو المعالي: لو صلى إلى الحجر من غرضه المعاينة لم تصح صلاته لأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام وإنما وردت الأحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف دون الاكتفاء به للصلاة

احتياطاً للعبادتين وقال القاضي في "التعليق": يجوز التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة
قال أبو العباس: وهذا قياس المذهب لأنه من البيت بالسنة الثابتة المستفيضة وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض في الحجر فقال: لا يصلي في الحجر الحجر من البيت
قال أبو العباس: والحجر جميعه ليس من البيت وإنّما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة

باب النية
"باب النية"
والنية تتبع العلم فمَن عَلِمَ ما يريد فعله قصده ضرورة ويحرم خروجه لشكه في النية للعلم بأنّه ما دخل إلا بالنية ولو أحرم منفرداً ثم نوى الإمامة صحت صلاته فرضاً ونفلاً وهو رواية عن أحمد اختارها أبو محمد المقدسي وغيره ولو سمّى إماماً أو جنازة فأخطأ صحت صلاته إن كان أفسده خلف مَن حضر وإلا فلا ووجوب مقارنة النية للتكبير قد يُفسر بوقوع التكبير عقيب النية وهذا ممكن لا صعوبة فيه بل عامة الناس إنّما يصلون هكذا وقد يُفسر بانبساط آخر النية على أجزاء التكبير بحيث يكون أولها مع أوله وآخرها مع آخره وهذا لا يصح لأنه يقتضي عزوب كمال النية عن أول الصلاة وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة وقد يُفسر بحضور جميع النية الواجبة وقد يُفسر بجميع النية مع جميع أجزاء التكبير وهذا قد نُوزع في إمكانه فضلاً عن وجوبه ولو قيل بإمكانه فهو متعسر فيسقط بالحرج وأيضاً فما يبطل هذا والذي قبله أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره فيكون قلبه مشغولاً بمعنى التكبير لا بما يشغله عن ذلك من استحضار المنْْوي ولأنَّ النية من الشروط والشرط يتقدم العبادة ويستمر حكمه إلى آخرها

باب تسوية الصفوف
"باب تسوية الصفوف لله"
وظاهر كلام أبي العباس أنه يجب تسوية الصفوف لأنه عليه السلام رأى رجلاً بادياً صدره فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" وقال عليه السلام: "سووا صفوفكم فإنَّ تسويتها مِن تمام الصلاة" متفق عليهما وترجم عليه البخاري بباب: إثم مَن لم يقم الصف
قلت: ومَن ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه لا نفي وجوبه والله أعلم
وإذا قدر المصلي أن يقول: الله أكبر لزما ولا يجزئه غيرها وهو قول مالك وأحمد ولا يُشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة بل يكفيه الإتيان بالحروف وإن لم يسمعها وهو وجه في مذهب أحمد واختاره الكرخي من الحنفية وكذا كل ذكر واجب ويستحب أن يجمع في الاستفتاح بين قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره وبين: وجهت وجهي إلى آخره وهو اختيار أبي يوسف وابن هبيرة ولا يجمع بين لفظي: كبير وكثير بل يقول هذا تارة وهذه تارة وكذا المشروع في القراءات السبع أن يقرأ هذه تارة وهذه تارة لا الجمع بينهما ونظائره كثيرة والأفضل أن يأتي في العبادات الواردة على وجوه متنوعة بكل نوع منها: كالاستفتاحات وأنواع صلاة الخوف وغير ذلك والمفضول قد يكون أفضل لمن انتفاعه به أتم ويستحب التعوذ أول كل قراءة ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحياناً فإنّه المنصوص عن أحمد تعليماً للسنة ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفاً للمأموم ولو كان الإمام متطوعاً تبعه المأموم والسنة أولى ونص عليه أحمد
قلت: وحكي عن أبي العباس التخيير بين الجهر والإسرار وهو مذهب إسحاق بن راهويهوالظاهر أن هذا القول أخذ من قوله: أنه يجهر بها أحياناً وهذا المأخذ ليس بجيد والله أعلم
والبسملة آية مُنْفردة فاصلة بين السور ليست من أول كل سورة لا الفاتحة ولا غيرهما وهذا ظاهر مذهب أحمد وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن

العباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم إذا كان بمكة وأنّه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات ورواه أبو داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ" وهو مناسب للواقع فإنَّ الغالب على أهل مكة كان الجهر بها وأمّا أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون والدارقطني لما دخل مصر وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بالبسملة فجمعها فقيل له: هل فيها شيء صحيح فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف وتكتب البسملة أوائل الكتب كما كتبها سليمان وكتبها النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وإلى قيصر وغيره فتذكر في ابتداء جميع الأفعال وعند دخول المنزل والخروج منه للبركة وهي تَطرد الشيطان وإنّما تستحب إذا ابتدأ فعلاً تبعاً لغيرها لا مستقلة فلم تجعل كالهيللة والحمدلة ونحوهما والفاتحة أفضل سورة في القرآن قال عليه السلام فيها: "أعظم سورة في القرآن" رواه البخاري وذكر معناه ابن شهاب وغيره وآية الكرسي أعظم آي القرآن كما رواه مسلم عنه عليه السلام
وحكي عن أبي العباس أن تفاضل القرآن عنده في نفس الحرف أي ذات الحرف واللفظ بعضه أفضل من بعض وهذا قول بعض أصحابنا ولعل المراد غير آية الكرسي والفاتحة لما تقدم والله أعلم ومعاني القرآن ثلاثة أصناف: توحيد وقصص وأمر ونهي
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص: 1 متضمنة ثلث التوحيد ولا يستحب قراءتها ثلاثاً إلا إذا قُرئت منفردة وقال في موضع آخر السنة إذا قرأ القرآن كله أن يقرأها كما في المصحف وأما إذا قرأها منفردة أو مع بعض القرآن ثلاثاً فإنّها تَعْدِل القرآن وإذا قيل: ثواب قراءتها مرة يعدل ثلث القرآن فمعادلة الشيء للشيء يقتضي تساويهما في القدر لا تماثلهما في الوصف كما في قوله تعالى: { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} المائدة: 95 ولهذا لا يجوز أن يستغني بقراءتها ثلاث مرات عن قراءة سائر القرآن لحاجته إلى الأمر والنهي والقصص كما لا يستغني من ملك نوعاً شريفاً من المال عن غيره ويحسن ترجمة القرآن لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة
قلت: وذكر

غيره هذا المعنى والله أعلم
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات" رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب
المراد بالحرف الكلمة ووقوف القارئ على رؤوس الآيات سنة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك والقراءة القليلة يتفكر أفضل من الكثير بلا تفكر وهو المنصوص عن الصحابة صريحاً ونُقل عن أحمد ما يدل عليه نقل عنه مثنى بن جامع رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام ورجل أقل الأكل فقلت نوافله وكان أكثر فكرة أيّهما أفضل فذكر ما جاء في الفكر "تفكر ساعة خير من قيام ليلة" قال: فرأيت هذا عنده أفضل للفكر وما خالف المصحف وصح سنده صحت الصلاة به وهذا نص الروايتين عن أحمد ومصحف عثمان أحد الحروف السبعة وقاله عامة السلف وجمهور العلماء ويكره أن يقول مع إمامه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الفاتحة: 5 ونحوه وقراءة المأموم خلف الإمام أصول الأقوال فيها ثلاثة طرفان ووسط فأحد الطرفين لا يقرأ بحال الثاني يقرأ بكل حال والثالث: وهو قول أكثر السلف إذا سمع قراءة الإمام أنصت وإذا لم يسمع قرأ بنفسه فإنَّ قراءته أفضل من سكوته والاستماع لقراءة الإمام أفضل من السكوت وعلى هذا فهل القراءة حال مخافتة الإمام واجبة على المأموم أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد أشهرهما أنها مستحبة ولا يقرأ حال تنفس إمامه وإذا سمع همهمة الإمام ولم يفهم قراءته قرأ لنفسه وهو رواية عن أحمد
وأحمد وغيره استحب في صلاة الجهر سكتتين عقيب التكبير للاستفتاح وقبل الركوع لأجل الفصل ولم يستحب أن يسكت سكتة تتسع لقراءة المأموم ولكن بعض أصحابه استحب ذلك والقراءة إذا سمع هل هي محرمة أو مكروهة

وهل تبطل الصلاة إن قرأ على قولين في مذهب أحمد وغيره
أحدهما: القراءة محرمة وتبطل الصلاة بها حكاه ابن حامد والثاني: لا تبطل وهو قول الأكثرين وهو المشهور من مذهب أحمد وهل الأفضل للمأموم قراءة الفاتحة للاختلاف في وجوبها أم غيرها لأنه استمعها مقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل
قلت: فمقتضى هذا أنه إنما يكون غيرها أفضل إذا سمعها وإلا فهي أفضل من غيرها والله أعلم
ولا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام وهو رواية عن أحمد ومِن أصحاب أحمد مَن قال: لا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام رواية واحدة وإنّما الخلاف حال سكوت الإمام والمعروف عند أصحابه أن النزاع في حال الجهل لأنه بالاستماع يحصل مقصود القراءة بخلاف الاستفتاح والتعوذ وما ذكره ابن الجوزي من قراءة المأموم وقت مخافتة الإمام أفضل من استفتاحه: غلط بل قول أحمد وأكثر أصحابه الاستفتاح أولى لأن استماعه بدل عن قراءته والمرأة إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة وإلا فلا تجهر إذا صلت وحدها ونقل ابن أصرم عن أحمد في من جهل ماقرأ به إمامه: يعيد الصلاة قال أبو إسحاق بن شاقلا: لأنه لم يدر هل قرأ إمامه الحمد أم لا ولا مانع من السماع
وقال أبو العباس: بل لتركه الإنصات الواجب وحديث عبد الرحمن بن أبزى: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يتم تكبيره
رواه أبو داود والبخاري في "التاريخ" وقد حكى عن أبي داود الطيالسي: أنه قال حديث باطل
قال أبو العباس: وهذا وإن كان محفوظاً فلعل ابن أبزى صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفاً فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن النخعي: إن أول من نقص التكبير زيادة وكان أميراً في زمن عمر
وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد

ملء السماوات وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد وهو رواية عن أحمد واختارها أبو الخطاب والآجري وأبو البركات
ويُسن رفع اليدين إذا قام المصلي من التشهد الأول إلى الثالثة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو البركات كما يُسن في الركوع والرفع منه ومَن لم يقدر على رفع يديه إلا بزيادة على أذنيه رفعهما لأنه يأتي بالسنة وزيادة لا يمكنه تركها
وتبطل الصلاة بتعمد تكرار الركن الفعلي لا القولي وهو مذهب الشافعي وأحمد ومن لم يحسن القراءة ولا الذكر أو الأخرس لا يحرك لسانه حركة مجردة ولو قيل: أن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب لأنّه عبث ينافي الخشوع وزيادة على غير المشروع وآل النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته ونص عليه أحمد واختاره الشريف أبو جعفر وغيره فمنهم بنو هاشم وفي بني المطلب الروايتان في الزكاة وفي دخول أزواجه في أهل بيته روايتان والمختار الدخول وأفضل أهل بيته علي وفاطمة وحسن وحسين الذين أدار عليهم الكساء وخصهم بالدعاء وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر أن حمزة أفضل من حسن وحسين واختاره بعض العلماء ولا تجوز الصلاة على غير الأنبياء إذا اتخذت شعاراً وهو قول متوسط بين مَن قال بالمنع مطلقاً وهو قول طائفة من أصحابنا ومَن قال بالجواز مطلقاً وهو منصوص أحمد ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد لا التكبير عقيب الصلاة قاله بعض السلف الخلف لا يقرأ آية الكرسي سراً لا جهراً لعدم نقله والتسبيح المأثور أنواع: أحدها: أن يسبح عشراً ويحمد عشراً ويكبر عشراً والثاني: إن يسبح إحدى عشرة ويحمد إحدى عشرة ويكبر إحدى عشرة والثالث: أن يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويكبر ثلاثاً وثلاثين فيكون تسعة وتسعين
والرابع: أن يقول ذلك ويختم المائة بالتوحيد التام: وهو لا إله إلا الله

وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
الخامس: أن يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويكبر أربعاً وثلاثين
السادس: أن يسبح خمساً وعشرين ويحمد خمساً وعشرين ويكبر خمساً وعشرين ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
خمساً وعشرين ولا يستحب الدعاء عقيب الصلوات لغير عارض كالاستسقاء والاستنصار أو تعليم المأموم ولم تستحبه الأئمة الأربعة وما جاء في خبر ثوبان من أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء فقد خان المؤمنين المراد به الدعاء الذي يؤمن عليه كدعاء القنوات فإنَّ المأموم إذا أَمَّن كان داعياً
قال تعالى لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} يونس: 89 وكان أحدهما يدعو والآخر يُؤمن والمأموم إنّما أمّن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم ويسن للداعي رفع يديه والابتداء بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين وصفة المشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ما صحت به الأخبار
قال أبو العباس: الأحاديث التي في الصحاح لم أجد في شيء منها: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ: "و آل إبراهيم" بإسناد ضعيف عن ابن مسعود مرفوعاً ورواه ابن ماجه موقوفاً على ابن مسعود
قلت: بل روى البخاري في "صحيحه" الجمع بينهما والله أعلم
واتفق المسلمون على أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لكن وقع النزاع في أنّه هل هو أفضل من جملتهم قطع طائفة من العلماء بأنه وحده أفضل مِن جملتهم كما أن صديقه وُزِّن بمجموع الأمة فرجح بهم وقد أنكر طائفة من العلماء على محمد بن أبي زيد في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم محمداً وآل محمد لأنه خلاف الوارد في تعليم الصلاة
قلت: وحكى القاضي عياض في "شرح مسلم" المنع قول الأكثرين والله أعلم
ويحرم الاعتداء في الدعاء لقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الأعراف: 55 وقد يكون الاعتداء

في نفس الطلب وقد يكون في نفس المطلوب ولا يكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء لفعله صلى الله عليه وسلم وهو قول مالك والشافعي ولا يستحب وإذا لم يُخْلِص الداعي الدعاء ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطراً أو مظلوماً ويستحب للمصلي أن يدعو قبل السلام بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أن يقوله دُبر كل صلاة: "اللهم أَعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ولا يفرد المنفرد ضمير الدعاء لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين ويكون دعاء الاستخارة قبل السلام وقال ابن الزاغوني: بل بعده والدعاء سبب لجلب المنافع ودفع المضار لأنه عبادة يثاب عليها الداعي ولا يحصل بها جلب المنافع ودفع المضار وهو مذهب أهل السنة والجماعة وإذا ارتاضت نفس العبد على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة: كان أفضل ممن يجاهد نفسه على الطاعات ويكرهها عليها وهو قول الجنيد وجماعة من عباد البصرة والتكبير مشروع في الأماكن العالية وحال ارتفاع العبد وحيث يقصد الإعلان: كالتكبير في الأذان والأعياد وإذا علا شرفاً وإذا رقى الصفا والمروة وإذا ركب دابة والتسبيح في الأماكن المنخفضة كما في "السنن" عن جابر كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام إذ هو كلام الله وحالة الركوع والسجود ذُل وانخفاض من العبد فمِن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين والانتظار أولى

باب ما يبطل الصلاة وما يكره فيها
"باب ما يبطل الصلاة وما يكره فيها"
والنفخ إذا بان منه حرفان هل تبطل الصلاة به أم لا في المسألة عن مالك وأحمد روايتان وظاهر كلام أبي العباس ترجيح عدم الإبطال والسعال والعطاس

والتثاؤب والبكاء والتأوه والأنين الذي يمكن دفعه فهذه الأشياء كالنفخ فالأولى أن لا تبطل فإنّ النفخ أشبه بالكلام من هذه وإلا ظهر أن الصلاة تبطل بالقهقهة إذا كان فيها أصوات عالية تنافي الخشوع الواجب في الصلاة وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض مقصود الصلاة فأبطلت لذلك لا لكونها كلاماً ويقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود والبهيم وهو مذهب أحمد رحمه الله والمشهور عن الأئمة إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة أنها لا تبطل ويسقط الفرض بذلك وقال أبي حامد الغزالي في "الأحياء" وتبعه ابن الجوزي: تبطل وعلى الأول لا يثاب إلا على ما علمه بقلبه فلا يكفر من سيئاته إلا بقدره فالباقي يحتاج إلى تكفير فإذا ترك واجباً استحق العقوبة فإذا كان له تطوع سد مسده فكمل ثوابه وهذا الكلام في المؤمن الذي يقصد العبادة لله بقلبه مع الوسواس
وأما المنافق الذي لا يصلي إلا رياء وسمعة فهذا عمله حابط لا يحصل به ثواب ولا يرتفع به عقاب وابن حامد ونحوه سوّى بين النوعين فإن كليهما إنما تسقط عنه الصلاة القتل في الدنيا من غير أن تبرأ ذمته ولا ترفع عنه عقوبة الآخرة والتسوية بين المؤمن والمنافق في الصلاة خطأ ولا بأس بالسلام على المصلي إن كان يحسن الرد بالإشارة وقاله طائفة من العلماء ولا يثاب على عمل مشوب إجماعاً ومن صلى لله ثم حسنَّها وأكملها للناس أثيب على ما أخلصه لله لا على ما عمله للناس ولا يظلم ربُك أحداً ولا تبطل الصلاة بكلام الناسي والجاهل وهو رواية عن أحمد ولا مما إذا أبدل ضاداً بظاء وهو وجه في مذهب أحمد وقاله طائفة من العلماء ولا بأس بالقراءة لحناً غير مخلٍ للمعنى عَجزاً وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم

أن يذهب إلى النعل فيأخذه ويقتل به الحية أو العقرب ثم يعيده إلى مكانه وكذلك سائر ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال وكان أبو برزة ومعه فرسه وهو يصلي كلما خطا يخطو معه خشية أن ينفلت وقال أحمد: إن فَعل كما فعل أبو برزة فلا بأس وظاهر مذهب أحمد وغيره أن هذا لا يُقدر بثلاث خطوات ولا ثلاث فعلات كما مضت به السنة ومَن قيدها بثلاث كما يقوله أصحاب الشافعي وأحمد فإنّما ذلك إذا كانت متصلة وأما إذا كانت موقوفة فيجوز وإن زادت على ثلاث و الله أعلم

باب سجود التلاوة
"باب سجود التلاوة"
قال أبو العباس: والذي تبين لي أن سجود التلاوة واجب مطلقاً في الصلاة وغيرها وهو رواية عن أحمد ومذهب طائفة من العلماء ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليها عامة السلف وعلى هذا فليس هو صلاة فلا يشترط له شروط الصلاة بل يجوز على غير طهارة واختارها البخاري لكن السجود بشروط الصلاة أفضل ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به لكن يقال: إنه لا يجب في هذا الحال
كما لا يجب على السامع إذا لم يسجد قارئ السجود وإن كان ذلك السجود جائزاً عند جمهور العلماء والأفضل أن يسجد عن قيام وقاله طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وسجود الشكر لا يفتقر إلى طهارة: كسجود التلاوة ووافق أبو العباس على سجود السهو في اشتراط الطهارة ولو أرد الإنسان الدعاء فعفر وجهه لله في التراب وسجد له ليدعوه فهذا سجود لأجل الدعاء ولا شيء يمنعه وابن عباس سجد سجوداً مجرداً لما جاء نعي بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات فالمكروه هو

ومن البدع إن صلى الصبح أو غيرها من الصلوات سجد بعد فراغه منها وقبل الأرض وذكر غير واحد من العلماء أن هذا السجود من المنكرات وأما تقبيل الأرض ونحو ذلك مما فيه السجود مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك فلا يجوز بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً أما إذا أكره على ذلك بحيث أنه لو لم يفعله يحصل له ضرر فلا بأس وأما إن فعل لنيل الرياسة والمال فحرام

باب سجود السهو
"باب سجود السهو"
يشرع للسهو لا للعمد عند الجمهور ومن شك في عدد الركعات بنى على غالب ظنه وهو رواية عن أحمد وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهما وعلى هذا عامة أمور الشرع ويقال مثله في الطواف والسعي ورمي الجمار وغير ذلك وأظهر الأقوال وهو رواية عن أحمد فرق بين الزيادة والنقص وبين الشك مع التحري والشك مع البناء على اليقين فإذا كان السجود لنقص كان قبل السلام لأنه جابر ليتم الصلاة به وإن كان لزيادة كان بعد السلام لأنه ارغام للشيطان لئلا يجمع بين زيادتين في الصلاة كذلك إذا شك وتحرى فإنه يتم صلاته وإنّما السجدتان إرغام للشيطان فتكونان بعده وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها والسلام فيها زيادة والسجود في ذلك بعد السلام ترغيماً للشيطان وأما إذا شك ولم يبن له الراجح فيعمل هنا على اليقين فأما أن يكون صلى خمساً أو اربعاً فإنْ كان صلى خمساً فالسجدتان يشفعان له صلاته ليكون كأنه صلى الله ستاً لا خمساً وهذا إنما يكون قبل السلام فهذا الذي بصرناه يستعمل فيه جميع الأحاديث الواردة في ذلك وما شرع قبل السلام يجب فعله قبل السلام وما شرع بعد السلام لا يفعل إلا بعده وجوباً وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وعليه يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهل يتشهد ويسلم إذا سجد بعد السلام فيه ثلاثة أقوال ثالثها المختار يسلم ولا يتشهد وهو قول ابن سيرين ووجه في مذهب أحمد والأحاديث الصحيحة تدل على ذلك

والتكبير لسجود السهو ثابت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول عامة أهل العلم وإنْ نَسي سجود السهو سجد ولو طال الفصل تكلم أو خرج من المسجد وهو رواية عن أحمد

باب صلاة التطوع
"باب صلاة التطوع"
والتطوع يُكمل به صلاة الفرض يوم القيامة إن لم يكن المصلي أتمها وفيه حديث مرفوع رواه أحمد في "المسند" وكذلك الزكاة وبقية الأعمال واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلاً ونهاراً أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله والعبادة في غيره تعدل الجهاد للأخبار الصحيحة المشهورة وقد رواها أحمد وغيره والعمل بالقوس والرمح أفضل من الرباط في الثغر وفي غير نظيرها ومَن طلب العلم أو فعل غيره مما هو آجر في نفسه لما فيه من المحبة له لا لله ولا لغيره من الشركاء فليس مذموماً بل قد يثاب بأنواع من الثواب إمّا بزيادة فيها -وفي أمثالها فتنعم بذلك- وإما بغير ذلك وتعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد وأنه من أنواع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات واشد النّاس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه مِن جنس ذنب اليهود و المتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول بأنّ أفضل ما تطوع به الجهاد وذلك لمن أراد أن يفعله تطوعاً باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه بحيث أن الفرض قد سقط عنه وإذا باشره وقد سقط الفرض عنه فهل يقع فرضاً أو نفلاً على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره وانبنى على

الوجهين في صلاة الجنازة جواز فعلها بعد الفجر والعصر مرة ثانية والصحيح أن ذلك يقع فرضاً وأنه يجوز فعلها بعد الفجر والعصر وإن كان ابتداء الدخول في ذلك تطوعاً كما في التطوع الذي يلزم بالشروع فإنّه كان نفلاً ثم يصير إتمامه فرضاً والطواف بالبيت أفضل من الصلاة فيه وهو قول العلماء والذكر بقلب أفضل من القرآن بلا قلب
وقال أبو العباس في رده على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة ومالك للعلم: والتحقيق أنّه لا بد لكل من الأخريْن وقد يكون كل واحد أفضل في حال كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بحسب المصلحة والحاجة هذا قول إبراهيم بن جعفر لأحمد: الرجل يبلغني عنه صلاح فأذهب فأصلي خلفه قال: قال لي أحمد: انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله وقال الإمام أحمد: معرفة الحديث والفقه أعجب إلي من حفظه: ويجب الوتر على مَن يتهجد بالليل وهو مذهب بعض من يوجبه مطلقاً ويُخيَّر في الوتر بين فصله ووصله وفي دعائه بين فعله وتركه والوتر لا يقضى إذا فات لفوات المقصود منه بفوات وقته وهو إحدى الروايتين عن أحمد ولا يَقْنُت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة فيقنت كل مُصلٍ في جميع الصلوات لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة وإذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر أو نصفه الأخير أو لم يقنت بحال فقد أحسن والتراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: عشرين ركعة أو: كمذهب مالك ستاً وثلاثين أو ثلاث عشرة أو إحدى عشرة فقد أحسن
كما نص عليه الإمام أحمد لعدم التوقيف فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره ومَن صلاّها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة ويقرأ أول ليلة من رمضان في العشاء الآخرة سورة القلم لأنها أول ما نزل ونقله إبراهيم بن محمد الحارث عن الإمام أحمد وهو أحسن

مما نقله غيره أنه يبتدئ بها التراويح ومن السنن الراتبة قبل الظهر أربع وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وليس للعصر سنة راتبة وهو مذهب أحمد وما تبين فعله منفرداً كقيام الليل وصلاة الضحى ونحو ذلك إنْ فعل جماعة في بعض الأحيان فلا بأس بذلك لكن لا يتخذ سنة راتبة وتستحب المداومة على صلاة الضحى إنْ لم يقم في ليلة وهو مذهب بعض مَن يستحب المداومة عليها مطلقاً
قلت: لكن أبو العباس له قاعدة معروفة وهي ما ليس من السنن الراتبة لا يداوم عليه حتى يلحق بالراتب كما نص الإمام أحمد على عدم سورة "السجدة" و "هل أتى" يوم الجمعة ولا يجوز التطوع مضطجعاً لغير عذر وهو قول جمهور العلماء وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومِن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد وللمالكية وجهان في كراهتها وكرهها مالك
وأمّا قراءة واحد والباقون يتسمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة وهي التي كان الصحابة يفعلونها: كأبي موسى وغيره وتعليم القرآن في المسجد لا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر على المسجد وأهله بل يستحب تعليم القرآن في المساجد وقول الإمام أحمد في الرجوع إلى قول التابعي عام في التفسير وغيره وقيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السنة وصلاة الرغائب بدعة مُحدثة لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف وأمّا ليلة النصف من شعبان ففيها فَضل وكان في السلف مَنْ يصلي فيها لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة الصلاة الألفية وتقول المرأة في سيد الاستغفار وما في معناه: وأنا أمتك بنت أمتك أو بنت عبدك ولو قالت: وأنا عبدك فله مخرج في العربية بتأويل شخص وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط وكذا الحج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه وكثرة الركوع والسجود وطول القيام سواء في الفضيلة وهو

فقودة

باب صلاة الجماعة
مفقودة

مفقودة

إحدى الروايتين عن أحمد واختارها جماعة من أصحابنا وهو مذهب مالك ووجه في مذهب الشافعي واختاره الروياني
وأصح الطريقين لأصحاب أحمد: أنه يصح ائتمام القاضي بالمؤدي وبالعكس لا يخرج عن ذلك ائتمام المفترض بالمنتفل ولو اختلفا أو كانت صلاة المأموم أقل وهو اختيار أبي البركات وغيره وحكى أبو العباس في صلاة الفريضة خلف صلاة الجنازة روايتين واختار الجواز
وقال أبو العباس: سُئلت عن ما يفعله الرجل شاكاً في وجوبه على طريق الاحتياط فهل يتم به المفترض قال: قياس المذهب أنّه يصح لأن الشاك يؤديها بنية الوجوب إذا احتاط ويجزئه عن الواجب حتى لو تبين له فيما بعد الوجوب أجزأه كما قلنا في ليلة الاغماء وإنْ لم نَقل بوجوب الصوم وكما قلنا فيمَن فاتته صلاة من خمس لا يعلم عينها وكما قلنا فيمن شك في انتقاض وضوئه فتوضأ وكذلك سائر صور الشك في وجوب طهارة أو صيام أو زكاة أو صلاة أو نسك أو كفارة أو غير ذلك بخلاف ما لو اعتقد عدم الوجوب وأداه بنية النفل وعكسه كما لو اعتقد الوجوب ثم تبين عدمه فإنَّ هذه خرج فيها خلاف في الحقيقة نفل لكنها في اعتقاده واجبة والمشكوك فيها هي في قصده واجبة والاعتقاد متردد والمأموم إذا لم يعلم بحدث الإمام حتى قضيت الصلاة أعاد الإمام وحده وهو مذهب أحمد وغيره ويلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره وليس له أن يزيد على القدر المشروع وينبغي أن يفعل غالباً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص أحياناً والصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف وبمسجد المدينة بألف والصلاة في الأقصى بخمسمائة والجن ليسوا كالإنس في الحد والحقيقة لكنهم يشاركونهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع بين العلماء وكان أبو العباس إذا أتى

بالمصروع وعظ من صرعه وأمره ونهاه فإن انتهى وأفاق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارقه ضربه على أن يفارقه والضرب في الظاهر يقع على المصروع وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه ولهذا لا يتألم من ضربه ويصحو ولا يقدم في الإمامة بالنسب وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد ويجب تقديم من قدمه الله ورسوله ولو مع شرط الواقف بخلافه فلا يلتفت إلى شرط يخالف شرط الله ورسوله وإذا كان بين الإمام والمأموم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء أن المذاهب لم ينبغ أن يؤمهم بالصلاة جماعة لأنها لا تتم إلا بالائتلاف ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد يتبعه المأموم فيه وإذا كان هو لا يراه مثل: القنوت في الفجر ووصل الوتر وإذا ائتم من يرى القنوت بمن لا يراه تبعه في تركه ولا تصح الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة مع القدرة على الصلاة خلف غيرهم وتصح إمامة مَن عليه نجاسة يعجز عن إزالتها بمن ليس عليه نجاسة ولو ترك الإمام ركناً يعتقده المأموم ولا يعتقده الإمام صحت صلاته خلفه وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب مالك واختيار المقدسي وقال أبو العباس في موضع آخر لو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه ما يسوغ فيه الاجتهاد صحت صلاته خلفه وهو المشهور عن أحمد وقال في موضع آخر أن الروايات المنقولة عن أحمد لا توجب اختلافاً وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيه بخطأ المخالف تجب الاعادة وما لا يقطع فيه بخطأ المخالف لا تجب الإعادة وهو الذي تدل عليه السنة والاثار وقياس الأصول وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي تولية الفاسق ولا يجوز أن يقدم العامي على فعل لا يعلم جوازه ويفسق به إن كان مما يفسق به ذكره القاضي وتصح صلاة الجمعة ونحوها قدام الإمام لعذر وهو قول في مذهب أحمد مَن تأخر بلا عذر له فلما أذن جاء فصلى قدامه عُزِّر وتصح صلاة

الفذ لعذر وقاله الحنفية وإذا لم يجد إلا موقفاً خلف الصف فالأفضل أن يقف وحده ولا يجذب مَن يصافه لما في الجذب من التحرف في المجذوب فإن كان المجذوب يطيعه قائماً أفضل له وللمجذوب الاصطفاف مع بقاء فرجة أو وقوف المتأخر وحده وكذلك لو حضر اثنان وفي الصف فرجة فأيهما أفضل: وقوفهما جميعاً أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر رجح أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب وإذا ركع دون الصف ثم دخل الصف بعد اعتدال الإمام كان ذلك سائغاً ومن أخر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قضى القيام أو كان القيام متسعاً لقراءة الفاتحة ولم يقرأها فهذا تجوز صلاته عند جماهير العلماء وأمّا الشافعي فعليه عنده أن يقرأ وإن تخلف عن الركوع وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة فهذا الرجل كان حقه أن يركع مع الإمام ولا يتم القراءة لأنه مسبوق والمرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصاففها كان من حقها أن تقف معها وكان حكمها إن لم تقف معها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال وهو أحد القولين في مذهب أحمد وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كرهت إلا لعذر والمأموم إذا كان بينه وبين الإمام ما يمنع الرؤية والاستطراق صحت صلاته إذا كانت لعذر وهو قول مذهب أحمد بل نص أحمد وغيره وينشأ مسجد إلى جنب آخر إذا كان محتاجاً إليه ولم يقصد الضرر فإنْ قُصد الضرر أو لا حاجة فلا ينشأ وهو إحدى الروايتين عن أحمد نقلها عنه محمد بن موسى ويجب هدمه وقاله أبو العباس فيما بنى بجوار جامع بني أمية ولا ينبغي أن يترك حضور المسجد إلا لعذر كما دلت عليه السنن والآثار ونهى عن اتخاذه بيتاً مقيلاً قاله أحمد في رواية حارث وقد سئل عن النساء يخرجن في العيد في زماننا قال: لا يعجبني هذا
انتهى وبهذا يعلم سائر الصلوات و الله سبحانه وتعالى أعلم

باب صلاة أهل الأعذار
"باب صلاة أهل الاعذار لله"
متى عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة ولا يلزمه الإيماء بطرفه وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد ويكره إتمام الصلاة في السفر قال أحمد: لا يعجبني ونقل عن أحمد إذا صلى أربعاً أنه توقف في الإجزاء وتوقفه عن القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قولين في مذهبه ولم يثبت أن أحد من الصحابة كان يتم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في السفر وحديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به الحجة ويجوز قصر الصلاة في كل ما يُسمَّى سَفراً سواء قل أو كَثُر ولا يتقدر عده وهو مذهب الظاهرية ونصره صاحب "المغني" فيه وسواء كان مباحاً أو محرماً ونصره ابن عقيل في موضع وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا وروى هذا عن جماعة من الصحابة وقرر أبو العباس قاعدة نافعة وهي: أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسمّاه ووجوده ولم يجز تقديره وتحديده بمدة فلهذا كان الماء قسمين طاهراً طهوراً أو نجساً ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة ولا لأقل سنة وأكثره ولا لأقل السفر أمّا خروجه إلى بعض علم أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى قباء فلا يسمّى سَفراً ولو كان بريداً ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر هذا مع قصره المدة فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر لا البعيدة في المدة القليلة ولا حد للدرهم والدينار فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصاً أو مغشوشاً قل غشه أو كَثُر لا درهماً أسود عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤجلها وإن رأى الإمام تأجيلها فعل لأن عمر أَجلَها فأيهما رأى الإمام فَعل وإلا فإيجاب أحد الأمريْن لا يسوغ والخلع فسخ مطلقاً والكفارة في كل أَيمان المسلمين وفروع هذه القاعدة مذكورة في هذا المختصر في مظانها

ويوتر المسافر ويركع سنة الفجر ويسن تركه غيرهما والأفضل له التطوع في غير السنن الراتبة ونقله بعضهم إجماعاً والجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة لأنّه مِن رخص السفر من تقديم وتأخير وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عليه ويجمع لتحصيل الجماعة وللصلاة في الحمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت ولخوف يحرج في تركه وفي الصحيحين: من حديث ابن عباس أنه سئل لما فعل ذلك قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد فإنّه جوَّز الجمع إذا كان له شغل كما روى النسائي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأول القاضي وغيره نص أحمد على أن المراد بالشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة ولا موالاة في الجمع في وقت الأولى وهو مأخوذ من نص الإمام أحمد في جمع المطر إذا صلى إحدى الصلاتين في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس ومِن نصه في رواية أبي طالب والمروزي: للمسافر أن يصلي العشاء قبل أن يغيب الشفق وعلله أحمد بأنه يجوز له الجمع ويجمع ويقصر بمزدلفة وعرفة مطلقاً وهو مذهب مالك وغيره من السلف وقول طائفة من أصحاب الشافعي واختاره أبو الخطاب في "عباداته" ويجوز الجمع للمُرضع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة ونَص عليه ويجوز الجمع أيضاً للطبَاخ والخبّاز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله وقال غيره بترك الجمع ولا يشترط للقصر والجمع نية واختاره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره وتصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي أو تبرز للخفر ويصلي صلاة الخوف في الطريق إذا فات الوقوف بعرفة وهو أحد الوجوه الثلاثة في مذهب أحمد

باب اللباس
"باب اللباس"
ولبس الحرير حيث يكون سدى بحيث يكون القطن والكتان أغلى قيمة

منه وفي تحريمه إضرار بهم لأنّه أرخص عليهم يخرج على وجهين لتعارض لفظ النص ومعناه كالروايتين في إخراج غير الأصناف الخمسة إذا لم يكن قوتاً لذلك البلد ولو كان الظهور للحرير وهو أقل من غيره ففيه ثلاثة أوجه التحريم والكراهة والإباحة وحديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه خيوط حرير أو سيور لا بد أن يُنسج مع غيرها من الكتان الحرير لأنّ ما فيه أو القطن فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من القطن والكتان أكثر أم لا مع أن العادة أنه أقل فإن استويا فالأشبه بكلام أحمد التحريم والثياب القسية: ثياب مخطوطة بحرير
قال البخاري في "صحيحه": قال عاصم: عن أبي بردة: قلنا لعلي: ما القسية قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير كأمثال الأترج وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير وليست حريراً مصمتاً وهذا هو الملحم والخز أخف من وجهين: أحدهما: أن سداه من حرير والسدي أيسر من اللحمة وهو الذي بيّن ابن عباس جوازه بقوله: فأما العلم والحرير والسدي لثوب فلا بأس به والثاني: أن الخز ثخين والحرير مستور بالوبر فيه فيصير بمنزلة الحشو والخز اسم لثلاثة أشياء: للوَبَر الذي يُنسج مع الحرير وهو وبر الأرنب واسم لمجموع الحرير والوبر واسم لرديء الحرير فالأول والثاني: حلال والثالث: حرام وجعل بعض أصحابنا المتأخرين الملحم والقسي والخز على الوجهيْن وجعل التحريم قول أبي بكر لأنّه حرَّم الملحم والقسي والإباحة قول ابن البناء لأنه أباح الخز وهذا لا يصلح لأنَّ أبا بكر قال: ويلبس الخز ولا يلبس الملحم ولا الديباج وأمّا المنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب فإباحة الخز دون الملحم وغيره فمَن زعم أن في الخز خلافاً فقد غلط وأمّا لبس الرجال الحرير كالكلوبة والقبا: فحرام على الرجال بالاتفاق على

الأجناد وغيرهم لكن تنازع العلماء في لبسه عند القتال لغير ضرورة على قولين: أظهرهما الإباحة وأمَّا إن احتاج إلى الحرير في السلاح ولم يقم غيره مقامه فهذا يجوز بلا نزاع وأما إلباسه الصبيان الذي دون البلوغ ففيه روايتان أظهرهما: التحريم ولبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان ذلك دليلاً على إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالإباحة وما لم يكن كذلك يحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه وتباح المنطقة الفضة في أظهر قولي العلماء وكذلك التركاشي وغشاء القوس والنشاب والجوشن والقرقل والخوذة وكذلك حلية المهماز الذي يحتاج إليه لركوب الخيل والكلاليب التي يحتاج إليها أولى بالإباحة من الخاتم فإن الخاتم يتخذ للزينة وهذه للحاجة وهي متصلة بالسير ليست مفردة: كالخاتم ولا حد للمباح من ذلك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم لباس الفضة على الرجال وعلى النساء
وإنّما حرم على الرجال لبس الذهب والحرير وحرم آنية الذهب والفضة والرخصة في اللباس أوسع من الآنية لأن حاجتهم إلى اللباس أشد وتنازع العلماء في يسير الذهب في اللباس والسلاح على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: لا تباح والثاني: تباح في السيف خاصة والثالث: تباح في السلاح وكان عثمان بن حنيف في سيفه مسمار من ذهب والرابع: وهو الأظهر أنه يباح يسير الذهب في اللباس والسلاح فيباح طراز الذهب إذا كان أربعة أصابع فما دونها وخز القبان وحيلة القوس كالسرج والبردين ونحو ذلك وحديث: "لا يباح من الذهب ولو خربصيصة" وخز بصيصة: عين الجرادة محمول على الذهب المفرد: كالخاتم ونحوه والحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" وجعل القاضي وابن عقيل تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من قسم المكروه والصحيح: أنه محرم وحكى بعض أصحابنا التحريم رواية وما كان من

لبس الرجال مثل: العمامة والخف والقبا الذي للرجال والثياب التي تبدي مقاطع خلقها والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة وغير ذلك فإنَّ المرأة تنهى عنه وعلى وليها كأبيها وزوجها أن ينهاها عن ذلك وهذه العمائم التي تلبسها النساء على رؤوسهن حرام بلا ريب
قال أبو العباس: وقد سُئل عن لبس القبا والنظري ليس له التشبيه في لباسه بلباس أعداء المسلمين واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم
فيه مسألتان: المسألة الأولى: هل يشرع ذلك استحباباً لتميز الفقير والفقيه من غيره فإنّ طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة
أقول: هذا فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنْ يجمع من وجه ويفرق من وجه
المسألة الثانية: إن لبس المرقعات والمصبغات والصوف من العباءة وغير ذلك: فالناس فيه على ثلاثة طرق: منهم مَنْ يكره ذلك مطلقاً: إما لكونه بدعة وإما لما فيه من إظهار الدين ومنهم مَن استحبه بحيث يلزمه ويمتنع من تركه وهو حال كثير ممن ينسب إلى الخرقة واللبسة وكلا القولين والفعلين خطأ والصواب: أنه جائز: كلبس غير ذلك وأنه يستحب أن يرقع الرجل ثوبه للحاجة كما رقع عمر بن الخطاب ثوبه وعائشة وغيرهما من السلف وكما لبس قوم الصوف للحاجة ويلبس أيضاً للتواضع والمسكنة مع القدرة على غيره كما جاء في الحديث: "من ترك جيد اللباس وهو يقدر كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة" فأما تقطيع الثوب الصحيح وترقيعه فهذا فساد وشهرة وكذلك تعمد صبغ الثوب لغير فائدة أو حك الثوب ليظهر التحتاني أو المغالاة في الصوف الرفيع ونحو ذلك مما فيه إفساد المال ونقص قيمته أو فيه إظهار التشبه بلباس أهل التواضع والمسكنة مع ارتفاع قيمته وسعره فإنَّ هذا من النفاق والتلبيس فهذان النوعان فيهما إرادة العلو في الأرض أو الفساد والدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً مع ما في ذلك من النفاق وأيضاً فالتقييد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها هو أيضاً منهى عنه وليس للإنسان أن يطول القميص والسراويل وسائر اللباس أسفل من الكعبين لله.

باب صلاة الجمعة
"باب صلاة الجمعة "
وتجب الجمعة على مَنْ أقام في غير بناء كالخيام وبيوت الشعر ونحوها وهو أحد قولي الشافعي وحكى الأزجي رواية عن أحمد ليس على أهل البادية جمعة لأنهم ينتقلون فأسقطها عنهم وعلل بأنهم غير مستوطنين
وقال أبو العباس في موضع آخر يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية ويحتمل أن تلزم الجمعة مسافراً له القصر تبعاً للمقيمين وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب واثنان يستمعان وهو إحدى الروايات عن أحمد وقول طائفة من العلماء وقد يقال بوجوبها على الأربعين لأنّه لم يثبت وجوبها على مَن دونهم وتصح ممن دونهم لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين: كالمريض بخلاف المسافر فإنَّ فرضه ركعتان ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت بل لا بد من مُسمَّى الخطبة عرفاً ولا تحصل باختصار يَفُوت به المقصود ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمداً عبده ورسوله وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين وتردد في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة وقال في موضع آخر ويحتمل وهو الأشبه أن تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيها ولا تجب مفردة لقول عمر وعلي: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم وتقدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس وأمّا الأمر بتقوى الله فالواجب أما معنى ذلك وهو الأشبه من أن يقال: الواجب لفظ التقوى ومن أوجب لفظ التقوى فقد يحتج بأنها جاءت بهذا اللفظ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: 131 وليست كلمة أجمع لما أمر الله من كلمة التقوى قال الإمام أحمد في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأعراف: 204: أجمع الناس أنها نزلت في الصلاة وقد قيل في الخطبة: والصحيح أنها نزلت في ذلك كله وظاهر كلام أبي العباس أنّها تدل على وجوب الاستماع وصرح بأنها تدل على وجوب القراءة في الخطبة لأنَّ كلمة إذا إنّما تقولها العرب فيما لا بد من وقوعه لا فيما يحتمل الوقوع

وعدمه لأن إذا ظرف لما يُستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالباً والظرف للفعل لابد أن يشتمل على الفعل وإلا لم يكن ظرفاً والسُّنة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه سراً كالدعاء أما رفع الصوت بها قدام بعض الخطباء فمكروه أو محرم اتفاقاً لكن منهم مَن يقول: يُصلي عليه سراً ومنهم مَن يقول: يسكت ودعاء الإمام بعد صعوده لا أصل له ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة وهو أصح الوجهين لأصحابنا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يشير بأصبعه إذا دعا وأمّا في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر ويقرأ في أولى فجر الجمعة آلم السجدة وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الآنْسَانِ} الانسان: 1 ويكره مداومته عليهما وهو منصوص أحمد وغيره ويكره تحري سجدة غيرها والسنة إكمال السجدة و {هَلْ أَتَى} الانسان: 1 وصلاة الركعتين قبل الجمعة سُنّة مشروعة ولا يداوم عليها إلا لمصلحة ويحرم تخطي رقاب الناس
وقال أبو العباس في موضع آخر ليس لأحد أن يتخطى الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فُرجة لا يوم الجمعة ولا غيره لأنَّ هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى وإذا فرش مصلى ولم يجلس عليه ليس له ذلك ولغيره رفعه في أظهر قولي العلماء وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزي بالعيد وصلى ظهراً جاز إلا للإمام وهو مذهب أحمد وأمَّا القُصاص الذين يقومون على رؤوس الناس ثم يسألون فهؤلاء منعهم من أهم الأمور فإنَّهم يكذبون ويتخطون الناس ويشغلون الناس ويشغلون عما يشرع في الصلاة والقراءة والدعاء لا سيما أن قَصُّوا أو سألوا والإمام يخطب فإنَّ هذا من المنكرات الشنيعة التي ينبغي إزالتها باتفاق الأئمة وينبغي لولاة الأمور أن يمنعوا من هذه المنكرات كلها فإنّهم متصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

باب صلاة العيدين
"باب صلاة العيدين"
وهي فرض عملي وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد وقد يقال بوجوبها على النساء ومن شرطها الاستيطان وعدد الجمعة ويفعلها المسافر والعبد

والمرأة تبعاً ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته منهم وهو قول أبي حنيفة ويستفتح خطبتها بالحمد لله لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبة بغيرها والتكبير في عيد الأضحى مشروع باتفاق وكذا مشروع في عيد الفطر عند مالك والشافعي وأحمد وذكر الطحاوي ذلك مذهباً لأبي حنيفة وأصحابه والمشهور عنهم خلافه والتكبير فيه هو المأثور عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتكبير فيه آكد من جهة أمر الله به والتكبير أوله من رؤية الهلال وآخره انقضاء العيد وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح والتكبير في عيد النحر آكد من جهة أنّه ُ أدبار الصلاة وأنه متفق عليه وعيد النحر أفضل من عيد الفطر ومِن سائر الأيام والاستغفار المأثور عقيب الصلوات وقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام هل يقدم على التكبير والتلبية أم يقدمان عليه كما يقدم عليه سجود السهو وبَيَّض لذلك أبو العباس والذي يدل عليه كلام أحمد في أكثر المواضع وهو الذي تدل عليه السنة وآثار السلف أن الاجتماع على الصلاة أو القراءة وسماعها أو ذكر الله تعالى أو دعائه أو تعليم العلم أو غير ذلك نوعان: نوع شرع اجتماع له على وجه المداومة وهو قسمان: قسم يدور بدوران الأوقات: كالجمعة والعيدين والحج والصلوات الخمس أو يتكرر بتكرر الأسباب: كصلاة الاستسقاء والكسوف والآيات والقنوت في النوازل والمؤقت فرضه ونفله إمّا أنْ يعود بعود اليوم وهو الذي يسمّى عمل يوم وليلة: كالصلوات الخمس وسننها: الرواتب والوتر والأذكار والأدعية المشروعة طرفي النهار وزلفاً من الليل وإمّا أنْ يعود بعود الأسبوع: كالجمعة وصوم الاثنين والخميس وإمّا أن يعود بعود الشهر كصيام أيام البيض أو ثلاثة أيام من كل شهر

والذكر المأثور عند رؤية الهلال وإمّا أن يعود بعود الحلول: كصيام شهر رمضان والعيديْن والحج والمتسبب ماله سبب وليس له وقت محدود: كصلاة الاستسقاء والكسوف وقنوت النوازل وما لم يُشرع فيه الجماعة: كصلاة الاستخارة وصلاة التوبة وصلاة الوضوء وتحية المسجد ونحو ذلك مما لم يذكر نوعه في باب صلاة التطوع والأوقات المنهى عن الصلاة فيها
والنوع الثاني: ما لم يُسنْ له الاجتماع المعتاد الدائم: كالتعريف في الأمصار والدعاء المجتمع عليه عقب الفجر والعصر والصلاة والتطوع المطلق في جماعة والاجتماع لسماع القرآن وتلاوته أو سماع العلم والحديث ونحو ذلك فهذه الأمور لا يكره الاجتماع لها مطلقاً ولم يسن مطلقاً بل المداومة عليها بدعة فيستحب أحياناً ويباح أحياناً وتكره المداومة عليها وهذا هو الذي نص عليه أحمد في الاجتماع على الدعاء والقراءة والذكر ونحو ذلك والتفريق بين السنة والبدعة في المداومة أمر عظيم ينبغي التفطن له

باب صلاة الكسوف
"باب صلاة الكسوف"
ويجهر بالقراءة في صلاة الكسوف ولو نهاراً وهو مذهب أحمد وغيره وتصلى صلاة الكسوف لكل آية كالزلزلة وغيرها وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وقول محققي أصحابنا وغيرهم ولا كسوف إلا في ثامن وعشرين أو تاسع وعشرين ولا خسوف إلا في إبدار القمر والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ك
مسألة اليمين به والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وبدعائه وشفاعته مما هو فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه مشروع إجماعاً وهو مِن الوسيلة المأمور بها في قوله: {تَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} المائدة: 35 وقصد القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة لا قربة باتفاق الأئمة وقول القائل: أنا في

بركة فلان وتحت نظره إن أراد بذلك أن نظره وبركته مستقلة بتحصيل المصالح ودفع المضار فكذب وإن أراد أن فلاناً دعا لي فانتفعت بدعائه أو أنّه علمني وأدبني فأنا في بركة ما انتفعت به من تعليمه وتأديبه فصحيح وإنْ أراد بذلك أنه بعد موته يجلب المنافع ويدفع المضار أو مجرد صلاحه ودينه وقربه من الله ينفعني من غير أن يطيع الله فكذب

باب الجنائز
" كتاب الجنائز"
واختلف أصحابنا وغيرهم في عيادة المريض وتشميت العاطس وابتداء السلام والذي يدل عليه النص وجوب ذلك فيقال: هو واجب على الكفاية
الأديان عند الموت على العبد ليس أمراً عاماً لكل أحد ولا هو أيضاً منفياً عن كل أحد بل مِن الناس مَن لا يُعرض عليه الأديان ومنهم من يعرض عليه وذلك كله مِن فتنة المحيا التي أمرنا أن نستعيذ في صلاتنا منها ووقت الموت يكون الشيطان أحرص ما يكون على إغواء بني آدم وعمل القلب من التوكل والخوف والرجاء وما يتبع ذلك والصبر واجب بالاتفاق ولا يلزم الرضا بمرض وفقر وعاهة وهو الصحيح من المذهب والصبر تنافيه الشكوى والصبر الجميل تنافيه الشكوى إلى المخلوق لا إلى الخالق بل هي مطلوبة بإجماع المسلمين قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} الأنعام: 42 إلى غير ذلك من الايات وينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً فأيهما غلب هلك صاحبه ونص عليه الإمام أحمد لأن من غلب خوفه وقع في نوع من اليأس ومن غلب رجاؤه وقع في نوع من الأمن من مكر الله وتعتبر المصلحة في العبادة الدعائية ولا يشهد بالجنة إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أو اتفقت الأمة على الثناء عليه وهو أحد القولين وتواطؤ الرؤيا لتواطئ الشهادات ومَن ظنَّ أن غيره لا يقوم بأمر الميت تعين

عليه وقاله القاضي وغيره في فرض الكفاية وتستحب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ولا تجب وهو ظاهر نقل أبي طالب ويصلي على الجنازة مرة بعد أخرى لأنه دعاء وهو وجه في المذهب واختاره ابن عقيل في القنوت وقال أبو العباس في موضع آخر ومن صلى على الجنازة فلا يعيدها إلا لسبب مثل أن يعيد غيره الصلاة فيعيدها معه أو يكون هو أحق بالإمامة من الطائفة التي صلت أولاً فيصلي بهم ويصلي على القبر إلى شهر وهو مذهب أحمد
صلى على جنازة وهي على أعناق الرجال وهي واقفة فهذا له مأخذان الأول استقرار المحل فقد يخرج على الصلاة في السفينة وعلى الراحلة مع استيفاء الفرائض وإمكان الانتقال وفيه روايتان والثاني اشتراط محاذاة المصلي للجنازة فلو كانت أعلى من رأسه فهذا قد يخرج على علو الإمام على المأموم فلو وضعت على كرسي عالٍ أو منبر ارتفع المحذور الأول دون الثاني
قلت: قال أبو المعالي: لو صلى على جنازة وهي محمولة على الأعناق أو على دابة أو صغير على يدي رجل لم يجز لأن الجنازة بمنزلة الإمام وقال صاحب "التلخيص" وجماعة: يشترط حضور السرير بين يدي المصلي ولا يصلي على الغائب عن البلد إن كان صلى عليه وهو وجه في المذهب ومقتضى اللفظ أن من هو خارج السور أو ما يقدر سوراً يصلي عليه أمّا الغائب فهو الذي يكون انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر وقال القاضي وغيره: أنه يكفي خمسون خطوة وأقرب الحدود ما يجب فيه الجمعة لأنه إذا كان من أهل الصلاة في البلد فلا يُعد غائباً عنه ولا يصلي كل يوم على غائب لأنه لم ينقل يؤيده قول الإمام أحمد: إذا مات رجل صالح صلي عليه واحتج بقصة النجاشي وما يفعله بعض الناس من أنه كل ليلة يصلي على جميع من مات من المسلمين في ذلك اليوم لا ريب أنه بدعة ومَن مات وكان لا يزكي ولا يصلي إلا في رمضان ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالاً لأمثاله لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على القاتل نفسه وعلى الغال والمدين الذي له وفاء ولا بد أن يصلي عليه بعض الناس وإن كان منافقاً كمن علم نفاقه لم يصل

عليه ومن لم يعلم نفاقه صلى عليه ولا يجوز لأحد أن يَترحم على مَن مات كافراً ومَن مات مُظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر ومَن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل فعله كان حسناً ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت إحداهما وترك النبي صلى الله عليه وسلم غسل الشهيد والصلاة عليه يدل على عدم الوجوب أما استحباب الترك فلا يدل على تحريم الفعل ويتبع الجنازة ولو لأجل أهله فقط إحساناً إليهم لتألفهم أو مكافأة أو غير ذلك روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "الميت يبعث يوم القيامة في ثيابه التي قبض فيها" أخرجه ابن ماجه في "صحيحه" وغيره وحمله أبو سعيد الخدري على أن الثياب التي يموت فيها العبد هي ما مات عليه من العمل سواء كان صالحاً أو سيئاً ورجح أبو العباس هذا بأن الذي جاء في الحديث أنه يبعث على ما مات عليه رواه أبو حاتم في "صحيحه" وقال: الأحاديث الصحيحة تبين أنهم يحشرون عراة ويستحب القيام للجنازة إذا مرت به وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار ابن عقيل وإذا كان مع الجنازة منكر وهو عاجز عن إزالته تبعها على الصحيح وهو إحدى الروايتين وأنكر بحسبه ويكره رفع الصوت مع الجنازة ولو بالقراءة اتفاقاً وضرب النساء بالدف مع الجنازة منكر منهي عنه ومن بنى في مقبرة المسلمين ما يختص به فهو عاص وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ويحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبينها ويتعين إزالتها
قال أبو العباس: ولا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين وإذا لم يمكنه المشي إلى المسجد إلا على الجبابة فله ذلك ولا يترك المسجد ويستحب أن يدعو للميت عند القبر بعد الدفن واقفاً قال أحمد: لا بأس به قد فعله علي والأحنف وروى سعيد عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف فيدعو ولأنه معتاد بدليل قوله تعالى في المنافقين: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} التوبة: 84 وهذا هو المراد

على ما ذكره المفسرون وتلقين الميت بعد موته ليس بواجب بإجماع المسلمين ولكن من الأئمة من رخص فيه كالإمام أحمد وقد استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي ومِن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنه بدعة كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيره فالأقوال فيه ثلاثة: الاستحباب والكراهة والإباحة وهو أعدل الأقوال وغير المكلف يُمتحن ويسأل وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد قاله أبو حكيم وغيره ويكره دفن اثنين فأكثر في قبر واحد وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختارها جماعة من الأصحاب وحديث عقبة بن عامر ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا فسر بعضهم القبر بأنه الصلاة على الجنازة وهذا ضعيف لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع وإنّما معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات كما يكره تعمد تأخير صلاة العصر إلى إصفرار الشمس بلا عذر فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره ولا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه والعبد لا يدري أين يموت وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون من العمل الصالح ويستحب البكاء على الميت رحمة له وهو أكمل من الفرح لقوله صلى الله عليه وسلم: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" متفق عليه والميت يتأذى بنوح أهله عليه مطلقاً قاله طائفة من العلماء وما يهيج المصيبة من انشاد الشعر والوعظ فمِن النائحة وفي "الفنون" لابن عقيل ما يوافقه ويحرم الذبح والتضحية عند القبر ونقل أحمد كراهة الذبح عند القبر ولهذا كره العلماء الأكل من هذه الذبيحة
وقال أبو العباس في موضع آخر وإخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة وهي تشبه الذبح عند القبر ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور الصدقة وغيرها ويجوز زيارة قبر الكافر للاعتبار ولا يمنع الكافر من زيارة قبر أبيه المسلم واستفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله وبأحوال أهله وأصحابه في الدنيا

وإن ذلك يعرض عليه وجاءت الآثار بأنه يرى أيضاً وبأنه يدري بما يفعل عنده فيسر بما كان حسناً ويتألم بما كان قبيحاً وتجتمع أرواح الموتى فينزل الأعلى إلى الأدنى لا العكس ولا تتبع النساء الجنائز ونقل الجماعة عن أحمد كراهة القرآن على القبور وهو قول جمهور السلف وعليها قدماء أصحابه ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبر أفضل ولا رخَّص في اتخاذه عيداً كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم أو الذكر أو الصيام واتخاذ المصاحف عند القبر بدعة ولو للقراءة ولو نفع الميت لفعله السلف بل هو عندهم كالقراءة في المساجد ولم يقل أحد من الأئمة المعتبرين أن الميت يُؤجر على استماعه للقرآن ومَنْ قال: أنه ينتفع بسماعه دون ما إذا بعد فقوله باطل يخالف الإجماع والقراءة على الميت بعد موته بدعة بخلاف القراءة على المحتضر فإنّها تستحب بياسين وقال أبو العباس في غرس الجريدتين نصفين على القبرين: إن الشجر والنبات يسبح ما دام اخضر فإذا يبس انقطع تسبيحه والتسبيح والعبادة عند القبر مما توجب تخفيف العذاب كما يخفف العذاب عن الميت بمجاورة الرجل الصالح كما جاءت بذلك الآثار المعروفة ولا يمتنع أن يكون في اليابس من النبات ما قد يكون في غيره من الجامدات مثل حنين الجذع اليابس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر والمدر عليه وتسبيح الطعام وهو يؤكل وهذا التسبيح تسبيح مسموع لا بالحال كما يقوله بعض النظار وأما هذه الأوقاف على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته هذه الأموال معونة على ذلك وحاضَّة عليه إذ قد يدرس حفظ القرآن بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه وفيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير الله والتأكل بالقرآن وقراءته على غير الوجه المشروع واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة فمتى أمكن تحصيل هذه المصحلة بدون ذلك الفساد جاز والوجه النهي عن ذلك المنع وإبطاله وإن حصول مفسدة أكثر من ذلك

لم يدفع أدنى الفسادين باحتمال لأعلاهما ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنّه أفضل وأكمل وقال أبو العباس في موضع آخر الصحيح أنه ينتفع الميت بجميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة والعتق ونحوهما باتفاق الائمة وكما لو دعا له واستغفر له والصدقة على الميت أفضل من عمل ختمة وجمع الناس ولو أوصى الميت أن يصرف مال في هذه الختمة وقصده التقرب إلى الله صرف إلى محاويج يقرأون القرآن وختمة أو أكثر وهو أفضل من جمع الناس ولا يستحب القرب للنبي صلى الله عليه وسلم بل هو بدعة هذا الصواب المقطوع به
قال أبو العباس: وأقدم مَن بلغنا أنه فعل ذلك علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين كان أقدم من الجنيد أحمد طبقته وعاصره وعاش بعده واتفق السلف والأئمة على أنَّ مَنْ سلم على النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين فإنَّه لا يُتَمسح بالقبر ولا يقبله بل اتفقوا أنه لا يسلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود اليماني يستلم ولا يقبل على الصحيح
قلت: بل قال إبراهيم الحربي: يستحب تقبيل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم و الله أعلم وإذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة ودعا في المسجد ولم يدعُ مستقبلاً للقبر كما كان الصحابة يفعلونه وهذا بلا نزاع أعلمه وما نقل عن مالك فيما يخالف ذلك مع المنصور فليس بصحيح وإنّما تنازعوا في وقت التسليم هل يستقبل القبر أو القبلة فقال أصحاب أبي حنيفة: يستقبل القبلة والأكثرون على أنه يستقبل القبر وتغشية قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم ليس في الدين والصواب الذي عليه المحققون أن الخضر عليه السلام ميت لم يدرك الإسلام وعيسى بن مريم عليه السلام لم يمت بحيث فارقت روحه بدنه بل هو حي مع كونه توفي والتوفي الاستيفاء وهو يصلح لتوفي النوم ولتوفي الموت الذي هو فراق الروح البدن ولم يذكر القبض الذي هو قبض الروح والبدن جميعاً ونهى النساء عن زيارة القبور هل هو نهي تنزيه أم تحريم فيه قولان وظاهر

كلام أبو العباس ترجيح التحريم لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور وتصحيحه إياه ورواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وأنه لا يصح ادعاء النسخ بل هو باق على حكمه والمرأة لا يشرع لها زيارة لا الزيارة الشرعية ولا غيرها اللهم إلا إذا اجتازت بقبر بطريقها فسلمت عليه ودعت له فهذا أحسن ولا يحل للمرأة أن تحد فوق ثلاث إلا على زوجها وهذا باتفاق المسلمين ويستحب أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم ولا يصلحون هم طعاماً للناس وهو مذهب أحمد وغيره ولا بد أن تكون مقابر أهل الذمة متميزة عن مقابر المسلمين وكلما بعدت كان أصلح ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم لروح الميت وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة وأيضاً تتصل بالبدن أحياناً فيحصل له معها النعيم أو العذاب ولأهل السنة قول آخر أن النعيم أو العذاب يكون للبدن دون الروح وعلماء الكلام لهم أقوال شاذة فلا عبرة بها وروح الآدمي مخلوقة وقد حكى الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وغيره
"فصل"
قال عبد العزيز الكتاني المحدث المعروف: ليس من قبور الأنبياء ما يثبت إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم
وقال غيره: وقبر إبراهيم أيضاً وذكر ابن سعد في كتاب "الطبقات" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال: لا نعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة قبر إسماعيل فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت وقبر هود في كثيب من الرمل تحت جبل من جبال اليمن عليه شجرة تبدو موضعه أشد الأرض حراً وقبر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
قال أبو العباس: والقبة التي على العباس بالمدينة يقال: فيها سبعة: العباس والحسن وعلي بن الحسن وأبو جعفر محمد بن علي وجعفر بن محمد ويقال: أن فاطمة تحت الحائط أو قريب من ذلك وأن رأس الحسين هناك وأما القبور المكذوبة منها القبر المضاف إلى أُبي بن كعب في دمشق والناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية

ومَن قال: أن بظاهر دمشق قبر أم حبيبة وأم سلمة أو غيرهما من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب ولكن بالشام من الصحابيات امرأة يقال لها: أم سلمة بنت يزيد بن السكن فهذه توفيت بالشام فهذه قبرها محتمل وأمّا قبر بلال فممكن فإنّه دُفن بباب الصغير بدمشق فيعلم أنّه دفن هناك وأما القَطْعُ بتعيين قبره ففيه نظر فإنّه يقال: أن تلك القبور حرثت ومنها القبر المضاف إلى أويس القرني غربي دمشق فإنَّ أويساً لم يجئ إلى الشام وإنّما ذهب إلى العراق ومنها القبر المضاف إلى هود عليه السلام بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم فإنّ هوداً لم يجئ إلى الشام بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة فقيل: أنه مات باليمن وقيل: أنه مات بمكة وإنّما ذلك قبر معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات ولم يعهد إلى أحد وكان فيه دين وصلاح ومنها قبر خالد بحمص يقال أنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية أخو معاوية هذا ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة أنه خالد بن الوليد وقد اختلف في ذلك هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد وذكر أبو عمر بن عبد البر في "الإستيعاب": أن خالد بن الوليد توفي بحمص وقيل: بالمدينة سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وأوصى إلى عمر و الله أعلم ومنها قبر أبي مسلم الخَوْلاني الذي بداريا اختلف فيه
ومنها قبر علي بن الحسين الذي بمصر فإنه كذب قطعاً فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع ودفن بالبقيع ومنها مشهد الرأس الذي بالقاهرة فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر ويعلمون أن هذا كذب وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان وذلك المشهد بُني قبل هذا بنحو من ستين سنة أو أواخر المائة الخامسة وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- بنحو ثلثمائة عام

وقد بيّن كذب المشهد أبو دحية في "العلم المشهور" وأن الرأس دفن بالمدينة كما ذكره الزبير بن بكار والذي صح من حمل الرأس ما ذكره البخاري في "صحيحه": أنه حمل إلى عبيد الله بن زياد وجعل ينكث بالقضيب على ثناياه وقد شهد ذلك أنس بن مالك وفي رواية أبو برزة الأسلمي وكلاهما كان بالعراق وقد روي بإسناد منقطع أو مجهول: أنه حمل إلى يزيد وجعل ينكث بالقضيب على ثناياه وأن أبا برزة كان حاضراً وأنكر هذا وهذا كذب فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد بل كان بالعراق وأما بدن الحسين فبكربلاء بالاتفاق
قال أبو العباس: وقد حدثني طائفة عن ابن دقيق العيد وطائفة عن أبي محمد عبد الملك بن خلف الدمياطي وطائفة عن أبي بكر محمد بن أحمد القسطلاني وطائفة عن أبي عبد الله القرطبي صاحب "التفسير" كل هؤلاء حدثني عنه من لا اتهمه وحدثني عن بعضهم عدد كثير كل يحدثني عمن حدثه من هؤلاء: أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول: أنه كذب وليس فيه قبر الحسين ولا شيء منه والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إنما فيه غيره ومنها قبر علي -رضي الله عنه- الذي بباطن النجف فإنَّ المعروف عند أهل العلم أن علياً دفن بقصر الإمارة بالكوفة كما دفن معاوية بقصر الإمارة بالشام ودفن عمرو بقصر الإمارة بمصر خوفاً عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم ولكن قيل أن الذي بالنجف قبر المغيرة بن شعبة ولم يكن أحد يذكر أنه قبر علي ولا يقصد أحد أكثر من ثلثمائة سنة ومنها قبر عبد الله بن عمر في الجزيرة متفقون على أن عبد الله بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير وأوصى أن يدفن بالحل لكونه من المهاجرين فشق

ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة ومنها قبر جابر الذي بظاهر حران متفقون على أن جابراً توفي بالمدينة وهو آخر من مات من الصحابة بها ومنها قبر نُسب إلى أم كلثوم ورقية بالشام وقد اتفق الناس أنهما ماتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة تحت عثمان وهذا إنما هو سبب اشتراك الأسماء لعل شخصاً يسمى باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة فظن بعض الجُهال أنه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين و الله أعلم

كتاب الزكاة
" كتاب الزكاة"
لا تجب في دين مؤجل أو على معسر أو مماطل أو جاحد ومغصوب ومسروق وضال وما دفنه ونسيه جهل عند من هو ولو حصل في يده وهو رواية عن أحمد واختارها وصححها طائفة من أصحابه وقول أبي حنيفة
الدين الذي له على أبيه قال أبو العباس: الأشبه عندي أن يكون بمنزلة المال الضال فيخرَّج على الروايتين ووجهه ظاهر فإنَّ الابن غير ممكن من المطالبة به فقد حيل بينه وبينه ولو قيل: لا تلزمه زكاته بمنزلة دين الكتابه لكان متوجهاً ودين الولد هل يمنع الزكاة عن الأب لثبوته في الذمة أم لا لتمكنه من إسقاطه خرَّجه أبو العباس على وجهين وجعل أصلهما الخلاف على أن قدرة المريض على استرجاع ملكه المنتقل عنه عيناً أو غيره هل ينزل منزلة تبرعه في المرض أم لا وتجب الزكاة في جميع أجناس الأجرة المقبوضة ولا يعتبر لها مضي حول وهو رواية عن أحمد ومنقول عن ابن عباس ويصح أن يشترط رب المال زكاة

رأس المال أو بعضه من الربح ولا يقال بعدم الصحة ونقله المروزي عن أحمد لأنه قد تحيط الزكاة بالربح فيختص رب المال بعمله لأنا نقول: لا يمتنع ذلك كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر وبركوب الفرس للجهاد إذا لم يغنموا وهل يعتبر في وجوب الزكاة إمكان الأداء فيه روايتان ولو تلف النصاب بغير تفريط من المالك لم يضمن الزكاة على ذلك من الروايتين واختاره طائفة من أصحاب أحمد ولو كان المانع من الزكاة ديون لم يقم يوم القيامة بالزكاة لأن عقوبتها أعظم ولا يحل الاحتيال لإسقاط الزكاة ولا غيرها من حقوق الله تعالى وإذا كانت الماشية سائمة اكثر الحول وجبت الزكاة فيها على الصحيح وإذا نُقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع مثل أن يعطي مَن بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر فالصحيح جواز ذلك فإنَّ سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم بخلاف النقل من إقليم مع حاجة أهل المنقول عنها وإنّما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته وكرهوا نقل الزكاة إلى بلد السلطان وغيره ليكتفي كل ناحية بما عندهم من الزكاة ولهذا في كتاب معاذ بن جبل: من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف جيرانه والمخلاف عندهم كما يقال المعاملة: ما يكون فيه الوالي والقاضي وهو الذي يستحلف فيه ولي الأمر جابياً بأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم ولم يقيد ذلك بمسير يومين وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصحلة شرعية وإذا أخذ الساعي من أحد الشريكين رجع المأخوذ منه على شريكه بحصته ولو اختلفا في قيمة المدفوع
قال أبو العباس: يتوجه قبول قول المعطي لأنه كالأمين وإن أخذ الساعي أكثر من الواجب ظلماً بلا تأويل من أحد الشريكين ففي رجوعه على شريكه قولان أظهرهما الرجوع وكذلك في المظالم المشتركة التي يطلبها الولاة من الشركاء أو الظلمة من البلدان أو التجار أو الحجيج أو غيرهم والكلف السلطانية على الأنفس والدواب والأموال يلزمهم التزام العدل في ذلك كما يلزم فيما يؤخذ بحق فمَن تغيب أو امتنع فأخذ من غيره حصته رجع المأخوذ منه على مَن أدى عنه في الأظهر إن لم يتبرع ولمن له الولاية على المال أن يصرف

مما يخصه من الكلف كناظر الوقف والوصي والمضارب والوكيل قام فيها بنية تقليل الظلم كالمجاهد في سبيل الله ومن صودر على أداء مال وأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوه عنه فلهم الرجوع عليه لأنهم ظُلِموا من أجله ولأجل ماله والطالب مقصوده ماله لا مالهم ومَنْ لم يخلص مال غيره من التلف إلا بما أدى عنه رجع في أظهر قولي العلماء ولو أخذ الساعي فوق الواجب بتأويل أو أخذ القيمة فالصواب الأجزاء ولو اعتقد المأخوذ منه عدمه وجعله أبو العباس في موضع آخر كالصلاة خلف التارك ركناً أو شرطاً
"فصل"
ورجَّح أبو العباس: أن المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض الإدخار لا غير لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه بخلاف الكيل فإنّه تقدير مَحض فالوزن في معناه
قال: وكذلك العد كالجوز والزرع كالجوز المستنبت في دمشق ونحوها ولهذا تجب الزكاة عندنا في العسل وهو رطب ولا يوسقلكونه يبقى ويُدخر ونص أبو العباس على وجوب الزكاة في التين للادخار وإنّما اعتبر الكيل والوزن في الربويات لأجل التماثل المعتبر فيها وهو غير معتبر ههنا وتسقط فيما خرج من مؤنة الزرع والثمر منه وهو قول عطاء بن أبي رباح لأن الشارع أسقط في الخرص زكاة الثلث أو الربع لأجل ما يخرج من الثمرة بالاعراء والضيافة وإطعام ابن السبيل وهو تبرع فيما يخرج عنه لمصلحته التي لا تحصل إلا بها أولاً بإسقاط الزكاة عنه وما يديره الماء من النواعير ونحوها مما يُصنع من العام إلى العام أو إثناء العام ولا يحتاج إلى دولاب تديره الدواب يجب فيه العشر لأن مؤنته خفيفة فهي كحرث الأرض وإصلاح طرق الماء
وكلام أبي العباس في "اقتضاء الصراط المستقيم": يُعطي أن أهل الذمة منعوا من شراء الأرض العشرية ولا يصح البيع وجزم الأصحاب بالصحة ولكن حكى الإمام أحمد عن عمر بن عبد العزيز والحسن أنهم يمنعون من الشراء فإن اشتروا لم تصح وتعطيل الأرض العشرية باستئجار الذمي لها أو مزارعته فيها كتعطيله بالشراء وكلام

أحمد يوافقه فإنّه قال: لا يؤجر منه أي الأرض من الذمي ولا يجوز بقاء أرض بلا عشر ولا خراج اتفاقاً فيخرج من أقطع أرضاً بأرض مصر أو غيرها العشر قلت: والمراد ما عدا أرض الذمي فإنّه لو جعل داره بستاناً أو مزرعة أو رضخ الإمام له من الغنيمة فإنّه لا يبني فيها نقله الجماعة عن الإمام أحمد و الله أعلم ويلحق بالمدفون حكماً الموجود ظاهراً في مكان جاهلي أو طريق غير مسلوك
"فصل"
ويجوز إخراج زكاة العروض عرضاً ويقوى على قول مَن يقول تجب الزكاة في عين المال
"فصل"
ويجزئه في الفطرة من قوت بلده مثل الأرز وغيره ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث وهو رواية عن أحمد وقول أكثر العلماء ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة وهو من يأخذ لحاجته لا في الرقاب والمؤلفة وغير ذلك ويجوز دفعها إلى فقير واحد وهو مذهب أحمد ولا يعتبر في زكاة الفطر ملك نصاب بل تجب على من ملك صاعاً فاضلاً عن قوته يوم العيد وليلته وهو قول الجمهور وإذا كان عليه دين وصاحب لا يطالبه به أدى صدقة الفطر كما يطعم عياله يوم العيد وهو مذهب أحمد ومن عجز عن صدقة الفطر وقت وجوبها عليه ثم أيسر فأداها فقد أحسن وقدر الفطر صاع من التمر والشعير وأما من البر فنصف وهو قول أبي حنيفة وقياس قول أحمد في بقية الكفارات
"فصل"
وما سماه الناس درهماً وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم من وجوب الزكاة فيما يبلغ مائتين منه والقطع بسرقة ثلاثة دراهم منه إلى غير ذلك من الأحكام قل ما فيه الفضة أو كثر وكذلك ما سمي ديناراً ونقل عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته ولهذا تنازع أهل هذا القول هل أن تعيره لمن يستعيره إذا لم يكن في ذلك ضرر عليها على وجهين في مذهب أحمد وغيره والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة عنه أن تعيره وأمّا إن كانت تكريه ففيه الزكاة عند جمهور العلماء وكتابة القرآن على الحياضة والدرهم والدينار مكروهة ويجوز إخراج

القيمة في الزكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري تمراً أو حنطة فإنه قد ساوى الفقير بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك ومثل أن تجب عليه شاة في الإبل وليس عنده شاة فإخراج القيمة كاف ولا يكلف السفر لشراء شاة أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونهم أنفع لهم فهذا جائز أما الفلوس فلا يجزئ إخراجهم عن النقدين على الصحيح لأنها ولو كانت نافقة فليست في المعاملة كالدراهم في العادة لأنها قد تكسد ويحرم المعاملة بها ولأنها أنقص سعراً ولهذا يكون البيع بالفلوس دون البيع بقيمتها من الدراهم وغايتها أن تكون بمنزلة المنكسرة مع الصحاح والبهرجة مع الخالصة فإنَّ تلك إلى النحاس أقرب وعلى هذا إذا أخرج الفلوس وأخرج التفاوت جاز على المنصوص في جواز أخرج التفاوت فيما بين الصحيح والمنكسر بناء على أن جبران الصفات كجبران المقدار لكن يقال: المنكسرة من الجنس والفلوس من غير الجنس فينتفي فيها المأخذ ولا ينبغي أن يكون إلا وجهان إلا إذا خرجت بقيمتها فضة لا بسعرها في العوض
"فصل"
ولا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله فإنَّ الله تعالى فرضها معونة على طاعته كمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين أو لمن يعاون المؤمنين فمَن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطي شيئاً حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين وإلا صرفت إلى الموجود منهم إلى حيث يوجدون وبنو هاشم إذا منعوا من خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا وقاله أبو يوسف والإصطخري من الشافعية محل حاجة وضرورة ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين وهو محكي عن طائفة من أهل البيت ويجوز

صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفُل كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم لوجود المقتضى السالم عن المعارض العادم وهو أحد القولين في مذهب أحمد وكذا إن كانوا غارمين أو مكاتبين أو أبناء السبيل وهو أحد القولين أيضاً وإذا كانت الأم فقيرة ولها أولاد صغار لهم مال ونفقتها تضر بهم أعطيت من زكاتهم والذي يخدمه إذا لم تكفه أجرته أعطاه من زكاته إذا لم يستعمله بدل خدمته ومَن كان في عياله قوم لا تجب عليه نفقتهم فله أن يعطيهم من الزكاة ما يحتاجون إليه مما لم تجر عادته بإنفاقه من ماله واليتيم المميز يقبض الزكاة لنفسه وإن لم يكن مميزاً قبضها كافلة كائناً من كان وأما إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع لكن إذا كان له دين على من يستحق الزكاة فأعطاه منها وشارطه أن يعيدها إليه لم يجز وكذا إن لم يشرط لكن قصده المعطي في الأظهر وهل يجوز أن يسقط عنه قدر ذلك الدين ويكون ذلك زكاة ذلك الدين فيه قولان في مذهب أحمد وغيره أظهرهما الجواز لأن الزكاة مواساة ومَن ليس معه ما يشتري به كثيباً مشتغل فيها يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري له به ما يحتاج إليه في إقامة مؤنته وإن لم ينفقه بعينه في المؤنة وقيل: الرجل يكون له الزرع القائم وليس عنده ما يحصده أيأخذ من الزكاة قال: نعم يأخذ ويأخذ الفقير من الزكاة ما يصير به غنياً وإن كثُر وهو أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي ويجوز إعتاق الرقيق من الزكاة وافتكاك أسرى المسلمين وهو مذهب أحمد ويجوز للإمام أن يعتق من مال الفيء والمصالح إذا كان في الاعتاق مصلحة أما لمنفعة المسلمين أو لمنفعة المعتق أو تأليفاً لقلوب مَن يحاج إلى تأليفه وقد ينفذ العتق حيث لا يجوز إذا كان في الرد فساد كما في الولايات مثل أن يكون قد أسلموا وهم لكافر ذمي أو معاهد حربي ومَنْ لم يحج حجة الإسلام وهو

فقير أعطي ما يحج به وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويبرأ بدفع الزكاة إلى ولي الأمر العادل وإن كان ظالماً لا يَصْرف الزكاة في المصارف الشرعية فينبغي لصاحبها أن لا يدفعها إليه فإنْ حصل له ضرر بعد دفعها إليه فإنه يجزئ عنه إذا أخذت منه في هذه الحالة عند أكثر العلماء وهم في هذه الحال ظلموا مستحقها كولي اليتيم وناظر الوقف إذا قبضا المال وصرفاه في غير مصارفه الشرعية ولا تسقط الزكاة والحج والديون ومظالم العباد عمَنْ مات شهيداً وإذا قبض من ليس من أهل الزكاة مالاً من الزكاة وصرفه في شراء عقار أو نحوه فالنَّماء الذي حصل بعمله وسعيه يجعل مضاربة بينه وبين أهل الزكاة وإعطاء السُؤال فرض كفاية إنْ صدقوا ومَن سأل غيره الدعاء لنفع ذلك الغير أو نفعهما أثيب وإن قصد نفع نفسه فقط نهى عنه كسؤال المال وإن كان قد لا يأثم قال أبو العباس في "الفتاوى المصرية": لا بأس بطلب الناس الدعاء بعضهم مِن بعض لكن أهل الفضل يُفوزون بذلك إذ الذي يطلبون منه الدعاء إذا دعا لهم كان له من الأجر على دعائه أعظم مِن أجره لو دعا لنفسه وحده ويلزم عامل الزكاة رفع حساب ما تولاه إذا طلب منه الخراج وصلة الرحم المحتاج أفضل من العتق

كتاب الصوم
*
" كتاب الصوم"
تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا فإنْ اتفقت لزمه الصوم وإلا فلا وهو الأصح للشافعية وقول في مذهب أحمد ومَن رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته لم يلزمه الصوم ولا غيره ونقله حنبل عن أحمد في الصوم وكما لا يعرِّف ولا يضحي وحده والنزاع مبني على أصل وهو: أن الهلال هو اسم لما يطلع من السماء وإن لم يشتهر ولم يظهر أو لأنه لا يسمى هلالاً إلا بالاشتهار والظهور كما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد وإن نوى نذراً أو نفلاً ثم بان من رمضان أجزأه إن كان جاهلاً كمن دفع وديعة رجل إليه على

طريق الشرع ثم تبين أنه كان حقه فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان بل يقول له الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي ومَن خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى والصائم لما يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصيام ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي رمضان النية المترددة كقوله: إن كان غداً من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويصح صوم الفرض بنية من النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل كما إذا شهدت النية بالنهار وإن حال دون منظرة لهلال ليلة الثلاثين غيم أو قتر فصومه جائز لا واجب ولا حرام وهو قول طوائف من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة والمنقولات الكثيرة المستفيضة عن أحمد إنّما تدلَّ على هذا ولا أصل للوجوب في كلامه ولا في كلام أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- وحكى أبو العباس أنه كان يميل أخيراً إلى أنه لا يستحب صومه ومَنْ تجدد له صوم بسبب -كما إذ قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار- فإنّه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء وإن كان قد أكل والمريض إذا خاف الضرر استحب له الفطر والمسافر الأفضل له الفطر فإنْ أضعفه عن الجهاد كره له بل يجب منعه عن واجب وأفتى أبو العباس لما نزل العدو دمشق في رمضان بالفطر في رمضان للتقوِّي على جهاد العدو وفعله وقال: هو أولى للسفر ويصح صوم الجنُب باتفاق الأئمة وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أقل من أربعة أيام فله الفطر وإذا نوى صيام التطوع بعد الزوال ففي ثوابه روايتان عن أحمد والأظهر الثواب وإن لم ينو الصوم ولكن إذا اشتهى الأكل واستمر به الجوع فهذا يكون جوعه من باب المصائب التي تكفر بها خطاياه ويثاب على صبره عليها ولا يكون من باب الصوم الذي هو عبادة يثاب عليها ثواب الصوم و الله سبحانه وتعالى أعلم
"فصل"
ولا يفطر الصائم بالاكتحال والحقنة وما يفطر في احليله ومداواة المأمومة والجائفة وهو قول بعض أهل العلم ويفطر بإخراج الدم بالحجامة وهو مذهب أحمد وبالفصد والتشريط وهو وجه لنا أو بإرعاف نفسه وهو قول

الأوزاعي ويفطر الحاجم إن مص القارورة ولا يفطر بمذي بسبب قبلة أو لمس أو تكرار نظر وهو قول أبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابنا وأما إذا ذاق طعاماً ولفظه أو وضع في فيه عسلاً ومجه فلا بأس به للحاجة كالمضمضة والاستنشاق والكذب والغيبة والنميمة إذا وجدت من الصائم فمذهب الأئمة أنه لا يفطر أنه لا يعاقب على الفطر كما يعاقب من أكل أو شرب والنبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر "رب صائم حظه من الصوم الجوع والعطش" لما حصل من الإثم المقاوم للصوم وهذا أيضاً لا تنازع فيه بين الأئمة ومَنْ قال: إنّها تفطر بمعنى أنه لم يحصل مقصود الصوم أو: أنها قد تذهب بأجر الصوم فقوله يوافق قول الأئمة ومَن قال: إنها تفطر بمعنى أنه يُعاقب على ترك الصيام فهذا مخالف لقول الأئمة وإذا شتم الصائم استحب أن يجيب بقوله: إني صائم وسواء كان الصوم فرضاً أو نفلاً وهو أحد الوجوه في مذهب أحمد وشم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" صححه الترمذي من حديث زيد بن خالد والمراد بتفطيره أن يشبعه ومَن أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل فبان نهاراً فلا قضاء عليه وكذا من جامع جاهلاً بالرفث أو ناسياً وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإذا أكره الرجل زوجته على الجماع في رمضان يُحمل عنها ما يجب عليها وهل تجب كفارة الجماع في رمضان لإفساد الصوم الصحيح أو لحرمة الزمان فيه قولان الصواب الثاني
"فصل"
وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه لكبره ونحوه أو عن ميت وهما معسران توجه جوازه لأنه أقرب إلى المماثلة من المال وحكى القاضي في صوم النذر في حياة الناذر نحو ذلك ومَنْ مات وعليه صوم نذر أجزأ الصوم عنه بلا كفارة ولا يقضي متعمد بلا عذر صوماً ولا صلاة ولا تصح منه وما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في رمضان بالقضاء فضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه وإذا شرعت المرأة في قضاء رمضان وجب عليها إتمامه

ولم يكن لزوجها تفطيرها وإن أمرها أن تؤخر القضاء قبل الشروع فيه كان حسناً لحديث عائشة
"فصل"
يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر للأخبار الصحيحة وفي بعضها: هو كصوم الدهر والمراد بذلك أنَّ مَن فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر من غير حصول المفسدة وصيام يوم عرفة كفارة سنتين فلو غم هلال ذي الحجة أو شهد برؤيته من لا تقبل شهادته إمّا لانفراده بالرؤية أو لكونه ممن لا يجوز قبوله ونحو ذلك واستمر الحال على إكمال ذي القعدة فصوم يوم التاسع الذي هو يوم عرفة من هذا الشهر المشكوك فيه جائز بلا نزاع
قلت: ولكن روى ابن أبي شيبة في "كتابه" عن النخعي في صوم يوم عرفة في الحضر
إذا كان فيه اختلاف فلا يصومن وعنه قال: كانوا لا يرون بصوم يوم عرفة بأساً إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح
وروي عن مسروق وغيره من التابعين مثل ذلك وكلام هؤلاء قد يقال: إنه محمول على كراهة التنزيه دون التحريم
و الله أعلم
وأما إن شهد بهلال ذي الحجة من يثبت الشهر به لكن لم يقبله الحاكم إما لعذر ظاهر أو لتقصير في أمره فأقول: هذه الصورة تخرج على الخلاف المشهور في
مسألة المنفرد بهلال شوال هل يفطر عملاً برؤيته أم لا يفطر إلا مع الناس في ذلك قولان مشهوران فعلى قول من يقول: لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال بل يصوم يفطر إلا مع النّاس فإنه يقول: لا يستحب صوم يوم عرفة للشاهد الذي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة ومَنْ قال في الشاهد بهلال شوال يفطر سراً قال هنا: أنه يفطر ولا يصوم لأنه يوم عيد في حقه ولكن لا يُضحي ولا يقف بعرفة بذلك وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ولا يكره إفراده بالصوم ومقتضى كلام أحمد أنه يُكره وهو قول ابن عباس وأبي حنيفة ووجب صومه ونسخ وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما- ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابنا

وصوم الدهر الصواب قول من جعله تركاً للأولى أو كرهه ومَن صام رجب معتقداً أنه أفضل من غيره من الأشهر أَثم وعُزر وعليه يحمل فعل عمر وفي تحريم إفراده وجهان ومَن نذر صومه كل سنة افطر بعضه وقضاه وفي الكفارة خلاف وأما مَن صام الأشهر الثلاثة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصوم شهراً كاملاً إلا شهر رمضان وكان يصوم أكثر شعبان ولم يصح عنه في رجب شيء وإذا أفطر الصائم بعض رجب وشعبان كان حسناً ولا يكره صوم العشر الأواخر مِن شعبان عند أكثر أهل العلم ولا يكره إفراد يوم السبت بالصوم ولا يجوز تخصيص صوم أعياد المشركين ولا صوم يوم الجمعة ولا قيام ليلتها قال أبو العباس في رده على الرافضي: جاءت السنة بثوابه على ما فعله وعقابه على ما تركه ولو كان باطلاً كعدمه لم يجبر بالنوافل والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم وهو ما أبرأ الذمة فقولهم بطلت صلاته وصومه لمن ترك ركنً بمعنى: أنه لا يثاب عليها شيئاً في الآخرة وقال تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33 الإبطال هو بطلان الثواب ولا يسلم بطلان جميعه بل قد يثاب على مافعله فلا يكون مبطلاً لعمله وأما ثامن شوال فليس عيداً لا للأبرار ولا للفجار ولا يجوز لأحد أن يعتقده عيداً ولا يحدث فيه شيئاً من شعائر الأعياد
"فصل"
في مسائل التفضيل وليلة القدر مِن أفضل الليالي وهي في الوتر في العشر الأخير من رمضان والوتر قد يكون باعتبار الماضي فيطلب إحدى وعشرين وليال ثلاث إلى آخره وقد يكون باعتبار الباقي لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتاسعة تبقى" الحديث فإذا كان الشهر ثلاثين فتكون تلك من ليالي الإشفاع وليلة الثانية والعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع سابعة تبقى كما فسره أبو سعيد الخدري وإن كان تسعاً وعشرين كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع إجماعاً ويوم النحر أفضل أيام العام وليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة وخديجة إيثارها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها

عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين وإيثار عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها ومريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون من أفضل النساء والفواضل من نساء هذ الأمة كخديجة وعائشة وفاطمة أفضل منهما والصواب الذي عليه عامة المسلمين وحكي الإجماع عليه أنهما ليستا بنبيتين وأما أزواجهما في الآخرة فقد روي في مريم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو العباس: ولا أعلم صحة ذلك ولا أعلم ما يقطع به والغني الشاكر والفقير الصابر أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن استويا في الدرجة وصالحوا البشر أفضل باعتبار النهاية وصالحوا الملك أفضل باعتبار البداية وعشر ذي الحجة أفضل من غيره لياليه وأيامه وقد يقال ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل وأيام تلك أفضل
قال أبو العباس: والأول أظهر ورمضان أفضل الشهور ويكفر من فضل رجباً عليه ومكة أفضل بقاع الله وهو قول أبي حنيفة والشافعي ونص الروايتين عن أحمد قال أبو العباس ولا أعلم أحد فضل تربة النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة إلا القاضي عياض ولم يسبقه إليه أحد ولا وافقه والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل وذكره القاضي وأبو الجوزي انتهى

باب الاعتكاف
"باب الاعتكاف"
ومن نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة تعين ما امتاز على غيره بمزية شرعية كقدم وكثرة جمع اختاره أبو العباس في موضع آخر من وجهين في مذهبنا ولا يجوز سفر الرجل إلى المشاهد والقبور والمساجد الثلاثة وهو قول مالك وبعض أصحابه وقال ابن عقيل من أصحابنا: وإن قرأ القرآن عند الحكم الذي أنزل له أو ما يناسبه فحسن كقوله لمن دعاه

إلى ذنب تاب منه: وما يكون لنا أن نتكلم بهذا وقوله عندما أهمه أمر إنما أشكو بثي وحزني إلى الله والتحقيق في الصمت أنه إذا طال حتى يتضمن ترك الكلام الواجب صار حراماً كما قال الصديق وكذا إن بعد بالصمت عن الكلام المستحب والكلام الحرام يجب الصمت عنه وفضول الكلام ينبغي الصمت عنه ولم ير أبو العباس لمن قصد المسجد للصلاة أو غيرها أن ينوي الإعتكاف مدة لبثه والسياحة في البلاد لغير قصد شرعي كما يفعله بعض النساك أمر منهي عنه قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فِعل النبيين والصالحين

كتاب الحج
*
" كتاب الحج"
ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين وهو ظاهر إطلاق أحمد وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر فإنّ شق عليه ولم يضره وجب وإلا فلا وإنّما لم يقيده أبو عبد الله لسقوط الفرائض بالضرر وتحرم في المعصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فحينئذٍ ليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب لكن يستطيب أنفسهما فإن أذنا وإلا حج وليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم وعليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك حتى أن كثيراً من العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النفقة عليه مدة الحج والحج واجب على الفور عند أكثر العلماء والقول بوجوب العمرة على أهل مكة قول ضعيف جداً مخالف للسنة الثابتة ولهذا كان أصح الطريقين عن أحمد أن أهل مكة لا عمرة عليهم رواية واحدة وفي غيرهم روايتان وهي طريقة أبي محمد وطريقة أبي البركات في العمرة ثلاث روايات ثالثها تجب على غير أهل مكة ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله وخلف مالاً حج عنه منه في أظهر قولي

الشرعي والتجارة ليست محرمة لكن ليس للإنسان أن يفعل ما يشغله عن الحج ومن أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها فإن لم يكف فيكون أعان على نفسه فلا يكون شهيداً ويجوز الخفارة عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر ولا يجوز مع عدمها كما يأخذه السلطان من الرعايا وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم
قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة وأما إماء المرأة يسافرن معها ولا يفتقرن إلى محرم لأنه لا محرم لهن في العادة الغالبة فأما عتقاؤها من الإماء بيض لذلك أبو العباس قال بعض المتأخرين: يتوجه احتمال أنهن كالإماء على ما قال إذ لم يكن لهن محرم في العادة الغالبة أو احتمال عكسه لانقطاع التبعية وملك أنفسهن بالعتق بخلاف الأمة وصحح أبو العباس في "الفتاوى المصرية": أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم والمحرم زوج المرأة أو مَن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب ولو كان النسب وطء شبهة ولا زنا وهو قول أكثر العلماء واختاره ابن عقيل وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين في التحريم لا المحرمية اتفاقاً ويجوز للرجل الحج عن المرأة باتفاق العلماء وكذا العكس على قول الأئمة الأربعة وخالف فيه بعض الفقهاء والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة وأمّا إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته فأمّا إذا كان كلاهما تطوعاً فالحج أفضل لأنه عبادة بدنية مالية وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق ويترك المحرمات ويصلي الصلوات الخمس ويصدق الحديث ويؤدي الأمانة ولا يتعدى على أحد
"فصل"
وينعقد الإحرام بنية النسك مع التلبية أو سوق الهدي وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وقاله جماعة من المالكية وحكى قولاً للشافعية ويحرم عقب فرض إن كان أو فعل لأنه ليس للإحرام صلاة تخصه ويستحب

للمحرم الاشتراط إن كان خائفاً وإلا فلا جمعاً بين الأخبار والقَران أفضل من التمتع إن ساق هدياً وهو إحدى الروايتين عن أحمد
اعتمر وحج في سفرتين أو اعتمر قَبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة
ومن أفرد العمرة بسفرة ثم قدم في أشهر الحج فإنه يتمتع والنبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً
قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والتمتع أحب إلي قال أبو العباس: وعلى هذا متقدمو أصحابنا ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح ويجوز العكس بالاتفاق ويجوز للمرأة المحرمة أن تغطي وجهها بملاصق خلا النقاب والبرقع ويجوز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية عليه فيه ومَن ميقاته الجحفة كأهل مصر والشام إذا مروا على المدينة فلهم تأخير الإحرام إلى الجحفة ولا يجب عليهم الإحرام من ذي الحُليفة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ويجوز للمحرم لبس مقطوع الكعبين مع وجود النعل واختاره ابن عقيل في "المفردات" وأبو البركات ومن جامع بعد التحلل الأول يعتمر مطلقاً وعليه نصوص أحمد ويجزئ في فدية الأذى رطلاً خبز عراقية وينبغي أن يكون بأدم ومما يأكله أفضل من بر أو شعير والمحرم إن احتاج وقطع شعره لحجامة أو غسل لم يضره والقمل والبعوض والقرد إن قرصه قتله عقاباً وإلا فلا يقتله ولا يجوز قتل النحل ولو بأخذ كل عسله وإن لم يندفع ضرره إلا بقتله جاز ويسن أن يستقبل الحجر الأسود في الطواف وتسن القراءة أفضل من جنس الطواف لا الجهر بها والشادر وإن ليس من البيت بل جعل عماداً له ولا يشرع تقبيل المقام ومسحه إجماعاً فسائر المقامات أولى ولا يشرع صعود جبل الرحمة إجماعاً وتختلف أفضلية الحج راكباً أو ماشياً بحسب الناس والوقوف راكباً

أفضل وهو المذهب ويقص من شعره وإذا حل لا من كل شعرة بعينها والحلق أو التقصير إما واجب أو مُستحب ومن حكى عن أحمد أنه مباح فقد غلط ولا يستحب فيه يتمنع أن يطوف طواف قدوم بعد رجوعه من عرفة قبل الإفاضة هذا هو الصواب وقاله جمهور الفقهاء وهو أحد القولين في مذهب أحمد والمتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة وهو إحدى الروايتين عن أحمد نقلها عبد الله عن أبيه كالقارن ويحل للمحرم بعد التحلل كل شيء حتى عقد النكاح هذا منصوص أحمد إلا النساء
وليس للإمام المقيم للمناسك التعجيل لأجل مَن يتأخر
قال أصحابنا: وإن خرج إنسان غير حاج فظاهر كلام أبي العباس لا يودع وذكر ابن عقيل وابن الزاغوني: لا يودع البيت ظهره حتى يغيب
قال أبو العباس: هذا بدعة مكروهة ويحرم طوافه بغير البيت العتيق اتفاقاً واتفقوا أنه لا يقبله ولا يتمسح به فإنّه مِن الشرك والشرك لا يغفره الله وكذا الخروج من مكة لعمرة تطوع بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على عهده لا في رمضان ولا في غيره ولم يأمر عائشة بها بل أذن لها بعد المراجعة تطييباً لقلبها وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقاً وخروجه عند مَن لم يكرهه على سبيل الجواز والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم دليل أصلاً وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف توضأ فهذا لا يدلَّ فإنه كان يتوضأ لكل صلاة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن حج فلم يَرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" يدخل فيه من أتى بالعمرة ولهذا أنكر الإمام أحمد على مَنْ قال: إن حجة المتمتع حجة مكية ومن اعتقد أن الحج يسقط ما عليه من الصلاة والزكاة فإنّه يُستتاب بعد تعريفه إنْ كان جاهلاً فإنْ تاب وإلا قتل ولا يسقط حق الآدمي من مال أو عرض أو دم بالحج إجماعاً ومَنْ جرد مع الحاج أو غيره وجمع له من الجند

المقطعين ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له أخذه ولا ينقص أجره وله أجر الحج والجهاد وليس في هذا اختلاف وشهر السلاح عند قدوم تبوك بدعة محرمة وما يذكره الجهال من حصار تبوك كذب لا أصل له والمحصر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصر بعدو وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها ورجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة أو لعجزها عنه أو لذهاب الرفقة والمحصر يلزمه دم في أصح الروايتين ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعاً وهو إحدى الروايتين

باب الهدي والأضحية
"باب الهدي والأضحية"
وتجوز الأضحية بما كان أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلاً بالحكم ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية وغيرها لقصة أبي بردة بن نيار ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولن يجزئ أحد بعدك" أي بعد حالك والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقاً وتجزي الهتمى التي سقط بعض أسنانها في أصح الوجهين ولا تضحية بمكة وإنّما هو الهدي وإذا ذبح قال: اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم ولا يستحب أخذ شعره بعد ذبح الأضحية وهو إحدى الروايتين عن أحمد والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها وآخر وقت ذبح الأضحية آخر أيام التشريق وهو مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ولم ينسخ تحريم الإدخار عام مجاعة لأنه سبب التحريم وقاله طائفة من العلماء ومن عدم ما يضحي به ويعق اقترض وضحى وعق مع عدم القدرة على الوفاء والأضحية من النفقة بالمعروف فتضحي امرأة من مال زوجها عن أهل البيت بلا أذنه ومدين لم يطالبه رب الدين ولا يعتبر التمليك في العقيقة

كتاب البيع
*
" كتاب البيع"
وكل ما عده الناس بيعاً أو هبة من متعاقب أو متراخ مِن قولٍ أو فعلٍ:

باب الربا
"باب الربا"
والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم وهو رواية عن أحمد ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل ويجعل الزائد في مقابلة الصيغة ليس بربا ولا بجنس بنفسه فيباع خبز بهريسة

وزيت بزيتون وسمسم بسيرج والمعمول من النحاس والحديد إذا قلنا: يجري الربا فيه يجري في معموله إذا كان يقصد وزنه بعد الصنعة كثياب الحرير والأسطال ونحوها وإلا فلا وهو ثالث أقوال أهل العلم ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه مقصوداً للحم ويجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري وقاله مالك وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزناً وعن أحمد ما يدل عليه ويجوز العرايا والزروع ويجوز
مسألة مُدَّ عجوة وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته لأن الحلية ليست بمقصودة ويجوز بيع فضة لا يقصد غشها بخالصة مثلاً بمثل ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقديْن وهو رواية عن أحمد نقلها أبو منصور واختارها ابن عقيل وما جاز التفاضل فيه كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيه إن كان متساوياً وإلا فلا وهو رواية عن أحمد وإن اصطرفا ديناً في ذمتهما جاز وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة ومالك خلافاً لما نص عليه أحمد ويحرم
مسألة القورق وهو رواية عن أحمد ومن باع ربوياً نسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع نسيئة ما لم تكن حاجة وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه والشيخ أبي محمد المقدسي في حله والتحقيق في عقود الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد وإن كان بعض الفقهاء يقول بطل العقد فهو بطلان ما لم يتم بطلان ما تم والكيمياء باطلة مُحرمة وتحريمها أشد من تحريم الربا ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها وأُفتي بعض ولاة الأمور بإتلافها
"فصل"
والصحيح أنه لا يجوز بيع المقاثي جملة بعروقها سواء بدا

صلاحها أو لا وهذا القول له مأخذان أحدهما: أن العروق كأصول الشجر فبيع الخضروات قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بدو صلاحه يجوز تبعاً والمأخذ الثاني وهو الصحيح: أن هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة لأن الحاجة داعية إلى ذلك ويجوز بيع المقاثي دون أصولها وقاله بعض أصحابنا وإذا بدا صلاح بعض شجرة جاز بيعها وبيع ذلك الجنس وهو رواية عن أحمد وقول الليث بن سعد وبقية الأجناس التي ساء حمله فإن أصاب ذلك أو الزرع الذي بجائحة ولو من جراد أو جيش لا يمكن تضميَّنه فمِن ضمان بائعه إن لم يفرط المشتري وثبتت الجائحة في المزارع كما إذا اكترى الأرض بألف مثلاً وكانت تساوي بالجائحة سبعمائة وبعض الناس يظن أن هذا خلاف ما في المعنى أن نفسه إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزرع لا يكون كالثمرة المشتراة فهذا ما فيه خلاف وإنّما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها فيكون كما لو انقطع الماء عن الرحا ونبتت الجائحة في المزارع ولو قال في الإجارة إنّه أجره إياها مقيلاً أو مُضيفاً أو مراحاً أو مزروعاً وثبتت الجائحة في حانوت أو حمام نقص نفعه وحكم بذلك أبو الفضل سليمان بن جعفر المقدسي
قال أبو العباس: لكنّه بخلاف ما رأيته عن الإمام أحمد وقياس أصول أحمد ونصوصه: إذا عطل نفع الأرض بآفة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة كاستهدام الدار ولو يبست الكروم بجراد أو غيره سقط من الخراج حسب ما يعطل من النفع وإذا لم يمكن النفع به ببيع أو إجارة أو عمارة أو غير ذلك لم يجز المطالبة بالخراج

باب السلم
"باب السلم"
ولو أسلم مقداراً معلوماً إلى أجل معلوم في شيء يحكم أنه إذا حل يأخذه بأنقص مما يساوي بقدر معلوم صح كالبيع بالسعر ويصح السلم حالاً إن كان المُسلم فيه موجوداً في ملكه وإلا فلا ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره ولا فرق بين دين السَلَم وغيره وهو رواية عن أحمد وقال ابن عباس: لكن بقدر القيمة فقط لئلا يربح فيما لم يضمن ويصح تعليق البراءة على شرط وهو عن أحمد
وما قبضه أحد الشريكين من دين مشترك بعقد أوراث أو إتلاف أو ضريبة وسبب استحقاقها واحد فلشريكه الأخذ من الغريم ويحاصه فيما قبضه وهو مذهب الإمام وكذا لو تلف ولو تبارءا ولأحدهما على الآخر دين مكتوب فادعى استثناء بقلبه وإنه لم يبرئه منه قُبل ولخصمه تحليفه

باب القرض
"باب القرض"
ويجوز قرض الخبز ورد مثله عدداً بلا وزن من غير قصد الزيادة وهو مذهب أحمد ولو أقرضه في بلد آخر جاز على الصحيح ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يوماً ويحصد معه الآخر يوماً أو يسكنه الآخر بدلها لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما وإذا ظهر المقترض مُفلساً ووجد المقرض عين ماله فله الرجوع بعين ماله بلا ريب والدين الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضاً أو غيره وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد ويتخرج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل بعد لزوم العقد ولو أقرض إكاره بذراً أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد وله نصيب المثل ولو تلف لم يضمنه لأنّه أمانة ولو اقترض من

رجل قروضاً متفرقة ووكل المقرض في ضبطها أو ابتاع منه شيئاً ووكل البائع في ضبط المبيع حفظاً أو كتابة فينبغي أن يكون قول هذا المؤتمن ههنا مقبولاً ويجب على المقترض أن يُوفي المقرض في بلد القرض ولا يكلفه مؤونة السفر والحمل

باب الضمان
"باب الضمان"
وقياس المذهب أنه يصح بكل لفظ يفهم منه الضمان عُرفاً مثل: زوجه وأنا أؤدي الصداق أو: بعه وأنا أعطيك الثمن أو: اتركه لا تطالبه وأنا أعطيك الثمن ولو تغيب مضمون عنه قادر فأمسك الضامن وغرم شيئاً أو أنفقه في الحبس رجع به على المضمون عنه ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة وتجوز كتابته والشهادة به لم ير جوازها وكذلك تجوز الشهادة على المزارعة لمن لم يَر جوازها لأن ذلك محل اجتهاد وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول وما لم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد ومن كفل إنساناً فسلمه إلى المكفول له ولا ضرر في تسليمه برئ ولو في حبس الشرع ولا يلزمه اختياره منه إليه عند أحد الأئمة والسجان ونحوه ممن هو وكيل على بدن الغريم كالكفيل للوجه عليه إحضار الخصم فإنْ تعذر إحضاره كان كما لو لم يحضر المكفول به يضمن ما عليه عندنا وعند مالك وإذا لم يكن الوالد ضامناً لولده ولا له عنده مال يجب له على الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده ونحوه ولزمه ذلك
"فصل"
والحوالة على ماله في الدين إن أذن في الاستيفاء فقط والمختار الرجوع ومطالبته وليس للابن أن يحيل على الأب ولا يبيح دينه إذا جوَّزنا بيع ما على الغريم إلا برضاء الأب وكره الإمام أحمد أن يتزوج الرجل أو

يقترض أو يشتري إذا لم يعلم الآخر بعسرته أولاً لأن ظاهر الحال أن الرجل إنّما يعامل من كان قادراً على الوفاء فإذا كتم ذلك كان عذراً
"فصل"
ويجوز رهن العبد المسلم مِن كافر بشرط كونه في يد مسلم واختاره طائفة من أصحابنا ويجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على دين غيره كما يجوز أن يضمنه وأولى وهو نظير إعارته للمرهن وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فالقول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن وهو مذهب مالك ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين وهو مذهب أحمد وغيره وإذا لم يكن للمديون وفاء غير الرهن وجب على رب الدين إمهاله حتى يبيعه فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه من الحبس أو كان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله

باب الصلح وحكم الجوار
"باب الصلح وحكم الجوار"
ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً وهو رواية عن أحمد وحكى قولاً للشافعي ويصح عن دية الخطأ و عن قيمة المتلف غير المثل بأكثر منها من جنسها وهو قياس قول أحمد والغبن والمنفعة التي لا قيمة لها عادة كالاستظلال بجدار الغير والنظر في سراجه لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقاً ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمن لشريكه نصيبه وإذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح قولي العلماء ويلزم إلا على التستر بما يمنع مشارفة الأسفل وإن استويا وطلب أحدهما بناء السترة أُجبر الآخر معه مع الحاجة إلى السترة وهو مذهب أحمد وليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يُؤذي به جاره من بناء حمّام وحانوت وطبّاخ ودّقاق وهو مذهب أحمد
ومَن لم يسد بئره سداً يمنع من التضرر بها ضَمن ما تلف بها وله تعلية بنائه ولو أفضى إلى سد الفضاء عن جاره
قلت: وفيه على قاعدة أبي العباس نظر و الله أعلم

وليس له منعه خوفاً من نقص أجره ملكه بلا نزاع والمضارة مَبناها على القصد والإرادة أو على فعل ضرر عليه فمتى قصد الإضرار ولو بالمناخ أو فعل الاضرار من غير استحقاق فهو مُضار وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الأضرار فليس بمُضار ومِن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النخلة التي كانت تضر صاحب الحديقة لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة فلم يفعل فقال: " إنما أنت مُضار" ثم أمر بقلعها فدلَّ على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه ومن كانت له ساحة تلقى فيها التراب والحيوانات ويتضرر الجيران بذلك فإنّه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران إمّا بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران وإذا كان المسجد معداً للصلاة ففي جواز البناء عليه نزاع بين العلماء وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقاً وكذا إن لم يضر به عند الجمهور وإذا كان الجدار مختصاً بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار ولا يضر بصاحب الجدار ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد وحكم به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فالساباط الذي يضر بالمارة مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن نفسه رمى عمامته أو شج رأسه ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كُسرت رقبته والجمل اُلمحمَّل لا يمر هناك فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين بل يجب على صاحبه إزالته فإنْ لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر حتى لو كان الطريق منخفضاً ثم ارتفع على طور الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر و الله أعلم

باب الحجر
"باب الحجر"
وإذا لزم الإنسان الدين بغير معاوضة كالضمان ونحوه ولم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه في الإعسار وهو مذهب أحمد وغيره ومن أراد

سفراً وهو عاجز عن وفاء دينه فلغريمه منعه حتى يقيم كفيلاً بدينه ومَنْ طُولب بأداء دين عليه فطلب أمهالاً أُمهل بقدر ذلك اتفاقاً لكن إذا خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته أو بكفيل أو برسم عليه ومَنْ كان قادراً على وفاء دينه وامتنع أُجبر على وفائه بالضرب والحبس ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
قال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعاً لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر وللحاكم أن يبيع عليه ماله ويقضي دينه ولا يلزمه وإذا كان الذي عليه الحق قادراً على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أخرجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد وممن عرف بالقدرة فادعى إعساراً وأمكن عادة قُبل وليس له إثبات إعساره عند غيره من حبسه بلا إذنه ويقضي دينه من مال له فيه شبهة لأنه لا يبقى شبهة بترك واجب ولو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس بل يستحقها عليها بعد الحبس كحبسه في دين غيرها فله إلزامها ملازمة بيته ولا يدخل عليها أحد بلا إذنه ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه أسكنها حيثُ شاء ولا يجب حبسه بمكان معين فيجوز حبسه في دار نفسه بحيث لا يُمَكَّن من الخروج ولو كان قادراً على أداء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك إذ التعزير لا يختص بنوع معين وإنّما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله ومَنْ ضاق ماله عن ديونه صار محجوراً عليه بغير حكم حاكم بالحجر وهو رواية عن أحمد ومَن عليه نفقة واجبة فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة وكلام أحمد يدلَّ عليه وإن نُوزع المحجور عليه لحظر في الرشد فشهد شاهدان برشده قُبل لأنه قد يعلم بالاستفاضة ومع عدم البيّنة له على وليه أنه لا يعلم رشده ما صرفه في الحرام أو كان صرفه في مباح قدراً زائداً على المصلحة ولو وصى من فسقه ظاهر أو لا وجب إنفاذه كحاكم فاسق حكم بالعدل والولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم وهو

مذهب أبي حنيفة ومنصوص الشافعي في "الأم" وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جداً والحاكم العاجز كالعدم ولو مات مَن يتجر لنفسه وليتيمه بماله وقد اشترى شيئاً ولم يعرف لمن هو لم يقسم ولم يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقوله الشافعي بل مذهب أحمد أنه يفرغ فمن فرغ خلف واحد ولو مات الوصي وجهل بقاء مال وليه كان ديناً في تركته ولوصي اليتيم أقل الأمريْن من أجرة مثله أو كفايته ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قوياً خبيراً بما ولي عليه أميناً عليه والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به ولا يستحق الأجرة المسماة لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل كالعمل في سائر العقود الفاسدة ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرفه ولو قدر صدقه فتسليطه عليه عدوان وتردد أبو العباس فيما إذا لم يمكن الولي خلاص حق موليه إلا برفع مَن هو عليه إلى والٍ يظلمه ويستحب التجارة بمال اليتيم لقول عمر وغيره: اتجروا بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة

باب الوكالة
"باب الوكالة"
قال القاضي في ضمن
مسألة: بقاء الوكيل بموت الموكل فأما إن أخرج الموكل فيه عن ملكه مثل اعتاقه العبد وبيعهفإنه تنفسخ الوكالة بذلك ففرق بين الموت وبين العتق والمبيع بأن حكم الملك هنا قد زال وهناك السلعة بعد الموت باقية على حكم مالكها وما قاله القاضي فيه نظر فإنَّ الانتقال بالموت أقوى منه بالبيع والعتق فإنّ هذا يمكن الموكل الاحتراز عنه فيكون بمنزلة عزله بالقول وذلك زال الملك فيه بفعل الله تعالى وإذا تصرف بلا إذن ولا ملك ثم تبين أنه كان وكيلاً أو مالكاً ففي صحة تصرفه وجهان كما لو تصرف بعد العزل ولم يعلم فلو تصرف بإذن ثم تبين أن الأذن كان من غير المالك والمالك أذن له ولم يعلم أو أذن بناء على جهة ثم تبين أنه لم يكن يملك الأذن بها بل بغيرها أو بناء أنه مالك شبر ثم تبين أنه كان وارثاً فإنْ قلنا يصح التصرف في الأول فههنا أولى وإن قلنا لا يصح هناك فقد يقال: صح هنا لأنه كان مباحاً

له في الظاهر والباطن لكن الذي اعتقده ظاهر ليس هو الباطل فنظيره إذا اعتقد أنه محدث فتطهر ثم تبين فساد طهارته وإنه كان متطهراً قبل هذا ولو وكل شخصاً أن يوكل له فلاناً في بيع ونحوه فقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: بع هذا ولم يشعر أنه وكيل الموكل
قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة فقلت: نسبة أنواع التوكيل والموكلين إلى الوكيل كنسبة أنواع التمليك والمملكين إلى الملك ثم لو ملك شيئاً لم يحتج أن يتبين هل هو وكيله أو وكيل فلان وإن كان الحكم فيهما مختلفاً بالنسبة إلى الموكل والمملك نقل ههنا في رجل دفع إلى رجل ثوباً يبيعه فباعه وأخذ الثمن فوهبه المشتري من الثمن درهماً فإنَّ الضمان على الذي باع الثوب فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع وما نقص فهو عليه ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده وينبغي أن يفصل إذا لم يلزمه والوكيل في الضبط والمعرفة مثل مَن وكل رجلاً في كتابة ماله وما عليه كأهل الديوان فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه وهذه
مسألة نافعة ونظير إقرار كتاب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليهم من الحقوق بعد موتهم وإقرار كتاب السلطان وبيت المال وسائر أهل الديوان مما على جهاتهم من الحقوق ومَن ناظر الوقف وعامل الصدقة والخراج ونحو ذلك فإنَّ هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة وإن استعمل الأمير كاتباً جابياً أو عاملاً أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه ومن استأمنه أميراً على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه وما هو اصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم لا سيما وللأخذ شبهة
قال في "المحرر": وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو بدونه صح ولزمه النقص والزيادة ونص عليه
قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم

ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجّر أو زارع أو ضارب ثم تبين الخطأ فيه مثل: أن يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه وهذا باب واسع وكذلك المضارب والشريك فإنّ عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما وتضمين مثل هذا فيه نظر وهو يشبه بما إذا قتُل في دار الحرب من يظنه حربياً فبان مسلماً فإنَّ جماع هذا أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل وأصول المذهب تشهد له بروايتين قال أبو حفص في "المجموع": وإذا سمى له ثمناً فنقص منه نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور إذا أمر رجلاً أن يبيع له شيئاً فباعه بأقل قال: البيع جائز وهو ضامن لما نقص قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن لأنهما يريان فساد العقد وهو يدعي صحته فكان القول قوله ويضمن الوكيل النقص وإذا وكله أو أوصى إليه أن يتصدق بمال ذكره فإنّه يصح وتعيين المعطي إلى الوكيل أو الوصي هذا هو الذي ذكروه في الوصية والوكالة مثلها وكذلك لو وكله أو أوصى إليه بإخراج حجة عنه وإن وكله أو أوصى إليه أن يقف عنه شيئاً ولم يُعين مَصرفاً فينبغي أن يكون كالصدقة فإنَّ المصرف للوقف كالمصرف للصدقة ويبقى إلى الوكيل والوصي تعيين المصرف وإن عين مصرفاً منقطعاً فينبغي أن يكون إلى الوصي تتميمه بذكر مصرف مؤيد إلا أن يقال: الصدقة لها جهة معلومة بالشرع والعرف وهم الفقراء وإنّما النظر للوصي في تعيين أفراد الجهة بخلاف الوقف فإنَه لا يتبين له جهة معينة شرعاً ولا عرفاً فالكلام في هذا ينبغي أن يكون كما لو نذر أن يقف أو يتصدق وحديث أبي طلحة يقتضي أنَّ مَنْ نذر الصدقة بمال فإنَّ الأفضل أن يصرفه في أقربيه وإن كان فيهم غني وهذا يقتضي أن الصدقة المطلقة في النذر ليست محمولة على الصدقة الواجبة في الشرع لكن على جنس المستحبة شرعاً ويتوجه

على أدنى الواجب أو أدنى التطوع فبين الوكالة والإيمان مشابهات والوكيل أمين لا ضمان عليه ولو عُزل قبل علمه بالعزل وقلنا: ينعزل لعدم تفريطه وكذا لا يضمن مشترٍ الأجرة إذا لم يعلم وهو أحد القولين ومَن وكل في بيع أو استئجار أو شراء فإنْ لم يسم الموكل في العقد فضامن وإلا فروايتان وظاهر المذهب تضمينه ولو تصرف الوكيل فادعى الموكل أنه عزله قبل التصرف لم يقبل فلو أقام بينه ببلد آخر وحكم به حاكم فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه وإلا كان حكماً على الغائب ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم فإن كان قد بلغه ذلك بعد الحكم الناقض له فهو مردود وإلا وجوده كعدمه
قال القاضي في "المجرد" و ابن عقيل في "الفصول": ولو جاء رجل إلى امرأة فقال لها: وكلني فلان لأزوجك له فرغبت في ذلك وأذنت لوليها في تزويجها ثم إن ذلك الموكل أنكر أن يكون وكله في التزويج له فالقول قوله ولا يلزمه النكاح ولا تلزم للوكيل بل يحكم ببطلانه ويتفرع على هذا أن الرجل إذا وكل وكيلاً في أن يتزوج له امرأة فتزوجها فلا بد أن يذكر حال العقد أنه تزوجها لفلان فإن أطلق ولم يسم الموكل لم يلزمه النكاح في حقه ولا في حق الموكل لأن الظاهر أنه عقد العقد لنفسه ونيته أن يعقده لغيره وإذا لم يذكر اسم ذلك الغير فقد أخل بالمقصود ولو وكله أن يشتري له سلعة فاشتراها لم يشترط في صحة العقد ذكر فلان بل إذا أطلق ونوى الشراء له صح لأن القصد منه حصول الثمن وقد وجد وإذا بطل عقد النكاح في حقهما فهل يلزم الوكيل نصف الصداق على روايتين
قال أبو العباس: فقد جعلا فيما إذا لم يسم الوكيل الموكل في العقد روايتين وهذا فيه نظر بل إذا قال: زوجتك فلانة فقال: قبلت فقد انعقد النكاح في الظاهر للوكيل فإذا قال: نويت أن النكاح لموكلي فهو يدعي فساد العقد وإنَّ الزوج غيره فلا يقبل قوله على المرأة إلا أن تُصدقه ولو صدقته لم يلزمه شيء قولاً واحداً إلا أنَّ هنا الإنكار من الزوج بخلاف مسألة انكار الوكالة ولو قبل

منه فتزوج غيرها ثم كتب لزوجته الجديدة وكالة وقال: متى رددتها كان طلاقها بيدك إلى مدة عشرين سنة وقد طلق التي بيدها الوكالة فهذه المسألة قد يظن أن الوكالة بحالها بناء على أن الزوج إذا وكل امرأته في بيع ونحوه ثم طلقها ثلاثاً لم تبطل الوكالة بالتطليق كما ذكره الفقهاء وليست كتلك والصواب في هذه الصورة أنها تبطل بالتطليق لأنه هناك لم يرد أن يطلقها وقد استناب غيره في ذلك وإنّما يريد أن يبيع متاعه فيوكل شخصاً وهنا المراد تمكينها هي من الطلاق لئلا تبقى زوجة إلا برضاها وأما بعد البينونة فلا يقصد رضاها كيف وقد طلقها وهذا كله إذا جعل الشرط لازماً وأمّا إذا لم يجعله شرطاً لازماً فيكون كما لو قال لها: ابتداء أمرك بيدك أو: أمر فلانة بيدك فإنّ هذا له الرجوع فيه قال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حق فصدقه الغريم لم يلزمه الدفع إليه ولا اليمين أن كذبه والذي يجب أن يقال: إن الغريم متى غلَب على ظنَّه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله تعالى الذي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وكيله وعلم له علامة فهل يقول أحد: أن ذلك الوكيل لم يكن يجب عليه الدفع وأمّا في القضاء فإنْ كان الموكل عدلاً وجب الحكم لأن العدل لا يجحد والظاهر أنه لا يستثني فإن دفع من عنده الحق إلى الوكيل ولم يصدقه بأنّه وكيل وأنكر صاحب الحق الوكالة رجع عليه وفاقاً ومجرد التسليم ليس تصديقاً وكذا إن صدقه في أحد قولي أصحابنا بل نص إمامنا وهو قول مالك لأنه متى لم يتبين صدقه فقد غره وكل إقرار كذب فيه ليحصل بما يمكن أساؤه ويجعل أنساً مثل من يقول: وكلت فلاناً ولم يوكله فهو نظير أن يجحد الوصية فهل يكون جحده رجوعاً ففيه وجهان وإذا اشترى شيئاً من موكله أو موليه كان الملك للموكل والمولى عليه ولو نوى شراءه لنفسه لأن له ولاية الشراء كالغصب لكن لو نوى أن يقع الملك له وهذه نية محرمة فتقع باطلة ويصير كأن العقد عري عنها إذا كان يريد النقد من مال المولى عليه أو الموكل قال أبو العباس في "تعاليقه" القديمة: حديث عروة في شراء الشاة يدل على أن الوكيل في شراء معلوم بمعلوم إذا

اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل وكذا ينبغي أن يكون الحكم ويغلب على ظني أنه منقول كذا حسبه في كفالة الكافي
قلت: ما قاله أبو العباس من النقل فصحيح قال صاحب "الكافي": ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة ولكن ذكره في وكالة الكافي فنسب العلم لأبي العباس فكتب كفالة الكافي و الله أعلم
"فصل"
الاشتراك في مجرد الملك بالعقد مثل أن يكون بينهما عقار فيشيعانه أو يتعاقد على أن المال الذي لهما المعروف بهما بينهما يكون نصفين ونحو ذلك مع تساوي ملكهما فيه فجوازه متوجه لكن يكون قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس بيع كما أن القسمة ليست بيعاً ولا نفقة للمضارب إلا بشرط أو عادة فإنْ شرطت مطلقاً فله نفقة مثل طعامه وكسوته وقد يخرج لنا أن للمضارب في السفر الزيادة على نفقة الحضر كما قلنا في الولي إذا جحد الصبي لأن الزيادة إنّما احتاج إليها لأجل المال وقال أبو العباس: أيضاً يتوجه فيها ما قلناه في نفعه في الصبي إذا أحجه الولي هل يكون الزائد فيها من مال الصبي أو مال الولي على القولين كذلك وقد ثبت مَن أصلنا صحة الإشتراك في العقود وإن تختلط الأعيان كما تصح الأقسام بالمحاسبة وإن لم تتميز الأعيان ولو دفع دابته أو نخلة إلى من يقوم به وله جزء من ثمانية صح وهو رواية عن أحمد ويجوز قسمة الدين في ذمة أو ذمم وهو رواية عن أحمد فإن تكافأت الذمم فقياس المذهب في الحوالة على ولي وجوبها ولو كتب رب المال للجابي والسمّسار ورقة ليسلمها إلى الصبي في المتسلم ماله وأمره أن لا يسلمه حتى يقتص منه فخالف ضمن لتفريطه ويصدق الصبي مع يمينه والورقة شاهدة له لأن العادة جارية بذلك وتصح شركة الشهود وللشاهد أن يقيم مقامه إن كان الجعل على عمل في الذمة وإن كان على شهادته بعينه فالأصح جوازه وللحاكم أن يكرههم لأن له نظر في العدالة وغيرها وإن اشتركوا على أنه كلما حصله كل واحد منهم بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر وإن لم يعمل فهي شركة الأبدان تجوز بحيث تجوز به الوكالة وأما

حيث لا تجوز ففيه وجهان كشركة الدلالين وقد نص أحمد على جوازها فقال في رواية أبي داود وقد سئل عن الرجل يأخذ الثوب ليبيعه فيدفعه إلى الآخر يبيعه ويناصفه فيما يأخذ من الكراء: للذي باعه إلا أن يكون يشتركان فيما أصابا ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط وتجارة التجار وسائر الأجراء المشتركين ولكل منهم أن يستنيب وإنْ لم يكن للوكيل أن يوكل ومأخذ من منع أن الدلالة من باب الوكالة وسائر الصناعات مِن باب الإجارة وليس الأمر كذلك ومحل الخلاف في شركة الدلالين التي فيها عقد فأمّا مجرد النداء والعرض واحضار الديون فلا خلاف في جوازه وتسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم أذن لهم ولو باع كل واحد ما أخذه ولم يعط غيره واشتركا في الكسب جاز في أظهر الوجهين وموجب العقد المطلق التساوي في العمل وأمّا بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمل وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها مما يشرع فيه الاجتهاد والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه فقيل هو للمالك فقط كنماء الأعناب وقيل: للعامل فقط لأن عليه الضمان وقيل: يتصدقان به لأنه ربح خبيث وقيل: يكون على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة وهو أصحها وبه حكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلا أن يتجر به على غير وجه العدوان
مثل: أن يعتقد أنه مال نفسه فتبين مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب وذكر أبو العباس في موضع آخر أنه إن كان عالماً بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول مَن لا يعطه شيئاً لأنه حصل بعمل محرم فلا يكون سبباً للإباحة فإنّ تاب سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة فأما إذا لم يتب ففي حله نظر وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئاً كفرس وكسب به مالاً كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما
بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما وأما إذا كسب العبد فالواجب أن يعطي

المالك أكثر من الأمريْن من كسبه أو قيمة نفعه ومَن كانت بينهما أعيان مشتركة مما يكال أن يُوزن فأخذ أحدهما قدر حقه بإذن حاكم جاز قولاً واحداً وكذلك بدون إذنه على الصحيح. انتهى.

باب المزارعة والمساقاة
"باب المزارعة والمساقاة"
ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغَرس صح كالمزارعة واختاره أبو حفص العكبري والقاضي في "تعليقه" وهو ظاهر مذهب أحمد ولو كانت الأرض مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح وهو متقضى ما ذكره أبو حفص ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره ولا يجوز لناظر بعده نصيب الوقف من الشجرة وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط والحكم له من جهة عوض المثل ولو لم تقم به بينة لأنه الأصل ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده بالوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكاً له لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض كما جاز النسج بجزء مَن غَزل نفسه فإنْ اشترطا في المغارسة أن يكون على الغارس الماء أو بعضه فالمتوجه أن الماء كالغرس والبذر سيجيء مثله في المزارعات
لأن الماء أصل يفنى ومتى كان من العامل أصل فإنَّ فيه روايتان وإن غارسه على أن رب الأرض تكون له دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر فإذا أثمرت كانا شريكين في الثمر
قال أبو العباس: فهذه لا أعرفها منقولة وقد يقال: هذا لا يجوز كما إذا اشترط شيئاً مقدراً فإنَّه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم والمناصب على أن عليه سقي الشجر والقيام عليها إذا باع نصيبه من ذلك لمن يقوم مقامه في العمل جاز وصح شرطه كالمكاتب إذا بيع على كتابه هذا قياس المذهب وإذا لم يقم الغارس بما شرط عليه كان لرب الأرض الفسخ فإذا فسخ العامل لو كانت فاسدة فلرب الأرض أن يتملك نصيب الغارس

إذا لم يتفقا على القلع وإذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجب عليه ضمان نصيب المالك وينظر كم يحيى لو عمل بطريق الاجتهاد
كما يضمن لو يبس الشجر وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وضرر وهو سبب في عدم هذا الثمر فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية مثل أن يغصب الشجر غاصب ويعطلها عن السقي حتى يفسد ثمرها أما الضمان باليد العادية كالضمان بسبب الإتلاف لا سيما إذا انضم إليه العادية واستيلاؤه على الشجر مع عدم الوفاء بما شرطه هل هو يد عادية فيه نظر لكنه سبب في الإتلاف وهذا في الفوائد نظير المنافع فإنَّ المنافع لم توجد وإنّما الغاصب منع من استيفائها وحاصله أن الاتلاف نوعان: إعدام موجود وتفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده وهذا تفويت وعلى هذا فالعامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها فينبغي أيضاً ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد لكن هل يضمن أجرة المثل أو يضمن ما جرت به العادة في مثل تلك الأرض مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفاً فيقاس بمثلها
أما على ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل والأصوب الأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما يثبت وعلى هذا فلا يكون ضمان يد وإنما هو ضمان تعزيز والمزارعة أحل من الاجارة لاشتراكهما في الغُنم والمغرم ولا يشترط كون البذر من رب الأرض وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ولو كان من إنسان الأرض ومن ثان العمل ومن ثالث البذر ومن رابع البقر صح وهو رواية عن أحمد وإذا نبت الزرع من الحب المشترك قُسم الزرع على قدر منفعة الأرض والحب في أصح القولين وإنْ شَرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي جاز كالمضاربة وكاقتسامهما ما يبقى بعد الكلف وإذا صحت المزارعة فيلزم

المقطع عشر نصيبه ومَنْ قال: العشر كله على الفلاح فقد خالف الإجمع وإن الزموا الفلاح به ف
مسألة الظَفْر والحق ظاهر فيجوز له قدر ما ظلم به والمساح على المالك ويتبع في الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرط وما طُولب من القرية من الوظائف السلطانية ونحوها فعلى قدر الأموال وإن وضعت على الزرع فعلى ربه وإن منعت مطلقاً فالعادة ولا يجوز أن يشترط المقطع على الفلاح شيئاً مأكولاً وما يؤخذ من نصيب الفلاح للمقطع والعشر والرئاسة إن كانت لو دفعت مقاسمة قسمت أو جرت العادة بمقدار فأخذ قدره فلا بأس وهدية الفلاح للمقطع إنّما هي بسبب الاقطاع فينبغي أن يحسبها له مما عنده أو لا يأخذها وإذا فسدت المزارعة أو المساقاة أو المضاربة استحق العامل نصيب المثل وهو ما جرت العادة في مثله لا أجرة المثل وإذا كنا نقول في الغاصب: أن زرعه لرب الأرض وعليه النفقة فلأن نقول مثل ذلك في المزارعة الفاسدة إن الزرع لرب الأرض وإن كان البذر لغيره أولى و الله أعلم

باب الاجارة
"باب الإجارة"
وهل تنعقد الاجارة بلفظ البيع وجهان يثبتان على أن هذه المعاوضة نوع من البيع أو شبه به ويصح أن يستأجر الدابة بعلفها وهو رواية عن أحمد وجزم به القاضي في "التعليق" ويصح أن يستأجر لابنه ولو جعل الأجرة نفقة نص مالك على جواز إجارة لابنه فمِن أصحابه مَن جوّز ذلك تبعاً لنصه ومنهم من منع بها مورد مورد النص ولم يدل عليها نصه وإذا استأجر لبنه فنقص عن العادة كبعير العادة ببعير العادة في المنفعة بملك المستأجر.

وأما الأرش فيجوز إجارة ما قناه مدة وما قابض تركه راماه ويجوز إجارة الشجر لأخذ ثمره والسمع ليشغله وهو قياس المذهب فيما إذا أجره كل شهر بدرهم ومثله وكلما أعتقت عبداً من عبيدك فعلى ثمنه فإنّه يصح وإنْ لم يُبين العدد والثمن ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة ويقُوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجر من المستأجر الأول وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الاجارة الثانية ظناً منه أن هذا كبيع المبيع ّ تصرف فيما لا يملك وليس كذلك بل هو تصرف فيما استحقه على المستأجر ويجوز إجارة الاقطاع
قال أبو العباس: وما علمت أحداً من علماء الإسلام الأئمة الأربعة قال: إجارة الإقطاع لا تجوز حتى حدث بعض أهل زماننا فابتدع القول بعدم الجواز ويجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بمثل الأجرة وزيادة وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي فإنْ شرط المؤجر على المستأجر أن لا يستوفي المنفعة إلا بنفسه أو أن لا يؤجرها إلا لعدل أو لا يؤجرها من زيد
قال أبو العباس: فقياس المذهب فيما أراه أنها شروط صحيحة لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض أو تلف مال أو إرادة سفر ونحو ذلك فينبغي أن يثبت له الفسخ كما لو تعذر تسليم المنفعة ولو اضطر إلى السُكنى في بيت إنسان لا يجد سواه أو النزول في خان مملوك أو رحا للطحن أو غير ذلك من النافع وجب بدله بأجرة المثل بلا نزاع والأظهر أنه يجب بدله محاباً وهو ظاهر المذهب ويجوز أن يأخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما إن كان محتاجاً وهو وجه في المذهب ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الأذن في ذلك وقد قال العلماء: إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له فأي شيء

يُهدى إلى الميت وإنما ّيصل إلى الميت العمل الصالح والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة وإنما ّتنازعوا في الاستئجار على التعليم ولا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية ونص عليه أحمد
والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج لا أنّ يحج ليأخذ فمَن أحب إبرار الميت برؤية المشاعر يأخذ ليحج ومثله كل رزق أخذ على عمل صالحففْرقَ بين من يقصد الدين والدنيا وسيلته وعكسه فالأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربى هل يجوز إيقاعها غير وجه القرية فمَن قال: لا يجوز ذلك لم يُجِزْ الإجارة عليها لأنها بالعوض تقع غير قربة وإنّما الأعمال بالنيات و الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه ومَن جّوز الإجارة جوّز إيقاعها على وجه القربة وقال: تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر وأما ما يُؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة فمَنْ عمل منه لله أثيب وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور وكذلك ليس كالأجرة والجُعل في الأجارة إلى ماله الاختصاص فلو استأجر أرضاً مِن جُندي ثم غرسها قضباً وانتقل الإقطاع إلى آخر فالجندي الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى وله أن يؤجرها لمن له فيها القضب وكذا لغيره على الصحيح ويقوم ذلك المؤجر فيها مقام المؤجر الأول وإذا وقعت الإجارة بالأشهر فالذي وقع في أثناء الشهر ففيه عن أحمد روايتان إحداهما يعتبر ذلك الشهر الذي وقع فيه الإنبات بالعدد وباقي الشهور بالأهلة وعلى هذه الرواية فإنّما يُعتبر الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه فإنْ كان تاماً كمل تاماً وإن كان ناقصاً كمل ناقصاً فإذا وقع أول المدة في عاشر الشهر مثلاً كُمّل ذلك الشهر في عاشر الثاني إن كان الشهر الأول ناقصاً

وليس للوكيل أن يُطلق في الإجارة مدة طويلة بل العرف كسنتين ونحوهما وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدلُّ على ذلك فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الناظر وعلى ما ذكره ابن أحمد أن ليس كذلك وهو الأشبه وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين
وصناعة التنجيم وأخذ الأجرة عليها وبذلها حرام بإجماع المسلمين وعلى ولاة أمور المسلمين المنع من ذلك والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله وإذا ركب المؤجر إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه فكيف إذا كان المستأجر ساكناً في الدار فإنّه لا تجوز الزيادة على ساكن الدار وإذا وقعت الإجارة صحيحة فهي لازمة من الطرفين ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث فتقبل الزيادة أو أقل فلا تقبل فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة لا في الوقف ولا في غيره ولا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقاً ولو التزمها بطيب نفس منه في لزومها له قولان فعند الشافعي وأحمد لا تلزمه أيضاً بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا يصح وتلزمه إذا فعلها بطيب نفس منه مُتبرعاً بذلك في القول الآخر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في القول الآخر بناء على أنه تلحق الزيادة بالعقود اللازمة
لكن إذا كانت العادة لم تُجْرِ بأنَّ أحد هؤلاء يلحقها بطيب نفسه ولكن خوفاً من الإخراج فحينئذٍ لا تلزمها بالاتفاق بل لهم استرجاعها ممن قبضها منهم وأجرة المثل ليست شيئاً محدوداً وإنما هي ما تساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه ولو استأجر تفاحة يحتمل الجواز ويجوز إجارة المقصبة ليقوم عليها المستأجر

ويسقيها فتنبت العروق التي فيها بمنزلة مَنْ يسقي الأرض لينبت فيها الكلأ بلا بذر وإذا عمل الأجير بعض العمل أعطي من الأجرة بقدر ما عمل وإذا مات المستأجر لم يلزم ورثته تعجيل الأجرة في أصح قولي العلماء وهذا على قول مَنْ يقول: لا يحل الدين بالموت ظاهر وكذا على قول مَنْ يقول بحلوله في أظهر قوليهم إذ يفرقون بين الإجارة وغيرها ما يفرقون في الأرض المحتكر إذا بيعت أو ورثت فإنَّ الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لأصحاب الحكر أخذ الحكر من البائع ومَنْ تركه الميت في أظهر قولي العلماء ويجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قوليهم ولا يجوز أن يستأجر مَنْ يصلي معه نافلة ولا فريضة في جنبه ولا يمينه باتفاق الأئمة وإذا تقايلا الإجارة أو فسخها المستأجر بحق وكان حرثها فله ذلك وليس لأحد أن يقطع غراس المستأجر وزرعه سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة بل إذا بقي فعليه أجرة المثل وترك القابلة ونحوها الأجرة لحاجة المقبولة أفضل من أخذها الصدقة بها وإجارة المضاف يفسر بشيئين أن يؤجر سنة أو سنتين والثاني أن يؤجر مدة لا يمكن الانتفاع بالمأخوذ لما استؤجر له في المدة فمِن الحكام مَن يرى أن الإجارة لا تجوز إلا إذا أمكن الإنتفاع بالعين عقب العقد فإن أراد أن يستأجر الأرض للازدراع ونحوه كتب فيها أنه استأجرها مقيلاً ومراحاً ومزدرعاً ونحو ذلك لتكون المنفعة ممكنة حالة العقد ونصوص الإمام أحمد كثيرة في المنع من إجارة المسلم داره من أهل الذمة وبيعها لهم واختلف الأصحاب في هذا المنع هل هو كراهة تنزيه أو تحريم فأطلق أبو علي وأبو موسى والآمدي بالكراهة وأمّا الخلال وصاحبه فمقتضى كلامهما وكلام القاضي تحريم ذلك وكلام أحمد يحتمل الأمرين وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة إنّما محله إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن أجره إياها لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة لم يجز قولاً واحداً
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغسل الميت بكراء قال: بكراء !

واستعظم ذلك
قلت: يقول: أنا فقير ! قال: هذا كسب سوء ووجه هذا النص أن تغسيل الموتى من أعمال البر والتكسب بذلك يؤذن بتمني موت المسلمين فنسبه إلى الاحتكار قال أصحابنا: يستحب أن يعطي الظئر عند الفطام عبداً أو أمة إذا أمكن للخبر ولعل هذا في المتبرعة بالرضاع وأمّا في الإجارة فلا يفتقر إلى تقدير عوض ولا إلى صيغة بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو إجارة يستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء
نقل أحمد بن الحسين قال: سأل رجل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن رجل يأخذ الأجرة على كتابة العلم فقال أبو عبد الله: أكرهه لا نأخذ على شيء من أعمال البر أجرة وكان أبن عيينة لا يراه
قال القاضي: ظاهر هذا المنع
قال أبو العباس: لعله مع الغنى وإلا فهو بعيد قال القاضي في "التعليق": إذا دفع إلى دلال ثوباً أو داراً وقال له: بع هذا فمضى وعرض ذلك على جماعة مشترين وعرف ذلك صاحب المبيع فامتنع من البيع وأخذ السلعة ثم باعها هو من ذلك المشتري أو من غيره لم تلزمه أجرة الدلال للمبيع لأن الأجرة إنما جعلها في مقابلة العقد وما حصل له ذلك
قال أبو العباس: الواجب أن يستحق من الأجرة بقدر ما عمل وهذه من مسائل الجعلات وتصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها وهو ظاهر المذهب وقول الجمهور قال ابن منصور قلت لأحمد: الرجل يستأجر البيت إذا شاء أخرجه وإذا شاء خرج قال: قد وجب فيهما إلى أجله إلا أن يهدم البيت أو يغرق الدار أو يموت البعير فلا ينتفع المستأجر بما استأجر فيكون عليه بحساب ما سكن أو ركب
قال القاضي: ظاهر هذا أن الشرط الفاسد لا يبطل الإجارة
وقال أبو العباس: هذا اشتراط النجار لكنه في جميع المدة مع الأذن في الانتفاع فإذا ترك الأخير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه وللمستأجر مطالبة المؤجر بالعمارة وهي واجبة من وجهين من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر

واتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو مما نهى عنه عند إمكان الاستغناء عنه فإنه يقضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه وإلا فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه أجرته ونهى عن أكله مع الاستغناء عنه مع أنه ملكه وإذا كانت عليه نفقة رقيق أو بهائم يحتاج إلى نفقتها أنفق عليها من ذلك لئلا يفسد ماله إذا كان الرجل محتاجاً إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا المسألة للناس فهو خير له من مسألة الناس كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس
وإذا بيعت العين المؤجرة أو المرهونة ونحوهما به تعلق حق غير البائع وهو عالم بالعيب فلم يتكلم فينبغي أن يقال: لا يملك المطالبة بفساد البيع بعد هذا لأن إخباره بالعيب واجب عليه بالسنة بقوله ولا يحل لمن علم ذلك إلا أن بيته فكتمانه تعزير والغار ضامن وكذا ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عيباً فلم ينهه وفي جميع المواضع فإنَّ المذاهب أن السكوت لا يكون إذناً فلا يصح التصرف لكن إذا لم يصح يكون تغريراً فيكون ضامناً بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان فإنَّ ترك الواجب عندنا كفعل المحرم كما يقال فيمَنْ قدر على إنجاء إنسان من هلاكه بل الضمان هنا أقوى وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع ووجهه أنه باع ملكه وملك غيره فهي مسألة تفريق الصفة
"فصل"
والعارية تجب مع غناء المالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهي مضمونة يشترط ضمانها وهي رواية عن أحمد ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد ولا تفريط لم يضمن وقياس المذهب إذا قال: أعرتك دابتي لتعلفها أن هذا يصح لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة استئجار العبد بطعامه وكسوته لكن دخول العوض فيه يلحقه بالإجارة إلا أن يكون ذلك يسيراً لا يبلغ أجرة المثل بلا تعد فيكون حكم العارية باقياً وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها الثواب في الأعيان
قال أبو العباس: في قديم خطه نفقة العين المعارة تجب على المالك أو على المستعير لا أعرف فيها نقلاً إلا أن قياس المذهب فيما يظهر لي أنها تجب على المستعير لأنهم قد قالوا: إنه يجب عليه مؤنة ردها وضمانها إذا تلفت وهذا دليل

على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها كما أخذها منه سوى نقص المنافع المأذون له فيها ثم إنه خطر لي أنها تخرج على الأوجه في نفقة الدار الموصى بمنفعتها فقط أحدها: يجب على المالك لكن فيه نظر وثانيها على المالك للنفع وثالثها في كسبها فإن قيل: هناك المنفعة مستحقة وليس بذلك هنا فإنَّ مالك الرقبة هو مالك المنفعة غير أن المستعير ينتفع بها بطريق الإباحة وهذا يقوي وجوبها على المعير والأصل الأول يقوي وجوبها على المستعير ثم أقول: هذا لا تأثير له في مسألتنا فإن المنفعة حاصلة في الأصل والفرع ثم كونه يملك انتزاع المنفعة من يده غير مؤثر بدليل ما لو كان واهب المنفعة أباً وكان الموهوب له ابنه وهذه في غير صورة الوصية
قلت: ذكر هذه المسألة أبو المعالي بن المنجا في "شرح الهداية" فقال: ونفقة العين المعارة واجبة على المعير ووافقه في "الرعاية" وقال: وعلى المستعير مؤنة رد المعار لا مؤنة عينه وذكر الحلواني في "التبصرة": أنها على المستعير و الله سبحانه وتعالى أعلم

كتاب السبق
" كتاب السبق"
ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة وظاهر كلام أبي العباس لا يجوز المعروف بالطلب والمنقلة وكلما أفضى كثيراً إلى حرمة إذا لم يكن فيه مصلحة بل حجة لأنه يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى وشَغَل عن ما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يُستعان به في حق شرعي فكله حرام وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم: أن عائشة -رضي الله عنها- وجواري معها يلعبن بالبنات وهو اللعب -والنبي صلى الله عليه وسلم يراهن فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار والصراع والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد به نصر الإسلام وأخذ السبق عليه أخذ بالحق فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع

به في الدين كما في مراهنة أبي بكر -رضي الله عنه- وهو أحد الوجهين في المذهب- قلت: وظاهر ذلك جواز الرهان في العلم وفاقاً للحنفية لقيام الدين بالجهاد والعلم و الله أعلم المسابقة بلا محلل ولو أخرج المتساوي وتصح شروط السبق للإنشاد وشراء قوس وكراء حانوت وإطعام الجماعة لأنه مما يعين على الرمي

كتاب الغصب
*
" كتاب الغصب"
قال في "المحرر": وهو الإستيلاء على مال الغير ظلماً
قوله: على مال الغير ظلماً يدخل فيه مال المسلم والمعاهد وهو المال المعصوم ويخرج منه استيلاء المسلمين على أموال أهل الحرب فإنه ليس بظلم فيه إستيلاء المحاربين على مال المسلمين وليس بجيد فإنه ليس من الغصب المذكور حكمه هنا بإجماع المسلمين لا خلاف أنه لا يضمن بالإتلاف ولا بالتلف وإنّما الخلاف في وجوب رد عينه وأمّا أموال أهل البغي وأهل العدل فقد لا يرد لأن هناك لا يجوز الاستيلاء على عينها ومتى أتلفت بعد الاستيلاء على عينها ضمنت وإنّما الخلاف في ضمانها بالاتلاف وقت الحرب ويدخل فيه ما أخذ الملوك والقطاع من أموال الناس بغير حق من المكوس وغيرها فأمّا استيلاء أهل الحرب بعضهم على بعض فيدخل فيه وليس بجيد لأنه ظلم فيحرم عليهم قتل النفوس وأخذ الأموال إلا بأمر الله لكن يقال: لما كان المأخوذ مباحاً بالنسبة إلينا لم يصر ظلماً في حقنا ولا في حق مَن أسلم منهم فأمّا ما أُخذ من الأموال والنفوس أو أُتلف منها في حال الجاهلية أقر قراره لأنه كان مباحاً لكن لما كان الإسلام عفى عنه فهو عفو بشرط الإسلام وكذلك بشرط الأمان فلو تحاكم إلينا مستأمنان حكمنا بالاستقرار وإذا كان المتلف مما لا يباع مثل الثمر والزرع قبل بدو صلاحه فههنا لا يجوز تقويمه بشرط القطع لأنه

مستحق للإبقاء وقد لا يكون له قيمة بل كالجنين في الحيوان فههنا إما أن يقوم مستحق الإبقاء وإلا لم يجز بيعه كذلك وإما أن يقوم مع الأصل ثم يقوم الأصل بدونه وإما أن ينظر إلى حال كحاله فيقوم بدون نفقة الإبقاء ففيه نظر لإمكان تلفه قبل وإما إذا جاز بيعه مستحق الإبقاء فيقوم مستحق الإبقاء كما يقوم المنقولات مع جواز الآفات عليها جميعاً
قال أبو العباس: سئلت عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال ثم ردت عليهم أو بعضها وقد اشتبه ملك بعضهم ببعض
قال: فأجبت أنه إن عرف قدر المال تحقيقاً قسم الموجود عليهم على قدره وإن لم يعرف إلا عدده قُسمّ على قدر العدد لأن الماليْن إذا اختلطا قُسما بينهما وإن كان كل منهم يأخذ عين ما كان للآخر لأن الاختلاط جعلهم شركاء لا سيما على أصلنا: أن الشركة تصح بالعقد مع امتياز المالين لكن الاشتباه في الغنم ونحوها يقوم مقام الاختلاط في المائعات وعلى هذا فينبغي أنه إذا اشتركا بما يتشابه من الحيوان والثياب أنه يصح كما لو كان رأس المال دراهم إذا صححناها بالعرض وإذا كانوا شركاء بالاختلاط والاشتباه فعند القسم يقسم على قدر المالين فإن كان المردود جميع ما لهم فظاهر وإن كان بعضه فذلك البعض هو بعض المشترك كما لو رد بعض الدراهم المختلطة إن كان حيواناً فهل تجب قسمته أعياناً عند طلب بعضهم قولاً واحداً أو يخرج على القولين في الحيوان المشترك الشبه خروجه على الخلاف لأنه إذا كان لأحدهم عشرة رؤوس وللآخر عشرون فما وجد فلأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه كما لو ورثاه
لذلك فإنّ المحدود في هذه المسألة: أن مال كل منهما إن عرف قيمته فظاهر وإن لم يعرف إلا عدده مع أن غنم أحدهما قد يكون خيراً من غنم الآخر فالواجب عند تعذر معرفة رجحان أحدهما على صاحبه التسوية لأن الأصل عدم فضل غنم أحدهما على الآخر ولأن الضرورة تلجئ إلى التسوية وعلى هذا فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمداً أو خطأ يقسم المالان على العدد إذا لم يعرف الرجحان وإن عَرِف وجُهل قدره وأثبت منه القدر المتيقن وأسقط الزائد المشكوك فيه لأن الأصل عدمه ويضمن المغصوب بما نقص رقيقاً كان أو غيره

وهو رواية عن أحمد واختارها طائفة من أصحابه قال في "المحرر" ومن قبض مغصوباً من غاصبه ولم يعلم فهو بمنزلته في جواز تضمينه العين والمنفعة لكنه يرجع إذا غرم على غاصب بما لم يلزمه ضمانة خاصة
قال أبو العباس: يتخرج ألا يضمن الغاصب ما لم يلتزمه على قولنا: أنه لا يقلع غرسه وبناءه حتى يضمن بعضه ويرجع به على البائع وعلى ظاهر كلامه في المنع: يضمن مودع المودع إذا لم يعلم وعلى إحدى الروايتين كان المغرور لا يضمن الأول بل يضربهم الغار ابتداء وإذا مات الحيوان المغصوب فضمنه الغاضب مجلدة إذا قلنا يطهُر بالدباغ للمالك وقياس المذهب ويتخرج أنه للغاصب وإذا كان بين اثنين مال مشترك فغصب نصيب أحدهما مشاعاً مِن عقار أو منقول فأصح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد: أن النصف الآخر حلال للشريك الآخر ويذكر عن أبي حنيفة رواية عن أحمد أن ما يأخذه الظالم يكون من النصيبين جميعاً لأن الظالم ليس له ولاية القسمة وإن وقف الرجل وقفاً على أولاده مثلاً ثم باعه وهم يعلمون أنه قد وقفه فهل يكون سكوتهم عن الإعلام تغريراً مع أنهم هم المستحقون فهذا يستمد من السكوت هل هو إذن وهو ما إذا رأى عبده أو ولده يتصرف فقال أصحابنا: لا يكون إذناً لكن هل يكون تقريراً فإنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في السلعة المعيبة لا يحل لمن يعلم ذلك إلا أن يبينه يقتضي وجوب الضمان وتحريم السكوت فيكون قد فعل فعلاً مُحرماً تلف به مال معصوم فهذا قوي جداً لكن قد يقال: فطرده أن َ علم بالعيب غير البائع فلم يبينه فقد غر المشتري فيضمن فيقال: هذا ينبني أن الغرور من الأجنبي ولو لم يكن الأولاد أو غيرهم قد عرف فإذا وجب الرجوع على الواقف

بما قبضه من الثمن وبما ضمنه المشتري من الأجرة ونقص قيمة البناء والغرس ونحو ذلك ولو كان قد مات معسراً أو هو معسراً في حياته فهل يؤخذ من ريع الوقف الثمن الذي غرمه المشتري لا شك أن هذا بعيد في الظاهر لأن ريع الوقف للموقوف عليه وهو لم يقر فلا يؤخذ من ماله ما يقضي به دين غيره لكن باعتباره هذا الدين على الواقف بسبب تغريره بالوقف كان الواقف هو الآكل لريع وقفه وقد يتوجه ذلك إذا كان الوقف قد احتل بأن وقف ثم باع فإن قصد الحيلة إذا كان متقدماً على الوقف لا ينفع في المحتال عليه الذي هو أكل مال المشتري المظلوم ولو وطأ المالك رجلاً على أن يبيع داره ويظهر أنها للبائع لا أنه يبيعها بطريق الوكالة فهل تجعل هذه المواطأة وكالة وإن لم يأذن في بيعها لنفسه أم يجعل غروراً فإنه ما أذن في بيع فاسد لكن قصد التغرير فهل يعاقب بجعل البيع صحياً أم بضمان التقرير ولو اشترى مغصوباً من غاصبه رجع بنفقته وعمله على بائع غار له ومن زرع بلا إذن شريكه والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم ولربها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فأتى فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة
واعتبر أبو العباس في موضع آخر إذن ولي الأمر ويضمن المغصوب بمثله مكيلاً أو موزوناً أو غيرهما حيث أمكن وإلا فالقيمة وهو المذهب عند أبي موسى وقاله طائفة من العلماء وإذا تغير السعر وفقد المثل فينتقل إلى القيمة وقت الغصب وهو أرجح الأقوال ولو شق ثوب شخص خيِّر مالكه بين تضمين الشاق نقصه وبين شق ثوبه ونقله إسماعيل عن أحمد ومن كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها صرف في المصالح وقال العلماء: ولو قصدت بها جاز وله الأكل منها ولو كان عاصياً إذا تاب

وكان فقيراً ومن تصرف بولاية شرعية لم يضمن كمن مات ولا ولي له ولا حاكم وليس لصاحبه إذا عرف رد المعارضة كثبوت الولاية عليها شرعاً ومن غرم مالاً بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين الكاذب عليه بما غرمه ولو طرق فحل غيره على فرس نفسه فنقص الفحل ضمنه ولا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس للحاكم أن يحكم بصحته وما لبيت المال من المقاسمة أو الأرض الخراجية لا يباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين ومن أمر رجلاً بإمساك دابة ضاربة فجنت عليه ضمنه إن لم يعلمه بها ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط نحو أن يعرفه شموصاً والدابة إذا أرسلها صاحبها بالليل كان مُفرطاً فهو كما إذا أرسلها قرب زرع ولو كان معها قائداً أو راكباً أو سائقاً فما أفسدت بفمها أو يدها فهو عليه لأنه تفريط وهو مذهب أحمد ومن العقوبة الثالثة إتلاف الثوبين المعصفرين كما في "الصحيح" من حديث عبد الله بن عمرو وإراقة عمر اللبن الذي شيب بالماء للبيع والصدقة بالمغشوش أولى من إتلافه
ومَن ندم ورد المغصوب بعد موت المغصوب منه كان للمغصوب منه مطالبته بالأجرة لتفويته الانتفاع به في حياته كما لو مات الغاصب فرده وارثه ولو حبس المغصوب وقت حاجة مالكه إليه كمدة شبابه ثم رده في مشيبه فتفويت تلك المنفعة ظُلم يفتقر إلى جزاء ومَن مات معدماً يرجى أن الله يقضي عنه ما عليه وللمظلوم الاستعانة بمخلوق فإذا خالفه فالأولى له الدعاء على مَن ظلمه ويجوز الدعاء بقدر ما يوجبه ألم ظلمه لا على مَن شتمه أو أخذ ماله بالكفر ولو كذب عليه لم يفتر عليه بل يدعو إليه بمن يفتري عليه نظيره وكذا إن أفسد عليه دينه ومَن ترك دينه باختياره ويمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات طالب به ورثته فإنْ عجز هو وورثته فالمطالبة في الأشبه كما في المظالم للخبر وإذا كان للناس على إنسان ديون أو مظالم بقدر ماله على أساس من الديون والمظالم كان يسوغ أن يقال: يحاسب بذلك فيه بقدر حقه من هذا ويصرف إلى غريمه كما يفعل في الدنيا بالمدَبر الذي له وعليه يستوفي ماله ويوفي ما عليه

وقدر المتلف إذا لم يكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد كما يفعل في قدر قيمته بالاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه بل قد يكون بالخرص أسهل وكلاهما يجوز مع الحاجة ولو بايع الرجل مبايعات يعتقد حلها ثم صار المال إلى وارث أو منهب أو مشترٍ يعقد تلك العقود محرمة فالمثال الأصلي لهذا اقتداء المأموم بصلاة إمام أخل بما هو فرض عند المأموم دونه والصحيح الصحة وما قبضه الإنسان بعقد مختلف فيه يعتقد صحته لم يجب عليه رده في أصح القولين ومن كسب مالاً حراماً برضاء الدافع ثم مات كثمن الخمر ومهر البغي وحلوان الكاهن فالذي يتلخص من كلام أبي العباس أن القاضي إن لم يعلم التحريم ثم علم جاز له أكله وإن علم التحريم أولاً ثم تاب فإنه يتصدق به كما نص عليه أحمد في حامل الخمر وللفقير أكله ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه وإن كان هو فقير أخذ كفايته وفيما إذا عرف ربه هل يلزمه رده إليه أم لا قولان: وظاهر كلام أبي العباس: أن نفس المصيبة لا يؤجر عليها وقال أبو عبيدة: بلى
إن صبر أثيب على صبره
قال: وكثير ما يفهم من الأجر غفران الذنوب فيكون فيها أجر بهذا الاعتبار

باب الشفعة
"باب الشفعة"
وتثبت في كل عقار يقبل قسمة الأخيار باتفاق الأئمة وإن لم يقبلها فروايتان الصواب الثبوت وهو مذهب أبي حنيفة واختيار ابن سريح من الشافعية وابن الوفاء من أصحابنا وتثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب في الطريق وقالت طائفة من العلماء: لا يحيل الاحتياط لإسقاط الشفعة ولا يجب على المشتري أنَّ يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن إذا طالبه الشريك وإذا حابا البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة يتوجه أن لا يكون للمشتري أخذه إلا

بالقيمة أو أن لا شفعة له فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه ولا شفعة في بيع الخيار إذا نقص
نص عليه أحمد في رواية حنبل قال القاضي: لأَنّ أخذ الشفيع بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار فلم يجز له المطالبة بالشفعة وهذا التعليل من القاضي يقتضي أن الخيار إذا كان للمشتري وحده فللشفيع الأخذ كما يجوز للمشتري أن يتصرف فيه في هذا الموضع وأولى مذهب الإمام أحمد أنه لا شفعة لكافر على مسلم وقد يفرق بين أن يكون الشقص لمسلم فلا تجب الشفعة أو لذمي فتجب وحينئذٍ فهل العبرة بالبائع أو المشتري أو كلاهما أو أحدهما أربع احتمالات

باب الوديعة
"باب الوديعة"
ولو أودع المودع بلا عذر ضمن والمودع الثاني لا يضمن إن جهل وهو رواية عن أحمد وكذا المرتهن منه وهو وجه في المذهب ولو قال المودع: أودعنيها الميت وقال: هي لفلان وقال ورثته بل هي له وليست لفلان ولم تقم بينة على أنها كانت للميت ولا على الايداع
قال أبو العباس: أفتيت أن القول قول المودع مع يمينه لأنه قد ثبت له اليد وإذا تلفت الوديعة فللمودع قبض البدل لأن من يملك قبض العين يملك قبض البدل كالوكيل وأولى
"فصل"
حريم البئر العادية وهي التي اعتدت خمسون ذراعاً ولو ترك جامداً في حر شديد حتى ذاب وتقاطر ماؤه فقصد إنسان إلى ذلك القطر واستلقاه في أناء وجمعه وشربه كان مضموناً عليه وإن كان لو تركه لضاع ذكره أو طالب في "الاتنصار" وفيه نظر ومن استنقذ مال غيره من المهلكة ورده استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين وهو منصوص أحمد وغيره وإذا استنقذ فرساً للغير ومرض الفرس بحيث أنه لم يقدر على المشي فيجوز بل يجب في هذه الحال أن يبيعه

الذي استنقذه ويحفظ الثمن لصاحبه وإن لم يكن وكيله في البيع وقد نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها
"فصل"
وتعرّف اللقطة سنة قريباً من المكان الذي وجدها فيه ولا يلتقط الطير والظباء ونحوها إذا أمكن صاحبها إدراكها ولا تملك لقطة الحرم بحال ويجب تعريفها أبداً وهو رواية عن أحمد واختارها طائفة من العلماء وتضمن اللقطة بالمثل كبدل القرض وإذا قلنا بالقيمة فالقيمة يوم ملكها الملتقط قطع به ابن أبي موسى وغيره خلافاً للقاضي أبي البركات فإذا باع الملتقط اللقطة بعد الحول ثم جاء ربها فالأشبه أن الملك لا يملك انتزاعها من المشتري

كتاب الوقف
*
" كتاب الوقف"
ويصح الوقف بالقول وبالفعل الدال عليه عرفاً كجعل أرضه مسجداً أو أذن للناس لصلاة فيه أو أذن فيه وأقام ونقله أبو طالب وجعفر وجماعة عن أحمد أو جعل أرضه مقبرة وأذن بالدفن فيها ونص عليه أحمد أيضاً ومَنْ قال: قريتي التي بالثغر لموالي الذين بها ولأولادهم صح وقفاً ونقله يعقوب بن حبان عن أحمد وإذا قال واحداً أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجداً أو وقفاً صار مسجداً ووقفاً بذلك وإن لم يكملوا عمارته وإذا قال كل منهم جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد ونحو ذلك صار بذلك حقاً للمسجد ولو قال للإنسان: تصدقت بهذا الدهن على هذا المسجد ليوقد فيه جاز وهو من باب الوقف وتسميته وقفاً بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة وهو جائز في الشرع ووقف الهازل كوقف التلجئة إنْ غُلب على الوقف شبه التحريم ومن جهة أنه لا يقبل الفسخ فينبغي أن يصح كالعتق والإتلاف وإنْ غَلَبَ عليه شبه التمليك فيشبه الهبة والتمليك وذلك لا يصح من الهازل على الصحيح ويصح الوقف على النفس وهو أحد الروايتين عن أحمد واختارها طائفة من أصحابه ويصح الوقف على الصوفية فمن كان جماعاً للمال ولم يتخلق بالأخلاق المحمودة ولا تأدب بالآداب الشرعية وغُلبت عليه الآداب الوضيعة أو فاسقاً لم يستحق شيئاً وإن كان قد يجوز

للغني مجرد السكنى وينبغي أن يشترط في الواقف وقفت أن يكون مِمن يمكن من وقف تلك القرية فلو أراد الكافر أن يَقِف مسجداً مُنع منه ولو قال الواقف: هذه الدراهم على قرض المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيداً وإذا أطلق وقفاً لنقدين ونحوهما مما يمكن الانتفاع ببدله فإنَّ منع صحة هذا الوقف فيه نظر خصوصاً على أصلنا فإنه يجوز عندنا بيع الوقف إذا تعطلت منفعته وقد نص أحمد في الذي حبس فرساً عليها حلية محرمة
إن الحلية تباع وينفق عليها وهذا تصريح بجواز وقف مثل هذا ولو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته أو منفعة أم ولده في حياته أو منفعة بعين المستأجرة فعلى ما ذكره أصحابنا لا يصح
قال أبو العباس: وعندي هذا ليس فيه فقه فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه أو فرس يركبونه أو ريحان يشمه أهل المسجد وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها فعلم أن الطيب منفعة مقصودة لكن قد يطول بقاء مدة التطيب وقد يقصد ولا أثر لذلك ويصح وقف الكلب المعلَّم والجوارح المعلمة وما لا يقدر على تسليمه وأقرب الحدود في الوقف: أنه كل عين تجوز عاريتها قال في الرعاية وإن وقف نصف عبد صح وإن لم يسر إلى بقية وإن كان لغيره وإن أعتق ما وقفه منه أو اعتقه الموقوف عليه لم يصح عتقه ولم يسر وإن أعتق ما وقفه منه أو أعتقه شريكه فقد صح عتق نفسه ولم يَسْرِ إلى الموقوف
قال أبو العباس: هذا ضعيف ولا يصح على الأغنياء على الصحيح قال في "المحرر": ولا صح وقف المجهول
قال أبو العباس: المجهول نوعان مبهم ومعين مثل دار لم يرها فمنع هذا بعيد وكذلك هبته فأمّا الوقف على المبهم فهو شبيه بالوصية له وفي الوصية روايتان منصوصتان مثل أن يوصي لأحد هذيْن أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم ووقف المبهم مفرع على هبته وبيعه وليس عن أحمد في هذا منع ويصح الوقف على أم ولده بعد موته وإن وقف على غيرها على أن ينفق عليها مدة حياته أو يكون الربع لها مدة حياته صح فإنَّ

استثناء الغلة لأم ولده كاستثنائها لنفسه وإن وقف عليها مطلقاً فينبغي في الحال أنا إذا صححنا وقف الإنسان على نفسه صح لأن ملك أم ولده أكثر ما يكون بمنزلة ملكه وإن لم نصححه فيتوجه أن يقال: هو كالوقف على العبد القن فإنه قد يخرج عن ملكه فيكون ملكاً لعبد الغير وأما إذا مات السيد فقد تخرّج هذه المسألة على مسألة تفريق الصفقة لأن الوقف على أم الولد يعم حال رقها وعتقها فإذا لم يصح في أحد الحالين خرج في الحال الأخرى وجهان
وإذا قلنا أن الوقف المنقطع الابتداء يصح فيجب أن يقال ذلك وإن قلنا يصح فهذا كذلك ومأخذه الوقف المنقطع: أن الوقف هل يصح توقيته بغاية مجهولة أو غير مجهولة فعلى قول من قال: لا يزال وقفاً لا يصح توقيته وعلى قول من قال: يعود ملكاً يصح توقيته فإن غلب جانب التحريم فالتحريم لا يتوقت لأنه ليس له شريك وإنْ غلب جانب التمليك فتوقيت جميعه قريب من توقيته على بعض البطون كما لو قال: هذا وقف على زيد سنة ثم على عمرو سنة ثم على بكر سنة وضابط الأقوال في الوقف المنقطع أما على جميع الورثة وأما على العصبة وأما على المصالح وأما على الفقراء والمساكين منهم وعلى الأقوال الأربعة فأما وقف وأما ملك فهذه ثمانية منها أربعة في الأقارب وهل يختص به فقراؤهم فيصير فيهم ثمانية والثالث عشر تفصيل ابن أبي موسى: أنه إذا رجع إلى جميع الورثة يكون ملكاً بينهم على فرائض الله بخلاف رجوعه إلى العصاة
قال أبو العباس: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد وإذا اشترط القبول في الوقف على المعين فلا ينبغي أن يشترط المجلس بل يلحق بالوصية والوكالة فيصح معجلاً أو مؤجلاً في القول والفعل فأخذ ريعه قبول وينبغي أنه لو رده بعد قبوله كان له ذلك والصواب الذي عليه محققو الفقهاء في مسألة الوقف على المعين إذا لم يقبل أو رده أن ذلك ليس كالوقف المنقطع الابتداء بل الوقف هنا صحيح قولاً واحداً ثم إن قيل الموقوف عليه وإلا انتقل إلى مَنْ بعده كما لو مات أو تعذر استحقاقه لفوات فيه إذ الطبقة الثانية تتلقى من الواقف لا من الموقف عليه ومن شرط النظر لرجل ثم لغيره إن مات فعزل نفسه أو فسق فكموته لأن

تخصيصه للغالب ولا نظر لغير الناظر الخاص معه وللحاكم النظر العام فيعترض عليه أن فعل ما لا يشرع ولو ضم أمين إليه مع تفريطه أو تهمته يحصل به المقصود ومَنْ ثبت فسقه أو أضر في تصرفه مخالفاً للشراء الصحيح عالماً بتحريفه فإما أن ينعزل أو يعزل أو يضم إليه أمين على الخلاف المشهور ثم إن صار هو أو الوصي أهلاً عاد كما لو صرح به وكالموصوف ومن شرط النظر لحاكم المسلمين شمل أي حاكم كان سواء كان مذهبه مذهب حاكم البلد زمن الواقف أو لا وإلا لم يكن له النظر لو انفرد وهو باطل اتفاقاً ولو فرضه حاكم لم يكن لحاكم آخر نقضه ولو ولي كل واحد من الحكام شخصاً قدم ولي الأمر أحقها
ولا يجوز لواقف شرط النظر لذي مذهب معين دائماً ومن وقف مدرسة على مدرس وفقهاء فللناظر ثم الحاكم تقدير أعطيتهم فلو زاد النماء فهو لهم والحكم بتقدير مدرس أو غيره باطل ولو نفذه حكام وإن قيل: إن المدرس لا يزداد ولا ينقص بزيادة النماء ونقصه كان باطلاً لأنه لهم والقياس أن يسوي بينهم ولو تعاونوا في المنفعة كالإمام والجيش في المغنم لكن دلَّ العرف على التفضيل وإنما قدم القيم لأن ما يأخذه أجره ولهذا يحرم أخذه فوق أجرة مثله فلا شرط والإمام والمؤذن كالقيم بخلاف المدرس والمتعبد والفقهاء فإنّهم من جنس واحد وإذا وقف على إمام ومؤذن وقدر لكل واحد جزاء معلوماً وزاد الوقف خمسة أمثاله مثلاً جاز أن يصرف إلى الإمام والمؤذن من الزائد إذا لم يكن له مصرف بعد تمام كفايتهما لوجهين: أحدهما: أن تقدير الواقف دراهم مقدرة قد يزاد له بالنسبة مثل أن يشترط له عشرة والمغل مائة فيزاد به العشر فإن كان هناك قرينة تدل على هذا عمل بها ومن المعلوم في العرف إذا كان الوقف مغله مائة درهم وشرط له ستة ثم صار خمسمائة فإنّ العادة في مثل هذا أن يشترط أضعاف ذلك مثل خمسة أمثلة ولم يجز عادة من شرط ستمائة أن يشترط ستة من خمسمائة فيحمل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم والوجه الثاني: أن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف

المصالح التي هي نظير مصالحه ومَن قدر له الوقف بسافله أكثر منه إن استحقه بموجب الشرع ولو عطل وقف مسجد سنة تسقط الأجرة المستقبلة عليها وعلى السنة الأخرى لأنه خير من التعطيل ولا ينقض الإمام بسبب تعطيل الزرع العام ومَن لم يقم بوظيفته غَيره فلمن له الولاية أن يولي من يقوم بها إلى أن يتوب الأول ويلتزم بالواجب ويجب أن يولى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعاً وأن يعمل ما قدر عليه من عمل الواجب وليس للناس أن يولوا عليهم الفاسق وإنْ نفذ حكمه أو صحت الصلاة خلفه واتفق الأئمة على كراهة الصلاة خلفه واختلفوا في صحتها ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته وللناظر انساخ كتاب الوقف والسؤال عن حاله وأجره وتسجيل كتاب الوقف من الوقف كالعادة ويجب عمارة الوقف بحسب البطون والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى بل قد تجب ولا يلزم الوفاء بشرط الواقف إلا إذا كان مستحباً خاصة وهو ظاهر المذهب أخذاً من قول أحمد في اعتبار القربة في أصل الجهة الموقوف عليها وإذا شرط في استحقاق ريع الوقف العزوبة فالمتأهل أحق من المعتزب إذا استويا في سائر الصفات ولو شرط للصلوات الخمس على أهل مدرسة في القدس كان الأفضل لأهلها أن يصلوا الصلوات الخمس في الأقصى ولا يقف استحقاقهم على الصلاة في المدرسة وكان يفتي به ابن عبد السلام وغيره ويجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند وإذا وقف على مصالح الحرم وعمارته فالقائمون بالوظائف التي يحتاج إليها المسجد من التنظيف والحفظ والفرش وفتح الأبواب وإغلاقها ونحو ذلك يجوز الصرف إليهم وقول الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل.

مع أن التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافق لغة العرب أو لغة الشارع أو لا والعادة المستمرة والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة ولا يجوز أن يولى فاسقاً في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقاً لأنه يجب الانكار عليه وعقوبته فكيف ينزل وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر خلاف ذلك وإن نزل تنزيلاً شرعياً لم يجز صرفه بلا موجب شرعي وكل متصرف بولاية إذا قيل له: افعل ما تشاء فإنّما هو لمصلحة شرعية حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه أو ما يراه مطلقاً فهو شرط باطل لمخالفته الشرع وغايته أن يكون شرطاً مباحاً وهو باطل على الصحيح المشهور حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه وعلى الناظر بيان المصلحة فيعمل بما ظهر ومع الاستنباه وإن كان عالماً عادلاً ساغ له الاجتهاد
قال أبو العباس: ولا أعلم خلافاً أن مَنْ قَسمَّ شيئاً يلزمه أن يتحرى فيه العدل ويتبع ما هو أرضى لله تعالى ولرسوله وسواء استفاد القسمة بولاية كالإمام والحاكم أو بعقد كالناظر والوصي وإذا وقف على الفقراء فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة وإذا قدر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجباً وإذا لم تندفع ضرورته إلا بتنقيص كفاية أقارب الواقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك وإن لم يشترط له شيء ليس له إلا ما يقابل عمله لا العادة واعتبر أبو العباس: في موضع جواز أخذ الناظر أجرة عمله مع فقره كوصي اليتيم ولا يقدم الناظر بمعلومه بلا شرط وما يأخذه الفقهاء من الواقف هل هو إجارة أو جُعالة أو كرزق من بيت المال فيه أقوال ثالثها المختار والمكوس إذا أقطعها الإمام الجيد فهي حلال لهم إذا جهل مستحقها وكذلك

إذا رتبها للفقهاء وأهل العلم والذي يتوجه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يتسلفوا الأجرة لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها وعلى هذا فلهم أن يطلبوا الأجرة من المستأجرة لأنه فرّط ولهم أن يطالبوا الناظر ويد الواقف ثابتة على المتصل بالوقف ما لم يأت حجة تدفع موجبها كمعرفة كون الغارس غرسها بماله بحكم إجارة أو إعارة أو غصب ومَنْ أكل المال بالباطل قَوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم وقَوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه يستثنون يسيراً والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة جائزة ولو عينه الواقف إذا كان مثل مستشنيه وقد يكون في ذلك مفسدة راجحة كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة ويستحق حمل موجود عند تأبير النخل أو بدو صلاح الثمر من حين موت أبيه ولو لم يتفصل وإذا زرع البطن الأول من أهل الوقف في الأرض الموقوفة ثم مات وانتقل إلى البطن الثاني كان مبقي إلى أوان جده بأجره
وقال أبو العباس: في موضع آخر تجعل مزارعة بين الزارع ورب الأرض لنموه من أرض أحدهما وبذر الآخر وكذا الحكم في الإقطاع المزروع إذا انتقل إلى مقطع آخر والزرع قائم فيها وشجر الجوز الموقوف إن أدرك وإن قطعه في حياة الباطن الأول فهو له فإن مات وبقي في الأرض مدة حتى زاد كانت الزيادة حادثة من منفعة الأرض التي للبطن الثاني والأصل الذي ورث الأول فإمّا أن يقسم الزيادة على قدر القسمين وإما أن يعطي الورثة أجرة الأرض إلى البطن الثاني وإن غرسه البطن الأول من مال الوقف ولم يدرك إلا بعد انتقاله إلى البطن الثاني فهو لهم وليس لورثة الأول فيه شيء ومَن وقف وقفاً مستقلاً ثم ظهر عليه دين ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع باتفاق العلماء وإن كان الوقف في الصحة فهل يباع لوفاء الدين فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره ومنعه قوي
قلت: وظاهر كلام أبي العباس ولو كان الدين حادثاً بعد الوقف قال: وليس

هذا بأبلغ من التدبير وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باع على المدبر في الدين و الله أعلم
وإذا وقف الواقف وعليه دين مستغرق واثبت عند حاكم ولم يتعرض لصحة الوقف ولم يعلم الموقوف عليهم ثم مات الواقف فرد الموقوف إلى الموقوف عليهم وطلب أرباب الديون دينهم ورفعت القصة إلى حاكم يرى بطلان هذا الوقف من جهة شرط النظر لنفسه وكونه يستغرق الذمة بالدين وكونه لم يخرجه من يده فهل يجوز نقضه فيقال: حكم الحاكم بما قامت به البينة والقضاء بموجبه والإلزام بمقتضاه لا يمنع الحاكم الثاني الذي عنده أن الواقف كانت ذمته مشغولة بالديون حين الوقف أن يحكم بمذهبه في بطلان هذا الواقف وصرف المال إلى الغرماء المستحقين للوفاء فإنَّ الحاكم الأول في وجوه هؤلاء الخصوم ونوابهم لا يضمن حكمه عمله بهذا الفصل المختلف فيه وإذا صادف حكمه مختلفاً فيه لم يعلمه ولم يحكم فيه جاز نقضه ومن نزل في مدرسة ونحوها استحق بحصته من المغل ومن جعله كالولد فقد أخطأ ولورثته أمام مسجد أجرة عمله في أرض المسجد كما لو كان الفلاح غيره ولهم مِن مغله بقدر ما باشر مورثهم ويستحق ولد الولد وإن لم يستحق أبوه شيئاً ومَن ظن أن الوقف كالإرث فإنْ لم يكن والده أخذ شيئاً لم يأخذ هو فلم يقله أحد من الأئمة ولم يدر ما يقول
ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضها لم تحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعاً ولا فرق والأظهر فيمَن وقف على ولديه نصفين ثم على أولادهما وأولاد أولادهما وعقبهما بعدهما بطناً بعد بطن أنه ينتقل نصيب كل إلى ولده وإن لم ينقرض جميع البطن الأول وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وقول الواقف: مَن مات عن ولد فنصيبه لولده يشتمل الأصل لا العائد وهو أحد الوجهين في المذهب ولو قال: وقفت على أولادي ثم أولادهم الذكور والإناث ثم أولادهم الذكور وإن سفلوا فإن أحد الطبقة الأولى لو كانت بنتاً

فماتت ولها أولاد فما استحقته قبل موتها فلهم ولو قال: ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأخوه ثم نسلهم وعقبهم عمن لم يعقب ومن أعقب ثم انقطع عقبه وقول الواقف: ومن مات من غير نسل يعود ما كان جارياً عليه على من هو في درجته وذوي طبقته يقدم الأقرب إلى المتوفى فالأقرب وهو حرمان الطبقة السفلى فقط لا حرمان العليا وإذا وجد في كتاب الوقف وقف على بنيه وبني بنيه والإمارة تدل على أحد الأمرين فمذهبنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقرع بينهما كإقراره بما في يده لأحد الشخصين لا يعلم عينه والثاني: أن يرجح بنو البنين والواو كما لا تقتضي الترتيب لا تنفيه فهي سالبة عنه نفياً وإثباتاً ولكن تدل على التشريك وهو الجمع المطلق فإن كان في الوقف ما يدل على الترتيب مثل أن رتب أو لا عمل به ولم يكن ذلك منافياً لمقتضى الواو ولا يلزم من التشريك التسوية بل يعطي بحسب المصلحة ولو طلب المدرس الخمس فقلنا له: فاعط القيم الخمس لأنه نظير المدرس لظهر بطلان حجته ولو وقف مسجداً وشرط إماماً وأثبت قراء وقَيّماً ومؤذناً وعجز الوقف عن تكميل حق الجميع ولم يرض الإمام والمؤذن والقيم إلا بأخذ جامكية مثلهم صرف إلى الإمام والمؤذن والقيم جامكية مثلهم مقدمة على القراء فإنَّ هذا هو المقصود الأصلي ولو وقف على آل جعفر وآل علي فهل يستوي بين أفرادهم أو يقسم بينهم نصفين
قال أبو العباس: أفتيت أنا وطائفة من الفقهاء أنه يقسم بين أعيان الطائفتين وأفتى طائفة أنه يقسم نصفين فيأخذ آل جعفر النصف وإن كانوا واحداً وهومقتضى أحد قولي أصحابنا ولو أقر الموقوف عليه أنه لا يستحق في هذا الوقف إلا مقداراً معلوماً ثم ظهر شرط الواقف أنه يستحق أكثر حكم له بمقتضى شرط الواقف ولا يمنع من ذلك إقراره المتقدم ولو وقف على ابني أخيه يوسف وأيوب ثم ظهر أن أيوب اسمه صالح فشك فيه لم يكن لأخيه ابنان سواهما فحق أيوب ثابت ولا يضر الغلط في اسمه وإن كانوا ثلاثة بنين ووقع الشك في عين الثالث أخرج بالقرعة في رواية عن أحمد

ومَن عَمّر وقفاً بالمعروف ليأخذ عوضه فله أخذه من غلته واليتيم من لم يبلغ ثلاث لكن يعطي من ليس له أب يعرف في بلد الإسلام ولا يعطي كافر وإذا مات شخص من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف صُرف إلى جميع المستحقين بالتسوية وجوَّز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة كجعل الدور حوانيت والحكورة مشهورة ولا فرق بين بناء ببناء وعرصة بعرصة أولاً ولو وقف كروماً على الفقراء ويحصل على جيرانها ضرر يعوض عنها بما لا ضرر فيه على الجيران ويعود الأول ملكاً والثاني وقفاً ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة وهو قياس الهَدْى وهو وجه في المناقلة ومال إليه أحمد ونقل صالح ينتقل المسجد لمنفعة الناس ولا يجوز أن يبدل الوقف بمثله لفوات التعيين بلا حاجة وما حصل للأسير من ريع الوقف فإنّه يتسلمه ويحفظه وكيله ومن يتنقل إليه بعده جميعاً وما فَضُل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر لأن الواقف له غرض في الجنس والجنس واحد وقد روى الإمام عن علي: أنه حض الناس على إعطاء المكاتب فلو صرف إلى المسجد الثاني ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين وقال أبو العباس في موضع آخر ويجوز صرفه في سائر المصالح وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه وإن علم أن وقفه يبقى دائماً وجب صرفه لأن بقاء صرفه بقاء فساد ولا يجوز لغير الناظر صرف الفاضل وإذا وقف مدرسة على الفقهاء والمتفقهة الفلانية برسم سكناهم واشتغالهم فيها فلا تختص السكنى بالمرتزقة من المال بل يجوز الجمع بين السكنى والرزق من المال بل يجوز الجمع بين السكنى والإرتزاق للشخص الواحد ويجوز السكنى من غير ارتزاق كما يجوز الارتزاق من غير سكنى ولا يجوز قطع أحد الصنفين إلا بسبب

شرعي إذا كان الساكن مشتغلاً سواء كان يحضر الدرس أم لا والأرزاق التي يقدرها الواقفون ثم يتغير النقد فيما بعد نحو أن يشترط مائة درهم ناصرية ثم يحرم التعامل بها وتصير الدراهم ظاهرية فإنّه يعطي المستحق من نقد البلد ما قيمته قيمة المشروط ولولي الأمر أن ينصب ديواناً مستوفياً لحساب أموال الأوقاف عند المصلحة وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله من كل مال يعمل فيه بمقدار ذلك المال وإذا قام المستوفي بما عليه من العمل استحق ما فرض له

باب الهبة
"باب الهبة"
وإعطاء المرء المال ليمدح ويثنى عليه مذموم وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه ولئلا ينسب إلى البخل مشروع بل هو محمود مع النية الصالحة والإخلاص في الصداقة أن لا يسأل عوضها من المعطي ولا يرجو بركته وخاطره ولا غير ذلك من الأقوال قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} الإنسان: 9 وتصح هبة المعدوم كالثمر واللبن بالسنة واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر بخلاف البيع وتصح هبة المجهول كقوله ما أخذت من مالي فهو لك أو من وجد شيئاً من مالي فهو له وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التملك وهذا نوع لهبة يتأخر القبول فيه عن الإيجاب كثيراً وليس بإباحة وتجهيز المرأة بجهازها إلى بيت زوجها تمليك
قال القاضي: قياس قولنا في بيع المعطاة أنه تملكه بذلك وأفتى به بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة وغيرهم
قال أبو العباس: ويظهر لي صحة هبة الصوف على الظهر قولاً واحداً وقاسه أبو الخطاب على البيع والصدقة أفضل من الهبة إلا لقريب يصل بها رحمه أو أخ له في الله تعالى فقد تكون أفضل من الصدقة ومن العدل الواجب من له يد أو نعمة أن يجزئه بها والهبة تقتضي عوضاً مع الصرف

ولا يجوز للإنسان أن يقبل هدية من شخص ليشفع له عند ذي أمر أو أن يرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقه أو يوليه لأنه يستحقها أو يستخدمها في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه وهو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر وفيه حديث مرفوع رواه أبو داود وغيره ونقل يعقوب بن يحيى عن أحمد أنه قال: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية
قال أبو العباس: هذا خاطب الرجل لأن المرأة لا تبذل وإنّما الزوج يبذل وتصح العمرى ويكون للمعمر ولورثته إلا أن يشترط المعمر عودها إليه فيصح الشرط - وهو قول طائفة من العلماء ورواية عن أحمد ولا يدخل الزوجان في قوله: ولعقبك وإذا تفاسخا عقد الهبة صح ولا يفتقر إلى قبض الموهوب وتكون العين أمانة في يد المتهب بخلاف البيع في وجه ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم وهو مذهب أحمد مسلماً كان الولد أو ذمياً ولا يجب على المسلم التسوية بين أولاد أهل الذمة ولا يجب التسوية بين سائر الأقارب الذين لا يرثون كالأعمام والأخوة مع وجود الأب ويتوجه في البنين التسوية كآبائهم فإنْ فَضُل حيث منعناه فعليه التسوية أو الرد وينبغي أن يكون على الفور وإذا سوى بين أولاده في العطاء ليس له أن يرجع في عطية بعضهم والحديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك أيضاً وهو في ماله ومنفعته التي ملكهم والذي أباحهم كالمسكن والطعام ثم هنا نوعان نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك فتعديله فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير ونوع تشترك حاجتهم إليه من عطية أو نفقة أو تزويج فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه وينشأ من بينهما نوع ثالث وهو: أن ينفرد أحدهما بحاجة غير معتادة مثل أن يقضي عن أحدهما ديناً وجب عليه من أرش جناية أو يعطي عنه المهر أو يعطيه نفقة الزوجة ونحو ذلك ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر وتجهيز البنات بالنِحل أشبه وقد يلحق

بهذا والأشبه أن يقال في هذا: أنه يكون بالمعروف فإنْ زاد على المعروف فهو من باب النِحل ولو كان أحدهما محتاجاً دون الآخر أنفق عليه قدر كفايته وأمّا الزيادة فمِن النِحل فلو كان أحد الأولاد فاسقاً فقال والده: لا أعطيك نظير أخوتك حتى تتوب فهذا حسن يتعين استثناؤه وإذا امتنع من التوبة فهو الظالم فإن تاب وجب عليه أن يعطيه وأما إن امتنع من زيادة الدين لم يجز منعه فلو مات الوالد قبل التسوية الواجبة فللباقين الرجوع وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن بطة وأبي حفص وأما الولد المفضل ينبغي له الرد بعد الموت قولاً واحداً وهل يطيب له الإمساك إذا قلنا: لا يجبر على الرد كلام أحمد يقتضي روايتين فقال في رواية ابن الحكم: وإذا مات الذي فضل لم أطيبه له ولم أجبر على رده وظاهره التحريم ونقل عنه أيضاً قلت: فترى الذي فضل أن يرده قال: إن فعل فهو أجود وإن لم يفعل ذلك لم أجبره وظاهره الاستحباب وإذا قلنا: يرده بعد الموت فالوصي يفعل ذلك فلو مات الثاني قبل الرد والمال بحاله رده أيضاً لكن لو قسمت تركة الثاني قبل الرد أو بيعت أو وهبت فههنا فيه نظر لأن القسمة والقبض بقرب العقود الجاهلية وهذا فيه تأويل
وكذلك لو تصرف المفضل في حياة أبيه ببيع أو هبة واتصل بهما القبض ففي الرد نظر إلا أن هذا متصل بالقبض في العقود الفاسدة وللأب الرجوع فيما وهبه لولده ما لم يتعلق به حق أو رغبة فلا يرجع بقدر الدين وقدر الرغبة ويرجع فيما زاد وعن الإمام أحمد فيما إذا تصدق على ولده: له أن يرجع فيه روايتان بناء على أن الصدقة نوع من الهبة أو نوع مستقل وعلى ذلك يبنى ما لو حلف لا يهب فتصدق هل يجب على وجهين والصدقة أفضل من الهبة إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل مثل الإهداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة له ومثل الإهداء لقريب يصل به الرحم أو أخ له في الله فهذا قد يكون أفضل من الصدقة ويرجع الأب فيما أبرأ منه ابنه من الديون على قياس المذهب كما للمرأة على أحد الروايتين الرجوع على

زوجها فيما أبرأته من الصداق ويملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه ولو قتل ابنه عمداً لزمته الدية في ماله نص عليه الإمام أحمد وكذا لو جنى على طرفه لزمته ديته وإذا أخذ من مال ولده شيئاً ثم انفسخ سبب استحقاقه بحيث وجب رده إلى الذي كان مالكه مثل أن يأخذ صداقها فتطلق أو يأخذ الثمن ثم ترد السلعة بعيب أو يأخذ المبيع ثم يفلس الولد بالثمن ونحو ذلك فالأقوى في جميع الصور أن للمالك الأول الرجوع على الأب وللأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يتعلق به حق كالرهن والفلس وإن تعلق به رغبة كالمداينة والمناكحة وقلنا: يجوز الرجوع في الهبة ففي التمليك نظر وليس للأب الكافر تملك مال ولده المسلم لا سيما إذا كان الولد كافراً فأسلم وليس له أن يرجع في عطيته إذا كان وهبه في حال الكفر فأسلم الولد فأما إذا وهبه في حال إسلام الولد ففيه نظر
وقال أبو العباس: في موضع آخر فأما الأب والأم الكافرة فهل لهما أن يتملكا مال الولد المسلم أو يرجعا في الهبة يتوجه أن يخرج فيه وجهان على الروايتين في وجوب النفقة مع اختلاف الدين بل يقال: إن قلنا: لا تجب النفقة مع اختلاف الدين فالتملك أبعد وإن قلنا: تجب النفقة فالأشبه ليس لهما التملك والأشبه أنه ليس للأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئاً فإنَّ أحمد علل الفرق بين الأب وغيره وبأن الأب يجوز أخذه من مال ابنه ومع اختلاف الدين لا يجوز والأشبه في زكاة دين الابن على الأب أن يكون بمنزلة المال التاوي كالضال فيخرج فيه ما خرج في ذلك وهل يمنع دين الأب وجوب الزكاة والحج وصدقة الفطر والكفارة المالية وشرائه العتيق يتوجه أنه لا يمنع ذلك لقدرته على إسقاطه ويتوجه أن يمنع أن وفاءه قد يكون خيراً له ولولده وعقوبة الأم والجد على مال الولد قياس قولهم: أنه لا يعاقب على الدم والعرض أن لا يكون عليهما حبس ولا ضرب للامتناع من الأداء وقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" يقتضي إباحة نفسه كإباحة ماله وهو نظير قول موسى عليه السلام لا أملك إلا نفسي وأخي وهو يقتضي جواز استخدامه وأنه يجب على الولد خدمة أبيه

ويقويه جواز منعه من الجهاد والسفر ونحو ذلك فيما يفوت انتفاعه به
لكن هذا يشترك فيه الأبوان فيحتمل أن يقال: خص الأب بالمال وأما منفعة البدن فيشتركان فيها وقياس المذهب جواز أن يؤجر ولده لنفسه مع فائدة فيشتركان فيها وقياس المذهب جواز أن يؤجره لنفسه مع فائدة الولد مثل أن يتعلم صنعة أو حاجة الأب وإلا فلا ويستثنى ما للأب أن يأخذه من سرية الابن إن لم تكن أم ولد فإنها تلحق بالزوجة ونص عليه الإمام أحمد في أكثر الروايات وعنه ألحقنا سرية العبد بزوجته في إحدى الروايتين في أن السيد لا ينتزعها ولا يبطل إبراء الزوجة الزوج بدعواها السفه ولو مع بينة أنها سفيهة ولم يجب الحجر ولو أبرأته وولدت عنده ومالها بيدها تتصرف فيه لم يصدق أبوها أنها كانت سفيهة يجب حجرها بلا بينة و الله أعلم

كتاب الوصية
*
" كتاب الوصية"
وتصح الوصية بالرؤيا الصادقة المقترنة بما يدل على صدقها إقرار كاتب أو إنشاء لقصة ثابت بن قيس التي نقضها الصديق -رضي الله عنه- وقد اختلف في الكشف هل هو طريق للأحكام فنفاه ابن حامد والقاضي وأكثر الفقهاء وقال القاضي: أنّ في كلام أحمد في ذم المتكلمين على الوسواس والخطرات إشارة إلى هؤلاء وأثبته طائفة مَن الصوفية وبعض الفقهاء والمقصود أن التصرف بناء على ذلك جائز وإن لم يجز الرجوع إليه في الأحكام لأن عمدة التصرف على غلبة الظن بأي طريق كان بخلاف الأحكام فإن طرقها مضبوطة وقول الإمام أحمد وغيره من السلف وصية الصبي صحيحة إذا أصاب الحق يحتمل بادئ الرأي وجهين: أحدهما: أنه إذا أوصى بما يجوز للبائع لكن هذا فيه نظر فإن هذا الشرط ثابت في حق كل موص فلا حاجة إلى تخصيص الصبي به والثاني: أنه إذا أوصى بما يستحب أن يوصي به مثل أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثون فعلى هذا فلو أوصى لبعيد دون القريب المحتاج لم تنفذ وصيته بخلاف البائع لأن

أقسام الكتاب
1 2