كتاب:النبوات
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

بمن عرف صدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذي لا يقوله إلا من هو من أصدق الناس أو من أكذبهم وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني فإذا كان العلم بصدقه بلا آية قد يكون علما ضروريا فكيف بالعلم بكون الآية علامة على صدقه وجميع الأدلة لا بد أن تعرف دلالتها بالضرورة فإن الأدلة النظرية لا بد أن تنتهي إلى مقدمات ضرورية وأكثر الخلق اذا علموا ما جاء به موسى والمسيح ومحمد علموا صدقهم بالضرورة ولهذا لا يوجد أحد قدح في نبوتهم إلا أحد رجلين إما رجل جاهل لم يعرف أحوالهم واما رجل معاند متبع لهواه وعامة من كذبهم في حياتهم كان معاندا فالرؤساء كذبوهم لئلا تزول رئاستهم أو مأكلتهم والاتباع طاعة لكبرائهم كما أخبر الله بمثل ذلك في غير موضع من القرآن لم يكن التكذيب لقيام حجة تدل على الكذب فإنه يمتنع قيام دليل يدل على الكذب فالمكذب مفتر متكلم بلا علم ولا دليل قطعا وكذلك كل من كذب بشيء من الحق أو صدق بشيء من الباطل يمتنع أن يكون عليه دليل صحيح فإن الدليل الصحيح يستلزم مدلوله فإذا كان المدلول منتفيا امتنع أن يكون عليه دليل صحيح وكثير من الناس قد يكون شاكا لعدم طلبه العلم وإعراضه عنه فالمكذب متكلم بلا علم قطعا والشاك معرض عن طلب العلم مقصر مفرط ولو طلب العلم تبين له الحق اذا كان متمكنا من معرفة أدلة الحق وأما من لم يصل اليه الدليل ولا يتمكن من الوصول اليه فهذا عاجز وأما الذين سلكوا طريق الحكمة فلهم أيضا مسالك مثل أن يقال ان الله سبحانه وتعالى اذا بعث رسولا أمر الناس بتصديقه وطاعته فلا بد أن ينصب لهم دليلا يدلهم على صدقه فإن ارسال رسول بدون علامة وآية تعرف المرسل اليهم أنه رسول قبح وسفه في صرائح العقول وهو نقص في جميع الفطر وهو سبحانه منزه عن النقائص والعيوب ولهذا ينكر على المشركين أنهم يصفونه بما هو عندهم عيب ونقص لا يرضونه لأنفسهم مثل كون مملوك أحدهم شريكه يساويه فإن هذا من النقائص والعيوب التي ينزهون أنفسهم عنها ويعيبون ذلك على من فعله من الناس فإذا كان هذا عيبا ونقصا لا يرضاه الخلق لانفسهم لمنافاته الحكمة والعدل فإن الحكمة والعدل تقتضي وضع كل شيء موضعه الذي يليق به ويصلح به فلا تكون العين

كالرجل ولا الإمام الذي يؤتم به في الدين والدنيا في آخر المراتب والسفلة من أتباعه في أعلى المراتب فكذلك المالك لا يكون مملوكه مساويا له فإن ذلك يناقض كون أحدهما مالكا والآخر مملوكا ولهذا جاءت الشريعة بأن المرأة لا تتزوج عبدها لتناقض الأحكام فان الزوج سيد المرأة وحاكم عليها والمالك سيد المملوك وحاكم عليه فإذا جعل مملوكها زوجها الذي هو سيدها تناقضت الأحكام فهذا وأمثاله مما يبين أن هذه القضية مستقرة في فطر العقلاء ولهذا قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم أي كما يخاف بعضكم بعضا كذلك يفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين وكذلك كل أحد يعلم بفطرته أن الذكر أفضل من الأنثى وكانت العرب أشد كراهية للبنات من غيرهم حتى كان منهم ن يئد البنات ويدفن البنت وهي حية حتى قال تعالى وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وقال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب وكانوا لا يورثون الاناث وقد قالت أم مريم ولس الذكر كالأنثى وكان من الكفار من جعل له الإناث أولادا وشركاء قال تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ان هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وقال تعالى ان الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا وقال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون يعني ساء الحكم حكمهم أي بئس الحكم حكمهم كما يقال بئسما فعل وبئسما حكم حيث حكموا بأن لله البنات ولهم ما يشتهون فهذا حكم جائر كما أن تلك القسمة قسمة جائرة عوجاء فهذا حكمهم بينهم وبين ربهم

وهذا قسمهم يجعلون لانفسهم أفضل النوعين ولربهم أدنى النوعين وهو مثل السوء ولله المثل الأعلى فالواجب أن يكون أفضل الأنواع وأكملها لله وما فيها نقص وعيب فالمخلوق أحق بها من الخالق اذ كان كل كمال في المخلوق فهو من خالقه فيمتنع أن يكون الانقص خلق الاكمل والفلاسفة يقولون بعبارتهم كل كمال في المعلول فهو من العلة وأيضا فالموجود الواجب أكمل من الممكن والقديم أكمل من المحدث والغني أكمل من الفقير فيمتنع اتصاف الأكمل بالنقائص واتصاف الأنقص بالكمالات ولهذا يوصف سبحانه بأنه الأكرم والأكبر والأعلى وأنه أرحم الراحمين وخير الحاكمين وخير الغافرين وأحسن الخالقين فلا يوصف قط الا بما يوجب اختصاصه بالكمالات والممادح والمحاسن التي لا يساويه فيها غيره فضلا عن أن يكون لغيره النوع الفاضل وله النوع المفضول ولهذا عاب الله المشركين بان جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل الى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون فبئس الحكم حكمهم في هذا كما أنه بئس الحكم حكمهم في جعل الذكور لهم والاناث له وساء بمعنى بئس كقوله ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا أي بئس مثلا مثلهم ولهذا قالوا في قوله ساء ما يحكمون بئسما يقضون وقال تعالى أفاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثا انكم لتقولون قولا عظيما وقال تعالى وجعلوا له من عباده جزءا ان الانسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون فهذه الطريقة وهي أن ما يستحقه المخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه فالخالق أولى به وما ينزه عنه المخلوق من العيوب المذمومة فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم وهو سبحانه القدوس السلام الحميد المجيد من ابلغ الطرق البرهانية وهي مستعملة في القرآن في غير موضع فلذلك يقال الواحد من الناس قادر على ارسال رسول

وعلى أن يرسل نشابة وعلامة يعرف المرسل اليهم بها صدقه فكيف لا يقدر الرب على ذلك ثم اذا أرسله اليهم وأمرهم بتصديقه وطاعته ولم يعرفهم أنه رسوله كان هذا من أقبح الامور فكيف يجوز مثل هذا على الله ولو بعثه بعلامة لا تدلهم على صدقه كان ذلك عيبا مذموما فكل ما ترك من لوازم الرسالة اما أن يكون لعدم القدرة واما أن يكون للجهل والسفة وعدم الحكمة والرب أحق بالتنزيه عن هذا وهذا من المخلوق فإذا أرسل رسولا فلا بد أن يعرفهم أنه رسوله ويبين ذلك وما جعله آية وعلامة ودليلا على صدقه امتنع أن يوجد بدون الصدق فامتنع أن يكون للكاذب المتنبي فان ذلك يقدح في الدلالة فهذا ونحوه مما تعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب فكيف اذا انضم الى ذلك ان هذه سنته وعادته وأن هذا مقتضى عدله وكل ذلك عند التصور التام يوجب علما ضروريا بصدق الرسول الصادق وأنه لا يجوز أن يسوي بين الصادق والكاذب فيكون ما يظهره النبي من الآيات يظهر مثله على يد الكاذب اذ لو فعل هذا لتعذر على الخلق التمييز بين الصادق والكاذب وحينئذ فلا يجوز أن يؤمروا بتصديق الصادق ولا يذموا على ترك تصديقه وطاعته اذ الامر بذلك بدون دليله تكليف مالا يطاق وهذا لا يجوز في عدله وحكمته ولو قدر أنه جائز عقلا فإنه غير واقع
فصل وقد دل القرآن على أنه سبحانه لا يؤيد الكذاب عليه بل لا بد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه فقال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين ذكر هذا بعد قوله فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ثم قال ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين هذا بتقدير أن يتقول بعض الاقاول فكيف بمن يتقول الرساله كلها وقوله لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الوتين عرق في الباطن يقال هو نياط القلب اذا قطع مات الانسان عاجلا وذلك يتضمن هلاكه لو تقول على الله وقوله لأخذنا

منه باليمين قيل لاخذنا بيمينه كما يفعل بمن يهان عند القتل فيقال خذ بيده فيجر بيده ثم يقتل فهذا هلاك بعزة وقدرة من الفاعل وإهانة وتعجيل هلاك للمقتول وقيل لاخذنا منه باليمين أي بالقوة والقدرة فان الميامن أقوى ممن يأخذ بشماله كما قال فاخذناهم أخذ عزيز مقتدر وكما قال ان بطش ربك لشديد لكنه قال أخذنا منه ولم يقل لأخذناه فهذا يقوي القول الأول وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ يختم على قلبك ثم قال ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته فقوله ويمحو الله الباطل عطف جملة على جملة قالوا وليس من جواب الشرط لأنه قال ويحق الحق بالضم وهو معطوف على قوله يمحو الله الباطل فمحوه للباطل وإحقاقه الحق خبر منه لا بد أن يفعله فقد بين أنه لا بد أن يمحو الباطل ويحق الحق بكلماته فانه اذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق إذا كانت آية له وبين بها الحق من الباطل وهو أيضا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته فإنه إذا أنزل كلماته دل بها على أنه نبي صادق إذا كانت آية له وبين بها الحق من الباطل وهو أيضا يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته التي تكون بها الأشياء فيحق الحق بما يظهره من الآيات وما ينصر به أهل الحق كما تقدمت كلمته بذلك كما قال ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا وقال وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين وقال تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه وأمره يتضمن ما يأمر به وهو الكائن بكلماته وقال تعالى انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وكلماته صدق وعدل والعدل وضع الاشياء مواضعها فمن عدله أن يجعل الصادق عليه المبلغ لرسالته حيث يصلح من كرامته ونصره وأن يجعل الكاذب عليه حيث يليق به من اهانته وذله قال تعالى ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين قال ابو قلابة هي لكل مفتر الى يوم القيامة ومن أعظم الافتراء عليه دعوى النبوة والرسالة

كذبا كما قال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وذكر في هذا الكلام جميع أصناف الكاذبين الذين يعارضون رسله الصادقين كما ذكر فيما قبله حال الكاذبين في قوله وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ثم قال ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء الآية فان الكاذب إما أن يقول ان غيري أنزل علي وإما أن يقول أنا أصنف مثل هذا القرآن وإذا قال غيري أنزل علي فأما أن يعينه فيقول أن الله أنزله علي وإما أن يقول أوحي ولا يعين من أوحاه فذكر الأصناف الثلاثة فقال ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح اليه شيء فهذان نوعان من جنس ثم قال ومن لم يقل أو قال اذ كان هذا معارضا لا يدعي أنه رسول فقال ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهؤلاء المعارضون قد تحداهم في غير موضع وقال قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا والرسول أخبر بهذا خبرا تاما في أول الامر وهذا لا يمكن إلا مع قطعه أنه على الحق وإلى الآن لم يوجد أحد أنزل مثل ما أنزل الله قوله ومن قال سأنزل ولم يقل أقدر أن أنزل فإن قوله سأنزل هو وعد بالفعل وبه يحصل المقصود بخلاف قوله أقدر فانه لا يحصل به غرض المعارض وإنما يحصل إذا فعل فمن وعد بانزال مثل ما أنزل كان من أظلم الناس وأكذبهم اذ كان قد تبين عجز جميع الثقلين الانس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن وقوله مثل ما أنزل الله يقتضي أن كل ما أنزله الله على أوليائه فهو معجز لا يقدر عليه الا الله كالتوراة والانجيل والزبور وهذا حق فإن في ذلك من أنباء الغيب مالا يعلمه الا الله

وفيه أيضا من تأييد الرسل بذلك مالا يقدر على أن يرسل بتلك الرسالة إلا الله فلا يقدر أحد أن ينزل مثل ما أنزل الله على نبيه فيكون به مثل الرسول ولا أن يرسل به غيره
فصل والاستدلال بالحكمة أن يعرف أولا حكمته ثم يعرف أن من حكمته أنه لا يسوي بين الصادق بما يظهر به صدقه وبأن ينصره ويعزه ويجعل له العاقبة ويجعل له لسان صدق في العالمين والكاذب عليه يبين كذبه ويخذله ويذله ويجعل عاقبته عاقبة سوء ويجعل له لسان الذم واللعنة في العالمين كما قد وقع فهذا هو الواقع لكن المقصود أن نبين أن ما وقع منه فهو واجب الوقوع في حكمته لا يجوز أن يقع منه ضد ذلك فهذا استدلال ببيان أنه يجب أن يقع منه ما يقع ويمتنع أن يقع منه ضده وذلك ببيان أنه حكيم وأن حكمته توجب أن يبين صدق الانبياء وينصرهم ويبين كذب الكاذبين ويذلهم كذلك يفعل بأتباع النبيين وبأعدائهم كما أخبر بذلك في كتابه وبين أن هذا حق عليه يجب أن يفعله ويمتنع أن يفعل ضده كما قال تعالى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا الى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين وكما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز وقوله لأغلبن قسم أقسم الله عليه فهو جواب قسم تقديره والله لاغلبن أنا ورسلي وهذا يتضمن إخباره بوقوع ذلك وأنه كتب على نفسه ذلك وأمر به نفسه وأوجبه على نفسه فإن صيغة القسم تتضمن التزام ما حلف عليه إما حضا عليه وأمرا به وإما منعا منه ونهيا عنه ولهذا كان في شرع من قبلنا يجب الوفاء بذلك ولا كفارة فيه وكذلك كان في أول الاسلام ولهذا كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين كما ذكرت ذلك عائشة ولهذا أمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث فإن ذلك صار واجبا باليمين كوجوب المنذور الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع والضرب بالضغث يجوز في الحدود اذا كان المضروب لا يحتمل التفريق كما جاء في الحديث ولو كان في شرعهم كفارة لأغنت عن الضرب مطلقا لكن الإنسان قد يلتزم مالا يعلم عاقبته ثم يندم عليه والرب تعالى عالم بعواقب الامور فلا يحلف على أمر ليفعلنه

إلا وهو يعلم عاقبته واليمين موجبة ولهذا قال تعالى كتب الله لأغلبن وكتب مثل كتب في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة فهي كتابة تتضمن خبرا وايجابا ومنه قوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وفي الحديث الصحيح الآلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وقد بسط هذا الأصل في مواضع مثل الكلام في مسألة القدر المختار ومسألة العدل والظلم وغير ذلك فان كثيرا من المتكلمين يقول ان القادر المختار لا يفعل الا بوصف الجواز فيفعل الفعل في حال تردده بين أن يفعل وأن لا يفعل ومنهم من يقول يفعله مع رجحان أن يفعل رجحانا لا ينتهي إلى حد الوجوب وهو قول محمد بن الهيضم الكرامي ومحمود الخوارزمي المعتزلي وبهذا استطال عليهم الفلاسفة فقالوا الرب موجب لأن الممكن لا يقع حتى يحصل المؤثر التام الموجب له والتحقيق أن الرب يخلق بمشيئته وقدرته وهو موجب لكل ما يخلقه بمشيئته وقدرته ليس موجبا بمجرد الذات ولا موجبا بمعنى أن موجبه يقارنه فإن هذا ممتنع فهذان معنيان باطلان وهو قادر يفعل بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاءه وجب كونه وما لم يشأه امتنع كونه ولهذا قال كثير من النظار إن الارادة موجبة للمراد وعلى هذا فقولنا يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون إنما هو جواز الشيء بمعنى الشك في أيهما هو الواقع وإلا ففي نفس الامر أحدهما هو الواقع ليس في نفس الامر ظنيا مترددا بين الوقوع وعدم الوقوع والامكان الذهني قد يراد به عدم العلم بالامتناع وقد يراد به الشك في الواقع وكلا النوعين عدم علم والامكان الخارجي يراد به أن وجوده في الخارج ممكن لا ممتنع كولادة النساء ونبات الارض وأما الجزم بالوقوع وعدمه فيحتاج الى دليل وفي نفس الامر ما ثم الا ما يقع أو لا يقع والواقع لا بد من وقوعه ووقوعه واجب لازم وما لا يقع فوقوعه ممتنع لكن واجب بغيره وممتنع لغيره وهو واجب من جهات من جهة علم الرب من وجهين ومن جهة إرادته من وجهين ومن جهة كلامه من وجهين ومن جهة كتابته من وجهين ومن جهة رحمته ومن جهة عدله أما علمه فما علم انه سيكون فلا بد أن يكون وما علم أنه لا

يكون فلا يكون وهذا مما يعترف به جميع الطوائف إلا من ينكر العلم السابق كغلاة القدرية الذين تبرأ منهم الصحابة ومن جهة أنه يعلم ما في ذلك الفعل من الحكمة فيدعوه علمه إلى فعله أو ما فيه من الفساد فيدعوه الى تركه وهذا يعرفه من يقر بأن العلم داع ومن يقر بالحكمة ومن جهة إرادته فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومن جهة حكمته وهي الغاية المرادة لنفسها التي يفعل لأجلها فاذا كان مريدا للغاية المطلوبة لزم أن يريد ما يوجب حصولها ومن جهة كلامه من وجهين من جهة أنه اخبر به وخبره مطابق لعلمه ومن جهة أنه أوجبه على نفسه وأقسم ليفعلنه وهذا من جهة إيجابه على نفسه والتزامه أن يفعله ومن جهة كتابته إياه في اللوح وهو يكتب ما علم أن سيكون وقد يكتب إيجابه والتزامه كما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقال كتب ربكم على نفسه الرحمة فهذه عشرة أوجه تقتضي الجزم بوقوع ما سيكون وأن ذلك واجب حتم لا بد منه فما في نفس الأمر جواز يستوي فيه الطرفان الوجود والعدم وإنما هذا في ذهن الانسان لعدم علمه بما هو الواقع ثم من علم بعض تلك الاسباب علم الواقع فتارة يعلم لأنه أخبر بعلمه وهو ما أخبرت الانبياء بوقوعه كالقيامة والجزاء وتارة يعلم من جهة المشيئة لأنه جرت به سنته الشاملة التي لا تتبدل وتارة يعلم من جهة حكمته كما قد بسط في غير هذا الموضع والحكمة والعدل والرحمة والعادة تعلم بالعقل كما قد عرف من حكمة الرب وعدله وسنته ويستدل بذلك على العلم والخبر والكتاب كما أن العلم والخبر والكتاب يعلم بإخبار الانبياء ويستدل بذلك على العدل والحكمة والرحمة والجهمية المجبرة لا تجزم بثبوت ولا انتفاء إلا من جهة الخبر أو العادة اذ كانوا لا يثبتون الحكمة والعدل والرحمة في الحقيقة كما قد بسط في غير موضع وحكي عن الجهم أنه كان يخرج فينظر الجذمي ثم يقول أرحم الراحمين يفعل هذا يقول أنه يفعل لمحض المشيئة ولو كان يفعل بالرحمة لما فعل هذا وهذا من جهله لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة والرحمة والمصلحة والمجبرة المثبتة للقدر المتبعون لجهم والقدرية النفاة مناقضون لهم كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع وما زال العقلاء يستدلون بما علموه من صفات الرب على ما

يفعله كقول خديجة للنبي صلى الله عليه و سلم لما قال لها لقد خشيت على نفسي فقالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتصدق الحديث وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت بما فيه من مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال على أن الله لا يخزيه ومنه قوله تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم فان الشيطان إنما ينزل على ما يناسبه ويطلبه وهو يريد الكذب والإثم فينزل على من يكون كذلك وبسط هذا له موضع آخر والكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة التي توجب فعل ما تقتضيه الحكمة ويمتنع فعل ما تنفيه فنقول هو سبحانه وتعالى حكيم يضع كل شيء موضعه المناسب له فلا يجوز عليه ان يسوي بين جنس الصادق والكاذب والعادل والظالم والعالم والجاهل والمصلح والمفسد بل يفرق بين هذه الانواع بما يناسب الصادق العادل العالم المصلح من الكرامة وما يناسب الكاذب الظالم الجاهل المفسد من الهوان كما قال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين وهذا استفهام انكار على من ظن ذلك وهو يتضمن تقرير المخاطبين واعترافهم بان هذا لا يجوز عليه وأن ذلك بين معروف يجب اعترافهم به وإقرارهم به كما يقال لمن ادعى امرا ممتنعا مثل نعم كثيرة في موضع صغير فيقال له أههنا كانت هذه النعم أي هذا ممتنع فاعترف بالحق وإذا ادعى على من هو معروف بالصدق والامانة أنه نقب داره وأخذ ماله قيل له أهذا فعل هذا ومنه قوله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ونظائره كثيرة وكذلك قوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فإن هذا استفهام إنكار على حسب أنه يسوي بين هؤلاء وهؤلاء فبين أن هذا الحساب باطل وأن التسوية ممتنعة في حقه لا يجوز أن يظن به بل من ظن ذلك فقد ظن بربه ظن السوء وذلك ظن أهل الجاهلية الذين يظنون بالله ظن السوء

فمن جوز ذلك على الله فقد ظن بربه ظن السوء وقوله تعالى فيما جرى يوم أحد وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية فسره ابن عباس وغيره بأنهم ظنوا أن الله لم يقدر ما جرى وأنه لا ينصر رسوله فكما أن القدر يجب الايمان به ويعلم أن كل ما كان فقد سبق به علم الرب فكذلك يعلم أنه لا بد أن ينصر رسله والذين آمنوا وكما انه لا يجوز أن يقع خلاف المقدر فلا يجوز أن لا ينصر رسله والذين آمنوا ومثله قوله تعالى فيما أنزله عام الحديبية لما ظن ظانون أن الرسول وأتباعه لا ينصرون فقال تعالى ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا وهذا يدل على أن هذا ظن سوء بالله لا يجوز أن يظن به أن يفعل ذلك ومن ينفي الحكمة يقول يجوز عليه فعل كل شيء وليس عنده ظن سوء بالله وإن قيل لما أخبر أنه بنصره كان ضد ذلك ظن سوء لأن خبره لا يقع بخلاف مخبره قيل عن هذا جوابان أحدهما أن هؤلا يلزمهم تجويز إخلاف الوعد عليه لأن هذا من باب الافعال المقدورة وهو يجوزون كل مقدور وإذا قيل إخلاف الوعد قبيح فهم ليس عندهم شيء قبيح ينزهون الرب عنه الثاني أنه إذا علم أنه يفعله ولو بالعلم الضروري فإنما ذاك لأنه واقع ولو قدر أن رجلا ظن أن الله لا يفعل ما سيفعله مما ليس فيه ذم مثل أن يظن أنه يموت بعد شهر لم يقل أن هذا ظن سوء وإنما يكون ظن سوء اذا كان المظنون عيبا قبيحا لا يجوز أن يضاف الى المظنون به ومنه قوله تعالى إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر ويظنون بالله الظنونا فهذا ذم لمن ظن بالله الظنون ومن ذلك قوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وهذا يقتضي أن هذا ممتنع عليه ومن حكم بجوازه فقد حكم حكما باطلا جائرا ممتنعا كالذين جوزوا أن تكون له بنات وهم يكرهون أن تكون لهم بنات فيجوزون على الله ما هو قبيح عندهم قال تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه

على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ومما يبين حكمته أن نقول أفعاله المحكمة المتقنة دلت على علمه وهذا مما وقع الاتفاق عليه من هؤلاء فإنهم يسلمون أن الإحكام والإتقان يدل على علم الفاعل وهذا أمر ضروري عندهم وعند غيرهم وهو من أعظم الادلة العقلية التي يجب ثبوت مدلولها والإحكام والإتقان انما هو أن يضع كل شيء في محله المناسب لتحصل به الحكمة المقصودة منه مثل الذي يخيط قميصا فيجعل الطوق على قدر العنق والكمين على قدر اليدين وكذلك الذي يبني الدار يجعل الحيطان متماثلة ليعتدل السقف والذي يصنع الإبريق يوسع ما يدخل منه الماء ويضيق ما يخرج منه وحكمة الرب في جميع المخلوقات باهرة قد بهرت العقلاء واعترف بها جميع الطوائف والفلاسفة من أعظم الناس إثباتا لها وهم يثبتون العناية والحكمة الغائية وإن كان فيهم من قصر في أمر الارادة والعلم وكذلك المتكلمون كلهم متفقون على إثبات الحكمة في مخلوقاته وإن كانوا في الارادة وفعله لغاية متنازعين وذلك مثلما في خلق الانسان وأدنى ذلك أن العين والفم والاذن فيها مياه ورطوبة فماء العين ملح وماء الفم عذب وماء الأذن مر فان العين شحمة والملوحة تحفظها أن تذوب وهذه أيضا حكمة تمليح البحر فان له سببا وحكمة فسببه سبوخة أرضه وملوحتها فهي توجب ملوحة مائه وحكمتها أنها تمنع نتن الماء بما يموت فيه من الحيتان العظيمة فإنه لولا ملوحة مائه لأنتن ولو أنتن لفسد الهواء لملاقاته له فهلك الناس بفساده وإذا وقع أحيانا قتل خلق كثير فإنه يفسد الهواء حتى يموت بسبب ذلك خلق كثير وماء الأذن مر ليمنع دخول الهوام إلى الأذن وماء الفم عذب ليطيب به ما يأكله فلو جعل الله ماء الفم مرا لفسد الطعام على أكلته ولو جعل ماء الاذن عذبا لدخل الذباب في الدماغ ونظائر هذا كثيرة فلا يجوز أن يفعل بخلاف ذلك مثل أن يجعل العينين في القدمين ويجعل الوجه خشنا غليظا كالقدمين فانه يفسد مصلحة النظر والمشي بل من الحكمة أنه جعل العينين في أعلى البدن في مقدمه ليرى بها ما أمامه فيدري أين يمشي وجعل الرجل خشنة تصبر على ما تلاقيه من التراب وغيره والعين لطيفة يفسدها أدنى شيء فجعل لها أجفانا تغطيها واهدابا فنقول هذا ومثله من مخلوقات الرب دل على

أنه قد أحكم ما خلقه وأتقنه ووضع كل شيء بالموضع المناسب له وهذا يوجب العلم الضروري أنه عالم فيميز بين هذا وبين هذا حتى خص هذا بهذا وهذا بهذا وهو أيضا يوجب العلم الضروري بأنه أراد تخصيص هذا بهذا وهذا بهذا فدل على علمه وإرادته وهذا مما يسلمونه فنقول ودل أيضا على أنه جعل هذا لهذا فجعل ماء العين والبحر ملحا للحكمة المذكورة وجعل العين في أعلى البدن وجعل لها أجفانا للحكمة المذكورة وكذلك إذا أنزل المطر وقت الحاجة اليه علم أنه أنزله ليحيي به الأرض وكذلك إذا دعاه الناس مضطرين فأنزل المطر علم أنه أنزله ليحيي الأرض لاجابة دعائهم فلا يتصور أن يعلم أنه أراد هذا لهذا ولا يتصور الإحكام والاتقان إلا اذا فعل هذا للحكمة المطلوبة فكان ما علم من إحكامه وإتقانه دليلا على علمه وعلى حكمته أيضا وأنه يفعل لحكمة والذين استدلوا بالاحكام على علمه ولم يثبتوا الحكمة وأنه يفعل هذا لهذا متناقضون عند عامة العقلاء وحذاقهم معترفون بتناقضهم فإنه لا معنى للإحكام إلا الفعل لحكمة مقصودة فإذا انتفت الحكمة ولم يكن فعله لحكمة انتفى الاحكام وإذا انتفى الاحكام انتفى دليل العلم وإذا كان الاحكام معلوما بالضرورة ودلالته على العلم معلومة بالضرورة علم أن حكمته ثابتة بالضرورة وهو المطلوب وأيضا فإذا ثبت أنه عام فنفس العلم يوجب أنه لا يفعل قبيحا ولا يجوز أن يفعل القبيح الا من هو جاهل كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن العالم يعلم ما الذي يصلح أن يفعل وإن فعل هذا أولى من فعل هذا وإذا كان مريدا للفعل وقد علم أن الفعل على هذا الوجه هو الاصلح امتنع أن يريد الوجه الآخر والانسان لا يريد القبيح الا لنقص علمه ما أن يفعل بلا علم بل لمجرد الشهوة أو يظن خطأ فيظن أن هذا الفعل يصلح وهو لا يصلح فإنما يقع القبيح في فعله لفعله مع الجهل البسيط أو المركب والرب منزه عن هذا وهذا فيمتنع أن يفعل القبيح وأيضا فإنه قد ثبت أنه مريد وأن الارادة تخصص المراد عن غيره وهذا انما يكون اذا كان التخصيص لرجحان المراد اما لكونه أحب الى المريد وأفضل عنده فأما اذا ساوى غيره من كل وجه امتنع ترجيح الارادة له فكان اثبات الارادة مستلزما اثبات الحكمة والا لم تكن الارادة فقد تبين ثبوت

حكمته من جهة علمه ومن جهة نفس أفعاله المتقنة المحكمة التي تدل على علمه بالاتفاق وهذه أصول عظيمة من تصورها تصورا جيدا انكشف له حقائق هذا الموضع الشريف وإذا ثبت أنه حكيم وأن حكمته لازمة لعلمه ولازمة لارادته وهما لازمان لذاته كانت حكمته من لوازم ذاته فيمتنع أن يفعل الا لحكمة وبحكمة ويمتنع أن يفعل على خلاف الحكمة ومعلوم بصريح العقل أن العلم خير من الجهل والصدق خير من الكذب والعدل خير من الظلم والاصلاح خير من الافساد ولهذا وجب اتصافه تعالى بالرحمة والعلم والصدق والعدل والاصلاح دون نقيض ذلك وهذا ثابت في خلقه وأمره فكما أنه في خلقه عادل حكيم رحيم فكذلك هو في أمره وما شرعه من الدين فإنه لا يكون الا عدلا وحكمة ورحمة ليس هو كما تقول الجهمية المجبرة ومن اتبعهم من أهل الكلام والرأي أنه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه اذا فعلوه وأن ما أمر به لا يجب أن يفعل على حكمة وينكرون تعليل الاحكام او يقولون أن علل الشرع أمارات محضة فهذا كله باطل كما قد بسط في مواضع بل ما يأمر به مصلحة لا مفسدة وحسن لا قبيح وخير لا فساد وحكمة وعدل ورحمة والحمد لله رب العالمين فإذا قدر رجلان ادعيا على الرب الرسالة أو توليا على الناس أو كانا من عرض الناس أحدهما عام صادق عادل مصلح والآخر جاهل ظالم كاذب مفسد ثم قدر أن ذلك العالم العادل عوقب في الدنيا والآخرة فاذل في الدنيا وقهر وأهلك وجعل في الآخرة في جهنم وذلك الظالم الكاذب الجاهل أكرم في الدنيا والآخرة وجعل في الدرجات العلى كان معلوما بالاضطرار أن هذا نقيض الحكمة والعدل وهو أعظم سفها وظلما من تعذيب ماء البحر وماء العين فإن هذا غايته موت شخص أو النوع وهذا أقل فسادا من إهلاك خيار الخلق وتعذيبهم وإكرام شرار الخلق وإهانتهم وإذا كان هذا أعظم مناقضة للحكمة والعدل من غيره وتبين بالبراهين اليقينية أن الرب لا يجوز عليه خلاف الحكمة والعدل علم بالاضطرار أن الرب سبحانه لا يسوي بين هؤلاء وهؤلاء فضلا عن أن يفضل الأشرار على الأخيار وهو سبحانه أنكر التسوية فقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا

وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وقد جعل من جوز أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة ويعذبهم في الآخرة في جهنم وأن الفراعنة يكرمهم في الآخرة والمنازع عنده لا فرق بين هذا وهذا بالنسبة الى الرب وإلى ارادته وحكمته وعلمه بل انما علم وقوع أحدهما بمجرد الخبر لا لامتناع أحدهما ووجوب الآخر والخبر إنما هو خبر الانبياء وذلك موقوف على العلم بصدقهم وهو يستلزم صدقهم وعلى أصله يمتنع العلم بصدقهم فانه يجوز أن يسوي الله بين الصادق والكاذب على أصله اذ كان يجوز عليه عنده كل مقدور وعنده لا يجوز أن يفعل فعلا لحكمة فلا يجوز على اصله أن يخلق الله آية ليدل به على صدقهم وإذا قال تجوبز ذلك يقتضى أنه لا يقدر على خلق ما به يبين صدق الصادق فلذلك منعت من ذلك لأنه يقضي الى تعجيزه قيل له انما يفضي الى عجزه اذا كان خلق دليل الصدق ممكنا وعلى أصلك لا يمكن إقامة الدليل على امكانه فإن الدليل يستلزم المدلول ويمتنع ثبوته مع عدمه وأي شيء قدرته جاز أن يخلقه على أصلك على يد الكاذب وأنت لا تنزهه عن فعل ممكن وإذا قلت أنزهه عن فعل ممكن يستلزم عجزه كان هذا تناقضا فإن فعل الممكن لا يستلزم العجز بل امتناع الممكن يستلزم العجز وبيان ذلك أن يقال ما خلقه على يد الصادق هو قادر على أن يخلقه على يد الكاذب أم لا فان قلت ليس بقادر فقد أثبت عجزه وان قلت هو قادر على ذلك فالمقدور عندك لا ينزه عن شيء منه وإن قلت هذا المقدور أنزهه عنه لئلا يلزم عجزه كان حقيقة قولك أثبت عجزه لا نفي عجزه فجعلته عاجزا لئلا تجعله عاجزا فجمعت بين النقيضين بين اثبات العجز ونفيه وإنما لزمه هذا لأنه لا ينزه الرب عن فعل مقدور فاستوت المقدورات كلها في الجواز عليه عنده ولم يحكم بثبوت مقدور إلا بالعادة او الخبر والعادة يجوز انتقاضها عنده والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر ولا طريق له الى ذلك فتبين أن كل من لم ينزه الرب عن السوء والسفه ويصفه بالحكمة والعدل لم يمكنه أن يعلم نبوة نبي ولا المعاد ولا صدق الرب في شيء من الإخبار فهذه طريقة من يجعل وجه دلالة المعجز على صدق الانبياء

لئلا يلزم العجز وأما الطريق الثانية وهي أجود وهي التي اختارها أبو المعالي وأمثاله فهو أن دلالة المعجز على التصديق معلومة بالاضطرار وهذه طريقة صحيحة لمن اعتقد أن يفعل لحكمة وأما إذا قيل انه لا يفعل لحكمة انتفى العلم الاضطراري والامثلة التي يذكرونها كالملك الذي جعل آية لرسوله أمرا خارجا عن عادته انما دلت للعلم بأن الملك يفعل شيئا لشيء فإذا نفوا هذا بطلت الدلالة وكذلك دليل القدرة هو دليل صحيح لكن مع إثبات الحكمة فإنه سبحانه وتعالى قادر على أن يميز بين الصادق والكاذب اذ كان قادرا على أن يهدي عباده الى ما هو أدق من هذا فهداهم الى أسهل لكن هذا يستلزم اثبات حكمته ورحمته فمن لم يثبت له حكمة ورحمة امتنع عليه العلم بشيء من أفعاله الغائبة وأيضا فآيات الانبياء تصديق بالفعل فهي تدل اذا علم أن من صدقه الرب فهو صادق وذلك يتضمن تنزيهه عن الكذب وعلى أصلهم لا يعلم ذلك فإن ما يخلقه من الحروف والأصوات عندهم هو مخلوق من المخلوقات فيجوز أن يتكلم كلاما يدل على شيء وقد أراد به شيئا آخر فإن هذا من باب المفعولات عندهم والكلام النفسي لا سبيل لأحد الى العلم به فعلى اصلهم يجوز الكذب في الكلام المخلوق العربي وهو الذي يستدل به الناس فلا يبقى طريق الى العلم بأنه صادق فيما يخلقه من الكلام ولهذا نجد حذاقهم في السمعيات انما يفرون الى ما علم بالاضطرار من قصد الرسول لا الى الاستدلال بالقرآن فالقاضي أبو بكر عمدته أن يقول هذا مما وقفنا عليه الرسول وعلمنا قصده بالاضطرار كما يقول مثل ذلك في تخليد أهل النار وفيما علمه من الاحكام اذ كانوا لا يعتمدون على القول المسموع لا خبرا ولا أمرا فهم لا طريق عندهم الى التمييز بين ما يقع وما لا يقع مثل التمييز بين كونه يثيب المحسن ويعاقب المسيء أو لا يفعله ففي الجملة جميع أفعاله من ارسال الانبياء ومجازاة العباد وقيام القيامة لا طريق لهم الى العلم بذلك الا من جهة الخبر وطريق الخبر على أصلهم مسدود وهم يعلمون صدق الرسول وصدق خبره معلوم في أنفسهم لكن يناقض أصولهم لكن مع هذا هم واقفة فيما أخبرت به الرسل من الوعيد فضعف علمهم بما أخبرت به الرسل فصاروا في نقص عظيم في علمهم وايمانهم بما اخبرت به الرسل وما أمرت به وفي أصل ثبوت الرسالة هذه

السمعيات وأما العقليات فمدارها على حدوث الجسم وقد عرف فساد أصلهم فيها فهذه أصولهم العقلية والسمعية وهم لا يعلمون أيضا ما يفعله الرب من غير الخبر الا من جهة العادة والعادة يجوز عندهم نقضها بلا سبب ولا لحكمة ويجوزون أن تصبح الجبال بواقيت والبحار زيبقا فإذا احتجوا بالعادات فقيل لهم عندكم يجوز نقضها بلا سبب ولا حكمة أجابوا بأن الشيء قد يعلم جوازه ويعلم بالضرورة أنه لا يقع وهذا أيضا جمع بين النقيضين وهم يقولون العقل هو العلم بجواز الجائزات وامتناع الممتنعات ووجوب الواجبات كالعلم بأن الجبل لم ينقلب ياقوتا ثم يجعلون هذا من الجائز على أصلهم ليس في الأفعال لا واجب ولا ممتنع بل كل مقدور فإنه جائز الوجود وجائز العدم لا يعلم أحد الطرفين الا بخبر أو عادة لا بسبب يقتضيه ولا حكمة تستلزمه كما ان المرجح له عندهم مجرد الارادة لا بسبب ولا حكمة وإذا علم جواز الشيء وعدمه ولم يعلم ما يوجب أحدهما أمتنع أن يعلم بالضرورة ثبوت أحدهما والناس إنما يعلمون أن الجبال لم تنقلب بواقيت لعلمهم بأن هذا ممتنع وأن الله اذا أراد قلبها بواقيت أحدث أسبابا تقتضي ذلك فأما انقلاب العادة بلا سبب فهذا ممتنع عند العقلاء وجميع ما خرق الله به العادة كان لاسباب تقتضيه ولحكم فعل لاجلها لم يكن ترجيحا بلا مرجح كما يقوله هؤلاء فهذا هذا ولا حول ولا قوة الا بالله ولو لم يتعلق هذا بالايمان بالرسول وبما أخبر به الرسول واحتجنا الى ان نميز بين الصحيح والفاسد في الادلة والاصول لما ورد على ما قاله هؤلاء من هذه السؤالات لم تكن بنا حاجة الى كشف الاسرار لكن لما تكلموا في اثبات النبوة صاروا يوردون عليها أسئلة في غاية القوة والظهور ولا يجيبون عنها الا بأجوبة ضعيفة كما ذكرنا كلامهم فصار طالب العلم والإيمان والهدي من عندهم لا سيما إذا اعتقد أنهم أنصار الاسلام ونظاره والقائمون ببراهينه وأدلته إذا عرف حقيقة ما عندهم لم يجد ما ذكروه يدل على ثبوت نبوة الانبياء بل وجده يقدح في الانبياء ويورث الشك فيها أو الطعن فيها وأنها حجة لمكذب الانبياء أعظم مما هي حجة لمصدق الانبياء فافسد طريق الايمان والعلم وانفتح طريق النفاق والجهل لا سيما على من لم يعرف الا ما قالوه والذي يفهم ما قالوه لا يكون

إلا فاضلا قد قطع درجة الفقهاء ودرجة من قلد المتكلمين فيصير هؤلاء إما منافقين وإما في قلوبهم مرض ويظن الظان أنه ليس في الامر على نبوة الانبياء براهين قطعية ولا يعلم أن هذا انما هو لجهل هؤلاء أصولهم الفاسدة التي بنوا عليها الاستدلال وقدحهم في الآلهية وأنهم لم ينزهوا الرب عن فعل شيء من الشر ولا أثبتوا له حكمة ولا عدلا فكان ما جهلوه من آيات الانبياء إذ كان العلم بآيات الله وما قصه لخلقه من الدلائل والبراهين مستلزما لثبوت علمه وحكمته ورحمته وعدله فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهم في الاصل انما قصدوا الرد على القدرية الذين قالوا إن الله لم يشأ كل شيء ولم يخلق أفعال العباد وهو مقصود صحيح لكن ظنوا أن هذا لا يتم إلا بجحد حكمته وعدله ورحمته فغلطوا في ذلك كما أن المعتزلة أيضا غلطوا من جهات كثيرة وظنوا أنه لا تثبت حكمته وعدله ورحمته إن لم يجحد خلقه لكل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويجحد اتصافه بالكلام والارادة وغير ذلك من اقوال المعتزلة التي هي من أقوال هؤلاء فإن هؤلاء في الصفات خير من المعتزلة وفي الافعال من بعض الوجوه ولهذا لما ظهر للغزالي ونحوه ضعف طريق الاستدلال بالمعجزات الذي سلكه شيوخه وهو لا يعرف غيره أعرض عنها وذكر أنه إنما علم ثبوت النبوة بقرائن تعجز عنها العبارة وهي علوم ضرورية حصلت له على الطول وجعل الدليل على النبوة هو العلم بنأ ما جاء به حق من غير جهته وهذه طريق صحيحة قد سلك الجاحظ نحوا منها ولكن النبوة التي علمها أبو حامد هي النبوة التي تثبتها الفلاسفة وهي من جنس المنامات ولهذا استدل على جوازها بمبدأ الطب والهندسة ونحو ذلك وأمر النبوة أعظم من هذا بكثير وتلك النبوة موجودة لخلق من الناس فلهذا لا يوجد للنبوة ما تستحقه من التصديق والاحترام ولا يعتمدون عليها في استفادة شيء من العلم الخبري وهي الإنباء بالغيب وهي خاصة النبوة والرازي كلامه في النبوة متردد بين نبوة الفلاسفة ونبوة اصحابه هؤلاء كما ترى وليس في واحد من الطريقين إثبات النبوة التي خص الله بها أنبياءه فلهذا ضعفت معرفة هؤلاء بالأنبياء وضعف أخذ العلم من طريقهم لا سيما وقد عارضوا كثيرا مما جاء عنهم بالعقليات ودخلوا فيما

هو أبعد عن الهدى والعلم من العقليات والذوقيات التي من سلكها ضل ضلالا بعيدا وإنما ينجو من سلك منها شيئا إذا لطف الله فعرفه السلوك خلف طريق الانبياء فمن لم يهتد بما جاءت به الانبياء فهو أبعد الناس عن الهدى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل افاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون وكيف تكفرون وأنتم تتلى عيكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ولهذا اعترف الرازي بهذا في آخر مصنفاته حيث قال ولقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الاثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وأكثر الانتفاع بكلام هؤلاء هو فيما يثبتونه من فساد أقوال سائر الطوائف وتناقضها وكذلك كلام عامة طوائف المتكلمين ينتفع بكلام كل طائفة في بيان فساد قول الطائفة الاخرى لا في معرفة ما جاء به الرسول فليس في طوائف أهل الاهواء والبدع من يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ولكن يعرف كل طائفة منه ما يعرفه فليسوا كفارا جاحدين له وليسوا عارفين به ... فلقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا ...
وبسط هذه الامور له موضع آخر ولكن نبهنا هنا على طريق الحكمة
فصل وإذا عرفت حكمة الرب وعدله تبين أنه إنما يرسل من اصطفاه لرسالته واختاره لها كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكما قال لموسى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى وأنه إذا أبلغ الرسالة وقام بالواجب وصبر على تكذيب المكذبين وأذاهم كما مضت به سنته في

الرسل قال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم وقال تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في أفواهم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا باذن الله وعلى الله فليتوك المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ الى سائر ما أخبر به من أحوال الرسل والرسل صادقون مصدقون من عند الله يخبرون بالحق ويأمرون بالعدل ويدعون الى عبادة الله وحده لا شريك له وأهل الكذب المدعون للنبوة ضد هؤلاء كاذبون يأتيهم الشياطين الكاذبون يأمرون بما نهى الله عنه وينهون عما أمر الله به فإنهم لا بد أن يأمروا بتصديقهم واعتقاد نبوتهم وطاعتهم وذلك مما نهى الله عنه ولا بد أن ينهوا عن متابعة من يكذبهم ويعاديهم وذلك مما أمر الله به فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين هؤلاء خيار الخلق وبين هؤلاء شرار الخلق لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته ولا في سلطان النصر والتأييد بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ويبقى لهم سلطان الصدق ويفعل ذلك بمن اتبعهم وان يظهر الآيات المبينة لكذب أولئك ويذلهم

ويخزيهم ويفعل ذلك بمن اتبعهم كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء وقد دل القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع والادلة والبراهين كما تقدم نوعان نوع يدل بمجرده بحيث يمتنع وجوده غير دال كدلالة حدوث الحادث على محدث فهذا يدل بمجرده وان قدر أن أحدا لم يقصد الدلالة به لكن الرب بكل شيء عليم وهو مريد لخلق ما خلقه ولصفاته لكن لا يشترط في الاستدلال بهذا أن يعلم أن دالا قصد أن يدل به والنوع الثاني ما هو دليل بقصد الدال وجعله فهذا لولا القصد وجعله دليلا لم يكن دليلا فهو انما قصد به الدلالة فهذا مقصوده مجرد الدلالة وذلك بمجرده هو الدليل وهذا كالكلام الذي يدل بقصد المتكلم وغير ذلك مثل الاشارة بالرأس والعين والحاجب واليد ومثل الكتابة ومثل العقد ومثل الأعلام التي نصبت على الطرق وجعلت علامة على حدود الارض وغير ذلك ومن ذلك العلامات التي يبعثها الشخص مع رسوله ووكيله إلى أهله سواء كان قد تواطأ معهم عليها مثل أن يقول علامته أن يضع يده على ترقوته أو يضع خنصره في خنصره ونحو ذلك أو كانت علامة قصد بها الإعلام من غير تقدم مواطأة مثل إعطائه عمامته أو نعليه كما أعطى النبي صلى الله عليه و سلم عمامته علامة على ولاية قيس بن سعد وعزل أبيه عن الإمارة يوم الفتح وكما أعطى أبا هريرة نعليه علامة على ما أرسله به وكما يعطي الرجل لرسوله خاتمه ونحو ذلك فهذه الدلائل دلت بالقصد والجعل وقد كان يمكن أن لا تجعل دليلا فاذا كانت آيات الانبياء من هذا الجنس فهي إنما تدل مع قصد الرب الى جعلها دليلا وجعله لها دليلا بأن يجعل المدلول لازما لها فكل من ظهرت على يده كان نبيا صادقا فإن الدليل لا يكون دليلا إلا مع كونه مستلزما للمدلول فيمتنع أن يكون دليلا اذا وجد معه عدم المدلول أو وجد ضد المدلول فآيات الانبياء الدالة على صدقهم يمتنع وجودها بدون صدق النبي ووجودها مع مدعي النبوة كاذبا أعظم استحالة فإنها اذا كانت ممتنعة مع عدم نبوة صادقة وإن لم تكن هناك نبوة كاذبة فمع الكاذبة أشد امتناعا فهي مستلزمة للنبوة لا تكون مع عدم النبوة البتة والكاذب قد عدمت في حقه النبوة ووجد في حقه ضدها وهو الكذب في دعواها يمتنع كونه نبيا صادقا فيمتنع أن يخلق الرب ما يدل على صدق الانبياء بدون صدقهم لامتناع

وجود الملزوم دون لازمه ومع كذبهم لامتناع وجود الشيء مع ضده والكذب ضد الصدق فيمتنع أن يكون قوله أنا نبي صدقا وكذبا فاذا استلزم الصدق امتنع وجود الكذب وخلق دليل الصدق مع عدم الصدق ممتنع غير مقدور لكن الممكن المقدور أن ما جعله دليلا على الصدق يخلقه بدون الصدق فيكون قد خلقه وليس بدليل حينئذ ويمكن أن يخلق على يد الكاذب ما يدل انه دليل على صدقه وليس بدليل مثل خوارق السحرة والكهان كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما لكن هذه ليست دليلا على النبوة لوجودها معتادة لغير الانبياء وليست خارقة لعادة غير الانبياء بل هي معتادة للسحرة والكهان فالتفريط ممن ظنها دليلا لا سيما ولا بد أن تكون دليلا على كذب صاحبها فإن الشياطين لا تقترن إلا بكاذب كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ولا يجوز أن يظهر الرب ما جعله دليلا للنبوة مع عدم النبوة كما أنه لا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي جعله لبيان معان بدون إرادة تلك المعاني بل ذلك ممتنع من وجوه من جهة حكمته ومن جهة عادته ومن جهة عدله ورحمته ومن جهة علمه وإعلامه وغير ذلك كما قد بسط في مواضع ومن جهة قدرته أيضا فإنه قادر على هدي عبادة وتعريفهم وذلك إنما يكون بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه فاذا ما سوي بين الصادق والكاذب فإنه يمتنع التعريف والممتنع ليس بمقدور فقدرته تقتضي خلق الفرق وقد يقال هو قادر لكن لا يفعل مقدوره فيقال فعله له ممكن ولا يمكن إلا على هذا الوجه فيكون قادرا على هذا الوجه فإن قيل هو قادر ولكن لا يفعله قيل إن أريد أنه يمتنع فهذا باطل وإن أريد أنه يمكن فعله ولكن لا يفعله لم يكن على هذا النفي دليل بل وجوده يدل على أنه فعله وأيضا فأفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة وإذا لم يكن ممتنعا تعين أنه واجب وأنه قد فعله وهذا قد فعله وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله يستلزم أن الرب منزه عن أن يفعل بعض الامور الممكنة المقدورة لكون ذلك يستلزم أمرا يناقض حكمته ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه وانتفاء أضداده فيمتنع فعله بدون لوازمه أو مع ضده كما يمتنع جعل الدليل دليلا مع وجوده بلا مدلول أو مع وجود

ضد المدلول معه والذين قالوا يجوز منه فعل كل شيء ولا ينزه عن شيء يتعذر على أصلهم وجود دليل جعلي قصدي لا الكلام ولا الفعال فيمتنع على أصلهم كون كلام الرب يدل على مراده أو كون آياته التي قصد بها الدلالة على صدق الانبياء أو غيرهم تدل لأنه يقدر أن يفعل ذلك وغير ذلك كما يقدر أن يظهر على يد الكاذب ما أظهره على يد الصادق وهم يقولون المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة وهذا يقدر على إظهاره على يد الصادق فمن سوى بين جميع الامور وجعل إرادته لها سواء لم يفرق بين هذا وهذا فقالوا نحن نستدل على أنه لم يظهرها على يد الكاذب بأنه لو فعل ذلك لبطلت قدرته على تصديق الصادقين بالآيات فإنه إنما يستدل على صدقهم بالآيات فلو أظهرها على يد الكاذب لم يبق قادرا هذه عمدة أكثرهم وعليها اعتمد القاضي أبو بكر في كتاب المعجزات فيقال لهم هذا لا يبطل قدرته على ذلك ولكن هذا يوجب أنه لم يفعل المقدور فيلزم من ذلك أنه سوى بين الصادق والكاذب ولم يبين صدقه وهذا مقدور ممكن وكل مقدور ممكن فهو عندكم جائز عليه فلم يكن اللازم رفع قدرته بل اللازم أنه لم يفعل مقدوره وهذا جائز عندكم ومما يوضح هذا أن يقال هو قادر على إظهار ذلك على يد الكاذب أم لا فإن قلتم ليس بقادر أبطلتم قدرته وإن قلتم هو قادر فثبت أنه قادر على إظهار ذلك على يد الصادق والكاذب فبقي مشتركا لا يخص أحدهما فلا يكون حينئذ دليلا فمجرد القدرة لم يوجب اختصاص الصادق به وان قلتم لا يقدر على إظهاره على يد الكاذب فقد رفعتم القدرة فأنتم بين أمرين إن أثبتم القدرة العامة فلا اختصاص لها وإن نفيتم القدرة على أحدهما بطل استدلالكم بشمول القدرة وأيضا فالقدرة إنما تكون على ممكن وعلى أصلكم لا يمكن تصديق الصادق فهم استدلوا بمقدمتين وكلاهما باطلة قالوا لو لم يكن دليلا رفع القدرة وهذا باطل بل يلزم أنه لم يفعل المقدور وهذا جائز عندهم فلا يجب عندهم شيء من الأفعال ثم قالوا وهو قادر على ذلك وعلى أصلهم ليس هو بقادر على ذلك فإنهم قالوا يمكنه تصديق الانبياء بالفعل كما يمكنه التصديق بالقول فيقال لهم كلاهما يدل بالقصد والجعل وهذا إنما يكون ممن يقصد أن يفعل الشيء ليدل وعندكم هو لا يفعل شيئا لشيء فيلزم على

أصلكم أن لا يفعل شيئا لاجل أنه يدل به عباده لا فعلا ولا كلاما إذ كان هذا عندكم ممتنعا وهو فعل شيء لمقصود آخر غير فعله واذا كان هذا ممتنعا عندكم لم يكن مقدورا فلا يقدر على أصلكم أن ينصب لعباده دليلا ليدلهم به على شيء بل هذا عندهم فعل لغرض وهو ممتنع عليه وإن قلتم هو وأن لم يقصد أن يفعل شيئا لحكمة لكن قد يفعل الشيئين المتلازمين فيستدل بأحدهما على الآخر قيل هذا إنما يكون بعد أن يثبت التلازم وأن أحدهما مستلزم للآخر وهذا معلوم فيما يدل بمجرده فإنه يمتنع وجوده بدون لازمه إما ما يدل بالجعل والقصد فيمكن وجوده بدون ما جعل مدلولا له واللزوم إنما يكون بالقصد وهو عندكم يمتنع أن يفعل شيئا لاجل شيء فبطلت الادلة القصدية على أصلكم وهي أخص بالدلالة من غيرها ولهذا لا يكادون يستدلون بكلام الله بل يعتمدون في السمعيات إما على ما علم بالضرورة أو الاجماع وحقيقة الأمر أن الأدلة الجعلية القصدية لا بد فيها من إرادة الرب ومشيئته أن تكون أدلة فلا بد أن يريد أن يجعل هذا الفعل ليدل وهم لا يجوزون أن يريد شيئا لشيء بل كل مخلوق هو عندهم مراد من نفسه لم يرد لغيره فامتنع أن يكون يريد الرب جعل شيء دليلا على أصلهم فتبين أنه على أصلهم غير قادر على نصب ما يقصد به دلالة العباد وهدايتهم وإعلامهم لا قول ولا فعل فبطلت المقدمة الكبرى وبتقدير أن يكون قادرا على ذلك فهو إذا أظهر على يد الكاذب ما يظهر على يد الصادق كان لم يفعل هذا المقدور ولم يجعل ذلك دليلا على الصدق لا يلزم أن لا يكون قادرا فهم اعتمدوا على هذه الحجة وقالوا هذا هذا وهذا هذا فقد تبين أن من لم يثبت حكمة الرب يلزمه نفي إرادته ومشيئته كما تقدم ويلزمه أيضا نفي قدرته على أن يفعل شيئا لشيء فلا يمكنه أن ينصب دليلا ليدل به عباده على صدق صادق ولا كذب كاذب وهم يقولون من فعل شيئا لحكمة دليل على حاجته ونقصه لأنه فعل لغرض والغرض هو الشهوة وذلك يتضمن الحاجة وهذا بعينه يقال في الإرادة أن من أراد فإنما يريد لغرض وشهوة فقولهم بنفي الحكمة يتضمن نفي الارادة ونفي القدرة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن من نفى الحكمة يلزمه نفي الارادة ومن نفى الارادة يلزمه نفي فعل الرب ونفي الأحداث ومن نفى

ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود وأن أثبات الحكمة لازم لكل طائفة على أي قول قالوه كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود التنبيه على أن أثبات آيات الانبياء والاستدلال بكلام الله وآياته التي أراد أن يدل بها عباده بدون إثبات حكمته ممتنع ولهذا اضطرب كلام من نفى حكمته في آيات الانبياء وفي كلام الرب سبحانه وهي الآيات التي بعثت بها الانبياء القولية والفعلية واضطربوا في الاستدلال على ما جاءت به الانبياء كما قد نبه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل وأما الاستدلال بسنته وعادته فهو أيضا طريق برهاني ظاهر لجميع الخلق وهم متفقون عليه من يقول بالحكمة ومن يقول بمجرد المشيئة فإنه قد علم عادته سبحانه في طلوع الشمس والقمر والكواكب والشهور والاعوام وعادته في خلق الانسان وغيره من المخلوقات وعادته فيما عرفه الناس من المطاعم والمشارب والأغذية والأدوية ولغات الامم كالعلم بنحو كلام العرب وتصريفه والعلم بالطب وغير ذلك كذلك سنته تعالى في الانبياء الصادقين وأتباعهم وفيمن كذبهم أو كذب عليهم فأولئك ينصرهم ويعزهم ويجعل لهم العاقبة المحمودة والآخرون يهلكهم ويذلهم ويجعل لهم العاقبة المذمومة كما فعل بقوم نوح وبعاد وثمود وقوم لوط واصحاب مدين وفرعون وقومه وكما فعل بمن كذب محمدا من قومه قريش ومن سائر العرب وسائر الامم غير العرب وكما فعل من نصر أنبيائه وأتباعهم قال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير وقال تعالى أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة

وأثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون وقال تعالى أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب وقال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وقال تعالى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون وقال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وقال تعالى واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى وإن كانوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا وقال تعالى وان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا اذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وقد قيل آية الحاقة وآية الشورى تبين أنه لو افترى عليه لعاقبة فهذه سنته في الكاذبين وحقيقة الاستدلال بسنته وعادته هو اعتبار الشيء بنظيره

وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين وهو الاعتبار المامور به في القرآن كقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الابصار وقال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار وقال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب وإنما تكون العبرة به بالقياس والتمثيل كما قال ابن عباس في دية الاصابع هن سواء واعتبروها بدية الاسنان فإذا عرفت قصص الانبياء ومن اتبعهم ومن كذبهم وأن متبعيهم كان لهم النجاة والعافية والنصر والسعادة ولمكذبيهم الهلاك والبوار جعل الامر في المستقبل مثلما كان في الماضي فعلم أن من صدقهم كان سعيدا ومن كذبهم كان شقيا وهذه سنة الله وعادته ولهذا يقول سبحانه في تحقيق عادته وسنته وأنه لا ينقضها ولا يبدلها أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر يقول فاذا لم يكونوا خيرا منهم فكيف ينجون من العذاب مع مماثلتهم لهم هذا بطريق الاعتبار والقياس ثم قال أم لكن براءة في الزبر أي معكم خبر من الله بأنه لا يعذبكم فنفي الدليلين العقلي والسمعي ثم ذكر قولهم نحن جميع منتصر وانا نغلب من يغالبنا فقال تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر وهذا مما أنبأه من الغيب في حال ضعف الاسلام واستبعاد عامة الناس ذلك ثم كان كما أخبر وقد قال للمؤمنين في تحقيق سنته وعادته أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله قريب وقال لمحمد ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك وقال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى

وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال نعم وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ليأخذن أمتي ما أخذ الامم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء وفي السنن لما قال به بعض أصحابه أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ثم قال انه السنن لتركبن سنن من كان قبلكم وقال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ولهذا احتج من احتج بسنة الله وعادته في مكذبي الرسل كقول شعيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد وقال مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد وقال تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم والدأب العادة في ثلاثة مواضع قال تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قال ابن قتيبة وغيره الدأب العادة ومعناه كعادة آل فرعون يريد كفر اليهود كل فريق بنبيهم وقال الزجاج هو الاجتهاد أي دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي كتظاهر آل فرعون على موسى وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة كسنة آل فرعون وقال النضر بن شميل كعادة آل فرعون يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسل وجحود الحق كعادة آل فرعون وقال طائفة نظم الآية أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الامم الخالية أخذناهم

فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم وفي تفسير أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس كدأب فرعون قال كصنيع آل فرعون قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والضحاك وأبي مالك وعكرمة نحو ذلك قال وروي عن الربيع بن أنس كشبه آل فرعون وعن السدي قال ذكر الذين كفروا كمثل الذين من قبلهم في التكذيب والجحود قلت فهؤلاء جعلوا الشبيه في العمل فإن لفظ الدأب يدل عليه قال الجوهري دأب فلان في عمله أي جد وتعب دأبا ودءوبا فهو دئب وأدأبته أنا والدائبان الليل والنهار قال والدأب يعني بالتسكين العادة والشأن وقد يحرك قال الفراء أصله من دأبت إلا أن العرب حولت معناه إلى الشأن قلت الزجاج جعل ما في القرآن من الدأب الذي هو الاجتهاد والصواب ما قاله الجمهور أن الدأب بالتسكين هو العادة وهو غير الدأب بالتحريك إذا زاد اللفظ زاد المعنى والذي في القرآن مسكن ما علمنا أحدا قرأه بالتحريك وهذا معروف في اللغة يقال فلان دأبه كذا وكذا أي هذا عادته وعمله الملازم له وإن لم يكن في ذلك تعب واجتهاد ومنه قوله تعالى وسخر لكم الشمس والقمر دائبين والدائب نظير الدائم والباء والميم متقاربان ومنه اللازب واللازم قال ابن عطية دائبين أي متماديين ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش اليه ان هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه أي تديمه في العمل له والخدمة قال وظاهر الآية أن معناه دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة قال وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفعه الى ابن عباس أنه قال معناه دائبين في طاعة الله قال وهذا قول ان كان يراد به أن الطاعةانقيادهما للتسخير فذلك موجود في طاعة قوله وسخر وإن كان يراد أنها طاعة مقدورة كطاعة العبادة من البشر فهذا بعيد قلت ليس هذا ببعيد بل عليه دلت الادلة الكثيرة كما هو مذكور في مواضع وقالت طائفة منهم البغوي وهذا لفظه دائبين يجريان فيما يعود الى مصالح عباد الله لا يفتران قال ابن عباس دءوبهما في طاعة الله ولفظ أبي الفرج داءبين في اصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره لا يفتران قال ومعنى الدءوب مرور الشيء على عادة جارية فيه قلت

واذا كان دأبهم هو عادتهم وعملهم الذي كانوا مصرين عليه فالمقصود أن هؤلاء أشبهوهم في العمل فيشبهونهم في الجزاء فيحيق بهم ما حاق بأولئك هذا هو المقصود ليس المقصود التشبيه في الجزاء كقوله ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب أي فهؤلاء لا تدفع عنهم أموالهم وأولادهم عذاب الله اذا جاءهم كدأب آل فرعون وكذلك قوله ولو ترى اذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وان الله ليس بظلام للعبيد الى قوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين فهذا كله يقتضي التشبيه في العذاب وأما الطائفة الاخرى فجعلوا الدأب نفس فعل الرب بهم وعقوبته لهم قال مكي بن أبي طالب الكاف في كدأب في موضع نصب نعت لمحذوف تقديره غيرناهم كما غيروا تغييرا مثل عادتنا في آل فرعون ومثلها الآية الاولى الا أن الاولى العادة في العذاب تقديره فعلنا بهم ذلك فعلا مثل عادتنا في آل فرعون وقد جمع بعضهم بين المعنيين فقال أبو الفرج كدأب آل فرعون أي كعادتهم والمعنى كذب أولئك فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك قلت الدأب العادة وهو مصدر يضاف الى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى فاذا أضيف الى الفاعل كان المعنى كفعل آل فرعون وإذا أضيف إلى المفعول كان المعنى كعادتهم في العذاب والمصائب التي نزلت بهم يقال هذه عادة هؤلاء لما فعلوه ولما يصيبهم وهي عادة الرب وسنته فيهم والتحقيق أن اللفظ يتناول الامرين جميعا وقد تقدم عن الفراء والجوهري أن الدأب العادة والشأن وهذا كقوله قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين روى ابن أبي حاتم بالاسناد المعروف عن مجاهد قد خلت من قبلكم سنن من الكفار والمؤمنين في الخير والشر وعن أبي اسحاق أي قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي عاد

وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين فرأوا مثلات قد مضت مني فيهم فقد فسرت السنن بأعمالهم وبجزائهم قال البغوي معنى الآية قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الامم الماضية الكافرة بامهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لاهلاكهم وأدالة أنبيائي فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي آخرة المكذبين منهم قال وهذا في حزب واحد يقول فانا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت من نصرة النبي وأوليائه قلت ونظير هذا قوله تعالى أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقوله أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقوله في الآية الأخرى كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون فهذا كله يبين أن سنة الله وعادته مطردة لا تنتقض في إكرام مصدقي الرسل وإهانة مكذبيهم
فصل آيات الانبياء كما قد عرف هي مستلزمة لثبوت النبوة وصدق المخبر بها والشاهد بها قيلزم من وجودها وجود النبوة وصدق المخبر بها ويمتنع أن تكون مع التكذيب بها وكذب المخبر بها فلا يجوز وجودها لمن كذب الانبياء ولا لمن أقر بنبوة كذاب سواء كان هو نفسه المدعي للنبوة أو ادعى نبوة غيره وهذان الصنفان هما المذكوران في قوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهؤلاء كلهم من أظلم الكاذبين كما قال فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق اذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ثم قال والذي جاء

بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون فالمخبر بالنبوة مع ثبوتها هو الذي جاء بالصدق وصدق به والمخبر بها مع انتفائها هو الذي كذب على الله والمكذب بها مع ثبوتها هو الذي كذب بالحق لما جاءه فدلائل النبوة هي مستلزمة لصدق من أثبت نبوة هي نبوة حق يمتنع أن تكون لمن نفى هذه أو أثبت نبوة ليست بنبوة وكذلك كل دليل دل على إثبات الصانع دل على صدق المؤمنين به المخبرين بما دل عليه الدليل على كذب من نفى ذلك ويمتنع أن تكون تلك الأدلة دالة على نفي ذلك أو على صدق الخبر بنفي ذلك أو على صدق من جعل صفات الرب ثابتة لغيره وما دل على أن هذه الدار ملك لزيد يدل على صدق المخبر بذلك وكذب النافي له ويمتنع أن يدل مع انتفاء الملك وما دل على علم شخص وعدله فإنه مستلزم لذلك ولصدق المخبر به وكذلك النافي له يمتنع أن يدل على صدق النافي أو يدل مع انتفاء العلم والعدل فإن ما استلزم ثبوت شيء وصدقه استلزم كذب نقيضه وكان عدم اللازم مستلزما لعدم الملزوم فما كان مستلزما لثبوت النبوة وصدق المخبر بها كان مستلزما لكذب من نفاها فامتنع أن يكون موجودا مع من نفاها وامتنع أن يكون موجودا مع انتفائها فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين فدليل كل مدلول عليه يمتنع ثبوته مع عدم المدلول عليه فانه مستلزم لثبوته فلو وجد مع عدمه للزم الجمع بين النقيضين فما كان دليلا على نبوة شخص فهو دليل على جنس النبوة فإن نبوة الشخص لا تثبت إلا مع ثبوت جنس النبوة فيمتنع وجود ذلك الدليل مع عدم النبوة وثبوت أحد النقيضين مستلزم لنفي الآخر فثبوت صدق المخبر بثبوتها مستلزم لكذب المخبر بانتفائها فهذا أمر عقلي مقطوع به معلوم بالبديهة بعد تصوره في جميع الأدلة أدلة النبوة وغيرها فلا يجوز أن يكون ما دل على النبوة وعلى صدق المخبر بها وكذب المكذب بها دليلا للمكذب بها ولا دليلا مع انتفائها كالمتنبي الذي يدعي النبوة ولا نبوة معه فلا يتصور أن يكون معه ولا مع المصدق بنبوته شيء من دلائل النبوة وأما كون دليل من دلائل النبوة مع المصدق بها كائنا من كان فهذا حق بل هذا هو الواجب فمن صدق بها بلا دليل كان متكلما بلا علم فكل من صدق بالنبوة بعلم فمعه دليل من أدلتها وإخبار أهل التواتر بما جاءت به الانبياء من الآيات

هو من أدلة ثبوتها فكل من آمن بالرسول عن بصيرة فلا بد أن يكون في قلبه علم بأنه نبي حق إما علم ضروري أو علم نظري بدليل من الأدلة والعلوم النظرية مع أدلتها تبقى ضرورية وقد تكون في نفس الامر علوم ضرورية ولا يمكنه التعبير عما يدل عليها كالذي يجده الانسان في نفسه ويعلمه من العلوم البديهية والضرورية وغير ذلك فإن كثيرا من الناس لا يمكنهم بيان الادلة لغيرهم على وجود ذلك عندهم واذا عرف هذا فقولنا دلائل النبوة مختصة بالانبياء لا تكون لغيرهم له معنيان أحدهما أنه لا يشاركهم فيها من يكذب بنبوتهم لا من يدعي نبوة كاذبة وهذا ظاهر بين فإن الدليل على الشيء لا يكون دليلا على وجوده وعلى عدمه فلا يكون ما يدل النبوة أو غيرها وعلى صدق المخبر بذلك دليلا على كذب المخبر بذلك ولا دليلا على النبوة مع انتفاء النبوة والمعنى الثاني أنها لا توجد إلا مع النبي فهذا إن أريد به أنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة فهو صحيح وإن كانت مع ذلك دليلا على نبي فلا يمتنع أن يكون الشيء الواحد دليلا على أمور كثيرة لكن يمتنع أن يوجد مع انتفاء مدلوله فما دل على النبوة قد يدل على أمور أخرى من أمور الرب تبارك وتعالى لكن لا يمكن أن يدل مع انتفاء النبوة أي مع كون النبوة المدلول عليها باطلة لا حقيقة لها ولكن قد يدل مع موت النبي ومع غيبته فان موته وغيبته لا ينفي نبوته وليس من شرط دليل النبي أن يكون موجودا في محل المدلول عليه ولا في مكانه ولا زمانه وقول من اشترط في آيات الأنبياء أن تكون مقترنة بالدعوى في غاية الفساد والتناقض كما قد بسط لا سيما والآيات قد تكون مخلوقة نائية عن النبي وعن مكانه وكذلك سائر الأدلة لا سيما ما يجري مجرى الخبر فالاخبار الدالة على وجود المخبر به لا يجب أن تكون مقارنة المخبر به لا في محله ولا زمانه ولا مكانه وآيات الانبياء هي شهادة من الله وإخبار منه بنبوتهم فلا يجب أن تكون في محل النبوة ولا زمانها ولا مكانها لكن يجوز ذلك فلا يمتنع أن يكون الدليل في محل المدلول عليه أو في مكانه لكن يجوز ذلك فيه فالانسان قد تقوم به أمور تدل على بعض الأمور التي فيه وقد تعلم أموره بخبر غيره وببعض آثاره المنفصلة عنه فاذا أريد بأن آيات الانبياء مختصة بهم وأنها لا تكون لغيرهم أنها لا تكون مع انتفاء النبوة المدلول عليها فهذا صحيح

لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين وأما إذا أريد أنها لا توجد إلا في ذات النبي أو مقترنة بخبره عن نبوته أو في المكان الذي كان فيه أو في الزمان فهذا كله غلط وخطأ ممن ظنه وجهل بين بحقائق الأدلة وان كان من الأدلة وآيات النبوة ما يكون في ذات النبي ويكون مقترنا بقوله إني رسول الله ويكون في المكان الذي هو فيه وفي زمانه فهذا يمكن وهو الواقع فإن النبي صلى الله عليه و سلم بل وغيره من الانبياء كان في نفس أقوالهم وأفعالهم وصفاتهم وأخلاقهم وسيرهم أمور كثيرة تدل على نبوتهم وكذلك لما قال إني رسول الله أتى مع ذلك بآيات دلت على صدقه وكذلك في مكانه وزمانه ظهر من انشقاق القمر وغيره ما دل على نبوته لكن آيات الانبياء أعم من ذلك كما أن دليل كل شيء أعم من أن يختص بمعنى المدلول وزمانه ومكانه وبهذا يظهر خطأ كثير من الناس في عدم معرفتهم بجنس آيات الانبياء لعدم تحقيقهم جنس الأدلة والبراهين وأن خاصة الدليل أنه يلزم من تحققه تحقق المدلول عليه فقط سواء كان مقارنا للمدلول عليه أو كان حالا في محله أو مجاوزا لمحله أو لم يكن كذلك والنبوة قد قال طائفة من الناس إنها صفة في النبي وقال طائفة ليست صفة ثبوتية في النبي بل هي مجرد تعلق الخطاب الآلهي به بقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الاحكام الشرعية انها صفات اضافية للافعال لا صفات حقيقية والصحيح أن النبوة تجمع هذا وهذا فهي تتضمن صفة ثبوتية في النبي وصفة إضافية هي مجرد تعلق الخطاب الآلهي به بقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الاحكام الشرعية إنها صفات إضافية للأفعال لا صفات حقيقية لكن على الاقوال الثلاثة ليس من شرط أدلتها أن تكون حالة في ذات النبي ولكن يجوز أن تكون لها أدلة قائمة بذات النبي كما كان في محمد صلى الله عليه و سلم عدة أدلة من دلائل النبوة كما هو مبسوط في دلائل نبوته اذ المقصود هنا الكلام على جنس آيات الانبياء لا على شيء معين لا دليل معين ولا نبي معين فاذا عرف أن دلائل النبوة يمتنع ثبوتها لشخص لا نبوة فيه إذا ادعاها أو ادعيت له كذبا ويمتنع ثبوتها مع المكذب بالنبوة الصادقة وإنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة وأنها دليل على صدق المخبر بالنبوة من جميع الخلق فكل من آمن أن محمدا رسول الله فقد أخبر عن نبوته كما أخبر هو عن نبوة

نفسه بما أمره الله به حيث قال قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا فهذا الخبر وهو الشهادة بأنه رسول الله الى الناس جميعا سواء وجد منه او من غيره هو مدلول عليه بجميع دلائل النبوة فاذا وجد هذا الخبر في غير النبي ووجد ما يدل على صدق هذا الخبر كان ذلك من دلائل النبوة كما وجد هذا في خلق كثير من المؤمنين ومن دلائل النبوة وجود العلم الضروري بخبر أهل التواتر الذين أخبروا بالآيات فهذا العلم الضروري هو بمنزلة المشاهدة للآيات وكذلك ما يوجد لأهل الايمان مما يستلزم صدق خبرهم بأن محمدا رسول كما يوجد لأمته من الآيات الكثيرة عند تحقيق أمره ونصره وطاعته والجهاد عن دينه والذب عنه وبيان ما أرسل به كما وجد أمثال ذلك للصحابة والتابعين وسائر المؤمنين الى يوم القيامة
فصل فجميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة فوجود ذلك يدل على أن صاحبه ليس بنبي ويمتنع أن يكون شيء من ذلك دليلا على النبوة فإن ما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم وعبادة الكواكب ومخاطبتها كل ذلك مناقض للنبوة فان النبي لا يكون إلا مؤمنا وهؤلاء كفار فوجود ما يناقض الايمان هو مناقض للنبوة بطريق الأولى وهو آية ودليل وبرهان على عدم النبوة فيمتنع أن يكون دليلا على وجودها وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممن ليس بنبي لا يخرج عن مقدور الانس والجن وأعني بالمقدور ما يمكنهم التوصل اليه بطريق من الطرق فان من الناس من يقول ان المقدور لا بد أن يكون في محل القدرة وليس هذا هو لغة العرب ولا غيرهم من الأمم لا لغة القرآن والحديث ولا غيرهما وإنما يدعون ذلك من جهة العقل وقولهم في ذلك باطل من جهة العقل لكن المقصود هنا التكلم باللغة المعروفة لغة العرب وغيرهم التي كان نبينا صلى الله عليه و سلم وغيره يخاطب بها الناس كقوله في الحديث الصحيح لابي مسعود بما ضرب غلامه اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا فجعل نفس المملوك مقدورا عليه لسيده كما يقول الناس القوة على الضعيف ضعف في القوة ويقولون فلان قادر على فلان وفلان عجز عن فلان

ويقولون فلان ناسج هذا الثوب وبنى هذه الدار ومنه قوله تعالى ويصنع الفلك فجعل الفلك مصنوعة لنوح ومنه قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون أي والأصنام التي تعملونها وتنحتونها فجعل ما في الاصنام من التأليف معمولا لهم كما جعل تأليف السفية مصنوعا لهم وهذا كثير والمقصود هنا أن ما يأتي به السحرة والكهان ونحوهم هو مما يصنعه الانس والجن لا يخرج ذلك عنهم والانس والجن قد أرسلت اليهم الرسل فآيات الانبياء خارجة عن قدرة الانس والجن لا يقدر عليها لا الانس ولا الجن ولله الحمد والمنة ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الانس لكن تختلف في المواضع فإن الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتى يمرض أو يموت بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجن وهومن جنس مقدور الانس ومنعه من الجماع هو من جنس المرض المانع له من ذلك والحب والبغض لبعض الناس كما يفعله الساحر هو من استعانته بالشياطين وهو من جنس مقدور الانس بل شياطين الانس قد يؤثرون من البغض والحب أعظم مما تؤثره شياطين الجن والجن تقدر على الطيران في الهواء وهو من الأعمال والطيور تطير فهو من جنس مقدور الانس لكن يختلف المحل بأن هؤلاء سيرهم في الهواء والانس سيرهم على الأرض وكذلك المشي على الماء وطي الارض وهو قطع المسافة البعيدة في زمان قريب هو من هذا الجنس هو مما تفعله الجن وهو مما تفعله الجن ببعض الناس وقد أخبر الله عن العفريت أنه قال لسليمان عن عرش بلقيش وهو باليمن وسليمان بالشام أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ولهذا يوجد كثير من الكفار والفساق والجهال تطير بهم الجن في الهواء وتمشي بهم على الماء وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة وليس شيء من ذلك من آيات الانبياء ولله الحمد والمنة إذ كان مقدور الانس والجن والاخبار ببعض الامور الغائبة التي يأتي بها الكهان هو أيضا من مقدور الجن فإنهم تارة يرون الغائب فيخبرون به وتارة يسترقون السمع من السماء فيخبرون به وتارة يسترقون وهم يكذبون في ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عنهم وما تخبر به الانبياء من الغيب لا يقدر عليه إنس ولا جن

ولا كذب فيه وأخبار الكهان وغيرهم كذبها أكثر من صدقها وكذلك كل من تعود الاخبار عن الغائب فاخبار الجن لا بد أن تكذب فإنه من طلب منهم الاخبار بالمغيب كان من جنس الكهان وكذبوا في بعض ما يخبرون به وإن كانوا صادقين في البعض وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الكهان فقيل له إن منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وثبت عنه في الصحيح أنه قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وفي السنن عنه أنه قال من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد والنبي صلى الله عليه و سلم لما أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى لم يكن المقصود مجرد وصوله الى الاقصى بل المقصود ما ذكره الله بقوله لنريه من آياتنا كما قال في سورة النجم ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى وما رآه مختص بالانبياء لا يكون ذلك لمن خالفهم ولا يريه الله تعالى ما أراه محمد حين أسري به وكذلك صلاته بالانبياء في المسجد الاقصى وركوبه على البراق هذا كله من خصائص الانبياء والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان الى مكان أكثرهم لا يدري كيف حمل بل يحمل الرجل الى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج وقد يذهبون به الى مكة ويطوف بالبيت من غير إحرام اذا حاذى الميقات وذلك واجب في أحد قولي العلماء ومستحب في الآخر فيفوته المشروع أو يوقعونه في الذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلته به الشياطين وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة وليس هو قربة وطاعة وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله فإن التقرب الى الله انما يكون بواجب أو مستحب وهذا ليس بواجب ولا مستحب بل يضلون صاحبه ويصدونه عن تكميل ما يحبه الله منه من عبادته وطاعته وطاعة رسوله ويوهمونه أن هذا من افضل الكرامات حتى يبقى طالبا له عاملا عليه وهم بسبب اعانتهم له على ذلك قد

استعملوه في بعض ما يريدون مما ينقص قدره عند الله أو وقوعه في ذنوب وإن لم يعرف انها ذنوب فيكون ضالا ناقصا وإن غفر له ذلك لعدم علمه فإنه نقص درجته وخفض منزلته بذلك الذي أوهموه أنه رفع درجته وأعلى منزلته وهذا من جنس ما تفعله السحرة فإن الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه وقد يركب شيئا من الجمادات إما قصبة واما خابية وإما مكنسة وإما غير ذلك فيصعد به في الهواء وذلك أن الشياطين تحمله وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد المشركين وأهل الكتاب والضلال من المسلمين فتحملهم من مكان الى مكان وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس وإما غيره وهو شيطان تصور له في صورة مركوب وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب والشيطان قد حمله والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب ونحن نعرف من هذا أمورا يطول وصفها وكذلك المشي على الماء قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء وقد يخيلون أليه أنه التقى طرفا النهرليعبر والنهر لم يتغير في نفسه ولكن خيلوا اليه ذلك وليس هذا ولله الحمد شيء من جنس معجزات الانبياء وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم وإعانته إياهم بالملائكة كما يحكى عن المسيح وكما جرى للعلاء بن الحضرمي في عبور الجيش ولابي مسلم الخولاني وذلك اعانة على الجهاد في سبيل الله كما يؤيد الله المؤمنين بالملائكة ليس هو من فعل الشياطين والفرق بينهما من جهة السبب ومن جهة الغاية أما السبب فإن الصالحون يسمون الله ويذكرونه ويفعلون ما يحبه الله من توحيده وطاعته فييسر لهم بذلك ما ييسره ومقصودهم به نصر الدين والاحسان الى المحتاجين وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك والكذب والفجور والمقصود به الاعانة على مثل ذلك والجن فيهم مسلم وكافر فالمسلمون منهم يعاونون الانس المسلمين كما يعاون المسلمون بعضهم بعضا والكفار مع الكفار والجن الذين يطيعون الانس وتستخدمهم الانس ثلاثة أصناف أعلاها أن يأمروهم بما أمر الله به ورسله فيأمرونهم بعبادة الله وحده وطاعة رسله فإن الله أوجب على الجن طاعة الرسل كما أوجب ذلك على الانس وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا

استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون فالرسل تكون من الانس الى الثقلين والنذر من الجن باتفاق العلماء واختلفوا هل يكون في الجن رسل والاكثرون على أنه لا رسل فيهم كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى وعن الحسن البصري قال لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء ذكره عنه طائفة منهم البغوي وابن الجوزي وقال قتادة ما نعلم أن الله أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور رواه ابن أبي حاتم وذكره طائفة ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم قد أرسل إلى الثقلين وقد آمن به من آمن من جن نصيبين فسمعوا القرآن وولوا الى قومهم منذرين ثم أتوا فبايعوه على الاسلام بشعب معروف بمكة بين الأبطح وبين جبل حراء وسألوه الطعام لهم ولدوابهم فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي صلى الله عليه و سلم فلا تستنجوا بهما فانهما زاد إخوانكم من الجن والاحاديث بذلك كثيرة مشهورة في الصحيح والسنن والمسند وكتب التفسير والفقه وغيرها وقد روى الترمذي وغيره أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وهي خطاب للثقلين وقد اتفق العلماء على أن كفارهم يدخلون النار كما أخبر الله بذلك في قوله قال ادخلوا في أمم قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها وقال الله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقال لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وأما مؤمنوهم فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة وقال طائفة بل يصيرون ترابا كالدواب والاول أصح وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد ونقل ذلك عن مالك والشافي وأحمد بن حنبل وهو قول أصحابهم

واحتج عليه الاوزاعي وغيره بقوله ولكل درجات مما عملوا بعد ذكره أهل الجنة وأهل النار من الجن والانس كما قال في سورة الأنعام وفي الاحقاف ولكل درجات مما عملوا بعد ذكر هل الجنة والنار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل النار تذهب سفولا ودرجات أهل الجنة تذهب صعودا فنبينا صلى الله عليه و سلم هو مع الجن كما هو مع الانس والانس معه إما مؤمن به وإما مسلم له وإما مسالم له وإما خائف منه وكذلك الجن منهم المؤمن به ومنهم المسلم له مع نفاق ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين وكان هذا أفضل مما أوتيه سليمان فان الله سخر الجن لسليمان تطيعه طاعة الملوك فإن سليمان كان نبيا ملكا مثل داود ويوسف وأما محمد فهو عبد رسول مثل ابراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء أفضل من أولئك فأولياء الله المتبعون لمحمد إنما يستخدمون الجن كما يستخدمون الانس في عبادة الله وطاعته كما كان محمد صلى الله عليه و سلم يستعمل الانس لا في غرض له غير ذلك ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الانس والجن الا بعوض مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم أو يعينونهم على بعض مقاصدهم وإلا فليس أحد من الانس والجن يفعل شيئا إلا لغرض والانس والجن اذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة فاما أن يكونوا مخلصين يطلبون الاجر من الله وإلا طلبوه منه إما دعاءه لهم وإما نفعه لهم بجاهه أو غير ذلك والقسم الثالث أن يستخدم الجن في أمور محظورة أو بأسباب محظورة مثل قتل نفس وإمراضها بغير حق ومثل منع شخص من الوطء ومثل تبغيض شخص الى شخص ومثل جلب من يهواه الشخص اليه فهذا من السحر وقد يقع مثله لكثير من الناس ولا يعرف السحر بل يكون موافقا للشياطين على بعض أغراضهم مثل شرك أو بدعة وضلالة أو ظلم أو فاحشة فيخدمونه ليفعل مايهوونه وهذا كثير في عباد المشركين وأهل الكتاب وأهل الضلال من المسلمين وكثير من هؤلاء لا يعرف أن ذلك من الشياطين بل يظنه من كرامات الصالحين ومنهم من يعرف أنه من الشياطين ويرى أنه بذلك حصل له ملك وطاعة ونيل ما يشتهيه من الرياسة والشهوات وقتل عدوه فيدخل في

ذلك كما تدخل الملوك الظلمة في أغراضهم وليس أحد من الناس تطيعه الجن طاعة مطلقة كما كانت تطيع سليمان بتسخير من الله وأمر منه من غير معارضة كما أن الطير كانت تطيعه والريح قال تعالى ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور والجن والانس فيهم المؤمن المطيع والمسلم الجاهل أو المنافق أو العاصي وفيهم الكافر وكل ضرب يميل الى بني جنسه والذي أعطاه الله تعالى سليمان خارج عن قدرة الجن والانس فإنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن مطلقا لطاعته ولا يستخدم أحدا منهم الا بمعاوضة إما عمل مذموم تحبه الجن وإما قوم تخضع له الشياطين كالاقسام والعزائم فان كل جني فوقه من هو أعلى منه فقد يخدمون بعض الناس طاعة لمن فوقهم كما يخدم بعض الانس لمن أمرهم سلطانهم بخدمته لكتاب معه منه وهم كارهون طاعته وقد يأخذون منه ذلك الكتاب ولا يطيعونه وقد يقتلونه أو يمرضونه فكثير من الناس قتلته الجن كما يصرعونهم والصرع لأجل الزنا وتارة يقولون إنه آذاهم إما بصب نجاسة عليهم وإما بغير ذلك فيصرعون صرع عقوبة وانتقام وتارة يفعلون ذلك عبثا كما يعبث شياطين الانس بالناس والجن أعظم شيطنة وأقل عقلا وأكثر جهلا والجني قد يحب الإنسي كما يحب الأنسي الانسي وكما يحب الرجل المرأة والمرأة الرجل ويغار عليه ويخدمه بأشياء واذا صار مع غيره فقد يعاقبه بالقتل وغيره كل هذا واقع ثم الذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئا من أموال الناس مما لم يذكر اسم الله عليه ويأتونه إما بطعام وإما شراب واما لباس واما نقد وإما غير ذلك وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك وليس شيء من ذلك من معجزات الانبياء ولا كرامات الصالحين فإن ذلك انما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة وهو لو كان مباحا لم يجز أن يفعل بهذا السبب فكيف اذا كان في نفسه ظلما محرما لكونه من الظلم والفواحش ونحو ذلك وقد يخبرون بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه ويدخلون في جوف الانسان قال النبي صلى الله عليه و سلم ان الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم لكن

إنما سلطانهم كما قال الله إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ولما قال الشيطان رب بما أغويتني لأزينن لهم في الارض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال الله تعالى ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ثم قال إلا أي لكن من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فأهل الاخلاص والايمان لا سلطان له عليهم ولهذا يهربون من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ويهربون من قراءة آية الكرسي وآخر سورة البقرة وغير ذلك من قوارع القرآن ومن الجن من يخبر بأمور مستقبلة للكهان وغير الكهان مما يسرقونه من السمع والكهانة كانت ظاهرة كثيرة بأرض العرب فلما ظهر التوحيد هربت الشياطين وبطلت أو قلت ثم انها تظهر في المواضع التي يختفي فيها أثر التوحيد وقد كان حول المدينة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه و سلم كهان يتحاكمون اليهم وكان أبو بردة بن نيار كاهنا ثم أسلم بعد ذلك وهو من أسلم والاصنام لها شياطين كانت تتراءى للسدنة أحيانا وتكلمهم أحيانا قال أبي بن كعب مع كل صنم جنية وقال ابن عباس في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم والشياطين كما قال الله تقترن بما يجانسها بأهل الكذب والفجور قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف يجوز أن يقال إن مثل هذا يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي وهذا يناقض الايمان ويضاده والانبياء والاولياء أعداء هؤلاء قال تعالى ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا انما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون وهذا يظهر الفرق بين إخبار الانبياء عن الغيب ما لا سبيل لمخلوق الى علمه إلا منه كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم

وأحصى كل شيء عددا فقوله على غيبه هو غيبه الذي اختص به وأما ما يعلمه بعض المخلوقين فهو غيب عمن لم يعلمه وهو شهادة لمن علمه فهذا أيضا تخبر منه الانبياء بما لا يمكن الشياطين أن تخبر به كما في إخبار اللمسيح بقوله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فإن الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الناس وبما يدخرونه لكن الشياطين انما تتسلط على من لا يذكر اسم الله كالذي لا يذكر اسم الله اذا دخل فيدخلون معه وإن لم يذكر اسم الله اذا أكل فانهم يأكلون معه وكذلك اذا ادخر شيئا ولم يذكر اسم الله عليه عرفوا به وقد يسرقون بعضه كما جرى هذا لكثير من الناس وأما من يذكر اسم الله على طعامه وعلى ما يجتازه فلا سلطان لهم عليه لا يعرفون ذلك ولا يستطيعون أخذه والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون وما يدخرون مما ذكر اسم الله عليه والشياطين لا تعلم به ولهذا من يكون إخباره عن شياطين تخبره لا يكاشف أهل الايمان والتوحيد وأهل القلوب المنورة بنور الله بل يهرب منهم ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم وتعترف الجن والانس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم أنهم لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الايمان والقرآن ويقولون أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة وإنما تظهر عند الكفار والفجار وهذا لأن أولئك أولياء الشياطين ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانية كدخول النار مع كونها لم تصر عليهم بردا وسلاما فإن الخليل لما ألقى في النار صارت عليه بردا وسلاما وكذلك أبو مسلم الخولاني لما قال له الاسود العنسي المتنبي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر بنار فأوقدت له وألقي فيها فجاءوا اليه فوجدوه يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما فقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وأخذه عمر فأجلسه بينه وبين أبي بكر وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به كما فعل بابراهيم وأما اخوان الشياطين فاذا دخلت فيهم الشياطين فقد يدخلون النار ولا تحرقهم كما يضرب أحدهم الف سوط ولا يحس بذلك فإن الشياطين تتلقى ذلك وهذا أمر كثير معروف قد رأينا من ذلك ما يطول وصفه وقد ضربنا نحن من الشياطين في

الانس ما شاء الله حتى خرجوا من الانس ولم يعاودوه وفيهم من يخرج بالذكر والقرآن وفيهم من يخرج بالوعظ والتخويف وفيهم من لا يخرج إلا بالعقوبة كالانس فهؤلاء الشياطين اذا كانوا مع جنسهم الذين لا يهابونهم فعلوا هذه الامور وأما اذا كانوا عند أهل ايمان وتوحيد وفي بيوت الله التي يذكر فيها اسمه لم يجترئوا على ذلك بل يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الانس ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله ولا بين أهل الايمان والشريعة المتبعين للرسول إنما يمكنهم ذلك في الأماكن التي تأتيها الشياطين كالمساجد المهجورة والمشاهد والمقابر والحمامات والمواخير فالمواضع التي نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة فيها كالمقبرة وأعطان الابل والحمام وغيرها فتكون حال هؤلا فيها أقوى لأنها مواضع الشياطين كالماخور والمزبلة والحمام ونحو ذلك بخلاف الأمكنة التي ظهر فيها الايمان والقرآن والتوحيد التي أثنى الله على أهلها وقال فيهم الله نور السماوات والأرض مثل نوره مشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب فهذه أمكنة النور والصالحين والملائكة لا تتسلط عليها الشياطين بكل ما تريد بل كيدهم فيها ضعيف كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف اذ كانوا فيه يسلسلون لكن لم يبطل فعلهم بالكلية بل ضعف فشرهم فيه على أهل الصوم قليل بخلاف أهل الشراب وأهل الظلمات فإن الشياطين هنالك محالهم وهم يحبون الظلمة ويكرهون النور ولهذا ينتشرون بالليل كما جاء في الحديث الصحيح ولهذا أمر الله بالتعوذ من شر غاسق اذا وقب وخوارق الجن كالإخبار ببعض الامور الغائبة وكالتصرفات الموافقة لأغراض بعض الانس كثيرة معروفة في جميع الامم فقد كانت في العرب

كثيرة وكذلك في الهند وفي الترك والفرس والبربر وسائر الامم فهي أمور معتادة للجن والانس وآيات الانبياء كما تقدم خارجة عن مقدور الانس والجن فإنهم مبعوثون الى الانس والجن فيمتنع أن تكون آياتهم أمورا معروفة فيمن بعثوا اليه اذ يقال هذه موجودة كثيرا للانس فلا يختص بها الانبياء بل هذه الخوارق هي آية وعلامة على فجور صاحبها وكذبه فهي ضد آيات الانبياء التي تستلزم صدق صاحبها وعدله ولهذا يكون كثير من الذين تخدمهم الشياطين من أهل الشياطين وهذا معروف لكثير ممن تخدمه الشياطين بل من طوائف المخدومين من يكونون كلهم من هذا الباب كالبويي الذي للترك وأكثر المولهين من هذا الباب وهم يصعدون بهم في الهواء ويدخلون المدن والحصون بالليل والابواب مغلقة ويدخلون على كثير من رؤساء الناس ويظنون أن هؤلاء صالحون قد طاروا في الهواء ولا يعرف أن الجن طارت بهم وهذه الاخوال الشيطانية تبطل أو تضعف إذا ذكر الله وتوحيده وقرئت قوارع القرآن لا سيما آية الكرسي فإنها تبطل عامة هذه الخوارق الشيطانية وأما آيات الانبياء والأولياء فتقوى بذكر الله وتوحيده والجن المؤمنون قد يعينون المؤمنين بشيء من الخوارق كما يعين الانس المؤمنون للمؤمنين بما يمكنهم من الإعانة وما لا يكون إلا مع الإقرار بنبوة الانبياء فهو من آياتهم فوجوده يؤيد آياتهم لا يناقضها مع أن آيات الانبياء التي يدعون اعلى من هذا وأعلى من كرامات الاولياء فإن تلك هي الآيات الكبرى والذين ذكر عنهم إنكار كرامات الاولياء من المعتزلة وغيرهم كأبي اسحاق الاسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد وكما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم لا ينكرون الدعوات المجابة ولا ينكرون الرؤيا الصادقة فإن هذا متفق عليه بين المسلمين وهو أن الله تعالى قد يخص بعضهم بما يريه من المبشرات وقد كان سعد بن أبي وقاص معروفا باجابة الدعاء فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم سدد رميته وأجب دعوته وحكاياته في ذلك مشهورة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لم يبق بعدي من النبوة الا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وثبت عنه في الصحيح أنه قال ان من عباد الله من لو أقسم على الله لابره ذكر ذلك لما أقسم أنس بن النضر أنه لا تكسر ثنية الربيع

فاستجاب الله ذلك وايضا فإن منهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وكانوا اذا اشتد الحرب يقولون يا براء أقسم على ربك فيقسم على ربه فينصرون والقسم قيل هو من جنس الدعاء لكن هو طلب مؤكد بالقسم فالسائل يخضضع ويقول أعطني والمقسم يقول أقسم عليك لتعطيني وهو خاضع سائل لكن من الناس من يدعي له من الكرامات مالا يجوز ان يكون للانبياء كقول بعضهم ان لله عبادا لو شاءوا من الله أن لا يقيم القيامة لما اقامها وقول بعضهم إنه يعطي كن أي شيء أرادة قال له كن فيكون وقول بعضهم لا يعرب عن قدرته ممكن كما لا يعزب عن قدرة ربه محال فانه لما كثر في الغلاة من يقول بالحلول والاتحاد وإلهية بعض البشر كما قاله النصارى في المسيح صاروا يجعلون ما هو من خصائص الربوبية لبعض البشر وهذا كفر وأيضا فإن كثيرا من الناس لا يكون من أهل الصلاح وتكون له خوارق شيطانية كما لعباد المشركين وأهل الكتاب فتتجلى لهم على أنها كرامات فمن الناس من يكذب بها ومنهم من يجعل أهلها من أولياء الله وذلك لأن الطائفتين ظنت أن مثل هذه الخوارق لا يكون إلا لأولياء الله ولم يميزوا بين الخوارق الشيطانية التي هي جنس ما للسحرة والكهان ولعباد المشركين وأهل الكتاب وللمتنبئين الكذابين وبين الكرامات الرحمانية التي يكرم الله بها عباده الصالحين فلما لم يميزوا بين هذا وهذا وكان كثير من الكفار والفجار وأهل الضلال والبدع لهم خوارق شيطانية صار هؤلاء منهم حزبين حزبا قد شاهدوا ذلك وأخبرهم به من يعرفون صدقه فقالوا هؤلاء اولياء الله وحزبا رأوا أن أولئك خارجون عن الشريعة وعن طاعة الله ورسوله فقالوا ليس هؤلاء من الأولياء الذين لهم كرامات فكذبوا بوجود ما رآه أولئك وأولئك قد عاينوا ذلك أو تواتر عندهم فصار تكذيب هؤلاء مثل تكذيب من ينكر السحر والكهانة والجن وصرعهم للانس إذا كذب ذلك عند من رأى ذلك أو ثبت عنده ومن كذب بما تيقن غيره وجوده نقصت حرمته عنه هذا المتيقن وكان عنده إما جاهلا وإما معاندا فربما رد عليه كثيرا من الحق بسبب ذلك ولهذا صار كثير من المنتسبين إلى زهد أو فقر أو تصرف أو وله أو غير ذلك لا يقبلون قولهم ولا يعبأون بخلافهم لأنهم كذبوا بحق

قد تيقنه هؤلاء وأنكروا وجوده وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وقد يدخلون انكار ذلك في الشرع كما أدخلت المعتزلة ونحوهم إنكار كرامات الأولياء وإنكار السحر والكهانة في الشرع بناء على أن ذلك يقدح في آيات الانبياء فجمعوا بين التكذيب بهذه الامور الموجودة وبين عدم العلم بآيات الانبياء والفرق بينها وبين غيرها حيث ظنوا أن هذه الخوارق الشيطانية من جنس آيات الانبياء وأنها نظير لها فلو وقعت لم يكن للأنبياء ما يتميزون به والذين ردوا على هؤلاء من الأشعرية ونحوهم يشاركونهم في هذا في التسوية بين الجنسين وأنه لا فرق لكن هؤلاء لما تيقنوا وجودها جعلوا الفرق ما ليس بفرق وهو اقترانها بالدعوى والتحدي بمثلها وعدم المعارضة وهم يقولون إنا نعلم بالضرورة أن الرب إنما خلقها لتصديق النبي وهذا كلام صحيح لكنه يستلزم بطلان ما أصلوه من أنه لا يخلق شيئا لشيء وأيضا فاختصاصها بوجود العلم الضروري عندها دون غيرها لا بد أن يكون لأمر أوجب التخصيص وهم يقولون بل قد تستوي الامور ويوجد العلم الضروري ببعضها دون بعض كما قالوا مثل ذلك في العادات انه يجوز انخراقها كلها بلا سبب على أعظم الوجوه كجعل الجبال بواقيت لكن يعلم بالضرورة أن هذا لا يقع فكذلك قالوا في المعجزات يجوز أن يخلقها على يد كاذب إنما خلقها على يد الصادق بما ادعى من العلم الضروري صحيح وأما قولهم إن المعلوم به يماثل غيره فغلط عظيم بل هم لم يعرفوا الفرق بمنزلة العامي الذي أوردت عليه شبهات السوفسطائية فهو يعلم بالضرورة أنها باطلة ولكن لا يعرف الفرق بينها وبين الحق ولكن العامي يقول فيها فساد لا أعرفه لا يقول دلائل الحق كدلائل الباطل وهؤلاء ادعوا الاستواء في نفس الامر فغلطوا غلطا عظيما ولو قالوا بينهما فرق لكنه لم يتخلص لنا لكان قولهم حقا وكانوا قد ذكروا عدم العلم لا العلم بالعدم كما يقول ذلك كثير من الناس يقول ما أعرف الفرق بينهما وذلك أن العلم الضروري يحصل ببعض الأخبار دون بعض وقد قيل إنا نعلم أنه متواتر بحصول علمنا الضروري به والتحقيق انه اذا حصل له علم ضروري كان قد حصل الخبر

الذي يوجبه لهم وقد لا يحصل لغيرهم والعلم يحصل بعدد المخبرين وبصفاتهم وبأمور أخرى تنضم الى الخبر ومن جعل الاعتبار بمجرد العدد فقد غلط والأكثرون يقولون العلم الحاصل به ضروري وقيل انه نظري وهو اختيار الكعبي وأبي الحسين وأبي الخطاب والتحقيق أنه قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وقد يجتمع فيه الأمران يكون ضروريا ثم إذا نظر فيه وجد أنه يوجب العلم وكذلك العلم الحاصل عقب الآيات قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وكل نظري فإن منتهاه أنه ضروري ولهذا قال أبو المعالي المرتضى عندنا أن جميع العلوم ضرورية أي بعد حصول أسبابها ولا بد من فرق في نفس الامر بين ما يوجبه العلم ومالا يوجبه وأصل خطأ الطائفتين أنهم لم يعرفوا آيات الانبياء وما خصهم الله به ولم يقدروا قدر النبوة ولم يقدروا آيات الانبياء قدرها بل جعلوا هذه الخوارق الشيطانية من جنسها فإما ان يكذبوا بوجودها وإما أن يسووا بينهما ويدعوا فرقا لا حقيقة له ولهذا يوجد كثير ممن يكذب بهذه الخوارق الشيطانية أن تكون لبعض الاشخاص لما يراه من نقص دينه وعلمه فاذا عاينها بعد ذلك أو ثبتت عنده خضع لذلك الشخص الذي كان عنده إما كافرا وإما ضالا وإما مبتدعا جاهلا وذلك لأنه أنكر وجودها معتقدا أنها لا توجد إلا للصالحين فلما تيقن وجودها جعلها دليلا على الصلاح وهو غالط في الاصل بل هذه من الشياطين من جنس ما للسحرة والكهان ومن جنس ما للكفار من المشركين وأهل الكتاب فإن لمشركي الهند والترك وغيرهم ولعباد النصارى من هذه الخوارق الشيطانية أمورا كثيرة يطول وصفها أكثر وأعظم من أكثر مما يوجد منها لاهل الضلال والبدع من المسلمين وما يوجد منها للمنافقين فإن الشياطين لا تتمكن من إغواء المسلمين وإن كان فيهم جهل وظلم كما تتمكن من إغواء المشركين وأهل الكتاب ولهذا ثنى في القرآن قصة موسى مع السحرة وذكر ما يقولوه الكفار لانبيائهم فإنه ما جاء نبي صادق قط الا قيل فيه إنه ساحر أو مجنون كما قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم ويفعل ما يرونه غير نافع ويترك ما يرونه نافعا وهذا فعل المجنون فإن المجنون

فاسد العلم والقصد ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا كان عنده من ترك ذلك وطلب مالا يعلمه مجنونا ثم النبي مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس من إعلام بالغيوب وأمور خارقة لعاداتهم فيقولون هو ساحر وهذا موجود في المنافقين الملحدين المتظاهرين بالاسلام من الفلاسفة ونحوهم يقولون ان ما أخبرت به الانبياء من الغيوب والجنة والنار هو من جنس قول المجانين وعندهم خوارقهم من جنس خوارق السحرة والممرورين المجانين كما ذكر ابن سينا وغيره لكن الفرق بينهما أن النبي حسن القصد بخلاف الساحر وأنه يعلم ما يقول بخلاف المجنون لكن معجزات الانبياء عندهم قوى نفسانية ليس مع هذا ولا هذا شيء خارج عن قوة النفس والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى ومن وافقهما متوقفون في وجود المخدوم الذي تخدمه الجن قالوا لا يقطع بوجوده وكذلك الكاهن ذكروا فيه القولين قول من يقول إنه المتخرص وقول من يقول إنه مخدوم وهم متوقفون فيه لا يقطعون بوجود مخدوم كاهن كما يقطعون بوجود الساحر لأنه في زمانهم وجد الساحر والقرآن أخبرنا بالسحر في سورة البقرة بخلاف الكاهن فإن القرآن ذكر اسمه ولو تدبروا لعلموا ان الكاهن هو المذكور في قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قيل له ان منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وسئل عن الكهان وما يخبرون به فأخبر أن الجن تسترق السمع وتخبرهم به فالكتاب والسنة أثبتا وجود الكاهن وأحمد قد نص على أنه يقتل كالساحر لكن الكاهن إنما عنده أخبار والساحر عنده تصرف بقتل وإمراض وغير ذلك وهذا تطلبه النفوس أكثر وابن صياد كان كاهنا ولهذا قال له النبي صلى الله عليه و سلم قد خبأت لك خبيئا فقال الدخ فقال اخسأ فلن تعدو قدرك انما أنت من إخوان الكهان ولما قضى في الجنين بغرة قال حمل بن مالك أيودي من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل قتل ذلك يطل فقال إنما أنت من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع فكانوا يسجعون أساجيع وقد رأيت من

هؤلاء شيوخا يسجعون أساجيع كأساجيع الكهان ويكون كثير منها صدقا ولهذا جمع الله بين الكاهن والشاعر في قوله وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين وكذلك في الشعراء ذكر الكاهن والشاعر بعد قوله وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين الى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك اثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والرسول في آية الحاقة محمد وقال ايضا انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين فلما أخبر به أنه قول رسول هو ملك من الملائكة نفى أن يكون قول شيطان ولما أخبر هناك أنه قول رسول من البشر نفى أن يكون قول شاعر أو كاهن فهذا تنزيه للقرآن نفسه ونزه الرسول أن يكون على الغيب بظنين أي متهم وأن يكون بمجنون فالجنون فساد في العلم والتهمة فساد في القصد كما قالوا ساحر أو مجنون وقال في الطور فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين وقد أخبر عن الانبياء قبله أنه ما أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون ولم يقولوا كاهن لأن الكاهن عند العرب هو الذي يتكلم بكلام مسجوع وله قرين من الجن وهذا الاسم ليس بذم عند أهل الكتاب بل يسمون أكثر العلماء بهذا الاسم ويسمون هارون وأولاده الذين عندهم التوراة بهذا الاسم والقدر المشترك العلم بالامور الغائبة والحكم بها فعلماء أهل الكتاب يخبرون بالغيب ويحكمون به عن الوحي الذي أوحاه الله وكهان العرب كانت تفعل ذلك عن وحي الشياطين وتمتاز بأنها تسجع الكلام بخلاف اسم الساحر فإنه اسم معروف في جميع الامم وقد يدخل في ذلك عندهم المخدوم الذي تخبره الشياطين ببعض الامور الغائبة ولكون الساحر يأتي

بالخوارق شبهوا به النبي وقالوا ساحر فدل ذلك على قدر مشترك لكن الفرقان بينهما أعظم كالفرق بين الملائكة والشياطين وأهل الجنة وأهل النار وخيار الناس وشرارهم وهذا أعظم الفروق بين الحق والباطل والكفار قالوا عن الانبياء انهم مجانين وسحرة فكما يعلم بضرورة العقل وجود أعظم الفرق بينهم وبين المجانين وأنهم أعقل الناس وأبعدهم عن الجنون فكذلك يعلم بضرورة العقل أعظم الفرق بينهم وبين السحرة وأنهم أفضل الناس وأبعدهم عن السحر فالساحر يفسد الادراك حتى يسمع الانسان الشيء ويراه ويتصور خلاف ما هو عليه والانبياء يصححون سمع الانسان وبصره وعقله والذين خالفوهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون فالسحرة يزيدون الناس عمى وصمما وبكما والانبياء يرفعون عماهم وصممهم وبكمهم كما في الصحيح عن عطاء بن يسار أنه سأل عبد الله بن عمرو روى عبد الله بن سلام أنه قيل له أخبرنا ببعض صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فقال انه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين انت عبدي سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تجزي بالسيئة الحسنة وتعفو وتغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا بأن يقولوا لا اله الا الله وهذا مذكور عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا ولفظ التوراة قد يراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الانجيل فيقال التوراة والانجيل ويراد بالتوراة الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الانبياء المتبعين لكتاب موسى قد يسمى هذا كله توراة فإن االتوراة تفسر بالشريعة فكل من دان بشريعة التوراة قيل لنبوته انها من التوراة وكثير مما يعزوه كعب الأحبار ونحوه إلى التوراة هو من هذا الباب لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى كلفظ الشريعة عند المسلمين يتناول القرآن والاحاديث النبوية وما استخرج من ذلك كما قد بسط هذا في موضع آخر والمقصود هنا أن الانبياء يفتحون الأعين العمي والآذان الصم والقلوب الغلف والسحرة يفسدون السمع والبصر والعقل حتى

يخيل للانسان الأشياء بخلاف ما هي عليه فيتغير حسه وعقله قال في قصة موسى سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وهذا يقتضي أن أعين الناس قد حصل فيها تغير ولهذا قال تعالى ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون فقد علموا أن السحر يغير الاحساس كما يوجب المرض والقتل وهذا كله من جنس مقدور الانس فإن الانسان يقدر أن يفعل في غيره ما يفسد إدراكه وما يمرضه ويقتله فهذا مع كونه ظلما وشرا هو من جنس مقدور البشر والجني إذا اراد أن يرى قرينه أمورا غائبة سأل عنها مثلها له فاذا سأل عن المسروق أراه شكل ذلك المال وإذا سأل عن شخص أراه صورته ونحو ذلك وقد يظن الرائي أنه رأى عينه وإنما رأى نظيره وقد يتمثل الجني في صورة الإنسي حتى يظن الظان أنه الإنسي وهذا كثير كما تصور لقريش في صورة سراقة ابن مالك بن جعشم وكان من اشراف بني كنانة قال تعالى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم الآية فلما عاين الملائكة ولى هاربا ولما رجعوا ذكروا ذلك لسراقة فقال والله ما علمت بحربكم حتى بلغني هزيمتكم وهذا واقع كثيرا حتى انه يتصور لمن يعظم شخصا في صورته فاذا استغاث به أتاه فيظن ذلك الشخص انه شيخه الميت وقد يقول له إنه بعض الانبياء أو بعض الصحابة الاموات ويكون هو الشيطان وكثير من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة من يقول إنه رسول الله ويظن ذلك حقا ومن يرى إذا زار بعض قبور الانبياء أو الصالحين أن صاحب القبر قد خرج اليه فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي أو الرجل الصالح وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها وإلا أتى في صورة انسان قال إنه ذلك الميت وكذلك يأتي كثيرا من الناس في مواضع ويقول انه الخضر وإنما كان جنيا من الجن ولهذا لم يجترئ الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة إنه الخضر ولا قال أحد من الصحابة إني رأيت الخضر وإنما وقع هذا بعد الصحابة وكلما تأخر الامر كثر حتى إنه يأتي

اليهود والنصارى ويقول انه الخضر ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر وكثير من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا ولهذا يقول من يقول منهم لكل ولي خضر وإنما هو جني معه والذين يدعون الكواكب تتنزل عليهم أشخاص يسمونها روحانية الكواكب وهو شيطان نزل عليه لما أشرك ليغويه كما تدخل الشياطين في الاصنام وتتكلم أحيانا لبعض الناس وتتراءى للسدنة أحيانا ولغيرهم أيضا وقد يستغيث المشرك بشيخ له غائب فيحكى الجني صوته لذلك الشيخ حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما ثم ان الشيخ يجيبه فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد حتى يظن أن شيخه سمع صوته وأجابه وإلا فصوت الانسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم ويومين وأكثر وقد يحصل للمريد من يؤذيه فيدفعه الجني ويخيل للمريد أن الشيخ هو دفعه وقد يضرب الرجل بحجر فيدفعه عنه الجني ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك حتى يقول اني اتقيت عنك الضرب وهذا أثره في وقد يكونون يأكلون طعاما فيصور نظيره للشيخ ويجعل يده فيه ويجعل الشيطان يده في طعام أولئك حتى يتوهم الشيخ وهم ان يد الشيخ امتدت من الشام الى مصر وصارت في ذلك الاناء وعمر بن الخطاب لما نادى يا سارية الجبل قال ان لله جندا يبلغونهم صوتي فعلم أن صوته انما يبلغ بما ييسره الله من تبليغ بعض الملائكة او صالحي الجن فيهتفون بمثل صوته كالذي ينادي ابنه وهو بعيد لا يسمع يا فلا فيسمعه من يريد إبلاغه فينادي يا فلان فيسمع ذلك الصوت وهو المقصود بصوت أبيه وإلا فصوت البشر ليس في قوته أن يبلغ مسافة ايام وقد قلنا أن آيات الانبياء التي اختصوا بها خارجة عن قدرة الجن والانس قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وأما اذا كانت مما تقدر عليه الملائكة فهذا مما يؤيدها فإن الملائكة لا يطيعون من يكذب على الله ولا يؤيدونه بالخوارق فاذا أيد به كما أيد الله به نبيه والمؤمنين يوم بدر ويوم حنين كان هذا من أعلام صدقه وإنه صادق على الله في دعوى النبوة فإنها

لا تؤيد الكذاب لكن الشياطين تؤيد الكذب والملائكة تؤيد الصدق والتأييد بحسب الايمان فمن كان إيمانه أقوى من غيره كان جنده من الملائكة أقوى وان كان ايمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك كملك الانسان وشيطانه فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قالوا وبك يا رسول الله قال وبي لكن الله أعانني عليه فأسلم وفي حديث آخر فلا يأمرني إلا بخير وهو في صحيح مسلم من وجهين من حديث ابن مسعود ومن حديث عائشة وقال ابن مسعود ان للقلب لمة من الملك ولمة من الشيطان فلمة الملك إيعاد الخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق فاذا كانت حسنات الانسان أقوى أيد بالملائكة تأييدا يقهر به الشيطان وإن كانت سيئاته اقوى كان جند الشيطان معه أقوى وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر فشيطان المؤمن مهزول ضعيف وشيطان الكافر سمين قوي فكما أن الانسان بفجوره يؤيد شيطانه على ملكه وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر لأن الآخر لم يؤيد ملكه فلم يؤيده أو ضعف عنه لأنه ليس معه إيمان يعينه كالرجل الصالح اذا كان ابنه فاجرا لم يمكنه الدفع عنه لفجوره وبسط هذه الامور له موضع آخر
والمقصود هنا الكلام على الفرق بين آيات الانبياء وغيرهم وأن من قال أن آيات الانبياء والسحر والكهانة والكرامات وغير ذلك من جنس واحد فقد غلط ايضا والطائفتان لم يعرفوا قدر آيات الانبياء بل جعلوها من هذا الجنس فهؤلاء نفوه وهؤلاء أثبتوه وذكروا فرقا لا حقيقة له
واذا قال القائل آيات الانبياء لا يقدر عليها إلا الله أو أن الله يخترعها ويبتدئها بقدرته أو أنها من فعل الفاعل المختار ونحو ذلك قيل له هذا كلام مجمل فقد يقال عن كل ما يكون انه لا يقدر عليه إلا الله فإن الله خالق كل شيء وغيره لا يستقل باحداث شيء وعلى هذا فلا فرق بين المعجزات وغيرها وقد يقال لا يقدر عليها إلا

الله أي هي خارجة عن مقدورات العباد فإن مقدوراته على قسمين منها ما يفعله بواسطة قدرة العبد كأفعال العباد وما يصنعونه ومنها ما يفعله بدون ذلك كإنزال المطر فإن أراد هذا القائل أنها خارجة عن مقدور الإنس بمعنى أنه لا يقع منهم لا بإعانة الجن ولا بغير ذلك فهذا كلام صحيح وإن أراد أنه خارج عن مقدورهم فقط وإن كان مقدورا للجن فهذا ليس بصحيح فإن الرسل أرسلوا إلى الانس والجن والسحر والكهانة وغير ذلك تقدر الجن على إيصالها إلى الانس وهي مناقضة لآيات الانبياء كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وإن أراد أنها خارجة عن مقدور الملائكة والإنس والجن أو أن الله يفعلها بلا سبب فهذا أيضا باطل فمن أين له أن الله يخلقها بلا سبب ومن أين له أنه لا يخلقها بواسطة الملائكة الذين هم رسله في عامة ما يخلقه فمن أين له أن جبريل لم ينفخ في مريم حتى حملت بالمسيح وقد أخبر الله بذلك وهو وأمه مما جعلهما آية للعالمين قال تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الى ربوة ذات قرر ومعين وخلق المسيح بلا أب من أعظم الآيات وكان بواسطة نفخ جبريل قال تعالى فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت انى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا وقال تعالى ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وكذلك طمس أبصار قوم لوط كان بواسطة الملائكة والذي عنده علم من الكتاب لما قال عفريت من الجن لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك واني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك أتته به الملائكة كذلك ذكره المفسرون عن ابن عباس وغيره أن الملائكة أتته به أسرع مما كان يأتي به العفريت وقد أخبر الله تعالى أنه أيد محمدا صلى الله عليه و سلم بالملائكة وبالريح وقال تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا وقال تعالى يوم حنين

فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقال تعالى يوم الغار فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى اذ يوحي ربك الى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد ثبت في الصحيح أن الانسان يصوره ملك في الرحم بإذن الله ويقول الملك أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فاذا كان الخلق المعتاد يكون بتوسط الملائكة فإنه يقرر التوحيد بقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الآيات ثم النبوة بقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا ثم المعاد وكذلك الانعام يقرر التوحيد ثم النبوة في وسطها ثم يختمها بأصول الشرائع والتوحيد أيضا وهو ملة ابراهيم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أنه قد يبين انفراده بالخلق والنفع والضر والاتيان بالآيات وغير ذلك وإن ذلك لا يقدر عليه غيره قال تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والارض انى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليك ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدون وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الابصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نفصل الايات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم ألى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في

طغيانهم يعمهون ففي هذه الآيات تقرير التوحيد حتى في إنزال الآيات قال إنما الآيات عند الله وكذلك قوله في العنكبوت وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما انا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والارض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون وقال أيضا وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون هذا بعد قوله فان استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين وهو أرسله بآيات بان بها الحق وقامت بها الحجة وكانوا يطلبون آيات تعنتا فيظن من يظن أنهم يهتدون بها لكن لا يحصل بها المقصود وقد تكون موجبة لعذاب الاستئصال فتكون ضررا بلا نفع وبين سبحانه أنه قادر على انزال الآيات وأنها ليست إلا عنده وغير أفعال العباد قد اتفق الناس على أنه لا يخلقه الا الله وإنما تنازعوا في أفعال العباد والصواب انها أفعال لهم وهي مخلوقة لله لكن آيات الانبياء لا تكون مما يقدر عليه العبد كما قال قل إنما الآيات عند الله والملائكة إنما هي سبب من الأسباب كما في خلق المسيح من غير أب فجبريل إنما كان مقدوره النفخ فيها وهذا لا يوجب الخلق بل هو بمنزلة الانزال في حق غير المسيح وكذلك المسيح لما خلق من الطين كهيئة الطير إنما مقدوره تصوير الطين وإنما حصول الحياة فيه فباذن الله يحيي ويميت وهذا من خصائصه ولهذا قال الخليل ربي الذي يحيي ويميت وفي القرآن في غير مواضع يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكنتم أمواتا فأحياكم يحيي الارض بعد موتها والله يحيي ويميت وما يتولد عن أفعال الملائكة وغيرهم ليسوا مستقلين به بل لهم فيه شركة كطمس ابصار اللوطية وقلب مدينتهم وكذلك النصر إنما يقدرون على القتال كالانس

والنصر هو من عند الله كما قال تعالى وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله والقرآن إنما يقدرون على النزول به لا على إحداثه ابتداء فهم يقدرون على الاتيان بمثله من عند الله وأما الجن والانس فلا يقدرون على الاتيان بمثله لأن الله لا يكلم بمثله الجن والانس ابتداء ولهذا قال لا يأتون بمثله وقال تعالى فأتوا بسورة من مثله وقال فأتوا بعشر سور مثله وقال فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين لم يكلفهم نفس الإحداث بل طالبهم بالاتيان بمثله إما إحداثا وإما تبليغا عن الله أو عن مخلوق ليظهر عجزهم من جميع الجهات فقد يقال فنفس أفعال العباد ليست من الآيات إذ كانت مقدورة ومفعولة للعبد وإن كان ذلك بأقدار الله تعالى ولا نفس القدرة على ذلك الفعل فإن المقصود من القدرة هو الفعل بل الآيات خارجة عن مقدور جميع العباد الملائكة والجن والانس وهي أيضا لا تنال بالاكتساب فإن الإنس والجن قد يقدرون بأسباب مباينة لهم على أمور كما يقدرون على قتل من يقتلونه وإمراضه ونحو ذلك وآيات الانبياء لا يقدر أحد أن يتوصل اليها بسبب والسحر والكهانة مما يمكن التوصل اليه بسبب كالذي يأتي بأقوال وأفعال تحدثه بها الجن فالنبوة لا تنال بكسب العبيد ولا آياتها تحصل بكسب العباد وهذا من الفروق بين آيات الانبياء وبين السحر والكهانة وبينهما فروق كثرة أكثر من عشرة أحدها أن ما تخبر به الانبياء لا يكون الا صدقا وأما ما يخبرهم به من خالفهم من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور من المسلمين فإنه لا بد فيه من الكذب الثاني أن الانبياء لا تأمر الا بالعدل ولا تفعل الا العدل وهؤلاء المخالفون لهم لا بد لهم من الظلم فإن من خالف العدل لا يكون الا ظلما فيدخلون في العدوان على الخلق وفعل الفواحش والشرك والقول على الله بلا علم وهي المحرمات التي حرمها الله مطلقا كما قال تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على

الله مالا تعلمون الثالث أن ما يأتي به من يخالفهم معتاد لغير الانبياء كما هو معتاد للسحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور وآيات الانبياء هي معتادة أنها تدل على خبر الله وأمره على حكمه فتدل على أنهم أنبياء وعلى صدق من أخبر بنبوتهم سواء كانوا هم المخبرين أو غيرهم وكرامات الاولياء هي من هذا فإنهم يخبرون بنبوة الانبياء وكذلك أشراط الساعة هي أيضا تدل على صدق الانبياء اذ كانوا قد أخبروا بها فالذي جعله أولئك من كرامات الاولياء وأشراط الساعة ناقضا لآيات الانبياء اذ هو من جنسها ولا يدل عليها فأولئك كذبوا بالموجود وهؤلاء سووا بين الآيات وغيرها فلم تكن في الحقيقة عندهم آية وكانت الآيات عند أولئك منتقضة وأولئك نصروا جهلهم بالتكذيب بالحق وهؤلاء نصروا جهلهم أيضا بقول الباطل فقالوا ان الآية هي المقرونة بالدعوى التي لا تعارض وزعموا أنه لا يمكن معارضة السحر والكهانة اذا جعل آية وأنه اذا لم يعارض كان آية وهو تكذيب بالحق أيضا فإنه قد ادعاه غير نبي ولم يعارض فالطائفتان أدخلت في الآيات ما ليس منها وأخرجت منها ما هو منها فكرامات الاولياء واشراط الساعة من آيات الانبياء وأخرجوها والسحر والكهانة ليس من آياتهم وأدخلوها أو سووا بينها وبين الآيات بل ونوابها الرابع أن آيات الانبياء والنبوة لو قدر أنها تنال بالاكتساب فهي انما تنال بعبادة الله وطاعته فإنه لا يقول عاقل ان أحدا يصير نبيا بالكذب والظلم بل بالصدق والعدل سواء قال ان النبوة جزاء على العمل أو قال انه اذا زكى نفسه فاض عليه ما يفيض على الانبياء فعلى القولين هي مستلزمة لالتزام الصدق والعدل وحينئذ فيمتنع أن صاحبها يكذب على الله فإن ذلك يفسدها بخلاف من خالف الانبياء من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل البدع والفجور من أهل الملل واهل الكتاب والمسلمين فإن هؤلاء تحصل لهم الخوارق مع الكذب والإثم بل خوارقهم

مع ذلك أشد لأنهم يخالفون الانبياء وما ناقض الصدق والعدل لم يكن إلا كذبا وظلما فكل من خالف طريق الانبياء لا بد له من الكذب والظلم اما عمدا واما جهلا وقوله تعالى تنزل على كل أفاك أثيم ليس من شرطه أن يتعمد الكذب بل من كان جاهلا يتكلم بلا علم فيكذب فان الشياطين تنزل عليه أيضا اذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه من غير اجتهاد يعذر به فهو كذاب ولهذا يصف الله المشركين بالكذب وكثير منهم لا يتعمد ذلك وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم لما أفتى ابو السنابل بأن المتوفي عنها الحامل لا تحل بوضع الحمل بل تعتد أبعد الاجلين فقال كذب أبو السنابل أي في قوله بأن المتوفي عنها الحامل لا تحل بوضع الحمل بل تعتد أبعد الاجلين وكذلك لما قال بعضهم ابن الاكوع حبط عمله قال النبي صلى الله عليه و سلم كذب من قالها انه لجاهد مجاهد ونظائره كثيرة فالانبياء لا يقع في إخبارهم عن الله كذب لا عمدا ولا خطأ وكل من خالفهم لا بد أن يقع في خبره عن الله كذب ضرورة فإن خبره اذا لم يكن مطابقا لخبرهم كان مخالفا له فيكون كذبا فالذي تنزل عليه الشياطين اذا ظن واعتقد انهم جاءوا من عند الله وأخبر بذلك كان كاذبا وكذلك اذا قال عما أوحوه اليه إن الله أوحاه اليه كان كاذبا قال تعالى ان الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم ولما شاع خبر المختار بن أبي عبيد وهو أول من ظهر في الاسلام بالكذب في هذا وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد وكان يتشيع لعلي ولهذا يوجد الكذب في الشيعة اكثر مما يوجد في جميع الطوائف والمبير هو الحجاج بن يوسف وكان ظالما معتديا وكان يتشيع لعثمان والمختار يتشيع لعلي فذكر لابن عمر وابن عباس امر المختار وقيل لأحدهما إنه يزعم أنه يوحى اليه فقال صدق ان الشياطين ليوحون الى أوليائهم وقيل للآخر إنه يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم الخامس أن ما يأتي به السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدورا للانس والجن

وآيات الانبياء لا يقدر على مثلها لا الانس ولا الجن كما قال تعالى قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا السادس أن ما يأتي به السحرة والكهان وكل مخالف للرسل تمكن معارضته بمثله وأقوى منه كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب وآيات الانبياء لا يمكن أحدا أن يعارضها لا بمثلها ولا بأقوى منها وكذلك كرامات الصالحين لا تعارض لا بمثلها ولا بأقوى منها بل قد يكون بعض آيات أكبر من بعض وكذلك آيات الصالحين لكنها متصادقة متعاونة على مطلوب واحد وهو عبادة الله وتصديق رسله فهي آيات ودلائل وبراهين متعاضدة على مطلوب واحد والادلة بعضها أدل وأقوى من بعض ولهذا كان المشايخ الذين يتحاسدون ويتعادون ويقهر بعضهم بعضا بخوارقه إما بقتل وإمراض وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته وإما غير ذلك خوارقهم شيطانية ليست من آيات الانبياء والاولياء وكثير من هؤلاء يكون في الباطن كافرا منافقا وكثير منهم يموت على غير الاسلام وكثير منهم يكون مسلما مع ظلم يعرف انه ظلم ومنهم من يكون جاهلا يحسب أن ما هو عليه مما أمر الله به ورسوله هذا كما يقع للملوك المتنازعين على الملك من قهر بعضهم لبعض فهذا خارج عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين السابع أن آيات الانبياء هي الخارقة للعادات عادات الانس والجن بخلاف خوارق مخالفيهم فإن كل ضرب منها معتاد لطائفة غير الانبياء وآيات الانبياء ليست معتادة لغير الذين يصدقون على الله ويصدقون من صدق على الله وهم الذين جاءوا بالصدق وصدقوا وتلك معتادة لمن يفتري الكذب على الله أو يكذب بالحق لما جاءه فتلك آيات على كذب أصحابها وآيات الانبياء آيات على صدق أصحابها فإن الله سبحانه لا يخلى الصادق مما يدل على صدقه ولا يخلي الكاذب مما يدل على كذبه إذ من نعته ما أخبر به في قوله أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ثم قال خبرا مبتديا ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته فهو سبحانه لا بد أن يمحق الباطل ويحق الحق بكلماته وقال تعالى

وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون كما أخبر في موضع أنه لم يخلق الخلق عبثا ولا سدى وإنما خلقهم بالحق وللحق فلا بد أن يجزي هؤلاء وهؤلاء باظهار صدق هؤلاء وإظهار كذب هؤلاء كما قال بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق الثامن ان هذه لا يقدر عليها مخلوق فلا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للانس وإن كانت الملائكة قد يكون لهم فيها سبب بخلاف تلك فإنها إما مقدورة للانس أو للجن أو مما يمكنهم التوصل اليها بسبب وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الانبياء كما تقدم ولكن ليست من آياتهم الكبرى ولا يتوقف اثبات النبوة عليها وليست خارقة لعادة الصالحين بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل في أهل الكتاب والمسلمين وآيات الانبياء التي يختصون بها خارقة لعادة الصالحين التاسع أن خوارق غير الانبياء والصالحين من السحرة والكهان أهل الشرك والبدع تنال بأفعالهم كعباداتهم ودعائهم وشركهم وفجورهم ونحو ذلك وأما آيات الانبياء فلا تحصل بشيء من ذلك بل الله يفعلها آية وعلامة لهم وقد يكرمهم بمثل كرامات الصالحين وأعظم من ذلك مما يقصد به إكرامهم لكن هذا النوع يقصد به الاكرام والدلالة بخلاف الآيات المجردة كانشقاق القمر وقلب العصا حية وإخراج يده بيضاء والإتيان بالقرآن والإخبار بالغيب الذي يختص الله به فأمر الآيات الى الله لا إلى اختيار المخلوق والله يأتي بها بحسب علمه وحكمته وعدله ومشيئته ورحمته كما ينزل ما ينزله من آيات القرآن وكما يخلق من يشاء من المخلوقات بخلاف ما حصل باختيار العبد إما لكونه يفعل ما يوجبه أو يدعو الله به فيجيبه فالخوارق التي ليست آيات تارة تكون بدعاء العبد والله تعالى يجيب دعوة المضطر وان كان كافرا لكن للمؤمنين من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم وتارة تكون بسعيه في أسبابها مثل توجهه بنفسه وأعوانه وبمن يطيعه من الجن والانس في حصولها وأما آيات الانبياء فلا تحصل بشيء من ذلك العاشر أن النبي قد خلت من قبله أنبياء يعتبر بهم فلا

يأمر إلا بما أمرت به الانبياء من عبادة الله وحده والعمل بطاعته والتصديق باليوم الآخر والايمان بجميع الكتب والرسل فلا يمكن خروجه عما اتفقت عليه الانبياء وأما السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل فإنهم يخرجون عما اتفقت عليه الانبياء فكلهم يشركون مع تنوعهم ويكذبون ببعض ما جاء به الانبياء والانبياء كلهم منزهون عن الشرك وعن التكذيب بشيء من الحق الذي بعث الله به نبيا قال تعالى واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أن لا إله إلا انا فاعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تلوا فإنما هم في شقاق وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وقال تعالى ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وقال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم واخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب

وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ثم قال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وقال تعالى لما ذكر الانبياء ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل الينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فالانبياء يصدق متأخرهم متقدمهم ويبشر متقدمهم بمتأخرهم كما بشر المسيح ومن قبله بمحمد وكما صدق محمد جميع النبيين قبله ولهذا يقول يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزل مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وقال نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد وقال وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه والانبياء وأتباعهم كلهم مؤمنون مسلمون يعبدون الله وحده بما أمر ويصدقون بجميع ما جاءت به الانبياء ومن خالفهم لا يكون الا مشركا ومكذبا ببعض ما أنزل الله وبين الطائفتين فروق كثيرة غير خوارق العادات الحادي عشر أن النبي هو وسائر المؤمنين لا يخبرون إلا بحق ولا يأمرون الا بعدل فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد لا يأمرون بالفواحش ولا الظلم ولا الشرك ولا القول بغير علم فهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها فلا يأمرون إلا بما يوافق المعروف في العقول الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول فكما أنهم هم لا يختلفون فلا يناقض بعضهم بعضا بل دينهم وملتهم واحد وإن تنوعت الشرائع فهم أيضا

موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده موافقون للادلة العقلية لا يناقضونها قط بل الادلة العقلية الصحيحة كلها توافق الانبياء لا تخالفهم وآيات الله السمعية والعقلية العيانية والسماعية كلها متوافقة متصادقة متعاضدة لا يناقض بعضا بعضا كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع والذين يخالفون الانبياء من أهل الكفر وأهل البدع كالسحرة والكهان وسائر أنواع الكفار وكالمبتدعين من أهل الملل أهل العلم وأهل العبادة فهؤلاء مخالفون للادلة السمعية والعقلية للسماعية والعيانية مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول كما أخبر الله عنهم بقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير الآية فهؤلاء يخالفون أقوال الانبياء إما بالتكذيب وإما بالتحريف من التأويل وإما بالاعراض عنها وكتمانها فأما أن لا يذكروها أو يذكروا ألفاظها ويقولون ليس لها معنى يعرفه مخلوق كما أخبر الله عن أهل الكتاب أن منهم من يكذب في اللفظ ومنهم من يحرف الكلم في المعنى ومنهم جهال لا يفقهون ما يقرأون قال تعالى أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الى قوله فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وكذلك هم مخالفون للادلة العقلية فالانبياء كملوا الفطرة وبصروا الخلق كما تقدم في صفة محمد صلى الله عليه و سلم ان الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ومخالفوهم يفسدون الحس والعقل كما أفسدوا الأدلة السمعية والحس والعقل بهما تعرف الأدلة والطرق ثلاثة الحس والعقل والخبر فمخالفوا الانبياء أفسدوا هذا وهذا وهذا أما إفسادهم لما جاء عن الانبياء فظاهر وأما إفسادهم للحس والعقل فإنهم قسمان قسم أصحاب خوارق حسية كالسحرة والكهان وضلال العباد وقسم أصحاب كلام واستدلال بالقياس والمعقول وكل منهما يفسد الحس والعقل أما أصحاب الحال الشيطاني فقد عرف أن السحر يغير الحس والعقل حتى يخيل الى الانسان الشيء بخلاف ما هو وكذلك سائر الخوارق الشيطانية لا تأتي إلا مع نوع فساد في الحس أو العقل كالمولهين الذين لا تأتيهم إلا مع زوال عقولهم وآخرين لا تأتيهم إلا في الظلام وآخرين تتمثل لهم الجن في صورة الانس فيظنون أنهم إنس أو يرونهم

مثال الشيء فيظنون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه أو يسمعونهم صوتا يشبه صوت من يعرفونه فيظنون أنه صوت ذلك المعروف عندهم وهذا كثير موجود في أهل العبادات البدعية التي فيها نوع من الشرك ومخالفة للشريعة وأما أصحاب الكلام والمقال البهتاني فإنهم بنوا أصولهم العقلية واصول دينهم الذي ابتدعوه على مخالفة الحس والعقل فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحس والعقل فانهم يقولون إنا لا نشهد بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها بل كل ما نشهد حدوثه بل كل ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنما تحدث أعراض في الجواهر التي هي باقية لا تستحيل قط بل تجتمع وتتفرق والخلق عندهم الموجود في زماننا انما هو جمع وتفريق لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه ولا خلق لشيء قائم بنفسه لا انسان ولا غيره وإنما يخلق أعراضا ويقولون ان كا ما تشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر كل جوهر منها لا يتميز يمينه عن شماله وهذا مخالفة للحس والعقل كالاول ويقول كثير منهم إن الاعراض لا تبقى زمانين ويقولون انه لا يفنى ويعدم في زماننا شيء من الأعيان بل كما لا يحدث شيء من الأعيان لا يفنى شيء من الأعيان فهذا أصل علمهم ودينهم ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم واثبات الصانع وهو مخالف للحس والعقل ويقول الذين يثبتون الجوهر الفرد ان الفلك والرحى وغيرهما يتفكك كلما استدار ويقول كثير منهم إن كل شيء فإنه يمكن رؤيته وسمعه ولمسه الى غير ذلك من الامور التي جعلوها أصول علمهم ودينهم وهي مكابرة الحس والعقل
والمتفلسفة أضل من هؤلاء فانهم يجعلون ما في الذهن ثابتا في الخارج فيدعون أن ما يتصوره العقل من المعاني الغائبة الكلية موجودة في الجواهر قائمة بأنفسها إما مجردة عن الاعيان وإما مقترنة بها وكذلك العدد والمقدار والخلاء والدهر والمادة يدعون وجود ذلك في الخارج وكذلك ما يثبتونه من العقول والعلة الاولى الذي يسميه متأخروهم واجب الوجود وعامة ما يثبتونه من العقليات إنما

يوجد في الذهن فالذي لا ريب في وجوده نفس الانسان وما يقوم بها ثم ظنوا ما يقوم بها من العقليات موجودا في الخارج فكان افسادهم للعقل أعظم كما أن افساد المتكلمين للحس أعظم مع أن هؤلاء المتفلسفة عمدتهم هي العلوم العقلية والعقليات عندهم أصح من الحسيات وأولئك المتكلمون أصول علمهم هي الحسيات ثم يستدلون بها على العقليات وبسط هذه الامور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على أن من خالف الانبياء فإنه كما أنه مكذب لما جاءوا به من النبوة والسمع فهو مخالف للحس والعقل فقد فسد عليه الأدلة العقلية والنقلية والله سبحانه وتعالى أعلم

أقسام الكتاب
1 2 3