الكتاب : الرسالة القشيرية
المؤلف : القشيري


الجزء الثاني تابع المقامات
باب الرضا
قال الله عزَّ وجلَّ: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " .. الآية.
أخبرنا عليّ بن أحمد الأهوازي، رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن عبيد البصريّ، قال: حدثنا الكريمي، قال: حدّثنا يعقوب بن إسماعيل السلالّ، قال: حدثنا أبو عاصم العباداني، عن الفضل بن عيسى الرقاشيّ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " بينا أهلُ الجنة في مجلس لهم، إذ سطع لهم نورٌ على باب الجنة، سلوني. فقالوا: نسألك الرِّضا عنَّا، قال تعالى: رضاي قد أحلكم داري، وأنا لكن كرامتي، هذا أوانها، فاسألوني. قالوا: نسالك الزيادة. قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر.. أزمتها زُمُردٌ أخضر، وياقوت أحمر، فجاءوا عليها، تضع حوافرَها عند منتهى طرفها، فيأمر الله، سبحانه، بأشجار عليه الثمار، وتجيء جوار من الحوار العين، وهنَّ يقلن: نحن الناعمات فلا نبؤس، ونحن الخالدات فلا نموت، أزواج قو مؤمنين كرام، ويأمر الله، سبحانه،يكتبان من مسك أبيض أذفر، فتثير عليهم ريحاً يقوال لها المثيرة حتى تنتهي بهم إلى جنَّة عدن، وهي قصبةُ الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا، قد جاء القوم. فيقول الله: مرحباً بالصادقين.. مرحباً بالطائعين.
قال: فيكشف لهم الحجاب.. فينظرون إلى الله، عزّ وجلَّ.. فيتمنون بنور الرحمن، حتى لا يبصرَ بعضهم بعضاً، ثم يقول: أرجعوهم إني الصور بالتحف قال: فيرجعون، وقد أبصر بعضهم بعضاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك قوله تعالى: " نُزلاَ من غفور رحيم " .
وقد اختلف العراقيون والخراسانيون في الرِّضا: هل هو من الأحوال، أو من المقامات.
فأهل خراسان قالوا: الرضا: من جملة المقامات وهو نهاية التوكل، ومعناه: أنه ينول إلى أنه يتوصل إليه العبد باكتسابه.
وأما العراقيون؛ فإنهم قالوا: الرضا: من جملة الأحوال، وليس ذلك كسباً للعبد، بل هو نازلةٌ تحل بالقلب كسائر الأحوال.
ويمكن الجمع بين اللسانين؛ فيقال: بداية الرِّضا مكتسبة للعبد، وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال، وليست بمكتسبة.
وتكلم الناس في الرضا؛ فكل عبر عن حاله وشربه، فهم في العبارة، عنه مختلفون، كما أنهم في الشرب والنصيب من ذلك متفاوتون.
فأما شرط العلم، والذي هو لابد منه: فالراضي بالله تعالى، هو: الذي لا يعترض على تقديره.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرضا: أن لا تعترض على الحكم والقضاء.
واعلم أن الواجب على العبد: أن يرضى بالقضاء الذي أمر بالرضا به؛ إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد أو يجب عليه الرضا؛ كالمعاصي، وفنون محن المسلمين.
وقال المشايخ: الرِّضا باب الله الأعظم. يعنون: ن من أكرم بالرضا فقد لقي بالترحيب الأوفى، وأكرم بالتقريب الأعلي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: أخبرنا أبو جعفر الرازي قال: حدثنا العباس بن حمزة قال: حدثنا ابن أبي الحواري قال: قال عبد الواحد بن زيد: الرضا بابُ الله الأعظم، وجنة الدنيا.
واعلم: أن العبد لا يكاد يرضى عن الحق. سبحانه، إلا بعد أني رضى عنه الحق سبحانه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ قال: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " .
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: قال تلميذ لأستاذه: هذا يعرف العبد أن الله تعالى راضٍ عنه؟ فقال: لا، كيف يعلم ذلك. ورضاه غيب؟ فقال التلميذ: بل يعلم ذلك، فقال: كيف؟! فقال: إذا وجدت قلبي راضياً عن الله تعالى. علمت أنه راضٍ عني فقال الأستاذ: أحسنت يا غلام.
وقيل: قال موسى عليه السلام: إلهي، دلني على عمل إذا عملتهُ رضت به عني. فقال: إنك لا تُطيق ذلك: فخرّ موسى عليه السلام ساجداً له، متضرعاً، فأوحى الله تعالى إليه: يا ابن عمران، إن رضاي في رضاك بقضائي.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، قال: حدثنا العباس بن حمزة قال: حدثنا ابن ابي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راضٍ.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول:من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه.
وقال محمد بن خفيف: الرضا على قسمين: رضا به، ورضاع عنه؛ فالرضا به أن يرضاه مدبراً، والرضا عنه فيما يقضى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: طريق السالكين أطول، وهو طريق الرياضة، وطريق الخواص أقرب، لكنه أشقُّ، وهو أن يكون عملك بالرضا، ورضاك بالقضاء.
وقال رويم: الرضا: أن لو جعل الله جهنم على يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره.
وقال أبو بكر بن طاهر: الرضا: إخراج الراهية من القلب، حتى لا يكون فيه إلا فرح وسرور.
وقال الواسطي: استعمل الرضا جهدك، ولا تدع الرضا يستعملك؛ فتكون محجوباً بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع.
واعلم أن هذا الكلام الذي قاله الواسطي شيء عظيم، وفيه تنبيه على مقطعة للقوم خفية، فإن السكون عندهم إلى الأحوال: حجاب عن محول الأحوال، فإذا استلذ رضاه ووجد بقلبه راحة الرضا حجب بحاله عن شهود حقه.
ولقد قال الواسطي أيضاً: إياكم واستحلاء الطاعات، فإنها سموم قاتلة.
وقال أبن خفيف: الرضا: سكون القلب إلى أحكامه، وموافقة القلب بما رضي الله به واختاره له.
وسئلت رابعة العدوية: متى يكون العبد راضياً؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرَّته النعمة.
وقيل. قال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له الجنيد: قولك ذا ضيقُ صدر، وضِيقُ الصدر لترك الرضا بالقضاء، فسكت الشبلي.
وقال أبو سليمان الداراني: الرضا: أن لا تسأل الله تعالى الجنة، ولا تسعيذ به من النار.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري، رحمه الله، يقول: ثلاثة من أعلام الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن جعفر البغدادي يقول: سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: قيل للحسين بن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما: إنَّ أبا ذرٍّ يقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إلى من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنَّ غيرَ ما اختاره الله عز وجل له.
وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافيِّ: الرضا افضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
وسئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك الرضا بعد القضاء " فقال: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت ابن أبي حسان الأنماطي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: أرجوا أن أكون عرفت طرفاً من الرضا: لو انه أجخلني النار لكنت بذلك راضياً.
وقال أبو عمر الدمشقي: الرِّضا: ارتفاع الجزع في أيَّ حكم كان، وقال الجنيد: الرضا: رفع الاختيار، وقال ابن عطاء: الرضا: نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط، وقال رُويم. الرضا: استقبال الأحكام بالفرح، وقال المحاسبي: الرضا: سكون القلب تحت مجاري الأحكام، وقال النوري: الرضا: سرور القلب بُمرِّ القضاء.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: من رضي بدون قدره رفعه الله تعالى فوق غايته.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت الحسن بن علوية يقول: قال أبو تراب النخشبي: ليس ينال الرضا من للدنيا في قلبه مقدار.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان قال: حدثنا عبد الله بن شترويه قال: حدثنا بشر بن الحكم قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن الهادي، عن محمد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً " .
وقيل: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، " أما بع، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضي، وإلا، فاصبر " .
وقيل: إنَّ عتبة الغلام بات ليلة يقول إلى الصباح: " إن تعذبني فأنا لك محبُ، وإن ترحمني فأنا لك محب " .
سمت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: الإنسان خزف، وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحقِّ تعالى.
وقال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله، عز وجل، في حال فكرهتهُ، وما نقلني إلى غير فسخطته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: غضب رجل على عبدٍ له، فاستشفع العبد إلى سيده إنساناً، فعفا عنه، فأخذ العبد يبكي، فقال له الشفيع: لمَ تبكي وقد عفا عنك سيدك؟ فقال له السيدُ: إنما يطلب الرضا مني ولا سبيل له إليه، فإنما يبكي لأجله.

باب العبودية

قال الله عزَّ وجلَّ: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " .
وأخبرنا أبو الحسن الإهوازي، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال حدثنا عبيد بن شريك قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا مالك، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن عمر بن الخطاب، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سعبة يظلهم الله في ظلهّ يوم لا ظلّ إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادةِ الله تعالى. ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: العبودية أتم من العبادة، فأولاً: عباة، ثم عبودية؛ ثم عبودة.
فالعبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخاص.
وسمعته يقول: العبادة: لمن له علم اليقين، والعبودية؛ لمن له عين اليقين، والعبوة: لمن له حق اليقين.
وسمعته يقول: العبادة: لأصحاب المجاهدات، والعبودية: لأرباب المكابدات، والعبودة: صفة أهل المشاهدات، فمن لم يدخر عنه نفسه، فهو صاحب عبادة، ومن لم يضن عليه بقلبه فهو صاحب عبودية: ومن لم يبخل عليه بروحه فهو صاحب عبودة.
ويقال: العبودية: القيام بحق الطاعات بشرط التوفير والنظير إلى ما منك بعين التقصير، وشهود ما يحصل من مناقبك من التقدير.
ويقال: العبودية: ترك الاختيار فيما يبدو من الأقدار.
ويقال: العبودية: التبرؤ من الحول والقوة، والإقرارُ بما يعطيك ويوليك من الطول والمنة.
ويقال: العبودية: معانقة ما أمرت به، ومفارقة مازجرت عنه.
وسئل محمد بن خفيف: متى تصح العبودية؟ فقال: إذا طرح كل علي مولاه، وصبر معه على بلواه.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت ابن مسروق يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يصح التعبد لأحدٍ حتى لا يجزع من أربعة أشياء: من الجوع، والعري، والفقر، والذلّ.
وقيل: العبودية: أن تسلم إليه كلكَ، وتحمل عليه كلك.
وقيل: من علامات العبودية: تركُ التدبير، وشهودُ التقدير.
وقال ذو النون المصري: العبودية: أن تكون أنت عبده في كل حال، كما أنه ربك في كلًّ حال.
وقال الجريري: عبيدُ النمم كثير عديدهم؛ وعبيدُ المنعم عزيزٌ وجودهم.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: أنت عبدُ من أنت في رقة وأسره، فإن كنت في أسر نفسك فأنت عبدُ نفسك، وإن كنت فيأسر دنياك فأنت عبدُ دنياك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة " .
ورأى أبو رزين رجلاً فقال له: ما حرفتك؟ فقال: خربندة " .
فقال: أما الله تعالى حمارك، لتكون عبد الله، لا عبد الحمار.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: لا تصفو لأحد قدمٌ في العبودية حتى يشاهد أعماله عنده رياء، وأحواله دعاوى. وسمعته يقول: سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: العبد عبد ما لم يطلب لنفسه خادماً، فإذا طلب لنفسه خادماً فقد سقط عن حد العبودية وترك آدابها.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت ابن مسروق يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يصلح للعبد التعبد حتى يكون بحيث لا يرى عليه أثر المسكنة في العدم، ولا أثر الغنى في الوجود.
وقيل: العبودية شهود الربوبية.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: قيمة العابد بمعبوده، كماأن شرف العارف بمعروفه.
وقال أبو حفص: العبودية زينة العبد، فمن تركها تعطل من الزينة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا جعفر الرازي يقول سمعت عباس بن حمزة يقول: حدثنا أحمد بن الحواري قال: سمعت النباجي يقول: اصل العبادة في ثلاثة أشياء: لا ترد من أحكامه شيئاً، ولا تدخر عنه شيئاً، ولا يسمعك تسأل غيره حاجة. وسمعته يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: العبودية في أربع خصال: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر عن المفقود.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الكتاني يقول: سمعت عمرو بن عثمان المكيَّ يقول: ما رأيت أحداً من المتعبدين، في كثرة من لقيت بمكة وغيرها، ولا أحداً ممن قدم علينا في المواسم أشد اجتهاداً ولا أدوم على العبادة من المزني، رحمه الله تعالى، ولا رأيت أحداً اشد تعظيماً لأوامر الله تعالى عنه، وما رأيت أحداً أشد تضييقاً على نفسه وتوسعة على الناس منه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: ليس شيء أشرف من العبودية، ولا أسم أتم للمؤمن من الاسم له بالعبودية، ولذلك قال سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج - وكان أشرف أوقاته في الدنيا - " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام " . وقال تعالى: " فأوحى إلى عبه ما أوحى " ، فلو كان اسمٌ أجل من العبودية لسماه به.
وفي معناه أنشدوا:
يا عمرو ثاري عند زهرائي ... يعرفهُ السامعُ والرائي
لا تدعني إلا بياعبدها ... فإنه أشرف أسمائي
وقال بعضهم: إنماهم شيئان: سكونك إلى اللذة، واعتمادك على الحركة، فإذا أسقطت عنك هذين فقد أديتَ العبودية حقها.
كما قال الواسطي: احذروا لذة العطاء؛ فإنها غطاء لأهل الصفاء.
وقال أبو علي الجوزجاني: الرضا: دار العبودية، والصبر بابه، والتفويض بيته، فالصوت على الباب والفراغة في الدار، والراحة في البيت.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدقاق يقول: كما أن الربوبية نعت للحقَّ سبحانه لا يزول عنه، فالعبودية صفة للعبد لا تفارقه ما دام.
وأنشد بعضهم:
فإن تسألوني قلت: هاأنا عبدهُ ... وإن سألوه قال هاذاك مولايا
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت النصراباذي يقول: العبادات إلى طلب الصفح والعفو عن تقصيرها أقربُ منها إلى طلب الإعواضِ والجزاء عليها.

وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: العبودية اسقاط رؤية التبعد في مشاهدة المعبود.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الجريري يقول. سمعت الجنيد يقول: العبودية، تركُ الأشغال، والاشتغالُ بالشغل الذي هو أصل الفراغة.

باب الإرادة

قال الله عزَّ وجلَّ: " ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشى يريدون وجهه " .
وأخبرنا: علي بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا هشام بن علي قال: حدثنا الحكم بن أسلم قال: أخبرنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله. فقيل له: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت " .
والإرادةُ: بدء طريق السالكين، وهي أسم لأول منزلة القاصدين إلى الله تعالى.
وإنما سميت هذه الصفة: إرادة؛ لأن الإرادة مقدمة كلِّ أمر، فما لم يُرد العبد شيئاً لم يفعله، فلما كان هذا أوَّل الأمر لمن سلك طريق الله عز وجل سُمي: إرادة تشبيهاً بالقصد في الأمور الذي هو مقدمتها.
والمريد، على موجب الاشتقاق: من له إرادة، كما أن العالم: من له علم؛ لأنه من الأسماء المشتقة.
ولكن المريد في عُرف هذه الطائفة: من لا إرادة له، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريداً، كما أنَّ من لا إرادة له، علي موجب الاشتقاق لا يكون مريداً.
وتكلم الناس في معنى الإرادة؛ فكلٌّ عبر على حسب ما لاح لقلبه، فأكثر المشايخ قالوا: الإرادة: ترك ما عليه العادة وعادة الناس - في الغالب - التعريج في أوطان الغفلة، والركونُ إلى اتباع الشهوة، والإخلادُ إلى ما دعت إليه المنية.
والمريد منسلخ عن هذه الجملة؛ فصار خروجه إمارة ودلالة على صحة الإرادة، فسميت تلك الحالة: إرادة، وهي خروج عن العادة؛ فإن ترك العادة أمارة الإرادة.
فأما حقيقتها: فهي نهوض القلب في طلب الحق، سبحانه، ولهذا يقال: إنها لوعةٌ تهون كل روعة.
سمت: الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول حاكياً على ممشاد الدينوري، أنه قال: مذ علمتُ أن أحوال الفقراء جد كلها لم أمازح فقيراً؛ وذلك أن فقيراً قدم عليَّ فقال: أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة. فجرى على لساني إرادة وعصيدة فتأخر الفقير ولم أشعر به، فأمرتُ باتخاذ عصيدة.. وطلبت الفقير. فلم أجده.. فتعرفت خبره.. فقيل لي: إنه انصرف من فوره، وكان يقول في نفسه: إرادة وعصيدة.. إرادة وعصيدة.. وهام على وجهه حتى دخل البادية، ولم يزل يقول هذه الكلمات حتى مات.
وعن بعض المشايخ قال: كنت بالبادية وحدي، فضاق صدري، فقلت: يا إنس، كلموني.. يا جن كلموني، فهتف بين هتف: ما تريد؟ فقلت: أريد الله تعالى، فقال: متى تريد الله؟ يعني: أن من قال للجن والإنس: كلموني، متى يكون مريداً لله عزَّ وجلَّ؟! والمريد لا يفتر آناء الليل والنهار، فهو في الظاهر بنعت المجاهدات،وفي الباطن بوصف المكابدات.. فارق الفِراش، ولازم الانكماش، وتحمل المصاعب، وركب المتاعب، وعالج الأخلاق، ومارس المشاق، وعانق الأهوال، وفارق الأشكال، كما قيل:
ثم قطعت الليل في مهمةٍ ... لا أسد أخشى ولا ذيبا
يغلبني شوقي فأطوي السرى ... ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
سمعت: الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الإرادة: لوعة في الفؤاد.. لدغة في القلب.. غرام في الضمير.. انزعاج في الباطن.. نيران تتأجج في القلوب.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا بكر السباك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: كان بين أبي سليمان وأحمد بن أبي الحواري عقد: لا يخالفه أحمد في شيء يأمره به.. فجاءه يوماً وهو يتكلم في مجلسه، فقال: إن التنور قد سجر، فما تأمر؟ فلم يجبه، فقال مرتين أو ثلاثة، فقال أبو سليمان: اذهب فاقعد فيه!! كأنه ضاق به قلبه، وتغافل عنه أبو سليمان ساعة، ثم ذكر فقال: ادركوا أحمد فإنه في التنور؛ لأنه آلى على نفسه أن لا يخالفني؛ فنظروا فإذا هو في التنور لم تحترق منه شعرة.
وسمعت الأستاذ أبا علي يقول: كنت في ابتداء صباي محترقاً في الإرادة وكنت أقول في نفسي: ليت شعري!! ما معنى الإرادة.

وقيل: من صفات المريدين: التحبب إليه بالنوافل، والخلوص في نصيحة الأمة، والأنس بالخلوة، والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمره، والحياءُ من نظره، وبذل المجهود في محبوبه، والتعرض لكل سبب يتوصل إليه، والقناعة بالخمول، وعدم القرار بالقلب إلى أن يصل إلى الرب.
وقال أبو بكر الوراق: آفة المريد ثلاثةُ أشياء: التزويج، وكتبة الحديث، والأسفار.
وقيل له: لِمَ تركت كتابة الحديث؟ فقال: منعتني عنها الإرادة.
وقال حاتم الأصم: إذا رأيت المريد يريد غير مراده، فاعلم أن قد أظهر بذلته.
سمعت: محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الكناني يقول: مِن حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة اشياء: نومه غلبة، وأكله فاقة، وكلامه ضرورة.
وسمعته يقول: سمت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا أراد الله تعالى بالمريد خيراً أوقعه إلى الصوفية، ومنعه صحبة القُراء.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الرًّقي يقول: سمعت الدقاق يقول: نهاية الإرادة أن تشير إلى الله تعالى فتجده مع الإشارة، فقلت: فأي شيء يستوعب الإرادة؟ فقال: أن تجد الله تعالى بلا إشارة.
سمعت: محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت عباس بن أبي الصحو يقول: سمعت أبا بكر الدقاق يقول: لا يكون للرد مريداً حتى لايكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة.
وقال أبو عثمان الحيري: من لم تصح إرادته بداراً لا يزيد مرور الأيام عليه إلا إدباراً.
وقال أبو عثمان: المريد إذا سمع شيئاً من علوم القوم فعمل به صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره، ينتفع به، ولو تكلم به انتفع به من سمعه. ومن سمع شيئاً من علومهم، ولم يعمل به، كان حكاية يحفظها أياماً ثم ينسها.
وقال الواسطي: أول مقام المريد: إرادة الحقّ، سبحانه، بإسقاط إرادته.
وقال يحيى بن معاذ: أشد شيء علي المريدين: معاشرة الأضداد.
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا القاسم الرازيّ يقول: قال يوسف بن الحسين: إذا رأيت المريد يشتغل بالّرُّخص والكسب؛ فليس يجيء منه شيء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت جعفراً الخالدي يقول: سئل الجنيد: ما للمريدين في مجاراة الحكايات؟ فقال: الحكايات جند من جنود الله تعالى، يقوي بها قلوب المريدي. فقيل له : فهل لك في ذلك شاهد؟ فقال: نعم، قوله عزّ وجلّ: " وكلاَّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك " .
وسمعته يقول: سمعت محمد بن خالد يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: المريد الصادق غني عن علم العلماء.
فأما الفرق بين المريد والمراد: فكلُّ مريد على الحقيقة مرا. إذ لو لم يكن مراد الله تعالى بن يريده لم يكن مريداً؛ إذ لا يكون إلا ما أراده الله تعالى، وكل مرادٍ مريد؛ لأنه إذا أراده الحقُّ سبحانه بخصوصية وفقه للإرادة. ولكن القوم فرقوا بين المريد والمراد: فالمريد عندهم هو المبتدىء، والمراد: هو المنتهي، والمريد: الذي نصب بعين وألقى في مقاسات المشاقّ، والمراد: الذي كفى بالأمر من غير مشقة، فالمريد متعنِّ، والمراد: مرفوق به مرفَّه.
وسنَّة الله تعالى مع القاصدين مختلفة، فأكثرهم يوفقّون للمجاهدات، ثم يصلون، بعد مقاساة اللتيَّا والتي، إلى سنِّي المعاني. وكثير منهم يكاشفون في الابتداء بجليل المعاني، ويصلون إلا ما لم يصل إليهكثيرون من أصحاب الرياضات، إلا أن أكثرهم يردّون إلى المجاهدات بعد هذه الأرفاق؛ ليستوفي منهم ما فاتهم من أحكام أهل الرياضة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: متحمِّل، والمراد محمول.
وسمعته يقول: كان موسى، عليه السلام، مريداً، فقال: " ربي اشرح لي صدري " ، وكان نبينا، صلى الله عليه وسلم، مراداً، فقال الله تعالى: " ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك " . وكذلك قال موسى عليه السلام: " رب، أرني أنظر إليك، قال: لن تراني " وقال لنبينا، صلى الله عليه وسلم: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظلَّ " .
وكان أبو علي يقول: إن المقصود قوله " ألم تر إلى ربك " وقوله: " كيف مد الظل " : ستر للقصة وتحصين للحالة.
وسئل الجنيد، رحمه الله، عن المريد والمراد، فقال:

المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: تتولاه رعاية الحق، سبحانه، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر؟ وقيل: أرسل ذو النون إلى أبي يزيد رجلاً، وقيل له: قل له إلى متى النوم والراحة، وقد جازت القافلة؟! فقال أبو يزيد: قل لأخي ذي النون: الرجل من ينام الليل كله، ثم يصبح في المنزل قبل القافلة.
فقال ذو النون: هنيئاً له؛ هذا كلام لا تبلغه أحوالنا.

باب الاستقامة

قال الله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " .
أخبرنا: الإمام أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: أخبرنا أبو بشر يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان مولي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير دينكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
والاستقامة: درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده؛ قال الله تعالى: " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً " .
ومن لم يكن مستقيما في صفته لم يرتق من مقامه إلى غيره، ولم يبن سلوكه على صحة؛ فمن شرط المستأنف: الاستقامة في أحكام البداية، كما أن من حق العارف الاستقامة في آداب النهاية.
فمن أمارات استقامة أهل البداية: أن لا تشوب معاملاتهم فترة.
ومن أمارات استقامة أهل الوسائط: أن لا يصحب منازلهم وقفة.
ومن أمارات استقامة أهل النهاية: أن لاتتداخل مواصلتهم حجبة.
سمعت: الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: الاستقامة؛ لها ثلاثة مدارج: أولها: التقويم، ثم الإقامة، ثم الاستقامة؛ فالتقويم، من حيث تأديب النفوس. والإقامة: من حيث تهذيب القلوب، والاستقامة: من حيث تقريب الأسرار.
وقال أبو بكر، رضي الله عنه، في معنى قوله: " ثم استقاموا " : لم يشركوا.
وقال عمر، رضي الله عنه، لم يزوغوا زوغان الثعالب.
فقول الصدّيق، رضي الله عنه، محمول على مراعاة الأصول في التوحيد.
وقول عمر، رضي الله عنه، محمول علي طلب التأويل والقيام بشرط العهود.
وقال ابن عطاء: استقاموا على انفراد القلب بالله تعالى.
وقال أبو علي الجوزجائي: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربُّك، عز وجلّ، يطالبك بالاستقامة.
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عليّ الشَّبوي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: روى عنك يا رسول الله أنك قلت: " شيبتني هود " فما الذي شيبك منها: قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال: لا، ولكن قوله تعالى: " فاستقم كما أمرت " .
وقيل: إن الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " استقيموا ولن تحصوا " .
وقال الواسطي: الخصلة التي بها كملت المحاسن، وبفقدها قبحت المحاسن: الاستقامة.
وحكى عن الشبلي، رحمه الله، أنه قال: الاستقامة: أن تشهد الوقت قيامة.
ويقال: الاستقامة في الأقوال: بترك الغيبة، وفي الأفعال: بنفي البدعة، وفي الأعمال بنفي الفترة،وفي الأحوال بنفي الحجبة.
سمعت: الأستاذ الإمام أبا بكر محمد بن الحسين بن فورك يقول: السيد في الاستقامة: سين الطلب، أي: طلبوا من الحقّ، تعالى، أن يقيمهم على توحيدهم، ثم على استدامة عهودهم، وحفظ حدودهم.
قال الأستاذ: واعلم أن الاستقامة: توجب دوام الكرامات، قال الله تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا " ولم يقل: سقيناهم، بل قال: " أسقيناهم " يقال: أسقيته إذا جعلت له سقيا؛ فهو يشير إلى الدوام.
سمعت: محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد يقول: سمعت أبا العباس الفرغني يقول: قال الجنيد: لقيت شاباً من المريدين في البادية تحت شجرة من شجر أم غيلان فقلت: ما أجلسك ها هنا؟ فقال: مال افتقدته، فمضيت وتركته. فلما انصرفت من الحج إذا أنا بالشاب قد انتقل إلى موضع قريب من الشجرة، فقلت: ما جلوسك هنا؟ فقال: وجدت ما كنت أطلبه في هذا الموضع فلزمته.

فقال: الجنيد: فلا أدري أيُّهما كان أشرف: لزومه لا فتقاد حاله، أو لزومه للموضع الذي نال فيه مراده.

باب الإخلاص

قال الله تعالى: " ألا لله الدين الخالص " .
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا جعفر بن محمد الغرياني قال: حدثنا أبو طلوت قال: حدثني هانيء بن عبد الرحمن بن أبي عقبة، عن إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي قال: حدثني عطية ابن وشاح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله علي وسلم: " ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله؛ ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين " .
وقال الأستاذ: الإخلاص، إفراد الحق، سبحانه، في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر؛ من تصنُّع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرّب به إلى الله تعالى.
ويصحّ أن يقال: الإخلاص: تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين.
ويصحّ أن يقال الإخلاص: التوقيّ عن ملاحظة الأشخاص.
وقد ورد خبر مسند: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر جبريل، عليه السلام، عن الله سبحانه وتعالى، أنه قال: الإخلاص سر من سري، استودعته قلب من أحببته من عبادي " .
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: وقد سألته عن الإخلاص: ما هو؟ فقال: سمعت: علي بن سعيد، وأحمد بن محمد بن زكريا، وقد سألتهما عن الإخلاص، فقالا: سمعنا علّي بن إبراهيم الشقيقي، وقد سألناه عن الإخلاص، فقال: سمعت: محمد بن جعفر الخصّاف، وقد سألته عن الإخلاص، فقال: سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أبا يعقوب الشريطيّ عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت أحمد بن غسّان عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت الحسن عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص: ما هو؟ قال: سألت ربِّ العزة عن الإخلاص: ما هو؟ قال: " سرّ من سرّي استودعته قلب من أحببته من عبادي " .
سمعت: الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: الإخلاص: التوقيِّ عن ملاحظة الخلق، والصِّدق: التنقيِّ من مطالعة النفس فالمخلص؛ لا رياء له، والصادق: لا إعجاب له.
وقال ذو النون المصري: الإخلاص: لا يتم إلا بالصدق فيه، والصبر عليه، والصدق لا يتمّ إلا بالإخلاص فيه والمداومة عليه.
وقال أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الخلاص إحتاج إخلاصهم إلى إخلاص.
وقال ذو النون: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامّة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: الإخلاص: ما يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام.وأما إخلاص الخواصّ: فهو ما يجري عليهم، لا بهم، فتبدو منهم الطاعات، وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية، ولا بها اعتداد، فذلك: إخلاص الخواصِّ.
وقال أبو بكر الدقاق: نقصان كلّ مخلص في إخلاصه: رؤية إخلاصه؛ فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه؛ فيكون مخلصاً لامخلصا.
وقال سهل: لا يعرف الربء إلا مخلص.
سمعت أبا حاتم السجتاني يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا عليّ الروذباري يقول: قال لي رويم: قال أبو سعيد الخرّاز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين.
وقال ذو النون: الإخلاص: ما حفظ من العدو أن يفسده.
وقال أبو عثمان: نسيان رؤية الخلق به وام النظر إلى فضل الخالق.
وقال حذيفة المرعشي: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن.
وقيل: الإخلاص: ما أريد به الحقُ، سبحانه، وقُصد به الصدق.
وقيل: الإغماضُ عن رؤية الأعمال.
سمعت: محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الحسين الفراسي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عليَّ بن عبد الحميد يقول: سمعت السري يقول: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى.

وسمعته يقول: سمعت عليّ بن بندار الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن محمود يقول: سمعت محمد بن عبد ربه يقول: سمعت الفضيل يقول ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما.
وقال الجنيد: الإخلاص سرٌّ بين الله تعالى وبين العبد، لايعلمه مَلكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
وقال رويم: الإخلاص من العمل هو: الذي لايريد صاحبه عليهِ عوضاً من الدارين، ولا حظً من الملكين.
وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيء أشدُّ على النفس؟ فقال: الإخلاص: لأنه ليس لها فيها نصيب.
وسئل بعضهم عن الإخلاص: فقال: أن لا تشهد على عملك غير الله عز وجل.
وقال بعضهم: دخلت علي سهل بن عبد الله يوم جمعة قبل الصلاة بيتاً.. فرأيت في البيت حيَّة. فجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فقال: ادخل، لا يبلغ أحدٌ حقيقة الإيمان وعلى وجه الأرض شيء يخافه. ثم قال: هل لك في صلاة الجمعة؟ فقلت: بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة.. فأخذ بيدي، فما كان إلا قليل حتى رأيت المسجد، فدخلناه؛ وصلينا الجمعة. ثم خرجنا؛ فوقف ينظر إلى الناس وهم يخرجون، فقال: أهل لا إلهَ إلا الله كثير، والمخلصون منهم قليل.
أخبرنا: حمزة بن يوسف الجرجاني قال: حدثنا محمد بن محمد بن عبد الرحيم قال: حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي قال: حدثنا أبو قرصافة محمد بن عبد الوهاب العسقلاني قال: حدثنا زكريا بن نافع قال: حدثنا محمد بن يزيد القراطيسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن مكحل قال: ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً، إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: أعزُّ شيء في الدنيا الإخلاصُ، وكن أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبث فيه على لون آخر.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت أبا الجهم يقول: سمعت ابن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء.

باب الصدق

قال الله تعالى: " ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " .
أخبرنا: الإمام أبو بكر محمد بن فورك، رحمه الله، قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: حدثنا أبو بشر يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّقاً، ولا يزال يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " .
قال الأستاذ: والصدق: عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة، قال الله تعالى: " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.. " الآية.
والصادق الاسم اللازم من الصدق، والصديق المبالغة منه: وهو الكثير الصدق، الذي الصدق غالبه، كالسكير والخمير.. وبابه.
وأقل الصدق: استواء السر والعلانية. والصادق: من صدق في أقواله.
والصديق: من صدق في جميع أقواله، وأفعاله وأحواله.
وقال أحمد بن خضروية: من أراد أن يكون الله تعالى معه فليلزم الصدق؛ فإن الله تعالى قال: " إن الله مع الصادقين " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: الصادق: ينقلب في اليوم أربعين مرّة، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة.
وقال أبو سليمان الداراني: لو أراد الصادق أن يصف ما في قلبه ما نطق به لسانه.
وقيل الصدق: القول بالحق في مواطن الهلكة.
وقيل: الصدق: موافقة السرِّ النطق.
وقال القناد: الصدق: منع الحرام من الشدق.
وقال عبد الواحد بن زيد: الصدق: الوفاء لله سبحانه بالعمل.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره.
وقال أبو سعيد العرشي: الصادق: الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحي من سره لو كشف، قال الله تعالى: " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " .

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: كان أبو علي الثقفي يتكلم يوماً، فقال له عبد الله بن منازل: يا أبا علي، استعد للموت فلا بد منه. فقال أبو عليّ: وأنت يا عبد الله، استعد للموت فلا بد منه. فتوسد عبد الله ذراعه، ووضع رأسه، وقال: قد مِتُّ.
فانقطع أبو علي؛ لأنه لم يمكنه أن يقابله بما فعل، لأنه كان لأبي عليِّ علاقات وكان عبد الله مجرداً لا شغل له.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: كان أبو العباس الدينوري يتكلم.. فصاحت عجوز في المجلس صيحة، فقال لها أبو العباس الدينوري: مُوتي.. فقامت وخطت خطوات.. ثم التفتت إليه، وقالت:قد مِتُّ. ووقعت ميّتة.
وقال الواسطي: الصدق: صحة التوحيد مع القصد.
وقيل: نظر عبد الواحد بن زيد إلى غلام من أصحابه قد نحل بدنه، فقال: يا غلام، أتديم الصوم؟ فقال: ولا أديم الإفطار. فقال: أتديم القيام بالليل؟ فقال: ولا أديم النوم.
فقال: فما الذي أنحلك؟ فقال: هوى دائم.. وكتمان دائم عليه. فقال عبد الواحد: اسكت؟ فما أجرأك!! فقام الغلام، وخطا خطوتين، وقال إلهي، إن كنت صادقاً فخذني؛ فخر ميتاً.
وحكي عن أبي عمرو الزجاجي أنه قال: ماتت أمي.. فورثت منها داراً، فبعتها بخمسين ديناراً.. وخرجت إلى الحج، فلما بلغت باب استقبلني من واحد القناقنة وقال: ما معك؟ فقلت في نفسي: الصدق خير.. ثم قلت: خمسون ديناراً. فقال: ناولنيها. فناولته الصرة.. فعدَّها؛ فإذا هي خمسون ديناراً. فقال: خدثها؛ فلقد أخذني صدقك. ثم نزل عن الدابة، وقال: أركبها. فقلت: لا أريد! فقال لابد. وألحَّ عليَّ.
فركبتها. فقال: وأنا على أثرك.
فلما كان العام المستقبل لحق بي، ولازمني حتى مات.
سمت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً الخواص يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: الصادق. لا نراه إلا في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين بن مقسم يقول: سمعت جعفراً الخواص يقول: سمعت الجنيد يقول: حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب.
وقيل: ثلاثة لا تخطىء الصادق: الحلاوةُ، والهيبة، والملاحة.
وقيل: أوحى الله، سبحانه، إلى داود عليه السلام، يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته.
وقيل: دخل إبراهيم بن دوحة مع غبراهيم بن ستنبة البادية، فقال إبراهيم بن ستنبة: اطرح ما معك من العلائق. قال: فطرحت كل شيء إلا ديناراً فقال: يا إبراهيم، لاتشغل سري، اطرح ما معك من العلائق!! قال: فطرحت الدينار، ثم قال: يا إبراهيم، اطرح ما معك من العلائق!!. فتذكرت أن معي شسوعاً للنعل، فطرحتها، فما أحتجت في الطريق إلى شسع إلاَّ وجدته بين يدي.
فقال: إبراهيم بن ستنبة: هكذا من عامل الله تعالى بالصدق.
وقال ذو النون المصري، رحمه الله: الصدق سيف الله، ما وُضع على شيء، إلا قطع.
وقال سهل بن عبد الله: أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم.
وسئل فتح الموصلي عن الصدق، فأدخل يده في كير الحداد.. وأخرج الحديدة المحماة.. ووضعها على كفه، وقال: هذا هو الصدق.
وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله تعالى بالصدق أحب إلى من أن أضرب بسيفي في سبيل الله تعالى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: الصدق أن تكون مع الناس كما تَرى من نفسك، أو أن ترى من نفسك كما تكون.
وسئل الحارث المحاسبي عن علامة الصدق، فقال: الصادق: هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يُطلع الناس على السيء من عمله؛ فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من أخلاق الصديقين.
وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت.
وقيل له: ما الفرض الدائم؟ قال: الصدق.
وقيل: إذا طلبت الله بالصدق أعطاك مرآة تُبصر فيها كلَّ شيء من عجائب الدنيا والآخرة.
وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك؛ فإنه يضرك.
وقيل: كل شيءٍ، ومصادقة الكذاب لا شيء.
وقيل: علامة الكذاب جوده باليمين بغير مستحلف.
وقال ابن سيرين: الكلامُ أوسع من أن يكذب طريف.
وقيل: ما أملق تاجر صدوق.

باب الحياء

قال الله تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " .
وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبدوس الحيري! المزكي قال: أخبرنا أبو سهل أحمد ابن محمد بنزياد النحويُّ ببغداد قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الهيثم قال: حدثنا موسى بن حيان قال: حدثنا المقدمي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافقع، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" الحياء من الإيمان " .
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الاسماعيلي قال: حدثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري قال: حدثنا أبو أحمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا يعلى بن عبيد قال: حدثنا أبان بن إسحق، عن الصباح بن محمد، عن مُرَّة الهمذاني، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم لأصحابه: " استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحي يا نبي الله، والحمد الله.
قال: ليس ذلك، ولكن ن استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعي، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: أخبرنا أبو نصر الوزيري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد قال: حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن مخلد، عن أبيه قال: قال بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يُستْحا منه.
وسمعته يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت ابن عطاء يقول: العلم الأكبر: الهيبة والحياء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحياء لم يبق فيه خير.
وسمعته يقول: سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب يقول: حدثني محمد بن عبد الملك قال: سمعت ذا النون المصري يقول: الحياء وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربك تعالى.
وقال ذو النون المصري: الحبُّ ينطق، والحياة يسكب، والخوف يقلق.
وقال أبو عثمان: من تكلم في الحياء ولا يستحي من الله عز وجل فيما يتكلم به، فهو مستدرج.
سمعت أبا بكر بن أشكيب، يقول: دخل الحسن بن الحداد على عبد الله ابن منازل، فقال: من أين تجيء؟ فقال: من مجلس أبي القاسم المذكر. قال: في ماذا كان يتكلم؟ فقال: في الحياء. فقال عبد الله: واعجباه!! من لم يستح من الله تعالى كيف يتكلم في الحياء؟! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت أحمد بن صالح يقول: سمعت محمد بن عبدون يقول: سمعت أبا العباس المؤدب يقول: قال السريَّ: إن الحياء والأنس يطرقان القلب؛ فإن وجدا فيه الزهد والورع حطا، وإلا رحلا.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الجريري يقول: تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين، حتى رق الدين.. ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة.
وقيل في قوله تعالى: " ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه " .
البرهان: أنها ألقت ثوباً على وجه صنم في زاوية البيت، فقال يوسف عليه السلام: ماذا تفعلين؟ فقالت: استحي منه، قال يوسف عليه السلام: أنا أولى منك أن أستحي من الله تعالى.
وقيل في قوله تعالى: " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قيل: إنما استحيت منه؛ لأنها كانت تدعوه إلى الضيافة، فاستحيت أن لا يجيب موسى عليه السلام، فصفة المضيف الاستحياء، وذلك استحياء الكرم.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله. يقول: سمعت عبد الله بن الحسين يقول. سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله. يقول: سمعت أبا عبد الله العمري يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراتي يقول: قال ألله تعالى: " يا عبدي إنك ما استحييت مني؛ أنسيتُ الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، ولا أناقشك في الحساب يوم القيامة " .
وقيل: رؤى رجل يصلي خارج المسجد، فقيل له: لم لا تدخل المسجد فتصلي فيه؟ فقال: استحى منه تعالى أن أدخل بيته، قد عصيته!! وقيل: من علامات المستحي: أن لايرى بموضع يستحيا منه.
وقال بعضهم: خرجنا ليلة فمررنا بأجمة، فإذا رجل نائم، وفرص عند رأسه ترعى، فحركناه، وقلنا له: ألا تخاف أن تنام في مثل هذا الموضع المخوف وهو مًسبع؟

فرفع رأسه، وقال: أنا أستحي منه تعالى، أن أخاف غيره، ووضع رأسه ونام.
وأوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السلام: عظ نفسك؛ فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستح مني أن تعظ الناس.
وقيل: الحياء على وجوه: حياء الجناية؛ كآدم، عليه السلام، لما قيل له: أفراراً منا!! فقال: لا، بل حياء منك.
وحياء التقصير؛ كالملائكة يقولون: سبحانه: ما عبدناك حق عبادتك.
وحياء الإجلال؛ كإسرافيل، عليه السلام، تسربل بجناحه حياء من الله عزَّ وجلَّ.
وحياء الكرم؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم، كان يستحي من أمته أن يقول لهم: أخرجوا، فقال الله عز وجلَّ: " ولا مستأنسين لحديث " .
وحياء حشمة؛ كعلى، رضي الله عنه، حين سأل المقداد بن الأسود حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم خروج المذي، لمكان فاطمة رضي الله عنها.
وحياء الاستحقار؛ كموسى عليه السلام، قال: إني لنعرِض لي الحاجة من الدنيا، فاستحي أن أسألك يا رب، فقال لله عز وجل له: سلني حتى عن ملح عجينك، وعلق شاتك.
وحياء الإنعام، هو حياء الرب سبحانه، يدفع إلى العبد كتاباً مختوماً بعد ما عبر الصراط، وإذا فيه: فعلتَ ما فعلتَ، وقد استحييت أن أظهره عليك، فاذهب، فإني قد غفرت لك.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في هذا الخبر: إن يحيى بن معاذ قال: سبحان من يذنب العبد فيستحي هو منه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت زنجوية اللباد يقول: سمعت علي بن الحسين الهلالي يقول: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: خمس من علامات الشقاء: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
وفي بعض الكتب: ما أنصفني عبدي، يدعوني فأستحي ن أرده، ويعصيني فلا يستحي مني.
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعاً استحيا الله تعالى منه وهو مذنب.
وأعلم أن الحياء: يوجب التذويب، فقال: الحياء: ذوبان الحشا لاطلاع المولى.
ويقال: الحياء: انقباض القلب، لتعظيم الرب وقيل: إذا جلس الرجل ليعظ الناس ناداه ملكاه: عظ نفسك بما تعظ به أخاك، وإلا فاستحي من سيدك؛ فإنه يراك.
وسئل الجنيد عن الحياء، فقال: رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء.
وقال الواسطي: لم يذق لذعات الحياء من لابس خرق حدَّ أو نقض عهد.
وقال الواسطي أيضاً: المستحي يسيل منه العرق، وهو الفضل الذي فيه،وما دام في النفس شيء فهو مصروف عن الحياء.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الحياء: ترك الدعوى بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس بن الوليد الزوزني يقول: سمعت محمد بن أحمد الجوزجاني يقول: سمعت أبا بكر الوراق يقول: ربما أصلي لله تعالى ركعتين، فأنصرف عنهما، وأنا بمنزلة من ينصرف عن السرقة من الحياء.

باب الحرية

قال الله عز وجل: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
قال: إنما آثروا على أنفسهم لتجردهم عما خرجوا منه، وآثروا به.
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا ابن أبي قماش قال: حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال: حدثنا نعيم بن مورع بن توبة، عن إسماعيل المكي، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما يكفي أحدكم: ما قنعت به نفسه، قال: وإنما يصير إلى أربعة أذرع وشبر، وإنما يرجع الأمر إلى آخر " .
قال: الحرية: أن لايكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة صحته: سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء، فيتساوى عنده أخطار الأعراض.
قال حارثة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عزفت نفسي عن الدنيا؛ فاستوى عندي حجرها وذهبها.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من دخل الدنيا وهو عنها حر ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حُر.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا محمد المراغي يحكي عن الرقي، عن الدقاق: يقول: من كان في الدنيا حراً منها كان في الآخرة حراً منها.
واعلم أن حقيقة الحرية في كمال العبودية؛ فإذا صدقت لله تعالى عبوديته خلصت عن رق الأغيار حريته.

فأما من توهم أن العبد يسلم له أن يخلع وقتاً عذار العبودية، ويحيد بلحظه عن حد المر والنهي وهو مميز، في دار التكليف، فذلك انسلاخ من الدين.
قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " يعني: الأجل، وعليه أجمع المفسرون.
وأن الذي أشار إليه القوم من الحرية هو: أن لايكون العبد تحت رق شيء من المخلوقات لا من أعراض الدنيا، ولا من أعراض الآخرة؛ فرداً لفرد لم يسترقه عاجل دنيا، ولا حاصل هوى، ولا أجل مني، ولا سؤال، ولا تصد ولا أرب، ولاحظ.
وقيل للشبلي: ألم تعلم أنه تعالى رحمن؟ فقال: بلى ولكن منذ عرفت رحمته ما سألته أن يرحمني.
ومقام الحرية عزيز.
سمعت الشيخ أبا عليُّ، رحمه الله، يقول. كان أبو العباس السياري يقول: لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت:
أنمى على الزمان محالاً ... أن ترىُ مقلتي طلعةَ حُرّ
وأما أقاويل المشايخ في الحرية؛ فقال الحسين بن منصور: من أراد الحرية فليصل العبودية.
وسئل الجنيد عمن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة، فقال: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: إنك لا تصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية.
وقال بشر الحافي: ما أراد أن يذوق طعم الحرية، يستريح من العبودية فليطهر السريرة بينه وبين الله تعالى.
وقال الحسن بن منصور: إذا استوفة العبد مقامات العبودية كلها يصير حُراً من تعب العبودية، فيترسم بالعبودية بلا عناء ولا كلفة، وذلك ما قام الأنبياء والصديقين، يعني يصير محمولاً، لا يلحقه بقلبه مشقة وإن كان متحليا بها شرعاً، أنشدنا الشيخ أبو عبد الرحمن قال: أنشدنا أبو بكر الرازي قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه:
ما بقي في الإنس حر ... لا، ولا في الجن حرُّ
قد مضى حر الفريقين ... فحلو العيش مرُّ
واعلم أن معظم الحرية في خدمة الفقراء.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً.
وقال صلى الله عليه وسلم: " سيد القوم خادمهم " .
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت محمد بن إبراهيم بن الفضل يقول: سمعت محمد بن الرومي يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: أبناء الدنيا تخدمهم الإماء والعبيد، وأبناء الآخرة تخدمهم الأحرار والأبرار.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن عثمان بن يحيى يقول: سمعت علي بن محمد المصري يقول: سمعت يوسف بن موسى يقول: سمعت بن خبيق يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: إن الحر الكريم يخرج من الدنيا قبل أن يُخرج منها.
وقال إبراهيم بن أدهم: لا تصحب إلا حراً كريماً؛ يسمع ولا يتكلم.

باب الذكر

قال الله تعالى: " ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشر ببغداد، قال أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البرذعي قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدثنا هارون بن معروف قال: حدثنا أنس بن عياض قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي بحرية، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأربعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضبوا أعناقكم؟ قالوا: ما ذلك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله تعالى: أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر: عن الزهري، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقوم الساعة على أحد يقول: الله.. الله " .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا معاذ قال: حدثنا أبي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله.. الله " .

قال الأستاذ: والذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في هذا الطريق، ولا يصل أحد إلى الله إلا بدوام الذكر.
والذكر على ضربين: ذكر اللسان، وذكر القلب. فذكر اللسان به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب. والتأثير لذكر القلب؛ فإذا كان العبد ذاكراً بلسانه وقلبه، فهو الكامل في وصفه في حل سلوكه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الذكر منشور الولاية؛ فمن وُفق للذكر فقد أعطى المنشور، ومن سلب الذكر فقد عزل.
وقيل: إن الشبلي كان في ابتداء أمره ينزل كل يوم سرباً ويحمل مع نفسه حزمة من القضبان، فكان إذا دخل قلبه غفلة ضرب نفسه بتلك الخشب حتى يكسرها على نفسه، فربما كانت الحزمة تفني قبل أن يمسى، فكان يضرب بيده ورجليه على الحائط.
وقيل: ذكر الله بالقلب سيف المريدين، به يقاتلون أعداءهم، وبه يدفعون الآفات التي تقصدهم، وإن البلاء إذا إذا أظل العبد؛ فإذا فزع بقلبه إلى الله تعالى يجيد عنه في الحال كلُّ ما يكرهه.
وسئل الواسطي عن الذكر فقال: الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف،وشدة الحب له.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن الحسين يقول: سمعت أبا محمد البلاذري يقول: سمعت عبد الرحمن بن بكر يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: من ذكر الله تعالى ذكراً على الحقيقة نسي في جنب ذكره كلَّ شيء، وحفظ الله تعالى عليه كل شيء، وكان له عوضاً عن كل شيء.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت أحمد المسجدي يقول: سئل أبو عثمان؛ فقيل له: نحن نذكر الله تعالى، ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: أحمدو الله عالى، عن أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته.
وفي الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها. فقيل له: وما رياض الجنة؟ فقال: خلق الذكر " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن بشر ببغداد قال: حدثنا أبو علي بن صفوان قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: دثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا إسماعيل ابن عياش، عن عمر بن عبد الله: أن خالد بن عبد الله بن صفوان أخبره عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا أيها الناس؛ ارتعوا في رياض الجنة. قلنا يا رسول الله، ما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر؟ اغدوا، وروحوا، واذكروا، من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلةُ الله عنده؟ فإن الله سبحانه، ينزل العبد منه حيث أنزله عن نفسه.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمداً الفراء يقول: سمعت الشبلي يقول: أليس الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرني؟ ما الذي استفدتم من مجالسة الحق سبحانه؟ وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت الشبلي ينشد في مجلسه:
ذكرتك، لا أني نسيتك لمحةً ... وأيس ما في الذكر ذكرٌ لساني
وكدت بلا وجود أموت من اله ... وى وهام على القلب بالخفقان
فلما رآني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بغير تكلم ... ولاحظت معلوماً بغير عيان
ومن خصائص الذكر: أنه غير مؤقت، بل ما من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بذكر الله: إما فرضاً، وإما ندباً. والصلاة، وإن كانت أشرف العبادات، فقد لا تجوز في بعض الأوقات. والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات.
قال الله تعالى: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.. " .
سمعت الإمام أبا بكر بن فورك، رحمه الله، يقول: قيماً: بحق الذكر، وقعوداً: عن الدعوى فيه.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يسأل الأستاذ أبا علي الدقاق، فقال: الذكر أتم أم الفكر؟ فقال الأستاذ أبو علي: ما الذي يقول الشيخ فيه؟ قال الشيخ أبو عبد الرحمن: عندي الذكر أتم من الفكر؛ لأن الحق، سبحانه، يوصف بالذكر، ولا يوصف بالفكر، وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق. فاستحسنه الأستاذ أبو علي، رحمه الله.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت الكناني يقول: لولا أن ذكره فرض عليّ لما ذكرته إجلاله، مثلي يذكُرهّ!! ولم يغسل فمه بألف توبة منقبلة عن ذكره.
وسمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمهالله، ينشد لبعضهم:

ما إن ذكرتك إلا هم يزجرني ... قلبي وسري وروحي عند ذكراكا
حتى كأن رقيباً منك يهتف بي ... إياك، ويحك والتذكار إياكا
ومن خصائص الذكر: أنه جعل في مقابلته الذكر. قال الله تعالى: " فأذكروني أذكركم " .
وفي خبر: " أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول: أعطيت أمتك ما لم أعط أمة من الأمم، فقال: وما ذاك يا جبريل؟ فقال: قوله تعالى: " فاذكروني أذكركم " ؛ لم يقل هذا لأحد غير هذه الأمة " .
وقيل: إن الملك يستأمر الذاكر في قبض روحه.
وفي بعض الكتب: أن موسى، عليه السلام، قال يارب: أين تسكن؟ فأوحى الله تعالى إليه، في قلب عبدي المؤمن. ومعناه: سكون الذكر في القلب فإن الحق سبحانه وتعالى منزه عن كل سكون وحلول، وإنما هو: إثبات ذكر وتحصيل.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت فارساً يقول: سمعت الثوري يقول: سمعت ذا النون، وقد سألته عن الذكر فقال: هو غيبة الذاكر عن الذكر، ثم أنشأ يقول:
لا لأني أنساك أكثِرث ذكرا ... كَ، ولكن بذاك يجري لساني
وقال سهل بن عبد الله: ما من يوم إلا والجليل سبحانه ينادي: يا عبدي، ما أنصفتني؛ أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ وتذهب إلى غيري، وأذهب عنك البلايا وأنت معتكف الخطايا، يا بن آدم، ما تقول غداً إذا جئتني؟! وقال أبو سليمان الداراني: إن في الجنة قيعاناً، فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فيها، فربما يقف بعض الملائكة، فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: فَستر صاحبي.
وقال الحسن: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
وقال حامد الأسود. كنت مع إبراهيم الخواص في سفر، فجئنا إلى موضع فيه حيات كثيرة.. فوضع ركوته وجلس، فلما كان برد الليل وبرد الهواء خرجت الحيات، فصحت بالشيخ، فقال: اذكر الله.. فذكرت فرجعت، ثم عادت، فصحت به، فقال مثل ذلك. فلم أزل إلى الصباح في مثل تلك الحالة.. فلما أصبحنا قام، ومشى، ومشيت معه، فسقطت من وطائه حية عظيمة وقد تطوقت به. فقلت: ما أحسست بها؟ فقال: لا، منذ زمان ما بت ليلة أطيب من البارحة.
قال أبو عثمان: من لم يذق وحشة الغفلة لم يجد طعم أنس الذكر.
سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبدالرحمن بن عبد الله الذبياني يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: مكتوب في بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى: " إذا كان الغالب علي عبدي ذكري عشقي وعشقته " .
وبإسناده: أنه أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " بي فافرحوا، ويذكري فتنعموا " .
وقال الثوري: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف بالله انقطاعه عن الذكر.
وفي الإنجيل ذاكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، وارض بنصرتي لك؛ فإن نصرتي لك خير لك من نصرتك لنفسك.
وقيل لراهب: أأنت صائم؟ فقال: صائم بذكره، فإذا ذكرت غيره أفطرت.
وقيل: إذا تمكن الذكرُ من القلب، فن دنا منه الشيطان صرع، ما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فتجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسَّه الإنس.
وقال سهل: ما أعرف معصية أقبح من نسين الربّ تعالى.
وقيل الذكر الخفي لا يرفعه الملك، لأنه لا اطلاع له عليه، فهو سر بين العبد وبين الله عز وجل.
وقال بعضهم: وصف لي ذاكر في أجمه، فأتيته، فبينما هو جالس إذا سبع عظيم ضربه ضربة، واستلب منه قطعة، فغشي عليه وعلي، فلما أفاق، قلت: ما هذا؟ فقال: قيض الله هذا السبع عليَّ، فكلما دخلتني فترة عضني عضة، كما رأيت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجريري يقول: كان من بين أصحابنا رجل يكثر أن يقول: الله.. الله.. فوقع يوماً على رأسه جذع فانشج رأسه وسقط الدم، فاكتُتب على الأرض: الله.. الله.

باب الفتوة

قال الله تعالى: " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " .
قال الأستاذ: أصل الفتوة أن يكون العبد ساعياً أبداً في أمر غيره.
قال صلى الله عليه وسلم: " لايزال الله تعالى في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه المسلم " .

أخبرنا به علي بن أحمدبن عبدان، قال: أخبرنا به أحمد بن عبيد قال: حدثنا به إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا به يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدثنا به ابن أبي حازم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عبد الرحمن بن حومز الأعرج، عن أبي هريرة، عنزيد بن ثابت رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الله تعالى في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه المسلم " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: هذا الخُلق، لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فن كل أحد في القيامة يقول: نفسي.. نفسي، وهو صلى الله عليه وسلم، يقول: أمَّتي.. أمتي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا جعفر الفرغاني يقول: سمت الجنيد يقول: الفتوة بالشام، واللسان بالعراق، والصدق بخراسان.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر ابن منصور الصائغ يقول: سمعت محمد بن مردويه الصائغ يقول: سمعت الفضيل يقول: الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوان.
وقيل: الفتوة: أن لا ترى لنفسك فضلاً عن غيرك.
وقال أبو بكر الوراق: الفتى من لا خصم له.
وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة: أن تكون خصماً لرِّبك على نفسك ويقال: الفتى: من لا يكون خصماً لأحد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: سُمي أصحاب الكهف فتية؛ لأنهم آمنوا بربهم بلا واسطة.
وقيل: الفتى: من كسر الصنم: قال الله تعالى: " سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " وقال تعالى: " فجعلهم جذاذاً " وصنم كل إنسان نفسه؛ فمن خالف هواه فهو فتى علي الحقيقة.
وقال الحارث المحاسبي: الفتوة: أن تنصِفَ ولا تنتصف.
وقال عمر بن عثمان المكيِّ: الفتوة: حسن الخلق.
وسئل الجنيد عن الفتوة، فقال: أن لا تنافر فقيراً، ولا تعارض غنياً.
وقال النصبراباذي: المروءة شعبة من الفتوة، وهو الإعراض عن الكونين، والأنفة منها.
وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة أن يسوي عندك المقيم والطارىء.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت علي بن عمر الحافظ يقول: سمعت أبا سهل بن زياد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سئل أبي: ما الفتوة؟ فقال: تركُ ما تهوى لما تخشى.
وقيل لبعضهم: مال الفتوة؟ فقال: أن لا يُميزّ بين أن يأكل عنده ولي أو كافر.
سمعت بعض العلماء يقول: استضاف مجوسي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: بشرط أن تًسلم، فمر المجوسي، فأوحى الله تعالى إليه: منذ خمسين سنة نطعمه علي كفره، فلو ناولته لقمة من غير أن تطالبه بتغيير دينه؟! فمضى إبراهيم عليه السلام، على أثره، حتى أدركه.. واعتذر إليه، فسأله عن السبب، فذكر له ذلك؛ فأسلم المجوسي.
وقال الجنيد: الفتوة: كفّ الأذى، وبذل الندى.
وقال سهل بن عبد الله: الفتوة: اتباع السنَّة.
وقيل: الفتوة: الوفاء والحفاظ.
وقيل: الفتوة: فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها.
وقيل: الفتوة: أن لاتهرب إذا أقبل السائل.
وقيل: أن لا تحتجب من القاصدين.
وقيل: أن لا تدخر ولا تعتذر.
وقيل: إظهار النعمة، وإسرار المحنة.
وقيل: أن تدعو عشرة أنفس فلا تتغير إن جاء تسعة أو أحد عشر.
وقيل: الفتوة: ترك التمييز.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: قال أحمد بن خضرويه لامرأته أم عليّ: أريد أن أتخذ دعوة أدعو فيها عياراً شاطراً كان في بلدهم رأس الفتيان.
فقالت: امرأته: إنك لا تهتدي إلى دعوة الفتيان. فقال: لابد.
فقلت: إن فعلت فاذبح الأغنام والبقر والحُمُر، وألقها من باب دار الرجل إلى باب دارك.
فقال: أما الأغنام والبقر فأعلمُ. فما بال الحُمُر؟ فقالت: تدعو فتى إلى دارك، فلا أقل من أن يكون لكلاب المحلة خير.
وقيل: اتخذ بعضهم دعوة، وفيهم شيخ شيرازي، فلما أكلوا وقع عليهم النوم في حال السماع.
فقال الشيخ الشيرازي لصاحب الدعوة: ما السبب في نومنا؟ فقال: لا أدري!! اجتهدت في جميع ما أطعمتكم إلا الباذنجان، فلم أسأل عليه.

فلما أصبحوا سألوا بائع الباذنجان، فقال: لم يكن لي شيء، فسرقت الباذنجان من الموضع الفلاني وبعته، فحملوه إلى صاحب الأرض ليجعله في حل، فقال الرجل: تسألون مني ألف باذنجانة؟ قد وهبته تلك الأرض ووهبته ثورين وحماراً، وآلة الحرث؛ لئلا يعود إلى مثل ما فعل.
وقيل: تزوج رجل بامرأة.. فقبل الدخول ظهر بالمرأة الجدري، فقال الرجل: اشتكت عيني، ثم قال: عميت، فزفت إليه المرأة.. ثم ماتت بعد عشرين سنة.. ففتح الرجل عينيه، فقيل له في ذلك فقال: لم أعم، ولكن تعاميت حذار أ، تحزن، فقيل له: سبقت الفتيان.
وقال ذو النون المصري: من أراد الظرف فعليه سقاة الماء ببغداد.
فقيل له: كيف هو؟ فقال: لما حُملت إلى الخلفية، فيما نُسب لى من الزندقة، رأيت سقاء عليه عمامة، وهو مترد بمنديل مصري، وبيده كيزان خزف رقاق، فقلت: هذا ساقي السلطان، فقالوا: لا، هذا ساقي العامة.
فأخذت الكوز وشربت. وقلت لمن معي: أعطه ديناراً. فلم يأخذه، وقال: أنت أسير، وليس من الفتوة أن آخذ مكن شيئاً.
وقيل: ليس من الفتوة أن تربح علي صديقك. قاله بعض أصدقائنا، رحمه الله تعالى.
وكان فتى يسمى أحمد بن سهل التاجر، وقد اشتريت منه خرقة بياض فأذ الثمن رأس ماله فقلت له: ألا تأخذ ربحاً؟ فقال: أما الثمن فآخذه، ولا أ؛ملك مِنَّةً؛ لأنه ليس له من الخطر ما أتحلق به معك، ولكن لا أخذ الربح؛ إذ ليس من الفتوة أن تربح علي صديقك.
وقيل: خرج إنسان يدعى الفتوة من نيسابور لى نسا فاستضافه رجل، ومعه جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم، فانقبض النيسابوري عن غسل اليد، وقال: ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال!! قال واحد منهم: أنا سنين أدخل هذه الدار لم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أم رجلاً.
سمعت منصوراً المغربي يقول: اراد واحد أن يمتحن نوحاً النيسابوري العيار.. فباع عنه جارية في زي غلام، وشرط أنه غلام، وكانت وضيئة الوجه، فاشتراها نوح علي أنها غلام،ولبثت عنده شهوراً كثيرة، فقيل الجارية: هل علم أنك جارية؟ فقالت: لا، إنه ما مسني، وتوهم أني غلام.
وقيل: إن بعض الشطار طلب منه تسليم غلام كان يخدمه إلى السلطان، فأبى. فضربه ألف سوط، فلم يُسَلم، فاتفق أ،ه احتلم تلك الليلة، وكان برداً شديداً، فلما أصبح اغتسل بالماء البارد، فقيل له: خاطرت بروحك، فقال: استحييت من الله تعالى أن أصبر على ضرب ألف سوط لأجل مخلوق، ولا أصبر على مقاساة يرد الاغتسال لأجله.
وقيل: قدم جماعة من الفتيان لزيارة واحد يدَّعي الفتوة، فقال الرجل: يا غلام قدم السفرة. فلم يقدم. فقال له الرجل ذلك ثانياً وثالثاً.. فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا!! فقال الرجل: لِمَ أبطأت يا سفر؟ فقال الغلام كان عليها نملٌ، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة إلقاء النم من السفرة، فلبثت حتى دب النمل. فقالوا له: دققت يا غلام، مثلك مَن يخدم الفتيان.
وقيل: إن رجلاً نام بالمدينة من الحاجّ. فتوهم أن هميانة سرق، فخرج، فرأى جعفراً الصادق.. فتعلق به، وقال له: أنت أخذت همياني؟ فقال له: ماذا كان فيه؟ فقال: ألف دينار.
فأدخله داره.. ووزن له ألف دينار، فرجع إلى منزله، ودخل بيته، فرأى هميانة في بيته وقد كان توهم أنه سرق؛ فخرج إلى جعفر معتذراً، وردّ عليه الدنانير، فأبى أن يقبلها، وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده.
فقال الرجل: من هذا؟! فقيل: جعفر الصادق.
وقيل: سأل شقيق البلخيّ جعفر بن محمد عن الفتوة، فقال: ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا، وإن منعنا صبرنا.
فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل!! فقال شقيق: يا إبن رسول الله، ما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: دعانا الشيخ أبو العباس بن مسروق ليلة إلى بيته، فاستقبلنا صديق لنا، فقلنا له: ارجع معنا، فنحن في ضيافة الشيخ، فقال: إنه لم يدعني!! فقلنا: نحن نستثني. كما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها.

فرددناه، فلما بلغ باب الشيخ أخبرناه بما قال، وقلنا، فقال: جعلت موضعي من قلبك أن تجيء إلى منزلي من غير دعوة، على كذا وكذا إن مشيت إلى الموضع الذي تقعد فيه منه إلا على خدي، وألح عليه. ووضع خده على الأرض، وحمل الرجل، فوضع قدمه على خده من غير ن يوجعه، وسحب الشيخ وجهه على الأرض إلى أن بلغ موضع جلوسه.
وأعلم أن من الفتوة الستر على عيوب الأصدقاء، لاسيما إذا كان لهم فيه شماتة الأعداء.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول للنصراباذي كثيراً: إن علياً القوال يشرب بالليل ويحضر مجلسك بالنهار، وكان لا يسمع فيه ما يقال، فانفق أنه كان يمشي يوماً ومعه واحد ممن يذكر علياً بذلك عنده فوجد علياً مطروحاً في موضع، وقدظهر عليه أثر السكر، وصار بحيث يغسل فمه، فقال الرجل: إلى كم نقول فيه للشيخ ولا يسمع؟! هذا عليُّ على الوصف الذي نقول. فنظر إليه النصراباذي وقال للعذول: احمله في رقبتك، وانقله إلى منزله. فلم يجد بدا من طاعته فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا عليَّ الفارسي يقول: سمعت المرتعش يقول: دخلنا مع أبي حفص على مريض نعوده، ونحن جماعة، فقال للمريض: أتحب أن تبرأ؟ فقال: نعم فقال لأصحابه: تحملوا عنه.. فقام العليل.. وخر معنا. وأصبحنا كلنا أصحاب فراشُ نعاد.

باب الفراسة

قال الله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " . قيل: للمتفرصين.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين الرازي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن السكن قال: حدثنا موسى بن داود قال: حدثنا محمد بن كثير الكوفي قال: حدثنا عمرو بن قيس: عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله عز وجل " .
والفراس: خاطر على القلب فينفي ما يضاده. وله على القلب حُكم اشتقاقاً من: فريسة السبع، وليس في مقابلة الفراسة مجوزات للنفس.
وهي علي حسب قوة الإيمان: فكل من كان أقوى إيماناً كان أد فراسة.
وقال أبو سعيد الخراز: من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق، وتكون مواد علمه من الحق بلا سهو ولا غفلة، بل حكم حق جرى على لسان عبد.
وقوله: " نظر بنور الحق " يعني: بنور خصه به الحق سبحانه.
وقال الواسطي: إن الفراسة: سواطع أنوار لمعت في القلوب، وتمكين معرفة حملت السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب، حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق، سبحانه، إياها؛ فيتكلم على ضمير الخلق.
ويحكى عن أبي الحسن الديلمي أنه قال: دخلت أنطاكية لأجل أسود قيل لي: إنه يتكلم على الأسرار فأقمت فيها إلى أن خرج من جبل لِكام ومعه شيء من المباح يبيعه، وكنت جائعاً منذ يومين لم آكل شيئاً فقلت له: بكم هذا؟ وأوهمته أني أشتري ما بين يديه فقال: اقعد ثمَّ؛ حتى إذا بعناه نعطيك ما تشتري به شيئاً.. فتركته وسرت إلى غيره؛ أوهمه أني أساومه. ثم رجعت إليه، وقلت له: إن كنتَ تبيع هذا فقل لي بكم؟ فقال: إنما جعت يومين، اقعد ثم، حتى إذا بعناه نعطيك ما تشتري به شيئاً.. فقعدت.. فلما باعه أعطاني شيئاً ومشى، فتبعته.. فالتفت إليَّ وقال لي: إذا عرضت لك حاجة، فأنزلها بالله تعالى، إلا أن يكون لنفسك فيها حظ فتحجب عن حاجتك.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول. سمعت الكتاني يقول: الفراسة: مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب، وهو من مقامات الإيمان.
وقيل: كان الشافعي، ومحمد بن الحسن، رحمهما الله تعالى، في المسجد الحرام فدخل رجل، فقال محمد بن الحسن: أتفرّس أنه نجار، وقال الشافعي: أتفرس أنه حداد، فسألاه، فقال: كنت قبل هذا حداداً، والساعة أنجرَّ.
وقال أبو سعيد الخراز: المستنبط: من يلاحظ الغيب أبداً، ولا يغيب عنه، ولا يخفى عليه شيء، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " .
والمتوسم: هو الذي يعرف الوسم، وهو العارف بما في سويداء القلوب بالاستدلال والعلامات، قال الله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " . أي للعارفين بالعلامات التي يبديها على الفريقين من أوليائه وأعدائه.

وللتفرس: ينظر بنور الله تعالى، وذلك: سواطع أنوار لمعت في قلبه فأدرك بها المعاني، وهو من خواص الإيمان، والذين هم أكبر منه حظاً الربانيون الحق نظراً وخلقاً، وهم فارغون عن الإخبار عن الخلق، والنظر إليهم، والاشتغال بهم.
وقيل: كان أبو القاسم المنادي مريضاً، وكان كبير الشأن، من مشايخ نيسابور فعاده أبو الحسن البوشنجي، والحسن الحداد، واشتريا بنصف درهم تفاحاً في الطريق نسيئة، وحملاه إليه، فلما قعدا قال أبو القاسم: ما هذه الظلمة؟ فخرا. وقالا: ماذا فعلنا؟. وتفكرا. فقالا: لعلنا لم نؤد ثمن التفاح، فأعطياه الثمن، وعادا إليه، فلما وقع بصره عليهما قال: هذا عجب، أيمكن الإنسان أن يخرج من الظلمة بهذه السرعة؟! أخبراني عن شأنكما.. فذكر له هذه القصة، فقال: نعم، كان يعتمد كل واحد منكما على صاحبه في إعطاء الثمن، والرجل يستحي منكما في التقاضي، فكان تبقى التبعة، وأنا السبب، إنما رأيتُ ذلك فيكما وكان أبو القاسم المنادي هذا يدخل السوق كل يوم يُنادي، فإذا وقع بيده ما فيه كفايته من دانق إلى نصف درهم خرج منه. وعاد إلى رأس وقته، ومراعاة قلبه.
وقال الحسين بن منصور: الحق إذا استولى على سر ملكه الأسرار؛ فيعاينها، ويخبر عنها.
وسئل بعضهم عن الفراسة، فقال: أرواح تتقلب في الملكوت، فتشرف على معاني الغيوب، فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة، لا نطق ظن وحسبان.
وقيل: كان بين زكريا الشختني وبين امرأة سبب قيل توبته، فكان يوماً واقفاً على رأس أبي عثمان الحيري، بعدما صار من خواص تلاميذه، فتفكر في شأنها، فرفع أبو عثمان رأسه إليه وقال: أما تستحي؟! قال الأستاذ الإمام، رحمه الله: كنت في ابتداء وصلتي بالأستاذ أبي علي الدقاق، رضي الله عنه، عقد لي المجلس في مسجو المطرز فاستأذنته وقتاً للخروج إلى نسا فأذن لي فيه، فسكنت أمشي معه يوماً في طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عني في مجالسي أيام غيبتي. فالتفت إليَّ، وقال لي: أنوبُ عنك أيام غيبتك في عقد المجالس.
فمشيت قليلاً.. فخطر ببالي أنه عليل يشق عليه أن ينوب عني في الأسبوع يومين، فليته يقتصر علي يوم واحد في الأسبوع؛ فالتفت إليَّ وقال: إن لم يمكني في الأسبوع يومان أنوب عنك في الأسبوع مرة واحدة، فمشيت معه قليلاً؛ فخطر ببالي شيء ثالث، فالتفت إليَّ وصرح بالإخبار عنه على القطع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: كان شاه الكرماني حاد الفراسة، لا يُخطىء، ويقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وتعود أكل الحلال؛ لم تخطىء فراسته.
وسئل أبو الحسن النوري: من أين تولدت فراسة المتفرسين؟ فقال: من قوله تعالى: " ونفخت فيه من روحي " ، فمن كان حظه من ذلك النور أتم، كانت مشاهدته أحكم، وحكمه بالفراسة أصدق، ألا ترى كيف أوجب نفخ الروح فيه السجود له بقوله تعالى: " فأذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
وهذا الكلام من أبي الحسن النوري فيه أدنى غموض وإيهام؛ بذكر نفخ الروح، لتصويب من يقول بقدم الأرواح، ولا كما يلوح لقلوب المستضعفين؛ فإن الذي يصح عليه النفخ والاتصال والانفصال فهو قابل للتأثير والتغيير، وذلك من سمات الحدوث، وأن الله، سبحانه وتعالى، خص المؤمنين ببصائر وأنوار بها يتفرسون، وهي في الحقيقة معارف، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه ينظر بنور الله " أي بعلم وبصيرة يخصه الله تعالى به ويفرده به من دون أشكاله. وتسمية العلوم والبصائر أنواراً: غير مستبدع، ولا يبعد وصف ذلك بالنفخ، والمراد منه: الخلق.
وقال الحسين بن منصور: المتفرس هو المصيب بأول مرماه إلى مقصده، ولا يعرج على تأويل وظن وحسبان.
وقيل: فراسة المريدين تكون ظناً يوجب تحقيقاً، وفراسة العارفين تحقيق يوجب حقيقة.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جلستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق؛ فإنهم جواسيس القلوب؛ يدخلون في قلوبكم ويخرجون منها من حيث لا تحسون.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الخلدي يقول: سمعت أبا جعفر الحداد يقول: الفراسة أول خاطر بلا معارض؛ فإن عارض معارضٌ من جنسه فهو خاطر وحديث نفس.

ويُحكى عن أبي عبد الله الرازي نزيل نيسابور قال: كساني ابن الأنباري صوفاً، ورأيت على رأس الشبلي قلنسوة ظريفة تليق بذلك الصوف، فتمنيت في نفسي أن يكونا جميعاً لي.. فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إلي.. فتبعته، وكان عادته إذا أراد أن أتبعه يلتفت إليَّ، فلما دخل داره دخلت؛ فقال لي: انزع الصوف. فنزعته.. فلفه وطرح القلنسوة عليه، ودعا بنار فأحرقهما.
وقال أبو حفص النيسابوري: ليس لأحد أن يدعي الفراسة، ولكن يتقي الفراسة من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا فراسة المؤمن " ولم يقل: تفرسوا فكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة؟! وقال أبو العباس بن مسروق: دخلت علي شيخ من اصحابنا أعوده.. فوجدته على حال رثة، فقلت في نفسي: من أين يرتزق هذا الشيخ؟ فقال لي: يا ابا العباس: دع عنك هذه الخواطر الدنيئة؛ فإن لله ألطافاً خفية.
ويحكى عن الزبيدي قال: كنت في مسجد ببغداد مع جماعة من الفقراء، فلم يفتح علينا بشيء أياماً فأتيت الخواص لأسأله شيئاً، فلما وقع بصره عليَّ قال: الحاجة التي جئت لأجلها يعلمها الله أم لا؟ فقلت: بلى؛ فقال: اسكت ولا تبدها لمخلوق، فرجعت ولم ألبث إلا قليلاً حتى فتح علينا بما فوق الكفاية. وقيل: كان سهل بن عبد الله يوماص في الجامع، فوقع حمام في المسجد من شدة ما لحقه من الحر والمشقة، فقال سهل: إن شاهاً الكرماني مات الساعة، إن شاء الله تعالى، فكتبوا ذلك.. فكان كما قال.
وقيل: خرج أبو عبد الله التروغندي - وكان كبير الوقت - إلى طوس فلما بلغ خر وقال لصاحبه: اشتر الخبز. فاشترى ما يكفيهما، فقال: اشتر أكثر من ذلك. فاشترى صاحبه ما يكفي عشرة أنفس تعمداً، فكأنه لم يجعل لقول ذلك الشيخ تحقيقاً قال: فلما صعدنا إلى الجبل إذا بجماعة قيدتهم اللصوص، لم يأكلوا منذ مدة، فسألونا الطعام، فقال: قدم إليهم السفرة.
وقال الأستاذ الإمام: كُنت بين يدي الأستاذ الإمام أبي علي رحمه الله يوماً فجرى حديث الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله، وأنه يقوم في السماع موافقة للفقراء، فقال الأستاذ أبو علي: مثله في حاله؛ لعل السكون أولى به. ثم قال: في ذلك المجلس أمض إليه فستجده وهو قاعد في بيت كتبه، وعلى وجه الكتُب مجلدة حمراء مربعة صغيرة فيها أشعار الحسين بن منصور. فاحمل تلك المجلدة ولا تقل له شيئاً وجئني بها. وكان وقت الهاجرة.. فدخلت عليه فإذا هو في بيت كتُبه والمجلدة موضوعة بحيث ذكرَ، فلما قعدت أخذ الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في الحديث وقال:كان بعض الناس ينكر علي أحد من العلماء حركته في السماع، فرؤى ذلك الإنسان يوماً خالياً في بيت وهو يدور كالمتواجد، فسئل عن حاله فقال: كانت مسألة مشكلة عليّ، فتبين لي معناها، فلم أتمالك من السرور حتى قمت أدور، فقيل له: مثل هذا يكون حالهم.
فلما رأيت ما أمرني به الأستاذ أبو علي، وما وصف لي على الوجه الذي قال وجرى على لسان الشيخ أبي عبد الرحمن ما كان ق ذكره به، تحيرت، وقلت: كيف أفعل بينهما؟ ثم فكرت في نفسي وقلت: لاوجه إلا الصدق، فقلت: إن الأستاذ أبا علي وصف لي هذه المجلدة وقال لي احملها من غير أن تستأذن الشيخ، وأنا هو ذا أخافك، وليس يمكنني مخالفته، فأي شيء تأمرني به؟.. فأخرج مسدساً من كلام الحسين، وفيه تصنيف له سماه: كتاب الصهيور في نقض الدهور وقال: أحمل هذا إليه، وقل له: إني أطالع تلك المجدلة وأنقل منها أبياتاً إلى مصنفاتي.. فخرجت.
ويحكى عن الحسن الحداد، رحمه الله، أنه قال: كنت عند أبي القاسم المنادي وعنده جماعة من الفقراء، فقال لي: أخرج وأتهم بشيء، فسررت: حيث أذن لي في التكلف للفقراء وأن آتيهم بشيء بعد ما علم فقري، قال: فأخذت مِكتلاً وخرجت.. فلماأتيت سكة سيار رأيت شيخاً بهياً فسلمت عليه وقلت: جماعة من الفقراء في موضع، فهل لك أن تتخلق معهم بشيء؟ فأمر.. حتى إذا أخرج إلى شيئاً من الخبز واللحم والعنب، فلما بلغت الباب نادى أبو القاسم المنادي من وراء الباب: رده إلى الموضع إلي أخذته منه. فرجعت واعتذرت إلى الشيخ، وقلت: لم أجدهم.. وعرضت بأنهم تفرقوا، ورددت السبب عليه ثم جئت إلى السوق ففتح عليَّ بشيء، فحملته، فقال: ادخل.

فقصصت عليه القصة، فقال: نعم، ذاك ابن سيار رجل سلطاني، إذا جئت للفقراء بشيء فأتهم بمثل هذا، لا بمثل ذاك.
قال أبو الحسين القرافي: زرت أبا الخير التناتي، فلما ودعته.. خرج معي إلى باب المسجد، وقال لي: يا أبا الحسين، أنا أعلم أنك لا تحمل معك معلوماً، ولكن أحمل معك هاتين التفاحتين.
فأخذتهما.. ووضعتهما في جيبي، وسرت، فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أيام، فاخرجت واحدة منهما، وأكلتها، ثم أردت أن أخرج الثانية، فإذا هما جميعاً في جيبي، فكنت آكل منهما ويعودان.. إلى باب الموصل، فقلت في نفسي. إنهما يفسدان على حال توكلي؛ إذ صارتا معلوماً لي!! فأخرجتهما من جيبي بمرة. فنظرت فإذا فقير ملفوف في عباءة يقول: أشتهى تفاحة!! فناولتهما إياه.. فلما عبرتُ وقع لي: أن الشيخ إنما بعثهما إليه. وكنت في رُفقه في الطريق.. فأنصرفت إلى الفقير، فلم أجده.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا عمر بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد.. وكان يتكلم علي خواطر الناس، فذكر للجنيد، فقال له الجنيد: ما هذا الذي ذكر عنك؟ فقال الجنيد: اعتقد شيئاً. فقال: اعتقدت!! فقال الشاب: اعتقدت كذا وكذا! فقال الجنيد: لا. فقال: اعتقد ثانياً، ففعل، فقال: اعتقدت كذا وكذا. فقال: لا فقال: ثالثاً. فقال: مثله. فقال الشاب هذا عجب، أنت صدوق، وأنا أعرف قلبي؟! فقال الجنيد: صدقت في الأول والثاني والثالث، ولكني أردت أن أمتحنك هل يتغير قلبك!! وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: أعتل ابن الرقي، فحل إليه دواء في قدح، فأخذه، ثم قال: وقع اليوم في المملكة حدث: لا آكل ولا أشرب حتى أعلم ما هور؟ فورد الخبر بعده بأيام: أن القرمطي دخل مكة ذلك اليوم، وقتل بها تلك للقتلة العظيمة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: ذكر الكاتب هذه الحكاية، فقال: هذا عجبّ!! فقلت له: هذا ليس بعدب، فقال لي أبو علي بن الكاتب: ما خبر مكة اليوم؟ فقلت: هو ذا: تحاربَ الطلحيون وبنو الحسن، ومقدم الطلحيين أسودُ عليه عمامة حمراء، وعلى مكة اليوم غيم على مقدار الحرم، فكتب أبو علي إلى مكة، فكان كما ذكرت له.
ويروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكنت رأيت في الطريق امرأة تأملت محاسنها، فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل على أحدكم وآثار ظاهرة عل عينيه، فقلت له: أوحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: لا، ولكن تبصرة، وبرهان، وفراسة صادقة.
وقال أبو سعيد الخراز: دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان يسأل الناس شيئاً، فقلت في نفسي: مثل هذا كل على الناس!! فنظر إليّ وقال: " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " .
قال: فاستغفرت في سري، فناداني، وقال: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " .
وحكى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت ببغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل علينا شاب ظريف، طيب الرائحة، حسن الحرمة، حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي!! فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت، وخرج الشاب، ثم رجع إليهم وقال: ماذا قال الشيخ فيَّ؟! فاحتشموه. فألح عليهم، فقالوا: قال إنك يهودي. قال: فجاءني وأكب على يدي، وأسلم. فقيل له: ما السبب؟ قال: نجد في كتبنا أن الصديق لا يخطىء فراسته. فقلت: أمتحن المسلمين؛ فتأملتهم، وقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة: لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فليست عليكم.. فلما اطلع هذا الشيخ عليّ، وتفرس فيّ علمت أنه صديق، وصار الشاب من كبار الصوفية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله، يقول سمعت عبد الله بن إبراهيم بن العلاء، يقول: سمعت محمد بن داود يقول: كنا عند الجريري فقال: هل فيكم من إذا أراد الحق، سبحانه، أن يحدث في المملكة حدثاً أعلمه قبل أن يُبديه؟ قلنا: لا. فقال: أبكوا على قلوب لم تجد من الله تعالى شيئاً.

وقال أبو موسى الديلمي: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل، فقال: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى بلغ الرسغ لا تخاف مع الله تعال شيئاً غيره. قال: فخرجت إلى أبي يزيد لأسأله عن التوكل، فدققت عليه الباب، فقال: أليس لك في قول عبد الرحمن كفاية؟! فقلت: افتح الباب. فقال: مازرتني، أتاك الجواب من وراء الباب. ولم يفتح لي الباب؛ فمضيت، ولبثت سنة، ثم قصدته، فقال: مرحباً، جئتني زائراً. فكنت عنده شهراً، فكان لا يخطر بقلبي شيء إلا حدثني عنه. فعند وداعه لي قلت: أفدني فائدة. فقال: حدثتني أمي: أنها كانت حاملاً بي، فكانت إذا قدم لها طعام من حلال امتدت يدها إليه، وإذا كان فيه شبهة انقبضت يدها عنه.
وقال إبراهيم الخواص: دخلت البادية، فأصابتني شدة، فلما بلغت مكة، داخلني شيء من الإعجاب، فنادتني عجوز: يا إبراهيم، كنت معك في البادية فلم أكلمك؛ لأني لم أرد أن أشغل سرك أخرج عنك هذا الوسواس!! وحكى أن الفرغاني كان يخرج كل سنة إلى الحج، ويمر بنيسابور، ولا يدخل علي أبي عثمانالحيري قال: فدخلت عليه مرة، وسلمت، فلم يرد علي السلام، فقلت في نفسي: مُسلم يدخل عليه ويسلم عليه فلا يرد سلامه؟ فقال أبو عثمان: مثل هذا يحج وَيَدع أمه لا يبرها؟! قال: فرجعت إلى فرغانة ولزمتها حتى ماتت. ثم قصدت أبا عثمان، فلما دخلت استقبلنين وأجلسني، ثم إن الفرغاني لازمه وسأله سياسة دابته، فولا ه ذلك حتى مات أبو عثمان.
وقال خير النساج: كنت جالساً في بيتي، فوقع لي: أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي، فوقع لي ثانياً، وثالثاً، فخرجت فإذا بالجنيد، فقال: لِمَ لم تخرج مع الخاطر الأول؟! وقال محمد بن الحسين البسطامي: دخلت على أبي عثمان المغربي، فقلت في نفسي: لعله يتشهى عليَّ شيئاً؟ فقال أبو عثمان: لا يكفي الناس أن آخذ منهم حتى يريدوا مسألتي إياهم.
وقال بعض الفقراء: كنت ببغداد، فوقع لي: أن المرتعش يأتيني بخمسة عشر درهماً؛ لأشتري بها الركوة، والحبل، والنعل، وأدخل البادية: قال: فدق عليّّ الباب، ففتحت، فإذا أنا بالمرتعش معه خريقة، فقال: خذها. فقلت: يا سيدي، لا أريدها!! فقال: فلم تؤذينا؟! كم أردتَ؟ فقلت: خمسة عشر درهما. فقال: هي همسة عشر درهماً.
وقال بعضهم في قوله تعالى: " أو من كان ميتاً فأحببناه " أي: ميت الذهن فأحياه الله تعالى بنور الفراسة، وجعل له نور التجلي والمشاهدة، لايكون كمن يمشي بين أهل الغفلة غافلاً.
وقيل: إذا صحت الفراسة أرتقى صاحبها إلى المشاهدة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمدبن الحسين البغدادي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: قدم علينا شيخ، فكان يتكلم علينا في هذا الشأن بكلام حسن، وكان عذب اللسان، جيد الخاطر، فقال لنا في بعض كلامه: كل ما وقع لكم في خاطركم فقولوه لي. فوقع في قلبي أنه يهودي، وكان الخاطر يقوى ولا يزال. فذكرت ذلك للجريري، فكبر عليه ذلك، فقلت: لا بد لي أن أخبر الرجل بذلك؛ فقلت له: تقول لنا ما وقع لكم في خاطركم فقولوه لي؛ إنه يقع: إنك يهودي!! فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وقال: قد مارست جميع المذاهب وكنت أقول: إن كان مع قوم منهم شيء فمع هؤلاء؛ فداخلتكم لأختبركم، فأنتم على الحق. وحسن إسلامه.
ويحكي عن الجنيد: أنه كان يقول له السري: تكلم على الناس.
فقال الجنيد: وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس؛ فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك. فرأيت ليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وكانت ليلة جمعة، فقال لي: تكلم علي الناس. فانتهت.. واتيت باب السريِّ قبل أن أصبح؛ فدققت عليه الباب، فقيل: لم تصدقنا حتى قيل لك؟ فقعد للناس في الجامع بالغد، فانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس؛ فوقف عليه غلام نصراني متنكراً، وقال له: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن، فإن المؤمن ينظر بنور الله تعالى؟ " .
قال: فأطرق الجنيد... ثم رفع رأسه وقال: أسلم؛ فقد حان وقت إسلامك. فأسلم الغلام.

باب الخلق

قال الله تعالى: " وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم " .

أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار البصري: قال: حدثنا هشام بن محمد بن غالب قال: حدثنا معلي بن مهدي قال: حدثنا بشار بن إبراهيم النميري، قال: حدثنا غيلان بن جرير عن أنس قال: " قيل يا رسول الله: أيُّ المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال: أحسنهم خُلُقاً " .
إذ الخُلق الحسن أفضل مناقب العبد، وبه يظهر جواهر الرجال، والإنسان مستور بخلقه مشهود بخُلقه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: إن الله تعالى، خص نبيه صلى الله عليه وسلم بما خصه به، ثم لم يثن عليه بشيء من خصاله بمثل ما أثنى بخلقه؛ فقال عزَّ ن قائل: " وإنك لعلي خُلق عظيم " .
وقال الواسطي: وَصَفه بالخلق العظيم؛ لأنه جاد بالكونين، واكتفى بالله تعالى.
وقال الواسطي أيضاً: الخلق العظيم: أن لا يُخاصِم ولايُخاصِم، من شدِّة معرفته بالله تعالى.
وقال الحسين بن منصور: معناه: ولم يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك الحق..
وقال أبو سعيد الخراز: لم يكن لك همة غير الله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت الكتاني يقول: التصوف خُلق، من زاد عليك بالخلق، فقد زاد عليك في التصوف.
ويروي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه قال: إذا سمعتموني أقول لمملوك: أخزاه الله فأشهدوا أنه حر.
وقال الفضيل: لو أن العبد أحسن الإحسان كله، وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين.
وقيل: كان ابن عمر، رضي الله عنهما، إذا رأى واحداً من عبيده يُحسن الصلاة يعتقه. فعرفوا ذلك من خُلقه، فكانوا يحسنون الصلاة مراءاة له، وكان يعتقهم، فقيل له في ذلك. فقال: من خدعنا في الله انخدعنا له.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمت أبا محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث المحاسبي يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: الخلقي: استصغار ما منك إليه واستعظام ما منه إليك.
وقيل للأحنف: ممن تعلمت الخلق؟ فقال: ن قيس بن عاصم للنقري قيل: وما بلغ من خُلقه؟ قال: بينا هو جالس في داره إذ جاءت خادم له بنفود عليه شواء، فسقط من يدها، فوقع علي ابن له، فمات، فدهِشت الجارية، فقال: لا رَوْعَة عليك، أنت حرة لوجه الله تعالى.
وقال شاه الكرماني:علامة حسن الخلق: كف الأذى، واحتمال المؤن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وُحسن الخلق " .
وقيل لذي النون المصري: من كثر الناس هماً؟ قال: أسوأهم خلفاً.
وقال وهب: ما تخلق عبد يخلق أربعين صباحاً إلا جعله الله طبيعة فيه.
وقال الحسن البصري في قول الله تعالى: " وثيابك فطهر " أي: وخلفك فحسن..
وقيل: كان لبعض النساك شاة فرآها على ثلاثة قوائم. فقال: من فعل بها هذا؟ فقال غلام له: أنا. فقال: لِمَ؟ قال: لا غُمك بها!! فقال: لا، بلا لأغمن من أمرك بذلك. أذهب فأنت حر.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: هل فرحت في الدنيا قط؟. فقال: نعم، مرتين إحداهما: كنت قاعداً ذات يوم فجاء إنسان وبال عليَّ؛ والثانية: كنت قاعداً فجاء إنسان وصفعني.
وقيل: كان أويس القرني إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فيقول: إن كان ولا بد فارموني بالصغار: كيلا تدقوا ساقي فتمنعوني عن الصلاة.
وشتم رجل الأحنف بن قيس... وكان يتبعه... فلما قرب من الحي وقف، وقال: يا فتى، إن بقي شيء فقله؛ كيلا يسمعك بعض سفهاء الحي فيجيبوك.
وقيل لحاتم الأصم: أيحتمل الرجل من كل أحد؟.. فقال: نعم، إلا من نفسه.
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، دعا غلاماً له، فلم يجب، فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً، فقال: أما تسمع يا غلام؟ فقال: نعم. قال: فما حملك على ترك جوابي؟ فقال: أمِنتُ عقوبتك فتكاسلت. فقال: أمض؛ فأنتحر لوجه الله تعالى.
وقيل: نزل معروف الكرخي الدجلة ليتوضأ، ووضع مصحفه وملحفته، فجاءت امرأة وحملتهما، فتبعها معروف، وقال: يا أختي، أنا معروف ولا بأس عليك، ألك ابن يقرأ؟ قالت: لا. قال: فزوج؟ قالت: لا، قال: فهاتي المصحف وخذي الثوب.

ودخل اللصوص مرة دار الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي بالمكابرة، وحملوا وجدوا، فسمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: اجتزت بالسوق، فوجدت جبتي على من يزيد، فأعرضت، ولم ألتفت إليه.
سمعت الشيخ أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: سمعت الوجيهي يقول: قال الجريري: قدمت من مكة، حرسها الله تعالى، فبدأت بالجنيد، لكيلايتعنى أليَّ، فسلَمت عليه، ثم مضيت إلى المنزل فلما صليت الصبح في المسجد إذا أنا به خلفي في الصف، فقلت: إنما جئتك أمس لئلا تتعني، فقال: ذاك فضلك، وهذا حقك.
وسئل أبو حفص عن الخلق. فقال: هو ما اختار الله - عزَّ وجلَّ - لنبيه صلى الله عليه وسلم ي قوله تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف.. " الآية.
وقيل: الخلق: أن تكون من الناس قريباً، وفيما بينهم غريباً.
وقيل: الخلق قبول ما يردُ عليك من جفاء الخلق، وقضاء الحق بلا ضجر ولا قلق.
وقيل: كان أبو ذر على حوض يسقي إبلاً له، فأسرع بعض الناس إليه، فانكسر الحوض، فجلس، ثم اضطجع، فقيل له في ذلك فقال: إن رسول الله صلى الله عليهوسلم أمرنا إذا غضب الرجل أن يجلس فإن ذهب عنه. وإلا فليضطجع.
وقيل: مكتوب في الإنجيل: عبدي.. أذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب.
وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائيّ!! فقال: يا هذه، وجدت أسمي الذي أضله أهل البصرة.
وقال لقمان لابنه: لا تُعرف ثلاثة إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة إليه.
وقال موسى، عليه السلام: إلهي، أسألك أن لايقال ما ليس فيه؛ فأوحى الله سبحانه إليه: ما فعلت ذلك لنفسي، فكيف أفعله لك؟ وقيل ليحيى بن زياد الحارثي، وكان له غلام سوء: لمَ تمسك هذا الغلام؟ فقال: لأتعلم عليه الحلم.
وقيل في قوله تعالى: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " : الظاهرة: تسوية الخلق، والباطنة: تصفية الخُلُق.
وقال الفضيل: لأن يصحبني فأجر حسن الخلق أحب إليّ ن أن يصحبني عابد سيء الخلق.
وقيل: الخلق الحسن احتمال المكروه بحسن المداراة.
وحكي أن إبراهيم بن أدهم خرج إلى بعض البراري فاستقبله جنيدي، فقال: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فضرب رأسه وأوضحه، فلما جاوزه، قيل له: إنه إبراهيم بن أدهم زاهد خراسان فجاءه يتعذر إليه، قال: إنك لما ضربتني سألت الله تعالى لك الجنة. فقال: لم؟ فقال علمت أني أؤجر عليه، فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير، ونصيبك مني الشر.
وحكي أن أبا عثمان الحيري دعاه إنسان إلى ضيافة، فلما وافى باب داره قال: يا أستاذ، ليس الآن وقت دخولك، وقد ندمت، فانصرف، فرجع ابو عثمان، فلما وافى منزله عاد إليه الرجل، وقال: يا أستاذ، ندمت!! وأخذ يتعذر إليه، وقال أحضر الساعة.. فقام أبو عثمان ومضى، فلما وافى باب داره قال: مثل ما قال في الأولى، ثم كذلك فعل في الثالثة والرابعة، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، فلما كان يعد مرات قال: يا أستاذ، أردت اختبارك. وأخذ يعتذر ويمدحه، فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجد مثله مع الكلاب: الكلب إذا دعي حضر، وإذا زجر انزجر.
وقيل: إن أبا عثمان اجتاز بسكة وقت الهاجرة، فألقى عليه من سطح طشت رماد، فتغير أصحابه، وبسطوا ألسنتهم في الملقى، فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئاً، من استحق أن يصبّ عيه النار، فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب.
وقيل: نزل بعض الفقراء على جعفر بن حنظلة، فكان جعفر يخدمه جداً، والفقير يقول: نعم الرجل أنت لو لم تكن يهودياً!! فقال جعفر: عقيدتي لا تقدح فيما تحتاج إليه من الخدمة؛ فسل لنفسك الشفاء ولي الهداية.
وقيل: كان لعبد الله الخياط حرِّيف مجوسي، يخيط له ثياباً، ويدفع إليه دراهم زيوفاً، وكان عبد الله يأخذها.. فاتفق أنه قام من حانوته يوماً لشغل، فجاء بالدراهم الزيوف، فدفعها إلى تلميذه، فلم يقبلها، فدفع إليه الصحاح، فلما رجع عبد الله قال لتلميذه: أين قميص المجوسي؟ فذكر له القصة.. فقال: بئس ما عملت؟ إنه منذ مدة يعاملني بمثلها، وأنا أصبر عليه، وألقيها في بئر، لئلا يغر بها غيري.
وقيل: الخلق السيء يضيق قلب صاحبه؛ لأنه لا يسع فيه غير مراده، كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه.
وقيل حسن الخلق: أن لا تتغير ممن يقف في الصفّ بجنبك.
وقيل: من سوء خلقك: وقوع بصرك على سوء خلق غيرك.

وسئل رسول، الله صلى الله عليه وسلم، عن الشؤم، فقال: " سوء الخلق " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي، قال: حدثنا أبو الحسن الصغار البصري قال: حدّثنا معاذ بن المثني قال: حدّثنا يحيى بن معني قال: حدثنا مروان الفزاري قال: حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، ادع الله تعالى على المشركين.
فقال: " إنما بعثت رحمة، ولم أبعث عذاباً " .

باب الجود والسخاء

قال الله عزّ وجلّ: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا الحسن بن العباس قال: حدثنا سهل قال: حدثنا سعيد بن مسلم، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عائشة، رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السخسّ: قريب من الله تعالى، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار.
والبخيل: بعيد من الله تعالى، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار.
والجاهل السخيّ أحب إلى الله تعالى من العابد البخيل " .
قال الأستاذ: ولا فرق - على لسان القوم - بين الجود والسخاء، ولا يوصف الحق، سبحانه، بالسخاء والسماحة؛ لعدم التوقيف.
وحقية الجود: أن لا يصعب عليه البذل.
وعند القوم، السخاء: هو الرتبة الأولى، ثو الجود بعده، ثم الإيثار؛ فمن أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر، وأبقى لنفسه شيئاً، فهو صاحب إيثار، كذلك سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: أسماء بن خارجة: ما أحبّ أن أرد أحداً عن حاجة طلبهامني؛ لأنه إن كان كريماً أصون عرضه، وإن كان لئيما أصون عنه عرضي.
وقيل: كان مورّق العجلي يتلطف في إدخال الرفق على إخوانه؛ يضع عندهم ألف درهم، فيقول: أمسكوها عندكم حتى أعود إليكم. ثم يرسل إليهم: أنتم منها في حلّ.
وقيل: لقي رجل من أهل منبج رجلا من أهل المدينة، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل المدينة، فقال له: لقد أتانا رجل منكم يقال له الحكم ابن عبد المطلب فأغنانا. فقال له المدني: وكيف؟ وما أتاكم إلا في جبة صوف! فقال: ما أغنانا بمال، ولكنه علمنا الكرم. فعاد بعضنا على بعض حتى استغنينا.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليغة أمر بضرب أعناقهم؛ فأما الجنيد فإنه تستر بالفقر، وكان بفتى علي مذهب أبي ثور ، وأما الشحام، والرقام، والنوري، وجماعة، فقبض عليهم؛ فبسط النِّطع لضرب أعناقهم.. فتقدم النوري فقال له السّياف: تدري الى ماذا تبادر؟. فقال: نعم فقال وما يعجلك؟ فقال أوثر عليِّ أصحابي بحياة ساعة.
فتحير السيَّاف، وأنهى الخبر إلىالخليفة، فردهم إلى القاضي؛ ليتعرف حالهم؛ فألقى القاضي على أبي الحسين النوري مسائل فقهية، فأجابه الكل، ثم أخذ يقول: وبعد؛ فإنه لله عباداً قاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظاً أبكى بها القاضي فأرسل القاضي إلى الخليفة، وقال: إن كان هؤلاء زنادقة: فما على وجه الأرض مسلم.
وقيل: كان عليّ بن الفضيل يشتري من باعة المحلة؛ فقيل له: لو دخلت السوق فاسترخصت.
فقال: هؤلاء نزلوا بقربنا رجاء منفعتنا.
وقيل: بعث رجل إلى جبلة يجارية، وكان بين أصحابه، فقال: قبيح أن اتخذها لنفسي وأنتم حضور؛ وأكره أن أخص بها واحداً، وكلكم له حق وحرمة. وهذه لا تحتمل القسمة، وكانوا ثمانين؛ فأمر لكل واحد بجارية أو وصيف.
وقيل: عطش عبيد الله بن أبي بكرة يوماً في طريقه، فاستسقى من منزل امرأة، فأخرجت له كوزاً، وقامت خلف الباب، وقالت: تنحوا عن الباب، وليأخذه بعض غلمانكم، فإني امرأة من العرب: مات خادمي منذ أيام، فشرب عبيد الله تسخر بي؟. فقال: احمل إليها عشرين ألف درهم. فقالت: اسأل الله تعالى العافية. فقال: يا غلام أحمل إليها ثلاثين ألف درهم، فردّت الباب وقالت: أف لك. فحمل إليها ثلاثين ألف درهم، فأخذتها فما أمست حتى كثر خطابها.
وقيل: الجود: إجابة الخاطر الأول:

سمعت بعض أصحاب أبي الحسن البوشنجي، رحمه الله، يقول: كان أبو الحسن البوشجني في الخلاء، فدعا تلميذاً له، وقال له: انزع عني هذا القميص، وادفعه إلى فلان؛ فقيل له: هلا صبرت حتى تخرج من الخلاء؟ فقال: لم آمن على نفسي أن يتغير على ما وقع لي من التخلف منه بذلك القميص.
وقيل لقيس بن سعد بن عبادة: هل رأيت أحداً أسخى منك؟ فقال له: نعم؛ نزلنا بالبادية على امرأة، فحضر زوجها، فقالت له: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة ونحرها، وقال: شأنكم بها..
فلما كان بالغد جاء بأخرى ونحرها، وقال: شأنكم بها، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت لنا البارحة إلا اليسير: فقال: إني لاأطعم أضيافي الغاب. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة، والسماء تمطر، وهو يفعل كذلك.
فلما أردنا الرحيل وضعنا له مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه.. ومضينا، فلما مَتَع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام: أعطيتموني ثمن قراي... ثم إنه لحقنا وقال: لنأخذنه، وإلا طعنتكم برمحي هذا. فأخذناه وانصرف، فأنشأ يقول:
وإذا أخذت ثواب ما أعطيته ... فكفى بذاك لنائلٍ تكديرا
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: دخل أبو عبد الله الروزباري دار بعض أصحابه، فوجده غائباً، وباب بيت له مقفل، فقال: صوفيَّ وله باب بيت مقفل!! كسروا القفل، فكسروا القفل وأمر بجميع ما وجد في الدار والبيت، وأنفذه إلى السوق، وباعوه، وأصلحوا وقتاً من الثمن، وقعدوا في الدار.. فدخل صاحب المنزل ولم يمكنه أن يقول شيئاً.
فدخلت امرأته بعدهم الدار، وعليها كساء، فدخلت بيتاً، ورمت الكساء، وقالت: يا أصحابنا، هذا أيضاً من جملة المتاع فبيعوه. فقال الزوج لها: لِمَ تكلفت هذا باختيارك؟ فقالت له: اسكت، مثل هذا الشيخ يباسطنا، ويحكم علينا، ويبقى لناشىء ندخره عنه؟ وقال بشر بن الحارث: النظر إلى البخيل يقسى القلب.
وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه. فسأل عنهم، فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين؛ فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة!! ثم أمر من ينادي مَن كان لقيس عليه دين فهو منه في حل، فكسرت عتبته بالعشى، لكثرة ما عاده.
وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك تبذل الكثير إذا سئلت، وتضنُّ في القليل إذا نُجزتَ.
فقال: إني أبذل مالي وأضنُّ بعقلي.
وقيل: خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له.. فنزل على نخيل قوم: وفيها غلام أسود يعمل فيها؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل كلب الخائط ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص، فأكله، ثم رمى إليه بالثاني، والثالث، فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إليه فقال له: يا غلام، كم قُوتك كلَّ يوم؟ قال: ما رأيت: قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب، نه جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت رده.
قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال له: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر: أأَلام على السخاء؟! إنَّ هذا الأسخى مني، فاشتري الحائط والغلام وما فيها من آلات، فأعتق الغلام ووهبها له.
وقيل: أتى رجل صديقاً له، ودق عليه الباب، فلما خرج إليه قال: لماذا جئتني؟ قال لأربعمائة درهم دين ركبتني، فدخل الدار، ووزن له أربعمائة درهم وأخرجها إليه، ودخل الدار باكياً، فقالت له امرأته: هلا تعللت حين شق عليك الإجابة؟! فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى أحتاج إلى مفاتحتي به.
وقال مطرف بن الشخير: ذا أراد أحدكم مني حاجة فليرفها في رقعة؟ فإني أكره أن أرى في وجهه ذلّ الحاجة.
وقيل: أراد رجل أن يضار عبد الله بن العباس، فأتى وجوه البلد وقال لهم: يقول لكم ابن العباس تغدوا عندي اليوم. فأتوه، فملئوا الدار، فقال: ما هذا؟ فأخبر الخبر فأمر بشراء الفواكه الوقت، وأمر بالخبز، والطبخ، وأصلح أمراً، فلما فرغوا قال لوكلائه: أموجوج لنا كل يوم هذا؟ فقالوا: نعم. فقال: فليتغد هؤلاء كلهم عندنا كل يوم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي يتوضأ يوما في صحن داره، فدخل إليه إنسان وسله شيئاً من الدنيا، ولم يحضر شيء، فقال: أصبر حتى أفرغ.

فصبر.. فلما فرغ قال له: خذ القمقمة واخرج. فأخذها، وخرج، ثم صبر حتى علم أنه بعُد، فصاح وقال: دخل إنسان وأخذ القمقمة. فمشوا خلفه، فلم يدركوه.
وإنما فعل ذلك: لأن أهل المنزل كانوا يلومونه على كثرة البذل.
وسمعته يقول: وَهبَ الأستاذ أبو سهل جبّته من إنسان في الشتاء، وكان يلبس جبة النساء حين يخرج إلى التدريس، إذ لم تكن له جبة أخرى، فقدم الوفد المعروفون من فارس، فيهم من كل نوع: إمام من الفقهاء، والمتكلمين، والنحويين، فأرسل أليه صاحب لجيش أبو الحسن وأمره بأن يركب للاستقبال فلبس دُراعةً فوق تلك الجبة التي للنساء، وركب، فقال صاحب لجيش: إنه يستخف بي أمام البلد؛ يركب في جبة النسا..!! ثم إنه ناظرهم أجمعين فظهر كلامه على كلام جميعهم في كل فن.
وسمعته يقول: لم يناول الأستاذ أبو سهل أحداً شيئاً بيده، وكان يطرحه على الأرض ليأخذه الآخذ من الأرض، وكان يقول: الدنيا أقل خطراً ن أن أرى لأجلها يدي فوق يد أحد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى " .
وقيل: كان أبو مرتد، رحمه الله، أحد الكرام، فمدحه بعض الشعراء، فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن قدمني إلى القاضي، وادع عليَّ عشرة آلاف درهم، حتى أقرّ لك بها، ثم أحبسني، فإن أهلي لا يتركوني مسجوناً. ففعل ذلك، فلم يُمس حتى دُفع إليه عشرة آلاف درهم، وخر من السجن.
وقيل: سأل رجل الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه شيئاً فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقيل: أئت بحمال يحمله لك. فأتى بحمال فأعطاه طيلسانه وقال: يكون كِراءُ الحمال من قِبلي.
وسألت امرأة الليث بن سعد سكرجة عسل، فأمر لها بزقٍ من عسل فقيل له في ذلك، فقال: إنها سألت علي قدر حاجتها، ونحن نعطيها على قدر نعمنا.
وقال بعضهم صليت في مسجد الأشعث بالكوفة الصبح أطلب غريماً لي، فلما سلمت وَضِع بين يدي كلِّ واحد حلة ونعلين. وكذلك وضع بين يدي، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: إن الأشعث قدم من مكة، فأمر بهذا لأهل جماعة مسجده.
فقلت: إنما جئت أطلب غريماً لي، ولست من جماعته.
فقالوا: و لكلِّ من حضر.
وقيل: لما قربت وفاة الشافعي، رضي الله تعالى عنه، قال: مُروا فلاناً يغسِّلني.
وكان الرجل غائباً.. فلما قدم أخبر بذلك، فدعا بتذكرته. فوجد عليه سبعين ألف درهم ديناً، فقضها، وقال: هذا غسلي إياه.
وقيل: لما قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة كان معه عشرة آلاف دينار، فقيل له: تشتري بها قنية فضرب خيمته خارج مكة، وصبَّ الدنانير، فكل من دخل عليه كان يعطيه قبضة قبضة، فلما جاء وقت الظهر قام ونفض الثوب ولم يبق شيء.
وقيل: خرج السريّ يوم عيد، فاستقبله رجل كبير الشأن، فسلم السري عليه سلاماً ناقصاً. فقيل له: هذا رجل كبير الشأن. فقال: قد عرفته، ولكن روي مسنداً: أنه إذا التقى المسلمان قُسمت بينهما مائة رحمة: تسعون لأبشهما، فأردت أن يكون معه الأكثر.
وقيل: بكرى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، وأخاف أن يكون الله تعالى قد أهانني.
وروي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه قال: زكاةُ الدّار أن يتخذ فيها بيت للضيافة.
وقيل في قوله تعالى: " هل أتاك حديث ضيف إبرهيم المكرمين.. " . قيل قيامه عليهم بنفسه، وقيل: لأن ضيف الكريم كريم.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربعة لاينبغي للشريف أن ينف منهن، وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته لعالم يتعلم منه، والسؤال عما لم يعلم.
وقال أبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً " : إنهم كانوا يتحرجون في أن يأكل أحدهم وحده؛ فرخص لهم في ذلك.
وقيل: أضاف عبد الله بن عامر بن كريز رجلاً، فأحسن قراه، فلما أراد الرجل أن يرتحل عنه لم يُعنه غلمانه، فقيل له في ذلك. فقال عبد الله: إنهم لايعينون من يرتحل عنا.
أنشد عبد الله بن باكوية الصوفي قال: أنشدنا المتني في معناه:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا يفارقهم فالراحلون همُ
وقال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل.

وقال بعضهم: دخلت على بشر بن الحارث في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب وهو ينتفض، فقلت: يا أبا نصر، الناس يزيدون في الثياب في مثل هذا اليوم وأنت قد نقصت؟!! فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه، ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أرافقم بنفسي في مقاساة البرد.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الدقاق يقول: ليس السخاء أن يعطي الواجدُ المعدم، إنما السخاء أن يُعطى المعدمُ الواجد.

باب الغيرة

قال الله تعالى: " قل إنما حرَّمَ ربيِّ الفواحش ما ظهر منها وما بطن " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزكي قال: أخبرنا أبو أحمد حمزة ابن العباس البزاز ببغداد قال: حدثنا محمد بن غالب بن حرب قال: حدثنا عبد الله أبن مسلم، قال: حدثنا محمد بن الفرات، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أحدٌ أغير من الله تعالى، ومن غيرته حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " .
أخبرنا عليَّ بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثنا علي بن الحسن بن بنان قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أخبرنا حرب بن شداد قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة: أن أبا هريرة، رضي الله عنه، حدَّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله تعالى: أن يتي العبد المؤمن ما حرَّم الله عليه " .
والغيرة: كراهية مشاركة الغير، وإذا وُصف الله سبحانه بالغيرة، فمعناه: أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له تعالى من طاعة عبده له.
حكى عن السريّ السقطي: أنه قرىء بين يديه: " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً " . فقال السريّ لأصحابه: أتدرون ما هذا الحجاب؟! هذا حجاب الغيرة، ولا أحد أغير من الله تعالى.
ومعنى قوله: " هذا حجاب الغيرة " يعني: أنه لم يجعل الكافرين أهلاً لمعرفة صدق الدين.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق، رحمه الله: يقول: إن أصحاب الكل عن عبادته تعالى هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخلالان. فأختار لهم البعد عنه، وأخرهم عن محل القرب؛ ولذلك تأخروا.
وأنشدوا:
أنا صبٌ لمن هويتُ ولكن ... ما احتيالي لسوء رأي الموالي
وفي معناه أيضاً قالوا: سقيم ليس يُعادُ ومريد ولا يُراد.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: سمعت العباس الزوزني يقول: كان لي بداية حسنة.. وكنت أعرف كم بقي بيني وبين الوصول إلى مقصودي من الظفر بمرادي، فرأيت ليلة من الليالي في المنام: كأني أتدهده من خالق الجبل، فأردت الوصول إلى ذروته. قال: فحزنت، فأخذني النوم فرأيت قائلاً يقول: ياعباس، الحق لم يُرد منك أن تصل إلى ما كنت تطلب، ولكنه فتح على لسانك الحكمة، قال: فأصبحت وقد ألهمت كلمات الحكمة.
وسمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمه الله، يقول: كان شيخ من الشيوخ له حال ووقت مع الله، فخفي مدَّة لم يُر بين الفقراء، ثم إنه ظهر بعد ذلك لا على ما كان عليه من الوقت. فسئل عنه فقال: آه. وقع حجاب.
وكان الأستاذ أبو علي، رحمه الله تعالى، إذا وقع شيء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول: هذا من غيرة الحق سبحانه، يريد أن لا يجري عليهم ما يجري من صفاء هذا الوقت.
وأنشدوا في معناه:
همت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المرآة نهاها وجهها الحسن
وقيل لبعضهم: تريد أن تراه؟ فقال: لا، فقيل: لِمَ؟ فقال: أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي.
وفي معناه أنشدوا:
إني لأحسدُ ناظري عليكا ... حتى أغض إذا نظرت إليكا
وأراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا
وسئل الشبلي: مى تستريح؟ فقال: إذا لم أر له ذاكراً.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله. يقول: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في مبايعته فرساً من أعرابي، وأنه استقاله فأقاله،فقال الأعرابي: عمرُك الله تعالى، ممن أنت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمرؤ من قريش.
فقال بعض أصحابه من الحاضرين للأعرابي: كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك!..

وكان رحمه الله يقول: إنما قال امرؤ من قريش غيرة، وإلا كان واجباً عليه التعرف إلى كل أحد: أنه من هو؟.. ثم إن الله؛ سبحانه، أجرى علي لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي يقول: كفاك جفاء أن لا تعرف نبيك..!! من الناس من قال: إن الغيرة من صفات أهل البداية، وإن الموحد لا يشهد الغيرة، ولا يتصف بالاختيار، وليس له فيما يجري في المملكة تحكم، بل الحق سبحانه، أولى بالأشياء فيما يقضي على ما يقضي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان الغربي يقول: الغيرة عمل المريدين، فأما أهل الحقائق فلا.
وسمعته يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت الشبلي يقول: الغيرة غيرتان: غيرة البشرية على النفوس، وغيرة الإلهية على القلوب.
وقال الشبلي أيضا: غيرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله تعالى، والواجب أن يقال: الغيرة غيرتان: غيرة الحق، سبحانه، على العبد: وهو أن لا يجعله للخلق، فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق، وهو أن لايجعل شيئاً من أحواله وأنفاسه لغير الحق تعالى فلا يقال: أنا أغار على الله تعالى، ولكن يقال: أنا أغار لله، فإذن الغيرة على الله تعالى جهل، وربما تؤدي إلى ترك الدين؛ والغيرة لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال له.
واعلموا أنًّ من سنة الحق، تعالى، مع أوليائه: أنهم إذا ساكنوا غيراً، أو لاحظوا شيئاً، أو ضاجعوا بقلوبهم شيئاً، شوَّش عليهم ذلك، فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه، فارغة عما ساكنوه أو لاحظوه أو ضاجعوه، كآدم، عليه السلام، لمَّا وطن نفسه على الخلود في الجنة أخرجه منها.
وإبراهيم، عليه السلام، لما أعجبه إسماعيل، عليه السلام، أمره بذبحه حتى أخرجه من قلبه فلما أسلما وتله للجبين وصفا سره منه أمره بالفداء عنه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا زيدد المروزي، رحمه الله، يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: سمعت محمد بن حسان يقول: بينا أنا أدور في جبل لبنان، إذ خرج علينا رجل شاب قد أحرقته السموم والرياح؛ فلما نظر إليّ ولى هارباً، فتبعه، وقلت له تعظني بكلمة؟ فقال لي: احذر، فإنه غيور، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن، رحمه الله، يقول: قال النصراباذي: الحق تعالى غيور، ومن غيرته: أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه.
وقيل: أوحى الله، سبحانه، إلى بعض أنبيائه: أنَّ لفلان إلى حاجة، ولي أيضاَ إليه حاجة، فإن قضى حاجتي قضيت حاجته؛ فقال ذلك النبي، عليه السلام في مناجاته: إلهي؛كيف يكون ذلك حاجة؟ فقال: إنه ساكن بقلبه غيري فليفرغ قلبه عنه أقض حاجته.
وقيل: ن أبا يزيج البسطامي رأى جماعة من الحور العين في منامه.. فنظر إليهن، فسلب وقته أياماً، ثم إنه رأى في منامه جماعة منهن، فلم يلتفت إليهن وقال: إنكنَّ شواغل.
وقيل: مرضت رابعة العدوية، فقيل لها: ما سبب علنك؟ فقالت: نظرت بقلبي إلى الجنة فأدبني، فله العتبي، لا أعود ويحكى عن السري أنه قال: كنت أطلب رجلاً صديقاً لي مدة من الأوقات فمررت في بعض الجبال: فإذا أنا بجماعة زمني وعميان ومرضي، فسألت عن حالهم، فقالوا: هاهنا يخرج في السنة مرة يدعو لهم فيجدون الشفاء، فصبرت حتى خرج.. ودعا لهم فوجدوا الشفاء، فقفوت أثره وتعلقت به، وقلت له بي علة باطنة!!ن فما دواؤها؟ فقال: يا سري، خلِّ عني، فإنه - تعالى - غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه.
قال الأستاذ: ومنهم من غيرته، حين يرى الناس يذكرونه، تعالى بالغفلة فلا يمكنه رؤية ذلك وتشق عليه.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: لما دخل الأعرابي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبال فيه، وتبادر إليه الصحابة لإخراجه، قال، رحمه الله، إنما أساء الأعرابي الأدب، ولكن الخجل وقع على أصحابه، والمشقة حصلت لهم حين رأوا من وضع خشمته، كذلك العبد إذا عرف جلال قدره، سبحانه يشقُّ عليه سماع ذكر من يذكره بالغفلة، وطاعة من لا يعبده بالحرمة.
حكى أنا أبا بكر الشبلي مات له ابن كان أسمه أبا الحسن فجزعت أمه عليه، وقطعت شعر رأسها. فدخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته، فكل من أتاه معزياً قال: ما هذا يا أبا بكر؟ فكان يقول: موافقة لأهلي.
فقال له بعضهم: أخبرني يا أبا بكر لِمَ فعلت هذا؟

فقال: علمت أنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله تعالى، ففديت ذكرهم لله تعالى بالغفلة بلحيتي.
وسمع النوري رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، وسمع كلباً ينبح فقال: لبيك وسعديك. فقيل له:إن هذا تركٌ للدين.. فنه يقول للمؤمن في تشهده طعنة وسم الموت، ويلبي عند نباح الكلاب، فسئل عن ذلك فقال أما ذلك فكان ذكره لله على رأس الغفلة، وأما الكلب فقال تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " .
وأذن الشبلي مرة، فلما انتهى إلى الشهادتين قال: لولا أنك أمرتني ما ذكرتُ معك غيرك.
وسمع رجلٌ رحلاً يقول: جلَّ الله. فقال له: أحبُّ أن تله عن هذا.
سمعت بعض الفقراء يقول: سمعت أبا الحسن الخزفاني رحمه الله يقول: لا إلهَ إلا الله من داخل القلب. محمد رسول الله من القرط ومن نظر إلى ظهر هذا اللفظ توهم أنه استصغر الشرع. ولا كما يخضر بالبال، إذ الإخطار للأغيار بالإضافة إلى قدر الحق سبحانه متصاغرة في التحقيق.

باب الولاية

قال الله تعالى: " ألا إنَّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي، رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن عدي الحافظ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن هارون بن حميد، قال: حدثنا محمد بن هارون المقري قال: حدثنا حماد الخياط، عن عبد الواحد بن ميمون مولى عروة، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: من آذى ولياً فقد استحل محاربتي، وما تقرب إلى العبد بمثل أداء ما افترضت عليه، ومايزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، وما ترددت في شيء أنا فاعلة كترددي في قبض روح عبدي المؤمن؛ لأنه يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه.
الواليّ: له معنيان: أحدهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره؛ قال الله تعالى: " وهو يتولى الصالحين " فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق، سبحانه، رعايته.
والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتوالى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي، من غير أن يتخللها عصيان.
وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي وليَّا: يجب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاستيفاء، ودوام حفظ الله تعالى إياه في السراء والضراء.
ومن شرط الولي: أن يكون محفوظاً، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق رحمه الله، قصد أبو يزيد البسطامي بعض من وصف بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه، فخرج الرجل، وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه. وقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة، فكيف يكون أميناً على أسرار الحق؟! واختلفوا في أن الولي: هل يجوز أن يعلم أنه وليّ، أم لا؟ فمنهم من قال: لايجوز ذلك؛ وقال: إن الولي يلاحظ نفسه بعين التصغير، وإن ظهر عليه شيء من الكرامات خاف أن يكون مكراً، وهو يستشعر الخوف دائماً أبداً؛ لخوف سقوطه عما هو فيه، وأن تكون عاقبته بخلاف حاله، وهؤلاء يجعلون من شرط الولاية: وفاء المآل.
وقد ورد في هذا الباب حكايات كثيرة عن الشيوخ، وإليه ذهب من شيوخ هذه الطائفة جماعة لا يحصون، ولو اشتغلنا بذكر ما قالوا لخرجنا عن حد الاختصار، وإلى هذا كان يذب من شيوخنا الذين لقيناهم الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله.
ومنهم من قال: يجوز أني علم الولي أنه وليّ، وليس من شرط تحقيق الولاية في الحال الوفاءُ في المآل.
ثم إن كان ذلك من شرطه أيضاً فيجوز أن يكون هذا الوليُّ خُصَ بكرامة هي: تعريف الحق إياه أنه مأمون العاقبة؛ إذ القول بجواز كرامات الأولياء واجب، وهو وإن قارفه خوف العقابة، فما هو عليه من الهيبة والتعظيم والإجلال في الحال أتم وأشدّ؛ فإن اليسير من التعظيم والهيبة أهدأ للقلوب من كثير من الخوف.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: " عشرة في الجنة من أصحابي " ، فالعشرة - لا محالة - صدَّقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا سلامة عاقبتهم، ثم لم يقدح ذلك في حالهم.

ولأن من شرط صحة المعرفة بالنبوة: الوقوف على حدِّ المعجزة، ويدخل في جملته العلمُ بحقيقة الكرامات، فإذا رأى الكرامات ظاهرة عليه لا يمكنه أن لا يميز بينها وبين غيرها، فإذا رأى شيئاً من ذلك علم أنه في الحال على الحق. ثم يجوز أن يعرف أنه في المآل يبقى على هذه الحالة، ويكون هذا التعريف كرامة له. والقول بكرامات الأولياء صحيح.
وكثير من حكايات القوم يدل على ذلك كما نذكر طرفاً من ذلك في باب كرامات الأولياء إن شاء الله تعالى.
وإلى هذا القول كان يذهب من شيوخنا الذين لقيناهم، الأستاذ أبو علي الدقاق، رحمه الله.
وقيل: إن إبراهيم بن أدهم قال لرجل: أتحبُّ أن تكون لله ولياً؟ فقال: نعم، فقال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة؛ وفرغ نفسك لله تعالى، وأقبل بوجهك عليه ليُقبل عليك ويواليك.
وقال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء: هم عباد تسربلوا بالأنس بالله تعالى بعد المكابدة، واعتنقوا الروح بعد المجاهدة، بوصولهم إلى مقام الولاية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: أولياء الله تعالى عرائس الله.. ولا يرى العرائس إلا المحرومون. وهم مخدرون عنده في حجاف الأنس، لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة.
سمعت أبا بكر الصيدلاني - كان رجلاً صالحاً - قال: كنت أصلح اللوح في قبر أبي بكر الطمستاني أنقر فيه اسمه في مقبرة الحيرة كثيراً، وكان يقلع ذلك اللوح ويُسرق!! ولم يقع مثله في غيره من القبور، فكنت أتعجب منه، فسألت أبا علي الدقاق، رحمه الله، يوماً عن ذلك فقال: إن ذلك الشيخ آثر الخلفاء في الدنيا، وأنت تريد أن تشهر قبره باللوح الذي تصلحه فيه، وإن الحق سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره، كما آثر هو ستر نفسه.
وقال أبو عثمان المغربي: الوليُّ قد يكون مشهوراً، ولكن لا يكون مفتوناً..
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: ليس للأولياء سؤال؛ إنما هو الذبول والخمول.
قال: وسمعته يقول: نهايات الأولياء بدايات الأنبياء.
وقال سهل بن عبد الله: الوليّ: هو الذي توالت افعال علي الموافقة.
وكان يحيى بن معاذ: الولي لا يرائي، ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه!! وقال أبو علي الجوزجاني: الولي هو الفاني في حاله، الباقي في مشاهدة الحق سبحانه، تولى الله سياسته فتوالت عليه أنوار التولي، لم يكن له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.
وقال أبو يزيد: حظوظ الأولياء مع تباينها من أربعة أسماء، وقيام كل فريق منهم باسم؛ وهو: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، فمتى فني عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام، فمن كان حظه من اسمه تعالى الظاهر لاحظ عجائب قدرته ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره. ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السرائر من أنواره. ومن كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق، ومن كان حظه من اسمه الآخر كان مرتبطاً بما يستقبله، وكل كوشف علي قدر طاقته إلا من تولاه الحق، سبحانه ببره، وقام عنه بنفسه.
وهذا الذي قاله أبو يزيد يشير إلي أن الخواصّ من عباده ارتقوا عن هذه الأقسام، فلا العواقب هم في ذكرها، ولا السوابق هم في فكرها، ولا الطوارق هم في أسرها.. وكذا أصحاب الحقائق يكونون محواً عن نعوت الخلائق كما قال الله تعالى: " وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود " .
وقال يحيى بن معاذ: الوليّ ريحان الله، تعالى، في الأرض، يشمه الصديقون فتصل رائحته إلى قلوبهم فيشتاقون به إلى مولاهم، ويزدادون عبادة على تفاوت أخلاقهم.
وسئل الواسطي: كيف يُغَذى الولي في ولايته؟ فقال: في بدايته بعبادته وفي كهولته بستره بلطافته، ثم يجذبه إلى ما سبق له من نعوته وصفاته، ثم بذيقة طعم قيامه به في اوقاته.
وقيل: علامة الولي ثلاثة: شغلة بالله، وفراره إلى الله، وهمه إلى الله.
وقال الخراز: إذا أراد الله تعالى أن يوالي عبداً من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية.

وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو فحينئذ صار العبد زمناً فانياً، فوقع في حفظه سبحانه، وبرىء من دعاوى نفسه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروزباري يقول: قاب أبو تراب النخشبي: إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبته الوقيعة في أولياء الله تعالى.
وقالوا: من صفة الولي أن لا يكون له خوف؛ لأن الخوف ترقب مكروه يحل في المستقبل، أو انتظار محبوب يفوت في المستأنف، والولي ابن وقته، ليس له مستقبل فيخاف شيئاً.
وكما لا خوف له لا جراء له؛ لأن الرجاء انتظار محبوب يحصل أو مكروه يُكشف، وذلك في الثاني من الوقت.
وكذلك لاحزن له؛ لأن الحزن من حزونة القلب، ومن كان في ضياء الرضا وبَرَدَ الموافقة فأنى يكون له حزن؟! قال الله تعالى: " ألا إنَّ أولياءَ الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .

باب الدعاء

قال الله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعاً وخفية " .
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أبو الحسين الصفار البصري قال: حدثنا محمد بن أحمد العودي قال: حدثنا كامل، قال: حدثنا بن لهيعة قال حدثنا خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " .
والدعاء: مفتاح الحاجة، وهو مستروح أصحاب الفاقات، وملجأ المضطرين، ومتنفس ذوي المأرب، وقد ذم الله سبحانه وتعالى. قوماً تركوا الدعاء فقال: " ويقبضون أيديهم " قيل: لا يمدونها إلينا في السوائل.
وقال سهل بن عبد الله: خلق الله تعالى الخلق وقال ناجوني، فإن لم تفعلوا فانظروا إليّ، فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني، فإن لمتفعلوا فكونوا ببابي، فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: قال سهل بن عبد الله: أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الحال.
ودعاءاً لحال: أن يكون صاحبه مضطراً لابد له مما يدعو لأجله.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي، رحمه الله، قال سمعت أبا عبد الله المكانسي يقول: كنت عند الجنيد؛ فأتت امرأة إليه وقالت: ادع الله أني رد عليّ ابني: فإن ابناً لي ضاع فقال لها: اذهبي واصبري، فمضت، ثم عادة فقالت له مثل ذلك، فقال لها الجنيد: اذهبي واصبري، فمضت ثم عادت، ففعلت مثل ذلك مرات والجنيد يقول لها: اصبري، فقالت له: عيل صبري، ولمي بق لي طاقة عليه، فادع لي. فقال لها الجنيد: إن كان الأمر كما قلت فاذهبي، فقد رجع ابنك، فمضت، فوجدته، ثم عادت تشكر له فقيل للجني: بم عرفت ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " .
وقد اختلف الناس في أن: الأفضل الدعاء، أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال: الدعاء في نفسه عبادة، قال صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخُّ العبادة " والإتيان بما هو عبادة أولى من تركه، ثم هو حق الله تعالى فإن لم يستجب للعبد، ولم يصل إلى حظ نفسه فلقد قام بحق ربه؛ لأن الدعاء إظهار فاقة العبودية: وقد قال أبو حازم الأعرج: لئن أحرم الدعاة أشدُّ علي من أن أحرم الإجابة. وطائفة قالوا: السكوت والخمول تحت جريان الحكم أتم، والرضا بما سبق من اختيار الحق أولى، ولهذا قال الواسطي: اختيار ما جرى لك في الأزل خير لك من معارضة الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم خبراً عن الله تعالى.
" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " وقال قوم: يجب أن يكون العبد صاحب داء بلسانه وصاحب رضا بقلبه: ليأتي بالأمرين جميعاً.
والأولى أن يقال: إن الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت، وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء، وهو الأدب، وإنما يعرف ذلك في الوقت، لأن علم الوقت إنما يحصل في الوقت فإذا وجد بقلبه إشارة إلى الدعاء فالدعاء له أولى. وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت له أولى.

ويصح أن يقال: ينبغي للعبد أن لا يكون ساهياً عن شهود ربه تعالى في حال دعائه. ثم يجب عليه أن يراعي حاله، فإن وجد من الدعاء زيادة بسط في وقته فالدعاء له أولى.. وإن عاد إلى قلبه في وقت الدعاء شبه زجر ومثل قبض، فالأولى له ترك الدعاء في هذا الوقت، وإن لم يجد في قلبه زيادة بسط ول حصول زجر فالدعاء وتركه هاهنا سيان، فإن كان الغالب عليه في هذا الوقت العلمُ، فالدعاء أولى؛ لكونه عبادة، وإن كان الغالب عليه في هذا الوقت المعرفة والحال والسكوت، فالسكوت أولى، ويصح أن يقال: ما كان للمسلمين فيه تصيب، أو للحق سبحانه فيه حقّ، فالدعاء أولى وما كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتمُّ. وفي الخبر المروي " أن العبد يعو الله سبحانه وهو يحبه، فيقول: ياجبريل أخِّر حاجة عبدي، فإني أحبُّ أن أسمع صوته، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه فيقول: يا جبريل، إقض لعبدي حاجته، فإني أكره أن أسمع صوته " .
ويحكى عن يحيى بن سعيد القطان، رحمه الله تعالى، أنه رأى الحقَّ، سبحانه في المنام، فقال: آلهي: كم أدعوك فلا تجيبني!! فقال يا يحيى؛ لني أحبُّ أن أسمع صوتك.
وقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، إنّ العبد ليدعو الله تعالى وهو عليه غضبان، فيعرض عنه، ثم يدعوه، فيعرض عنه، ثم يدعوه، فيعرض عنه ثم يدعوه، فيقول الله تعالى لملائكته: أبي عبدي أن يدعو غيري فقد استجبت له " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد قال: حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بأبن السماك قال: أخبرنا محمد بن عبد ربه الحضرمي قال: أخبرنا بشر بن عبد الملك قال: حدثنا موسى بن الحجاج قال: قال مالك بن دينار: حدثنا الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّجر من بلاد الشام إلى المدينة، ومن المدينة إلى بلاد الشام، ولا يصحب القوافل توكلاً منه على الله، عز وجل، قال: بينما هو جاء من الشام يريد المدينة إذ عرض له لصٌ على فرس.. فصاح بالتاجر: قف. قف!! فوقف له التاجر، وقال له: شأنك بمالي وخلّ سبيل. فقال له اللص: المال مالي، وإنما أريد نفسك. فقال له التاجر: ما تريد بنفسي؟! شأنك والمال وخلِّ سبيلي. قال: فرد عليه اللص مثل المقالة الأولى، قال له التاجر: أنظرني حتى أتوضأ وأصلي وأدعو ربي عزَّ وجلِّ.
قال أفعل ما بدالك. قال فقام التاحر، وتوضأ، وصلى أربع ركعات، ثم رفع يديه إلى السماء، فكان من دعائه أ، قال: يا ودود.. يا ودود.. ياذا العرش المجيد، يا مبدىء يا معيد، يا فعَّال لما يدري أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرت بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، لا إله إلا أنت، يا مغيث أغثني ثلاث مرات. فلما فرغ من دعائه إذا بفارس على فرس أشهب.. عليه ثياب خضر، بيده حربة من نور، فلما نظر اللص إلى الفارس ترك التاجر ومر نحو الفارس. فلما دنا منه شد الفارس على اللص، فطعنه طعنة أدراه عن فرسه.. ثمجاء إلى التاجر فقال له: قم فاقتله، فقال له التاجر: من أنت؟ فما قتلت أحداً قد ولا تطيب نفس بقتله!! قال، فرجع الفارس إلى اللص وقتله، ثم جاء إلى التاجر، وقال: أعلم أنيملك من السماء الثالثة، حين دعوت الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعة، فقلنا أمرٌ حدث!! ثم دعوت الثانية ففتحت أبواب السماء ولها شرر كشرر النار، ثم دعوت الثالثة فهبط جبريل عليه السلام علينا من قبل السماء وهو ينادي: من لهذا المكروب؟ فدعوت ربي أن يوليني قتله، واعلم - يا عبد الله - أنه من دعا بدعائك هذا في كل كربة، وكل شدة، وكل نازلة فرج الله تعالى عنه، وأعانه. قال وجاء التاجر سالماً غانماً حتى دخل المدينة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالقصة وأخبره بالدعاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد لقنك الله عزَّ وجلَّ، اسماؤه الحسنى التي إذا دُعي بها أجاب، وإذا سئل بها أعطى " .
ومن أداب الدعاء: حضور القلب، وأن لا يكون ساهياً؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى، لا يستجيب دعاء عبد من قلب لاهٍ " .
ومن شرائطه: أن يكون مطعمه حلالاً؛ فلقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد: " اطب كسبك تُستجب دعوتك " .
وقد قيل: الدعاء: مفتاح الحاجة، وأسنانها: لقم الحلال.

وكان يحيى بن معاذ يقول: إلهي، كيف أدعوك وأنا عاص؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟! وقيل: مر موسى، عليه السلام، برجل يدعو ويتضرع، فقال موسى عليه السلام: إلهي، لو كانت حاجته بيدي قضيتها؛ فأوحى الله، تعالى إليه: أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني، وله غنم وقلبه عند غنمه، وإني لا أستجيب لعبد يدعوني وقلبه عند غيري. فذكر موسى عليه السلام للرجل ذلك، فانقطع إلى الله تعالى بقلبه فقضيت حاجته.
وقيل لجعفر الصادق: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ فقال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: ظهر بيعقوب بن الليث علة أعيت الأطباء، فقالوا له: في ولايتك رجل صالح يسمىَّ سهل بن عبد الله لو دعا لك لعل الله سبحانه يستجيب له؛ فاستحضر سهلاً وقال: ادع الله عزَّ وجل لي. فقال سهل: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي محبسك مظلومون؟ فأطلق كل من كان في حبسه، فقال سهل: اللهمَّ كما رأيته ذلَّ المعصية فأره عزّ الطاعة وفرج عنه. فعوفي، فعرض مالاً على سهل فأبى أن يقبله، فقيل له: لو قبلته ودفعته إلى الفقراء.
فنظر إلى الحصباء في الصحراء فإذا هي جواهر، فقال لأصحابه: من يُعطى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟!! وقيل: كان صالح المري يقول كثيراً: من أدمن قرع باب يوشك أن يفتح له. فقالت له رابعة: إلى متى تقول هذا؟ متى أغلق هذا الباب حتى يستفتح؟ فقال صالح: شيخ جهل وامرأة علمت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت السريّ يقول: حضرت مجلس معروف الكرخي. فقال إليه رجل فقال: يا أبا محفوظ، ادع الله تعالى أن يردَّ عليَّ كيسي؛ فإنه سرق وفيه ألف دينار. فسكت، فأعاد، فقال معروف: ماذا أقول؟ أقول ما زويته عن أنبيائك وأصفيائك. فرده عليه. فقال الرجل: فادع الله تعالى لي. فقال: اللهم خر له.
وحكي عن الليث أنه قال: رأيت عقبة بن نافع ضريراً، ثم رأيته بصيراً، فقلت له: بم رد عليك بصرك؟ فقال: أتيت في منامي، فقيل قل: يا قريب، يا مجيب، يا سميع الدعاء، يا لطيفاً لما يشاء، رد علي بصري. فقلتها، فرد الله عزَّ وجل علي بصري.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: كان بي وجع العين ابتداء ما رجعت إلى نيسابور من مرو، وكنت مدة أيام لم أجد النوم، فتناعست صباحاً، فسمعت قائلاً يقول لي: أليس الله بكاف عبده؟ فانتبهت، وقد فارقني الرمد، وزال في الوقت الوجع، ولم يصبني بعد ذلك وجع العين.
وحكى عن محمد بن خزيمة، أنه قال: لما مات أحمد بن حنبل كنت في الإسكندرية، فاغتممت.. فرأيت في المنام أحمد بن حنبل وهو يتبختر، فقلت: يا أبا عبد الله، أي مشية هذه؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله عزَّ وجل بك؟ فقال: غفر لي، وتوجني، وألبسني نعلين من ذهب، وقال: يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي. ثم قال: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري وكنت تدعو بها في دار الدنيا. فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء، اغفر لي كل شيء، ولا تسألني عن شيء. فقال: يا أحمد هذه الجنة، فادخلها، فدخلتها.
وقيل: تعلق شاب بأستار الكعبة، وقال: إلهي، لا شريك له فيؤتى، ولا وزير لك فيرشى، ن أطعتك فبفضلك ولك الحمد، وإن عصيتك فبجهلي ولك الحجةُ عليَّ، فبإثبات حجتك عليَّ وانقطاع حجتي لديك إلا غفرت لي. فسمع هاتفاً يقول: الفتى عتيق من النار.
وقيل: فائدة الدُعاء: إظهار الفاقة بين يديه تعالى، إلا فالرب يفعل ما يشاء.
وقيل: دعاء العامة بالأقوال، ودعاء الزهاد بالأفعال، ودعاء العارفين بالأحوال.
وقيل: خير الدعاء: ما هيجته الأحزان.
وقال بعضهم: إذا سالت الله تعالى حاجة فتسهلت، فاسأل الله عقب ذلك الجنة؛ فلعل ذلك يوم إجابتك.
وقيل ألسنة المبتدئين منطلقة بالدعاء، وألسنة المتحققين خرست عن ذلك.
وسئل الواسطي أن يدعو، فقال: أخشى أني إن دعوت أن يُقال لي: إن سألتنا مالك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيت أجرينا لك من الأمور ما قضينا لك به في الدهور.
وروي عن عبد الله بن منازل أنه قال: ما دعوت منذ خمسين سنة، ولا أريد أن يدعو لي أحد.
وقيل: الدعاء سلم المذنبين.

وقيل: الدعاء: المراسلة، وما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد.
وقيل لسان المذنبين دعاؤهم.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: إذا بكى المذنب فقد راسل الله عزَّ وجلَّ.
وفي معناه أنشدوا:
دموع الفتى عما يجنُّ تترجم ... وأنفاسه يبدين ما القلب يكتم
وقال بعضهم: الدعاء ترك الذنوب.
وقيل: الدعاء لسان الاشتياق إلى الحبيب.
وقيل: الإذن في الدعاء خير للعبد من العطاء.
وقال الكتاني لم يفتح الله تعالى لسان المؤمن بالمعذرة إلا لفتح باب المغفرة.
وقيل: الدعاء يوجب الحضور، والعطاء يوجب الصرف، والمقام علي الباب أتمُّ من الانصراف بالمثاب.
وقيل: الدعاء مواجهة الحق، تعالى، بلسان الحياء.
وقيل: شرط الدعاء الوقوف مع القضا بوصف الرضا.
وقيل: كيف تنتظر إجابة الدعوة وقد سَدَدْتَ طريقها بالهفوة؟! وقيل لبعضهم: ادع لي. فقال: كفاك من الأجنبية أن تجعل بينك وبينه واسطة.
سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: سمعت أبا الفتح نصر بن أحمد بن عبد الملك يقول: سمعت عبد الرحمن بن أحمد يقول:سمعت أبي يقول: جاءت امرأة إلى تقيِّ بن مخلد، فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر علىمال أكثر من دويرة، ولا أقدر علي بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار!! فقال لها: نعم، أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله تعالى.
قال: فأطرق الشيخ وحرك شفتيه، قال: فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، وأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به. فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم. فكان يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا علينا قيودنا. فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب مع صاحبه الذي كان يحفظنا انفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض، وصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت فيه المرأة، ودعا الشيخ، قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني وصاح عليّ وقال لي: كسرتً القيد!! قلت: لا، إنه سقط من رجلي قال: فتحير.. وأحضر أصحابه، وأحضروا الحداد، وقيدوني.. فملا مشيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري!! فدعوا رهبانهم، فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة. وقد أطلقك الله عز وجل، فلا يمكننا تقييدك.
فزودوني، وأصحبوني بمن أوصلني إلى ناحية المسلمين.

باب الفقراء

قال الله تعالى: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فن الله به عليم " .
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع بن الحسين بن موسى البزاز ببغداد، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن الهيثم الأنباري قال: حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان، عن محمد ابن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسائة عام: نصف يوم " .
وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس الحيري ببغداد، قال: حدثنا أبو أحمد حمزة بن العباس البزاز ببغداد، قال: حدثنا محمد بن غالب ابن حرب قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن أبي الفرات. عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المسكين ليس بالطواف الذي تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان " ، قال: قيل: مَن المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه ويستحي أن يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه " .
قال الأستاذ: معنى قوله: يستحي أن يسال الناس: أي يستحي من الله، تعالى. أن يسأل الناس، لا أن يستحي من الناس.
والفقرِ شعار الأولياء؛ وحلية الأصفياء؛ واختيار الحق، سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء.
والفقراء: صفوة الله عزَّ وجلَّ من عباده، ومواضع أسراره بين خلقه، بهم يصون الحقُّ الخلق، وببركاتهم يبسط عليهم الرزق.
والفقراء الصبر جلساء الله تعالى، يوم القيامة؛ بذلك ورد الخبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن محمد ابن رجاء الفزاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن أحمد بن خشيش البغدادي قال: حدثنا عثمان بن معبد قال: حدثنا عمر بن راشد. عن مالك، عن نافع، عن أبي عمر، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" لكل شيء مفتاحُ ومفتاح الجنة: حبُّ المساكين، والفقراء الصبر: هم جلساء الله تعالى يوم القيامة " .
وقيل: ن رجلاً أتى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها منه وقال له: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم: لا أفعل!! وقال معاذ النسفي: ما أهلك الله، تعالى، قوماً ون عملوا ما عملوا حتى أهانوا الفقراء وأذلوهم.
وقيل: لو لم يكن للفقراء إلى الله فضيلة غير إرادته وتمنيه سعة أرزاق المسلمين ورخص أسعارهم لكفاه ذلك؛ لأنه يحتاج إلى شرائها والغني يحتاج إلى بيعها. هذا لعوام الفقراء، فكيف حال خواصهم؟ سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي. يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت أبا بكر بن سمعان يقول: سمعت أبا بكر بن مسعود يقول: سئل يحيى بن معاذ عن الفقر، فقال: حقيقته: أن لا يستغنى العبد إلا بالله، ورسمه عدم الأسباب كلها.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت إبراهيم القصار يقول: الفقر لباس يورث الرضا إذا تحقق العبد فيه.
وقدم على الأستاذ أبي علي الدقاق فقير في سنة: خمس، أو أربع وتسعين وثلاثمائة من زوزن وعليه مسح وقلنوسة مسح، فقال له بعض أصحابه: بكم اشتريت هذا المسح؟ على وجه المطايبة.
فقال: اشتريته بالدنيا وطلب مني بالآخرة فلم أبعه بها!! سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: قام فقير في مجلس يطلب شيئاً، فقال: إني جائع منذ ثلاث: وكان هناك بعض المشايخ فصاح عليه وقال: كذبت!! إن الفقر سر الله وهو لا يضع سره عند من يحمله إلى من يريد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الفراء يقول سمعت زكريا النخشبي يقول: سمعت حمدون القصار يقول: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: رجل مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن عطا. يقول: سمعت أبا جعفر الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: يا معشر الفقراء: إنكم تعرفون بالله، وتكرمون الله، فانظروا كيف تكونون مع الله إذا خلوتم به؟.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي. يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد، وقد سئل عن الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى: أو أتمُّ أم الاستغناء بالله تعالى؟ فقال: إذا صحَّ الافتقار إلى الله عز وجل، فقد صح الاستغناء بالله تعالى، وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغني به، فلا يقال: أيهما أتم الافتقار أم الغنى!! لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت رويما يقول وقد سئل عن نعت الفقير، فقال.
" إرسال النفس في أحكام الله تعالى " .
وقيل: نعت الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سره، وأداء فرضه، وصيانة فقره.
وقيل لأبي سعيد الخزاز: لمَ تأخر عن الفقراء رفقُ الأغنياء؟ فقال لثلاث خصال: لأن ما في أيديهم غير طيب، ولأنهم غير موفقين، ولأن الفقراء مرادون بالبلاء.
وقيل: أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى موسى، عليه السلام: إذا رأيت الفقراء فسائلهم، كما تسائل الأغنياء، فإن لم تفعل فاجمل كل شيء علمتك تحت التراب.
وروي عن أبي الدرداء، أنه قال: لأن أقع من فوق قصر فأتحطم أحبُّ إليَّ من مجالسة الغنيّ؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " إياكم ومجالسة الموتى!! قيل: يا رسول الله، ومن الموتى؟ قال: الأغنياء؟.
وقيل للربيع بن خيثم: قد غلا السعر!! فقال: نحن أهون على الله من أن يجيعنا، إنما يجيع أولياءه.
وقال إبراهيم بن أدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن عليّ يقول: سمعت الحسن ابن علوية يقول: قيل ليحيى بن معاذ: ما الفقر؟ قال: خوف الفقر.
قيل: ما الغنى؟ قال: الأمن بالله تعالى.

وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيّ يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت ابن الكريني يقول: إن الفقير الصادق، ليحترز من الغني حذراً أن يدخله الغنى فيفسد عليه فقره، كما أن الغنيّ يحترز من الفقر حذراً أن يدخل عليه فيفسد عليه غناه.
وسئل أبو حفص: بماذا يقدم الفقير على ربه عز وجل؟ فقال: وما للفقير أن يقدم به على ربه تعالى سوى فقره.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتريد أن يكون لك يوم القيامة مثل حسنات الناس اجمع؟.
قال: نعم.
قال عد المريض، وكن لثياب الفقراء فالياً، فجعل موسى، عليه السلام، على نفسه في كلّ شهر سبعة أيام يطوف على الفقراء يفلي ثيابهم ويعود المرضى.
وقال سهل بن عبد الله: خمسة أشياء من جوهر النفس: فقير يظهر الغنى، وجائع يظهر الشبع، ومحزون يظهر الفح؛ ورجل بينه وبين رجل عداوة يظهر المحبة، ورجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يظهر ضعفاً.
وقال بشر بن الحارث: أفضل المقامات: اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر.
وقال ذو النون: علامة سخط الله على العبد: خوفه من الفقر.
وقال الشبلي: أدنى علامات الفقر: أن لو كانت الدنيا بأسرها لأحد فأنفقها في يوم ثم خطر بباله، أن لو أمسك منها قوت يوم ما صدق في فقره.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا محمد بن ياسين يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: وقد سألته عن الفقر، فسكت، حتى خلا، ثم ذهب ورجع عن قريب، ثم قال: كان عندي أربعة دوانيق فاستحييت من الله عز وجل، أن أتكلم في الفقر وأخرجتها ثم قعد وتكلم في الفقر.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي، يقول: سمعت إبراهيم ابن المولد يقول: سألت ابن الجلاّء: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه.
فقلت: كيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له.
وقيل: صحة الفقر: أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره.
وقال عبد الله بن المبارك: إظهار الغنى في الفقر أحسن من الفقر.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، يقول: سمعت هلال بن محمد يقول: سمعت النقاش يقول: سمعت بنانا المصري يقول: كنت بمكة قاعداً وشاب بين يدي، فجاءه إنسان وحمل إليه كيساً فيه دراهم ووضعه بين يديه، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: فرّقه على المساكين، فلما كان العشاء رأيته في الوادي يطلب شيئاً لنفسه.
فقلت لو تركت لنفسك مما كان معك شيئاً؟.
قال: لم أعلم أني أعيش إلى هذا الوقت!! سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عليّ بن بندار الصيرفي، يقول: سمعت محفوظا يقول: سمعت أبا حفص يقول: أحسن ما يتوسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال.
وسمعته يقول: سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت فاطمة أخت أبي علي الروذباري تقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: كان أربعة في زمانهم: واحد: كان لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان شيئاً، وهو: يوسف ابن أسباط، ورث من أبيه سبعين ألف درهم ولم يأخذ منها شيئاً وكان يعمل الخوص بيده.
وآخر: كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعاً، وهو: أبو إسحاق الفرازي فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستة رين الذي لا يتحركون، والذي يأخذه من السلطان كان يخرجه إلى مستحقيه من أهل طرسوس .
والثلث كان يأخذ من الإخوان ولا يأخذ من السلطان وهو عبد الله ابن المبارك، وكان يأخذ من الإخوان ويكافىء عليه.
والرابع: كان يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان وهو: مخلد بن الحسين كان يقول: السلطان لا يمنّ والإخوان يمنون.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: جاء في الخبر: " من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه " .
إنما كان ذلك؛ لأن المرء بقلبه ولسانه ونفسه؛ فإذا تواضع لغني بنفسه ولسانه ذهب ثلثا دينه، فلوا اعتقد فضله بقلبه كما تواضع له بلسانه ونفسه ذهب دينه كله.
وقيل: أقلّ ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء: علم يسوسه؛ وورع يحجزه؛ ويقين يحمله؛ وذكر يؤنسه.
وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيراً؛ ومن أراد الفقر لئلا يشتغل عن الله تعالى مات غنياً.

وقال المزيّن: كانت الطرق الموصلة إلى الله أكثر من نجوم السماء، فما بقي منها طريق إلا طريق الفقر وهو أصحّ الطرق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن يوسف القزويني يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول: سمعت الحسن بن علي يقول: سمعت النوري يقول: نعت الفقير: السكون عند العدم، والإيثار عند الوجود.
سئل الشبلي عن حقيقة الفقر فقال: ألا يستغني العبد بشيء دون الله عز وجلّ.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: قال لي أبو سهل الخشاب الكبير: الفقر: فقر وذلّ، فقلت: لا بل فقر وعزّ، فقال فقر وثرى، فقلت: لا، بل فقر وعرش.
سعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: سئلت عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الفقر أن يكون كفرا " .
قال: فقلت: آفة الشيء وضده على حسب فضيلته وقدره؛ فكلما كان في نفسه أفضل فضده وآفته أنقص: كالإيمان، لما كان أشرف الخصال كان ضده الكفر، فلما كان الخطر على الفقر الكفر بالله دلّ على أنه أشرف الأوصاف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا نصر المروي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق، ولا تلقه بالعلم؛ فإن الرفق يؤنسه، والعلم يوحشه، فقلت له: يا أبا القاسم وهل يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إذا كان صادقا في فقره فطرحت عليه علمك ذاب كما ذوب الرصاص على النار.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي، يقول: سمعت مظفر القرمسيني يقول: الفقير: هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا اللفظ فيه غموض لمن سمعه على وجه الغفلة عن مرمى القوم، وإنما شار قائله إلى سقوط المطالبات وانتقاء الإختيار، والرضا بما يجريه الحق سبحانه.
وقال ابن خفيف: الفقر: عدم الإملاك والخروج من أحكام الصفات.
وقال أبو حفص: لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاء أحب إليه من الأخذ، وليس السخاء أن يعطي الواحد المعدم: إنما السخاء أن يعطي المعدم الواحد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت الدقي يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: لو لا شرف التواضع لله لكان حكم الفقير إذا مشى أن يتبختر.
وقال يوسف بن اسباط: منذ أربعين سنة ما ملكت قميصين.
وقال بعضهم: رأيت كأن القيامة قد قامت، وقيل: أدخلوا مالك بن دينار، ومحمد بن واسع الجنة، فنظرت أيهما يتقدم: فتقدم محمد بن واسع، فسألت عن سبب تقدمه، فقيل لي: إنه كان له قميص واحد ولمالك قميصان.
وقال محمد المسوحي: الفقير: الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأسباب.
وسئل سهل بن عبد الله متى يستريح الفقير؟ فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه.
وتذاكروا عند يحيى بن معاذ الفقر والغنى، فقال: لا يوزن غداً لا الفقير ولا الغني، وإنما يوزن الصبر والشكر؛ فيقال: يشكر ويصبر.
وقيل: أوحى الله تعالى، إلى بعض الأنبياء عليهم السلام؛ إن أردت أن تعرف رضاي عنك فانظر كيف رضا الفقراء عنك؟ وقال أبو بكر الزقاق: من لم يصحبه التقي في فقره أكل الحرام المحض.
وقيل: كان الفقراء في مجلس سفيان النوري: كأنهم الأمراء.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت أبا بكر بن طاهر يقول: من حكم الفقير أن لا يكون له رغبة في الدنيا، فإن كان ولا بد فلا تجاوز رغبته كفايته.
وأنشد الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أنشدني عبد الله بن إبراهيم ابن العلاء قال: أنشدني أحمد بن عطاء لبعضهم؛ قال:
قالوا: غداً العيد ماذا أنت لا بسه؟ ... فقلت: خلقة سلق حبه جرعا
فقر وصبر، هما ثوباي تحتهما ... قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس ا، تلقى الحبيب به ... يوم التزاور في الوثب الذي خلعا
الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا
وقيل: إن هذه الأبيات لأبي علي الروذباري.
وقال أبو بكر المصري، وقد سئل عن الفقير الصادق، فقال: الذي لا يملك ولا يميل.
وقال ذو النون المصري: دوام الفقر إلى الله تعالى، من التخليط أحب إلى من دوام الصفاسء مع العجب.

سمعت أبا عبد الله الشيرازي، يقول: سمعت عبد الواحد بن أ؛مد، يقول: سمعت أبا بكر الجوال، يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري، يقول: مكثر أبو جعفر الحداد عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار، وينفقه على الفقراء، ويصوم ويخرج بين المسلمين فيتصدق عليه من الأبواب.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا علي الحسين بن يوسف الفزويني. يقول: سمعت إبراهيم بن المولد، يقول: سمعت الحسن بن علي، يقول: سمعت النوري، يقول: نعت الفقير السكون عند العدم، والبذل والإيثار عند الوجود.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت محمد بن علي الكناني، يقول: كان عندنا بمكة فتى عليه أطمار رثة، وكان لا يداخلنا ولا يجالسنا، فوقعت محبته في قلبي، ففتح لي بمائتي درهم من وجه حلال، فحملتها إليه، ووضعتها على طرف سجادته وقلت له.إنه فتح لي ذلك م وجه حلال، تصرفه في بعض أمورك، فنظر إلى شزراً، ثم كشف عما هو مستور غني، وقال: اشتريت هذه الجلسة مع الله تعالى، على الفراغ بسبعين ألف دينار غير الضياع. والمنتغلات، تريد أن تخدعني عنها بهذه!! وقام وبددها وقعدت التقطها فما رأيت كعزه حين مرَّ، ولا كذليِّ حين كنت ألتقطها.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: ما وجبت على زكاة الفطر أربعين سنة ولي قبولٌ عظيم بين الخاص والعام.
سمعت الشيخ أبا عبد الله بن باكويه الصوفي، يقول: سمعت أبا عبد الله. أبن خفيف يقول ذلك.
وسمعته يقول: سمعت أبا أحمد الصغير، يقول: سألت أبا عبد الله بن خفيف عن فقير يجوع ثلاثة أيام وبعد ثلاثة أيام. يخرج ويسأل مقدار كفايته: إيش يقال فيه؟! فقال: يقال فيه: مُكدٌ.. كلوا واسكتوا، فلو دخل فقير من هذا الباب لفضحكم كلكم.
سمت محمد بن الحسين، يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي، يقول: سمعت الدقي يقول - وقد سئل عن سوء أدب الفقراء مع الله تعالى، في أحوالهم - فقال: هو انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الطبري، يقول: سمعت خيراً النساج يقول: دخلت بعض المساجد وإذا فيه فقير، فلما رآني تعلق بي..
وقال: أيها الشيخ تعطف عليّ؛ فإن محنتي عظيمة!! فقلت: وما هي؟ فقال: فقدت البلاء وقويت بالعافية. فنظرت فإذا قد فتح عليه بشيء من الدنيا.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا بكر الوراق، يقول: طوبى للفقير في الدنيا والآخرة.
فسألوه عنه، فقال: لا يطلب للسلطانُ منه في الدنيا: الخراج، ولا الجبار في الآخرة: الحساب.

باب التصوف

الصفاء محمود بكل لسان، وضدّه: الكدورة؛ وهي مذمومة.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا عبد الله بن يحيى الطلحي قال: حدثنا الحسين بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن نوفل قال: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال: " ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم " .
ثم هذه التسمية غلبت علي هذه الطائفة؛ فيقال: رجلٌ صوفي، وللجماعة صوفيَّة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة.
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب، فأما قول من قال: إنه من الصوف، ولهذا يقال: تَصوَّف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه. ولكن القوم لم يختصوا بلبس: الصوف!! ومن قال: إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيدٌ في مقتضى الله.
وقول من قال: إنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق.
وتكلم الناس في التصوف: ما معناه؟ وفي الصوفي: من هو؟ فكلُّ عبر بما وقع له. واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه على حدِّ التلويح، إن شاء الله تعالى.
سمعت محمد بن أحمد بن يحيى الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سئل أبو محمد الجريري عن التصوف، فقال: الدخول في كل خلق مني والخروج من كل خلق دنيّ.

سمعت عبد الرحمن بن يسوف الأصبهاني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عمار الهمداني يقول: سمعت أبا محمد المرعشي يقول: سئل شيخي عن التصوف، فقال: سمت الجنيد وقد سئل عنه فقال: هو أن يميتك الحق عنك، ويحييك به.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الرحمن بن محمد الفارسي يقول: سمعت أبا الفانك يقول: سمعت الحسين بن منصور، وقد سئل عن الصوفي، فقال: وحداني الذات لا يقبله أحد، ولا يقبل أحداً.
وسمعته يقول: سمت عبد الله بن محمد يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت أبا علي الوراق يقول: سمعت أبا حمزة البغدادي يقول: علامة الصوفي الصادق: أن يفتقر بعد الغني، ويذلّ بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب: أن يستغني بالدنيا بعد الفقر، ويعز بعد الذلّ، ويشتهر بعد الخلفاء.
وسُئل عمرو بن عثمان المكيّ عن التصوفَّ، فقال: أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت.
وقال محمد بن علي القصاب: التصوّف: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام.
وسئل سمنون عن التصوف فقال: أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء.
وسئل رويمٌ عن التصوف فقال: استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.
وسئل الجنيد عن التصوف فقال: هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السَّرَّاج الطوسي يقول: أخبرني محمد بن الفضل قال: سمعت عليّ بن عبد الرحيم الواسطي يقول: سمعت رويم بن أحمد البغدادي يقولُ: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار إلى الله، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
وقال معروف الكرخي: التصوف: الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق.
قال حمدون القصار: اصحب الصوفية؛ فإن للقبيح عندهم وجوهاً من المعاذير.
وسُئل الخراز عن أهل التصوف فقال: قوم أعطوا حتى بسطوا، ومنعوا حتى فقدوا، ثم نودوا من أسرار قريبة ألا فابكوا علينا.
وقال الجنيد: التصوف: عنوة لا صلح فيها.
وقال أيضاً: هم أهل بيت واحد، لايدخل فيهم غيرهمُ.
وقال أيضا: التصوف: ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع.
وقال أيضاً: الصوفيَّ كالأرض، يُطرح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كلُّ مليح.
وقال أيضاً: إله كالأرض؛ يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء وكالقطر يسقى كل شيء.
وقال: إذا رأيت الصوفي يعني بظاهره، فاعلم أن باطنه خراب.
وقال سهل بن عبد الله: الصوفي: من يرى دمه هدراً، وملكه مباحاً.
وقال النوري: نعت الصوفي السكون عند العدم، والإيثار عند الوجود.
وقال الكناني: التصوف خُلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء.
وقال أبو علي الروذباري التصوف: الإناخة على باب الحبيب ون طرد عنه.
وقال أيضاً: صفوة القرب بعد كدورة البعد.
وقيل أقبح من كل قبيح صوفي شحسح.
وقيل: التصوف: كف فارغ، وقلب طيب.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلاهم.
وقال أبو منصور: الصوفي: هو المشير عن الله تعالى؛ فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى.
وقال الشبلي: التصوف الجلوس مع الله بلاهم.
وقال أبو منصور: الصوفي:هو المشير عن الله تعالى؛ فإن الخلق أشاروا إلى الله تعالى.
وقال الشبلي: الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق؛ كقوله تعالى: " واصطنعتك لنفسي " قطعه عن كل غير، ثم قال له: " لن تراني " .
وقال: الصوفية أطفالٌ في حجر الحق.
وقال أيضاً: التصوف برقة محرقةٌ.
وقال أيضاً: هو العصمة عن رؤية الكون.
وقال رويم: ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم.
وقال الجريري: التصوف مراقبة الأحوال، ورومُ الأدب.
وقال المزين: التصوف: الانقياد للحق.
وقال أبو تراب النخشبي: الصوفي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء.
وقيل: الصوفي لا يتعبه طلب، ولا يزعجه سبب.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ذو النون المصري عن أهل التصوف فقال: هم قوم آثروا الله، عز وجل، على كل شيء فآثرهم الله، عز وجل، على كل شيء.
وقال الواسطي رحمه الله: كان للقوم إشارات.. ثم صارت حركات.. ثم لم يبق إلا حسرات!! وسئل النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع وآثر الأسباب.

سمعت أبا حاتم السجستاني، رحمه الله، يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: قلت للحصري: من الصوفي عندك؟ فقال: الذي لا نقله الأرض، ولا تظله السماء.
قال الأستاذ أبو القاسم: إنما أشار إلى حل المحو.
وقيل: الصوفي من إذا استقبله حالان، أو خُلقان كلاهما حسن، كان مع الأحسن منهما.
وسئل الشبلي: لم سميت الصوفية بهذه التسمية؟.
فقال: لبقية بقيت عليهم من نفوسهم؛ ولولا ذلك لما تعلقت بهم تسمية.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل ابن الجلاء: ما معنى قولهم صوفي؟ فقال: ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف أن من كان فقيراً مجرداً من الأسباب، وكان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه الحق سبحانه عن علم كل مكان يسمى صوفيَّاً.
وقال بعضهم: التصوف: إسقاط الجاهِ، وسوادِ الوجه في الدنيا والآخرة.
وقال أبو يعقوب المزايلي: التصوف: حال تضمحل فيها معالم الإنسانية.
وقال أبو الحسن السبرواني: الصوفي: من يكون مع الواردات لا مع الأوراد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: أحسن ما قيل في هذا باب قول من قال: هذا طريق لا يصلح إلا لأقوام قد كنس الله بأرواحهم مزابل؛ ولهذا قال رحمه الله يوماً: لو لم يكن للفقير إلا روح فعرضها على كلاب هذا الباب لم ينظر كلب إليها.
وقال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: التصوف: الإعراض عن الاعتراض.
وقال الحصري: الصوفي لا يود بعد علمه؛ ولا يُعدَم بعد وجوده.
قال الأستاذ القشيري: وهذا فيه إشكال. ومعنى قوله: لا يوجد بعد عدمه أي إذا فنيت آفاته لا نعود تلك الأفات. وقوله: ولايعدم بعد وجوده، معنى:إذا اشتغل بالحق لم يسقط بسقوط الخلق، فالحادثات لا تؤثر فيه.
ويقال: الصوفي: المصطلم عنه بما لاح له من الحق.
ويقال: الصوفي: مقهور بتصريف الربوبية. مستور بتصرف العبودية.
ويقال: الصوفي لا يتغير، فإن تغير لا يتكدر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا بكر المصري يقول: سمعت الخرَّاز يقول: كنت في جامع قيروان يوم الجمعة، فرأيت رجلاً يدور في الصف ويقول.
تصدَّقوا عليَّ؛ فقد كنت صوفياً فضعنت..
فرفقته بشيء. فقال لي. مر، ويلك!! ليس هذا من ذلك!!. ولم يقبل الرفق.

باب الأدب

قال الله عزَّ وجلَّ: " مازاغ البصر وما طغى " .
قيل: حفظ آداب الحضرة.
وقال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم ناراً " . جاء في التفسير عن ابن عباس: فقهوهم، وأدبوهم.
أخبرنا: عليّ بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار البصري قال: حدثنا غنام قال: حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال: حدثنا عبد الملك ابن الحسين، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن شيبة، عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حقّ الولد على والده: أن يسحن اسمه، ويحسن مرضعه، ويحسن أدبه " .
ويحكى عن سعيد بن المسيب أنه قال: من ل يعرف ما لله عزّ وجلّ، عليه في نفسه، ولم يتأدب بأمره ونهيه كان من الأدب في عزلة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: " إن الله، عزّ وجلّ، أدبني فأحسن تأديبي " .
وحقيقة الأدب: اجتماع جميع خصال الخير؛ فالأديب: هو الذي اجتمع فيه خصال الخير ومنه أخذت المأدبة اسم للمجمع.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: العبد يصل بطاعته إلى الجنة، وبأدبه في طاعته إلى الله.
وسمعته أيضاً يقول: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة بين يدي الله إلى أنفه، ليزيل ما به، فقبض على يده.
وكان الأستاذ أبو علي، رحمه الله، لا يستند إلى شيء، وكان يوماً في مجمع، فأردت أن أضع وسادة خلف ظهره؛ لأني رأيته غير مستند.. فتنحى عن الوسادة قليلاً.. فتوهمت أنه توقى الوسادة، لأنه لم يكن عليها خرقة أبو سجادة، فقال لا أريد الاستناد.
فتأملت بعده حاله؛ فكان لا يستند إلى شيء.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت أحمد بن محمد البصري يقول: سمعت الجلالي البصري يقول: التوحيد موجب يوجب الإيمان؛ فمن لا إيمان له فلا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة؛ فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد، والشريعة موجب يوجب الأدب؛ فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولاتوحيد.

وقال ابن عطاء: الأدب: الوقوف مع المحسنات، فقيل: وما معناه؟ قال: أن تعامل الله بالأدب سراً وعلناً؛ فغذا كنت كذلك كنت أديباً وإن كنت أعجمياً.
ثم أنشد:
إذا نطقت جاءت بكل ملاحةٍ ... وإن سكتت جاءت بكل مليح
أخبرنا. محمد بن الحسين، قال: سمعت عبد الله الرازيّ يقول: سمعت عبد الله الجريري يقول: منذ عشرين سنة ما مددت رجلي وقت جلوسي في الخلوة فإن حُسن الأدب مع الله أولى.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من صاحب الملوك بغير أجب أسلمه الجهل إلى القتل.
وروي عن أبن سيرين أنه سئل: أيَّ الآداب أقرب إلى الله تعالى؟ فقال: معرفة بربو بيته، وعملٌ بطاعته، والحمد لله على السراء، والصبر على الضراء.
وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين.
سمعت الأستاذ أبا علي رحمه الله، يقول: ترك الأدب موجب يوجب الطرد؛ فمن أساء الأدب على البساط ر إلى الباب، ومن أساء الأدب علي الباب ردّ إلى سياسة الدواب.
وقيل للحسن البصري: قد أكثر الناس فيعلم الآدب، فما أنفعها عاجلاً وأوصلها آجلاً؟ فقال: التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله، عز وجل عليك.
وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله تعالى صار من أهل محبة الله تعالى.
وقال سهل: القوم الذين استعانوا بالله، على أمر الله، وصبروا على آداب الله.
وروي عن أبن المبارك أنه قال: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منَّا إلى كثير من العلم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قال الوليد بن عتبة: قال: ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤديون: وقيل: ثلاث خصال ليس معهن غُربة: مجانبةُ أهل الرِّيب، وحسن الأدب.وكف الأذى: وأنشدنا الشيخ أبو عبد الله المغربي، رضي الله عنه، في هذا المعنى:
يزين الغريبَ إذا ما اغترب ... ثلاث: فمنهن حسنُ الأدب
وثانيه: حسن أخلاقه ... وثالثه. اجتناب الرِّيب
ولما دخل أبو حفص بغداد قال له الجنيد: لقد أذبت أصحابك أدب السلاطين.
فقال له أبو حفص: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن.
وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف.
سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: قيل لبعضهم: ياسيء الأدب.
فقال: لست بسيء الأدب، فقيل له: من أدّبك؟ فقال: أدَّبني الصوفية سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا النصر الطوسي السراج يقول: الناس في الأدب علي ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا فأكثر آدابهم في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسماء الملوك وأشعار العرب.
وأما أهل الدين فأكثرهم آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات.
وأما أهل الخصوصية فأكثر آدابهم في طهارة القلوب ومراعات الأسرار والوفاء وبالعهود وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسنُ الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب.
وحكي عن سهل بن عبد الله أنه قال: من قهر نفسه بالآدب فهو يعبد الله بالإخلاص.
وقيل: كمال الأدب لا يصفو إلا للأنبياء والصديقين.
وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس في الأدب، ونحن نقول: هو معرفة النفس.
وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق سبحانه ترك الأدب.
وقال ذو النون المصري: أدب العارف فوق كل أدب؛ لأن معروفة مؤدب قلبه.
وقال بعضهم: يقول الحق، سبحانه: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب، فأختر أيهما شئت: الأدب أو العطب.
وقيل: مدّ ابن عطاء رجله يوماً بين أصحابه وقال: ترك الأدب بين أهل الأدب أدب.
ويشهد لهذه الحكاية الخبر الذي روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده أبو بكر، وعمر، فدخل عثمان فغطى فخذه وقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " نبه صلى الله عليه وسلم: أن حشمة عثمان، رضي الله عنه، وإن عظمت عنده، فالحالة التي بينه وبين أبي بكر وعمر كانت أصفى.
وفي قريب من معناه أنشدوا:
فيّ أنقاض وحشمة فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غيرَ محتشم

وقال الجنيد: إذا صحت المحبَّة سقطت شروط الأدب.
وقال أبو عثمان: إذا صحت المحبة تأكد علي المحب ملازمة الأدب.
وقال النوري: من لم يتأدب للوقت فوقته المقت.
وقال ذو النون المصري: إذا خرج المريج عن استعمال الأدب، فإنه يرجع عن حيث جاء.
سمعت الأستاذ أبا علي. رحمه الله، يقول في قوله عزَّ وجلَّ: وأيوب إذ نادى ربَّه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين " قال: لم يقل ارحمني لنه حفظ آداب الخطاب.
وكذلك عيسى عليه السلام حيث قال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " ، وقال: " إن كنت قلته فقد علمته " ولم يقل: لم أقل؛ رعاية لآداب الحضرة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الطيب بن الفرحان يقول: سمعت الجنيد يقول: جاءني بعض الصالحين يوم جمعة فقال لي: أبعث معي فقيراً يُدخل عليّ سروراً، ويأكل معي شيئاً؛ فالتفت، فإذا أنا بفقير شهدتُ فيه الفاقة.. فدعوته.. وقلت له: امض مع هذا الشيخ وأدخل عليه سروراً، فلم ألبث أن جاءني الرجل فقال لي: يا أبا القاسم لم يأكل ذلك الرجل الفقير إلا لقمة، وخرج!! فقتل: لعلك قلت كلمة جفاء عليه، فقال لي: لم أقل شيئاً.
فالتفت فإذا أنا بالفقير جالس، فقلت له: لمّ لمْ تتم عليه السرور؟ فقال: يا سيدي، خرجت من الكوفة وقدمت بغداد ولم آكل شيئاً.. وكرهت أن يبدو سوء أدب مني من جهة الفاقة في حضرتك.. فلما دعوتني سررتُ إذ جرى ذلك ابتداء منك، فمضيتُ وأنا لا أرضى له الجنان... فلما جلست على مائدته سوى لقمة وقال لي: كل، فهذا أحب إليّ من عشرة آلاف درهم. فلما سمعت هذا منه علمت أنه دنيء الهمة، فتطرفت أن آكل طعامه، فقال الجنيد: ألم أقل لك إنك أسأت أدبك معه، فقال: يا أبا القاسم.. التوبةَ، فسأله أني مضي معه ويفرحه.

باب أحكامهم في السفر

قال الله عزّ وجلّ: " هو الذي يسيركم في البر والبحر.. " الآية.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا محمد بن الفرج الأزرق قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو أزبير: أن عليًّا الأزدي أخبره: أن ابن عمر أعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على البعير خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، ثم قال: " سبحان الذي سخر لنا هذا. وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا.
اللهمَّ أنت الصاحب في السفر والخيفة في الأهل.. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في المال والأهل، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: " آيبون.. تائبون.. لربنا حامدون " .
ولما كان رأى كثير من أهل هذه الطائفة أختيارُ السفر أردنا لذكر السَّفر في هذه الرسالة بابا؛ لكونه من أعظم شأنهم، وهذه الطائفة مختلفون: فمنهم من آثر الإقامة على السفر، ولم يسافر غلا لفرض، كحجة الإسلام، والغالب عليهم الإقامة، مثل: الجنيد، وسهل بن عبد الله، وأبي يزيد البسطامي، وأبي حفص، وغيرهم.
ومنهم من آثر السفر، وكانوا على ذلك، إلى أن أخرجوا من الدنيا، مثل: أبي عبد الله المغربي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.
وكثير منهم سافروا، وكانوا على ذلك، إلى أن أخرجوا من الدنيا، مثل: أبي عبد الله المغربي، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهم.
وكثير منهم سافروا في ابتداء أمورهم في حال شبابهم أسفاراً كثيرة ثم قعدوا عن السفر في آخر أحوالهم، مثل: أبي عثمان الحيري، والشبلي، وغيرهم، ولكل منهم أصول بنوا عليها طريقتهم.
واعلم أن السفر على قسمين: سفر بالبدن: وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة.
وسفر بالقلب: وهو الارتقاء من صفة إلى صفة؛ فترى ألفاً يسافر بنفسه وقليل من يسافر بقلبه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: كان بفَرَحك. قرية بظاهر نيسابور شيخ من شيوخ هذه الطائفة، وله على هذا اللسان تصانيف، سأله بعض الناس: هل سافرت أيها الشيخ؟ فقال: سفر الأرض أم سفر السماء؟ سفر الأرض لا. وسفر السماء، بلى.
وسمعته، رحمه الله، يقول: جاءني بعض الفقراء يوماً، وأنا بمرو، فقال لي: قطعت إليك شقة بعيدة، والمقصود لقاؤك.
فقتل له: كان يكفيك خطوة واحدة لو سافرت عن نفسك.
وحكاياتهم في السفر تختلف عن ما ذكرنا من أقسامهم وأحوالهم.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أحنف الهمذاني يقول: كنت في البادية وحدي، فأعييتُ، فرفعت يدي وقلت: يارب، إني ضعيف زمن، وقد جئت إلى ضيافتك، فوقع في قلبي أن يقال لي: من دعاك؟ فقلت يا رب هي مملكة تحتمل الطفيلي.. فإذا أنا بهاتف من ورائي.. فالتفت إليه فإذا أعرابي على راحلة، فقال: يا أعجمي، إلى أين؟.. قلت: إلى مكة، قال: أو دعاك؟ قلت: لا أدري، فقال: أليس قال: " من أستطاع إليه سبيلاً " ؟ فقلت: المملكة واسعة تحتمل الطفيلي، فقال: نِعم الطفيلي أنت، يمكنك أن تخدم الجمل؟ قلت: نعم، فنزل عن راحلته وأعطانيها، وقال: سر عليها.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت الكتاني يقول؛ وقد قال له بعض الفقراء: أوصني: أوصني، فقال: اجتهد أن تكون كل ليلة ضيف مسجد، وأن لا تموت إلا بين منزلين.
ويحكى عن الحصري أنه كان يقول: جلسة خير من ألف حجة.
وإنما أراد جلسة تجمع الهمَّ على نعت الشهود.
ولمري، إنها أتمُّ من ألف حجة، على وصف الغيبة عنه.
سمعت محمد بن أحمد الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت علي بن عبد الله التميمي يقول: حكى عن محمد بن إسماعيل الفرغاني أنه قال: كنا نسافر مقدار عشرين سنة أنا وأبو بكر الزقاق، والكتاني، لا نختلط بأحد، ولا نعاشر أحداً، فإذا قدمنا بلداً؛ فإن كان فيه شيخ سلمنا عليه، وجالسناه إلى الليل.. ثم نرجع إلى مسجد، فيصلى الكتاني من أول الليل إلى آخره ويختم القرآن؛ ويجلس الزقاق مستقبل القبلة؛ وكت استلقي متفكراً، ثم نصبح ونصلي صلاة الفجر على وضوء العتمة، فإذا وقع معنا إنسان ينام كنا نراه أفضلنا.
سمعت محمد بن الحسين، رحمهالله، يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت عيسى القصار يقول: سئل رويم عن أدب السفر. فقال: أن لايجاوز همه قدمه؛ وحيثما وقف قلبه يكون منزله.
وحكى عنمالك بن دينار أنه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتخذ نعلين من حديد، وعصاً من حديد، ثم سِحْ في الأرض، فاطلب الآثار والعبر، حتى تنخرق النعلان وتنسكر العصا.
وقيل: كان أبو عبد الله المغربي يسافر أبداً ومعه أصحابه، وكان يكون محرماً: فإذا تحلل من إحرامه ثانياً، ولم يتسخ له ثوب، ولا طال له ظفر ولا شعر.
وكان يمشي معه أصحابه بالليل وراءه.فكان إذا حاد أحدهم عن الطريق، يقول: يمينك يا فلان. يسارك يا فلان، وكان لا يمد يده إلى ما وصلت إليه يد الآدميين، وكان طعامه أصل شيء من النبات يؤخذ فيُقلع لأجله.
وفي معناه أنشدوا:
إذا استسجدوا لم يسالوا عن دعاهم ... لأية حرب أم لأيَّ مكان
وحكي عن أبي علي الرباطي قال: صحبت عبد الله المروزي، وكان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد ولا راحلة. فلما صحبته، قال لي: أيما أحبُّ إليك، أن تكون أنت الأمر أم أنا؟ فقلت: لا، بل أنت؛ فقال: وعليك الطاعة؟ فقلت: نعم.
فأخذ مخلاة، ووضع فيها زاداً، وحملها على ظهره، فإذا قلت: أعطني حتى أحملها.
قال: الأمير أنا وعليك الطاعة.
قال: فأخذنا المطر ليلة.. فوقف إلى الصباح على رأسي وعليه كساء يمنع عني المطر، فكنت أقول في نفسي: يا ليتني متُّ ولم أقل له أنت الأمير.
ثم قال لي: إذا صحبت إنساناً فاصحبه كما رأيتني صحبتك.
وقد شاب علي أبي عليِّ الروذباري، فلما أراد الخروج، قال: يقول الشيخ شيئاً، فقال: يا فتى كانوا لا يجتمعون عن موعد، ولا يتفرقون عن مشورة.
وعن المزين الكبير قال: كنت يوماً مع إبراهيم الخواص في بعض اسفاره، فإذا عقرب تسعى على فخذه، فقمت لأقتلها، فمنعني وقال: دعها. كلُّ شيء مفتقر إلينا. ولسنا مفتقرين إلى شيء.
وقال أبو عبد الله النصبيني: سافرت ثلاثين سنة ما خطت قط خرقة على مرقعتي، ولا عدلت إلى موضع علمت أن لي فيه رفيقاً، ولا تركت أحداً يحمل معي شيئاً.
واعلموا أن القوم استوقوا آداب الحضور من المجاهدات، ثم أرادوا أن يضيفوا إليها شيئاً، فاضافوا أحكام السفر إلى ذلك؛ رياضة لنفوسهم، حتى أخرجوها عن المعلومات، وحمروها على مفارقة المعارف، كي يعيشوا مع الله بلا علاقة ولا واسطة، فلم يتركوا شيئاً من أورادهم في أسفارهم.

وقالو: الرُّخص لمن كان سفره ضرورة، ونحن لا شغل لنا ولا ضرورة في أسفارنا علينا.
سمعت أبا صادق بن حبيب قال: سمعت النصراباذي يقول: ضعفت في البادية مرة، فأيست من نفسي، فوقع بصري على القمر، وكان ذلك بالنهار، فرأيت مكتوباً عيه: فسيكفيكهم الله فاستقللت، وفتح عليِّ من ذلك الوقت هذا الحديث.
وقال أبو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: عِلم يسوسه: وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخُلق يصونه.
وقيل: سُمي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال.
وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع فاستقللت، وفتح عليِّ من ذلك الوقت هذا الحديث.
وقال أبو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره: عِلم يسوسه: وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخُلق يصونه.
وقيل: سُمي السفر سفراً؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال.
وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع إليه مرة أخرى يأمر بهجرانه؛ وإنماكان يفعل ذلك؛ لأنهم كانوا يسافرون إلى اليمن ذلك الوقت لأجل الرفق.
وقيل: كان إبراهيم الخواص لا يحمل شيئاً في السفر، وكان لا يفارق الإبرة والركوة أما الأبرة فلخياطة ثوبه إن تمزق ستراً للعورة، وأما الركوة فللطهارة، وكان لا يرى ذلك علاقة ولا معلوماً.
وحكي عن أبي عبد الله الرازي قال: خرجت من طرسوس حافياً، وكان معي رفيق، فدخلنا بعض قرى الشام، فجاءني فقير بحذاء فامتنعت من قبوله؛ فقال لي رفيق: البس هذا، فقد عييتُ، فإنه قد فتح عليك بهذا النعل بسببي. فقلت: مالك؟ فقال: نزعت نعلي موافقة لك، ورعاية لحق الصحبة.
وقيل: كان الخواص في سفر، ومعه ثلاثة نفر، فبلغوا مسجداً في بعض المفارز وباتوا فيه، ولم يكن عليه باب. وكان برد شديد فناموا، فلما أصبحوا رأوه واقفاً على الباب، فقالوا: له في ذلك فقال: خشيت أن تجدوا البرد.
وكان قد وقف طول ليلته.
وقيل: إن الكتاني استأذن أمه في الحج مرة فأذنت له، فخرج، فأصاب ثوبه البول في البادية، فقال: إن هذا لخلل في حالي، فانصرف. فلما دق باب داره أجابته أمه، ففتحت.. فرآها جالسة خلف الباب.. فسألها عن سبب جلوسها فقالت: مذ خرجت أعتقدت أن لا أبرح من هذا الموضع حتى أراك.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سمعت إبراهيم بن المولد يقول: سمعت إبراهيم القصار يقول: سافرت ثلاثين سنة أصلح قلوب الناس للفقراء.
وقيل: زار رجل داود الطائي فقال: يا أبا سليمان، كانت نفسي تنازعين إلى لقائك منذ زمان، فقال: لا بأس إذا كانت الأبدان هادئة والقلوب ساكنة فالتلاقي أيسر.
سمعت أبا نصر الصوفي، وكان من أصحاب النصرأباذي، يقول: خرجت من البحر بعمان وقد أثر فيّ الجوع، فكنت أمرّ في السوق.. فبلغت حانوت حلاوي.. فرأيت فيه حملاناً مشوية، وحلواء.. فتعلقت برجل وقلت: اشتر لي من هذه الأشياء.
فقال: لماذا؟ ألك عليّ شيء، أو عليّ دين؟ فقلت: لا بد أن تشتري لي من هذا.
فرآني رجل فقال: خله يا فتى إن الذي يجب عليه أن يشتري لك ما تريد أنا لا هو، اقترح علي، وأحكم بما تريد.
ثم اشترى لي ما أردتُ، ومضى.
وحكي عن أبي الحسين المصري قال: انفقت مع الشجري في السفر من طرابلس. فسرنا أياماً لم نأكل شيئاً،فرأيت قرعاً مطروحاً.. فأخذت آكله، فالتفت إليّ الشيخ ولم يقل شيئاً، فرميت به، وعلمت أنه كره ذلك.. ثم فتح علينا بخمسة دنانير.. فدخلنا قرية، فقتل: يشتري الشيخ لنا شيئاً لا محالة.
فمر.. ولم يفعل.. ثم قال: لعلك تقول نمشي جياعاً ولم يشتر لنا شيئاً، هو ذا. فوافى اليهودية قرية على الطريق، وثم رجلٌ صاحب عيال إذا دخلناها يشتغل بنا، فادفعها إليه؛ لينفقها علينا وعلى عياله.
فوصلنا إليه، ودفع الدنانير إلى الرجل فأنفقها، فلما خرجنا قال لي: إلى أين يا أبا الحسين؟ فقلت: أسير معك. فقال: لا، إنك تخونني في قرعة وتصحبني، لاتفعل وأبي أن أصحبه.

سمعت محمد بن عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أحمد الصغير يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: كنت في حال حداثتي استقبلني بعض الفقراء.. فرأى فيّ أثر الضرّ والجوع، فأدخلني داره وقد لي لماً طبخ بالكشك واللحم متغير. فكنت آكل الثريد وأتجنب اللحم لتغيره فلقمني لقمة، فأكلتها بجهد.. ثم لقمني ثانية فبلغتني مشقة.. فرأى ذلك فيّ، وخجل، وخجلت لأجله، فخرجت وانزعجت في الحال للسفر.
فأرسلت إلى والدتي من يخبرها ويحمل إلي مرقعتي. فلم تعارضني الوالدة.. ورضيت بخروجي، فارتحلت من القادسية مع جماعة من الفقراء.. فهنا.. ونفذ ما كان معناه.. وأشرفنا على التلف، فوصلنا إلى حي من أحياء العرب، ولم نجد شيئاً فاضطررنا إلى أن أشترينا منهم كلبا بدنانير، وشووه، وأعطوني قطعة من لحمه.. فلما أردت أكله فكرت في حالي، فوقع لي أنه عقوبة خجل ذلك الفقير. فتبت في نفسي.. فدلونا على الطريق.. فمضيت.. وحججت.. ثم رجعت معتذراً إلى الفقير.

باب الصحبة

قال الله عزَّ وجلَّ: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " .
لما أثبت الله سبحانه للصدِّيق الصحبة بين أنه أظهر عليه الشفقة: فقال تعالى: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " .
فالحر شفيقٌ على من يصحبه.
أخبرنا عليّ بن أحمد الإهوازي، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا يحيى بن محمد الجياني قال: حدثنا عثمان بن عبد الله القرشي، عن نعيم بن سالم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " متى ألقى أحبابي؟ فقال أصحابه: بأبينا أنت وأمنا. أو لسنا أحبابك؟ فقال:أنتم أصحابي، أحبابي: قوم لم يروني، وآمنوا بي، وأنا إليهم بالأشواق أكثر " .
والصحبة على ثلاثة أقسام: صحبة منع من فوقك: وهي في الحقيقة خدمة، وصحبة مع من دونك وهي تقضي على المتبوع بالشفقة والرحمة، وعلى التابع بالوفاق والحرمة.
وصحبة الأكفاء والنظراء: وهي مبنية على الإيثار والفتوة؛ فمن صحب شيخاً فوقه في الرتبة، فأدبه ترك الاعتراض، وحمل ما يبدو منه على وجه جميل، وتلقى أحوال بالإيمان به.
سمعت منصور بن خلف المغربي وسأله بعض أصحابنا: كم سنة صحبت أبا عثمان المغربي؟ فنظر إليه شزراً وقال: إني لم أصحبه، بل خدمته مدة.
وأما إذا صحبك من هو دونك، فالخيانة منك في حق صحبته أن لا تنبهه على ما فيه م نقصان في حالته؛ ولهذا كتب أبو الخير التيناني إلى جعفر بن محمد بن نصير: وزر جهل الفقراء عليكم؛ لأنكم اشتغلتم بنفوسكم عن تأديبهم، فبقوا جهلة.
وأما إذا صحبت من هو في درجتك، فسبيلك النعامي عن عيوبه، وحملُ ما ترى منه على وجه من التأويل جميلٍ، ما أمكنك، فإن لم تجد تأويلاً عدت إلى نفسك بالتهمة وإلى التزام اللائمة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: إن فلاناً لا يقع من قلبي!! فقال أبو سليمان: وليس يقع أيضاً من قلبي، ولكن يا أحمد، لعلنا أتينا مِنْ قِبلنا، لسنا من جملة الصاحلين؛ فلسنا نحبهم.
وقيل: صحب رجلٌ إبراهيم بن أدهم، فلما أراد أن يفارقه قال له الرجل: إن رأيت فيَّ عيباً فنبي عليه. فقال إبراهيم: إني لم أر بك عيباً؛ لأني لاحتك بعين الوداد؛ فاستحسنت منك ما رأيت، فسل غيري عن عيبك.
وفي معناه أنشدوا:
وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ... ولكنَّ عن السخط تبدي المساويا
وحكى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: كنا لا نصحب من يقول نَعلي.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: قال أبو أحمد القلانسي، وكان من أستاذي الجنيد: صحبت أقواماً بالبصرة فأكرموني.. فقلت مرّة لبعضهم: أين إزاري؟ فسقطت من أعينهم.
وسمعت أبا حاتم يقول: سمعت أبا نصر السرّاج يقول: سمعت الدقي يقول: سمعت الزقاق يقول: منذ أربعين سنة أصحب هؤلاء: فما رأيت رفقاً لأصحابنا إلا من بعضهم لبعض، أو ممن يحبهم، ومن لم يصحبه التقوى والورع في هذا الأمر أكل الحرام النص.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: قال رجل لسهل بن عبد الله: أريد أن أصحبك يا أبا محمد. فقال: إذا مات أحدنا فمن يصحبه الباقي؟ فقال: الله. فقال له: فليصحبه الآن.

وصحب رجل رجلاً مدّة، ثم بدا لأحدهما المفارقة، فاستأذن صاحبه، فقال: بشرط ألا تصحب أحداً إلا إذا كان فوقنا وإن كان أيضاً فوقنا فلا تصحبه؛ لأنك صحبتناأولاً، فقال الرجل: زال من قلبي إرادة المفارقة.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر السراج، يقول: سمعت الدُّقي يقول: سمعت الكناني يقول: صحبني رجل، وكان على قلبي ثقيلاً، فوهبت ل شيئاً، ليزول ما في قلبي، فلم يَزُل!!.. فحملته إلى بيتي، وقلت له: ضع رجلك على خدّي. فأبي، فقلت: لا بدّ. ففعل، واعتقدت أن لا يرفع رجله من خدّي حتى يرفع الله من قلبي ما كنت أجده، فلما زال عن قلبي ما كنت أجده، قلت له: أرفع رجلك الآن.
وكان إبراهيم بن أدهم يعمل في الحصاد وحفظ البساتين وغيره، وينفق على أصحابه.
وقيل: كان مع جماعة من أصحابه، فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم، ويجتمعون بالليل في موضع وهم صيام، فكان يبطىء في الرجوع من العمل، فقالوا ليلة: تعالوا نأكل فطورنا دونه، حتى يعود بعد هذا أسرع، فأفطروا، وناموا، فلما رجع إبراهيم وجدهم نياماً، فقال: مساكين، لعلهم لم يكن لهم طعام؛ فَعَمد إلى شيء من الدقيق كان هناك، فعجنه، وأوقد على النار، وطرح الملةَ، فانتبهوا، وهو ينفخ في النار واضعاً محاسنه على التراب، فقالوا له في ذلك، فقال: قلت لعلكم لم تجدوا فطوراً.. فنمتم.. فأحببت أن تستيقظوا والملة قد أدركت.
فقال بعضهم لبعض: انظروا ما الذي عملنا، وما الذي به يعاملنا.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم إذا صحبه أحد شارطه على ثلاثة اشياء: أن تكون الخدمة والأذان له، وأن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهم من الدنيا كيدهم.
فقال له يوماً رجل من أصحابه: أنا لا أقدر على هذا؟ فقال: أعجبني صدقك.
وقال يوسف بن الحسين: قلت لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من لا تكتمه شيئاً يعلمه الله تعالى منك.
وقال سهل بن عبد الله لرجل: إن كنت ممن يخاف السباع فلا تصحبني.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن العلوي يقول: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو القاسم بن منبه قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
وحكى الجنيد قال: لما دخل أبو حفص بغداد كان معه إنسان أصلع لا يتكلم بشيء.. فسألت أصحاب أبي حفص عن حاله، فقالوا: هذا رجل أنفق عليه مائة ألف درهم، واستدان مائة ألف درهم أنفقها عليه، ولا يُرخص له أبو حَفص أن يتكلم بحرف.
وقال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
وقال رجل لذي النون: مع من أصحب؟ فقال: مع من إذا مرضت عادك، وإذا أذنبت تاب عليك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ، رحمه الله، يقول: الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد يورق ولكنه لا يثمر، كذاك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لايجيء منه شيئ.
وكان الأستاذ أبو عليّ، يقول: أخذت هذا الطريق عن النصراباذي، والنصرأباذي عن الشبلي، والشبلي عن الجنيد، والجنيد عن السريّ، والسريّ عن معروف الكرخي، ومعروف الكرخي عن داود الطائي، وداود الطائي لقي التابعين.
وسمعته يقول: لم أختلف إلى مجلس النصراباذي قط إلا اغتسلت قبله.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولم أدخل أنا على الأستاذ أبي عليّ في وقت بدايتي إلا صائماً، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب؛ احتشاماً منه أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت المدرسة كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدّرٍ، حتى لو غرزني إبرة - مثلاً - لعلي كنت لا أحسن بها، ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لي لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة، فكما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتي، وغير مرة رأيت منه هذا عياناً، وكنت أفكر في نفسي كثيراً أنه لو بعث الله في وقتي رسولاً إلى الخلق هل يمكنني أن أزيد من حشمته على قلبي فوق ما كان منه، رحمه الله، فكان لا يتصور لي أن ذلك ممكن، ولا أذكر أني في طول اختلافي إلى مجلسه، ثم كوني معه بعد حصول الوصلة، أن جرى في قلبي أو خطر ببالي عليه قط اعتراض، إلى أن خرج رحمه الله من الدنيا.

أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد ابن أحمد العبدي، قال: أخبرنا أبو عوانة، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا خلف بن تميم أبو الأحوص، عن محمد بن النضر الحارثي، قال: أوحى الله سبحانه، إلى موسى عليه السلام: كن يقطاناً.. مرتاداً لنفسك أخداناً. وكل خدن لا يؤاثيك على. مسرّة فاقصه. ولا تصحبه؛ فإنه يقسى قلبك، وهو لك عدو، وأكثر من ذكرى تستوجب على شكري والمزيد من فضلي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله.. أبن المعلم يقول: سمعت أبا بكر الطمستاني يقول: اصحبوا مع الله، فإن لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله، لتوصكم بركات صحبتهم إلى صحبة الله عزَّ وجلَّ.

باب التوحيد

قال الله عزَّ جلَّ: " وإلهكم إله واحد " .
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رضي الله عنه، قال حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ قال: حدثنا مسيح بن حاتم العكلي قال: حدثنا الحجبي عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن سعد ابن حاتم العتكي، عن ابن أبي صدقة: عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" بينا رجل فيمن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد، فقال لأهله: إذا متَّ فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروا نصفي في البرّ ونصفي في البحر في يوم ريح. ففعلوا.. فقال الله عزَّ وجلَّ للريح: أدَّى ما أخذتِ، فإذا هو بين يديه، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أستحياءً منك، فغفر له " ..
التوحيد: هو الحكم بأن المه واحد، والعلم بأن الشيء واحد أيضاً توحيد، ويقال: وحدته: إذا وصفته بالوحدانية، كما يقال: شجعت فلاناً إذا نسبته إلى الشجاعة، يقال في اللغة: وَحَد يحد فهو واحد وَوَحدْ، ووحيد؛ كما يقال: فرد فهو فارد، وفَرْد، وفريد.
وأصل أحد وحد فقلبت الواو همزة، والواو المفتوحة قد تقلب همزة، كما تقلب المكسورة والمضمومة، ومنه امرأة أسماء، بمعنى وسماء، من الوسامة، ومعنى كونه، سبحانه، واحداً على لسان العلم، قيل: هو الذي لا يصحّ في وصفه الوضع والرفع، بخلاف قولك: إنسان واحد؛ لأنك تقول إنسان بلا يد ولا رجل، فيصح رفع شيء منه،واسحق، سبحانه، أحدى الذات، بخلاف الأسم الجملة الحاملة.
وقال بعض أهل التحقيق في معنى أنه واحد: نفى التقسيم لذاته، ونفى التشبيه عن حقه وصفاته، ونفى الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته.
والتوحيد ثلاثة: توحيد الحق للحق، وهو علمه بأنه واحد وخيبره عنه بأنه واحد.
والثاني: توحيد الحق، سبحانه، للخلق، وهو حكمه، سبحانه، بأن العبد موحد، وخلقه توحيد العبد.
والثالث: توحيد الخلق للحق، سبحانه، وهو علم العبد بأن الله، عز وجل، واحد، وحكمه وإخباره عنه بأنه واحد.
فهذه جمة في معنى التوحيد علي شرط الإيجاز والتحديد.
واختلفت عبارات الشيوخ عن معنى التوحيد: سمعتالشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: وقد سئل عن التوحيد. فقال: أن تعلم أن قدرة المه تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصنعه للأشياء بلاعلاج، وعلةُ كلِّ شيء صَنَعه ولا علة لصُنعه، ومهما تصور في نفسك شيء فالله بخلافه.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زكريا يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت عبد الله بن صالح يقول: قال الجريري: لبس لعلم التوحيد إلا لسان التوحيد.
وسئل الجنيد عن التوحيد فقال: إفراد الموحَّد بتحقيق وحدا نيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشياء بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
وقال الجنيد: إذا تناهت عقول العقلاء في التوحيد تناهت إلى الحيرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين بن مقسم يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول ذلك، وسئل الجنيد عن التوحيد،فقال: معنى تضمحل فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم ويكون الله تعالى كما لم يزل وقال الحصري: أصولنا في التوحيد خمسة أشياء.
رفع الحدث وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما عُلم على وجُهل.

سمعت منصور بن خلف المغربي يقول: كنت في صحن الجامع ببغداد يعني جامع المنصور والحصري يتكلم في التوحيد، فرأيت ملكين يعرجان إلى السماء، فقال أحدهما لصاحبه: الذي يقول هذا الرجل علم التوحيد والتوحيد غيرُه، يعني كنت بين اليقظة والنوم.
وقال فارس التوحيد هو إسقاط الوسائط عند غلبة الحال والرجوع إليها عند الأحكام، وأن الحسنات لا تغير الأقسام من الشقاوة والسعادة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر بن شاذان يقول: سمعت الشبلي يقول: التوحيد: صفة الموحَّد حقيقة وحلية الموَّحد رسماً.
وسئل الجنيد عن توحيد الخاص فقال: أن يكون العبد شبحاً بين يدي الله، سبحانه، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوة الخلق له وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته، في حقيقة قربه بذهاب حسنه وحركته. لقيام الحق، سبحانه له فيما أراد منه، وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون.
وسئل البوشنجي عن التوحيد فقال: غير مشبه الذوات ولا منفي الصفات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسين العنبري يقول: سمعت سهل بن عبد الله يقول، وقد سئل عن ذات الله، عزَّ وجلَّ. فقال: ذات الله تعالى موصوفة بالعلم، غيرُ مدركة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حدِّ ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقي ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لا تدركه،ينظر إليه المؤمنون بالآبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
وقال الجنيد: أشرف كلمة في التوحيد: ما قاله أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.
سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
قال الأستاذ أبو القاسم: ليس يريد الصّديق، رضي الله عنه، أنه لا يعرف؛ لأن عند المحققين: العجز عجز عن الموجود، دون المعدوم، كالمقعد عاجزٌ عن قعوده؛ إذ ليس بكسب له ولا فعل، والقعود موجود فيه، كذلك العارف عاجز عن معرفته، والمعرفة موجودة فيه؛ لأنها ضرورية.
وعند هذه الطائفة المعرفة به سبحانه في الانتهاء ضرورية.
فالمعرفة الكسبية في الابتداء، وإن كانت معرفة على التحقيق، فلم يعدّها الصديق رضي الله عنه شيئاً بالإضافة إلى المعرفة الضرورية، كالسراج عند طلوع الشمس وانبساط شعاعها عليه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن سعيد البصري بالكوفة يقول: سمعت ابن الأعرابي يقول: قال الجنيد: التوحيد الذي انفرد به الصوفي هو: إفراد القدم عن الحدث والخروج عن الأوطان، وقطع المحاب وترك ما علم وجهل، وأن يكون الحق، سبحانه، مكان الجميع.
وقال يوسف بن الحسين: من وقع في بحار التوحيد لايزداد على ممر الأوقات إلا عطشاً.
وقال الجنيد: علم التوحيد مباين لوجوده، ووجوده مفارق لعلمه.
وقال الجنيد أيضاً: علم التوحيد طوى بساطه منذ عشرين سنة، والناس يتكلمون في حواشيه!! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد الأصبهاني يقول: وقف رجل علي الحسين بن منصور، فقال: من الحق الذي يشيرون إليه؟ فقال: معل الأنام ولا يعتل.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: من اطلع على ذرّة من علم التوحيد ضعف عن حمل بقة لثقل ما حمله.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي؛ فقيل له أخبرنا عن توحيد مجرد وبلسان حق مفرد.
فقال: ويحك!! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نصدق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أ،ه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتوه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
وقال يوسف بن الحسين: توحيد الخاصة أن يكون بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله تعالى يجري علي تصاريف تدبيره وأحكام قدرته في بحار توحيده بالفناء عن نفسه وذهاب حسه، بقيام الحق سبحانه له في مراه منه، فيكون كما هو قيل أن يكون في جريان حكمه سبحانه عليه.
وقيل: التوحيد للحق سبحانه، والخلق طفيلي.

وقيل: التوحيد: إسقاط الياءات؛ لا تقول لي وبي ومني وإليّ.
وقيل: لأبيبكر الطمستاني: ما التوحيد؟ فقال: توحيد، وموحد، وموحَّد، هذه ثلاثة.
قال رويم: التوحيد هو آثار البشرية وتجرد الألوهية.
سمت أبا علي الدقاق يقول في آخر عمه، وكان قد اشتدت به العلة، فقال: من أمارات التأييد حفظ التوحيد فيأوقات الحكم، ثم قال؛ كالمفسر لقوله مشيراً إلى ما كان من حاله، هو: أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعةً وأنت شاكر حامد.
وقال الشبلي: ما شم روائح التوحيد من تصور عنده التوحيد.
وقال أبو سعيد الخراز: أول مقام لمن وجد علم التوحيد، وتحقق بذلك، فناء ذكر الأشياء عن قلبه، وانفراده بالله عزَّ وجلَّ.
وقال الشبلي لرجل: أتدري لم لا يصح توحيدك؟ فقال: لا!! فقال: لأنك تطلبه بك.
وقال ابن عطاء: علامة حقيقة التوحيد نسيان التوحيد، وهو أن يكون القائم به واحداً.
ويقال من الناس من يكون مكاشفاً بالأفعال، يرى الحادثات بالله تعالى، ومنهم من هو مكاشف بالحقيقة، فيضمحل إحساسه بما سواه، فهو يشاهد الجمع سراً بسرّ، وظاهره بوصف التفرقة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن محمد القزويني يقول: سمعت القنفذ يقول: سئل الجنيد عن التوحيد، فقال سمعت قائلاً يقول:
وغنى لي من قلبي
وغنيت كما غنّى
وكنا حينما كانوا
وكانوا حينما كنا
فقال السائل: أهَلكَ القرآن والأخبار؟!! فقال: لا، ولكن الموحِّد يأخذ أعلى التوحيد من أدنى الخطاب وأيسره.

باب الخروج من الدنيا

باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا قال الله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين " .
يعنى: طيبة نفوسهم، ببذلهم مُهجهم لا يثقل عليهم رجوعهم إلى مولاهم.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن عقبة الشيباني بالكوفة قال: حدثنا الخضر بن أيان الهاشمي قال: حدثنا أبو هدبة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت، وإن مفاصله ليسِّلم بعضها علي بعض؛ تقول: عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو العباس الأصم قال: حدثنا الخضر بن أبان الهاشمي قال: حدثنا سوار قال: حدثنا جعفر. عن ثابت، عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله تعالى وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئان لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف " .
واعلم أن أحوالهم في حال النزع مختلفة؛ فبعضهم الغالب عليه الهيبة، وبعضهم الغالب عليه الرجاء، ومنهم من كشف له في تلك الحالة ما أوجب له السكون، وجميل الثقة.
حكى أبو محمد الجريري قال: كنت عند الجنيد في حال نزعه، وكان يوم الجمعة، ويوم نيروز، وهو يقرأ القرآن، فختمه، فقلت: في هذه الحالة يا أبا القاسم؟ فقال: ومن أولى بذلك منى وهو ذا تطوى صحيفتي.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول بلغني عن أبي محمد الهروي أنه قال: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها فكان يقول طول ليلته هذين البيتين:
كلُّ بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرُج
وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج
وحكى عن عبد الله بن منازل أنه قال: إن حمدون القصار أوصى إلى أصحابه أن لا يتركوه في حال الموت بين النسوان.
وقيل لبشر الحافي، وقد احتضر كأنك يا أبا نصر تحبّ الحياة؟ فقال: القدوم علي الله، عزَّ وجلَّ، شديد.
وقيل: كان سفيان الثوري إذا قال له بعض أصحابه إذا سافر: أتأمر بشغل؟؟..
يقول: إن وجدتَ الموتَ فاشتره لي! فلما قربت وفاته كان يقول: كنا نتمناه.. فإذا هو شديد!! وقيل: لما حضرت الحسن بن علي بن أبي طالب الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أقدم على سيد لم أره.
ولما حضرت بلالاً الوفاة قالت امرأته: واحزناه!! فقال: بل واطرباه.. غداً نلقي الأحبة محمداً وحزبه.
وقيل: فتح عبد الله بن المبارك عينيه عند الوفاة وضحك. وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.

وقيل: كان مكحول الشامي الغالب عليه الحزن، فدخلوا عليه في مرض موته وهو يضحك، فقيل له في ذلك، فقال: ولام لا أضحك وقد دنا فراق ما كنت أحذره، وسرعة القدوم على ما كنت أرجوه وآمله.
وقال رويم: حضرتُ وفاة أبي سعيد الخراز، وهو يقول في آخر نفسه:
حنينُ قلوب العارفين إلى الذكر ... وتذكارهم وقت المناجاة للسرِّ
أديرت كؤوس للمنايا عليهم ... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر
هُمُوهم جوالة بمعسكرٍ ... به أهل ودّ الله كالأنجم الزهر
فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرَّجوا عن مسر بؤس ولا ضر
وقيل للجنيد: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت. فقال: لم يكن بعجيب أن تظير روحه اشتياقاً.
وقال بعضهم وقد قربت وفاته: يا غلام اشدد كتافي وعفر خدي، ثم قال: دنا الرحيل ولا براءة لي من ذنب، ولا عذر أعتذر به، ولا قوة أنتصر بها.. أنت لي، أنت لي..
ثم صاح صيحة ومات، فسمعوا صوتاً: " استكان العبدُ لمولاه، فقبله " .
وقيل لذي النون المصري عند موته: ما تشتهي؟ قال أن أعرفه قبل موتي بلحظة.
وقيل لبعضهم وهو في النزع: قل الله، فقال: إلى متى تقولون: قل الله، وأنا محترق بالله؟!! وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري، فقدم فقير وقال السلام عليكم، فردوا عليه السلام، فقال: هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه؟ فأشاروا عليه بمكان، وكان ثمَّ عين ماء.. فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله تعالى، ومضى إلى المكان الذي أشاروا إليه.. ومد رجليه، ومات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: كان أبو العباس الدينوري يتكلم يوماً في مجلسه.. فصاحت امرأة تواجداً، فقال لها: موتي.. فقامت المرأة فلما بلغت باب الدار التفتت إليه وقالت: قدُمتُّ. ووقعت ميتة.
وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلة؟! فقال سلوا العلة عني كيف تجدني، فقيل له. قل لا إله إلا الله، فحول وجهه إلى الجدار وقال: أفنيت كُلي بكلك هذا جزاء من يحبك.
وقيل لأبي محمد الدبيلي، وقد حضرته الوفاة، قل: لا إله إلا الله.
فقال هذا شيء قد عرفناه، وبه نفنى، ثم أنشأ يقول:
تسربل ثوبُ النية لما هويته ... وَصدَّ ولم يرض بأن أكُ عبده
وقيل للشبلي عند وفاته: قل لا إله إلى الله. فقال:
قال سلطان حبه ... أنا لا أقبل الرِّشا
فسلوه بحقه ... لِم بقتلي تحرَّشا
سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت بعض الفقراء يقول: لما مات يحيى الاصطخري جلسنا حوله، فقال له رجل منا: قل أشهد أن لا إله إله الله، فجلس مستوياً.. ثم أخذ بيد واحد منا، وقال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله.. ثم أخذ بيد آخر.. حتى عرض الشهادة على جميع الحاضرين، ثم مات.
ويحكى عن فاطمة أخت أبي علي الروذباري، أنها قالت: لما قرب أجل أخي أبي الروذباري، وكان رأسه في حجري، فتح عينيه، وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت.. وهذه الجنان قد زُينت، وهذا قائل يقول لي: يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها.. ثم أنشأ يقول:
وحقّك لا نظرتُ إلى سواكاً ... بعين مودةّ حتى أراكا
أراك معذِّبي بفتورِ لحظر ... وبالخد المورد من جناكا
ثم قال: يا فاطمة، الأول ظاهر،والثاني فيه إشكال.
سمعت بعض الفقراء يقول: لما قربت وفاة أحمد بن نصر، رحمه الله تعالى، قال له واحد: قل أشهد أن لا إله إلا الله فنظر إليه وقال له: لا تترك الحرمة بالفراسية بي حرمتي مكن.
وقال بعضهم: رأيت فقيراً يجود بنفسه غريباً.. والذباب على وجهه، فجلست أذبّ الذباب عن وجهه.. ففتح عينيه، وقال: من هذا؟ أنا منذ كذا سنة في طلب وقت يصفو لي فلم يتفق إلا الآن.. جئت أنتّ توقع نفسك فيه، مرّ؛ عافاك الله.
وقال أبو عمران الاصطخري: رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء.

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: كان سبب وفاة أبي الحسين النوري أنه سمع هذا البيت.
لا زلت أنزل في ودادك منزلاً ... تتحير الألبابُ عند نزوله
فتواجد النودي وهام في الصحراء ... فوقع في أجمه قصب قد قطعت وبقي
أصولها مثلُ السيوف، فكان يمشي عليها ويعيد عليها ويعيد هذا البيت إلى الغداة والدم يسيل من رجليه. ثم وقع مثل السكران، فتورمت قدماه. ومات.
وحكي أنه قيل له عند النزع: قل لا إله إلا الله، فقال أليس إليه أعود.
وقيل: مرض إبراهيم الخواص في المسجد الجامع: بالري وكنت به علة بالإسهال، فكان إذا قام مجلساً يدخل الماء.. ويتوضأ، فدخل الماء مرة فخرجت روحه.
سمعت منصوراً المغربي يقول دخل عليه يوسف بن الحسين عائداً له بعد ما أتى عليه أيامٌ لم يعده، ولم يتعهده، فلما رآه، قال للخواص: أتشتهي شيئاً؟ قال: نعم، قطعت كبد مشوي.
قال الأستاذ أبو القاسم: لعل الإشارة فيه أنه أراد: أشتهى قلباً يرقى لفقير، وكبداً تشتوي وتحترق لغريب؛ لأنه كالمستجفى ليوسف بن الحسين؛ حيث لم يتعهده.
وقيل: كان سبب موت بن عطاء أنه أدخل مرة على الوزير، فكلمه الوزير بكلام غليظ.
فقال له ابن عطاء: أهدأ يا رجل!! فأمر.. فضُرب بخفه على رأسه فمات منه.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبدالله بن علي التميمي يقول: سمت أبا بكر الدقي يقول: كنا عند أبي بكر الزقاق بالغداة، فقال: إلهي: كم تبقيني ها هنا فما بلغ الغداة الأولى حتى مات.
وحكي عن أبي علي الروذباري أنه قال: رأيت في البادية حّدَثاً، فلما رآني. قال: أما يكفيه أ، شغفني بحبه حتى علني، ثم رأيته يجود بروحه، فقلت له: قل لا إله إلا الله، فأنشأ يقول:
أيا من ليس لي عنه ... وإن عذبني بد
ويا من نال من قلبي ... منالاً ما له حد
وقيل للجنيد: قل لا إله إلا الله، فقال: ما نسيتُه فأذكره!! وقال:
حاضر في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره
فهو مولاي ومعتمدي ... ونصيبي منه أوفر
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سألت جعفر بن نصير بكران الدينوري، وكان يخدم الشبلي، ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي عليَّ درهم مظلمة، وقد تصدَّقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي شغل أعظم منه، ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك علي لسانه، فقبض على يدي وأدخلها في لحيته، ثم مات، فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته حتى في آخر عمره أدب من آداب الشريعة.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن بن عبد الله الطرسوسي يقول: سمعت علوشاً الدينوري يقول: سمعت المزين الكبير يقول: كنت بمكة - حرصها الله تعالى - فوقع بي انزعاج، فخرجت أريد المدينة. فلما وصلت إلى بئر ميمونة إذا أنا بشاب مطروح؛ فعدلت إليه وهو ينزع؛ فقلت له: قل لا إله إلا الله.. ففتح عينيه؛ مانشأ يقول:
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي ... وبداء الهوى تموت الكرام
فشهق شهقة، ثم مات، فغسلته، وكفنته، وصليت عليه، فلما فرغت من دفنه سكن ما كان بي من إرادة السفر، فرجعت إلى مكة.
وقيل لبعضهم: أتحبُّ الموت؟ فقال: القدوم على من يرجى خيره خير من البقاء مع من ى يؤمن شره.
وحكي عن الجنيد أنه قال: كنت عند أستاذي ابن الكرنبي، وهو يجود بنفسه، فنظرت إلى السماء فقال: بعد، ثم نظرت إلى الأرض فقال: بعد، يعني: أنه أقرب إليك من أن تنظر إلى السماء أو إلى الأرض، بل هو وراء المكان.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت مصر فرأيت الناس مجتمعين، فقالوا: كنا في جنازة فتى سمع قائلا يقول:
كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراكا
فشهق شهقة ومات.
وقيل: دخل جماعة علىممشاد الدينوري في مرض موته، فقالوا: ما فعل الله بك وما صنع؟ فقال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي، وقالوا له عند النزع: كيف تجد قلبك؟ فقال: منذ ثلاثين سنة فقدت قلبي.

سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن التميمي يقول: قال الوجيهي: كان سبب موت ابن بنان أنه ورد على قلبه شيء، فهام على وجهه، فلحقوه في وسط متاهة بني إسرائيل في الرمل، ففتح عينيه وقال: ارتع، فهذا مرتع الأحباب. وخرجت روحه.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: كنت بمكة، فجاءني فقير معه دينار، فقال: إذا كان غداً فأنا أموت، فأصلح لي بنصف هذا قبراً، والنصف الثاني لجهازي. فقلت في نفسي: دوخل الشاب؛ فإنه قد أصابته فاقة الحجاز، فلما كان الغد جاء؛ ودخل الطواف، ثم مضى وامتد على الأرض، فقلت: هو ذا يتماوت، فذهبت إليه، فحركته فإذا هو ميت. فدفنته كما أمر.
وقيل: لما تغيرت الحال على أبي عثمان الحيري مزق ابنه أبو بكر قميصاً ففتح أبو عثمان عينيه وقال: يا بني إن خلاف السنة في الظاهر من رياء في الباطن.
وقيل: دخل ابن عطاء على الجنيد، وهو يجود بنفسه؛ فسلم. فأبطأ في الجواب، ثم رد، وقال: اعذرني، فلقد كنت في وردي ثم مات.
وحكى أبو علي الروذباري قال: قدم علينا فقير، فمات، فدفنته وكشفت عن وجهه لأضعه في التراب ليرحم الله عزّ وجلّ غربته. ففتح عينيه وقال: يا أبا علي، أتدللني بين يدي من دللني؟! فقلت: يا سيدي أحياة بعد موت؟ فقال لي: بلى أنا حيّ، وكل محبّ لله، عزّ وجلّ، حتىّ لأنصرنك غداً بجاهي يا روذباري.
ويحكى عن ابن سهل الأصفهاني أنه قال: أترون أني أموت كما يموت الناس، مرض وعيادة، وإنما أدعى، فيقال: يا عليٌّ، فأجيب.
فكان يمشي يوماً، فقال: " لبيك " . ومات.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: سمعت أبا الحسن المزين قال: لما مرض أبو يعقوب النهرجوري مرض وفاته، قلت له، وهو في النزع: قل لا إله إلا الله، فتبسم إلي وقال: إيايّ تمني؟ وعزة من لا يذوق الموت ما بيني وبينه إلا حجّاب العزة. وانطفأ من ساعته، فكان المزين يأخذ بلحيته ويقول: حجام مثلي يلقن أولياء الله الشهادة، واخجلتاه منه!! وكان يبكي إذا ذكر هذه الحكاية.
وقال أبو حسين المالكي: كنت أصحب خيرا النساج سنين كثيرة، فقال لي قبل موته بثمانية أيام: أنا أموت يوم الخميس وقت المغرب، وأدفن يوم الجمعة قبل الصلاة، وستنسى هذا، فلا تنس.
قال أبو الحسين: فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من أخبرني بموته، فخرجت لأحضر جنازته، فوجدت الناس راجعين يقولون: يدفن بعد الصلاة.
فلم أنصرف، وحضرت، فوجدت الجنازة قد أخرجت قبل الصلاة كما قال، فسألت من حضر وفاته، فقال: إنه غشي عليه، ثم أفاق، ثم التفت إلى ناحية البيت وقال: قف عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور، الذي أمرت به لا يفوتك، والذي أمرت به يفوتني؛ فدعا بماء فجدد وضوءه وصلى، ثم تمدد، وغمض عينيه، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: كيف حالك؟ فقال: لا تسل، ولكني تخلصت من دنيا الوضرة.
وذكر أبو الحسين الحمصي مصنف كتاب بهجة الأسرار أنه لما مات سهل بن عبد الله انكبّ الناس على جنازته، وكان في البلد يهودي نيف على السبعين، فسمع الضجة، فخرج لينظر ما كان، فلما نظر إلى الجنازة صاح وقال: أترون ما أرى؟ فقالوا: لا، ماذا ترى؟ فقال أرى أقواماً ينزلون من السماء يتسحون بالجنازة، ثم إنه تشهد، وأسلم، وحسن إسلامه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن قيس - بمصر - يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كنت بمكة فجزت يوماً بباببني شيبة فرأيت شاباً حسن الوجه ميتاً، فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي وقال لي: يا أبا سعيد، أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا، وإنما ينقلون من دار إلى دار.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: بلغني أنه قيل لذي النون المصري عند النزع: أوصنا. فقال: لا تشغلوني فإني متعجب من محاسن لطفه.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: سئل أبو حفص في حال وفاته: ما الذي تعظنا به؟ فقال: لست أقوى على القول، ثم رأى من نفسه قوة، فقلت له: قل حتى أحكي عنك.
فقال: موعظتي: الانكسار بكلِّ القلب على التقصير.

باب المعرفة بالله

قال الله تعالى: " وما قدروا الله حق قدره " .جاء في التفسير: وما عرفوا الله حق معرفته.

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العدل، قال: حدثنا محمد بن القاسم العتكي، قال: حدثني محمد بن أشرس، قال: حدثنا سليمان بن عيسى الشجري عن عبا بن كثير، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن دعامة البيت أساسهُ، ودعامة الدين المعرفة بالله تعالى، واليقينُ والعقل القامع فقلت: بأبي أنت وأمي ما العقل القامع؟ قال الكف عن معاصي الله، والحرص على طاعة الله " .
قال الأستاذ: المعرفة على لسان العلماء هو: العلم؛ فكل علم معرفة؛ وكل معرفة علم؛ وكل عالم بالله عارف؛ وكل عارف عالم وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائ وصفاته؛ ثم صدق الله تعالى في معاملاته: ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وأفاقه؛ ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكاف فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله في جميع أ؛واله؛ وانقطع عنه هواجس نفسه؛ ولم يضع بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره؛ فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن آفات نفسه بريا؛ ومن المساكنات والملاحظات نقياً؛ ودام في السر مع الله تعالى مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة.
وبالجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.
وقد تكلم المشايخ في المعرفة، فكل نطق بما وقع له؛ وأشار إلى ما وجده في وقته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة من الله، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته.
وسمعته يقول: المعرفة توجب السكينة في القلب كما أ، العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته.
سمعت الشيخ أبا عب الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زيد يقول: سمعت الشبلي يقول: ليس لعارف علاقة ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن محمد بن عبد الوهاب يقول: سمعت الشبلي يقول،وقد سئل عن المعرفة، فقال: أولها الله تعالى، وآخرها ما لا نهاية له.
وسمعته يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا العباس الدينوري يقول: قال أبو حفص: مذ عرفت الله تعالى ما دخل قلبي حق ولا باطل.
قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا الذي اطلقه أبو حفص فيه طرف من الإشكال، وأجل ما يحتمله: أن عند القوم المعرفة توجب غيبة العبد عن نفس، لإستيلاء ذكر الحق؛ سبحانه، عليه، فلا يشهد غير الله، عزّ وجلَّ، ولا يرجع إلى غيره، فكما أن العقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر، أو يستقبله من حال؛ فالعارف رجوعه إلى ربه. فإذا لم يكن مشتغلاً إلا بربه لم يكن راجعاً إلى قلبه. وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له. وفرق بين من عاش بقلبه وبين من عاش بربه عز وجل.
وسئل أبو يزيد عن المعرفة، فقال: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " .
قال الأستاذ: هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص.
وقال أبو يزيد: للخلق أحوال، ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه. فنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.
وقال الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار إليه.
قال الأستاذ: أراد الواسطي بهذا: أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه؛ لأنهما من صفاته، والعارف محو في معرفة، فكيف يصح له ذلك، وهو لاستهلاكه في وجوده، أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ الوجود مختطف عن إحساسه بكل وصف هو له.
لهذا قال الواسطي أيضاً: من عرف الله تعالى انقطع، بل خرس وانقمع. قال صلى الله عليه سلم: " لا أحصي ثناء عليك " .
هذه صفات الذين بعد مرماهم، فأما من نزلوا عن هذا الحد فقد تكلموا في المعرفة وأكثروا.
أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول: من كان بالله أعرف كان له أخوف.
وقال بعضهم: من عرف الله تعالى تبرم بالبقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها.
وقيل: من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوفُ المخلوقين، وأنس بالله تعالى.

وقيل: من عرف الله ذهب عنه رغبة الأشياء، وكان بلا فصل ولا وصل.
وقيل: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم.
وقال رويم: المعرفة للعارف مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه.
وقال ذو النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة فسبقت روحُ نبينا، صلى الله عليه وسلم، أرواحَ الأنبياء عليهم السلام إلى روضة الوصال.
وقال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى يحتملك ويحلم عنك، تخلقاً بأخلاق الله.
وشئل بن يزدانيار: متى يشهد العارف الحقَّ سبحانه؟ فقال: إذا بدا الشاهد وفنى الشواهد وذهب الحواس واضمحل الإخلاص.
وقال الحسين بن منصور: إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله إليه بخواطره، وحرس سرَّه أن يسنح فيه غير خاطر الحق.
وقال علامة العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: أعرف الناس بالله تعالى أشدهم تحيراً فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأنطاكي يقول: قال رجل للجنيد: مِن أهل المعرفة أقوام يقولون إن ترك الحركات من باب البر والتقوى!! فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة.
وقيل لأبي يزيد: بماذا وجدت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع وبدن عار.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: قلت لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شيء غير الله عز وجل؟ فقال: وهل يرى غيره فيتأسف عليه؟! قلت: فبأي عين ينظر إلى الأشياء؟ فقال: بعين الفناء والزوال.
وقال أبو يزيد: العارف طيار، والزاهد سيار.
وقيل: العارف تبكي عينه ويضحك قلبه.
وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض يطؤه البرُّ والفاجر، وكالسحاب بطل كل شيء، وكالمطر، يسقى ما يحب، وما لا يحب.
وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، عز وجل.
وقال أبو يزيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ماله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت يوسف بن علي يقول: لا يكون العارف عارفاً حقاً حتى لو أعطي مثل ملك سليمان عليه السلام لم يشغله عن الله طرفة عين.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياء، والأنس.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: قيل لذي النون المصري: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي.
وقيل: العالم يقتدي به، والعارف يهتدي به.
وقال الشبلي: العارف لا يكون لغيره لاحظاً، ولا بكلام غيره لا فظاً، ولا يرى لنفسه غير الله تعالى حافظاً.
وقيل: العارف أنس بذكر الله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذل له تعالى فأعزه في خلقه.
وقال أبو الطيب السامري: المعرفة طلوع الحق على الأسرار بمواصلة الأنوار.
وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
وقال أبو سليمان الداراني: إن الله تعالى يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي.
وقال الجنيد: العارف من نطق الحقُّ عن سره وهو ساكت.
وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله تعالى.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الرُّوذباري يقول: سمعت رويماً يقول: رياء العارفين أفضل من أخلاص المريدين.
وقال أبو بكر الوراق: سكوت العارف أنفع، وكلامه أشهى وأطيب.
وقالذو النون: الزهاد ملوك الآخرة وهم فقراء العارفين.
وسئل الجنيد عن العارف، فقال: لون الماء لون إناثه يعني أنه يحكم وقته.
وسئل أبو يزيد عن العارف، فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله، ولا يوافق غير ألمه، ولا يطالع غير الله تعالى.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سئل بعض المشايخ: بمَ عرفت الله تعالى؟ فقال: بلمعة لمعت بلسان مأخوذ عن التمييز المعهود، ولفظة جرت على لسان هالك مفقود يشير إلى وجد ظاهر ويخبر عن سر سائر هو بما أظهرهُ، وغيره بما اشكله ثم أنشد:
نطقتُ بلا نطق هو النطق إنه ... لك النطق لفظاً أو يبين عن النطق
تراءيت كي أخفى وقد كنتَ خافياً ... وألمعتَ لي برقاً فانضفت بالبرق
وسمعته يقول: سمعت علي بن بندار الصيرفي يقول: سمعت الجريري يقول: سئل أبو تراب عن صفة العارف، قال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كلُّ شيء.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: العارف تضيء له أنوار العلم فيبصر به عجائب الغيب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: العارف مستهلك في بحار التحقيق؛ كما قال قائلهم: المعرفة أمواج تغطّ. ترفع وتحط.
وسئل يحيى بن معاذ عن العارف، فقال: رجل كائن بائن، ومرة قال: كان فبان.
وقال ذو النون: علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطناً من العلم ينقض عليه ظاهراً من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل، عليه على هتك أستار محارم الله.
وقيل: ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة، فكيف عند أبناء الدنيا؟؟ وقال أبو سعيد الخراز: المعرفة تأتي من عين الجود وبذل المجهود.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً يقول: سئل الجنيد عن قول ذي النون المصري في صفة العارف.
كان ها هنا فذهب فقال الجنيد: العارف: لا يحصره حال عن حال، ولا يحجبه منزل ن التنقل في المنازل، فهو مع أهل كل مكان يمثل الذي هو فيه يجد مثل الذي يجدون، وينطق فيها بمعالمها لينتفعوا بها.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محم بن الفضل يقول: المعرفة حياة القلب مع الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الكتاني يقول: سئل أبو سعيد الخراز: هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ فقال: نعم، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله تعالى، فإذا نزلوا إلى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك.
؟باب المحبة قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " .
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: حدثنا السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاء، ومن لم يحب لقاء الله لم يحب الله لقاءه " أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد الصفار البصري قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا الحسين بن موسى قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا الحسن بن يحيى عن صدقة الدمشقي، عن هشام الكتاني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربه سبحانه وتعالى قال: " من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدّ له منه، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً " .
أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عبيد ابن شريك قال: أخبرنا يحيى، قال: حدثنا مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحبّ الله، عز وجل، العبد قال لجبريل: يا جبريل، إني أحب فلاناً فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله تعالى قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك " .
والمحبة: حالة شريفة شهد الحقُّ، سبحانه، بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد، فالحق: سبحانه، يوصف بأنه يحب العبدّ، والعبدُ يوصف بأنه يحب الحق سبحانه.

والمحبة على لسان العلماء: هي الإرادة، وليس مراد القوم بالمحبة الإرادة؛ فإن الإرادة لا تتعلق بالقديم، اللهمَّ إلا أن تُحمل على إرادة التقرب إليه والتعظيم له.
ونحن نذكر من تحقيق هذه المسألة طرَفاً إن شاء الله تعالى؛ فمحبة الحقُّ سبحانه، للعبد إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته له إرادة الإنعام، فالرحمة أخصّ من الإرادة، والمحبة أخصّ من الرحمة، فإرادة الله تعالى لأن يوصل إلى العبد الثواب والإنعام تسمى رحمة وإرادته لأن يخصه بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة.
وإرادته، سبحانه، صفة واحدة، فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى غضباً، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة.
وقوم قالوا: محبة الله، سبحانه، للعبد، مدحه ل، وثناؤه عليه بالجميل، فيعود معنى محبته له، على هذا القول، إلى كلامه، وكلامه قديم.
وقال قوم: محبته للعبد: من صفات فعله، فهو إحسان مخصوص يلقي الله العبد به، وحالة مخصوصة برقية إليها، كما قال بعضهم: إن رحمته بالعبد نعمة معه، وقوم من السلف قالوا: محبته من الصفات الخبرية، فأطلقوا اللفظ وتوقفوا عن التفسير.
فأما ما عدا هذه الجملة مما هو المعقول من صفت محبة الخلق؛ كالميل إلى الشيء، والاستئناس بالشيء، وكحالة يجدها المحب مع محبوبه من المخلوقين، فالقديم، سبحانه. يتعالى عن ذلك.
وأما محبة العبد لله: فحالة يجدها من قلبه. تلطف عن العبارة.
وقد تحمله تلك الحالة علي التعظيم له، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه. والاهتياج إليه، وعدم القرار من ونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه. وليست محبة العبد ل. سبحانه. متضمنة سَبيلاً، ولا أختطاطاً. كيف. وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق والدرك والإحاطة. والمحب بوصف الاستهلاك في المحبوب، أولى منه بأن يوصف بالاختطاط. ولا توصف المحبة يوصف ولا تحد بحد أضح ولا أقرب إلى الفهم والاستقصاء في المقال عند حصول الإشكال؛ فإذا زاد الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام.
وعبارات الناس عن المحبة كثيرة. وتكلموا في أصلها في اللغة؛ فبعضهم قال: الحب اسم لصفاء الموجة؛ لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.
وقيل: الحباب: ما يعلوا الماء عند المطر الشديد؛ فعلى هذا المحبة: غليان القلب وثورانه عند العطش والاهتياج إلى لقاء المحبوب.
وقيل: إنه مشتق من حباب الماء بفتح الحاء وهو: معظمه. فسمي بذلك: لأن المحبة غاية معظم ما في القلب من المهمات.
وقيل: اشتقاق من اللزوم والثبات، يقال: أحب البعير. وهو: أن يبرك فلا يقوم فكأن المحب لا يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه.
وقيل: الحب مأخوذ من الحب. وهو القرط قال الشاعر:
تبينت الحيَّة النضناض منه ... مكانّ الحب تستمع السرارا
وسمي القرط حبا؛ إما للزومه للأذن، أو لقلقه. وكلا المعنيين صحيح في الحب.
وقيل: هو مأخوذ من الحبِّ جمع حبَّة وحبة القلب: ما به قوامه؛ فسمي الحب حباً باسم محله.
وقيل: الحب، والحبّ كالعمَر والعُمر.
وقيل: هو مأخوذ من الحبة بكسر الحاء وهي بذور الصحراء: فسمي الحب حبا، لأنه لباب الحياة، كما أن الحب لباب النبات.
وقيل: الحب: هي الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة:، فسميت المحبة حباً لأنه يتحمل عن محبوبه كل عز وذلّ.
وقيل: هو من الحب الذي فيه الماء، لأنه يمسك ما فيه، فلا يسع فيه غير ما امتلأ به، كذلك إذا امتلأ القلب بالحب فلا مساغ فيه لغير محبوبه.
وأما أقويل الشيوخ فيه، فقال بعضهم: المحبة: الميل الدائم بالقلب الهائم.
وقيل: المحبة: إيثار المحبوب على جميع المصحوب.
وقيل: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب.
وقيل: نحو المحبِ لصفاته، وإثباتُ المحبوب بذته.
وقيل: مواطأة القلب لمرادات الرب.
وقيل: خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة.
وقال أبو يزيد البسطامي: المحبة: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار قليل من حبيبك.
وقال سهل: الحبُّ: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة.
وسئل الجنيد عن المحبة، فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب.
أشار بهذا إلى استيلاء ذكر المحبوب، حتى لا يكون الغالب على قلب المحب إلا ذكر صفت المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها.

وقال أبو علي الروذباري: المحبة: الموافقة.
وقال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كتلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.
وقال الشبلي: سميت المحبة محبة؛ لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب.
وقال ابن عطاء: المحبة: إقامة العتاب على الدوام.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: المحبة: لذة، ومواضع الحقيقة دهش.
وسمعته يقول: العشق: مجاوزة الحد في المحبة، والحقُّ، سبحانه؛ لا يوصف بأنه يجاوز الحدّ، فلا يوصف بالعشق، ولو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ذلك استحقاق قدر الحق سبحانه، فلا يقال: إن عبداً جاوز الحد في محبة الله. فلا يوصف الحق. سبحانه بأنه يعشق، ولا العبد في صفته سبحانه بأنه يعشق، فنفى العشق، ولا سبيل له إلى وصف الحق، سبحانه، لا من الحق للعبد، ولا من العبد للحق، سبحانه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول، وقد سئل عن المحبة. فقال: أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: محبة توجب حقن الدماء، ومحبة توجب سفك الدماء.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت سمنوناً يقول: ذهب المحبون لله تعالى بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المرءمع من أحب " ؛ فهم مع الله تعالى: وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة مالا ينقص بالجفاء، ولايزيد بالبر، وقال ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده.
وقال الجنيد: إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وفي معناه نشد الأستاذ أبو عليّ:
إذا صفت المودّة بين قوم ... ودام ودادهم سمج الثناء
وكان يقول: لا ترى أباً شفيقاً يبجل إبنه في الخطاب والناس يتكلفون في مخاطبته والأب يقول: يا فلان.
وقال الكتاني: المحبة: الإيثار للمحبوب.
وسمعت محمد بن الحسيني قول: سمعت ابا سعيد الأرجاني يقول: سمعت بندار بن الحسين يقول: رؤى مجنون بني عامر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وجعلني حجة على المحبِّبين.
وقال أبو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة: أن ينسى العبد حظه من الله وينسى حوائجه إليه.
وقال الحسين بن منصور: حقيقة المحبة: قيامك مع محبوبك بخلع وصافك.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: قيل النصراباذي: ليس لك من المحبة شيء؟ فقال: صدقوا؛ ولكن لي حسراتهم، فهو ذا احترق فيه.
وسمعته يقول: قال النصراباذي: المحبة: مجانبة السلو على كلِّ حال. ثم أنشد:
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوةً ... فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمحة بارق
وقال محمد بن الفضل: المحبة: سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب.
وقال الجنيد: المحبة: إفراط المسيل بلا نيل.
ويقال: المحبة: تشويش في القلوب يقع من المحبوب.
ويقال:المحبة: فتنة تقع في الفؤاد من المراد.
وأنشد ابن عطاء:
غرست لهل الحبّ غصناً من الهوى ... ولم يك يدري ما الهوى أحدٌ قبلي
فأورق أغصاناً، وأينع صبوة ... وأعقب لي مراً من الثمر المحلى
كل جميع العاشقين هواهم إذا نسوه كان من ذلك الأصلي
وقيل: الحب أوله ختل وآخره قتل.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " حبّك للشيء يعمى ويُصم " .
فقال يعمى عن الغير غيرة وعن المحبوب هيبة، ثم أنشد:
إذا ما بد لي تعاظمته ... فأصدر في حال من لم يرد
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارس المحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك وما لك، ثم موافقتك له سرَّا وجهراً، ثم علم بتقصيرك في حبِّه.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: لا تصلع المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا.
وقال الشبلي. المحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك.

وقيل: المحبة: نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.
وقيل:المحبة: بذل المجهود والحبيب يفعل ما يشاء.
وقال النوري: المحبة: هتك الأستار وكشف الأسرار.
وقال أبو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة.
وقال جعفر: قال الجني: دفع السريِّ إلى رقعة، وقال: هذه لك خير من سبعمائة قصة أو حديث يعلو، فإذا فيها:
ولما ادَّعيتُ الحبَّ قالت: كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا
وقال ابن مسروق: رأيت سمنونا يتكلم في المحبة فتكسرت قناديل المسجد كلها.
سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم ابن فانك يقول: سمعت سمنوناً، وهو جالس في المسجد يتكلم في المحبة إذ جاء طير صغير فقرب منه، ثم قرب.. فلم يزل يدنو حتى جلس على يده.. ثم ضرب بمنقاره الأرض حتى سال منه الدم، ثم مات.
وقال الجنيد: كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة.
وقيل: حبس الشبليّ في المارستان فدخل عليه جماعة: فقال: من أنتم؟ قالوا: إنا محبوك يا أبا بكر، فأقبل يرميهم بالحجارة، ففروا، فقال: إن ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي.
وأنشد الشبلي:
أيها السيد الكريم ... حبك بين الحشا مقيم
يا رافع النوم عن جفوني ... أنت بما مر بي عليم
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: سمعت علي بن عبيد يقول: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وماروي بعد، ولسانه خارج ويقول: هل من مزيد.
وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت إلفي ... وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمني وأموت شوقاً ... فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحبّ كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
وقيل: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إني إذا اطلعت علي قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي.
ورأيت بخط الأستاذ أبي علي الدقاق، رحمه الله: في بعض الكتب المنزلة " عبدي، أنا وحقك لك محب، فبحقي كن لي محباً " .
وقال عبد الله بن المبارك: من أعطى شيئاً من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع.
وقيل: المحبة: ما يمحو أترك.
وقيل: المحبة: سُكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه.
ثم السكر الذي يحصل عند الشهود لا يوصف، وأنشدوا:
فأسكر القومَ دَوْرُ كًأس ... وكان سكري من المدير
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق ينشد كثيراً:
لي سكرتان، وللندمان واحدة ... شيءٌ خصصت به من بينهم وحدي
وقال أبن عطاء: المحبة: إقامة العتاب على الدوام.
وكان للأستاذ أبي عليّ جارية تسمى فيروز وكان يحبها؛ إذ كانت قد خدمته كثيراً، فسمعته يقول: كانت فيروز تؤذيني يوماً وتستطيل عليّ بلسانها، فقال لها أبو الحسن القارىء لم تؤذين هذا الشيخ؟ فقالت: لأني أحبه.
وقال يحيى بن معاذ: مثقالُ خردلة من الحب أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقيل: إن شاباً أشرف على الناس في يوم عيد وقال:
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
وألقى نفسه من سطح عال فوقع ميتاً.
وحكي أن بعض أهل الهند عشق جارية، فرحلت الجارية، فخرج الرجل في وداعها، فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى، فغمض التي لم تدمع أربعاً وثمانين سنة. ولم يفتحها، عقوبة لها؛ لأنها لم تبك على فراق حبيبته، وفي معناه أنشدوا:
بكت عيني غداة البين دمعاً ... وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع ... بأن غمضتها يوم التقينا
وقال بعضهم: كنا عند ذي النون المصري: فتذاكرنا المحبة، فقال ذو النون: كفوا عن هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها. ثم أنشأ يقول:
الخوف أولى بالمسي ... ء إذا تأله والحزن

والحبُّ يجمل بالتقي ... وبالنقي من الدرَنَ
وقال يحيى بن معاذ: من نشر المحبة عند غير أهلها فهو في دعواه دعيّ.
وقيل: ادَّعى رجل الاستهلاك في محبة شخص، فقال له الشاب: كيف هذا، وأخي أحسن مني وجهاً وأتمُّ جمالاً؟ فرفع الرجل رأسه يلتفت، وكانا على سطح فالقاه من السطح وقال: هذا أجر من يدعي هواناً وينظر إلى سوانا.
وكان سمنون يقدم المحبة على المعرفة، والأكثرون يقدمون المعرفة على المحبة.
وعند المحققين: المحبة: استهلاك في لذة، والمعرفة: شهود في حيرة، وفناء في هيبة.
وقال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحبة، بمكة، أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرم سناً، فقالوا له: هات ما عندك يا عراتي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبدٌ ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوارُ هويته، وصفا شربه منكأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيب؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله والله ومع الله فبكر الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، إني حرَّمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري فيها.
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن القاسم قال: حدثنا هيثم بن همام قال: أخبرنا إبراهيم بن الحارث قال: حدثني عبد الرحمن ابن عفان قال: حدثني محمد بن أيوب قال: حدثني أبو العباس خادم الفضيل ابن عياض قال: احتبس بول الفضيل، فرفع يديه وقال: اللهم بحبي لك إلا أطلقته عني، فمابرحنا حتى شفي.
وقيل المحبة: الإيثار كامرأة العزيز لما تناهت في أمرها قالت: " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " .
وفي الابتداء قالت: " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلى أن يسجن أو عذاب أليم " ، فوركت الذنب في الابتداء عليه، وفي الانتهاء نادت على نفسها بالخيانة.
سمعت الأستاذ أبا علي يقول ذلك.
وحكي عن أبي سعيد الخراز أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني، فإن محبة الله شغلتني عن محبتك.. فقال: يا مبارك، من أحب الله تعالى فقد أحبني.
وقيل: قالت رابعة في مناجاتها: إلي، أتحرق بالنار قلباً يحبك؟ فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هكذا، فلا تظني بنا ظن السوء!! وقيل: الحب، حرفان: حاء وباء، والإشارة فيه: أن من أحب فليخرج عن روحه وبدنه.
وكالإجماع من إطلاقات القوم: أن المحبة: هي الموافقة، وأشد الموافقات: الموافقة بالقلب، والمحبة توجب انتفاء المباينة؛ فإن المحب أبداً مع محبوبه، وبذلك ورد الخبر: " حدَّثنا الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا القاضي أحمد بن محمود بن حرزاذ قال: حدثنا الحسين بن حماد بن فاضلة قال: حدثنا يحيى بن حبيب قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: " إن الرجل ليحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول. سمعت أبا حفص يقول: أكثر فساد الأحوال من ثلاثة، فسق العارفين، وخيانة المحبين، وكذب المريدين.
قال أبو عثمان: فسق العارفين: إطلاق الطرف واللسان والسمع إلى أسباب الدنيا ومنافعها.
وخيانتة المحبين: اختيار هواهم على رضا الله عزَّ وجل فيما يستقبلهم.
وكذب المريدين: أن يكون ذكر الخلق ورؤيتهم تغلب عليهم على ذكر الله عزَّ وجلَّ.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا القاسم الجوهري يقول: سمعت أبا علي ممشاد بن سعيد العكبري يقول: رواد خطاف خطابة في قبة سلميان، عليه السلام، فامتنعت عليه، فقال لها: لِمَ تمتنعين عليّ وإن شئت قلبت القبة على سليمان!! فدعاه سليمان، عليه السلام، وقال له: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله، إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم! فقال: صدقت.

باب الشوق

قال الله عز وجلَّ: " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت " .

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: أخبرنا ابن أبي قماش قال: أخبرنا إسماعيل بن زرارة، عن حماد ابن يزيد، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة، فأوجز فيها، فقلت: ففت أبا اليقظان!! فقال: وما عليّ من ذلك، ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات، فقال: " اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحبني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي.
اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرَد العيش بعد الموت، واسألك النظر إلى وجهك الكريم، وشوقاً إلى لقائك في غير ضواء مضرة ولا فتنةُ مُضلة.
" اللهم زينا بزينة الإيمان.. اللهم اجعلنا هداة مهتدين " ..
قال الأستاذ الشوق: اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يفرق بين الشوق والاشتياق، ويقول: الشوق يسكن باللقاء والرؤيةِ، والاشتياقُ لا يزول باللقاء. وفي معناه أنشدوا:
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرفُ مشتاقً
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت النصراباذي يقول: للخلق كلهم مقامُ الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يُرى له أثر ولا قرار.
وقيل: جاء أحمد بن حامد الأسود إلى عبد الله بن منازل فقال: رأيت في المنام أنك تموت إلى سنة، فلو استعددت للخروج؟ فقال له عبد الله بن منازل: لقد أجلتنا إلى أمد بعيد أأعيش أنا إلى سنة!! لقد كان لي أنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي يغني أبا علي:
يا من شكا شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غدا
وقال أبو عثمان: علامة الشوق: حب الموت مع الراحة.
وقال يحيى بن معاذ: علامة الشوق: فطام الجوارح عن الشهوات.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: خرج داود عليه السلام يوماً إلى بعض الصحارى منفرداً، فأوحى الله تعالى إليه: مالي أراك يا داو وحدانياً؟ فقال يا إلهي، استأثر الشوق إلى لقائك على قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق. فأوحى الله تعالى إليه: أرجع إليهم؛ فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتُك في اللوح المحفوظ جهبذاً.
وقيل: كانت عجوز قدَمَ بعض أقاربها من السفر فأظهر قومُها السرور، والعجوز تبكي، فقيل لها: ما يبكيك؟ فقالت: ذكرَّني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله تعالى.
وسئل ابن عطاء عن الشوق فقال: أحتراق الأحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد.
وسئل أيضاً عن الشوق، فقيل له: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة؛ لأن الشوق منها يتولد.
وقال بعضهم: الشوق لهيب ينشأ بين أثناء الحشى، يسنح عن الفرقة، فإذا وقع اللقاء طفىء، وإذا كان الغالب على الأسرار مشاهدة المحبوب لم يطرقها الشوق.
وقيل لبعضهم: هل تشتقا؟ فقال: لا، إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر.
سمعت الأستاذ أبي علي الدقاق يقول: في قوله عزَّ وجلَّ: وعجلت إليك ربِّ لترضي قال: معناه: شوقاً إليك، فستره يلفظ الرضا.
وسمعته رحمه الله تعالى يقول: من علامات الشوق: تمنى الموت على بساط العوافي، كيوسف عليه السلام لمَّا القى في الجب لم يقل توفي؛ ولما أدخل السجن لم يقل توفني؛ ولما دخل عليه أبواه وحرَّ له الإخوةُ سُحداً وتم له الملك والنعم قال: توفني مسلماً. وفي معناه أنشدوا:
من سرَّه العيد الجيد ... فقد عدمت به السرورا
كان السرور يتمُّ لي ... لو كان أحبابي حضورا
وقال ابن خفيف: الشوق: ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء بالقرب.
وقال أبويزيد: إن لله عباداً لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لا ستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.

أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: أخبرنا أبو العباس الهاشمي بالبيضاء قال: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي قال: حدثنا عبد الله الأنصاري قال: سمعت الحسين الأنصاري يقول: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت وشخص قائم تحت العرش فيقول الحق، سبحانه: يا ملائكتي، من هذا؟ فقالوا: الله أعلم فقال هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق بلقائي.
وفي بعض الحكايات في مثل هذا المنام أنه قيل: هذا معروف الكرخي خرج من الدنيا مشتاقاً إلى الله، فأباح الله عز وجلَّ له النظر إليه.
وقال فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور الله تعالى، فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: عزلاً المشتاقون إلىَّ... أشهدكم أني إليهم أشوق..
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: " أسألك الشوق إلى لقائك " قال:كان الشوق مائة جزء، تسعة وتسعون له، وجزء متفرق في الناس، فأراد أن يكون ذلك الجزء له أيضاً، فغار أن يكون شطية من الشوق لغيره.
وقيل: شوق أهل القرب أتم من شوق المحجوبين؛ ولهذا قيل:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنتِ الخيامُ من الخيام
وقيل: إن المشتاقين يتحسون حلاوة الموت عند وروده؛ لما قد كشف لهم من رَوح اوصول أحلى من الشهد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السرِّي يقول: الشوق أجلّ مقام المعارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه.
وقال أبو عثمان الحيري في قوله تعالى: " فإن أجل الله لآت " : هذا تعزية المشتاقين، معناه: أني أعلم أن اشتياقكم إلى غالب. وأنا أجلت للقائكم أجلاً، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه.
وقيل: أوحى الله تعالى لداود عليه السلام: قل لشبان بني إسرائيل لم تشغلون أنفسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم، ما هذا الجفاء!! وقيل: أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى داود عليه السلام: لو يعلم المديرون على كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إليّ، وانقطعت أوصالهم من محبتي، ياداود هذه برادتي للمديرين علي، فبكيف إرادتي للمقبلين إليّ؟ وقيل: مكتوب في التوراة: شوقناكم فلم تشتاقوا، وخوفنا كم فلم تخافوا، نحنا لكم في تنوحوا.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بكى شعيب حتى عمي، فرد الله عز وجل بصره عليه، ثم بكى حتى عمي، فرد الله عز وجل بصره عليه. ثم بكى حتى عمي، فأوحى الله تعالى إليه: إن كان هذا البكاء لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها، فقال لا، بل شوقاً إليك. فأوحى الله إليه: لأجل ذلك أخدمتك نبي وكليمي عشر سنين.
وقيل: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء.
وفي الخبر: " اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان " .
سمعت الأستاذ أبا علي يقول: قال بعض المشايخ: أنا أدخل السوق والأشياء تشتاق إليّ، وأنا عن جميعها حُر.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: سمعت محمد بن عمر الرملي يقول: حدثنا محمد بن جعفر الإمام قال: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم قال: حدثنا مرحوم قال: سمعت مالك بن دينار يقول: قرأت في التوراة: شوقنا كم فلم تشتاقوا، وزمَّرنا لكم فلم ترقصوا.
سمت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان يقول: سمعت الجنيد، وقد سئل من أي شيء يكون بكاء المحب إذا لقي المحبوب؟ فقال: إنما يكون ذلك سروراً به، ووجداً من شدة الشوق إليه، ولقد بلغني أن أخوين تعانقا، فقال أحدهما: وأشوقاه، وقال الآخر: واوجداه!!

باب حفظ قلوب المشايخ

وترك الخلاف عليهم

قال الله تعالى في قصة موسى مع الخضر، عليهما السلام: " هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً " .
قا الإمام: لما أراد صحبة الخضر حفظ شرط الأدب، فاستأذن أوَّلاً في الصحبة، ثم شرط عليه الخضر أن لا يعارضه في شيء ولا يعترض عليه في حكم، ثم لما خالفه موسى عليه السلام تجاوز عنه المرة الأولى والثانية، فلما صار إلى الثالثة، والثلاثُ آخر حد القلة وأول حد الكثرة، سلمتة الفرقة؛ فقال: هذا فراق بيني وبينك.

أخبرنا أبو الحسين الإهوازي قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا أبو سالم القزاز قال: حدثنا يزيد عن بيان قال: حدثنا أبو الرجال، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أكرم شاب شيخاً لسنَّه إلا قبض الله تعالى له من يكرمه عند سنه " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: بدء كل فُرقة المخالفهُ. يعني به: أنَّ من خالف شيخه لم يبق على طريقته وانقطعت العُلقْهُ بينهما وإن جمعتهما البقعة؛ فمن صحب شيخاً من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة، على أن الشيوخ قالوا: عُقوق الأستاذين لا توبة عنها.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: خرجت إلى مرو في حياة شيخي الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، وكان له قبل خروجي أيام الجمعة بالغدوات مجلس دَوْر القرآن والختم، فوجدته عند رجوعي قد رفع ذلك المسجد، وعقد لأبي الغفاني في ذلك الوقت مجلس القول، فأدخلني من ذلك شيءٌ؛ فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول، فقال لي فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول: فقال لي يوماً: يا أبا عبد الرحمن، ما يقول الناسُ فيّ؟ فقلت: يقولون رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القول!! فقال: من قال لأستاذهِ لِمَ؟ لا يفلح أبداً، ومن المعروف أن الجنيد قال: دخلت على السريّ يوماً، فأمرني شيئاً، فقضيت حاجته سريعاً، فلما رجعت ناولني رقعة وقال: هذا المكان قضائك لحاجتي سريعاً، فقرأت الرقعة، فإذا فيها مكتوب سمعت حادياً يحدو في البادية:
أبكي، وهل يدريك ما يبكيني ... أبكي جداراً أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني ويحكى عن أبي الحسن الهمداني العلوي قال: كنت ليلة عند جعفر الخلدي، وكنت أمرت في بيتي أن يُعَلَّق طير في التنور، وكان قلبي معه، فقال لي جعفر: أقم عندنا الليلة، فتعللت بشيء، ورجعت إلى منزلي، فأخرج الطير من التنور، ووضع بين يدي، فدخل كلب من الباب، وحمل الطير عند تغافل الحاضرين، فأتى بالجواذب الذي تحته، فتعلق به ذيل الخادمة، فانصب.. فلما أصبحتُ دخلت على جعفر، فحين وقع بصره عليّ قال: من لم يحفظ قلوب المشايخ سُلّط عليه كلب يؤذيه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت أبا عبد الله الدينوري يقول: سمعت الحسن الدامغاني يقول: سمعت عمي البسطامي يحكي عن أبيه: أن شقيقاً البلخيِّ، وأبا تراب النخشبي، قدما على أبي يزيد، فقُدَّمت السفرة، وشاب يخدم أبا يزيد، فقالا له: كل معنا يا فتى. فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر. فأبى. فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة. فأبى. فقال أبو يزيد: تدعُوا من سقط من عين الله تعالى!! فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة، فقطعت يده!! سمعت الأستاذ أبا عليّ يقول: وصف سهل بن عبد الله رجلاً بالولاية خبازاً بالبصرة.. فسمع رجل من أصحاب سهل بن عبدالله ذلك، فاشتاق إليه؛ فخرج إلى البصرة، فأتى حانوت الخباز.. فرآه يخبز وقد تنقب لمحاسنه على عادة الخبازين، فقال في نفسه. لو كان هذا ولياً لم يحترق شعره بغير نقاب. ثم إنه سلم عليه وسأله شيئاً، فقال الرجل: إنك استصغرتني، فلا تنتفع بكلامي، وأبي أن يكلمه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الرحمن الرازي أبا عثمان الحيري يصف محمد بن الفضل البلخي ويمدحه، فاشتاق إليه، فخرج إلى زيارته، فلم يقع بقلبه من محمد بن الفضل ما اعتقد، فرجع إلى أبي عثمان وسأله، فقال: كيف وجدته؟ فقال: لم أجد أحداً إلا حُرم فائدته، ارجع إليه بالحرمة. فرجع إليه عبد الله، فانتفع بزيارته.
ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور يكتب شيئاً، فقال. ما هذا؟ فقال: هو ذا أُعارض القرآن، فدعا عليه وهجره؛ قال الشيوخ إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: لما نفى أهل بلخ محمد بن الفضل من البلد؛ دعا عليهم وقال: اللهم امنعهم الصدق. فلم يخرج من بلخ بعد صديق.

سمعت أحمد بن يحيى الأبيوري يقول: من رضي عنه شيخه لا يكافأ في حال حيته: لئلا يزول عن قلبه تعظيم ذلك الشيخ. فإذا مات الشيخ أظهر الله عز وجل عليه ما هو جزاء رضاه ومن تغير عليه قلبُ شيخه لا يكافأ في حال حياة ذلك الشيخ، لئلا يرقَّ له، فإنهم مجبولون على الكرم، فإذا مات ذلك الشيخ، فحينئذ يجد المكافأة بعده.
؟باب السماع قال الله عزَّ وجلَّ: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " .
اللام في قوله القول تقتضي التعميم والاستغراق، والدليل عليه: أنه مدحهم باتباع الأحسن.
وقال تعالى: " فهم في روضة يحيرون " ، جاء في التفسير: أنه السماع وأعلم أن سماع الأشعار بالألمان الطيبة والنغم المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظوراً، ولم يسمع على مذموم في الشرع، ولم ينجز في زمام هواه، ولم ينخرط في سلك لهواه، مباح في الجملة.
ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان.
هذا ظاهر من الأمر. ثم ما يوجب المستمع توفر الرغبة على الطاعات، وتذكر ما أعدّ الله تعالى لعباده المتقين من الدرجات ويحمله على التحرر من الزلات، ويؤدي إلى قلبه في اعمال صفاء الواردات مستحب في الدين ومختار في الشرع، وقد جرى على لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو قريب من الشعر، وإن لم يقصد أن يكون شعراً.
أخبرنا: أبو الحسن علي بن أحمد ألإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا الحارث بن أبي أسلمة قال: حدثنا أبو النضر قال: حدثنا شعبة عن حميد قال: سمعت أنساً يقول: كانت الأنصار يحفرون الخندق فجعلوا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فأكرم الأنصار والمهاجرة " وليس هذا اللفظ منه، صلى الله عليه وسلم، على وزن الشعر، لكنه قريب منه.
وقد سمع السلف الأكابرُ الأبيات بالألحان؛ فمن قال بإباحته من السلف: مالك بن أنس: وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء، وأما الحداء فإجماع منهم على إجازته.
وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك، وروي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع، فقيل له: إذا أتى بك يوم القيامة، ويؤتى بحسناتك ولا في السيآت. يعني أنه من المباحات: وليس كلامنا في هذا النوع من السماع: فن هذه الطائفة جلت رتبتهم عن أن يستمعوا بلهو، أو يقعدوا للسماع بسهو، أو يكونوا بقلوبهم مفكرين في مضمون لغو. أو يستمعوا على صفة غير كفء.
وقد روي عن أبن عمر آثار في إباحة السماع، وكذلك عن عبدالله بن جعفر ابن أبي طالب. وكذلك عن مر رضي الله عنهم أجمعين، في الحداء وغيره.
وأنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الأشعار فلم ينه عنها، وروي أنه صلى الله عليه وسلم استنشد الأشعار.
ومن المشهور الظاهر أنه دخل بيت عائشة رضي الله عنها، وفيه جاريتان تغنيان، فلم ينههما.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد ابن مطر قال: حدثنا الحباب بن محمد التستري قال: أخبرنا أبو الأشعث قال: حدثنا محمد بن بكر البرساني قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، دخل عليها وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: مزمار الشيطان مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عبداً وعيدنا هذا اليوم " .
أخبرنا: علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا عثمان بن الضي قال: حدثنا أبو كمال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عائشة رضي الله عنها: " أنها أنسكحت ذات قرابتها من الأنصار. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ فقالت: نعم. قال: فأرسلت من يغني؟ قالت: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ن النصار فيهم غزل، فلو أرسلتم من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم "

أخبرنا الأستاذ الإمام أبوبكر محمد بن الحسين بن فورك، رضي الله عنه، قال: حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ قال: حدثنا الحسين بن الحارث الإهوازي قال: حدثنا سلمة بن سعيد، عن صدقة بنت أبي عمرن، قالت: حدثنا علقمة ابن مرثد، عن زاذان، عن البراءة بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً " دلّ هذا الخبر على فضيلة الصوت الحسن.
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا أبو الربيع قال: حدثنا عبد السلام ابن هاشم قال: حدثنا عبدالله بن محرز، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن " .
أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن يونس الكريمي يقال: حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم قال: حدثنا شبيب بن بشر بن البجلي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوتان ملعونان: صوتُ ويل عند مصيبة، وصوت مزمار عند نغمة " .
مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا في غير هذه الأحوال، وإلا بطل التخصيص.
والأخبارُ في هذا الباب تكثر، والزياة على هذا القدر من ذكر الروايات تخرجنا عن المقصود من الاختصار، وقد روي أن رجلاً أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اقبلت فلاح لها ... عارضان كالسبج
أدبرت فقلت لها ... والفؤاد في وَهج
هل على ويحكما ... إن عشقت من حرج
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.
وإن حُسن الصوت مما أنعم الله تعالى به على صاحبه من الناس: قال الله عز وجل: " يزيد في الخلق ما يشاء " . قيل في التفسير: من ذلك، الصوت الحسن وذم الله سبحانه الصوت الفظيع؛ فقال تعالى: " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " .
واستلذاذ القلوب واشتياقها إلى الأصوات الطيبة واسترواحها إليها مما لا يمكن جحوده؛ فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء. قال الله تعالى: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " .
وحكى إسماعيل بن عالية قال: كنت أمشي مع الشافعي، رحمه الله تعالى، وقت الهاجرة فجزنا بموضع يقول فيه أحد شيئاً، فقال: مل بنا إليه، ثم قال: أيطربك هذا؟ فقلت: لا. فقال: مالك حسن!! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ماأذن الله تعالى لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن " .
أخبرنا علي بن أحمد الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا ابن ملحان قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب أنه قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عنعقيل، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " .
وقيل: إن داود عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إذا قرأ الزبور، وكان يحمل مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: " لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " متفق عليه.
وقال معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو علمت أنك تسمع لحبرتَه لك تحبيراً " .
أخبرنا أبو حاتم السجستاني قال: أخبرنا عبد الله بن علي السراج قال: حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري الرقي قال: كنت في البادية، فوافيت قبيلة من قبائل العرب، وأضافني رجل منهم، فرأيت غلاماً أسود مقيداً هناك. ورأيت جمالاً قد ماتت بفناء البيت، فقال لي الغلام: أنت الليلة ضيف، وأنت على مولاي كريم، فتشفع لي؛ فإنه لا يردك.
فقلت لصاحب البيت: لا آكل طعامك حتى تحل هذا العبد.
فقال: هذا الغلام قد أفقرني وأتلف مالي!! فقلت: فما فعل؟

فقال: له صوت طيب، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقيلة، وحدا لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة في يوم واحد، فلما حط عنها ماتت كلها، ولكن قدوهبته لك وحلَّ عنه القيد، فلما أصبحنا أحببت أن أسمع صوته، فسألته عن ذلك، فأمر الغلامَ أن يحدو على جمل كان على بئر هناك يستقي عليه، فحدا الغلام.. فهام الجمل على وجهه وقطع حباله، ولم أظن أني سمعت صوتاً أطيب منه، فوقعت لوجهي.. حتى أشار إليه بالسكوت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول، وقد سئل: ما بال الإنسان يكون هادئاً، فذ سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذرَّ في الميثاق الأول بقوله: " ألست بربك قالوا بلى " استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق يقول: السماع حرام على العوام؛ لبقاء نفوسهم، مباح للزهاد؛ لحصول مجاهداتهم، مستحب لأصحابنا؛ لحياة قلوبهم.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الصوفي يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا عليّ الروذباري يقول: كان الحارث بن أسد المحاسبي ثلاث إذا وجدن مُتسع بهنَّ، وقد فقدناها: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الصوت مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء.
وسئل ذو النون المصري عن الصوت الحسن، فقال: مخاطبات وإشارات أودعها أنه تعالى كلّ طيب وطيبة.
وسئل مرة أخرى عن السماع فقال: وارد حقٌ يزعج القلوب إلى الحقِّ؛ فمن أصغى إليه بحق تحقق، ومن أصغًى إليه بنفس تزندق.
وحكى جعفر بن نصير: عن الجنيد أنه قال: تنزل الرحمة على الفقراء في ثلاثة مواطن: عند السماع؛ فإنهم لا يسمعون إلا عن حق، ولا يقولون إلا عن وجد، وعند أكل الطعام؛ فأنهم لا يأكلون إلا عن فاقة، وعند مجاراة العلم: فإنهم لا يذكرون إلا صفات الأولياء.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول سمعت أبا بكر بن ممشاد يقول: سمعت الجنيد يقول: السماع فتنة لمن طلبه. ترويح لمن صادفه.
وحكي عن الجنيد أنه قال: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان. والمكان؛ والإخوان.
وسئل الشبلي عن السماع فقال: ظاهره فتنة، وباطنه عبرة؛ فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة، وإلا فقد استدعي الفتنة، وتعرض للبلية.
وقيل:لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حيّ؛ فنفسه ذُبحت بسيوف المجاهدة، وقلبه حي بنور الموافقة.
وسئل أبو يعقوب النهرجوري عن السماع فقال: حال يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الاحتراق.
وقيل: السماع لطف غذاء الأرواح لأهل المعرفة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: السماع طبع، إلا عن شَرعْ. خرق، إلا عن حق، وفتنةٌ إلا عن عبرة.
ويقال: السماع على قسمين: سماع بشرط العلم والصحو؛ فمن شرط صاحَبَه معرفةُ الأسامي والصفت، وإلا وقع في الكفر المحض. وسماع بشرط الحال؛ فمن شرط صاحبه الفناءُ عن أحوال البشرية، والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة.
وحكي عن أحمد بن أبي الحراري أنه قال: سألت أبا سليمان عن السماع، فقال: من اثنين أحب إليّ من الواحد.
وسئل أبو الحسن النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع، وآثر الأسباب.
وسئل أبو علي الروذباري عن السماع يوماً فقال: ليتنا تخلصنا منه رأسا برأس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من أدعى السماع ولم يسمع صوت الطيور، وصرير الباب، وتصفيق الرياح، فهو فقير مدع.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: سمعت أبا الطيب أحمد بن مقاتل العكي يقول: قال جعفر: كان ابن زيري، من أصحاب الجنيد، شيخاً فاضلاً، فربما كان يحضر موضع سماع، فإنه استطابه فرش إزاره وجلس وقال: الصوفي في قلبه، وإن لم يستطبه قال. السماع لأرباب القلوب، ومر، وأخذ نعله.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت عبدالله بن عبد المجيد الصوفي يقول: سئل رويم عن وجوج الصوفية عند السماع فقال:

يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم: إليّ.. إليّ.. فيتنعمون بذلك من الفرح، ثم يقطع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء؛ فمنهم من يخرق ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي كل إنسان على قدره.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه: ما أعمل بسماع ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ ينبغي أن يكون سماعك متصلاً غير منقطع.
قال: وقال الحصري: ينبغي أن يكون ظمأ دائم، فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه.
وجاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: " فهم في روضة يخبرون " : أنه السماع من الحور العين بأصوات شهية: " نحن الخالدات، فلا نموت أبداً، نحن الناعمات، فلا نبؤس أبداً " .
وقيل: السماع نداء، والوجد قصد.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: قلوب أهل الحق قلوب حاضرة، وأسماعهم أسماع مفتوحة.
وسمعته يقول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يقول: المستمع بين استتار وتجلٍ، فالاستتار يوجب التلهيب، والتجلي يورث الترويح؛ والاستتار يتولد منه حركات المريدين، وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه سكون الواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وذلك صفة الحضرة ليس فيها إلا الذبول تحت موارد الهيبة، قال الله تعالى: " فلما حضروه قالوا أنصتوا " .
وقال أبو عثمان الحيري: السماع على ثلاثة أوجه: فوجه منها للمريدين والمبتدئين يستدعون بذلك الأحوال الشريفةويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمرأءاة.
والثاني: للصادقين يطلبون الزيادة في أحوالهم ويستمعون من ذلكما يوافق أوقاتهم.
والثالث: لأهل الاستقامة من العارفين، فهؤلاء لا يختارون على الله تعالى فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الفرج الشيرازي يقول: سمعت ابا علي الروذباري يقول: قال أبو سعيد الخراز: من أدعى أنه مغلوب عن الفهم يعني في السماع، وأنّ الحركات مالكة له، فعلامته تحسين المجلس الذي هو فيه يوجده.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن: فذكرت هذه الحكاية لأبي عثمان المغربي فقال: هذا أدناه، وعلامته الصحيحة: أن لا يبقى في المجلس محق إلا أنسَ به، ولا يبقى فيه مبطل إلا استوحش منه.
وقال بندار بن الحسين: السماع علي ثلاثة أوجه: منهم من يسمع بالطبع، ومنهم من يسمع بالحال، ومنهم من يسمع بالحق.
الذي يسمع بالطبع يشترك فيه الخاص والعام؛ فإن جبلة البشرية استلذاذ الصوت الطيب.
والذي يسمع بالحال فهو يتأمل ما يردُ عليه من ذكر عتاب أو خطاب أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد، أو تأسف علي فائت أو تعطش إلى أتٍ، أو وفاء بعهد أو تصديق لوعد أو نقض لعهد، أو ذكر قلق أو اشتياق أو خوف فراق أو فرح وصالٍ، أو حذَر انفصال أو ما جرى مجراه.
وأما من يسمع بحق فيسمع بالله تعالى، والله، ولا يتصف بهذه الأحوال التي هي ممزوجة بالحظوظ البشرية فإنها مبقاة مع العلل فيسمعون من حيثُ صفاء التوحيد يحق لا يحظ.
وقيل: أهل السماع على ثلاث طبقات: أبناء الحقائق يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة لحق سبحانه لهم؛ وضرب يخاطبون الله تعالى بقلوبهم بمعاني ما يسمعون، فهم مطالبون بالصدق فيما يشيرون به إلى الله: وقالت: هو فقير مجرّد قطع العلاقات من الدنيا والآفات، سمعون بطيبة قلوبهم، وهؤلاء أقربهم إلى السلامة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري، وقد سئل عن السماع، فقال: مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب.
وقال الحواص، وقد سئل: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع غير القرآن، ولا يجد ذلك من سماع القرآن؟ فقال: لأن سماع القرآن صدمة لا يمكن لأحد أن يتحرك فيه لشدة غلبته، وسماع القول ترويح فيترحك فيه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت الجنيد يقول: إذا رأيت المريد يُحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله البغدادي يقول: سمعت أبا سعيد الرملي يقول: قال سهل بن عبد الله السماع علم أستأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو.
وحكي أحمد بن مقاتل العكي قال: لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية، ومعهم قوَّال، فاستأذنوه أن يقول بين يديه شيئاً فأذن، فأبتدأ يقول:

صغيرُ هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعتِ من قلبي ... هَوى قد كان مشتركا
أماترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخفي بكا
قال: فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض، ثم قام رجل من القوم يتواحد، فقال له ذو النون: الذي يراك حين تقوم.. فجلس الرجل.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في هذه الحكاة: كان ذو النون صاحب إشراف علي ذلك الرجل: حيث نبهه أن ذلك ليس مقامه، وكان ذلك الرجل صاحب إنصاف؛ حيث قبل ذلك منه، فرجع فقعد.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت الرقيّ يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: كان بالمغرب شيخان لهما أصحاب وتلامذة، يقال لأحدهما جبلة وللثاني رزيق فزار رزيق يوماً جبلة في أصحابه، فقرأ رجل من أصحاب رزيق شيئاً، فصاح واحد من أصحاب جبلة ومات. فلما أصبحوا قال جبلة لرزيق: أين الذي قرأ بالأمس؟ فليقرأ.. فقرأ آية، فصاح جبلة صيحة، فمات القارىء، فقال جبلة: واحد بواح والبادي أظلم.
وسئل إبراهيم المارستاني عن الحركة عندالسماع فقال: بلغني أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل، فمزق واحد منهم قميصه، فأوحى الله تعالى إليه: قل له مزِّق لي قلبك ولا تمزِق ثيابك.
وسئل أبو علي المغازلي الشبلي فقال: ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله عز وجلّ فتحدوني على ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا، ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس.
فقال الشبلي:ما أجتذبك إليه فهو عطف منه عليك، ولطف، وما رُدِدت إلى نفسك فهو شفقة منه عليه، لأنه لم يصح لك التبري من الحول والقوة في التوجه إليه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت أحمد بن مقاتل العكي يقول: كنت مع الشبلي في مسجد ليلة من شهر رمضان وهو يصلي خلق إمام له وأنا بجنبه، فقرأ الإمام: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " . فزعق زعقة قلت: طابت روحه وهوي رتعد ويقول: بمثل هذا يخاطب الأحباب!! ويردد ذلك كثيراً.
وحكي عن الجنيد أنه قال: دخلت على السري يوماً فرأيت عنده رجلاً مغشياً عليه، فقلت: ماله؟ فقال: سمع آية من كتاب الله تعالى. فقلت: تُقرآ عليه ثانياً، فقُرىء، فأفاق، فقال لي: من أين علمت هذا؟ فقلت: إن قميص يوسف ذهبت بسببه عينُ يعقوب عليهما السلام ثم به عاد بصره فاستحسن مني ذلك.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق، فقال له الجنيد يوماً: إن فعلت ذلك مرّة أخرى لم تصحبني!! فكان إذا سمع شيئاً يتغير ويضبط نفسه، حتى كان يقطرُ كل شعرة من بدنه بقطرةٍ، فيوماً من الأيام صاح صيحة تلفت بها نفسه.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: حكى لي بعض إخواني عن أبي الحسين الدرّاج قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلت الريّ سألت عن منزله، فكلّ من أسأل عنه يقول لي: ما تفعل بذلك الزنديق؟! فضيقوا صدري، حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد، ثم قلت: جئتُ هذه البلدة، فلا أقلّ من زيارته؛ فلم أزل أسأل عنه حتى وقت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رَحل، وعليه مصحف يقرأ فيه، وإذا هو شيخ بهي، حسن الوجه واللحية، فدنوت منه وسلمت عليه، فرد السلام وقال: من أين؟ فقلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ. فقال: لو أن في بعض البلدان قال لك إنسان: أقم عندي حتى أشتري لك داراً أو جارية، أكان يمنعك عن زيارتي؟ فقلت: يا سيدي، ما أمتحنني الله تعالى بشيء من ذلك!! ولو كان لا أدري كيف كنت أكون؟ فقال: تحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، وقلت:
رأيتُك تبني دائباً في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
فأطبق المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيتُه وثوبه، حتى رحمتُه من كثرة بكائه؛ ثم قال لي: يا بني: لا تلمُ أهل الريّ على قولهم يوسف بن الحسين زنديق ومن وقت الصلاة و ذا أقرأ فلم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامة بهذا البيت.

سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت الدراج يقول كنت أنا وابن القوطي مارين على الدجلة بين البصرة والأبلة، وإذا نحن بقصر حسنٍ، له منظر وعليه رحل وبين يديه جارية تغني وتقول:
في سبيل الله ود ... كان مني لك يبذل
كلَّ يوم تتلون ... غير هذا بك أجمل
وإذا شاب تحت المنظرة بيده ركوة، وعليه مرقعة يسمع فقال: يا جارية، بحياة مولاك أعيدي: كل يوم تنلون غير هذا بك أجمل فأعادته.
فقال الشاب: قولي. فأعادت فقال الفقير: هذا والله تلوني مع الحق، وشهق شقة خرجت روحه. فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرّضة لوجه الله تعالى، وخرج أهل البصرة، وفرغوا من دفنه والصلاة عليه، فقام صاحب القصر، وقال: أليس تعرفوني؟؟ وأرتدي برداء، وتصرق بالقصر، ومر؟ فلم يُر له بعد ذلك وجد، ولا سمع له أثر.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت يحيى بن الرضا العلوي قال: سمعت أبو سلمان الدمشقي طوافاً ينادي: يا سسعتر بري فسقط مغشياً عليه، فلما افاق، سئل، فقال: حسبته يقول: اسمع ترَ برّي.
وسمع عتبة الغلام رجلاً يقول: سبحان ربِّ السماء؛ إن المحب لقي عناء فقال عتبة،: صدقت؛ وسمع رجل آخر ذلك القول، فقال: كذبت فكل واحد سمع من حيث هو.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمع أبا الحسن علي بن محمد الصوفي يقول: سمعت رويماً وقد سئل عن المشايخ، الذين لقيهم في السماع، فقال: كالقطيع إذا وقع فيه الذئب.
وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: رأيت علي بن المرفق في السماع يقول: أقيموني، فاقاموه، فقام، وتواجد، ثم قال: أنا الشيخ الزفان.
وقيل: قام الرقيُّ ليلة إلى الصباح، يقوم. ويسقط على هذا البيت، والناس قيام يبكون، والبيت:
بالله فأردد فؤاد مكتئب ... ليس له من حبيبة خلف
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بالبصرة يقول: سمعت أبي يقول: خدمت سهل بن عبد الله سنين كثيرة، فما رأيته تغير عند سماع شيء كان يسمعه من الذكر والقرآن وغيره، فلما كان في آخر عمره قُرىء بين يديه " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية " رأيته تغير، وارتعد، وكاد يسقط، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك، فقال يا حبيبي ضعفنا.
وحكى ابن سالم قال: رأيته مرَّة أخرى قرىء بين يديه الملك يومئذ الحق للرحمن فتغير وكاد يسقط، فقلت له في ذلك، فقال: ضعفتُ وهذه صفة الأكابر لا يرد عليه وارد وإن كان قوياً إلا وهو أقوى منه.
سمعت ألشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة فقال: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما تقول البكرة؟ فقلت: لا، فقال: تقول الله. الله.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن طاهر يقول: سمعت عبد الله بن سهل يقول: سمعت رويماً يقول: روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه سمع صوت ناقوس فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: سبحن الله، حقاً، إن المولى صمدٌ يبقي.
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن علي الكرخي الوجيهي يقول: كان جماعة من الصوفية متجمعين في بيت الحسن القزاز، ومعهم قوالون يقولون ويتواجدون، فأشرف عليهم ممشاد الدينوري؛ فسكتوا، فقال: أرجعوا إلى ما كنتم فيه، فلو جمع ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي.
وبهذا الإسناد عن الوجيهي قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: بلغنا في هذا الأمر إلى مكان مثل حد السيف إن قلنا كذا ففي النار.
وقال خبر النساج: قص موسى بن عمران، صلوات الله عليه، على قوم قصة، فرزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجودي صاحوا، فلم تنكر على عبادي؟! وقيل: سمع الشبلي قائلاً يقول: الخيارُ عشرةٌ بدنق فصاح وقال: إذا كان الخيار عشرة بدانق فكيف الشرار؟! وقيل: إذا تغنت الحور العين في الجنة توردت الأشجار.
وقيل: كان عون بن عبد الله يأمر جارية له حسنة الصوت فتغنى بصوت حزين حتى تبكي القوم.

وسئل أبو سليمان الداراني عن السماع، فقال: كل قلب يريد الصوت ألحسن فهو ضعيف يداوي كما يداوي الصبي إذا أريد أن ينام، ثم قال أبو سليما: إن الصوت الحسن لا يُدخل في القلب شيئاً، وإنما يحرك من القلب ما فيه. قال أبن أبي الحواري: صدق والله أبو سليمان.
وقال الجريري: كونوا ربانيين، أي سماعين من الله، قائلين بالله.
وسئل بعضهم عن السماع فقال: بروق تلمع ثم تخمد، وأنوار تبدوا ثم تخفى، ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها طرفة عين، ثم أنشأ يقول:
خطرة في السر منه خطرت ... خطرة البرق ابتدي ثم اضمحل
أي زور لك لو قصداً سري ... وملمِ بك لو حقاً فعل
وقيل: السماع فيه نصيب لكل عضو؛ فما يقع إلى العين تبكي، وما يقع إلى لسان يصيح، وما يقع على اليد تمزق الثياب وتلطم، وما يقع إلى الرجل ترقص.
وقيل: مات بعض ملوك العجم، وخلف ابناً صغيراً، فأرادوا أن يبايعوه قالوا: كيف نصل إلى معرفة عقله وذكائه؟!.. ثم توافقوا على أن يأتوا بقوال، فلما قال زال شيئاً ضحك الرضيع، فقبلوا الأرض بين يديه وبايعوه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: اجتمع أبو عمرو بن نجيد، والنصراباذي، الطبقة في موضع؛ فقال النصراباذي: أنا أقول إذا اجتمع القوم فواحد يقول شيئاً ويسكت الباقون خير من أن يغتابوا أحداً.
فقال أبو عمرو: لأن تغتاب أنت ثلاثين سنة أنجى لك من أن تظهر في السماع ما لستَ به.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق. رحمه الله، يقول: الناس في السماع ثلاثة: متسمع؛ ومتسمع؛ وسامع؛ فالمتسمع يسمع بوقت؛ والمستمع يسمع بحال: والسامع يسمع بحق.
وسألت الأستاذ أبا علي الدقاق: رحمه الله تعالى، غير مرة. شبه طلب رخصة في السماع، فكان يحيلني على ما يوجب الإمساك عنه، ثم بعد طول المعاودة قال: إن المشايخ قالوا: ما جمع قلبك إلى الله قلبك إلى الله سبحانه وتعالى فلا بأس به.
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد ألأهوازي قال: أخبرنا أ؛مد بن عبيد البصري قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا يحيى بن يعلي الرازي قال: حدثنا حفص بن عمر العمري قال: حدثنا أبو عمر وعثمانبن بدر قال: حدثنا هارون ابن حمزة عن الغدافري قال: حدثنا أبو عمر وعثمان بن بدر قال: حدثناهارون ابن حمزة عن الغدافري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه السلام: إني جعلت فيك عشرة آلاف سمع حتى سمعت كلامي، وعشرة آلاف لسان حتى أحببتني، وأحبُّ ما تكون إلي وأقربه إذا أكثرت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: رأى بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: الغلط في هذا أكثر؛ يعنى به: السماع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر النهاوندي يقول: سمعت عليا السائح يقول: سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول: رأيت أبليس، لعنه الله، في المنام علي بعض سطوح أولاس وأنا على سطح، وعلى يمينه جماة، وعلى يساره جماعة، وعليهم ثياب نظاف، فقال لطائفة منهم: قالوا.. فقالوا، وغنوا، فاستفزعني طيبه، حتى همست أن أطرح نفسي من السطح.
ثم قال: ارقصوا، فرقصوا أطيب ما يكون..
ثم قال لي: يا أبا الحارث، ما أصبتُشيئاً أدل به عليكم إلا هذا.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: اجتمعت ليلة من الشبلي، رحمه الله، فقال القوال، شيئاً، فصاح الشبلي، وتواجد قاعداً فقيل له: يا أبا بكر، مالك من بين الجماعة قاعداً؟! فقام وتواجد، وقال:
لي سَكْرَتان، وللندمانِ واحدةٌ ... شيء خُصِصْتُ به من بينهم وحدي
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: جزت بقصر، فرأيت شاباً حسن الوجه مطروحاً، وحوله خلص، فسألت عنه، فقالوا: إنه جاز بهذا القصر وفيه جارية تغنى:
كبُرَت همَّة عبد ... طمعت في أن تراكا
أو ما حسب لعينٍ ... أن ترى من قد رآكا
فشهق شهقة ومات.

باب كرامات الأولياء

قال الأستاذ أبو القاسم: ظهورُ الكرامات على الأولياء جائز.

والدليل على جوازه أنه أمر موهومٌ حدوثه في العقل لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجبٌ وصفه، سبحانه، بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدوراً لله، سبحانه، فلا شيء يمنع جواز حصوله.
وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله، فمن لم يكن صادقاً فظهور مثلها عليه لا يجوز. والذي يدل عليه أن تعريف القديم سبحانه إيانا، حتى نفرق بين من كان صادقاً في أحواله، وبين من هو مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يكون ذلك إلا باختصاص الولي بما لايوجد مع المفتري في دعواه، وذلك الأمر هو الكرامة التي أشرنا إليها.
ولابد أن تكون هذه الكرامة فعلاً ناقضاً للعادة في أيام التكليف، ظاهراً على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله.
وتكلم الناس في الفرق بين الكرامات وبين المعجزات من أهل الحق؛ فكان الإمام أبو إسحاق الإسفرايني، رحمه الله، يقول: المعجزات دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي، كما أن العقل المحكم لما كان دليلاً لعالم في كونه عالماً لم يوجد ممن لا يكون عالماً.
وكان يقول: الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعاء، فأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا.
وأما الإمام أبو بكر بن فورك، رحمه الله، فكان يقول: المعجزات: بدلالات الصدق، ثم إن ادعي صاحبها النبوة فالمعجزات تدل على صدقه في مقالته، وإن أشار صاحبها إلى الولاية دلت المعجزة علي صدقه في حلته، فتسمى كرامة ولا تسمى معجزة وإن كانت من جنس المعجزات للفرق.
وكان رحمه الله يقول: من الفرق بين المعجزات والكرامات: أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهارها والوليّ يجب عليه سترها وإخفاؤها، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعى ذلك ويقطع القول به، والولي لا يدعيها ولا يُقطع بكرامته، لجواز أن يكون ذلك مكراً.
وقال أوحد فنه في وقته القاضي أبو بكر الأشعري، رضي الله عنه: إن المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كما تكون للأنبياء ولا تكون للأولياء معجزة، لأن من شرط المعجزة اقتران دعوة النبوة بها، والمعجزة لم تكن معجزة لعينها، وإنما كانت معجزة لحصولها على أوصاف كثيرة، فمتى اختل شرط من تلك الشرائط، لا تكون معجزة. وأحد تلك الشرائط: دعوة النبوة، والولي لا يدعي النبوة، فالذي يظهر عليه لا يكون معجزة..
وهذا القول الذي نعتمده ونقول به، بل ندين به.
فشرائط المعجزات، كلها أو أكثرها، توجد في الكرامة إلا هذا الشرط للواحد. والكرامة فِعْل لا محالة محدث، لأن ما كان قديماً لم يكن له اختصاص بأحد، وهو ناقض للعادة، وتحصل في زمان التكليف وتظهر على عبد تخصيصاً له وتفضيلاً. وقد تحصل باختياره ودعائه، وقد لا تحصل له، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات، ولم يؤمر الوليّ بدعاء الخلق إلى نفسه ولو أظهر شيئاً من ذلك على من يكون أهلاً له لجاز.
واختلف أهل الحق في الولي: هل يجوز أني علم أنه ولي؟ أم لا؟ فكان الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله يقول: لا يجوز ذلك: لأنه بسلبه الخوف ويوجب له الأمن.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول بجوازه.
وهو الذي يؤثره ونقول به.
وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء حتى يكون كلُّ وليًّ يعلم أنه وليَّ واجباً، ولكن يجوز أن يعلم بعضهم كما يجوز أن لا يعلمه بعضهم. فإذا علم بعضهم أنه ولي كانت معرفته تلك كرامة له انفرد بها.
وليس كل كرامة لوليّ يجب أن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء. بل لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في النيا لم يقدح عدمها في كونه وليا. بخلاف الأنبياء فإنه يجب أن تكون لهم معجزات؛ لأن النبي مبعوث إلى الخلق فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه؛ ولا يعرف إلا بالمعجزة.
وبعكس ذلك حال الولي؛ لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولي أيضاً، العلم بأنه وليّ.
والعشرة من الصحابة صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به أنهم من أهل الجنة.
وقول من قال لا يجوز ذلك لأنه يخرجهم من الخوف فلابأس أن يخافوا تغيير العقابة، والذي يجدونه في قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال للحق سبحانه، يزيد ويربوعلى كثير من الخوف.

وأعلم أنه ليس للولي مساكنة إلى الكرامة التي تظهر عليه، ولا له ملاحظة. وربما يكون لهم في ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم أن ذلك فعل الله، فيستدلون بها على صحة ما هم عليه من العقائد.
وبالجملة، فالقول بجواز ظهورها على الأولياء واجب، وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة ما تواتر بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها على الأولياء في الجملة علماً قوياً أنتفى عنه الشكرك. ومن توسط هذا الطائفة وتواتر عليه حكاياتهم وأخبارهم لمتبق له شبهة في ذلك على الجملة. ومن دلائل هذه الجملة: نص القرآن في قصة صاحب سليمان عليه السلام. حيث قال " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " ولم يكن نبياً.
والأثر: عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، صحيح أنه قال: يا سارية الجبل في حال خطبته يوم الجمعة، وتبليغ صوت عمر إلى سارية في ذلك الوقت حتى تحرز من مكامن العدو من الجبل في تلك الساعة.
فإن قيل: كيف يجوز إظهار هذه الكرامات الزائدة في المعاني على معجزات الرسل؟ وهل يجوز تفضيل الأولياء على الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنكل من له بصادق في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة. وكل نبي ظهرت كرامته على واحد من أمته فهي معدودة من جملة معجزاته؛ إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقاً لم تظهر على يد من تابعه الكرامة. فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ ربتةَ الأنبياء عليهم السلام: للإجماع المنعقد على ذلك.
وهذا أبو يزيد البسطامي سئل عن هذه المسألة فقال: مثل ما حصل للأنبياء عليهم السلام كمثل زِق فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرةُ مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل لنبينا صلى الله عليه وسلم.

الكرامات

قد تكون إجابة دعوة، وقد تكون إظهار طعام في أوان فاقة من غير سبب ظهار، أو حصول ماء في زمان عطش، أو تسهيل قطع مسافة في مدة قريبة، أو تخليصاً من عدو، أو سماع خطاب من هاتف، أو غير ذلك من فنون الأفعال الناقضة للعادة.
وأعلم أن كثيراً من المقدورات يعلم اليوم قطعاً أنه لايجوز أن يظهر كرامة للأولياء؛ وبضرورة أو شبه ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين، وقلبَ جمادٍ بهيمة أو حيواناً، وأمثال هذا كثير.
فصل فإن قيل

الولي

قيل: يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون فغيلاً مبالغة من الفاعل؛ كالعليم، والقدير غيره، فيكون معناه: من توالت طاعاته من غير تخلل معصية.
ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وهو الذي يتولى الحقّ، سبحانه، حفظه وحراسته على الإدامة والتوالي، فلا يخلق له الخذلان الذي هو قدرة العصيان، وإنما يديم توفيقه الذي هو قدرة الطاعة، قال الله تعالى: " وهو يتولى الصالحين " .
فصل فإن قيل: هل يكون الولي معصوماً قيل: أما وجوباً، كما يقال في الأنبياء فلا. وأما أن يكون محفوظاً حتى لا يصر على الذنوب إن حصلت هنات أو آفات أو زلات، فلا يمتنع ذلك في وصفهم.
ولقد قيل للجنيد: العارف يزني يا أبا القاسم؟ فاطرق ملياً، ثم رفع رأسه وقال: " وكان أمر الله قدراً مقدرواً " .
فصل فإن قيل: هل يسقط الخوف عن الأولياء قيل: أما الغالب على الأكابر فكان الخوف، وذلك الذي قلنا فيما تقدم على جهة الندرة غير ممتنع، وهذا السري السقطي يقول: لو أن واحداً دل بستاناً فيه أشجار كثيرة وعلى كل شجرة طير يقول له بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله. فلو لم يخف أنه مكرٌ لكان ممكوراً وأمثال هذا من حكاياتهم كثيرة.
فصل فإن قيل: رؤية الله سبحانه هل تجوز رؤية الله سبحانه على جهة الكرامة بالأبصار اليوم في الدنيا على جهة الكرامة؟ فالجواب عنه: أن الأقوى فيه أنه لا يجوز؛ لحصول الإجماع عليه، ولقد سمعت الإمام أبا بكر بن فورك، رضي الله عنه، يحكى عن أبي الحسن الأشعري أنه قال في ذلك قولين في كتاب الرؤية الكبير.
فصل فإن قيل: تغير حال الولي هل يجوز أن يكون ولياً في الحال ثم تتغير عاقبته قيل: مَن جعل مَن شرط الولاية حُسن الموافاة لا يجوز ذلك.

ومن قال: إنه في الحال مؤمن على الحقيقة وإن جاز أن يتغير حاله بعد لا يبعد أن يكون ولياً في الحال صديقاً، ثم يتغير، وهو الذي نختاره.
ويجوز أن يكون من جملة كرامات الوليّ أن يعلم أنه مأمون العاقبة، وأنه لا تتغير عاقبته، فتلتحق هذه المسألة بما ذكرنا أن الولي يجوز أن يعلم أنه ولي.
فصل فإن قيل: هل يزايل الولي خوف المكر قيل: إن كان مصطلماً عن شاهده، مختطفاً عن إحساسه بحالة فهو مستهلك عنه فيما استولى عليه، والخوف من صفات الحاضرين بهم.
فصل فإن قيل: ما الغالب على الولي في صحره قيل: صدقه في لأداء حقوقه، سبحانه، ثم رفقه على الخلق في جميع أحواله. ثم انبساط رحمته لكافة الخلق. ثم دوام تحمله عنهم بجميل الخلق. وابتدائه لطلب الإحسان من الله عزّ وجلّ إليهم من غير التماس منهم. وتعليق الهمة بنجاة الخلق، وترك الانتقام منهم، والتوقي عن استشمار حقد عليهم مع قصر اليد عن أموالهم، وترك الطمع بكل وجه فيهم، وقبض اللسان عن بسطه بالسوء فيهم، والتصاون عن شهود مساو بهم، ولا يكون خصماً لأحد في الدنيا ولا في الآخرة.
واعلم أنَّ من أجلّ الكرامات التي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات، والعصمة عن المعاصي والمخالفات، ومما يشهد من القرآن على إظهار الكرامات على الأولياء قوله، سبحانه، في صفة مريم عليها السلام ولم تكن نبياً ولا رسولا: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " . وكان يقول: " أنى لك هذا؟ " فتقول مريم: " هو من عند الله " . وقوله سبحانه: " وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " وكان في غير أوان الرطب، وكذلك قصة أصحاب الكهف والأعاجيب التي ظهرت عليهم من كلام الكلب معهم وغير ذلك، ومن قصة ذي القرنين وتمكينه سبحانه له ما لم يمكن لغيره، ومن ذلك ما أظهر على يدي الخضر عليه السلام من إقامة الجدار وغيره من الأعاجيب، ومن كان يعرفه مما خفي على موسى عليه السلام. كلُّ ذلك أمور ناقضة للعادة اختصَّ الخضر عليه السلام بها، ولم يكن نبياً، وإنما كان ولياً.
ومما روي من الأخبار في هذا الباب حديث جريج الراهب؛ أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني قال: أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إبراهيم بن إسحاق قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عوانة: وحدَّثني الصنعانيُّ، وأبو أمية قالا: حدثنا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصبي في زمن جريج، وصبي آخر؛ فأما عيسى فقد عرفتموه. وأما جريج فكان رجلا عابداً في بني إسرائيل. وكانت له أمٌّ. فكان يوماً يصلي إذا اشتاقت إليه أمه. فقالت: يا جريج. فقال: يا رب، الصلاة خير أم آتيها؟ ثم صلى. فدعته، فقال مثل ذلك. ثم صلى. فاشتدّ على أمه. فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. وكانت زانية في بني إسرائيل، فقالت لهم: أنا أفتن جريجاً حتى يزني؛ فأتته، فلم تقدر على شيء. وكان راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته، فلما أعياها راودت الراعي على نفسها؛ فأتاها، فولدت، ثم قالت: ولدي هذا جريج. فأتاه بنو إسرائيل، وكسروا صومعته، وشتموه، ثم صلى ودعا، ثم نخس الغلام.
قال محمد قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده: يا غلام من أبوك؟ فقال: الراعي؛ فندموا على ما كان منهم، واعتذروا إليه، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب - أو قال: من فضة - فأبى عليهم، وبناها كما كانت..
وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه، إذ مرَّ بها شاب جميل الوجه، ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله..
قال محمد: قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يحكي الغلام وهو يرضع ثم مرت بها أيضاً امرأة ذكروا أنها سرقت، وزنت، وعوقبت، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذا!! فقال: اللهم اجعلني مثلها...
فقالت له أمه في ذلك، فقال: إن الشابّ جبار من الجبابرة، وإن هذه المرأة قيل: إنها زنت ولم تزن، وقيل: سرقت ولم تسرق، وهي تقول: حسبي الله " .
وهذا الخبر روي في الصحيح، ومن ذلك حديث الغار، وهو مشهور مذكور في الصحاح.

أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إبراهيم بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عون، وزيد بن عبد الصمد الدمشقي، وعبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولي، وأبو الخصيب بن المستنير المصيصي قالوا: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار. فقالوا: إنه والله كان من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم؛ فقال رجل منهم: إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلها أهلاً ولا مالاً، فعاقني طلب الشجرة يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فجئتهما به.. فوجدتهما نائمين.. فتحرجت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهم حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم إنه كان لي بنت عمْ، وكانت أحبُّ الناس إليّ، فراودتها عن نفسها، فامتنعت، حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أ، تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت.. حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقّه!! فتحرجت من الوقوع عليها.. فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ.. وتركتُ الذهب الذي أعطيتها: اللهم، إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، حين أنه لا يستطيعون الخروج منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم قال الثالث: للهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم، غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدّ إليّ أجرتي، فقلت له. كلّش ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والبقر والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزيء بي!! فقتل: إني لا استهزىء بك، فأخذ ذلك كله فاستاقه، ولم يترك منه شيئاً. " اللهم فن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.. فانفرجت الصخرة. فخرجوا من الغار يمشون " .
ومن ذلك الحديث الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه إن البقرة كملتهم: أخبرنا أبو نعيم الإسفرايني قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يوسن بن يزيد، عن ابن شهاب قال: حدثني سعيد بن المسبب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها.. التفتت البقرة وقالت: إني لم أخلق لهذا؛ إنما خلقت للحرث! فقال الناس: سبحان الله!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر " .
ومن ذلك حديث أويس القرني، وما شهد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حاله وقصته، ثم التقاؤه مع هرم بن حيان، وتسليم أحدهما على صاحبه من غير معرفة تقدمت بينهما، وكل ذلك أ؛وال ناقضة للعادة. وتركنا شرح حديث أويس لشهرته.
ولقد ظهر علي السلق من الصحابة والتابعين، ثم على من بعدهم من الكرامات ما بلغ حد الاستفاضة.
وقد صًنفق في ذلك كتب كثيرة وسنشير إلى طرف منها على وجه الإيجاز، إن شاء الله عز وجل، فمن ذلك: أن ابن عمر كان في بعض الأسفار فلقي جماعة وقفرا على الطريق من خوف السبع، فطردَ السبعَ من طريقهم، ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه، ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. وهذا خبر معروف.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة، فحال بينهم وبين الموضع قطعة من البحر، فدعا الله باسمه الأعظم ومشوا على الماء.
وروي ان عتاب بن بشير، وأسيد بن خضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضاء لهما رأس عصا أحد كالسراج.
وروي أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء قصعة.. فسبحت حتى سمعا التسبيح.
وروي أ، النبي صلة الله عليه وسلم قال: " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " .
ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله سبحانه.
وهذه الأخبار لشهرتها أضربنا عن ذكر أساتيذها.

وحكي عن سهل بن عبد الله أنه قال: " من زهد في الدنيا أربعين يوماً صادفاً من قلبه مخلصاً في ذلك ظهرت ل الكرامات، ومن لم تظهر له، فلعدم الصدق في زهده " . فقيل لسهل: كيف تظهر له الكرامة؟ فقال: يأخذ ما يشاء كما يشاء من حيث يشاء.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثناأحمد بن عبيد الصفار قال: حدثنا أبو مسلم قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون قال: حدثنا وهب بن كيسان، عن ابن عمر، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رجل ذكر كلمة إذ سمع رعداً في السحاب. فسمع صوتاً في الحاب: أن أسق حديقة فلان، فجاء ذلك السحاب إلى سرحة فافرع ماءه فيها، فاتبع السحاب. فإذا رجل قائم يصلي في حديقة. فقال: ما اسمك؟ فقال: فلان بن فلان باسمه. قال: فما تصنع بحديقتك هذه إذ صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان. قال: أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً. فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأرد عليها ثلثا. واجعل للمساكين وابن السبيل ثلثاً " .
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: دخلنا تستر فرأينا في قصر سهل بن عبد الله بيتاً كان الناس يسمونه بيت السباع فسألنا الناس عن ذلك. فقالوا: كان السباع تجيء إلى سهل، فكان يدخلهم هذا البيت، ويضيفهم، ويطعمهم اللحم، ثم يخليهم.
قال أبو نصر: ورأيت أهل تستر كلهم تفقين على هذا لا ينكرونه وهم الجمع الكثير.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت حمزة بن عبد الل العلوي يقول: دخلت على أبي الخير التيناتي، وكنت أعتقد في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاماً، فلما خرجت من عنده ومشيت قدراً فإذا به خلفي، وقد حمل طبقاً عليه طعام، فقال: يا فتي. كل هذا؛ فقد خرجتَ الساعة من اعتقادك.
وأبو الخير التيناتي مشهرو بالكرامات.
وحكي عن إبراهيم الرقي أنه قال: قصدته مسلماً عليه، فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستوياً. فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي، فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع، قعدت إليه وقلت: إن الأسد قصدني!! فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيافتي؟؟ وتنحى وتطهرت. فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.
وقيل: كان لجعفر الخلدي فصفوقع يوماً في دجلةوكان عنده دعاء مجرَّب للضالة ترد فدعا به؛ فوجد الفصّ في وسط أوراق كان يتفحصها.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: إن ذلك الدعاء: " ياجامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع على ضالتي " .
قال أبو نصر السرَّاج: أراني أبو الطيب العكي جزءاً ذكر فيه من ذكر هذا الدعاء على ضالة وجدها، وكان الجزء أوراقاً كثيرة.
سألت أحمد الطابراني السرخسي، رحمه الله، فقلت له: هل ظهر لك شيء منالكرامات؟ فقال: في وقت إرادتي وابتداء أمري ربما كنت أطلب حجراً أستنجي به فلم أجد، فتناولت شيئاً من الهواء فكان جوهراً، فاستنجيت به وطرحته.
ثم قال: وأيّ خطر للكرامات؟! إنما المقصود منه: زيادة اليقين في التوحيد، فمن لا يشهد غيره موجداَ في الكون فسواء أبصر نعلا معتاداً، أو ناقصاً للعادة.
سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول:سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا الحسن البصري يقول: كان ب عبادان رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات، فحملت معي شيئاً وطلبته، فلما وقعت عينه عليَّ تبسم، وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت الأرض كلها ذهباً يلمع، ثم قال: هات ما معك، فناولته، وهالني أمره، وهربت.
سمعت منصور المغربي يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول: كان لي استقصاء في أمر الطهارة، فضاق صري ليلة، لكثرة ماصبب من الماء، ولم يسكن قلبي، فقلت: يا ربّ عفوك، فسمعت هاتفاً يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك.
سمعت منصوراً المغربي يقول: فرأيته يوماً قعد على الأرض في الصحراء وكان عليها آثار الغنم بلا سجادة، فقلت: أيها الشيخ هذه آثار الغنم!! فقال: اختلف الفقهاء فيه.

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرّاج يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازيَّ يقول: سمعت أبا سليمان الخواص يقول: كنت راكباً حماراً يوماً، وكان الذباب يؤذيه، فيطأطىء رأسه، فكنت أضرب رأسه بخشبة في يدي، فرفع الحمار رأسه وقال: اضرب، فإنك على رأسك هوذا تضرب.
قال الحسين: فقلت لأبي سليمان لك وقع هذا؟ فقال: نعم كما تسمعني.
وذكر عن ابن عطاء أنه قال: سمعت أبا الحسين النوري يقول: كان في نفسي شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين، ثم قلت: وعزّتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقنّ نفسي. قال: فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال.
فبلغ ذلك الجنيد فقال: كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الفتح يوسف بن عمر الزاهد القواس ببغداد يقول: حدثنا محمد بن عطية قال: حدثنا عبد الكبير بن أحمد بمكة، فطال شعري ولم يكن معي قطعة من حديد آخذ بها شعري، فتقدمت إلى مزين توسمت فيه الخير، فقلت: تأخذ شعري لله تعالى؟ فقال: نعم، وكرامة، وكان بين يديه رجل من أبناء الدنيا فصرفه وأجلسني، وحلق شعري، ثم دفع إليّ قرطاساً فيه دراهم وقال لي: استعن بها على بعض حوائجك، فأخذتها واعتقد أن أدفع إليه أوَّل شيء يفتح عليّ به.
قال: فدخلت المسجد، فاستقبلني بعض أصحابي وقال لي: جاء بعض إخوانك بصرة من البصرة من بعض إخوانك فيها ثلاثمائة دينار.
وقال: فأخذت الصرة وحملتها إلى المزين وقلت: هذه ثلاثمائة دينار تصرفها في بعض أمورك. فقال لي: ألا تستحي يا شيخ!! تقول لي احلق شعري لله، ثم آخذ عليه شيئاً.. انصرف عافاك الله.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت بن سالم يقول: لما مات إسحق بن أحمد دخل عليه سهل بن عبد الله صومعته فوجد فيها سفطاً فيه قارورتان في واحدة منهما شيء أحمر، وفي الأخرى شيء أبيض،ووجد شوشقة ذهب، وشوشقة فضة، قال: فرمى بالشوشقتين في الدجلة؛ وخلط ما في القارورتين بالتراب، وكان على إسحاق دين قال ابن سالم: قلت لسهل: ماذا كان في القارورتين؟ قال: أحداهما لو طرح منها وزن درهم على مثاقيل من النحاس صار ذهباً، والأخرى لو طرح منها مثقال على مثاقيل من الرصاص صار فضة، فقلت: وماذا عليه لو قضي منه دينه؟ فقال: أي دوست خاف على إيمانه.
وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شط دجلة فوجدها وقد النزق الشيطان، فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زروق.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: أملي علينا الوجيهي حكاية عن محمد بن يوسف البناء قال:كان أبو تراب النخشبي صاحب كرامات، فسافرت معه سنة، وكان معه أربعون نفساً: ثم أصابتنا مرة فاقة، فعدل أبو تراب عن الطريق، وجاء بعذق موز فتناولنا، وفينا شاب لم يأكل فقال له أبو تراب: كل.
فقال: الحال الذي اعتقدته تركُ المعلومات، وصرت أنت معلومي، فلا أصحبك بعد هذا!! فقال له أبوتراب: كن مع ما وقع لك.
وحكى أبو نصر السراج عن أبي يزيد قال: دخل عليَّ أبو علي السندي وكان أستاذ وبيده جراب، فصبها فإذا هي جواهر، فقلت: من أين لك هذا؟ فقال: وافيت وادياً ها هنا، فإذا هو يضيء كالسراج، فحملت هذا.
فقلت: فكيف كان وقتلك الذي وردت فيه الوادي؟ فقال: وقت فترة عن الحال التي كنت فيها.
وقيل لأبي يزيد: فلان يمشي في ليلة إلى مكة! فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله.
وقيل له فلان يمشي على الماء، ويطير في الهواء.
فقال: الطير يطير في الهواء، والسمك يمر على وجه الماء.
وقال سهل بن عبد الله: أكبر الكرامات أن تُبدل خُلقاً مذموماً من أخلاقك.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت ابن سالم يقول: سمعت أبي يقول: كان رجل يقال له عبد الرحمن بن أنس يصحب سهل بن عبد الله، فقال له يوماً: ربما أتوضأ للصلاة فيسيل الماء بين يدي قضبان ذهب وفضة.
فقال سهل: أما علمت أن الصبيان إذابكوا يعطون خشخشة ليشتغلوا بها؟؟ سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول أخبرني جعفر بن محمد قال: حدثني الجنيد قال:

دخلت على السري يوماً فقال لي: عصفور كان يجيء في كل يوم فأفت له الخبز، فيأكل من يدي، فنزل وقتاً من الأوقات فلم يسقط علي يدي، فتذكرت في نفسي: ماذا يكون السبب؟ فذكرت أني أكلت ملحاً بأبزار، فقلت في نفسي: لا آكل بعدها، وأنا تائب منه؛ فسقط على يدي وأكل.
وحكى أبو عمرو الأنماطي قال: كنت مع أستاذي في البادية، فأخذنا المطر، فدخلنا مسجداً نستكن فيه، وكان السقف يفك، فصعدنا السطح، ومعنا خشبة نريد إصلاح السقف، فقصر الخشب عن الجدار، فقال لي أستاذي: مدها، فمددتها.. فركبت الحائظ من هاهنا ومن هاهنا.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبا بكر الدقاق يقول: كنت ماراً في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.
وقال بعضهم: كنت عند خير النساج، فجاءه رجل وقال: أيها الشيخ رأيتك أمس وقد بعت العزل بدرهمين، فجئت خلفك، فحللتهما من طرف إزارك، وقد صارت يدي منقبضة على الدرهمين في كفي، قال: فضحك خير وأومأ بيده إلى يدي ففتحها، ثم قال: امض واشتر بهما لعيالك شيئاً، ولا تعد لمثله..
وحكي عن أحمد بن محمد السلمي قال: دخلت على ذي النون المصري يوماً، فرأيت بين يديه طشتاً من ذهب، وحوله الندّ، والعنبر يسجر، فقال لي: أنت ممن يخل على الملوك في حال بسطهم؟ ثم أعطاني درهما، فانفقت منه إلى بلخ.
وحي عن أبي سعيد الخراز قال: كنت في بعض أسفاري، وكان يظهر لي كل ثلاثة أيام شيء، فكنت آكله، وأستقل به، فمضى عليَّ ثلاثة أيام وقتاً من الأوقات ولم يظهر شيء فضعفت!! وجلست، فهتف بي هاتف. أينما أحب إليك: سبب، أو قوة؟ فقلت: القوة. فقمت من وقتي، ومشيت أثني عشر يوماً لم أذق فيهما شئياً، ولم أضعُف.
وعن المرتعش قال: سمعت الخواص يقول: تهت في البادية أياماً، فجاءني شخص وسلم عليّ، وقال لي: تهت!1 فقلت له: نعم، فقال: ألا أدلك على الطريق؟ ومشى بين يدي خطوات، ثم غاب عن عيني، وإذا أنا على الجادة، فبعد ذلك ما تهت ولا أصابني في سفر جوع ولا عطش.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي، يقول: سمعت عمر بن يحيى الأردبيلي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبن الجلاء يقول لي: لما مات أبي ضحك على المغتسل؛ فلم يجسر أحد يغسله، وقالوا: إنه حي، حي جاء واحد من أقرانه وغسله.
سمعت محمد بن أحمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت طلحة القصائري يقول: سمعت المنيحي صاحب سهل بن عبد الله يقول: كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوماً، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي.
وكان أبو عبيد البسريّ إذا كان أول شهر رمضان يدخل بيتاً، ويقول لامرأته:طبني على الباب، وألقي إليّ كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتح الباب ودخلت امرأته البيت فإذا بثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب، ولا نام، ولا فاتته ركعة من الصلاة.
وقال أبو الحارث الأولاشي: مكثت ثلاثين سنة ما يسمع لساني إلا من بصري، ثم تغيرت الحال؛ فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سري إلا من ربي.
حدينا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أبو الحسين غلام شعوانة قال: سمعت علي بن سالم يقول: كان سهل بن عبد الله أصابته زمانة في آخر عمره، فكان إذا حضر وقت الصلاة انتشرت يداه ورجلاه، فإذا فرغ من الفرض عاد إلى حال الزمانة.
وحكي عن أبي عمران الواسطي قال: انكسرت السفينة وبقيت أنا وامرأتي على لوح، وقد ولدت في تلك الحالة صبية، فصاحت بي وقالت لي: يقتلني العطش!! فقلت: هو ذا يرى حالنا؛ فرفعت رأسي، فإذا رجل في الهواء وفي يده سلسلة من ذهب وفيها كوز من ياقوت أحمر، وقال: هاك اشربا. قال: فأخذت الكوز وشربنا منه فإذا هو أطيب من المسك وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل. فقلت: من أنت رحمك الله؟ فقال: عبد لمولاك، فقلت: بِمَ وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت هواي لمرضاته فأجلسني في الهواء. ثم غاب عني ولم أره.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا بكران بن أحمد الجيلي قال: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: رأيت شاباً عند الكعبة يكثر الركوع والسجود فدنوت منه، وقلت؛ إنك تكثر الصلاة!! فقال: أنتظر الأذن من ربي في الانصراف.

قال: فرأيت رقعة سقطت عليه، مكتوب فيها: " من العزيز الغفور إلى عبدي الصادق: انصرف مغفوراً لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " .
وقال بعضهم: كنت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده مع جماعة نتجارى الآيات، ورجل ضرير بالقرب منا يسمع، فتقدم إلينا، وقال: أنست بكلامكم؛ اعلموا أنه كان لي صبية وعيال، وكنت أخرج إلى البقيع اختطب، فخرجت يوماً. فرأيت شاباً عليه قميص كتان ونعله في إصبعه، فتوهمت أنه تائه. فقصدته أسلب ثوبه: فقلت له: إنزع ما عليك. فقال: تسر في حفظ الله. فقلت الثانية والثالثة. فقال لابد؟ فقلت: لابد!! فأشار من بعيد بأصبعه إلى عيني فسقطنا. فقلت: بالله عليك. من أنت؟ فقال: إبراهيم الخواص.
وقال ذو النون المصري: كنت وقتاً في السفينة فسرقت قطيفة. فاتهموا بها رجلاً. فقلت: دعوه حتى أرفق به. وإذا الشاب نائم في عباءة: فأخرج رأسه من العباءة فقال له: ذو النون في ذلك المعنى. فقال: أليَ تقول ذلك؟! أقسمت عليك يا رب أن لا تدع واحداً من الحيتان إلا جاء بجوهرة. قال: فرأينا وجه الماء حيتاناً في أفواههم الجواهر، ثم ألقى الفتى نفسه في البحر ومر إلى الساحل.
وحي عن إبراهيم الخواص قال: دخلت البادية مرة فرأيت نصرانياً على وسطه زنار فسألني الصحبة فمشينا سبعة أيام فقال لي: يا راهب الحنيفية هات ما عندك من الانبساط فقد جعنا إلهي لا تفضحني مع هذا الكافر. فرأيت طبقاً عليه خبز وشِوَاء ورطب وكوز ماء. فأكلنا وشربنا ومشينا سبعة أيام ثم بادرت وقلت: يا راهب النصارى. هات مع عندك. فقد انتهت النوبة إليك. فاتكأ على عصاه. ودعا. فإذا بطبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي. قال: فتحيرت، وتغيرت. وأبيت أن آكل. فألح عليَّ فلم أجبه. فقال: كل؛ فإني أبشرك ببشارتين إحداهما: أني أشهد أن لا إله إلى الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وحلَّ الزُنار. والأخرى: أني قلت: اللهم إن كان هذا العبد خطر عند فافتح عليّ بهذا؛ ففتح. فأكلنا ومشينا وحجَّ. وأقمنا بمكة سنة ثم إنه مات ودفت بالبطحاء.
وقال محمد بن المبارك الصوري: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، فسمعت صوتاً من أصل الرمان: ياأبا إسحق أكرمنا بأن نأكل منا شيئاً، فطأطأ إبراهيم رأسه، فقال ثلاث مرات. ثم قال: يا محمد كن شفيعاً إليه؛ ليتناول منا شيئاً فقلت: يا أبا اسحق، لقد سمعت. فقام وأخذ رمانتين، فأكل واحدة وناولني الأخرة فأكلتها وهي حامضة، وكانت شجرة قصيرة، فلما رجعنامررنا بها فإذا هي شجرة عالية ورمانها حلو. وهي تثمر في كل عام مرتين. وسموها رمانة العابدين ويأوي إلى ظلها العابدون.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن الفرحان يقول:سمعت الجنيد يقول: سمعت أبا جعفر الخصاف يقول: حدثني جابر الرحبي قال: أكثر أهلُ الرحبة عليَّ الإنكار في باب الكرامات، فركبت السبع يوماً ودخلت الرحبة، وقلت: أين الذين يكذبون أولياء الله؟ قال: فكفوا بعد ذلك عني.
سمعت منصوراً المغربي يقول: رأى بعضهم الخضر عليه السلام، فقال له: هل رأيت فوقك أحداً؟ فقال: نعم، كان عبد الرزاق بن همام يروي الأحاديث بالمدينة، والناس حوله يستمعون..
فرأيت شاباً بالعبد منهم رأسه على ركبتيه. فقلت له: يا هذا عبد الرزاق يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.فلم لا تسمع منه؟ فقال: إنه يروي عن ميت، وأنا لست بغائب عن الله؟ فقلت: إن كنت كما تقول، فمن أنا؟! فرفع رأسه وقال: أنت أخي أبو العباس الخضر، فعلمت أن لله عباداً لم أعرفهم.
وقيل: كان لإبراهيم بن أدهم صاحب يقال له يحيى يتعبد في غرفة ليس إليها سُلم ولا دَرَج، فكان إذا أراد أن يتطهر، يجيىء إلى باب الغرفة ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويمر في الهواء كأنه طير، ثم يتطهر، فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويعود إلى غرفته.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: سمعت عمر بن محمد بن أحمد الشيرازي بالبصرة قال: سمعت أبا محمد جعفر الحذاء بشيراز قال: كنت أتأدب بأبي عمر الاصطخري، فكان إذا خطر لي خاطر أخرجُ إلى اصطخر فربما أجابني عما احتاج إليه من غير أن أسأله، وربما سألته فأجابني ثم شغلت عن الذهاب فكان إذا خطر على سرِّي مسألة أجابني من اصطخر، فيخاطبني بما يَردُ عليَّ.

وحكي عن بعضهم قال: مات فقير في بيت مظلم، فلما اردنا غسله تكلفنا طلب سراج، فوقع من كوة ضوء.. فأضاء البيت، فغسلناه، فلما فرغنا ذهب الضوء كأنه لم يكن.
وعن آدم بن أبي إياس قال: كنا بعسقلان، وشاب يغشانا ويجالسنا. ويتحدث معنا؛ فإذا فرغنا قام إلى الصلاة يصلي، قال: فودعنا يوماً وقال: أريد الإسكندرية. فخرجت معه، وناولته دريهمات، فأبى أن يأخذها. فالححت عليه فألقى كفاً من الرمل في ركوته. واستقى من ماء البحر. وقال: كله!! فنظرت فإذا هو سويق بسكر كثير فقال، من كان حالهمعه مثل هذا يحتاج إلى دراهمك؟! ثم أنشأ يقول:
بحق الهوى يا أهل ودي تفهموا ... لسانَ وجوي بالوجود غريب
حرام على قلب تعرّض للهوى ... يكونُ لغير الحق فيه نصيب
ولغيره:
ليس في القلب والفؤاد جميعاً ... موضعٌ فارغ يراه الحبيب
هو سُؤلي ومُنيتي وسروري ... وبه ما حييت عيشي يطيب
وإذا ما السقام حل بقلبي ... لم أجد غيره لقسمي طبيب
جاءني يهودي يتقاضى عليَّ في دين كان له عليَّ. وأنا قاعد عند الأتون أوقد تحت الاجر. فقال لي اليهودي: يا إبراهيم. أرني آية أسلم عليها..
فقلت له: تفعل؟! فقال: نعم. فقلت: إنزع ثوبك. فنزع، فلففته، ولففت على ثوبه ثوبي، وطرحته في النار، ثم دخلت الأتون وأخرجت الثوب من وسط النار وخرجت من الباب الآخر، فإذا ثيابي بحالها لم يصيبها شيء، وثيابُه في وسطها صارت حراقة، فأسلم اليهودي.
وقيل: كان حبيب العجمي يُرى بالبصرة يوم الترويه، ويوم عرفة بعرفات سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: تزوج عباس بن المهتدي امرأة، فلما كانت ليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنوَّ منهازُجر عنها، فامتنع من وطئها، وخرج.. فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج!! قال الأستاذ الإمام: هذا هو الكرامة على الحقيقة؛ حيث حفظ عليه العلم.
وقيل: كان الفضيل بن عياض على جبل من جبل منى، فقال: لو أن ولياً من أولياء الله تعالى أمر هذا الجبل أن يميد لماد، قال: فتحرك الجبل. فقال: أسكن، لم أردك بهذا!! فسكن الجبل.
وقال عبد الواحد بن زيد لأبي عاصم البصري: كيف صنعت حين طلبك الحجاج؟ قال: كنت في غرفتي فدقوا على الباب، فدخلوا، فدفعت بي دفعة، فإذاأنا على جبل أبي قبيس بمكة، فقال له عبد الواحد: من أين كنت تأكل؟ قال: كانت تصعد إلى عجوز كل وقت إفطاري بالرغيفين اللذين كنت آكلهما بالبصرة.
فقال عبد الواحد: تلك الدنيا أمرها الله تعالى أن تخدم أبا عاصم.
وقيل: كان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ولا يستقبله أحد إلا أعطاه شيئاً، فكان إذا أتى منزله رمى إليه بالدراهم، فتكون بمقدار ما أخذه لم ينقص شيئاً.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت أبا أحمد الكبير يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: يقول: سمعت أبا عمرو الزجاجي يقول: دخلت على الجنيد، وكنت أريد أن أخرج إلى الحج، فأعطاني درهماً صحيحاً، فشددته على مئزري، فلم أدخل منزلاً إلا وجدت فيه رفقاء، ولم أحتج إلى الدرهم؛ فلما حججت، ورجعت إلى بغداد دخلت على الجنيد. فمدَّ يده وقال: هات، فناولته الدرهم، فقال: كيف كان؟ فقلت: كان الختم نافذاً.
وحكي عن أبي جعفر الأعور قال: كنت عند ذي النون المصري، فتذاكرنا حديث طاعة الأشياء للأولياء، فقال ذو النون. من الطاعة أن أقول لهذا السرير يدور في أربع زوايا البيت، ثم يرع إلى مكانه فيفعل، قال فدار السرير في أربع زوايا البيت وعاد إلى مكانه. وكان هناك شاب فأخذ يبكي حتى مات في الوقت.
وقيل: إن واصلاً الأحدب قرأ: وفي السماء رزقكم وما توعدون. فقال: رزقي في السماء وأناأطلبه في الأرض؟ والله لا طلبته أبداً!! فدخل خربة ومكث يومين فلم يظهر له شيء. فاشتد عليه، فلما كان اليوم الثالث إذا بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه نية، فصار معه، فإذن: قد صار دوخلتين فلم يزل ذلك حالهما حتى فرق بينهما الموت.
وقال بعضهم: أشرفت على إبراهيم بن إبراهيم، وهو في بستان يحفظه، وقد أخذه النوم، وإذا حية في فيها طاقة نرجس تروِّحه بها.

وقيل: كان جماعة من أيوب السجستاني في السفر فأعياهم طلب الماء، فقال أيوب: أتسترون عليّ ما عشت؟ فقالوا: نعم، فدور دائرة فنبع الماء، فشربنا فقال: فلما دخلنا البصرة أخبر به حماد بن زيد، فقال عبد الواحد بن زيد شهدتُ معه ذلك اليوم.
وقال بكر بن عبد الرحمن: كنا مع ذي النون المصري في البادية، فنزلنا تحت شجرت من أم غيلان فقلنا: ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب؛ فتبسم ذو النون وقال أتشتهون الرطب؟ وحرّك الشجرة وقال: أقسمت عليك بالذي ابتدأك وخلقك شجرت إلا نثرتِ علينا رطباً جنياً.. ثم حرّكها، فنثرت رطباً جنياً. فأكلنا وشعبنا. ثم نمنا فانتبهنا وحركنا الشجرة فنثرت علينا شوكاً.
وحكي عن أبي القاسم بن مروان النهاوندي قال: كنت أنا وأبو بكر الوراق مع أبي سعيد الخراز نمشي على ساحل البحر نحو صيدا فرآى شخصاً من بعدي، فقال: اجلسوا. لايخلوا هذا الشخص أن يكون ولياً من أولياء الله. قال: فما لبثنا أن جاء شاب حسن الوجه. وبيده رِكوة ومحبرة وعلين مرقعة. فالتفت أبو سعيد إليه منكراً عليه لحمله المحبرة مع الركوة فقال له: يا فتى، كيف الطرق إلى الله تعالى؟ فقال: ياأبا سعيد، أعرف إلى الله طريقين: طريقاً خاصاً، وطريقاً عاماً، فأما الطريق العام فالذي أنت عليه.وأما الطريق الخاص: فهلم، ثم مشى على الماء حتى غاب عن أعيننا. فبقي أبو سعيد حيران مما رآى!! وقال الجنيد: جئت مسجد الشونزية فرأيت فيه جماعة من الفقراء يتكلمون في الآيات فقال فقير منهم: أعرف رجلا لو قال لهذه الأسطوانة كوني ذهبا نصفك، ونصفك فضةً كانت.. قال الجنيد: فنظرت. فإذا الأسطوانة نصفها ذهب ونصفها فضة.
قيا: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهما سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السبع؟ فقال: لا تّخف. فأخذ شيبان أذنه فعركها... فبصبص وحرَّك ذنبه.. فقال سفيان: ما هذه الشهرة؟! فقال: لو لا مخافة الشهرة لما وضعت زادي إلا على ظهره حتى آتي مكة!! وحكي أن السري لما ترك التجارة كانت أخته تنفق عليه من ثمن غزلها. فأبطأت يوماً، فقال لها السري: لم أبطأت؟! فقالت: لأن غزلي لم يشتر، وذكروا أنه مخلط. فامتنع السري عن طعامها ثم إن أخته دخلت عليه يوماً فرأت عنده عجوزاً تكنس بيته، وتحمل إليه كل يوم رغيفين فحزنت أخته وشكت من أكل طعامها قيض الله لي الدنيا لتنفق علي وتخدمني.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا علي بن هارون قال: حدثنا علي ابن أبي التميمي قال: حدثنا جعفر بن القاسم الخواص قال: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال: كنت عند أبي محفوظ معروف الكرخي، فدعا لي؛ فرجعت إليه من الغد وفي وجهه أثر، فقالله إنسان: يا أبا محفوظ، كنا عندك بالأمس ولم يكن بوجهك هذا الأثر، فما هذا؟! فقال: سل عما يعنيك!! فقال الرجل: بمعبودك أن تقول، فقال: صليت البارحة هاهنا، واشتهيت أن أطوف بالبيت، فمضيت إلى مكة، وطفت، ثم ملت إلى زمزم؛ لأشرب من مائها. فزلقت على الباب، فأصاب وجهي ما تراه.
وقيل: كان عتبة الغلام يقعد فيقول: يا ورشان إن كنت أطوع لله عز وجل مني فتعال واقعد على كفي؛ فيجيء الورشان ويقعد على كفه.
وحكي عن أبي علي الرازي أنه قال: مررت يوماً على الفرات، فعرّضت لنفسي شهوة السمك الطريّ، فإذا الماء قد قذف سمكة نحوي، وإذا رجل يعدو ويقول: أشويها لك؟ فقلت: نعم. فشواها، فقعت وأكلتها.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم في رفقة فعبض لهم السبع؛ فقالوا: يا أبا إسحاق قد عرض لنا السبع!! فجاء إبراهيم وقال: يا أسد، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض، وإلا فارجع. فرجع الأسد، ومضوا.
وقال حامد الأسود: كنت مع الخواص في البرية، فبتنا عند شجرة، إذ جاء السبع، فصعدت الشجرة إلى الصباح لا يأخذني النوم، ونام إبراهيم الخواص والسبع يشم من رأسه إلى قدمه.. ثم مضى.
فلما كانت الليلة الثانية بتنا في مسجد في قرية، فوقعت بقّة على ووجهه فضربته،فأنَّ أنةً، فقلت: هذا عجيب، البارحة لم تجزع من الأسد، والليلة تصيح من البقّ!! ؟فقال: أما البارحة، فتلك حالة كنت فيها بالله عز وجل، وأما الليلة، فهذه حالة أنا فيها بنفسي.

وحكي عن عطاء الأزرق: أنه دفعت إليه امرأته درهمين من ثمن غزلها؛ ليشتري لهم شيئاً من الدقيق، فخرج من بيته، فلقي جارية تبكي، فقال لها: ما بالك؟ فقالت: دفع إلي مولاي درهمين اشتري لهم شيئاً. فسقطا مني فأخاف أن يضربني!! فدفع عطاء الدرهمين إليها. ومرّ. وقعد على حانوت صديق له ممن يشق الصاج وذكر له الحال وما يخاف من سوء خلق امرأته. فقال له صاحبه: خذ من هذه النشارة في هذا الجراب لعلكم تنتفعون بها في سحر التنور؛ إذ ليس يساعدني الإمكان في شيء آخر.. فحمل النشارة، وفتح باب داره، ورمى بالجراب، وردّ الباب ودخل المسجد إلى ما بعد العتمة؛ ليكون النوم أخذهم ولا تستطيل عليه المرأة، فلما فتح الباب وجدهم يخبزون الخبز؛ فقال: من أين لكم هذا الخبز؟ فقالوا: من الدقيق الذي كان في الجراب. لا تشتر من غير هذا الدقيق! قال: أفعل إن شاء الله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن بركات يقول: كنت أجالس الفقراء، ففتح عليَّ بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثم قلت في نفسي: لعلي أحتاج إليه.. فهاج بي وجع الضرس، فقلعت سناً، فوجعت الأخرى حتى قلعتها..
فهتف بي هاتف: إن لم تدفع إليهم الدينار، فلا يبقى في فمك سنٌ واحدة!.
قال الأستاذ: وهذا في باب الكرامة أتم من أن كان يفتح عليه بدنانير كثيرة تنقض العادة.
وحكى أبو سليمان الداراني قال: خرج عامر بن قيس إلى الشام، ومعه شكوة إذا شاء صبَّ منها ماء ليتوضأ للصلاة، وإذا شاء صبّ منها لبناً يشربه.
وروى عثمان بن أبي العاتكة قال: كنا في غزاة الأرض الروم، فبعث الوالي سرية إلى موضع، وجعل الميعاد في يوم كذا.
قال: فجاء الميعاد ولم تقدم السرية، فبينا أبو مسلم يصلي إلى رمحه الذي ركزه بالأرض إذ جاء طائر إلى رأس السنان وقال: إن السرية قد سلمت وغنمت وسيردون عليكم يوم كذا في وقت كذا.
فقال أبو مسلم للطير: من أنت، رحمك الله تعالى؟ فقال: أنا مذهب الحزن عن قلوب المؤمنين.
فجاء أبو مسلم إلى الوالي وأخبره بذلك، فلما كان اليوم الذي قال أتت السرية على الوجه الذي قال.
وعن بعضهم قال: كنا في مركب فمات رجل كان معنا عليل، فأخذنا في جهازه، وأردنا أن نلقيه في البحر فصار البحر جافاً، ونزلت السفينة، فخرجنا وحفرنا له قبراً، ودفناه، فلما فرغنا استوى الماء، وارتفع المركب، وسرنا.
وقيل: إن الناس أصابتهم مجاعة بالبصرة، فاشترى حبيب العجمي طعاما بالنسيئة، وفرقه على المساكين وأخذ كيسه فجعله تحت رأسه، فلما جاءوا يتقاضونه أخذه، وإذا هو مملوء دراهم، فقضى منها ديونهم.
وقيل: أراد إبراهيم بن أدهم أن يركب السفينة فأبوا إلا أن يعطيهم ديناراً، فصلى على الشط ركعتين، وقال: اللهم إنهم قد سألوني ما ليس عندي، فصار الرمل بين يديه دنانير.
حدثنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا محمد بن أحمد المروزي قال: حدثنا عبد الله بن سليمان قال: قال أبو حمزة نصر بن الفرج خادم أبي معاوية الأسود قال: كان أبو معاوية ذهب بصره، فإذا أراد أن يقرأ نشر المصحف فيرد الله عليه بصره، فإذا أطبق المصحف ذهب بصره..
وقال أحمد بن الهيثم المتطيب: قال لي بشر الحافي: قل لمعروف الكرخي: إذا صليت جئتك؛ قال: فأديت الرسالة وانتظرته، فصلينا الظهر ولم يجيء، ثم صلينا العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، فقلت في نفسي: سبحان الله مثل بشر يقول شيئاً ثم لا يفعل!! لا يجوز أن لا يفعل!!.. وانتظرته وأنا فوق مسجد على مشرعة، فجاء بشر بعد هوى من الليل، وعلى رأسه سجادة، فتقدم إلى دجلة ومشى على الماء، فرميت بنفسي من السطح، وقبلت يديه ورجليه، وقلت: ادع الله لي، فدعا لي، وقال: استره علي. قال: فلم أتكلم بهذا حتى مات.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي قال: حدثنا أبو الفرج الورثاني قال: سمعت علي بن يعقوب بدمشق قال: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول: سمعت قاسماً الجرعي يقول: رأيت رجلا في الطواف لا يزيد على قوله: إلهي، قضيت حوائج الكل ولم تقض حاجتي..
فقلت: مالك لا تزيد على هذا الدعاء؟

فقال: أحدّثك.. اعلم أنا كنا سبعة أنفس من بلدان شتى، فخرجنا إلى الجهاد، فأسرنا الروم، ومضوا بنا لنقتل؛ فرأيت سبعة أبواب فتحت من السماء وعلى كل باب جارية حسناء من الحور العين، فقدم واحد منا فضربت عنقه، فرأيت جارية منهن هبطت إلى الأرض وبيدها منديل فقبضت روحه حتى ضربت أعناق ستة منا، فاستوهبني بعض رجالهم، فقالت الجارية: أيُّ شيء فاتك يا محروم!!.. وغلَّقت الأبواب؛ فأنا يا أخي متأسف متحسر على ما فاتني...
قال قاسم الجرعي: أراه أفضلهم، لأنه رأى ما لم يروا.. وعمل على الشرق بعدهم.
وسمعته يقول: سمعت أبا النجم أحمد بن الحسين بخورستان يقول سمعت أبا بكر الكتاني يقول: كنت في طريق مكة في وسط السنة، فإذا أنا بهميان ملآن يلتمع دنانير، فهممت أن أحمله لأفرقه على فقراء مكة، فهتف هاتف: إن أخذته سلبناك فقرك.
حدثنا محمد بن محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أحمد بن يوسف الخياط قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت العباس الشرقي يقول: كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابه: أنا عطشان. فضرب برجله إلى الأرض فإذا الأرض عين من ماء زلال، فقال الفتى: أحب أن أشربه ف قدح، فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحاً من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكة فقال لي أبو تراب يوماً: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده؟..
فقلت: ما رأيت أحداً إلا وهو يؤمن بها.
فقال: من لم يؤمن بها فقد كفر، إنما سألتك من طريق الأحوال.
فقلت: ما أعرف لهم قولاً فيه.
قال: بلى، قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق، وليس الأمر كذلك، إنما الخدع في حال السكون إليها، فأمَّا من لم يقترح ذلك، ولم يساكنها فتلك مرتبة المرَّبانيين.
حثنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا أبو الفج الورثاني قال: سمعت محمد بن الحسين الخلدي بطرسوس قال: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: كنا في غرفة سريّ السقطي ببغداد، فلما ذهب من الليل شيء لبس قميصاً نظيفاً وسراويل ورداء ونعلا، وقال ليخرج؛ فقلت: إلى أين في هذا الوقت؟ فقال: أعود فتحاً الموصلي.
فلما مشى في طرقات بغداد أخذه العسس وحبسوه، فلما كان من الغد أمر بضربه مع المحبوسين، فلما رفع الجلاد يده ليضربه وقفت يده فلم يقدر أن يحركها فقيل للجلاد: اضرب!! فقال: بحذائي شيخ واقف يقول لي لا تضربه، فتقف يدي لا تتحرك.
فنظروا من الرجل، فإذا هو فتح الموصلي؛ فلم يضربوه.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الحارث الخطابي قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا علي بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن يحيى البصري قال: كان أناس من قريش يجلسون إلى عبد الواحد بن زيد، فأتوه يوماً وقالوا: إنا نخاف من الضيقة والحاجة!! فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أسألك باسمك المرتفع الذي تكرم به من شئت من أوليائك، وتلهمه الصفيَّ من أحبابك أن تأتينا بروق من لدنك تقطع به علائق الشيطان من قلوبنا وقلوب أصحابنا هؤلاء فأنت الحنان المنان القديم الإحسان، اللهم الساعة، الساعة..
قال: فسمعت والله قعقة للسقف، ثم تناثرت علينا دنانير ودراهم، فقال عبد الواحد بن زيد: استغنوا بالله عزّ وجلّ عن غيره، فأخذوا ذلك، ولم يأخذ عبد الواحد بن زيد شيئاً.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي الجوزي بجنديسابور قال: سمعت الكتاني يقول: رأيت بعض الصوفية، وكان غريباً ما كنت أثبته قد تقدم إلى الكعبة وقال: يا ربّ ما أدري ما يقول هؤلاء ! - يعني الطائفين - فقيل له: انظر ما في هذه الرقعة. قال: فطارت الرقعة في الهواء وغابت.
ً وسمعته يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر الورثاني يقول: سمعت محمد بن علي ابن الحسين المقري بطرسوس يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: اشتهت والدتي على والدي يوماً من الأيام سمكاً، فمضى والدي إلى السوق وأنا معه، فاشترى سمكاً، ووقف ينتظر من يحمله، فرى صبياً وقف بحذائه مع صبي فقال: يا عم، تريد من يحمله؟ فقال: نعم، فحلمه ومشى معنا، فسمعنا الأذان، فقال الصبي: أذنّ المؤذن، واحتج أن أتطهر وأصلي، فإن رضيت، وإلا فأ؛مل السمك، ووضع الصبي السمك ومرّ.

فقال أبي: فنحن ألوى أن نتوكل في السمك. فدخلنا المسجد فصلينا، وجاء الصبي وصلى، فلما خرجنا فإذا بالسمك موضوع مكانه، فحمله الصبي ومضى معنا إلى دارنا.
فذكر والدي ذلك لوالدتي، فقالت: قل له حتى يقيم عندنا ويأكل معنا، فقلنا له، فقال: إني صائم، فقلنا: فتعود إلينا بالعشى، فقال: إذا حملت مرة في اليوم لا أحمل ثانياً، ولكني سأدخل المسجد إلى المساء، ثم أدخل عليكم، فمضى..
فلما أمسينا دخل الصبي، وأكلنا، فلما فرغنا دللناه على موضع الطهارة، ورأينا فيه أنه يؤثر الخلوة، فتركناه في بيت، فلما كان في بعض الليل وكان لقريب لنا بنتُ زمنة، فجاءت تمشي، فسألناها عن حالها، فقالت: قلت يارب بحرمة ضيفنا أن تعافيني، فقمت. قالت: فمضينا لنطلب الصبي، فإذا الأبواب مغلقة كما كانت، ولم نجد الصبي،. فقال أبي: فمتهم صغير، ومتهم كبير.
سمعت محمد بن الحسين يقول: حدثنا أبو الحارث الخطابي قال: حدثنا محمد ابن الفضل قال: حدثنا عليّ بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن يحيى البصري قال: أتيت عبد الواحد بن زيد وهو جالس في ظل، فقلت له: لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل: فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثم أخذ حصتي من الأرض، ثم قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهباً فعلت، فإذا هي والله في يده ذهب، فألقاها إليّ وقال: أنفقها أنت فلا خير في الدنيا إلا للأخرة.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسين بن أحمد الفارسي يقول: سمعت الرَّقيَّ يقول: سمعت أحمد بن منصور يقول: قال لي أستاذي أبو يعقوب السوسي: غسلتُ فريداً فأمسك إبهامي وهو على المغتسل. فقلت: يا بني خلِّ يدي؛ أنا أدري أنك لست بميت، وإنما هي نقلة من دار إلى دار.. فخلي يدي..
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن محمد الطرسوسي يقول: سمعت إبراهيم ابن شيبان يقول: صحبني شاب حسن الإرادة، فمات، فاشتغل قلبي به جداً، وتوليت غسله، فلما أردت غسل يديه بدأت بشماله من الدهشة، فأخذها مني وناولني يمينه فقلت: صدقت يا بني، أنا غلطت.
وسمعته يقول: سمت أبا النجم المقري البرذعي بشيراز يقول: سمعت الراقي يقول: سمعت أحمد بن منصور يقول: سمعت أبا يعقوب السوسي يقول: جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ، أنا غداً أموت وقت الظهر؛ فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه، وكفني بنصفه الآخر، ثم لما كان الغد جاء وطاف بالبيت، ثم تباعد ومات، فغسلته، وكفنته ووضعته في اللحد، ففتح عينيه، فقلت: أحياه بعد موت؟! فقال: أن حيِّ، وكل محبٍ لله حي.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول: سمعت أبا علي بن وصيف المؤدب يقول: تكلم سهل بن عبد الله يوماً في الذكر فقال: أن الذاكر لله على الحقيقة لو هم أن يحيى الموتى لفعل، ومسح يده على عليلٍ بين يديه، فبرىء، وقام.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: أخبرني علي بن إبراهيم بن أحمد قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا الحسين بن عمر قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: كان عمرو بن عُتبة يصلي والغمام فوق رأسه، والسباع حوله تحرك أذنابها.
وسمعته يقول: سمعت أبا عبد الله بن مفلح يقول: سمعت المغازلي يقول: سمعت الجنيد يقول: كانت معي أربعة دراهم فدخلت على السري وقلت: هذه أربعة دراهم حملتها إليك، فقال: أبشر يا غلام بأنك تُفلح؛ كنت أحتاج إلى أربعة دراهم؛ فقلت: " اللهم ابعثها على يد من يفلح عندك " .
وسمعته يقول: حدثني إبرهيم بن أحمد الطبري قال: حدثنا أحمدبن يوسف قال: حدثناأحمد بن إبراهيم بن يحيى قال: حدثني أبي قال:حدثني أبو إبراهيم اليماني قال: خرجنا نسير على ساحل البحر مع إبراهيم بن أدهم فانتهينا إلى غيضة فيها حطب يابس كثير، وبالقرب منه حصن، فقلنا لإبراهيم بن أدهم: لو أقمنا الليلة هاهنا وأوقدنا من هذا الحطب؟ فقال: افعلوا فطلبنا النار من الحصن. فأوقدنا، وكان معنا الخبز فأخرجنا نأكل، فقال واحد منا: ماأحسن هذا الجمر، لو كان لنا لحم نشويه عليه؟! فقال إبراهيم بن أدهم: إن الله تعالى لقادر على أن يطعمكموه. فقال: فبينا نحن كذلك إذا بأسد يدر إيلاً فلما قرب منا وقع، فاندقت عنق، فقام إبراهيم بن أدهم وقال: أذبحوه، فقد أطعمكم الله. فذبحناه.. وشوينا من لحمه والأسد واقف ينظر إلينا.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا القاسم عبد الله بن علي الشجري يقول: سمعت حامداً الأسود يقول: كنت مع إبراهيم الخواص في البادية سبعة أيام على حالة واحدة، فلما كان السابع ضعفت، فجلست، فالتفت إلي وقال مالك؟ فقلت: ضعفت!! فقال: أيما أغلب عليك: الماء أو الطعام؟ فقلت: الماء، فقال: الماء وراءك.
فالتفت فإذا عين ماء كاللبن الحليب، فشربت وتطهرت، وإبراهيم ينظر ولم يقربه.
فلما أردت القيام هممت أن أحمل منه، فقال: أمسك؛ فإنه ليس مما يتزود منه.
سمعت أبا عبد الله بن عبد الله يقول: سمع أبا عبد الله الدباس البغدادي يقول: سمعت فاطمة أخت أبي علي الروذباري تقول: سمعت زينونة خادمة أبي الحسين النوري - وكانت تخدمه، وخدمت أبا حمزة، والجنيد - قالت: كان يوم بارد، فقلت للنوري: أحمل إليك شيئاً؟ فقال: نعم، فقلت: ماذا تريد؟ قال: خبز ولبن، فحملت، وكان بين يديه فحم، وكان يقلبها بيده وقد اشتغلت يده، فأخذ يأكل الخبز واللبنُ يسيل على يده وعليها سواد الفحم، فقلت في نفسي: ما أقذر أولياءك يا رب!! ما فيهم أحد نظيف!! قالت: فخرجت من عنده، فتعلقت بي امرأة وقالت: سرقت لي رزمة ثياب وجروني إلى الشرطيّ، فأخبر النوري بذلك، فخرج وقال للشرطي: لا تتعرضوا لها؛ فإنها وليّه من أولياء الله تعالى، فقال الشرطي: كيف أصنع والمرأة تدّعى؟! قال: فجاءت جارية ومعها الرزمة المطلوبة، فاسترد النوري المرأة، وقال لها: تقولين بعد هذا ما أقذر أولياءك، قالت: فقلت قد تبت إلى الله تعالى.
سمعت محمد بن عبد الله الشيرازي يقول: سمعت محمد بن فارس الفارسي يقول: سمعت أبا الحسن خيراً النساج يقول: سمعت الخواص يقول: عطشت في بعض أسفاري، وسقطت من العطش فإذا أنا بماء رَيَّ على وجهي ففتحت عيني فإذا برجل حسن الوجه راكب دابة شهباء، فسقاني الماء، وقال: كن رديفي، وكنت بالحجاز فما لبثت إلا يسيراً، فقال لي: ما ترى؟ فقلت: أرى المدينة، فقال: أنزل وأقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام، وقل: أخوك الخضر يقرئك السلام.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: قال أبو الحديد: سمعت المظفر الجصّاص يقول: كنت أنا ونصر الخراط ليلة في موضع فتذاكرنا شيئاً من العلم، فقال الخراط: إن الذكر لله تعالى فائدته في أول ذكره أن يعلم أن الله تعالى ذكره فبِذكر الله تعالى ذِكره. قال فخالفته، فقال: لو كان الخضر عليه السلام هاهنا لشهد بصحته. قال: فإذا نحن بشيخ يجيء بين السماء والأرض حتى بلغ إلينا وسلم وقال: صدق: الذاكرُ لله تعالى بفضل ذكر الله تعالى له ذكره، فعلمنا أنه الخضر، عليه السلام.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: جاء رجل إلى سهل بن عبد الله وقال: إن الناس يقولون إنك تمشي على الماء. فقال: سل مؤذن المحلة، فإنه رجل صالح لا يكذب. قال: فسألته، فقال المؤذن: لا أدري هذا!! ولكنه كان في بعض هذا الأيام نزل الحوض ليتطهر فوقع في الماء فلو لم أكن أنا لبقي فيه.
قال الأستاذ أبو علي الدقاق: إن سهلاً كان بتلك الحالة التي وصف بها، ولكن الله سبحانه يريد أن يستر أولياءه فأجرى ما وقع من حديث المؤذن والحوض ستراً لحال سهل، وسهل كان صاحب الكرامات.
وفي قريب من هذا المعنى ما حكي عن أبي عثمان المغربي قال: رأيته بخط أبي الحسين الجرجاني قال: أردت مرة أن أمضي إلى مصر، فخطر لي أن أركب السفينة، ثم خطر ببالي أني أعرف هناك، فخفت الشهرة، فمرّ المركب فبدا لي، فمشيت على الماء ولحقت بالمركب ودخلت السفينة والناس ينظرون، ولم يقل أحدإن هذا ناقض للعادة أو غير ناقض، فعرفت أن الولي مستور وإن كان مشهوراً.
ومما شاهدنا من أحوال الأستاذ ؟أبي علي الدقاق، رضي الله عنه؛ معاينة أنه كان به علة حرقة البول، وكان يقوم في ساعة غير مرة، حتى كان يجدد الوضوء غير مرة لركعتي فرض، وكان يحمل معه قارورة في طريق المجلس، وربما كان يحتاج إليها والطريق مرات ذاهباً وجائياً، وكان إذا قعد على رأس الكرسي يتكلم لا يحتاج إلى الطهارة ولو أمتد به المجلس زماناً طويلاً، وكنا نعاين ذلك منه سنين، ولم يقع لنا في حياته أن هذا شيء ناقض للعادة، وإنما وقع لي هذا وفتح عليَّ علمه بعد وفاته.

وفي قريب من هذا ما يحكى عن سهل بن عبد الله أن كان قد أصابته زمانه في آخر عمره، فكان ترد عليه القوة في أوقات الفرض فيصلي قائماً.
ومن المشهور أن عبد الله الوزان كان مقعداً، وكان في السماع إذا ظهر به وجد يقوم ويستمع.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: حدثنا إبراهيم بن محمد المالكي قال: حدثنا يوسف بن أحمد البغدادي قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: حججت أنا وأبو سليمان الداراني، فبينا نحن نسير إذ سقطت السطيحة مني، فقلت لأبي سليمان فقدت السطيحة. وبقينا بلا ماء، وكان برد شديد، فقال أبو سليمان: يا راد الضلة.. ويا هادياً من الضلالة اردد علينا الضالة، فإذا واحد ينادي: من ذهبت له سطيحة؟ قال: فقلت: أنا.. فأخذتها، فبينا نحن نسير وقد تدّرَّعنا بالفراء من شدة البرد فإذا نحن بإنسان عليه طِمران وهو يترشح عرقاً، فقال أبو سليمان: تعالى ندفع إليك شيئاً مما علينا من الثياب، فقال: يا أبا سليمان أتشير إلي بالزهد وأنت تجد البرد؟ أنا أسيح في هذه البرية منذ ثلاثين سنة ما انتفضت، ولا ارتعدت، يلبسني الله في البرد فيحاً من محبته، ويلبسني في الصيف مذاق برد محبته.. ومرَّ.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن علي التكريتي يقول: سمعت محمد ابن علي الكتاني بمكة يقول: سمعت الخواص يقول: كنت في البادية مرة، فسرت في سوط النهار،فوصلت إلى شجرة، وبالقرب منها ماء، فنزلت، فإذا بسبع عظيم أقبل، فاستسلمت، فلما قرب مني إذا هو يعرج، فحمحم وبرك بين يدي، ووضع يده في حجري، فنظرت فإذا يده منتفخة فيها قيح ودم، فأخذت خشبة وشققت الموضع الذي فيه القيح، وشددت علي يده خرقة، ومضى، فإذا أنا به بعد ساعة ومعه شبلان يبصبصان لي، وحملا إلي رغيفاً.
وسمعته يقول: حدثنا أحمد بن علي السائح قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مطرف قال: حدثنا محمد بن الحسين العسقلاني قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: اشتكى محمد بن السماك، فأخذنا ماءه وانطلقنا به إلى الطبيب، وكان نصرانياً.
قال: فبينا نحن نسير بين الحيرة والكوفة استقبلنا رجل حسن الوجه، طيب الرائحة، نقي الثوب، فقال لنا: إلى أين تريدان؟ فقلنا: نريد فلاناً الطبيب نريه ماء ابن السماك.
فقال: سبحان الله!! تستعينون على وليّ الله بعدو الله!!.. اضربوا به الأرض، وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له: ضع يدك على موضع الوجع وقل: " وبالحق انزلنا وبالحق نزل " ثم غاب عنا فلم نره.
فرجنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك، فوضع يده على موضع الوجع وقال ما قال الرجل، فعوفي في الوقت، فقال: كان ذلك الخضر عليه السلام.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الرحمن بن محمد الصوفي يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: كنا قعوداً في مجلس أبي يزيد البسطامي، فقال: قوموا بنا نستقبل ولياً من أولياء الله تعالى. فقمنا معه، فلما بلغنا الدرب فإذا إبراهيم بن شيبة الهروي، فقال له أبو يزيد: وقع في خاطري أن أستقبلك، وأشفع لك إلى ربي. فقال إبراهيم بن شيبة: ولو شفعت في جميع الخلق لم يكن بكثير، إنما هم قطعة طين! فتحير أبو يزيد من جوابه.
قال الأستاذ: وكرامة إبراهيم في استصغار ذلك أتم من كرامة أبي يزيد فيما حصل له في من الفراسة، وصدق له من الحالة في باب الشفاعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول وقد سأله سالم المغربي عن أصل توبته، فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق، ثم انتبهت، وفتحت عيني، فإذا أنا بقبرة عمياء سقطت من شجرة على الأرض، فانشقت الأرض، فخر منها سكرجتان إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء ورد فأكلت من هذه، وشربت من هذه فقلت: حسبي.. تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني..
وقيل: أصاب عبد الواحد بن زيد فالج فدخل وقت الصلاة واحتاج إلى الوضوء، فقال: من هاهنا، فلم يجبه أحد فخلف فوت الوقت، فقال: يا رب أحللني من وثاقي؛ حتى أقضي طهارتي، ثم شأنك وأمرك. قال: فَصحَّ، حتى أكمل طهارته، ثم عاد إلى فراشه، وصال كما كان.

وقال أبو أيوب الحمال: كان أبو عبد الله الديلمي إذا نزل منزلاً في سفر عمد إلى حماره وقال في أذنه: كنت أريد أن أشدّك، فالآن لا أشدك، وأرسلك في هذه الصحراء؛ لتأكل الكلأ، فإذا أردنا الرحيل فتعال.. فإذا كان وقت الرحيل يأتيه الحمار.
وقيل: زوج أبو عبد الله الديلمي ابنته، واحتاج إلى ما يجهزها به، وكان له ثوب يخر به كل وقت فيشتري بدينار، فخرج له ثوب، فقال له البياع: إنه يساوي أكثر من دينار، فلم يزالوا يزيدون في ثمنه حتى بلغ مائة دينار، فجهزها..
وقال النضر بن شميل: ابتعت إزاراً فوجدته قصيراً فسالت ربي تعالى أن يمغط لي ذراعاً، ففعل، يمغط: أي يمد: من مغط القوس، وهو مده قال النضر بن شميل: ولو استزدته لزادني.
وقيل: كان أمر بن عبد قيس سأل أن يهون عليه طهوره في الشتاء؛ فكان يؤتى به وله بخار، وسال ربه أن ينزع شهوة النساء من قلبه فكان لا يبلي بهن، وسأله أن يمنع الشيطان من قلبه وهو في صلاته فلم يجبه إليه.
وقال بشر بن الحارث: دخلت الدار فإذا أنا برجل، فقلت: من أنت؟ دخلت داري بغير إذني، فقال: أخوك الخضر. فقلت: ادع الله لي. فقال: هون الله عليك طاعته؛ فقلت: زدني، فقال: وسترها عليك.
وقال إبراهيم الخواص: دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة فقيل؛ فإذا فيها سبع عظيم، فخفت، فهتف بي هاتف: اثبت؛ فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك.
أخبرنا محمد بن الحسين قال: أخبرنا أبو الفرج الورثاني قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد الصيرفي يقول: سمعت جعفراً الدبيلي يقول: دخل النوري الماء فجاء لص فأخذ ثيابه، ثم إنه جاء ومعه الثياب وقد جفت يده؛ فقال النوري: قدر رد علينا الثياب فرُدَّ عليه يده. فعوفي.
وقال الشبلي: اعتقدت وقتاً أن لا آكل إلا من الحلال، فكنت أدور في البراري، فرأيت شجرة تين، فمددت يدي إليها لآكل، فنادتني الشجرة: إحفظ عليك عقدك، لا تأكل مني فأني ليهودي.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: دخلت بغداد قاصداً إلى الحج وفي رأسي نخوة الصوفية، ولم آكل الخبز أربعين يوماً، ولم أدخل على الجنيد، وخرجت ولم أشرب الماء إلى زُبالة، وكنت على طهارتي، فرأيت طبياً على رأس البئر وهو يشرب، وكنت عطشان، فلما دنوت من البئر ولى الظبي، وإذا الماء في أسفله.. فمشيت وقلت: يا سيدي، مالي محل هذا الظبي؟! فسمعت من خلفي: جربناك فما صبرت!! ارجع وخذ الماء.
فرجعت، فإذا البئر ملأى ماء، فملأت ركوتي وكنت أشرب منه وأتطهر إلى المدينة، ولم بنفسي.
ولما استقيت سمعت هاتفاً يقول: إن الظبي جاء بلا ركوة، ولا حبل، وأنت جئت مع الركوة والحبل!! فلما رجعت من الحج دخلت الجامع، فلما وقع بصر الجنيد عليّ قال: لو صبرت لنبع الماء من تحت رجلك، لو صبرت وصبر ساعة! سمعت حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني يقول: سمعت أبا أحمد بن علي الحافظ يقول: سمعت أحمد بن حمزة بمصر يقول: حدثني عبد الوهاب - وكان من الصالحين - قال: قال محمد بن سعيد البصري: بينما أنا أمشي في بعض طرق البصرة إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا، فالتفت فإذا الجمل وقع ميتاً، ووقع الرجل والقنب، فمشيت ثم التفتت فإذا الأعرابي يقول: يا مسبب كلّ سبب، ويا مولي من طلب، وردّ عليّ ما ذهب من جمل يحمل الرحل والقنب، فإذا الجمل قائم والرحل والقنب فوقه.
وقيل: إن شبلا المروذي اشتهى لحماً فأخذ بنصف درهم، فاستلبته منه حدأة في الطريق، فدخل شبل مسجداً ليصلي، فلما رجع إلى منزله قدمت امرأته إليه لحماً، فقال: من أيت هذا؟ فقالت: تنازعت حدأتان، فسقط هذا منهما، فقال شبل: الحمد لله الذي لم ينس شبلا، وإن كان شبلٌ كثيراً ينساه.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي قال: حدثنا عبد الواحد بن بكر الورثاني قال: سمعت محمد بن داود يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت ابن أبي عبيد اليسري يحدّث عن أبيه أنه غزا سنة من السنين، فخرج في السرية، فمات المهر الذي كان تحته وهو في السرية، فقال: يا رب، أعرناه حتى نرجع إلى بسرى يعني: قريته، فإذا المهر قائم، فلما غزا ورجع إلى بسرى قال: يا بني، خذ السرج عن المهر، فقالت: إنه عرق فإن أخذت السرج عنه داخله الريح، فقال: يا بني، إنه عارية، قال: فلما أخذت السرج عنه وقع المهر ميتا.

وقيل: كان بعضهم نباشاً، فتوفيت امرأةٌ، فصلى الناس عليها وصلى هذا النباش؛ ليعرف القبر، فلما جنَّ عليه الليل نبش قبرها، فقالت: سبحان الله، رجل مغفور له يأخذ كفن امرأة مغفور لها؟! قال: هبي أنك مغفور لك، فأنا من أنا؟! فقالت: إن الله تعالى غفر لي ولجميع من صلى علي، وأنت قد صليت عليَّ. فتركتها ورددت التراب عليها، ثم تاب ارجل وحسنت توبته.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا الحسن إسماعيل بن عمرو بن كامل بمصر يقول: سمعت أبا محمد نعمان بن موسى الحيري بالحيرة يقول: رأيت ذا النون المصري وقد تقاتل اثنان: أحدهما من أولياء السلطان، والآخر من الرعية، فعدا الذي من الرعية عليه، فكسر ثنيته، فتعلق الجندي بالرجل وقال: بيني وبينك الأمير، فجازوا بذي النون، فقال الناس: اصعدوا إلى الشيخ؛ فصعدوا إليه، فعرفوه ما جرى، فأخذ السن، ثم بلها بريقه، وردّها إلى فم الرجل في الموضع الذي كانت فيه، وحرّك شفتيه، فتعلقت بإذن الله تعالى، فبقي الرجل يفتش فاه، فلم يجد الأسنان إلا سواء.
حثنا أبو الحسين محمد بن الحسين القطان ببغداد قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار قال: حدثنا الحسين بن عرفة بن يزيد قال: حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن إسماعيل بن أبي خلد، عن أبي سيرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن.. فلما كان في بعض الطريق نفق حماره، فقالم وتوضأ، ثم صلى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت مجاهداً في سبيل ابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليَّ منة، اليوم أطلب منك أن تبعث حماري. فقام الحمار ينفض أذنيه.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا بكر النابلسي يقول: سمعت أبا بكر الهمداني يقول: بقيت في برّية الحجاز أياماً لم آكل شيئاً، فاشتهيت باقلا حاراً وخبزاً من باب الطاق ؛ فقلت: أنا في ابرية وبيني وبين العراق مسافة بعيدة، فلم أتمًّ خاطري إلا وأعرابي من بعيد ينادي: باقلا حارٌّ وخبز. فتقدمت إليه فقلت عندك باقلا حار وخبز؟ فقال: نعم. وبسط مئزراً كان عليه، وأخرج خبزاً وباقلا، وقال لي: كل. فأكلت، ثم قال لي: كل. فأكلت، ثم قال لي: كل. فأكلت. فلما قال لي الرابعة، قلت: بحق الذي بعثك إليّ إلا ما قلت لي من أنت؟ فقال: أنا الخضر. وغاب عني فلم أره.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس بن الخشاب البغدادي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحداد يقول: جئت الثعلبية وهي خراب، ولي سبعة أيام لم آكل شيئاً، فدخلت القبة، وجاء قوم خراسانيون أصابهم جهد فطرحوا أنفسهم على باب القبة، فجاء أعرابي على راحلة وصبَّ تمراً بين أيديهم فاشتغلوا بالأكل ولم يقولوا لي شيئاً، ولم يرني الأعرابي، فلما كان بعد ساعة. فإذا بالأعرابي، جاء وقال لهم: معكم غيركم؟ فقالوا: نعم، هذا الرجل داخل القبة. قال: فدخل الأعرابي، وقال لي: من أنت؟ لم لم تتكلم؟! مضيت، فعارضني إنسان فقال لي: قد خلقت إنساناً لم تطعمه. ولم يمكني أن أمضي، فتطوَّلت على الطريق، لأني رجعت عن أميال!! وصبّ بين يدي التمر الكثير، ومضى، فدعوتهم، فأكلوا وأكلت.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا طاهر الرقي يقول: سمعت أحمد ابن عطاء يقول: كلمني جمل؛ في طريق مكة رأيت جمالا والمحامل عليها، وقد مدّت أعناقها في الليل،فقلت: سبحان من يحمل عنها ما هي فيه، فالتفت إليّ جمل وقال لي: قل جلّ الله. فقلت جلّ الله.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسن بن أحمد الفارسي يقول: سمعت الرقيّ يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت أبا ذرعة الجنبي يقول: مكرت بي امرأة فقالت: ألا تدخل الدار فتعود مريضاً؛ فدخلت فأغلقت الباب.. ولم أر أحد؛ فعلمت ما فعلت، فقلت: اللهم سوّدها. فاسودت؛ فتحيرت. وفتحت الباب؛ فخرجت، فقلت: اللهم ردها إلى حالها فردّها إلى ما كانت عليه.
سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا محمد الغطريفي يقول: سمعت السراج يقول: سمعت أبا سليمان الرومي يقول سمعت: خليلا الصياد يقول: غاب ابني محمد فوجدنا عليه وجداً شديداً؛ فأتيت معروفاً الكرخي فقلت: يا أبا محفوظ، غاب ابني وأمه واجدة عليه!! فقال: ما تشاء؟ فقلت: ادع الله أن يردّه فقال: اللهم إن السماء سماؤك، والأرض أرضك.. وما بينهما لك..ائت بمحمد..

قال خليل: فأتيت باب الشام فإذا هو واقف، فقلت: أين كنت يا محمد؟ فقال: يا أبت كنت الساعة بالأنبار.
قال الأستاذ أبو القاسم: واعلم أن الحكايات في هذا الباب تربو على الحصر. والزيادة على ما ذكرناه تخرجنا عن المقصود من الإيجاز؛ وفيما ذكرناه مقنع في هذا الباب.
باب رؤيا القوم قال الله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة " .
قيل: هي الرؤيا الحسنة يراها المرء، أو ترى له.
أخبرنا أبو الحسن الإهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم المنقري قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: " لهم البشرى في الدنيا وفي الآخرة " قال صلى الله علي وسلم: " ما سألني عنها أحد قبلك. هي الرؤيا الحسنة يراها المرء، أو ترى له " .
أخبرنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد زيد قال: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتفل عن يساره، وليتعوذ؛ فإنها لن تضرّه " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد عبدوس المزكي قال: حدثنا أبو أحمد حمزة ابن العباس البزار قال: حدثنا عياش بن محمد بن حاتم قال: حدثنا عبد الله ابن موسى، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " .
ومعنى الخبر: أن تلك الرؤيا رؤيا صدق، وتأويلها احق، وأن الرؤيا نوع من أنواع الكرامات، وتحقيق الرؤيا خواطرٌُ ترد على القلب، وأحوال تتصور في الوهم إذا لميستغرق النوم جميع الاستشعار، فيتوهم الإنسان عند اليقظة أنه كان رؤية في الحقيقة، وإنما كان ذلك تصوراً وأوهاماً للخلق تقررت في قلوبهم، وحين زال عنهم الإحساس، الظاهر تجردت تلك الأوهام عن المعلومات بالحس والضرورة فقويت تلك الحالة عند صاحبها، فإذا استيقظ ضعفت تلك الأحوال التي تصورها بالإضافة إلى حال إحساس بالمشاهات وحصول العولم الضرورية، ومثله: كالذي يكون في ضوء السراج عند اشتداد الظلمة، فإذا طلعت الشمس عليه غلبت ضوء السرج. فيتقاصر نور السراج بالإضافة إلى ضياء الشمس، فمثال حال النوم كمن هو في ضوء السراج، ومثال المستيقظ كمن تعالى عليه النهار؛ فإن المستيقظ يتذكر ما كان متصوراً له في حال نومه.
ثم ن تلك الأحاديث والخواطر التي كانت ترد على قلبه في حال نومه مرة تكون من قبل الشيطان، ومرّة من هواجس النفس، ومرة بخواطر الملك، ومرة تكون تعريفاً من الله عز وجل بخلق تلك الأحوال في قلبه ابتداء، وفي الخبر: " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً " .
وأعلم أن النوم على أقسام: نوم غفلة، ونوم عادة، وذلك غير محمود، بل هو معلوم؛ لأنه أخو الموت، وفي بعض الأخبار المروية: " النور أخو الموت " .
وقال الله عز وجل: " وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار " . وقال تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في المناميا " .
وقيل: لو كان في النوم خير لكان في الجنة نوم.
وقيل: لما ألقى الله على آدم في الجنة أخرج منه حوّاء. وكلُّ بلاء به إنما حصل حين حصلت حواء.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما قال إبراهيم لإسماعيل، عليهما السلام: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال إسماعيل: يا أبت، هذا جزاء من نام عن حبيبه، لو لم تنم لما أمرت بذبح الولد.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كذب من أدعى حبي، فإذا جنّه الليل نام عني!! والنوم ضد العلم؛ ولهذا قال الشبلي: نعسةٌ في ألف سنة فضيحة.
وقال الشبلي: اطلع الحق على الخلق فقال: من نام غَفَل، ومن غَفَل حُجب، فكان الشبلي يكتحل بالملح بعه حتى كان لا يأخذه النوم، وفي معناه أنشدوا:
عجباً للمحب كيف ينام ... كل نوم على المحب حرامُ
وقيل: المريد: أكله فاقة، ونومه غلبةٌ، وكلامه ضرورة.
وقيل: لما نام آدم عليه السلام بالحضرة قيل له: هذه حواء لتسكن إليها، هذا جزاء من نام بالحضرة.

وقيل: إن كنت حاضراً فلا تنم؛ فإن النوم في الحضرة سوءُ أدب، وإن كنت غائباً فأنت من أهل الحسرة ولمصيبة، والمصاب لا يأخذه نوم. وأمَّا أهل المجاهدات فنومهم صدقة من الله عليهم، وأن الله عز وجل يباهي بالعبد إذا نام في سجوده، يقول: انظروا إلى عبدي نام وروحه عندي، وجده بين يدي.
وقال الأستاذ: أي روحه في محل النجوى، وبدنه على بساط العبادة.
وقيل: كل من نام على الطهارة يؤذن لروحه أن تطوف بالعرش وتسجد لله عز وجل قال تعالى: " وجعلنا نومكم سباتاً " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: شكا رجل إلى بعض المشايخ من كثرة النوم، فقال: اذهب فاشكر الله تعالى على العافية، فكم من مريض في شهوة غمضة من النوم الذي تشكو منه.
وقيل: لا شيء أشدعلى إبليس من نوم العاصي؛ يقول: متى ينتبه ويقوم حتى يعصي الله!! وقيل: أحسن أحوال العاصي أن ينام: إن لم يكن الوقت له لم يكن عليه.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: توعد شاه الكرماني السهر، فغلبه النوم مرة، فرأى الحق، سبحانه، في النوم، فكان يتكلف النوم بعد ذلك، فقيل له في ذلك؛ فقال:
رأيت سرور قلبي في منامي ... فأحببت التنعُّس والمناما
وقيل: كان رجل له تلميذان، فأختلفا فيما بينهما، فقال أحدهما: النوم خير، لأن الإنسان لا يعصى الله في تلك الحالة. وقال الآخر: اليقظة خير، لأنه يعرف الله تعالى في تلك الحالة.
فتحاكما إلى ذلك الشيخ فقال: أما أنت الذي قلت بتفضيل النوم فالموت خير لك من الحياة، وأما أنت الذي قلت بتفضيل اليقظة، فالحياة خيرٌ لك من الموت.
وقيل: اشترى رجل مملوكة، فلما دخل الليل قال: افرشي الفراش. فقالت المملوكة: يا مولاي، ألك مولى؟ قال: نعم، فقالت: ينام مولاك؟ فقال: لا. قالت: ألا تستحي أن تنام ومولاك لا ينام!! وقيل: قالت بنية لسعيد بن جبير: لم لا تنام؟ فقال: إن جهنم لا تدعني أن أنام.
وقيل: قالت بنت لمالك بن دينار: لم لا تنام؟ فقال: إن أباك يخاف البيات.
وقيل: لما مات الربيع بن خيثم قالت بنية لأبيه: الأسطوانة التي كانت في دار جارنا أين ذهبت؟ فقال: إنه كان جارنا الصالح يقوم من أول الليل إلى آخره؛ فتوهمت البنية أنه كان سارية؛ لأنها كانت لا تصعد السطح إلا بالليل فنجده قائماً.
وقال بعضهم: في النوم معان ليست في اليقظة؛ منها أنه يرى المصطفى، صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والسلف الماضيين في النوم، ولا يراهم في اليقظة وكذلك يرى الحق في النوم، وهذه مزية عظيمة.
وقيل: رأى أبو بكر الآجري الحق، سبحانه. في النوم، فقال له: سل حاجتك. فقال اللهم اغفر لجميع عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا أولى بهذا منك، سل حاجتك.
وقال الكتاني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: من تزين للناس بشيء يعلم الله منه خلافه شأنه الله.
وقال الكتاني أيضاً: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة " يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت " فإن الله يحيي قلبك.
ورأى الحسن بن علي، رضي الله عنهما، عيسى بن مريم، في المنام، فقال: إني أريد أن اتخذ خاتماً، فما الذي أكتب عليه؟ فقال: اكتب عليه: " لا إله إلا الله، الملك الحق المبين " فإنه في آخر الأنجيل.
وروي عن أبي يزيد أنه قال: رأيت ربي عز وجل في المنام، فقلت. كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال.
وقيل: رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام، فقال: يا أحمد، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
وقال يحيى بن سعيد القطان: رأيت ربي في المنام فقلت: يا رب، كم أدعوك فلا تستجيب لي!! فقال تعالى: يا يحيى ني أحب أن أسمع صوتك.
وقال بشر بن الحارث: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه في المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء طلباً لثواب الله تعالى، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الآغنياء ثقة بالله تعالى، فقلت له: يا أمير المؤمنين: زدني، فقال:
قد كنت ميتاً فصرت حياً ... وعن قريب تصير ميتاً
عَزْ بدار الفناء بيت ... فابن بدار البقاء بيتاً

وقيل: رؤى سفيان الثوري في المنام؛ فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: رحمني، فقيل له: ما حال عبد الله بن المبارك؟ فقال: هو ممن يلج على ربه كل يوم مرتين.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: رأى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي في المنام، وكان الزجاجي يقول بوعيد الأبد، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال الزجاجي: الأمر هاهنا أسهل مما كنا نظنه!! ورؤي الحسن بن عاصم الشيباني في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ما يكون من الكريم إلا الكرم.
ورؤي بعضهم في المنام فسئل عن حاله، فقال:
حاسبونا فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا
ورؤي حبيب العجمي في المنام، فقيل له: متَّ يا حبيبي العجمي؟! فقال هيهات.. ذهبت العجمة وبقيت في النعمة.
وقيل: دخل الحسن البصري مسجداً ليصلي فيه المقرب، فوجد إمامهم حبيباً العجمي، فلم يصل خلفه. لأنه خاف أن يلحن العجمة في لسانه، فرأى في المنام تلك الليلة قائلاً يقول له: لِم لَم تصل خلفه؟ لو صليت خلفه لغفر لك ما تقدم من ذنبك.
ورؤي مالك بن أنس في المنام. فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بكلمة كان يقولها عثمان بن عفان رضي الله عنه عند رؤية الجنازة: " سبحان الحيّ الذي لا يموت " .
ورؤي في الليلة التي مات فيها الحسن البصري كأن أبواب السماء مفتحة.. وكأن منادياً ينادي: ألا إن الحسن البصري قدم على الله تعالى وهو عنه راض.
سمعت أبا بكر بن أشكيب يقول: رأيت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي في المنام على حالة حسنة فقتل: يا أستاذ، بم وجدت هذا؟ فقال: يحسن ظني بربي: وقيل: رؤي الجاحظ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال:
فلا تكتب بخطك غير شيء ... بسرّك في القيامة أن تراه
وقيل: رأيت الجنيدُ إبليس في منامه عرياناً، فقال له: ألا تستحي من الناس؟ فقال: هؤلاء لا ناس، إنما الناس أقوام في مسجد الشونزية أضنوا جسدي وأحرقوا كبدي، قال الجنيد: فلما انتبهت غدوت إلى المسجد فرأيت جماعة وضعوا رؤوسهم على ركبهم متفكرين، فلما رأوني قالوا: لا يغرنك حديث الخبيث.
ورؤي النصراباذي بمكة بعد وفاته في النوم، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك: فقال: عوتبت عتاب الأشراف، ثم نوديت: يا أبا القاسم، أبعد الاتصال انفصال؟ فقلت: لا ياذا الجلال، فما وضعت في اللحد حتى لحقت بالأحد.
ورؤى ذو النون المصري في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: كنت أسأله ثلاث حوائج في الدنيا، فاعطاني البعض، وأرجو أن يعطيني الباقي؛ كنت أسأله أن يعطيني من العشرة التي على يد رضوان واحدة، ويعطيني بنفسه، وأن يعذبني عن الواحدة التي بيد مالك بعشرة ويتولى هو، وأن يرزقني أن أذكره بلسان الأبدية.
وقيل: رؤى الشبلي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: لم يطالبني بالبراهين على الدعاوي إلا على شيء واحد، قلت يوماً: لا خسارة أعظم من خسران الجنة، ودخول النار، فقال لي: وأي خسارة أعظم من خسران لقائي!! سمعت الأستاذ أبا علي يقول: رأى الجريري الجنيد في المنام. فقال: كيف حالك يا أبا القاسم؟ فقال: طاحت تلك الإشارات، وبادت تلك العبارات، ومانفعنا إلا تسبيحات كنا نقولها بالغداوات. وقال التباجي: تشهيت يوماً شيئاً، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول: أيجمل بالحرِّ المريد أن يتذلل للعبيد، وهو يجد من مولاه ما يريد؟! وقال ابن الجلاء: دخلت المدينة وبي فاقة، فتقدمت إلى القبر، وقلت أنا ضيفك يا نبي الله.. فغفوت غفوة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في نومي وقد أعطاني رغيفاً فأكلت نصفه وانتبهت وبيدي النصف الآخر.
وقال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: زوروا ابن عون؛ فإنه يحب الله ورسوله.
وقيل: رأى عتبة الغلامُ حوراء في المنام علي صورة حسنة، فقالت له: يا عتبة، أنا لك عاشقة، فانظر أن لا تعمل من الأعمال شيئاً يحال بيني وبينك، فقال لها عتبة: طلقت الدنيا ثلاثاً لا رجعة لي عليها. حتى ألقاك.

سمعت منصوراً المغربي يقول: رأيت شيخاً في بلاد الشام كبير الشأن، وكان الغالب عليه الانقباضُ، فقيل لي: رأيت شيخاً في بلاد الشام كبير الشأن وكان الغالب عليه الانقباضُ، فقيل لي: إن أردت أن ينبسط هذا الشيخ معك فسلم عليه وقل له: رزقك الله الحور العين؛ فإنه يرضى منك بهذا الدعاء. فسألت عن سببه، فقيل: إنه رأى شيئاً من الحور في منامه. فبقي في قلبه شيء من ذلك، فمضيب وسلمت عليه، وقلت: رزقك الله الحور العين، فانبسط الشيخ معي.
وقيل: رأى أيوب السختياني جنازة عاص، فدخل دهليزاً؛ لئك يحتاج إلى الصلاة عليها فرأى بعضهم الميت في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. وقال لي قل لأيوب السختياني " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق " .
وقيل: رؤي الليلة التي مات فيها مالك بن دينار كأن أبواب السماء قد فتحت، وقائلاً يقول: ألا إن مالك بن دينار أصبح من سكان الجنة.
وقال بعضهم: رأيت الليلة التي مات فيها داود الطائي نوراً، وملائكة صعوداً وملائكة نزولاً، فقلت: أي ليلة هذه؟ فقالوا: ليلة مات فيها داود الطائي وقد زخرفت الجنة لقدوم روحه على أهلها.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم القشيري: رأيت الأستاذ أبا عليّ الدقاق في المنام، فقلت له: ما فعل بك؛ فقال: ليس للمغفرة هاهنا كبير خطر، أقل من حضر هاهنا خطراً " فلان " أعيى كذا كذا.
ووقع لي في المنام أن ذلك الإنسان الذي ناه قتل نفساً بغير حق.
وقيل: لما مات كرز بن وبرة رؤي في المنام كأن أهل القبور خرجوا من قبورهم وعليهم ثياب جدد بيض قيل: ما هذا؟ قيل: إن أهل القبور كسوا ثياباً جدداً لقدوم كرز بن وبرة عليهم.
ورؤي يوسف بن الحسين في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل له: بماذا؟ فقال: لأني ما خلطت جداً بهزل قط.
ورؤي أبو عبد الله الزرّاد في المنام، فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال: أوقفني، وغفر لي كلَّ ذنب أقررت به في الدنيا، إلا واحداً استحييت أن اقر به، فوقفني في العرق، حتى سقط لحم وجهي!! فقيل له: وما ذاك؟ فقال: نظرت يوماً إلى شخص جميل؛ فاستحييت أن أذكره.
سمعت أبا سعيد الشحام يقول: رأيت الشيخ الإمام أبا الطيب سهلاً الصعلوكي في المنام، فقلت له: أيها الشيخ، فقال: دع الشيخ!! فقلت: وتلك الأحوال التي شاهدتها؟! فقال: لم تغن عنا شيئاً، فقلت: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال غفر لي مسائل كانت تسأل عنها العُجُز فأجبتهم عنها.
سمعت أبا بكر الرشيدي الفقيه يقول: رأيت محمداً الطوسي المعلم في المنام، فقال لي: قل لأبي سعيد الصفار المؤدب:
وكنا على أن لا نخول عن الهوى ... فقد، وحياة الحب حلتم، وما حِلنا
تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا ... وأظهرتمُ الهجران، ما هكذا كنا!!
لعل الذي يقضي الأمور بعلمه ... سيجمعنا بعد الممات كما كنا
قال: فانتبهت. وقلت ذلك لأبي سعيد الصفار، فقال: كنت أزرو قبره كل يوم جمعة، فلم أزره هذه الجمعة.
وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله جماعتة من الفقراء، فبينما هو كذلك إذ نزل من السماء ملكان، وبيد أحدهما وطئت، وبيد الآخر إبريق؛ فوضع الطست بين يدي رسول الله على الله عليه وسلمن فغسل يده، ثم أمر الملكين حتى غسلوا أيديهم، تم وضع الطست بين يدين فقال أحدهما للأخر: لا تصب على يده؛ فإنه ليس منهم، فقلت يا رسول الله، اليس قد روى عنك أنك قلت " المصع من أحب " ؟ فقال: بلى، فقلت وأنا أحبك، وأحبُّ هؤلاء الفقراء، فقال صلى الله عليه وسلم: " صب على يده، فإنهم منهم "

وحكي عن بعضهم أنه كان يقول: أبداً: العافية.. العافية، فقيل له: ما معنى هذا الدعاء؟ فقال: كنت حمالاً في ابتداء أمري، وكنت حملت يوماً صدراً من الدقيق، فوضعته لاستريح، فكنت أقول: يا رب، ولو أعطيتني كل يوم رغيفين من غير تعب لكنت أكتفي بهما، فإذا رجلان يختصمان. فتقدمت أصلح بينهما: فضرب أحدهما رأسي بشيء أراد أن يضرب به خصمه، فدمي وحبي.. فجاء صاحب " الربع " فأخذهما، فلما رآني ملوثاً بالدم أخذني وظني أنني ممن تشاجر. فأدخلني السجن، وبقيت في السجن مدّه أوتي كل يوم برغيفين، فرأيت ليلة في المنام قائلاً يقول لي: إنك سألت الرغيفين كل يوم من غير نصب، ولم تسال العافية!! فأعطك ما سألت. فانتبهت، وقلت العافية. العافية، فرأيت باب السجن يُقرع، وقيل: أين عمر الحمال؟ فأطلقوني وخلوا سبيلي.
وحكي عن الكتاني أنه قال: كان عندنا رجل من أصحابنا هاجت عينه، فقيل له: ألا تعالجها؟ فقال: عزمت على أن لا أعالجها حتى تبرأ، قال: فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول: لو كان هذا العزم على أهل النار كلهم، لأخرجناهم من النار.
وحكي عن الجنيد أنه قال: رأيت في المنام كأني أتكلم على الناس.. فوقف عليّ ملكٌ. فقال: أقرب ما تقرّب به المتقربون إلى الله ماذا؟ فقلت: عملٌ خفيّ بميزانٍ وفيّ. قال: فولى الملك عني، وهو يقول: كلام موفق والله.
وقال رجل للعلاء بن زياد: رأيت في المنام كأنك من أهل الجنة. فقال: لهل الشيطان أراد أمراً فعصمت منه، فأشخص إليّ رجلا يعينه على مقصوده من إضلالي.
وقيل رؤي عطاء السلمي في النوم، فقيل له: لقد كنت طويل الحزن، فما فعل الله تعالى بك؟ فقال: أما والله لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحاً دائماً، فقيل له: ففي أي الدرجات أنت؟ فقال: " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.. " الآية.
وقيل: رؤيا الأوزاعي في المنام، فقال: ما رأيت ها هنا درجة أرفع من درجة العلماء، ثم المحزونين.
وقال النباجي: قيل لي في المنام: من وثق بالله في رزقه زيد في حسن خلقه، وسمحت نفسه في نفقته، وقلت وساوسه في صلاته.
وقيل: رؤيت زبيدة في المنام، فقيل لها: ما فعل الله تعالى بك؟ فقالت غفر لي، فقيل: بكثرة نفقتك في طريق مكة؟ فقالت: لا، أما إنًّ أجرها عاد إلى أربابها، ولكن غفر لي بنيًّتي.
ورؤي سفيان الثوري في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: وضعت أول قدميّ على الصراط، والثاني في الجنة.
وقال أحمد بن أبي الحواري: رأيت في النوم جارية ما رأيت أحسن منها، يتلألأ وجهها نوراً، فقلت: ما أنور وجهك، فقالت: تذكر الليلة التي بكيت فيها؟ فقلت: نعم، فقالت: حملت إليّ دمعتك فمسحت بها وجهي، فصار وجهي هكذا.
وقيل: رأى يزيد القرشي النبي صلى الله عيه وسلم في المنام، فقرأ عليه، فقال له: هذه القراءة فأين البكاء؟! وقال الجنيد: رأيت في المنام كأن ملكين نزلا من السماء، فقال أحدهما لي: ما الصدق؟ فقلت: الوفاء بالعهد، فقال الآخر: صدق، ثم صعدا.
ورؤي بشر الحافي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وقال: أما استحييت يا بشر مني، كنت تخافني كلّ ذلك الخوف!! وقيل: رؤي أبو سليمان الداراني في المنام، فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وما كان شيء أضرَّ عليِّمن إشارات القوم!! وقال علي بن الموفق: كنت أفكر يوماً في سبب عيالي من الفقر الذي بهم، فرأيت في المنام رقعة فيها مكتوب " بسم الله الرحمن الرحيم: يا ابن الموفق، أتخشى الفقر وأنا ربُّك!! " فلما كان وقت الغلس أتاني رجل بكيس فيه خمسة آلاف دينار، وقال: خذها إليك يا ضعيف اليقين.
وقال الجنيد: رأيت في المنام كأني واقف بين يدي الله تعالى فقال لي: يا أبا القاسم: من أين لك هذا الكلام الذي تقول؟ فقلت: لا أقول إلا حقّا، فقال: صدقت.
وقال أبو بكر الكتاني: رأيت في المنام شاباً لم أر أحسن منه، فقلت: من أنت؟ فقال: التقوى، قلت: فأين تسكن؟ قال: في قلب كل حزين، ثم التفت فإذا امرأة سوداء كأوحش ما يكون، فقلت: من أنت؟ فقالت: الضحك، فقلت: وأين تسكنين؟ فقالت في كل قلب فرح. مرح. قال: فانتبهت، واعتقدت أن لا أضحك إلا غلبة.

وحكي عن أبي عبد الله بن خفيف أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه قال لي: من عرف طريقاً إلى الله تعالى سلكه، ثم رجع عنه عذبه الله عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين.
ورؤي الشبلي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ناقشني حتى أيست، فلما رأى يأسي تغمدني برحمته.
وقال أبو عثمان المغربي: رأيت في النوم كأن قائلا يقول لي: يا أبا عثمان، اتق الله في الفقر، ولو بقدر سمسمة.
وقيل: كان لأبي سعيد الخراز ابن مات قبله، فرآه في المنام، فقال له: يا بني، أوصني.
فقال: يا أبت، لا تعامل الله على الجبن، فقال: يا بني، زدني.
فقال: لا تخالف الله تعالى فيما يطالبك به، فقال: زدني.
فقال: لا تجعل بينك وبين الله قميصاً قال؛ فما لبس القميص ثلاثين سنة.
وقيل: كان بعضهم يقول في دعائه: اللهم الذي لا يضرك وينفعنا لا تمنعه عنا، فرأى في المنام كأنه قيل له: وأنت. فالشيء الذي يضرك ولا ينفعك فدعه.
وحكي عن أبي الفضل الأصبهاني أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله سل الله أن لا يسلبني الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك شيء قد فرغ الله تعالى منه. وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: رأيت إبليس في المنام، فأخذت عصاي لأضربه، فقيل لي: إنه لا يفزع من هذا، إنما يفزع من يكون في القلب.
وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في النوم تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمّرة بمناديل من نور.
ويروى عن سماك بن حرب أنه قال: كف ّبصري، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول لي: إئت الفرت، فانغمس فيه، وافتح عينيك، قال: ففعلت، فأبصرت.
وقيل: رؤي بشر الحافي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لما رأيت ربي عزوجل قال لي: مرحباً يا بشر، لقد توفيتك يوم توفيتك، وما على الأرض أحبّ إليّ منك.

باب الوصية للمريدين

قال الأستاذ الإمام: لما اثبتنا طرفاً من سير القوم، وضممنا إلى ذلك أبواباً من المقامات، أردناأن نختم هذا الرسالة بوصية للمريدين، نرجو من الله تعالى حسن توفيقهم لاستعمالها، وأن لا يحرمنا القيام بها، وأن لا يجعلها - سبحانه - حجة علينا.
فول قدم للمريد في هذه الطريقة ينبغي أن يكون على الصدق، ليصح له البناءُ على أصل صحيح؛ فإن الشيوخ قالوا: إنما حُرموا الوصول لتضييعهم الأصول..
كذلك سمعت الأستاذ أبا علي يقول؛ فتجب البداية بتصحيح اعتقاد بينه وبين الله تعالى، صاف عن الظنون والشبه، خال من الضلالة والبدع، صادر عن البراهين والحجج.
ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة.
وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين، سوى طريقة الصوفية، إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة؛ فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب.
والناس: إمَّا أصحاب النقل والأثر، وما أرباب العقل والفِكر.
وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة؛ فالذي للناس غيب، فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه، موجوج، فهم أهل الوصال، والناسً أهل الاستدلال.
وهم كما قال القائل:
ليلى بوجهك مشرق ... وظلامُه في الناس ساري
فالناس في سلدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار
ولم يكن عصر ن الأعصار في مدة الإسلام إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة، ممن له علوم التوحيد، وإمامة القوم إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء استسلموا لذلك الشيخ، وتواضعوا وتبركوا به..
ولولا مزية، وخصوصية لهم، وإلا كان الأمر بالعكس..
هذا أحمد بن حنبل كان عند الشافعي، رضي الله عنهما، فجاء شيبان الراعي فقال أحمد: أريد يا ابا عبد الله أن أُنبِّه هذا على نقصان علمه، ليشتغل بتحصيل بعض العلوم.
فقال الشافعي: لا تفعل!! فلم يقنع؛ فقال لشيبان: ما تقول فيمن نسي صلاة من خمس صلوات في اليوم والليلة، ولا يدري أي صلاة نسيها، ما الواجب عليه: يا شيبان؟! فقال شيبان: يا أحمد، هذا قلب غفل عن الله تعالى، فالواجب أن يؤدب حتى لا يغفل عن مولاه بعدُ!! فغشي على أحمد.. فلما أفاق، قال له الإمام الشافعي، رحمه الله: ألم أقل لك لا تحرك هذا!!

وشيبان الراعي كان أمياً منهم، فإذا كان حالُ الأمي منهم هكذا، فما الظنُّ بأئمتهم؟؟ وقد حكي أن فقيهاً من أكابر الفقهاء كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي في جامع المنصور، وكان يقال لذلك الفقيه أبو مران وكان تتعطل عليهم حلقتهم لكلام الشبلي.
فسأل اصحابُ أبي عمران يوماً الشبلي عن مسألة في الحيض، وقصدوا إخجال!! فذكر مقالات الناس في تلك المسألة، والخلاف فيها..
فقام أبو عمران وقبل رأس الشبليّ، وقال: يا أبا بكر، استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاثة أقاويل.
وقيل: اجتاز أبو العباس بن سريج الفقيه بمجلس الجنيد، رحمهما الله، فسمع كلامه، فقيل له: ما تقول في هذا الكلام؟ فقال: لا أدري ما يقول.. ولكني أرى لهذا الكلام صولة ليست بصولة مبطل.
وقيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب: أنت تتكلم على كلام كل أحد، وهاهنا رجل يقال له الجني، فانظر هل تعترض عليه أم لا؟ فحضر حلقته..
فسأل الجنيدَ عن التوحيد فأجابه، فتحيّر عبد الله وقال: أعد عليّ ما قلت؟.
فأعاده ولكن لا بتلك العبارة.
فقال له عبد الله: هذا شيء آخر لم أحفظ، تعيده عليّ مرة أخرى..
فأعاد بعبارة أخرى، فقال عبد الله: ليس يمكنني حفظ ما تقول!! أمْلِه علينا، فقال: إن كنت أجزته فأنا أمليه، فقام عبد الله، وقال بفضله، واعترف بعلوَ شأنه.
فإذا كان أصول هذه الطائفة أصحَّ الأصول، ومشايخُهم أكبرَ الناس، وعلماؤهم أعلمَ الناس، فالمريد الذي له إيمان بهم: إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقاصدهم فهو يساهمهم فيما خُصوا به من مكاشفات الغيب، فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة، وإن كان مريداً طريقةَ الاتباع وليس بمستقبل بحاله، يريد أن يعرج في أوطان التقليد إلى أن يصل إلى التحقيق فليقلد سلَفَه، وليجر على طريقة هذه الطبقة؛ فإنهم أولى به من غيرهم.
ولقد سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول: ما ظنك بعِلمَ عِلم العلماءُ فيه تهمة!! وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي بن محمد المخرمي يقول: سمعت محمد ابن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد يقول: لو علمت أن لله عِلْماً تحت أديم السماء اشرفُ من هذا العلم الذي نتكلم فيه ما أصحابنا وإخواننا لسعيت إليه، ولقصدته.
وإذا أحكم المريد بينه وبين الله عقده، فيجب أن يحصل من علم الشريعة، إما بالتحقيق، وإما بالسؤال عن الأئمة ما يؤدي به فَرْضَه، وإن اختلف عليه فتاوى الفقهاء يأخذُ بالأحوط، ويقصد الخروج من الخلاف، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال.
وهؤلاء الطائفة ليس لهم شغل سوى القيام بحقِّه سبحانه، ولهذا قيل: إذا انحظ الفقير عن درجة الحقيقة إلى رُخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله، ونقض عهده فيما بينه وبين الله تعالى.
ثم يجب على المريد أن يتأدَّب بشيخ؛ فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً.
هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان.
وسمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غراس فإنها تورق، ولكن لا تُثمر؛ كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفساً نفساً فهو عابد هواه، لا يجد نفاذاً.
ثم إذا أراد السلوكَ فبعد هذه الجملة يجب أن يتوب إلى الله سبحانه من كل زلة؛ فيدع جميع الزلات: سرها وجهرها، صغيرها وكبيرها، ويجتهد في إرضاء الخصوم أولاً، ولم يُرض خصومَه، لا يفتح له من هذه الطريقة بشيء.
وعلى هذا النحو جروا، ثم بعد هذا يعمل في حذف العلائق والشواغل؛ فإن بناء هذا الطريق على فارغ القلب.
وكان الشبلي يقول للحصري في ابتداء أمره: إن خطر ببالك من الجمعة إلى الجمعة الثانية التي تأتيني فيها غيرَ الله تعالى فحرام عليك أن تحضرني.
وإذا أراد الخروج عن العلائق فأولها: الخروج عن المال؛ فإن ذلك الذي يميل به عن الحق، ولم يوجد مريدٌ دخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج، فإذا خرج عن المال، فالواجب عليه الخروجُ عن الجاه، فإن ملاحظة حب الجاه مقطعة عظيمة.

وما لم يستو عند المريد قبول الخلق وردهم لا يجيء منه شيء، بل اضرُّ الأشياء له ملاحظة الناس إياه بعين الإثبات والتبرُّك به لإفلاس الناس عن هذا الحديث، وهو بعد لم يصحح الإرادة، فكيف يصح أن يتبرك به؟! فخروجهم من الجاه واجب عليهم؛ لأن ذلك سم قاتل لهم، فإذا خرج عن ماله وجاهه فيجب أن يصحح عقده بينه وبين الله تعالى، وأن لا يخالف شيخه في كلِّ ما يشير عليه: لأن الخلاف للمريد في ابتداء امره عظيم الضرر؛ لأن ابتداء حاله دليل على جميع عمره.
ومن شرطه: أن لا يكون له بقلبه اعتراض على شيخه، فإذا خطر ببال المريد أن له في الدنيا والآخرة قدراً أو قيمة، أو على بسيط الأرض أحد دونه لم يصح له في الإرادة قدم، لأنه يجب أن يجتهد، ليعرف ربه، لا ليحصل لنفسه قدراً.
وفرق بين من يريد الله تعالى وبين من يريد جاه نفسه، إما عاجله وإما، آجله، ثم يجب عليه حفظ سره حى عن زِره إلا عن شيخه، ولو كنتم نفساً من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في حق صحبته، ولو وقعت له مخالفة فيما شار علي شيخه، فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت، ثم يستسلم لما يحكم به عليه شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته، إما بسفر يُكلفه، أو أمر ما يراه.
ولا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى، وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخ أن يلقنه شيئاً من الأذكار، بل يجب أن يقدم التجربة له، فإذ شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحيئذ يشترط عليه أن يرضي بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء، فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضرر والذل، والفقر والأسقام والآلام، وأن لا ينجح بقلبه إلى السهولة، ولا يترخص عند هجوم الفاقات وحصول الضرورات، ولا يؤثر الدعة، ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شر من فترته.
والفرق بين الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها، والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل.
وكان مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء.
فإذا جر به شيخه، فيجب عليه أن يلقنه ذكراً من الأذكار على ما يراه شيخه فيأمره أن يذكر ذلك الاسم بلسانه، ثم يأمره أن يستوي قلبه مع لسانه، فيقول له: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبداً بقلبك، ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك ثم يأمره أن يكون أبداً في الظاهر على الطهارة، وأن لا يكون نومه إلا غلبة، وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء حتى يقوى على ذلك، ولا يأمره أن يترك عادته بمرة، فإن في الخبر: " إنَّ المنبتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " .
ثم يأمره بإيثار الخلوة والعزلة، ويجعل اجتهاده في هذه الحالة لا محالة في نفي الخواطر الدنية والهواجس الشاغلة للقلب.
واعلم، أن في هذه الحالة قلما يخلوا المريد في أوان خلوته في ابتداء إرادته من الوساوس في الاعتقاد، لا سيما إذا كان في المري كياسة قلب، وقلَّ مريدٌ لا تستقبله هذه الحالة في ابتداء إرادته.
وهذه من الامتحانات التي تستقبل المريدين، فالواجب على شيخه إن رأى فيه كياسة، أن يحيله على الحجج العقلية، فإن بالعلم يتخلص لا محالة المتعرف مما يعتريه من الوساوس.
وإن تفرس شيخه فيه القوة والثبات في الطريقة أمره بالصبر واستدامة الذكر حتى تسطع في قلبه أنوار القبول، وتطلع في سره شموس الوصول، وعن قريب يكون ذلك.
ولكن لا يكون هذا إلا لأفراد المريدين، فأما الغالب فأن تكون معالجتهم بالرد إلى النظر، وتأمل الآيات بشرط تحصيل علم الأصول على قدر الحاجة الداعية للمريد.
واعلم أنه يكون للمريدين على الخصوص بلايا من هذا الباب، وذلك أنهم إذا خلوا في مواضع ذكرهم، أن يكونوا في مجالس سماع، أو غير ذلك فيهجس في نفسه ويخطر، ببالهم أشياء منكرة، يتحققون أن الله، سبحانه، منزه عن ذلك، وليس تعتريهم شبهة في أن ذلك باطل، ولكن يدوم ذلك، فيشتد تأذيهم به، حتى يبلغ ذلك حداً يكون أصعب شتم وأقبح قول وأشنع خاطر، بحيث لا يمكن للمريد إجراء ذلك على اللسان، وإبداؤ لأحد، وهذا أشد شيء يقع لهم.
فالواجب عند هذا ترك مبالاتهم بتك الخواطر، واستدامة الذكر، والابتهال إلى الله باستدفاع ذلك.

وتلك الخواطر ليست من وساوس الشيطان، وإنما هي من هواجس النفس، فإذا قابلها للعبد بترك المبالاة بها ينقطع ذلك عنه.
ومن آداب المريد، بل من فرائض حاله، أن يلازم موضع إرادته، وأن لا يسافر قبل أن تقبله الطريق، وقبل الوصول بالقلب إلى الرب، فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل، ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته.
وإذا أراد الله بمريد خيراً ثبته في اول رادته، وإذا أراد الله بمريد شراً رَده إلى ما خرج عنه من حرفته أو حالته، وإذا أراد الله بمريد محنة شرَّده في مطارح غربته.
هذا إذا كان المريد يصلح للوصول: فأما إذا كان شاباً طريقته الخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء، وهو دونهم في هذه الطريقة رتبة، فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر، فينقطعون في الأسفار. وغية نصيبهم من هذه الطريقة حِجَّات يحصلونها، وزيارات لموضع يُرتحل إليه، ولقاء شيوخ بظاهر سلام، فيشاهدون الظواهر، ويكتفون بما في هذا الباب من السير، فهؤلاء الواجب لهم دوام السفر، حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة كان في معرض الفتنة.
وإذا توسط المريد جمع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جداً، فإن امتحن واحد بذلك فليكن سبيله احترام الشيوخ، والخدمة للأصحاب، وترك الخلاف عليهم،والقيام بما فيه راحة الفقير، والجهد في أن لايستوحش منه قلب شيخ.
ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبداً خصمهم على نفسه، ولا يكون خصم نفسه عليهم، ويرى لكل واحد منهم عليه حقاً واجباً، ولا يرى لنفسه واجباً على أحد.
ويجب أن لا يخالف المريد أحداً، وإن علم أن الحق معه يسكت، ويُظهر الوفاق لكل أحد.
وكل مريد يكون فيه ضحك ولجاج ومماراة فإنه لا يجيى منه شيء!! وإذا كان المريد في جمع من الفقراء، إما في سفر أو حضر، فينبغي أن لا يخالفهم في الظاهر، لا في أكل ولا صوم ولا سكون ولا حركة، بل يخالفهم بسره وقلبه، فيحفظ قلبه مع الله عزَّ وجلَّ، وإذا أشاروا عليه بالأكل، مثلاً، يأكل لقمة أو لقمتين، ولا يعطى نفس شهوتها.
وليس من آداب المريدين كثرة الأوراد في الظاهر، فإن القوم في مكابدة إخلاء خواطرهم، ومعالجة أخلاقهم، ونفى الغفلة عن قلوبهم، لا في تكثير أعمال البر. والذي لابد لهم منه إقامة الفرائض والسنن الراتبة.
فأما الزيادة من الصلوات النافلة فاستدامة الذكر بالقلب أتم لهم.
ورأس مال المريد: الاحتمال عن كل أحد، بطيبة النفس، وتلقي ما يستقبله بالرضا، والصبر على الضر والفقر، وترك السؤال والعارضة في القليل ولكثير فيما هو حظ له.
ومن لم يصبر على ذلك فليدخل السوق، فإن من اشتهى من يشتهيه الناس، فالواجب أن يحصل شهوته من حيث يحصلها الناس: من كد اليمين، وعرق الجبين...
وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لم يجده قبله إما في النوم وإما في اليقظة، أو بين اليقظ. والنوم من خطاب يًسمْع، أو معنى يُشاهد مما يكون نقضاً للعادة، فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة، ولا يسكن إليه، ولا ينبغي له أن ينتظر حصول أمثال ذلك، فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه.
ولابد له في هذه الأحوال من وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه فارغاً عن ذلك.
ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره، فيكتم عن غيره أمره، ويصغر ذلك في عينه، فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر، فليحظر المريد عن ذلك، وعن ملاحظتها، وليجعل همته فوق ذلك.
واعلم أن أضر الأشياء بالمريد: استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له، ومنته عليه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك، فإنه لو قال بترك هذا فعن قريب سيختطف عن ذلك مما يبدو له من مكاشفات الحقيقة.
وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعذر.
ومن أكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين، ثم يقيم عليه، ولا يبرح عن سدّته إلى وقت الإذن.
واعلم أن تقديم معرفة رب البيت - سبحانه - على زيارة البيت واجب، فلولا معرفة رب البيت ما وجبت زيارة البيت، والشبان الذين يخرجون إلى الحج ثم زيارة البيت من هؤلاء القوم من غير إشارة إلى الشيوخ فهي بدلالات نشاط النفوس، فهم متوسمون بهذه الطريقة، وليس سفرهم على أصل.

والذي يدل على ذلك: أنه لا يزداد سفرهم إلا وتزداد تفرقة قلوبهم، فلو أنهم ارتحلوا من عند أنفسهم بخطوة لكان أحظة لهم من ألف سفرة.
ومن شرط المريد إذا زار شخصاً أن يدخل عليه بالحرمة، وينظر إليه بالحشمة، فإن أهله الشيخ لشيء من الخدمة عدّ ذلك من جزيل النعمة.

فصل

عصمة المشايخ

ولا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة بل الواجب أن يذوهم وأحوالهم؛ فيحسن بهم الظن ويراعى مع الله تعالى حده فيما يتوجه عليه من الأمر.
والعلم كافية في التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول.
فصل

ما بقي في قلب المريد من الدنيا

وكلُّ مريد بقي في قلبه لشيء من عروض الدنيا مقدار وخطر قاسم الإرادة له مجاز.
وإذا بقي في قلبه اختيار فيما يخرج عنه من معلومه فيريد أن يخص به نوعاً من أنواع البرّ، أو شخصاً دون شخص، فهو متكلف في حاله، وبالخطر أن يعود سريعاً إلى الدنيا، لأن قصد المريد في حذف العلائق الخروجُ منها، لا السعي في أعلى البر.
وقبيح بالمريد أن يخرج من معلومه من رأس ماله، وقنيته، ثميكون أسير حرفة.
وينبغي أني ستوي عنده وجود ذلك وعدمه، حتى لا ينافر لأجله فقيراً، ولا يضايق به أحداً، ولو مجوسياً.
فصل

قبول قلوب المشايخ للمريد..

أصدق شاهد لسعادته

ومن رده قلب شيخُ من الشيوخ فلا محالة يرى غبّ ذلك، ولو بعد حين.
ومن خُذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته، وذلك لا يخطىء.
فصل

صحبة الأحداث

من أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله بشيء من ذلك فبإجماع الشيوخ: ذلك عبدٌ أهانه الله عزّ وجل وخذل، بل عن نفسه شغله، ولو بألف ألف كرامة أهله.
وهب أنه بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر تلويح بذلك، أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق!! وأصعب من ذلك: تهوين ذلك على القلوب، حتى يعد ذلك يسيراً، وقد قال الله تعالى: " وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " .
وهذا الواسطي رحمه الله، يقول: إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف.
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: سمعت فتحاً الموصلي يقول: صحبت ثلاثين شيخاً كانوا يعدون من الأبدال، كلهم أوصوني عند فراقي إياهم، وقالوا لي: اتق معاشرة الأحداث ومخالطتهم.
ومن ارتقى في هذا الباب عن حالة الفسق، وأشار إلى أن ذلك من بلاء الأرواح وأنه لا يضرّ، وما قالوه من وساوس القائلين بالشاهد، وإيراد حكايات عن بعض الشيوخ، لما كان الأولى بهم إسبال الستر عن هناتهم وآفاتهم، الصادرة منهم فذلك نظير الشرك وقرين الكفر.
فليحذر المريد من مجالسة الأحداث، ومخالطتهم؛ فإنه اليسير منه فتح باب الخذلان، وبدء حال الهجران. ونعوذ بالله من قضاء السوء.
فصل ومن آفات المريد

الحسد للإخوان

ما يتداخل النفس من خفيَّ الحسد للإخوان والتأثر بما يفرد الله عز وجل به أشكاله من هذه الطريقة، وحرمانه إياه ذلك.
وليعلم أن الأمور قِسَم، وإنما يتخلص العبد عن هذا باكفتائه بوجود الحق، وقدمه عن مقتضى جوده ونعمه.
فكل من رأيت أيها المريد قَدَم الحقُّ، سبحانه، رتبته فأحمل أنت غاشيته؛ فإن الظفراء من القاصدين على ذلك استمرت سنتهم.
فصل

إيثارُ الكل بالكل
من حق المريد إذا اتفق وقوعه في جمع إيثارُ الكل بالكل فيقدم الجائع والشبعان على نفسه، ويتلمذ لكل من أظهر عليه التشيخ، وإن كان هو أعلم منه، ولا يصل إلى ذلك إلا بتبريه عن حوله وقوته،وتوصله إلى ذلك بطول الحق ومنته.
فصل

آداب المريد في السماع

فالمريد لا يسلم له الحركة في السماع بالاختيار ألبتة؛ فإن ورد عليه وارد حركة لم يكن فيه فضل قوة فبمقدار الغلبة يعذر فإذا زالت الغلبة يجب عليه القعود والسكون، فإن استدام الحركة مستحلياً للوجد من غير غلبة وضرورة لم يصح، فإن تعود ذلك يبقى متخلفاً لا يكاشف بشيء من الحقائق، فغاية أحواله حينئذ أن يطيب قلبه.
وفي الجملة إن الحركة تأخذ من كل متحرك وتنقص من حاله، مريداً كان أو شيخاً، إلا أن تكون بإشارة من الوقت، أو غلبة تأخذه عن التمييز.

فإن كان مريداً أشار عليه الشيخ بالحركة فتحرك على إشارته فلا بأس إذا كان الشيخ ممن له حكم على أمثاله.
وأما إذا أشار عليه الفقراء بالمساعدة في الحركة فيساعدهم في القيام، وفي أداء مالا يجد منه بداً مما يراعى عن الاستيحاش لقلوبهم.
ثم إنّ صدقه في حاله يمنع قلوب الفقراء من سؤالهم عند المساعدة معهم.
وأما طرح الخِرقة فحق المريد أن لا يرجع في شيء منه ألبتة، اللهم إلا أن يشير عليه شيخ بالرجوع فيه، فيأخذه على نية العارية بقلبه، ثم يخرج عنه بعده من غير أن يستوحش قلب ذلك الشيخ.
وإذا وقع بين قوم عادتهم طرح الخرقة، وعلم أنهم يرجعون فيها، فإن لم يكن فيهم شيخ تجب حشمته وحرمته،وكان طريق هذا المريد أن لا يعود في الخرقة فالأحسن له أن يساعدهم في الطرح، ثم يؤثر به القوال إذا رجعوا هم فيها، ولو لم يطرح؛ فإنه يجوز إذا علم من عادة القوم أنهم يعودون فيما طرحوا فإن القبيح إنما هو سنتهم في العود إلى الخرق، لا في مخالفته لهم. على أن الأولى الطرح على الموفقة، ثم ترك الرجوع فيه.
ولا يسلم للمريد ألبتة التقاضي على القوال؛ لأن صدق حاله يحمل القوال على التكرار، ويحمل غيره على الاقتضاء.
ومن تبرك بمريد فقد جار عليه، لأنه يضره لقلة قوته، فالواجب على المريد ترك تربية الجاه عند من قال بتركه وإثباته.

فصل

إن ابتلي مريد بجاه

أو معلوم، أو صحبة حدث، أوميل إلى امرأة، أو استنامة إلى معلوم، وليس هناك شيخ يدله على حيلة يتخلص بها من ذلك، فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع، ليشوش على نفسه تلك الحالة.
ولا شيء أضر بقلوب المريدين من حصول الجاه لهم قبل خمود بشريتهم.
ومن آداب المريد: أن لا يسبق علمه في هذه الطريقة منازلته. فإنه إذا تعلم سير هذه الطائفة، وتكلف الوقوف على معرفة مسائلهم وأحوالهم قبل تحققه بها بالمنازلة والمعاملة بعد وصوله إلى هذه المعاني ولهذا قال المشايخ: إذا حدّث العارف عن المعارف، فجهَّلوه، فإن الاخبار عن لمنازل دون المعارف.
ومن غلب علمه منازلته فهو صاحب علم، لا صاحب سلوك.
فصل

آداب المريدين

أن لايتعرضوا للتصدر، وأن يكون لهم تلميذاً ومريداً فإن المريد ذا صار مراداً، قبل خمود بشريته وسقوط آفته، فهو محجوب عن الحقيقة، لا تنفع أحداً إشارته وتعليمه.
فصل إذا خدم المريد الفقراء فخواطر الفقراء أرسلهم إليه. فلا ينبغي أن يخالف المريد ما حكم به باطنه عليه من الخلوص في الخدمة، وبذل الوسع والطاقة.
فصل شأن المريد إذا كان طريقته خدمة الفقراء الصبر على جفاء القوم معه. وأن يعتقد أنه يبذل روحه في خدمتهم. ثم لا يحمدون له أثراً. فيعتذر إليهم من تقصيره. ويقر بالجناية على نفسه؛ تطبيقاً لقلوبهم.
وإن علم أنه بريء الساحة، وإذا زادوه في الجفاء، فيجب أن يزيدهم في الخدمة والبرّ.
سمع الإمام أبا بكر بن فورك يقول: إن في المثل: " إذا لم تصبر على المطرقة فلماذا كنت سنداناً " . وفي معناه أنشدوا:
ربما جثته لأسلفه العذر ... لبعض الذنوب قبل التجني
فصل حفظ آداب الشريعة بناء على هذا الأمر ومِلاكه على حفظ آداب الشريعة وصون اليد عن المدّ إلى الحرامُ والشبهة، وحفظ الحواس عن المحظورات، وعدّ الأنفاس مع الله تعالى عن الغفلات، وأن لا يستحل مثلاً سمسمة فيها شبهة في أوان الضرورات فكيف عند الاختيار، ووقت الراحات؟! ومن شأن المريد دوام المجاهدة في ترك الشهوات، فإن من وافق شهوته عدّم صفوته.
وأقبح الخصال بالمريد رجوعه إلى شهوة تركها لله تعالى.
فصل حفظ العهود مع الله تعالى من شأن المريد حفظ عهوده مع الله تعالى فإن نقض العهد في طريق الإرادة كالرِّدة عن الدين لأهل الظاهر.
ولا ينبغي للمريد أن يعاهد الله تعالى على شيء باختياره ما أمكنه، فإن في لوازم الشرع ما يستوفي منه كل وّسع: قال الله تعالى في صفة قوم: " ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها " .
فصل من شأن قصر الأمل فإن الفقير ابن وقته.
فإذا كان له تدبير في المستقبل، وتطلّع لغير ما هو فيه من الوقت، وأملٌ فيما يستأنفه لا يجيء منه شيء.
فصل

أن لا يكون له معلوم وإن قلّ من شأن المريد أن لا يكون له معلوم وإن قلّ ولا سيما إذا كان بين الفقراء؛ فإن ظلمة المعلوم تطفىء نور الوقت.
فصل ترك قبول رفق النسوان من شأن المريد، بل من طريقة سالكي هذا المذهب: ترك قبول رفق النسوان، فكيف التعرَّض لاستجلاب ذلك؟! وعلى هذا درج شيوخهم، وبذلك نفذت وصاياهم.
ومن استصغر هذا، فعن قريب يلقي ما يفتضح فيه.
فصل التباعد عن أبناء الدنيا من شأن المريد: التباعد عن أبناء الدنيا.
فإنَََّ صحبتهم سمٌّ مجرب!! لأنهم ينتفعون به وهو ينتقض بهم، قال الله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " .
وأنّ الزّهاد يخرجون المال عن الكيس تقرُّباً إلى الله تعالى، وأهل الصفاء يخرجون الخلق والمعارف تحققاً بالله تعالى.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، رضي الله تعالى عنه: فهذه وصيتنا إلى المريدين، نسأل الله الكريم لهم التوفيق، وأن لا يجعلها وبالاً علينا.
وقد نجز لنا إملاء هذه الرسالة في أوائل سنة: ثمان وثلاثين وأربعمائة، نسأل الله الكريم أن لا يجعلها حجة علينا ووبالاً، بل تكون لنا وسيلة ونوالاً، إنّ الفضل منه مألوف، وهو بالعفو موصوف.
والحمد لله حقّ حمده، وصلواته، وبركاته، ورحمته على رسوله سيدنا النبيّ الأمي وآله الطاهرين، صحبة الكرام المنتخبين، وسلم تسليماً كثيراً.


أقسام الكتاب
1 2