كتاب : الروح 
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

لقالوا ذلك وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار
التاسع أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فأنى يؤفكون أي فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم وهذا كثير في القرآن فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله تعالى أفي الله شك فاطر السموات والأرض فالله تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم ولا أقام به عليهم حجة
العاشر أنه جعل هذا آيه وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول وهذا شأن آيات الرب تعالى فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به فقال تعالى وكذلك نفصل الآيات أي مثل هذا التفصيل والتبيين نفصل الآيات لعلهم يرجعون من الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإيمان وهذه الآيات التي فصلها هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته وهي آيات أفقية وحسية آيات في نفوسهم وذواتهم وخلقهم وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدق رسله وعلى المعاد والقيامة ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه وأنه مربوب مخلوق مصنوع حادث بعد أن لم يكن ومحال أن يكون حدث بلا محدث أو يكون هو المحدث لنفسه فلا بد له من موجد أو جده ليس كمثله شيء وهذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها ليست بمكتسبة وهذه الآية وهي قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم مطابقة لقول النبي كل مولود يولد على الفطرة ولقوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه
ومن المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري ومنهم من يذكر إلا القول الأول فقط ومنهم من حكى القولين كابن الجوزى والواحدي والماوردى وغيرهم
قال الحسن بن يحيى الجرجاني فإن اعتراض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي أنه قال أن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره وقال إن هذا مانع من جواز التأويل الذي ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر

إن كان أخذ الميثاق عليه بعد البلوغ وتمام العقل قيل له أن معنى ثم ردهم في ظهره ثم يردهم في ظهره كما قلنا إن معنى أخذ ربك يأخذ ربك فيكون معناه ثم يردهم في ظهره بوفاتهم لأنهم إذا ماتوا ردوا إلى الأرض للدفن وآدم خلق منها ورد فيها فإذا ردوا فيها فقد ردوا في آدم وفي ظهره إذ كان آدم خلق منها وفيها رد وبعض الشيء من الشيء وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرنا لأنه عز و جل قال وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ولم يذكر آدم في القصة إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم أولاده وفي الحديث أنه مسح ظهر آدم فلا يمكن رد ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذى ذكرناه
قال الجرجاني وأنا أقول ونحن إلى ما روى في الآية عن رسول الله وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أمثل وله أقبل وبه آنس والله ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى على أن بعض أصحابنا من أهل السنة قد ذكر في الرد على هذا القائل معنى يحتمل ويسوغ في النظم الجاري ومجاز العربية بسهولة وإمكان من غير تعسف ولا استكراه وهو أن يكون قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم مبتدأ خبر من الله عز و جل عما كان منه في أخذ العهد عليهم وإذ تقتضي جوابا يجعل جوابه قوله تعالى قالوا بلى وانقطع هذا الخبر بتمام قصته ثم ابتدأ عز و جل خبرا آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة فقالوا شهدنا يعني نشهد كما قلا الحطيئة
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
بمعنى يشهد الحطيئة يقول تعالى نشهد أنكم ستقولون يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي عما هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر ثم أضاف إليه خبرا آخر فقال أو تقولوا بمعنى وأن تقولوا لأن أو بمعنى واو النسق مثل قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا فتأويله ونشهد أن تقولوا يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أي أنهم أشركوا وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا فجرينا على مذاهبهم وافتدينا بهم فلا ذنب إذ كنا مقتدين بهم والذنب في ذلك لهم قولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون يدل على ذلك قولهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون أي حملهم إيانا على الشرك فتكون القصة الأولى خبرا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم والقصة الثانية خبر عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار
وقال فيما ادعاه المخالف أنه تفاوت فيما بين الكتاب والخبر لاختلاف ألفاظهما فيهما قولا يجب قبوله بالنظائر والعبر التي تأيد بها لمخالفته فقال إن الخبر عن رسول الله

إن الله مسح ظهر آدم أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكر الله تعالى في الكتاب بعضها ولم يذكر كلها ولو أخبر بسوى هذه الزيادة التي أخبر بما مما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما لم يضمنه الله كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت بل كان زيادة في الفائدة وكذلك الألفاظ إذا اختلفت في ذاتها كان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك تناقضا كما قال عز و جل في كتابه في خلق آدم فذكر مرة أنه خلق من تراب ومرة أنه خلق من حمأ مسنون ومرة من طين لازب ومرة من صلصال كالفخار فهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة أن الصلصال غير الحمأة والحمأة غير التراب إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال
فقوله سبحانه وتعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وقوله أن الله مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته معنى واحد في الأصل إلا أن قوله مسح ظهر آدم زيادة في الخبر عن الله عز و جل ومسحه عز و جل ظهر آدم واستخراج ذريته من مسح لظهور ذريته واستخراج ذرياتهم من ظهورهم كما ذكر تعالى لأنا قد علمنا أن جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه لكن لما كان الطبق الأول من صلبه ثم الثاني من صلب الأول ثم الثالث من صلب الثاني جاز أن ينسب ذلك كله إلى ظهر آدم لأنهم فرعه وهو أصلهم
وكما جاز أن يكون ما ذكر الله عز و جل أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم جاز أن يكون ما ذكر انه استخرجه من ظهر آدم من ظهور ذريته إذ الأصل والفرع شيء واحد وفيه أيضا أنه عز و جل لما أضاف الذرية إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال عز و جل فظلت أعناقهم لها خاضعين والخبر في الظاهر عن الأعناق والنعت للأسماء المكنية فيها وهو مضاف إليها كما كان آدم مضافا إليه هناك وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخبر ولا يحتمل أن يكون قوله خاضعين للأعناق لأن وجه جمعها خاضعات ومنه قول الشاعر
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم فالصدر المذكر وقوله شرقت أنث لاضافة الصدر الى القناة

فصل فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية وعلى كل تقدير فلا
تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم ثم ردهم إلى أصلهم أن صح الخبر بذلك والذي صح إنما هو إثبات القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد وأما استدلال أبى محمد بن حزم بقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فما أليق هذا الاستدلال بظاهريته لترتيب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا والخطاب للجملة المركبة من البدن والروح وذلك متأخر عن خلق آدم ولهذا قال ابن عباس ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم لذريته ومثال هذا ما قاله مجاهد خلقناكم يعني آدم وصورناكم في ظهر آدم وإنما قال خلقناكم بلفظ الجمع وهو يريد آدم كما تقول ضربناكم وإنما ضربت سيدهم
واختار أبو عبيد في هذه الآية قول مجاهد لقوله تعالى بعد ثم قلنا للملائكة اسجدوا وكان قوله تعالى للملائكة اسجدوا قبل خلق ذرية آدم وتصويرهم في الأرحام وثم توجب التراخي والترتيب فمن جعل الخلق والتصوير في هذه الآية لأولاد آدم في الأرحام يكون قد راعى حكم ثم في الترتيب إلا أن يأخذ بقول الأخفش فإنه يقول ثم ها هنا في معنى الواو قال الزجاج وهذا خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه قال أبو عبيد وقد بينه مجاهد حين قال إن الله تعالى خلق ولد آدم وصورهم في ظهره ثم أمر بعد ذلك بالسجود قال وهذا بين في الحديث وهو أنه أخرجهم من ظهره في صور الذر
قلت والقرآن يفسر بعضه بعضا ونظير هذه الآية قوله تعالى يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة فأوقع الخلق من تراب عليهم وهو لأبيهم آدم إذ هو أصلهم والله سبحانه يخاطب الموجودين والمراد آباؤهم كقوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد الآية وقوله تعالى وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها وقوله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور وهو كثير في القرآن يخاطبهم والمراد به آباؤهم فهكذا قوله ولقد خلقناكم ثم صورناكم
وقد يستطرد سبحانه من ذكر الشخص إلى ذكر النوع كقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين فالمخلوق من سلالة من طين آدم والمجعول نطفة في قرار مكين ذريته

وأما حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فلا يصح إسناده ففيه عتبة بن السكن قال الدار قطني متروك وأرطأة بن المنذر قال ابن عدي بعض أحاديثه غلط

فصل وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه
أحدها أن خلق أبى البشر وأصلهم كان هكذا فإن الله سبحانه أرسل جبريل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا ثم صوره ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا ففي تفسير أبى مالك وأبى صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي لما فرغ عز و جل من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس ملكا على سماء الدنيا وكان من الخزان قلبه من ملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان خزان أهل الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره وقال ما أعطاني الله هذا إلا لمزيد لي وفي لفظ لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا ربنا وما يكون حال الخليفة وما يصنعون في الأرض قال الله تكون له ذرية يفسدونه في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون يعني من شأن إبليس فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فرجع ولم يأخذ وقال رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ولذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل الرب عز و جل حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصة فذلك حين يقول من صلصال كالفخار ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه فخرج من دبره فقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة

إذا نفخت ! فيه من روحي فأسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال له الله يرحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهي الطعام قبل أن يبلغ الروح رجليه فنهض عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول خلق الإنسان من عجل وذكر باقي الحديث
وقال يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب حدثنا ابن زيد قال لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا وقالوا ربنا لم خلقت هذه النار ولأي شيء خلقتها قال لمن عصاني من خلقي
ولم يكن لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق إنما خلق آدم بعد ذلك وقرأ قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا قال عمر بن الخطاب يا رسول الله ليت ذلك الحين ثم قال وقالت الملائكة ويأتي علينا دهر نعصيك فيه لا يرون له خلقا غيرهم قال لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وذكر الحديث قال ابن إسحاق فيقال والله أعلم خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ولم تمسسه نار فيقال والله أعلم لما انتهي الروح إلى رأسه عطس فقال الحمد لله وذكر الحديث
والقرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه ولما تعجبت من خلق النار وقالت لأي شيء خلقتها وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث
ولما كانت أرواح الكفار كلها تبعا لإبليس بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره فإن الله سبحانه إنما حكم عليه بالكفر بعد خلق بدن آدم وروحه ولم يكن قبل ذلك كافرا فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن كافرا إذ ذاك وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره إلا أن يقال كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه والذي احتجوا به على تقديم خلق الأرواح يخالف ذلك
وفي حديث أبى هريرة في تخليق العالم الأخبار عن خلق أجناس العالم تأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية وأن خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة وأما خلق ذريته فعلى الوجه المشاهد المعاين

ولو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة لذلك في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما
ومن الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها وهي بين ملأ من الأرواح ثم تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها قبل ذلك بوجه ما
وإذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه ها هنا مع أنها اكتسبت بالبدن أمورا عاقتها عن كثير من كمالها فلان تشعر بحالها الأول وهي غير معوقة هناك بطريق الأولى إلا أن يقال تعلقها بالبدن واشتغالها بتدبيره منعها من شعورها بحالها الأول فيقال هب أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال فهل يمنعها عن أدنى شعور بوجه ما مما كانت عليه قبل تعلقها بالبدن ومعلوم أن تعلقها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك
وأيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت عالمة حية ناطقة عاقلة فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا وهذا لو كان لكان أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها فأين في العقل والنقل والفطرة ما بدل على هذا وقد قال تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون فهذه الحال التي أخرجنا عليها هي حالنا الأصلية والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارىء علينا حادث فينا بعد أن لم يكن ولم نكن نعلم قبل ذلك شيئا البتة إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به
وأيضا فلو كانت مخلوقة قبل الأجساد وهي على ما هي الآن من طيب وخبث وكفر وإيمان وخير وشر لكان ذلك ثابتا لها قبل الأعمال وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سعت في طلبها واستعانت عليها بالبدن فلم تكن لتصف بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عملت تلك الأعمال
وإن كان قدر لها قبل إيجادها ذلك ثم خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها فنحن لا ننكر الكتاب والقدر السابق لها من الله ولو دل دليل على أنها خلقت جملة ثم أودعت في مكان حية عالمة ناطقة ثم كل وقت تبرز إلى أبدانها شيئا فشيئا لكنا أول قائل به فالله سبحانه على كل شيء قدير ولكن لا نخبر عنه خلقا وأمرا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله ومعلوم أن الرسول لم يخبر عنه بذلك وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح أن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح فالملك وحده يرسل إليه

فينفخ فيه فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه ولم يقل يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه لا أن الله سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملك ففرق بين أن يرسل إليه ملك ينفخ فيه الروح وبين أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وبالله ! التوفيق

المسألة التاسعة عشرة
وهي ما حقيقة النفس هل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل هي الروح أو غيرها وهل الإمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس
فالجواب أن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم وهدى الله أتباع الرسول أهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال ونذكر الصواب بحمد الله وعونه
قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته اختلف الناس في الروح والنفس والحياة وهل الروح هي الحياة أو غيرها وهل الروح جسم أم لا فقال النظام الروح هي جسم وهي النفس وزعم أن الروح حي بنفسه وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي وقال آخرون الروح عرض
وقال قائلون منهم جعفر بن حرب لا ندري الروح جوهر أو عرض كذا قال واعتلوا في ذلك بقوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر ولا عرض قال وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح أثبت أن الحياة عرضا
وكان الجبائي يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة والحياة عرض ويعتل بقول أهل اللغة خرجت روح الإنسان وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض

وقال قائلون ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ولم يرجعوا من قولهم اعتدال إلا إلى المعتدل ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
وقال قائلون أن الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع والروح واختلفوا في أعمال الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا وقال قائلون الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات وكذلك قالوا في القوة
وقال قائلون الحياة هي الحرارة الغريزية وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح
وكان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد ويقول ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشيء لا على أنها معنى غير البدن
وذكر عن أرسططا ليس أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت التدبير والنشوء والبلى غير دائرة وأنها جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير
وقال آخرون بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية وهذا قول طائفة من الثنوية يقال لهم المثانية
وقالت طائفة أن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى

الحدود والنهايات إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان وهؤلاء الديصانية وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى بابن الجوهر والجسم
وقال آخرون النفس معنى غير الروح والروح غير الحياة والحياة عنده عرض وهو أبو الهذيل وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة واستشهد على ذلك بقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
وقال جعفر بن حرب النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما وأنها غير موصولة بشيء من صفات الجواهر والأجسام هذا ما حكاه الأشعري
وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس قالوا والروح عرض وهو الحياة فقط وهو غير النفس وهذا قول القاضي أبو بكر بن الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية
وقالت طائفة ليست النفس جسما ولا عرضا وليست النفس في مكان ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض ولا هي في العالم ولا خارجه ولا مجانبة له ولا مباينة وهذا قول المشائين وهو الذي حكاه الأشعري عن ارسططا ليس وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاورة ولا بالمساكنة ولا بالالتصاق ولا بالمقابلة وإنما هو التدبير له فقط واختار هذا المذهب البسنجي ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه وهو أردى المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب
قال أبو محمد بن حزم وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان جثة متحيزة مصرفة للجسد قال وبهذا نقول قال والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد
وقد ضبط أبو عبد الله بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال ما يشير إليه كل إنسان بقوله إنا إما أن نكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عرضا ساريا فيه أما القسم الأول وهو أنه جسم فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن وإما أن يكون خارجا عنه وأما القسم الثالث وهو أن نفس الإنسان

عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين
قلت هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره وهذا الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان هو هذا البدن المخصوص فقط وليس وراءه شيء هو من ابطل الأقوال في المسألة بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة
فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان هل هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما أو كل واحد منهما وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط أو المعنى فقط أو مجموعهما أو كل واحد منهما فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه
قال الرازي وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه
الأول أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن
والثاني انه الدم
والثالث أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء
والرابع أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر
والخامس أنه جزء لا يتجزأ في القلب
والسادس أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نور أنى علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية

وإذا فسدت هذه الأعضاء بسب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح
وهذا القول هو الصواب في المسألة هو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد
الدليل الأول قوله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى نفي الآية ثلاثة أدلة الأخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها
الرابع قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون إلى قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
وفيها أربعة أدلة
أحدها بسط الملائكة أيديهم لتناولها !
الثاني وصفها بالإخراج والخروج
الثالث الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم
الرابع الإخبار عن مجيئها إلى ربها فهذه سبعة أدلة
الثامن قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم إلى قوله تعالى حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون وفيها ثلاثة أدلة
أحدها الإخبار بتوفي الأنفس بالليل
الثاني بعثها إلى أجسادها بالنهار
الثالث توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة
الحادي عشر قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وادخلي جنتي وفيها ثلاثة أدلة
أحدها وصفها بالرجوع

الثاني وصفها بالدخول
الثالث وصفها بالرضا
واختلف السلف هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين على ثلاثة أقوال وقد روى في حديث مرفوع أن النبي قال لأبي بكر الصديق أما أن الملك سيقولها لك عند الموت قال زيد بن أسلم بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث وقال أبو صالح ارجعي إلى ربك راضية مرضية هذا عند الموت فأدخلي عبادي وادخلي جنتي قال هذا يوم القيامة فهذه أربعة عشر دليلا
الخامس عشر قوله إن الروح إذا قبض تبعه البصر ففيه دليلان
أحدهما وصفه بأنه يقبض
الثاني أن البصر يراه
السابع عشر ما رواه النسائي حدثنا أبو داود عن عفان عن حماد عن أبى جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي فأخبرته بذلك فقال إن الروح ليلقى الروح فأقنع رسول الله هكذا قال عفان برأسه إلى حلقه فوضع جبهته على جبهة النبي فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام وقد تقدم قول ابن عباس تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى
الثامن عشر قوله في حديث بلال إن الله قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد
العشرون قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وفيه دليلان
أحدهما كونها طائرا
الثاني تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين
الثاني والعشرون قوله أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث

شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فأطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شيء تريدون الحديث وقد تقدم وفيه ستة أدلة
أحدها كونها مودعة في جوف طير
الثاني أنها تسرح في الجنة
الثالث أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها
الرابع أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها
الخامس أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته
السادس أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع فإن قيل هذا كله صفه الطير لا صفة الروح قيل بل الروح المودعة في الطير قصد وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر وهي قوله أرواح الشهداء كطير ينفي السؤال بالكلية
التاسع والعشرون قوله في حديث طلحة بن عبيد الله أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حزام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها فقال رسول الله ذاك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم
أحدها جعلها في القناديل
الثاني انتقالها من حيز إلى حيز
الثالث تكلمها وقراءتها في القبر
الرابع وصفها بأنها في مكان
الثالث والثلاثون حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا
أحدها قول ملك الموت لنفسه يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل
الثاني قوله اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان
الثالث قوله فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء

الرابع قوله فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه
الخامس قوله حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط فأخبر أنه تكفن وتحنط
السادس قوله ثم يصعد بروحه إلى السماء
السابع قوله ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت
الثامن قوله فتفتح له أبواب السماء
التاسع قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى
العاشر قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض
الحادي عشر قوله فترد روحه في جسده
الثاني عشر قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب
الثالث عشر قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض
الرابع عشر قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوى إلى الأرض
الخامس عشر قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب وما هذا الروح الخبيث
السادس عشر قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فإن كان هذا للروح فظاهر وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء
السابع عشر قوله فإذا صعد بروحه قيل أي رب عبدك فلان
الثامن عشر قوله أرجعوه فأروه ماذا أعددت له من الكرامة فيرى مقعده من الجنة أو النار
التاسع عشر قوله في الحديث إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك لله بين السماء والأرض فالملائكة تصلى على روحه وبني آدم يصلون على جسده
العشرون قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح

فصل الرابع والخمسون حديث أبي موسى تخرج نفس المؤمن أطيب من ريح المسك
فتنطلق بها الملائكة الذين يتوفونه فتلقاهم ملائكة من دون السماء فيقولون هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت بمحاسن عمله فيقولون مرحبا بكم وبه فيقبضونها منهم فيصعد به من الباب الذي كان يصعد منه عمله فيشرق في السموات وهو كبرهان الشمس حتى ينتهي بها إلى العرش وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون من هذا فيقولون فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت لمساوي أعماله فيقولون لا مرحبا لا مرحبا ردوه فيرد إلى أسفل الأرض إلى الثرى ففيه عشرة أدلة
أحدها خروج نفسه
الثاني طيب ريحها
الثالث انطلاق الملائكة بها
الرابع تحية الملائكة لها
الخامس قبضهم لها
السادس صعودهم بها
السابع إشراق السموات لضوئها
الثامن انتهاؤها إلى العرش
التاسع قول الملائكة من هذا وهذا سؤال عن عين وذات قائمة بنفسها
العاشر قوله ردوه إلى أسفل الأرضين
فصل الرابع والستون حديث أبي هريرة إذا خرجت روح المؤمن تلقاه ملكان
فيصعدانه إلى السماء فيقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه وذكر المسك ثم يصعد به إلى ربه عز و جل فيقول ردوه إلى آخر الأجلين ففيه ستة أدلة
أحدها قوله تلقاه ملكان
الثاني قوله فيصعدانه إلى السماء
الثالث قول الملائكة روح طيبة جاءت من قبل الأرض

الرابع صلاتهم عليها
الخامس طيب ريحها
السادس الصعود بها إلى الله عز و جل

فصل الحادي والسبعون حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المؤمن تحضره
الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج فيعرج بها حتى ينتهي بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقال فلان ابن فلان فيقال مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل وإذا كان الرجل السوء قال أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها حتى تخرج فينتهي بها إلى السماء فيقال من هذا فيقال فلان ابن فلان فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء فترسل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر وهو حديث صحيح وفيه عشرة أدلة
أحدها قوله كانت في الجسد الطيب وكانت في الجسد الخبيث فها هنا حال ومحل
الثاني قوله أخرجي حميدة
الثالث قوله وأبشري بروح وريحان فهذا بشارة بما تصير إليه بعد خروجها
الرابع قوله فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء
الخامس قوله فيستفتح لها
السادس قوله أدخلي حميدة
السابع قوله حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى
الثامن قوله لنفس الفاجر ارجعي ذميمة
التاسع فإنه لا تفتح لك أبواب السماء
العاشر قوله فترسل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر
فصل الحادي والثمانون قوله الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف
وما تناكر منها اختلف فوصفها بأنها جنود مجندة والجنود ذوات قائمة بنفسها ووصفها بالتعارف والتناكر ومحال أن تكون هذه الجنود أعراضا أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا بعض لها ولا كل
الثاني والثمانون قوله في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على الأرواح تتلاقى وتتشامم كما تشام الخيل وقد تقدم
الثالث والثمانون قوله في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يومين وما رأي أحدهما صاحبه
الرابع والثمانون الآثار التي ذكرناها في خلق آدم وأن الروح لما دخل في رأسه عطس فقال الحمد لله فلما وصل الروح إلى عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما وصل إلى جوفه اشتهي الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه وأنها دخلت كارهة وتخرج كارهة وتخرج كارهة
الخامس والثمانون الآثار التي فيها إخراج الرب تعالى النسم وتمييز شقيهم من سعيدهم وتفاوتهم حينئذ في الإشراق والظلمة وأرواح الأنبياء فيهم مثل السرج وقد تقدم
السادس والثمانون حديث تميم الداري أن روح المؤمن إذا صعد بها إلى الله خر ساجدا بين يديه وأن الملائكة تتلقى الروح بالبشرى وأن الله تعالى يقول الملك الموت انطلق بروح عبدى فضعه في مكان كذا وكذا وقد تقدم
السابع والثمانون الآثار التي ذكرناها في مستقر الأرواح بعد الموت واختلاف الناس في ذلك وفي ضمن ذلك الاختلاف إجماع السلف على أن للروح مستقرا بعد الموت وإن اختلف في تعيينه
الثامن والثمانون ما قد علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وأخبر به الأمة أنه تنبت أجسادهم في القبور فإذا نفخ في الصور رجعت كل روح إلى جسدها فدخلت فيه فانشقت الأرض عنه فقام من قبره
وفي حديث الصور أن إسرافيل عليه السلام يدعو الأرواح فتأتيه جميعا أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة فيجمعها جميعا فيعلقها في الصور ثم ينفخ فيه فيقول الرب جل جلاله وعزتي ليرجعن كل روح إلى جسده فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين

السماء والأرض فيأتي كل روح إلى جسده فيدخل ويأمر الله الأرض فتنشق عنهم فيخرجون سراعا إلى ربهم ينسلون مهطعين إلى الداعي يسمعون المنادي من مكان قريب فإذا هم قيام ينظرون
وهذا معلوم بالضرورة أن الرسول أخبر به وإن الله سبحانه لا ينشىء لهم أرواحا غير أرواحهم التي كانت في الدنيا بل هي الأرواح التي اكتسبت الخير والشر أنشأ أبدانها نشأة أخرى ثم ردها إليها
التاسع والثمانون أن الروح والجسد يختصمان بين يدي الرب عز و جل يوم القيامة قال علي بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبى سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد فيقول الروح يا رب إنما كنت روحا منك جعلتني في هذا الجسد فلا ذنب لي ويقول الجسد يا رب كنت جسدا خلقتني ودخل في هذا الروح مثل النار فيه كنت أقوم وبه كنت أقعد وبه أذهب وبه أجىء لا ذنب لي قال فيقال أنا أقضي بينكما أخبراني عن أعمى ومقعد دخلا حائطا فقال المقعد للأعمى إني أرى ثمرا فلو كانت لي رجلان لتناولت فقال الأعمى أنا أحملك على رقبتي فحمله فتناول من الثمر فأكلا جميعا فعلى من الذنب قالا عليهما جميعا فقال قضيتما على أنفسكما
التسعون الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر ونعيمه إلى يوم البعث فمعلوم أن الجسد تلاشى واضمحل وأن العذاب والنعيم المستمرين إلى يوم القيامة إنما هو على الروح
الحادي والتسعون أخبار الصادق المصدوق في الحديث الصحيح عن الشهداء إنهم لما سئلوا ما تريدون قالوا نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى فهذا سؤال وجواب من ذات حية عالمة ناطقة تقبل الرد إلى الدنيا والدخول في أجساد خرجت منها وهذه الأرواح سئلت وهي تسرح في الجنة والأجساد قد مزقها البلى
الثاني والتسعون ما ثبت عن سلمان الفارسي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن أرواح المؤمنين في برزخ تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين وقد تقدم
الثالث والتسعون رؤية النبي لأرواح الناس عن يمين آدم ويساره ليلة الإسراء فرآها متحيزة بمكان معين

الرابع والتسعون رؤيته أرواح الأنبياء في السموات وسلامهم عليه وترحيبهم به كما أخبر به وأما أبدانهم ففي الأرض
الخامس والتسعون رؤيته أرواح الأطفال حول إبراهيم الخليل عليه السلام
السادس والتسعون رؤيته أرواح المعذبين في البرزخ بأنواع العذاب في حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه وقد تلاشت أجسادهم واضمحلت وإنما كان الذي رآه أرواحهم ونسمهم يفعل بها ذلك
السابع والتسعون أخباره سبحانه عن الذين قتلوا في سبيله أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم فرحون مستبشرين بإخوانهم وهذا للأرواح قطعا لأن الأبدان في التراب تنظر عود أرواحهم إليها يوم البعث
الثامن والتسعون ما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ونحن نسوقه ليتبين كم فيه من دليل على بطلان قول الملاحدة وأهل البدع في الروح وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم قال بينما رسول الله ذات يوم قاعدا تلا هذه الآية ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت الآية ثم قال والذي نفس محمد بيده ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما يرى غيرهم وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم مع كل ملك منهم أكفان وحنوط فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله وجنته فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها فلا يزالون يبشرونه فهم ألطف به وأرأف من الوالدة بولدها ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل يموت الأول فالأول ويبرد كل عضو الأول فالأول ويهون عليهم وإن كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم فيبتدرونها كل ملك منهم أيهم يقبضها فيتولى قبضها ملك ثم تلا رسول الله قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون فيتلقاها بأكفان بيض ثم يحتضنها إليه فلهو أشد لزوما من المرأة لولدها ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك فيستنشقون ريحا طيبا ويتباشرون بها ويقولون مرحبا بالريح الطيبة والروح الطيب اللهم صل عليه روحا وصل على جسد خرجت منه قال فيصعدون بها فتفوح لهم ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون بها وتفتح لهم أبواب السماء ويصلى عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم حتى تنتهي بين يدي الجبار جل جلاله فيقول الجبار عز و جل مرحبا بالنفس

الطيبة ادخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم ثم اذهبوا بها إلى الأرض فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد وتقول أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه فيقولون إنا مأمورون بهذا فلا بد لك منه فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه فتأمل كم في الحديث من موضع يشهد ببطلان قول المبطلين في الروح
التاسع والتسعون ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن ابن البيلماني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إذا توفي المؤمن بعث إليه ملكان بريحان من الجنة وخرقة تقبض فيها فتخرج كأطيب رائحة وجدها أحد قط بأنفه حتى يؤتى به الرحمن جل جلاله فتسجد الملائكة قبله ويسجد بعدهم ثم يدعى ميكائيل عليه السلام فيقال اذهب بهذه النفس فإجلعها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة
وقد تظاهرت الآثار عن الصحابة أن روح المؤمن تسجد بين يدي العرش في وفاة النوم ووفاة الموت وأما حين قدومها على الله فأحسن تحيتها أن تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وحدثني القاضي نور الدين بن الصائغ قال كانت لي خالة وكانت من الصالحات العابدات قال عدتها في مرض موتها فقالت لي الروح إذا قدمت على الله ووقفت بين يديه ما تكون تحيتها وقولها له قال فعظمت على مسألتها وفكرت فيها ثم قلت تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام قال فلما توفيت رأيتها في المنام فقالت لي جزاك الله خيرا لقد دهشت فما أدري ما أقوله ثم ذكرت تلك الكلمة التي قلت لي فقلتها

فصل المائة ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء
أرواح الموتى وسؤالهم لهم وإخبارهم إياهم بأمور خفيت عليهم فرأوها عيانا وهذا أكثر من أن يتكلف إيراده
وأعجب من هذا الوجه الحادي والمائة أن روح النائم يحصل لها في المنام آثار فتصبح يراها على البدن عيانا وهي من تأثير للروح في الروح كما ذكر القيراوني في كتاب البستان

قال كان لي جار يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان ذات يوم أكثر من شتمهما فتناولته وتناولي فأنصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين فنمت وتركت العشاء فرأيت رسول الله في المنام فقلت يا رسول الله فلان يسب أصحابك قال من أصحابي قلت أبو بكر وعمر فقال خذ هذه المدية فأذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته ورأيت كأن يدي أصابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها فأنتبهت وأنا أسمع الصراخ من نحو داره فقلت ما هذا الصراخ قالوا فلان مات فجأة فلما أصحنا جئت فنظرت إليه فإذا خط موضع الذبح
وفي كتاب المنامات لابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش قال رأيت رجلا بالشام قد أسود نصف وجهه وهو يغطيه فسألته عن ذلك فقال قد جعلت لله على أن لا يسألني أحد عن ذلك إلا أخبرته به كنت شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت في منامي فقال لي أنت صاحب الوقيعة في فضرب شق وجهي فأصبحت وشق وجهي أسود كما ترى
وذكر مسعدة عن هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة قالت كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتتها امرأة مشتملة على يدها فجعل النساء يولعن بها فقالت ما أتيتك إلا من أجل يدي أن أبي كان رجلا سمحا وأني رأيت في المنام حياضا عليها رجال معهم آنية يسقون من أتاهم فرأيت أبي قلت أين أمي فقال انظري فنظرت فإذا أمي ليس عليها إلا قطعة خرقة فقال أنها لم تتصدق قط إلا بتلك الخرقة وحمة من بقرة ذبحوها فتلك الشحمة تذاب وتطرى بها وهي تقول وأعطشاه قالت فأخذت إناء من الآنية فسقيتها فنوديت من فوقي من سقاها أيبس الله يده فأصبحت يدي كما ترين
وذكر الحارث بن أسد المحاسبي واصبغ وخلف بن القاسم وجماعة عن سعيد بن مسلمة قال بينما امرأة عند عائشة إذ قالت بايعت رسول الله على أن لا أشرك بالله شيئا ولا أسرق ولا أزني ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان أفتريه من بين يدي ورجلي ولا أعصي في معروف فوفيت لربي ووفا لي ربي فوالله لا يعذبني الله فأتاها في المنام ملك فقال لها كلا إنك تتبرجين وزينتك تبدين وخيرك تكندين وجارك تؤذين وزوجك تعصين ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها وقال خمس بخمس ولو زدت زدناك فأصبحت وأثر الأصابع في وجهها

وقال عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك سمعت مالكا يقول إن يعقوب بن عبد الله بن الأشج كان من خيار هذه الأمة نام في اليوم الذي استشهد فيه فقال لأصحابه إني قد رأيت أمرا ولأخبرنه أني رأيت كأني أدخلت الجنة فسقيت لبنا فأستبقاء فقاء اللبن واستشهد بعد ذلك قال أبو القاسم وكان في غزوة في البحر بموضع لا لبن فيه وقد سمعت غير مالك يذكره ويذكر أنه معروف فقال أني رأيت كأني أدخل الجنة فسقيت فيها لبنا فقال له بعض القوم أقسمت عليك لما تقيأت فقاء لبنا يصلد أي يبرق وما في السفينة لبن ولا شاة قال ابن قتيبة قوله يصلد أي يبرق يقال صلد اللبن ومنه يصلد ومنه حديث عمر أن الطبيب سقاه لبنا فخرج من الطعنة أبيض يصلد
وكان نافع القارىء إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك فقيل له كلما قعدت تتطيب فقال ما أمس طيبا ولا أقربه ولكن رأيت النبي في المنام وهو يقرأ في فمي فمن ذلك الوقت يشم من في هذه الرائحة
وذكر مسعدة في كتابه في الرؤيا عن ربيع بن الرقاشي قال أتاني رجلان فقعدا إلى فأغتابا رجلا فنهيتهما فأتاني أحدهما بعد فقال إني رأيت في المنام كأن زنجيا أتاني بطبق عليه جنب خنزير لم أر لحما قط اسمن منه فقال لي كل فقلت آكل لحم خنزير فتهددني فأكلت فأصبحت وقد تغير فمي فلم يزل يجد الريح في فمه شهرين
وكان العلاء بن زياد له وقت يقوم فيه فقال لأهله تلك الليلة إني أجد فترة فإذا كان وقت كذا فأيقظوني فلم يفعلوا قال فأتاني آت في منامي فقال قم يا علاء بن زياد اذكر الله يذكرك وأخذ بشعرات في مقدم رأسي فقامت تلك الشعرات في مقدم رأسي فلم تزل قائمة حتى مات قال يحيى بن بسطام فلقد غسلناه يوم مات وإنهن لقيام في رأسه
وذكر ابن أبي الدنيا عن أبي حاتم الرازي عن محمد بن علي قال كنا بمكة في المسجد الحرام قعودا فقام رجل نصف وجهه أسود ونصفه أبيض فقال يا أيها الناس اعتبروا بي فإني كنت أتناول الشيخين وأشتمهما فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت فرفع يده فلطم وجهي وقال لي يا عدو الله يا فاسق ألست تسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فأصبحت وأنا على هذه الحالة
وقال محمد بن عبد الله المهلبي رأيت في المنام كأني في رحبة بني فلان وإذا النبي جالس على أكمة ومعه أبو بكر وعمر واقف قدامه فقال له عمر

يا رسول الله إن هذا يشتمني ويشتم أبا بكر فقال جيء به يا أبا حفص فأتى برجل فإذا هو العماني وكان مشهورا بسبهما فقال له النبي أضجعه فأضجعه ثم قال اذبحه فذبحه قال فما نبهني إلا صياحه فقلت مالي لا أخبره عسى أن يتوب فلما تقربت من منزله سمعت بكاء شديدا فقلت ما هذا البكاء فقالوا العماني ذبح البارحة على سريره قال فدنوت من عنقه فإذا من أذنه إلى أذنه طريقة حمراء كالدم المحصور
وقال القيرواني أخبرني شيخ لنا من أهل الفضل قال أخبرني أبو الحسن المطلبي أمام مسجد النبي قال رأيت بالمدينة عجبا كان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فبينا نحن يوما من الأيام بعد صلاة الصبح إذ أقبل رجل وقد خرجت عيناه وسالتا على خديه فسألناه ما قصتك فقال رأيت البارحة رسول الله وعلى بين يديه ومعه أبو بكر وعمر فقالا يا رسول الله هذا الذي يؤذينا ويسبنا فقال لي رسول الله من أمرك بهذا يا أبا قيس فقلت له على وأشرت عليه فأقبل علي بوجهه ويده وقد ضم أصابعه وبسط السبابة والوسطى وقصد بها إلى عيني فقلت إن كنت كذبت ففقأ الله عينيك وادخل أصبعيه في عيني فانتهت من نومي وأنا على هذه الحال فكان يبكي يخبر الناس وأعلن بالتوبة
قال القيرواني وأخبرني شيخ من أهل الفضل قال أخبرني فقيه قال كان عندنا رجل يكثر الصوم ويسرده ولكنه كان يؤخر الفطر فرأي في المنام كأن أسودين آخذين بضبعيه وثيابه إلى تنور محمى ليلقياه قال فقلت لهما على ماذا فقالا على خلافك لسنة رسول الله فإنه أمر بتعجيل الفطر وأنت تؤخره قال فأصح وجهه قد اسود من وهج النار فكان يمشي متبرقعا في الناس
وأعجب من هذا الرجل يرى في المنام وهو شديد العطش والجوع والألم أن غيره قد سقاه وأطعمه أو داواه بدواء فيستيقظ وقد زال عنه ذلك كله وقد رأي الناس من هذا عجائب
وقد ذكر مالك عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة أن جارية لها سحرتها وأن سنديا دخل عليها وهي مريضة فقال إنك سحرت قالت ومن سحرني قال جارية في حجرها صبي قد بال عليها فدعت جاريتها فقالت حتى أغسل بولا في ثوبي فقالت لها أسحرتني قالت نعم قالت وما دعاك إلى ذلك قالت أردت تعجيل العتق فأمرت أخاها أن يبيعها من الأعراب ممن يسئ ملكها فباعها ثم إن عائشة رأت في منامها أن اغتسلي من ثلاثة آبار يمد بعضها بعضا فأستسقى لها فأغتسلت فبرأت

وكان سماك بن حرب قد ذهب بصره فرأي إبراهيم الخليل في المنام فمسح على عينيه وقال اذهب إلى الفرات فتنغمس فيه ثلاثا ففعل فأبصر
وكان إسماعيل بن بلال الحضرمي قد عمى فأتى في المنام فقيل له قل يا قريب يا مجيب يا سميع الدعاء يا لطيف بمن يشاء رد على بصري فقال الليث بن سعد أنا رأيته قد عمى ثم أبصر
وقال عبيد الله بن أبي جعفر اشتكيت شكوى فجهدت منها فكنت أقرأ آية الكرسي فنمت فإذا رجلان قائمان بين يدي فقال أحدهما لصاحبه أن يقرأ آية فيها ثلاثمائة وستون رحمة أفلا يصيب هذا المسكين فيها رحمة واحدة فأستيقظت فوجدت خفة
قال ابن أبي الدنيا اعتلت امرأة من أهل الخير والصلاح بوجع المعده فرأت في المنام قائلا يقول لا إله إلا الله المغلي وشراب الورد فشربته فأذهب الله عنها ما كانت تجد
قال وقالت أيضا رأيت في المنام كأني أقول السناء والعسل وماء الحمص الأسود شفاء لوجع الأوراك فلما استيقظت أتتني امرأة تشكو وجعا بوركها فوصفت لها ذلك فأستنفعت به
وقال جالينوس السبب الذي دعاني إلى فصد العروق الضوارب أني أمرت به في منامي مرتين قال كنت إذ ذاك غلاما قال وأعرف إنسانا شفاه الله من وجع كان به في جنبه بفصد العرق الضارب لرؤيا رآها في منامه
وقال ابن الخراز كنت أعالج رجلا ممعودا فغاب عني ثم لقيته فسألته عن حاله فقال رأيت في المنام إنسانا في زي ناسك متوكئا على عصا وقف علي وقال أنت رجل ممعود فقلت نعم فقال عليك بالكباء والجلنجبين فأصبحت فسألت عنهما فقيل لي الكباء المصطكي والجلنجبين الورد المربي بالعسل فأستعملتهما أياما فبرأت فقلت له ذلك جالينوس
والوقائع في هذا الباب أكثر من أن تذكر قال بعض الناس إن أصل الطب من المنامات ولا ريب أن كثيرا من أصوله مستند إلى الرؤيا كما أن بعضها عن التجارب وبعضها عن القياس وبعضها عن الهام ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في تاريخ الأطباء وفي كتاب البستان للقيرواني وغير ذلك

فصل الوجه الثاني بعد المائة قوله تعالى
إن الذين كسبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء وهذا دليل على أن المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء وهذا التفتيح هو تفتيحها لأرواحهم

عند الموت كما تقدم في الأحاديث المستفيضة أن السماء تفتح لروح المؤمن حتى ينتهي بها إلى بين يدي الرب تعالى
وأما الكافر فلا تفتح لروحه أبواب السماء ولا تفتح لجسده أبواب الجنة

فصل الوجه الثالث بعد المائة قول النبي يا بلال ما دخلت الجنة
إلا سمعت خشخشتك بين يدي فبم ذاك قال ما أحدثت في ليل أو نهار إلا توضأت وصليت ركعتين قال بهما ومعلوم أي الذي سمع خشخشته بين يديه هو روح بلال وإلا فجسده لم ينقل إلى الجنة
الوجه الرابع بعد المائة الأحاديث والآثار التي في زيارة القبور والسلام على أهلها ومخاطبتهم والأخبار عن معرفتهم بزوارهم وردهم عليهم السلام وقد تقدمت الإشارة إليها
الوجه الخامس بعد المائة شكاية كثير من أرواح الموتى إلى أقاربهم وغيرهم أمورا مؤذية فيجدونها كما شكوه فيزيلونها
الوجه السادس بعد المائة لو كانت الروح عبارة عن عرض من أعراض البدن أو جوهر مجرد ليس بجسم ولا حال فيه لكان قول القائل خرجت وذهبت وقمت وجئت وقعدت وتحركت ودخلت ورجعت ونحو ذلك كله أقوالا باطلة لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض والمجردات وكل عاقل يعلم صدق قوله وقول غيره ذلك فالقدح ذلك قدح في أظهر المعلومات من باب السفسطة لا يقال حاصل هذا الدليل التمسك بألفاظ الناس وإطلاقاتهم وهي تحتمل الحقيقة والمجاز فلعل مرادهم دخل جسمي وخرج لأنا إنما استدللنا بشهادة العقل والفطرة بمعاني هذه الألفاظ فكل أحد يشهد عقله وحسه بأنه هو الذي دخل وخرج وانتقل لا مجرد بدنه فشهادة الحس والعقل بمعاني هذه الألفاظ وإضافتها إلى الروح أصلا وإلى البدن تبعا من أصدق الشهادات والاعتماد على ذلك مجرد الإطلاق اللفظي
الوجه السابع بعد المائة أن البدن مركب ومحل لتصرف النفس فكان دخول البدن وخروجه وانتقاله جاريا مجرى دخول مركبه من فرسه ودابته فلو كانت النفس غير قابله للدخول والخروج والانتقال والحركة والسكون لكان ذلك بمنزلة دخول مركب الإنسان إلى الدار وخروجه منها دون دخوله هو وهذا معلوم البطلان بالضرورة وكل أحد يعلم أن نفسه

وروحه هي التي دخلت وخرجت وانتقلت وصرفت البدن وجعلته تبعا لها في الدخول والخروج فهو لها بالأصل وللبدن بالتبع كلنه للبدن بالمشاهدة وللروح بالعلم والعقل
الوجه الثامن بعد المائة أن النفس لو كانت كما يقوله أنها عرض لكان الإنسان كل وقت قد يبدل مائة ألف نفس أو أكثر والإنسان إنما هو إنسان بروحه ونفسه لا ببدنه وكان الإنسان الذي هو الإنسان غير الذي قبله بلحظة وبعده بلحظة وهذا من نوع الهوس ولو كانت الروح مجردة وتعلقها بالبدن بالتدبير فقط لا بالمساكنة والمداخلة لم يمتنع أن ينقطع تعلقها بهذا البدن وتتعلق بغيره كما يجوز انقطاع تدبير المدبر لبيت أو مدينة عنها ويتعلق بتدبير غيرها وعلى هذا التدبير فنصير شاكين في أن هذه النفس التي لزيد هي النفس الأولى أو غيرها وهل زيد هو ذلك الرجل أم غيره وعاقل لا يجوز ذلك فلو كانت الروح عرضا أو أمرا مجردا لحصل الشك المذكور
الوجه التاسع بعد المائة أن كل أحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية ويعلم أن الموصوف ليس بذلك عرضا من أعراض بدنه ولا جوهرا مجردا منفصلا عن بدنه غير مجاور له ويقطع ضرورة بأن هذه الإدراكات لأمر داخل في بدنه كما يقطع بأنه إذا سمع وأبصر وشم وذاق ولمس وتحرك وسكن فتلك أمور قائمة به مضافة إلى نفسه وأن جوهر النفس هو الذي قام به ذلك كله لم يقم بمجرد ولا بعرض بل قام بمتحيز داخل العالم منتقل من مكان إلى مكان يتحرك ويسكن ويخرج ويدخل وليس إلا هذا البدن والجسم الساري فيه المشابك له الذي لولاه لكان بمنزلة الجماد
الوجه العاشر بعد المائة إن النفس لو كانت مجردة وتعلقها بالبدن تعلق التدبير فقط كتعلق الملاح بالسفينة والجمال بحمله لأمكنها ترك تدبير هذا البدن واشتغالها بتدبير بدن آخر كما يمكن الملاح والجمال ذلك وفي ذلك تجويز نقل النفوس من أبدان إلى أبدان ولا يقال أن النفس اتحدت ببدنها فامتنع عليها الانتقال أو أنها لها عشق طبيعي وشوق ذاتي إلى تدبير هذا البدن فلهذا السبب امتنع انتقالها لأنا نقول الاتحاد ما لا يتحيز بالمتحيز محال ولأنها لو اتحدت به لبطلت ببطلانه ولأنها بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان لا واحد وإن عدما معا وحدث ثالث فليس من الاتحاد في شيء وإن بقي أحدهما وعد الآخر فليس باتحاد أيضا وأما عشق النفس الطبيعي للبدن فالنفس إنما تعشقه لأنها تتناول اللذات بواسطته وإذا كانت الأبدان متساوية في حصول مطلوبها كانت نسبتها إليها على السواء فقولكم أن النفس

المعينة عاشقة للبدن المعين باطل ومثال ذلك العطشان إذا صادف آنية متساوية كل مها يحصل غرضه امتنع عليه أن يعشق واحدا منها بعينه دون سائرها
الوجه الحادي عشر بعد المائة أن نفس الإنسان لو كانت جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة عنه ولا مباينة ولا مجانبة لكان يعلم بالضرورة أنه موجود بهذه الصفة لأن علم الإنسان بنفسه وصفاتها أظهر من كل معلوم وأن علمه بما عداه تابع لعلمه بنفسه ومعلوم قطعا أن ذلك باطل فإن جماهير أهل الأرض يعلمون أن إثبات هذا الوجود محال في العقول شاهدا وغائبا فمن قال ذلك في نفسه وربه فلا نفسه عرف ولا ربه عرف
الوجه الثاني عشر بعد المائة أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس وإدراكاتها الكلية والجزئية ومحل للقردة على الحركات الإرادية فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن وما سكن فيه أما أن يكون محلها جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه فباطل بالضرورة
الوجه الثالث عشر بعد المائة أن النفس لو كانت مجردة عن الجسمية والتحيز لامتنع أن يتوقف فعلها على مماسة محل الفعل لأن ما لا يكون متحيزا يمتنع أن يصير مماسا للمتحيز ولو كان الأمر كذلك لكان فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل فكان الواحد منا يقدر على تحريك الأجسام من غير أن يماسها أو يماس شيئا يماسها فإن النفس عندكم كما كانت قادرة على تحريك البدن من غير أن يكون بينها وبينه مماسة كذلك لا تمنع قدرتها على تحريك جسم غيره من غير مماسة له ولا لما يماسه وذلك باطل بالضرورة فعلم أن النفس لا تقوى على التحريك إلا بشرط أن تماس محل الحركة أو تماس ما يماسه وكل ما كان مماسه للجسم أو لما يماسه فهو جسم فإن قيل يجوز أن يكون تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص غير مشروط بالمماسة وتأثيرها في تحريك غيره موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين ذلك الجسم فالجواب أنه لما كان قبول البدن لتصرفات النفس لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين البدن وجب أن تكون الحال كذلك في غيره من الأجسام لأن الأجسام متساوية في قبول الحركة ونسبة النفس إلى جميعها سواء لأنها إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية كانت نسبة ذاتها إلى الكل بالسوية ومتى كانت ذات الفاعل نسبتها إلى الكل بالسوية والقوابل نسبتها إلى ذلك الفاعل بالسوية كان التأثير بالنسبة إلى الكل على السواء فإذا استغنى الفاعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض وجب أن يستغني في حق الجميع وإن افتقر إلى المماسة في البعض

وجب افتقاره في الجميع فإن قيل النفس عاشقة لهذا البدن دون غيره فكان تأثيرها فيه أقوى من تأثيرها في غيره قيل هذا العشق الشديد يقتضي أن يكون تعلقها بالبدن أكثر وتصرفها فيه أقوى فأما أن يتغير مقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام فذلك محال وهذا دليل في غاية القوة
الوجه الرابع عشر بعد المائة أن العقلاء كلهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة وهذه الصفات نوعان صفات لبدنه وصفات لروحه ونفسه الناطقة فلو كانت الروح جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه أو كان بعضه في العالم وبعضه لا داخل العالم ولا خارجه وكل عاقل يعلم بالضرورة بطلان ذلك وأن الإنسان بجملته داخل العالم بدنه وروحه وهذا في البطلان يضاهي قول من قال أن نفسه قديمة غير مخلوقة فجعلوا نصف الإنسان مخلوقا ونصفه غير مخلوق فإن قيل نحن نسلم أن الإنسان كما ذكرتم إلا أنا نثبت جوهرا مجردا يدبر الإنسان الموصوف بهذه الصفات
قلنا فذلك الجوهر الذي أثبتموه مغاير للإنسان أو هو حقيقة الإنسان ولا بد لكم من أحد الأمرين فإن قلتم هو غير الإنسان رجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا غيره سميتموه نفسها وكلامنا الآن إنما هو في حقيقة الإنسان لا في مدبره فإن مدبر الإنسان وجميع العالم العلوي والسفلي هو الله الواحد القهار
الوجه الخامس عشر بعد المائة أن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان فإنه يشير إلى هذه البنية وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يقبل شكا ولا تشكيكا
الوجه السادس عشر بعد المائة أن عقول العالمين قاضيه بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية وما قام بها وساكها وكذلك المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب ولو أن رجلا قال المأمور والمنهي والممدوح والمذموم والمخاطب والعاقل جوهر مجرد ليس في العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه لأضحك العقلاء على عقله ولأطبقوا على تكذيبه وكل ما شهدت بدائه العقول وصرائحها ببطلانه كان الاستدلال على ثبوته استدلالا على صحة وجود المحال وبالله التوفيق

فصل فإن قيل قد ذكرتم الأدلة الدالة على جسميتها وتحيزها فما جوابكم
عن أدلة المنازعين لكم في ذلك فإنهم استدلوا بوجوه
أحدها اتفاق العقلاء على قولهم الروح والجسم والنفس والجسم فيجعلونها شيئا غير الجسم فلو كانت جسما لم يكن لهذا القول معنى
الثاني وهو أقوى ما يحتجون به أنه من المعلوم أن في الموجودات ما هو قابل للقسمة كالنقطة والجوهر الفرد بل ذات واجب الوجود فوجب أن يكون ا لعلم بذلك غير قابل للقسمة فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم وهو محله غير قابل للقسمة وهو النفس فلو كانت جسما لكانت قابلة للقسمة ويقرر هذا الدليل على وجه آخر وهو أن محل العلوم الكلية لو كان جسما أو جسمانيا لانقمست تلك العلوم لأن الحال في المنقسم وانقسام تلك العلوم مستحيل
الثالث أن الصور العقلية الكلية مجردة بلا شك وتجردها إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه أو بسبب الأخذ والأول باطل لأن هذه الصور إنما أخذت عن الأشخاص الموصوفة بالمقادير المختلفة والأوضاع المعينة فثبت أن تجردها إنما هو بسبب الأخذ لها والقوة العقلية المسماة بالنفس
الرابع أن القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية فإنها تقوى على إداراكات لا تتناهي والقوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية لأن القوة الجسمانية تنقسم بانقسام محلها فالذي يقوى عليه بعضها يجب أن يكون أقل من الذي يقوى عليه الكل فالذي يقوى عليه الكل يزيد على الذي يقوى عليه البعض أضعافا متناهية والزائد على المتناهي بمتناه متناه
الخامس أن القوة العاقلة لو كانت حالة في آلة جسمانية لوجب أن تكون القوة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآية أو ممتنعة الإدراك لها بالكلية ولكلاهما باطل لأن إدراك القوة العاقلة لتلك الآلة إن كان عين وجودها فهو محال وإن كان صورة مساوية لوجودها وهي حالة في القوة العقلية الحالة في تلك الآلة لزم اجتماع صورتين متماثلتين وهو محال وإذا بطل هذا ثبت أن القوة العاقلة لو أدركت آلتها لكان إدراكها عبارة عن نفس حصول تلك الآلة عند القوة العاقلة فيجب حصول الإدراك دائما إن كفي هذا القدر في حصول

الإدراك وإن لم يكف امتنع حصول الإدراك في وقت من الأوقات إذ لو حصل في وقت دون وقت لكان بسبب أمر زائد على مجرد حضور صورة الآلة
السادس أن كل أحد يدرك نفسه وإدراك الشيء عبارة عن حضور ماهية المعلوم عند العالم فإذا علمنا أنفسنا فهو إما أن يكون لأجل حضور ذواتنا لذواتنا أو لأجل حضور صورة مساوية لذواتنا في ذواتنا والقسم الثاني باطل وإلا لزم اجتماع المثلين فثبت أنه لا معنى لعلمنا بذاتنا إلا حضور ذاتنا عند ذاتنا وهذا إنما يكون إذا كانت ذاتا قائمة بالنفس غنية عن المحل لأنها لو كانت حالة في محل كانت حاضرة عند ذلك المحل فثبت أن هذا المعنى إنما يحصل إذا كانت النفس قائمة بنفسها غنية عن محل تحل فيه
السابع ما احتج به أبو البركات البغدادي وأبطل ما سواه فقال لا نشك أن الواحد منا يمكنه أن يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت وشموسا وأقمارا فهذه الصور الخيالية لا تكون معدومة لأن قوة المتخيل تشير إلى تلك الصور وتميز بين كل صورة وغيرها وقد يقوى ذلك المتخيل إلى أن يصير كالمشاهد المحسوس ومعلوم أن العدم المحض والنفي الصرف لا يثبت ذلك ونحن نعلم بالضرورة ان هذه الصور ليست موجودة في الأعيان فثبت أنها موجودة في الأذهان فنقول محل هذه الصورة إما أن يكون جسما أو حالا في الجسم أو لا جسما ولا حالا في الجسم والقسمان الأولان باطلان لأن صورة البحر والجبل صورة عظيمة والدماغ والقلب جسم صغير وانطباع العظيم في الصغير محال فثبت أن محل هذه الصورة الخيالية ليس بجسم ولا جسماني
والثامن لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما وليس كذلك
التاسع أن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم وما كان غنيا في فعله عن الجسم وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الجسم بيان الأول أن القوة العقلية تدرك نفسها ومن المحال أن يحصل بينها وبين نفسها آلة متوسطة أيضا وتدرك إدراكها لنفسها وليس هذا الإدراك بآلة وأيضا فإنها تدرك الجسم الذي هو آلتها وليس بينها وبين آلتها آلة أخرى وبيان للثاني من وجهين
أحدهما أن القوى الجسمانية كالناظرة والسامعة والخيال والوهم لما كانت جسمانية يقدر عليها إدراك ذواتها وإدراكها لكونها مدركة لذواتها وإدراكها الأجسام الحالمة لها فلو كانت القوة العاقلة جسمانية لتعذر عليها هذه الأمور الثلاثة

الثاني أن مصدر الفعل هو النفس فلو كانت النفس متعلقة في قوامها ووجودها بالجسم لم تحصل تلك الأفعال إلا بشركة من الجسم ولما ثبت أنه ليس كذلك ثبت أن القوة العقلية غنية عن الجسم
العاشر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال ولا تقوى بعد الضعف وسببه ظاهر فإن القوى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال تتعرض موادها للتحلل والذبول وهو يوجب الضعف وأما القوة العقلية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال وتقوى على القوى بعد الضعف فوجب أن لا تكون جسمانية
الحادي عشر أنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد للبياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض والبداهة حاكمة بأن اجتماع السواد والبياض والحرارة والبرودة في الأجسام محال فلما حصل هذا الاجتماع في القوة العقلية وجب أن لا تكون قوة جسمانية
الثاني عشر أنه لو كان محل الإدراكات جسما وكل جسم منقسم لا محالة لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علم بالشيء وبالبعض الآخر منه جهل وحينئذ فيكون الإنسان في الحال الواحد عالما بالشيء وجاهلا به
الثالث عشر أن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش مخصوصة فإن وجود تلك النقوش فيها يمنع من حصول نقوش غيرها وأما النقوش العقلية فالضد من ذلك لأن الأنفس إذا كانت خالية من جميع العلوم والإدراكات فإنه يصعب عليها التعلم فإذا تعلمت شيئا صار حصول تلك العلوم معينا على سهولة غيرها فالنقوش الجسمانية متغيرة متنافية والنقوش العقلية متعاونة متعاضدة
الرابع عشر أن النفس لو كانت جسما لكان بين إرادة العبد تحريك رجله وبين تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله فإن النفس هي المحركة لمجسد والممهد لحركته فلو كان المحرك للرجل جسما فإما أن يكون حاصلا في هذه الأعضاء أو جائيا إليها فإن كان جائيا إليها احتاج إلى مدة ولا بد وإن كان حاصلا فيها فنحن إذا قطعنا تلك العضلة التي تكون بها الحركة لم يبق منها في العضو المتحرك شيء فلو كان ذلك المتحرك حاصلا فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو
الخامس عشر لو كانت النفس جسما لكانت منقسمة ولصح عليها أن يعلم بعضها كما يعلم كلها فيكون الإنسان عالما بعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر وذلك محال
السادس عشر لو كانت النفس لوجب أن يثقل البدن بدخولها فيه لأن شأن

الجسم الفارغ إذا ملأه غيره أن يثقل به كالزق الفارغ والأمر بالعكس فأخف ما يكون البدن إذا كانت فيه النفس وأثقل ما يكون إذا فارقته
السابع عشر لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا يخلو شيء منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والنعومة والخشونة والسواد والبياض وغير ذلك من صفات الأجسام وكيفياتها ومعلوم أن الكيفيات النفسانية إنما هي الفضائل والرذائل لا تلك الكيفيات الجسمانية فالنفس ليست جسما
الثامن عشر أنها لو كانت جسما لوجب أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت حاسة منها أو حاستين أو أكثر فإنا نرى الأجسام كذلك منها ما يدرك بجميع الحواس ومنها ما يدرك بأكثرها ومنها ما يدرك بحاستين منها أو واحدة والنفس بريئة من ذلك كله وهذه الحجة التي احتج بها جهم على طائفة من الملاحدة حين أنكروا الخالق سبحانه وقالوا لو كان موجودا لوجب أن يدرك بحاسة من الحواس فعارضهم بالنفس وأنى تتم المعارضة إذا كانت جسما وإلا لو كانت جسما لجاز إدراكها ببعض الحواس
التاسع عشر لو كانت جسما لكانت ذات طول وعرض وعمق وسطح وشكل وهذه المقادير والأبعاد لا تقوم إلا بمادة ومحل فإن كانت مادتها ومحلها نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كان غير نفس كانت النفس مركبة من بدن وصورة وهي في جسد مركب من بدن وصورة فيكون الإنسان إنسانين
العشرون إن من خاصة الجسم أن يقبل التجزي والجزء الصغير منه ليس كالكبير ولو قبلت التجزي فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة لا نفس واحدة وإن لم يكن نفسا لم يكن المجموع نفسا كما أن جزء الماء إن لم يكن ماء لم يكن مجموعة ماء
الحادي والعشرون أن الجسم محتاج في قوامه وحفظه وبقائه إلى النفس ولهذا يضمحل ويتلاشى لما تفارقه فلو كانت جسما لكانت محتاجة إلى نفس أخرى وهلم جرا ويتسلسل الأمر وهذا المحال إنما لزم من كون النفس جسما
الثاني والعشرون لو كانت جسما لكان اتصالها بالجسم إن كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان الإنسان الواحد جسمين متلاصقين أحدهما يرى والآخر لا يرى
فهذا كل ما موهت به هذه الطائفة المبطلة من منخنقة وموقوذة ومتردية ونحن نجيهم عن ذلك كله فصلا بفصل بحول الله وقوته ومعونته

فصل فأما قولهم أن العقلاء متفقون على قولهم الروح والجسم والنفس
والجسم وهذا يدل على تغايرهما فالجواب أن يقال أن مسمى الجسم في اصطلاح المتفلسفة والمتكلمين أعم من مسماه في لغة العرب وعرف أهل العرف فإن الفلاسفة يطلقون الجسم على قابل الأبعاد الثلاثة خفيفا كان أو ثقيلا مرئيا كان أو غير مرئي فيسمون الهواء جسما والنار جسما والماء جسما وكذلك الدخان والبخار والكوكب ولا يعرف في لغة العرب تسمية شيء من ذلك جسما التة ! فهذه لغتهم وأشعارهم وهذه النقول ! عنهم في كتب اللغة قال الجوهري قال أبو زيد الجسم الجسد وكذلك الجسمان والجثمان قال الأصمعي الجسم والجسمان الجسد والجثمان الشخص وقد جسم الشيء أي عظم فهو عظيم جسيم وجسام بالضم
ونحن إذا سمينا النفس جسما فإنما هو باصطلاحهم وعرف خطابهم وإلا فليست جسما باعتبار وضع اللغة ومقصودنا بكونها جسما إثبات الصفات والأفعال والأحكام التي دل عليها الشرع والعقل والحس من الحركة والانتقال والصعود وبنزول ومباشرة النعيم والعذاب واللذة والألم وكونها تحبس وترسل وتقبض وتدخل وتخرج فلذلك أطلقنا عليها اسم الجسم تحقيقا لهذه المعاني وإن لم يطلق عليها أهل اللغة اسم الجسم فالكلام مع هذه الفرقة المبطلة في المعنى لا في اللفظ فقول أهل التخاطب الروح والجسم هو بهذا المعنى
فصل وأما الشبهة الثانية فهي أقوى شبههم التي بها يصلون وعليها يعولون
وهي مبلية على أربع مقدمات
إحداها أن في الوجود ما لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه
الثانية أنه يمكن العلم به
الثالثة أن العلم به غير منقسم
الرابعة أنه يجب أن يكون محل للعلم به كذلك إذ لو كان جسما لكان منقسما
وقد نازعهم في ذلك جمهور العقلاء وقالوا لم تقيموا دليلا على أن في الوجود ما لا يقبل القسمة الحسبة ولا الوهمية وإنما بأيديكم دعاء لا حقيقة لها وإنما أثبتموه من واجب الوجود وهو بناء على أصلكم الباطل عند جميع العقلاء من أهل الملل وغيرهم من انكار ماهية الرب

تعالى وصفاته وأنه وجود مجرد لا صفة له ولا ماهية وهذا قول باينتم به العقول وجميع الكتب المنزلة من السماء وإجماع الرسل ونفيتم به علم الله وقدرته ومشيئته وسمعه وبصره وعلوه على خلقه ونفيتم به خلق السموات والأرض في ستة أيام وسميتموه توحيدا وهو أصل كل تعطيل
قالوا والنقطة التي استدللتم بها هي من أظهر ما يبطل دليلكم فإنها غير منقسمة وهي حالة في الجسم المنقسم فقد حل في المنقسم ما ليس بمنقسم ثم إن مثبتي الجوهر الفرد وهم جمهور المتكلمين ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون الجوهر حال في الجسم بل هو مركب منه فقد حل في المنقسم ما ليس بمنقسم ولا يمكن تتميم دليلكم إلا بنفي الجوهر الفرد فإن قلتم النقطة عبارة عن نهاية الخط وفنائه وعدمه فهي أمر عدمي بطل استدلالكم بها وإن كانت أمرا وجوديا فقد حلت في المنقسم فبطل الدليل على التقديرين
قالوا أيضا فلم لا يكون العلم حالا في محله لا على وجه النوع والسريان فإن حلول كل شيء في محله يحسبه فحلول الحيوان في الدار نوع وحلول العرض في الجسم نوع وحلول الخط في الكتاب نوع وحلول الدهن في السمسم نوع وحلول الجسم في العرض نوع وحلول الروح في البدن نوع وحلول العلوم والمعارف في النفس نوع
قالوا وأيضا فالوحدة حاصلة فإن كانت جوهرا فقد ثبت الجوهر الفرد بطل دليلكم فإنه لا يتم إلا بنفيه وإن كان عرضا وجب أن يكون لها محل فمحلها إن كان منقسما فقد جاز قيام غير المنقسم بالمنقسم فهو الجوهر وبطل الدليل فإن قلتم الواحده أمر عدمي لا وجود له في الخارج فكذلك أثبتم به وجود مالا ينقسم كلها أمور عدمية لا وجود لها في الخارج فإن واجب الوجود الذي أثبتموه أمر عدمي بل مستحيل الوجود
قالوا وأيضا فالإضافات عارضة لا أقسام مثل الفوقية والتحتية والمالكية والمملوكية فلو انقسم الحال بانقسام محله لزم انقسام هذه الإضافات فكان يكون لحقيقة الفوقية والتحتية ربع وثمن وهذا لا يقبله العقل
قالوا وأن القوة الوهمية والفكرية جسمانية عند زعيمكم ابن سيناء فيلزم أن يحصل لها أجزاء وأبعاض وذلك محال لأنها لو انقمست لكان كل واحد من أبعاضها إن كان مثلها كان الجزء مساويا للكل وإن لم يكن مثلها لم تكن تلك الأجزاء كذلك
وأيضا فإن الوهم لا معنى له إلا كون هذا صديقا وهذا عدوا وذلك لا يقبل القسمة
قالوا وأن الوجود أمر زائد على الماهيات عندكم فلو لزم انقسام الحال لانقسام محله

لزم انقسام ذلك الوجود بانقسام محله وهذا الوجه لا يلزم من جعل وجود الشيء غير ماهيته
قالوا وأيضا فطبائع الأعداد ماهيات مختلفة فالمفهوم من كون العشرة عشرة مفهوم واحد وماهية واحدة فتلك الماهية أما أن تكون عارضة لكل واحد من تلك الآحاد وهو محال وأما أن تنقسم بانقسام تلك الآحاد وهو محال لأن المفهوم من كون العشرة عشرة لا يقبل القسمة نعم العشرة تقبل القسمة لا عشريتها قالوا فقد قدم مالا ينقسم بالمقسم
قالوا وأيضا فالكيفيات المختصات بالكميات كالاستدارة والنقوش ونحوهما عند الفلاسفة أعراض موجودة في شبه الاستدارة إن كان عرضا فأما أن يكون بتمامه قائما وإما أن يكون بكل واحد من الأجزاء وهو محال وأما أن ينقسم ذلك العرض بانقسام الأجزاء ويقوم بكل جزء من أجزاء الخط جزء من أجزاء ذلك العرض وهو محال لأن جزأه إن كان استدارة لزم أن يكون جزء الدائرة دائرة وإن لم يكن استدارة فعند اجتماع الأجزاء إن لم يحدث أمر زائد وجب أن لا تحصل الاستدارة وإن حدث أمر زائد وجب أن لا تحصل الاستدارة وإن حدث أمر زائد فإن كان منقسما عاد التقسيم وإن لم ينقسم كان الحال غير منقسم ومحله منقسما
قلت وهذا لا يلزمهم فإن لهم أن يقولوا ينقسم بانقسام محله تبعا له كسائر الأعراض القائمة بمحالها من البياض والسواد وأما مالا ينقسم كالطول فشرط حصوله اجتماع الأجزاء والمعلق على الشرط منتف بانتفائه
قالوا وإن هذه الأجسام ممكنة بذواتها وذلك صفة لها خارجة عن ماهيتها فإن لم تنقسم بانقسام محلها بطل الدليل وإن انقسمت عاد المحذور المذكور من مساواة الجزء للكل والتسلسل
قلت وهذه أيضا لا يلزمهم لأن الإمكان ليس أمر يدل على قبول الممكن للوجود والعدم وذلك القبول من لوازم ذاته ليس صفة عارضة لم ولكن الذهن يجرد هذا القبول عن القابل فيكون عروضه للماهية بتجريد الذهن وأما قضية مشاركة الجزء للكل فلا امتناع في ذلك كسائر الماهيات البسيطة فإن جزأها مساو لكلها في الحد والحقيقة كالماء والتراب والهواء وإنما الممتنع أن يساوي الجزء للكل في الكم لا في نفس الحقيقة
والمعول في إبطال هذه الشبهة على أن العلم ليس بصورة حالة في النفس وإنما هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم كما نقول في الأبصار أنه ليس بانطباع صورة مساوية للمبصر في القوة الباصرة وإنما هو نسبة وإضافة بين القوة الباصرة والمبصر وعامة شبههم التي أوردوها

في هذا الفصل مبنية على انطباع صورة المعلوم في القوة العالمة ثم بنوا على ذلك أن انقسام مالا ينقسم في المنقسم محال
وقولهم محل العلوم الكلية لو كان جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم لأن الحال في المنقسم منقسم لم يذكروا جسمه هذه المقدمة دليلا ولا شبهة وإنما بأيديهم مجرد الدعوى وليست بديهية حتى تستغني عن الدليل وهي مبنية على العلم بالشيء عن حصول صورة مساوية لماهية المعلوم في نفس العالم وهذا من أبطل الباطل للوجوه التي نذكرها هناك
وأيضا فلو سلمنا لكم ذلك كان من أظهر الأدلة على بطلان قولكم فإن هذه الصورة إذا كانت حالة في جوهر النفس الناطقة فهي صورة جزئية حالة في نفس جزئية تقارنها سائر الأعراض الحالة في تلك النفس الجزئية فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق لم تكن صورة مجردة بل مقرونة بلواحق وعوارض وذلك يمنع كليتها
فإن قلتم المراد بكونها كلية إنا إذا حذفنا عنها تلك اللواحق واعتبرناها من حيث هى هي كانت كلية قلنا لكم فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال هذه الصورة حالة في مادة جسمانية مخصوصة بمقدار معين وبكل معين إلا أنا حذفنا عنها ذلك واعتبرناها من حيث هي هي كانت بمنزلة تلك الصورة التي فعلنا بها ذلك فالمعين في مقابلة المعين المطلق المأخوذ من حيث هو هو في مقابلة محله المطلق وهذا هو المعقول الذي شهدت به العقول الصحيحة والميزان الصحيح فظهر أن هذه الشبهة من أفسد الشبه وأبطلها وإنما أتى القوم من الكليات فإنها هي التي خربت دورهم وأفسدت نظرهم ومناظرهم فإنهم جردوا أمورا كلية لا وجود لها في الخارج ثم حكموا عليها بأحكام الموجودات وجعلوها ميزانا وأصلا للموجودات
فإذا جردوا صور المعلومات وجعلوها كلية جردنا نحن محلها وجعلناه كليا وإن أخذوا جزئية معينة فمحلها كذلك فالكلى في مقابلة الكلى والجزئي في مقابلة الجزئي
على أنا نقول ليس في الذهن كلى وإنما في الذهن صورة معينة مشخصة منطبعة على سائر أفرادها فإن سميت كلية بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الألفاظ وهي كلية وجزئية باعتبارين

فصل قولكم في الوجه الثالث أن الصور العقلية الكلية مجردة وتجردها
إنما هو بسبب الآخذ لها وهو القوة العقلية جوابه أن يقال ما الذي تريدون بهذه الصورة العقلية الكلية أتريدون به أن المعلوم حصل في ذات العالم أو أن العلم به حصل في ذات العالم فالأول ظاهر إلا حالة

والثاني حق إلا أنه يفيدكم شيئا لأن الأمر الكلي المشترك بين الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية لا العلم بها والإنسانية لا وجود لها في الخارج كلية والوجود في الخراج للمعينات فقط والعلم تابع للمعلوم فكما أن المعلوم معين فالعلم به معين لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة فليس في الذهن ولا في الخارج صورة غير منقسمة البتة وكم قد غلط في هذا الموضع طوائف من العقلاء لا يحصيهم إلا الله تعالى فالصورة الكلية التي يثبتونها ويزعمون أنها حالة في النفس فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية فهب أن هذه الصورة العقلية حالة في جوهر ليس بجسم ولا جسماني فإنها غير مجردة عن العوارض فإن قلتم مرادنا بكونها مجردة النظر إليها من حيث هي هي مع قطع النظر عن تلك العوارض
قيل لكم فلم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني منقسمة وإنما تكون مجردة إذا نظرنا إليها من حيث هي هي بقطع النظر عن عوارضها

فصل قولكم في الرابع أن العقلية تقوى على أفعاله غير متناهية ولا شيء
من القوى الجسمانية كذلك فجوابه أنا لا نسلم أنها تقوى على أفعال غير متناهية
وقولكم أنها تقوى على إدراكات لا تتناهي هي والإدراكات أفعال مقدمتان كاذبتان فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية فلو كان لها بكل نفس ألف ألف إدراك لتناهت إدراكاتها فهي قطعا تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى حد لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا كما قال تعالى وفوق كل ذي علم عليم إلى أن ينتهي العلم إلى من هو بكل شيء عليم فهو الله الذي لا إله إلا هو وحده وذلك من خصائصه التي لا يشاركه فيها سواه
فإن قلتم لو انتهي إدراكها إلى حد لا يمكنها المزيد عليه لزم انقلاب الشيء من الإمكان الذاتي قلنا فهذا بعينه لو صح دل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها
وأيضا فإن قوة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات والمذكرات إلى غير نهاية مع أنها عندكم قوة جسمانية
فإن قلتم لا نسلم أنها تقوى على مالا يتناهي قيل لكم هكذا يقول خصومكم في القوة العاقلة سواء
وأما كذب المقدمة الثانية فإن الإدراك ليس بفعل فلا يلزم من تناهي فعلها تناهي إدراكها وقد صرحتم بأن الجوهر العقلي قابل لصورة المعلوم لا أنها فاعل لها والشيء الواحد لا يكون

فاعلا وقابلا عندكم وقد صرحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعال لا نهاية لها ولا يمتنع عليها مجهولات وانفعالات لا نتناهي وقد أورد ابن سيناء على هذه الشبهة سؤالا فقال أليس النفس الفلكية المباشرة لتحريك الفلك قوة جسمانية مع أن الحركات الفلكية غير متناهية وأجاب عنه بأنها وإن كانت قوة جسمانية إلا أنها تستمد الكمال من العقل المفارق فلهذا السبب قدرت على أفعال غير متناهية
فنقول فإذا كان الأمر عندك كذلك فلم لا يجوز أن يقال النفس الناطقة تستمد الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعا فلا جرم تقوى مع كونها جسمانية على مالا يتناها فإذا قلت بذلك وافقت الرسل والعقل ودخلت مع زمرة المسلمين وفارقت العصبة المبطلين

فصل قولكم في الخامس لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية لوجب
أن تكون دائمة الإدراك لتلك الآلة أو ممتنعة الإدراك لها فهو مبنى على أصلكم الفاسد أن الإدراك عبارة عن حصول صورة مساوية للمدرك في القرة المدركة ثم لو سلمنا لكم ذلك الأصل لم يفدكم شيئا فإن حصول تلك الصورة يكون شرطا لحصول الإدراك فأما أن يقول أو يقال أن الإدراك عين حصول تلك الصورة فهذا لا يقوله عاقل فلم لا يجوز أن يقال القوة العقلية حالة في جسم مخصوص ثم أن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسمى بالشعور والإدراك فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة وقد لا توجد تلك الحالة الإضافية فتصير غافلة عنها وإذا كان هذا ممكنا سقطت تلك الشبهة رأسا ثم نقول أتدعون أنا إذا عقلنا شيئا فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات أو لا يجب حصول هذه المساواة من جميع الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب أو الدماغ اجتماع المثلين
وأيضا فالقوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ والصورة الحادثة حالة في القوة العاقلة فإحدى الصورتين محل للقوة العاقلة وأيضا فنحن إذا رأينا المسافة الطويلة والبعد الممتد فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرئي في عين الرائي أو لا يتوقف فإن توقف لزم اجتماع المثلين لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية فهي في محل له حجم ومقدار فإذا حصل

فيه حجم المرئي ومقداره لزم اجتماع المثلين وإذا جاز هناك فلم لا يجوز مثله في مسئتنا وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورة المرئي في الرائي بطل قولكم أن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة العاقلة
وأيضا فقولكم لو كانت القوة العقلية حالة في جسم لوجب أن تكون دائمة الإدراك لذلك الجسم لكن إدراكنا لقلبنا ودماغنا غير دائم فهذا إنما يلزم من يقول أنها حالة في القلب أو الدماغ وأما من يقول أنها حالة في جسم مخصوص وهو النفس وهي مشابكة للبدن فهذا الإلزام غير وارد عليه فإنه يقول النفس جسم مخصوص والإنسان أبدا عالم بأنه جسم مخصوص ولا يزول ذلك عن عقله إلا إذا عرضت له الغفلة فسقطت الشبهة التي عولتم عليها على كل تقدير

فصل قولكم في السادس ان كل أحد يدرك نفسه والإدراك عبارة عن حصول
ماهية المعلوم عند العالم وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنية عن المحل إلى آخره
جوابه أن ذلك مبنى على الأصل المتقدم وهو أن العلم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في نفس العالم وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة العلم حتى لو سلم ذلك فالصورة المذكورة شرطا في حصول العلم لا أنها نفس العلم
وأيضا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفساد مقدماتها منقوضة فإنا إذا أخذنا حجرا أو خشبة قلنا هذا جوهر قائم بنفسه فذاته حاضرة عند ذاته فيجب في هذه الجمادات أن تكون عالمة بذواتها
وأيضا فجميع الحيوانات مدركة لذواتها فلو كان كون الشيء مدركا لذاته تقتضي كون ذاته جوهرا مجردا لزم كون نفوس الحيوانات بأسرها جواهر مجردة وأنتم لا تقولون بذلك
فصل قولكم في السابع الواحد منا يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت
إلى آخره وهو شبهة أبى البركات البغدادي فشبهة داحضة جدا فإنها مبنية على أن تلك المتخيلات أمور موجودة وأنها منطبعه في النفس في محله ومعلوم قطعا أن هذه المخيلات لا حقيقة لها في ذاتها وغنما الذهن يفرضها تقديرا وليست منطبعة في النفس فإن العلوم الخارجية لا تنطبع صورها في النفس فكيف بالخيالات المعدومة فهذه مندحضة ولا يمنع من وقوع

التمييز بين الإعدام المضافة فإن العقل يميز بين عدم السمع وعدم البصر وعدم الشم وغير ذلك ولا يلزم من هذا التمييز كون هذه الإعدام موجودة بل يميز بين أنواع المستحيلات التي لا يمكن وجودها البتة ثم نقول إذا عقل حلول الأشكال والمقادير فيما كان مجردا عن الحجمية والمقدار من كل الوجوه أفلا يعقل حلول العلم بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسم الصغير وأيضا فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة والشكل في الجوهر المجرد فعدم انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يمنع من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير
وأيضا فإن سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الحالة في الجوهر المجرد محال وذكروا له وجوها

فصل قولكم في الثامن لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمن
الشيخوخة وليس كذلك جوابه من وجوه
الوجه الأول لم يجوز أن يقال القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية مقدار معين وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير معتبر في كمال حال القوة العقلية وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال ذلك القدر المحتاج إليه باق إلى آخر الشيخوخة فبقى العقل إلى آخرها
الوجه الثاني أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على الصحة أن عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفساد والاستحالة إليها فإذا انتهي إليها الفساد والاستحالة فسد عقله وإدراكه
الوجه الثالث أنه لا يمتنع أن يكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى فلعل مزاج الشيخ أوفق للقوة العقلية فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة
الوجه الرابع أن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى قوية فتكون القوة الشهوانية والغضبية قوية جدا وقوة هذه القوى تمنع العقل من الاستكمال فإذا حصلت القوة الشيخوخة وحصل الضعف حصل بسبب الضعف ضعف في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال وحصل في العقل أيضا ضعف ولكن بعد ما حصل في العقل من الضعف حصل ذلك في أضداده فينجبر النقصان من أحد الجانبين بالنقصان من الجانب الآخر فيقع الاعتدال
الوجه الخامس أن الشيخ حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور ودربها

وكثرت تجاربه وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر فقام النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى
الوجه السادس أن كثرة الأفعال بسبب حصول الملكات الراسخة فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق جابرا للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن
الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال يهرم ابن آدم وتشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل والواقع شاهد لهذا الحديث مع أن الحرص والأمل من القوى الجسمانية والصفات الخيالية ثم أن ضعف البدن لم يوجب ضعف هاتين الصفتين فعلم أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ضعف الصفات البدنية
الوجه الثامن أنا نرى كثيرا من الشيوخ يصيرون إلى الخزف وضعف العقل بل هذا هو الأغلب ويدل عليه قوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعمل بعد علم شيئا فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل أو أسوأ حالا منه وأما من لم يحصل له ذلك فإنه لا يرد إلى أرذل العمر
الوجه التاسع أنه لا تلازم بين قوة البدن وقوة النفس ولا بين ضعفه وضعفها فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف النفس جبانا خوارا وقد يكون ضعيف البدن قوي النفس فيكون شجاعا مقداما على ضعف بدنه
الوجه العاشر أنه لو سلم لكم ما ذكرتم لم يدل على كون النفس جوهرا مجردا لا داخلي العالم ولا خارجه ولا هي في البدن ولا خارجة عنه لأنها إذا كانت جسما صافيا مشرقا سماويا مخالفا للأجسام الأرضية لم تقبل الانحلال والذبول والتبدل كما تقبله الأجسام المتحللة الأرضية فلا يلزم من حصول الانحلال والذبول في هذا البدن حصولهما في جوهر النفس

فصل قولكم في التاسع أن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم وما
كان غنيا عن الجسم في أفعاله كان غنيا عنه في ذاته إلى آخره جوابه أن يقال لا يلزم من ثبوت حكم في قوة جسمانية ثبوت مثل ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية وليس معكم غير الدعوى المجردة والقياس الفاسد

وأيضا فالصور والأعراض محتاجة إلى محلها وليس احتياجها إلى تلك المحال إلا لمجرد ذواتها ولا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذواتها عن تلك المحال فلا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحال والله أعلم

فصل قولكم في العاشر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال ولا تقوى
على القوى بعد الضعف إلى آخره جوابه أن القوة الخيالية جسمانية ثم إنها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها الأشياء الحقيرة فإنها يمكنها أن تتخيل الشعلة الصغيرة حال ما تخيل الشمس والقمر
وأيضا فإن الإبصار القوية القاهرة تمنع إبصار الأشياء الضعيفة فكذلك نقول العقول العظيمة العالية تمنع تعقل المعقولات الضعيفة فإن المستغرق في معرفة جلال رب الأرض والسموات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال الفكر في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته
فصل قولكم في الحادي عشر إنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد للبياض وجب
أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض معا والبداهة حاكمة بأن اجتماعهما في الجسم محال جوابه أن هذا مبنى على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات المدرك صورة مساوية للمدرك وهذا باطل واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة في المرآة باطل فإن المرآة لم ينطبع فيها شيء البتة كما يقوله جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم والقول بالانطباع باطل من وجوه كثيرة ثم نقول إذا كنتم قد قلتم ان المتطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض رسومهما ومثالهما لا حقيقتهما فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء في المادة الجسمانية
فصل قولكم في الثاني عشر أنه لو كان محل الإدراكات جسما وكل جسم
منقسم لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علم بالشيء وبالجزء الآخر منه جهل به فيكون الإنسان عالما بالشيء جاهلا به في وقت واحد جوابه أن هذه الشبهة منتقضة على أصولكم فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية عندكم ومحلها منقسم فلزمكم أن تجوزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدهما بالجزء الآخر فيكون مشتهيا للشيء نافرا عنه غضبان عليه غير غضبان في وقت واحد
فصل قولكم في الثالث عشر أن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش
مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها والنفوس البشرية بضد ذلك إلى آخره
جوابه أن غاية هذا أن يكون قياسا ممتازا بغير جامع وذلك لا يفيد الظن فضلا عن اليقين فإن النقوش العقلية هي العلوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هي الأشكال والصور ولا ريب أن العلوم مخالفة بحقائقها للصور والأشكال ولا يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما يخالف ذلك النوع
فصل قولكم في الرابع عشر لو كانت النفس جسما لكان بين تحريك المحرك
رجله وبين إرادته للحركة زمان إلى آخره
جوابه أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال إما أن تكون لابسة لجميعه من خارج كالثوب أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ أو تكون سارية في جميع أجزاء الجسد وعلى كل تقدير من هذه التقادير فتحريكها لما تريد تحريكه يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقيه وإدراك السمع والشم والذوق وإذا قطع العضو لم ينقطع ما كان من جسم النفس متجللا لذلك العضو سواء كانت لابسة له من داخل أو من خارج بل تفارق العضو الذى بطل حسه في الوقت وتتقلص عنه بلا زمان ويكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء إذا ملىء ماء وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من البدن لم يلزم ان تبين مع العضو المقطوع وأما إن كانت لابسة للبدن من خارج لم يلزم أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفس التحريك زمان بل يكون فعلها حينئذ في تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه
ثم نقول هذا الهذيان الذي شغلتم به الزمان وارد عليكم بعينه فإنها عندكم غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه فيلزمكم مثل ذلك
فصل قولكم في الخامس عشر لو كانت جسما لكانت منقسمة ولصح عليها أن
تعلم بعضها وتجهل بعضها فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر

جوابه أن هذه الشبهة مركبة من مقدمتين تلازميه واستثنائية والمنع واقع في كلا المقدمتين أو إحداهما فلا نسلم أنها لو كانت جسما لصح أن تعلم بعضها وتجهل بعضها فإن لنفس بسيطة غير مركبة من هذه العناصر ولا من الأجزاء المختلفة فمتى شعرت بذاتها شعرت بجهلها فهذا منع المقدمة التلازمية
وأما الاستثنائية فلا نسلم أنها لا يصح أن تعلم بعضها حال غفلتها عن البعض الآخر ولم تذكروا على بطلان ذلك شبهة فضلا عن دليل ومن المعلوم أن الإنسان قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلها ويتفاوت الناس في ذلك فمنهم من يكون شعوره بنفسه أتم من غيره بدرجات كثيرة وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعادتها وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه شهوتها وحظها وإرادتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها وعيوبها ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجوه وإن كانوا عالمين بها من وجوه أخر

فصل قولكم في السادس عشر لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن بدخولها
فيه لأن من شأن الجسم إذا زدت عليه جسما آخر أن يثقل به
فهذه شبهة في غاية الثقلة والمحتج بها أثقل وليس كل جسم زيد عليه جسم آخر ثقله فهذه الخشبة تكون ثقيلة فإذا زيد عليها جسم النار خفت جدا وهذا الظرف يكون ثقيلا فإذا دخله جسم الهواء خف وهذا إنما يكون في الأجسام الثقال التي تطلب المركز والوسط بطبعها وهي تتحرك بالطبع إليه وأما الأجسام التي تتحرك بطبعها إلى العلو فلا يعرض لها ذلك بل الأمر فيها بالضد من تلك الأجسام الثقال بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفة وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فقال
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
فصل قولكم في السابع عشر لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر
الأجسام التي لا تخلو منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والنعومة والخشونة

إلى آخره شبهة فاسدة وحجة داحضة فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في جميع الكيفيات والصفات وقد فاوت الله سبحانه بين صفاتها وكيفياتها وطبائعها منها ما يرى بالبصر ويلمس باليد ومنها ما لا يرى ولا يلمس ومنا ماله لون ومنها مالا لون له ومنها مالا يقل الحرارة والبرودة ومنها ما يقبله على أن للنفس من الكيفيات المختصة بها مالا يشاركها فيها البدن ولها خفة وثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحسبها وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده في غاية الخفة وبدنه ثقيل وتجد نفسها لينة وادعة ونفسا يابسة قاسية ومن له حس سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة المنتنة ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك وقد كان رسول الله إذا مر في طريق بقي أثر رائحته في الطريق ويعرف أنه مر بها وتلك رائحة نفسه وقلبه وكانت رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه وأخبر وهو أصدق البشر أن الروح عند المفارقة يوجد ! لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ولولا الزكام الغالب لشم الحاضرون ذلك على أن كثيرا من الناس يجد ذلك وقد أخبر به غير واحد ويكفي فيه خبر الصادق المصدوق وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفار سود
وبالجملة فكيفيات النفوس أظهر من أن ينكرها إلا من هو من أجهل الناس بها

فصل قولكم في الثامن عشر لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت
جميع الحواس أو تحت حاسة منها إلى آخره
فجوابه منع اللزوم فإنكم لم تذكروا عليه شبهة فضلا عن دليل ومنع انتفاء اللازم فإن الروح تدرك بالحواس فتلمس وترى وتشم لها الرائحة الطيبة والخبيثة كما تقدم في النفوس المستفيضة ولكن لا نشاهد نحن ذلك وهذا الدليل لا يمكن ممن يصدق الرسل أن يحتج به فإن الملك جسم ولا يقع تحت حاسة من حواسنا وكذلك الجن والشياطين أجسام لطاف لا تقع تحت حاسة من حواسنا والأجسام متفاوتة في ذلك تفاوتا كثيرا فمنها ما يدرك أكثر ! الحواس ومنها مالا يدرك بأكثرها ومنا ما يدرك بحاسة واحدة ومنها مالا ندركه نحن في الغالب وإن أدرك في بعض الأحوال لكونه لم يخلق لنا إدراكه أو لمانع يمنع من إدراكه أو للطفه عن إدراك حواسنا فما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبصر كالهواء والنار في عنصرها وما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالنار والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن

وأيضا فالروح هي المدركة لمدارك هذه الحواس بواسطة آلاتها فالنفس هي الحاسة المدركة وإن لم تكن محسوسة فالأجسام والأعراض محسوسة والنفس محسة بها وهي القابلة لأعراضها المتعاقبة عليها من الفضائل والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها وهي المتحركة بأختيارها المحركة للبدن قسرا وقهرا وهي مؤثرة في البدن متأثرة به تألم وتلذ وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتبأس وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف وتنكر وآثارها من أدل الدلائل على وجودها كما أن آثار الخالق سبحانه دالة على وجوده وعلى كماله فإن دلالة الأثر على مؤثره ضرورية
وتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم ولا سيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك ولا سيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها فإن تأثيرها في العالم يقوي جدا تأثيرا يعجز عنه البدن وأعراضه أن تنظر إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها وهذا أمر قد شاهدته الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي سمى إصابة العين فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة وإنما هو النفس المتكيفة بكيفية ردية سمية وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا نكون بل يوصف له الشيء من بعيد فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا بمجرد مقابلتها لها وقوتها وهذه وأضعافها آثار خارجة عن تأثير البدن وأعراضه فإن البدن لا يؤثر إلا فيما لاقاه وماسه تأثيرا مخصوصا ولم تزل الأمم تشهد تأثير الهمم الفعالة في العالم وتستعين بها وتحذر أثرها وقد أمر رسول الله أن يغسل العائن مغابنه ومواضع القذر منه ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه وذلك بسبب أمر طبعي اقتضته حكمة الله سبحانه فإن النفس الأمارة لها بهذه المواضع تعلق وألف والأرواح الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هذه المواضع غالبا للمناسبة بينها وبينها فإذا غسلت بالماء طفئت تلك النارية منها كما يطفأ الحديد المحمى بالماء فإذا صب ذلك الماء على المصاب طفأ عنه تلك النارية التي وصلت إليه من البعائن وقد وصف الأطباء الماء الذي يطفأ فيه الحديد لآلام وأوجاع معروفة وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عند تجردها في المنام عجائب تفوت الحصر وقد نبهنا على بعضها فيما مضى فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره

أعجب من آثار الأبدان بل كل ما في العالم من الآثار الإنسانية فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتنفره النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس

فصل قولكم في التاسع عشر لو كانت النفس جسما لكانت ذات طول وعرض
وعمق وشكل وسطح وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة إلى آخره
جوابه أنا نقول قولكم هذه المقادير لا تقوم إلا بمادة قلنا وكان ماذا والنفس لها مادة خلقت منها وجعلت على شكل معين وصورة معينة
قولكم مادتها إن كانت نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كانت غير نفس كانت مركبة من بدن وصورة
قلنا مادتها ليست نفسا كما أن مادة الإنسان ليست إنسانا ومادة الجن ليست جنا ومادة الحيوان ليست حيوانا
قولكم يلزم كون النفس مركبة من بدن وصورة مقدمة كاذبة وإنما يلزم كون النفس مخلوقة من مادة ولها صورة معينة وهكذا نقول سواء ولم تذكروا على بطلان هذه شبهة فضلا عن حجة ظنية أو قطعية
فصل قولكم في الوجه العشرين أن خاصة الجسم أن يقبل التجزيء ! وأن الجزء
الصغير منه ليس كالكبير فلو قبلت التجزيء فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة وإن لم يكن نفسا لم يكن المجموع نفسا
جوابه إن أردتم أن كل جسم يقبل التجزيء في الخارج فكذب ظاهر فإن الشمس والقمر والكواكب لا تقبل ذلك ولا يلزم أن كل جسم يصح عليه التجزيء والتبعيض في الخارج أما على قول نفاة الجوهر الفرد فظاهر وأما على قول متبنيه ! فإنه عندهم جوهر متحيز لا يصح عليه قبول الانقسام سلمنا أنها تقبل الانقسام فأي شيء يلزم من ذلك
قولكم إن كان كل جزء من تلك الأجزاء نفسا لزم اجتماع نفوس كثيرة في الإنسان
قلنا إنما يلزم ذلك لو انقسمت النفس بالفعل إلى نفوس كثيرة وهذا محال
قولكم وإن لم يكن كل جزء نفسا لم يكن المجموع نفسا مقدمة كاذبة منتقضة فكم ماهية ثبت لها حكم عند اجتماع أجزائها فإن ذلك الحكم كماهية البيت والإنسان والعشرة وغيرها
فصل قولكم في الوجه الحادي والعشرين أن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه
وحفظه إلى نفس أخرى ويلزم التسلسل
جوابه أنه يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظه افتقار النفس إلى نفس تحفظها وهل ذلك إلا بمجرد دعوة كاذبة مستندة إلى قياس قد تبين بطلانه فإن كل جسما لا يصير إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار والتراب وأجسام سائر الجمادات
فإن قلتم إن هذه ليست أحياء ناطقة بخلاف النفس فإنها حية ناطقة
قلنا فحينئذ يبقى الدليل هكذا أي كل جسم حي ناطق يحتاج في حفظه وقيامه إلى نفس نقوم به وهذه دعوى مجردة وهي كاذبة فإن الجن والملائكة أحياء ناطقون وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أخر تقوم بهم
فإن قلتم وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسام متحيزة
قلنا الكلام مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأما من كفر بذلك فالكلام معه في النفس ضائع وقد كفر بفاطر النفس ومبدعها وملائكته وما جاءت به رسله وكان تاركا ما دل عليه العيان مع دليل الإيمان فإن الآثار المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارها وهي موجودة بنفسها ولا تقدر عليها القوى البشرية
فصل قولكم في الثاني والعشرين لو كانت جسما لكان اتصالها بالبدن إن
كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان للإنسان الواحد جسمان متلاصقان أحدهما يرى والآخر لا يرى
جوابه من وجوه
أحدها أن تتداخل الأجسام المحال أن يتداخل جسمان كثيفان أحدهما في الآخر بحيث يكون حيزهما واحدا وأما أن يدخل جسم لطيف في كثيف يسرى فيه فهذا ليس بمحال
الثاني أن هذا باطل بصور كثيرة منها دخول الماء في العود والسحاب ودخول النار في الحديد ودخول الغذاء في جميع أجزاء البدن ودخول الجن في المصروع فالروح للطافتها لا يمتنع عليها مشابكة البدن والدخول في جميع أجزائه

الثالث أن حيز النفس البدن وحيزه مكانه المنفصل عنه وهذا ليس بتداخل ممتنع فإذا فارقته صار لها حيز آخر غير حيزه وحينئذ فلا يتداخلان بل يصير لكل منهما حيز يخصه وبالجملة فدخول الروح في البدن الطف من دخول الماء في الثرى والدهن في البدن فهذه الشبهة الفاسدة لا يعارض بها ما دل عليها نصوص الوحي والأدلة العقلية وبالله التوفيق

المسألة العشرون وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران
فأختلف الناس في ذلك
فمن قائل أن مسماهما واحد وهم الجمهور
ومن قائل أنهما متغايران ونحن نكشف سر المسألة بحول الله وقوته فنقول النفس تطلق على أمور
أحدها الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش
نجما سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي بجفن سيف ومئزر والنفس والدم قال سألت نفسه وفي الحديث مالا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس الجسد
قال الشاعر
نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور نفس المنذر
والتامور الدم والنفس العين يقال أصابت فلانا أي عين
قلت ليس كما قال بل النفس ها هنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين توسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم
قلت والنفس في القرآن تطلق على الذات بحملتها كقوله تعالى فسلموا على أنفسكم وقوله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقوله تعالى كل نفس بما كسبت رهينة وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة وقوله تعالى أخرجوا أنفسكم وقوله تعالى ونهى النفس عن الهوى وقوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء
وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بإنفراده ولا مع النفس وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى يلقى الروح من أمره على من

يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ! وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فإتقون وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم ! خير منها وأسلم عاقبة
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح قال الشاعر
إذا ذهبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ومنه النفس بالتحريك فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وإن الحياة لا تتم إلا به كما لا تتم إلا بالنفس فلهذا قال
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا دفع بإختياره وإرادته إذا اندفع قسرا وقهرا فالله سبحانه هو الذي يفيضها عند الموت فتفيض هي

فصل وقالت فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف الروح غير النفس
قال مقاتل بن سليمان للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد الله عز و جل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى كيت وكيت

قال أبو عبد الله بن منده ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية
وقال بعضهم الروح لاهوتية والنفس ناسوتية وأن الخلق بها ابتلى
وقالت طائفة وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها وجعل الهوى تبعا للنفس والشيطان تبع النفس والهوى والملك مع العقل والروح والله تعالى يمدهما بالهامة وتوفيقه
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها على الخلق
وقال بعضهم الأرواح نور من نور الله وحياة من حياة الله
ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت
فقالت طائفة الأرواح لا تموت ولا تبلى
وقالت الجماعة الأرواح على صور الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان
وقالت طائفة للمؤمن ثلاثة أرواح وللمنافق والكافر روح واحدة
وقال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح
وقال بعضهم الأرواح روحانية خلقت من الملكوت فإذا صفت رجعت إلى الملكوت
قلت أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس
وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وكذلك الروح الذي أيد بها روحه المسح ابن مريم كما قال تعالى إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدك بروح القدس وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن
وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر والروح السامع والروح الشام فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت الأبدان وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة

المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته وطاعته ولهذا يقول الناس فلان فيه روح وفلان ما فيه روح وهو بو وهو قصبة فارغة ونحو ذلك
فللعلم روح وللإحسان روح وللإخلاص روح وللمحبة والإنابة روح وللتوكل والصدق روح والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا والله المستعان

المسألة الحادية والعشرون وهي هل النفس واحدة أم ثلاث فقد وقع في
كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث انفس نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى ويحتجون على ذلك بقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة وبقوله تعالى لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة وبقوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى بإعتبار كل صفة بأسم فتسمى مطمئنة بإعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به فتسرى تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى الله ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله ونذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه وهذا لا يتأتى بشيء سوى الله تعالى وذكره البتة وأما ما عداه فالطمأنينة إليه غرور والثقة به عجز قضى الله سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق

والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله سبله وزايله وقد جعل سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع
وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كما له إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله فلا يزل القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم وقال إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينة شيئا فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي قام عليه بناؤه ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال وبالآخرة هم يوقنون فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها طمأنينته ! إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول الله إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها فقال عبد نور الله قلبه

فصل والطمأنينة إلى أسماء الرب تعالى وصفاته نوعان طمأنينة إلى
الإيمان بها وإثباتها واعتقادها وطمأنينة إلى ما تقتضيه وتوجبه من آثار العبودية مثاله الطمأنينة إلى القدر وإثباته والإيمان به يقتضي الطمأنينة إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها ولا قدرة له على دفعها فيسلم

لها ويرضى بها ولا يسخط ولا يشكو ولا يضطرب إيمانه فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أتاه لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه وقبل أن يخلق كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال غير واحد من السلف هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالم وهى قدر زائد على الطمأنينة بمجرد العلم بها واعتقادها وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها كالسمع والبصر والرضا والغضب والمحبة فهذه طمأنينة الإيمان
وأما طمأنينة الإحسان فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالا وإخلاصا ونصحا فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى ولا تقليدا فلا يساكن شبهة تعارض خبره ولا شهوة تعارض أمره بل إذا مرت به أنزلها منزلة الوساوس التي لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها فهذا كما النبي صريح الإيمان وعلامة هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها ويسهل عليه ذلك بأن يعلم أن اللذة والحلاوة والفرحة في الظفر بالتوبة وهذا أمر لا يعرفه إلا من ذاق الأمرين وباشر قلبه آثارهما فللتوبة طمأنينة تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق ولو فتش العاصي عن قلبه لوجده حشوة المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب وإنما يوارى عنه شهود ذلك سكر الغفلة والشهوة فإن لكل شهوة سكرا يزيد على سكر الخمر وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل مالا يفعله شارب الخمر وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلق الروح بحبه ومعرفته فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدا ولو أنصفت نفسها لرأتها إذا فقدت ذلك في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب ولكن يواريها السكر فإذا كشف الغطاء تبين له حقيقة ما كان فيه

فصل وها هنا سر لطيف يجب التنبيه عليه والتنبه له والتوفيق له بيد
من أزمة التوفيق بيده وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالا إن لم يحصل له فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جعل له مثالا كمال العين بالأبصار وكمال الأذن بالسمع وكمال اللسان بالنطق فإذا عدمت هذه الأعضاء القوى التي بها كمالها حصل الألم والنقص بحسب فوات ذلك وجعل كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته ومحبته والإنابة

إليه والإقبال عليه والشوق إليه والأنس به فإذا عدم القلب ذلك كان أشد عذابا واضطرابا من العين التي فقدت النور والباصر من اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال إلا بان يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه وإن يكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك فحقيقة الأمر أنه لا طمأنينه له بدون التحقق بإياك نعبد وإياك نستعين وأقوال المفسرين في الطمأنينة ترجع إلى ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما المطمئنة المصدقة وقال قتادة هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله وقال الحسن المصدقة بما قال الله تعالى وقال مجاهد هي النفس التي أيقنت بأن الله ربها المسلمة لأمر فيما هو فاعل بها وروى منصور عنه قال النفس التي أيقنت أن الله ربها وضربت جاشا لأمره وطاعته وقال ابن أبي نجيح عنه النفس المطمئنة المختة ! إلى الله وقال أيضا هي التي أيقنت بلقاء الله فكلام السلف في المطمئنة يدور على هذين الأصلين طمأنينة العلم والإيمان وطمأنينة الإرادة والعمل

فصل فإذا اطمأنت من الشك إلى اليقين ومن الجهل إلى العلم ومن الغفلة
إلى الذكر ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرثاء إلى الإخلاص ومن الكذب إلى الصدق ومن العجز إلى الكيس ومن صولة العجب إلى ذلة الاخبات ومن التيه إلى التواضع ومن الفتور إلى العمل فقد بإشرت روح الطمأنينة وأصل ذلك كله ومنشؤه من اليقظة فهي أول مفاتيح الخير فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالا منه فإن العاقل يعلم وعد الله ووعيده وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويقعده عن الاستدراك سنة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات فإشتد إخلاده وركوده وانغمس في غمار الشهوات واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات ورضي بالتشبه بأهل إضاعة الأوقات فهو في رقاده مع النائمين وفي سكرته مع المخمورين فمتى انكشف عن قلبه سنة هذه الغفلة بزجرة من زواجر الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن أو همة عليه أثارها معول الفكر في المحل القابل فضرب بمعول فكره وكبر تكبيرة أضاءت له منها قصور الجنة فقال
ألا يا نفس ويحك ساعديني ... يسعى منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العلالي

فأثارت تلك الفكرة نورا رأى في ضوئه ما خلق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار ورأى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلا يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله فإستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركا بها ما فات محييا بها ما أمات مستقبلا بها ما نقدم له من العثرات منتهزا فرصة إلا مكان التي إن فأتت فأته جميع الخيرات
ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفور ! نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلب فيها ظاهرا وباطنا ليلا ونهارا ويقظة ومناما سرا وعلانية فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر ويكفي أن أدناها نعمة النفس ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما ظنك بغيرها
ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها عاجز عن أداء حقها وإن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة واحدة منها فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله
ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بحلال وجهه وعظم سلطانه وهذا لو كانت أعماله منه فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه حيث يسرها له وأعانه وهيأه لها وشاءها منه وكونها ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها فحينئذ لا يرى أعماله منه وإن الله سبحانه لن يقبل عملا يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق الله له وفضله عليه ومنته وأنه من الله لا من نفسه وأنه ليس له من نفسه إلا الشر وأسبابه وما به من نعمة فمن الله وحده صدقة تصدق بها عليه وفضلا منه ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير ويرى نفسه أهلا لكل شر وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة والظاهرة والباطنة وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين
ثم يبرق له في نور اليقظة بارقة أخرى يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يبق له حسنة واحدة يرفع بها رأسه فيطمئن قلبه وانكسرت نفسه وخشعت جوارحه وسار إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله قائلا أبوء لك بنعمتك على وأبوء لك بذنبي فأغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلا يرى لنفسه حسنة ولا يراها أهلا لخير فيوجب له أمرين عظيمين

أحدها استكثار ما من الله عليه
والثاني استقلال ما منه من الطاعة كائنة ما كانت ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزة وقته وخطره وشرفه وأنه رأس مال سعادته فيبخل به أن يضيعه فما يقربه إلى ربه فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة فيشح بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده

فصل ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنة غفلته
من التوبة والمحاسبة والمراقبة والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته ببيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال وعلى نفسه أن يملك رقها لمعشوق أو فكر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيره لأنف لها من محبته
فهذا كله من آثار اليقظة وموجباتها وهي أول منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة
فصل وأما النفس اللوامة وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله
ولا أقسم بالنفس اللوامة فاختلف فيها فقالت طائفة هي التي لا تثبت على حال واحدة اخذوا اللفظة من التلوم ! وهو التردد فهي كثيرة التقلب والتلون وهي من أعظم آيات الله فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلا عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة فتذكر وتغفل وتقبل وتعرض وتلطف وتكشف وتنيب وتجفو وتحب وتبغض وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتطع وتنقى وتفجر إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها فهي تتلون كل وقت ألوانا كثيرة فهذا قول
وقالت طائفة اللفظة مأخوذة من اللوم ثم اختلفوا فقالت فرقة هي نفس المؤمن وهذا من صفاتها المجردة قال الحسن البصري أن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا لم فعلت هذا كان غير هذا أولى أو نحو هذا من الكلام
وقال غيره هي نفس المؤمن توقعه في الذنب ثم تلومه عليه فهذا اللوم من الإيمان بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه على ذنب بل يلومها وتلومه على فواته
وقالت طائفة بل هذا اللوم للنوعين فإن كل أحد يلوم نفسه برا كان أو فاجرا فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها

وقالت فرقة أخرى هذا اللوم يوم القيامة فإن كل أحد يلوم نفسه إن كان مسيئا على إساءته وإن كان محسنا على تقصيره
وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها فإن النفس موصوفة بهذا كله وبإعتباره سميت لوامة ولكن اللوامة نوعان
لوامة ملومة وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته
ولوامة غير ملومة وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها ولم تحتمل في الله ملام اللوام فهي التي يلومها الله عز و جل

فصل وأما النفس الأمارة فهي المذمومة فإنها التي تأمر بكل سوء وهذا من
طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وكان النبي يعلمهم خطبة الحاجة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له فالشر كامن في لنفس وهو يوجب سيئات الأعمال فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين الأمارة واللوامة كما أكرمه بالمطمئنة فهي نفس واحدة تكون أمارة ثم لوامة مطمئنة وهي غاية كمالها وصلاحها وأيد المطمئنة بجنود عديدة فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها ويقذف فيها الحق ويرغبها فيه ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه ويريها قبح صورته وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر وجعل وفود الخيرات ومداد التوفيق تنتابها وتصل إليها من كل ناحية وكلما تلقتها بالقبول والشكر والحمد لله ورؤية أوليته في ذلك كله ازداد مددها فتقوى على محاربة الإمارة فمن جندها وهو سلطان عساكرها وملكها الإيمان واليقين

فالجيوش الإسلامية كلها تحت لوائه ناظرة إليه إن ثبت ثبتت وإن انهزم ولت على أدبارها ثم أمراء هذا الجيش ومقدمو عساكره شعب الإيمان المتعلقة بالجوارح على اختلاف أنواعها كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصيحة الخلق والإحسان إليهم بأنواع الإحسان وشعبه الباطنة المتعلقة بالقلب كالإخلاص والتوكل والإنابة والتوبة والمراقبة والصبر والحلم والتواضع والمسكنة وامتلاء القلب من محبة الله ورسوله وتعظيم أوامر الله وحقوقه والغيرة لله وفي الله والشجاعة والعفة والصدق والشفقة والرحمة وملاك ذلك كله الإخلاص والصدق فلا يتعب الصادق المخلص فقد أقيم على الصراط المستقيم فيسار به وهو راقد ولا يتعب من حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران فإن شاء فليعمل وإن شاء فليترك فلا يزيده عمله من الله إلا بعدا وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة
وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها فهو يعدها ويمنيها ويقذف فيها الباطل ويأمرها بالسوء ويزينه لها ويطيل في الأمل ويريها الباطل في صورة تقلبها وتستحسنها ويمدها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة ويستعين عليها بهواها وإرادتها فمنه يدخل عليها كل مكروه فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها وإرادتها إليه وقد علم ذلك إخوانه من شياطين الإنس فلا يستعينون على الصور الممنوعة منهم بشيء أبلغ من هواهم وإرادتهم فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبه وتهواه ثم طلبوا بجهدهم تحصيله فاصطادوا تلك الصورة فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجلسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبوا وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا نحكم فيها فهدموا معالم الإيمان والقرآن والذكر والصلاة وخربوا المساجد وعمروا البيع والكنائس والحانات والمواخير وقصدوا إلى الملك فأسروا وسلبوه ملكه ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان ومن عز الطاعة إلى ذل المعصية ومن السماع الرحماني إلى السماع الشيطاني ومن الاستعداد للقاء رب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين فبينا هو يراعى حقوق الله وما أمره به إذ صار يرعى الخنازير وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم إذ صار منتصبا لخدمة كل شيطان رجيم
والمقصود أن الملك قرين النفس المطمئنة والشيطان قرين الأمارة وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد الله قال قال رسول الله

أن للشيطان لمة بأبن آدم وللملك لمة فأما الشيطان فيعاد ! بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله وليحمد الله ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب وزاد فيه عمرو قال سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله وليسأله من فضله وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان

فصل فالنفس المطمئنة والملك وجنده من الإيمان يقتضيان من النفس
المطمئنة التوحيد والإحسان والبر والتقوى والصبر والتوكل والتوبة والإنابة والإقبال على الله وقصر الأمل والاستعداد للموت وما بعده والشيطان وجنده من الكفر يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك وقد سلط الله سبحانه الشيطان على كل ما ليس له ولم يرد به وجهه ولا هو طاعة له وجعل ذلك إقطاعه فهو يستنيب النفس الأمارة على هذا العمل والإقطاع ويتقاضى أن تأخذ الأعمال من النفس المطمئنة فتجعلها قوة لها فهي أحرص شيء على تخليص الأعمال كلها وأن تصير من حظوظها فأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة لله فلو وصل منها عمل واحد كما ينبغي لنجابه العبد ولكن أبت الأمارة والشيطان ان يدعا لها عملا واحدا يصل إلى الله كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه والله لو اعلم أن لي عملا واحدا وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله وقال عبد الله بن عمر لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت إنما يتقبل الله من المتقين
فصل وقد انتصبت الأمارة في مقابلة المطمئنة فكلما جاءت به تلك من خير
ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها فإذا جاءت بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدح في الإيمان من الشك والنفاق وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبة غير الله وخوفه ورجائه ولا ترضى حتى تقدم محبة غيره وخوفه ورجائه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه فيكون ماله عندها هو المؤخر وما للخلق هو المقدم وهذا حال أكثر هذا الخلق وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي وأتت من الشبه المضلة بما يمنعها من كمال المتابعة وتحكيم السنة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال

فتقوم الحرب بين هاتين النفسين والمنصور من نصره الله وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة جاءت هذه بإضدادها وأخرجتها في عدة قوالب وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق والله يعلم أنها كاذبة وما مرادها إلا مجرد حظها واتباع هواها والتفلت من سجن المتابعة والتحكيم المحض للسنة إلى قضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها ولعمرو الله ما تخلصت إلا من فضاء المتابعة والتسليم إلى سجن الهوى والإرادة وضيقة وظلمته ووحشته فهي مسجونة في هذا العالم وفي البرزخ في أضيق منه ويوم الميعاد الثاني في أضيق منهما
ومن أعجب أمرها أنها تسحر العقل والقلب فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلها فتخرجه في صورة مذمومة وأكثر الخلق صبيان العقول أطفال الأحلام لم يصلوا إلى حد الفطام الأول عن العوائد والمألوفات فضلا عن البلوغ الذي يميز به العاقل البالغ بين خير الخيرين فيؤثره وشر الشرين فيجتنبه فتريه صورة تجريد التوحيد التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر في صورة التنقيص المذموم وهضم العظماء منازلهم وحطهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذل والفقر المحض الذي لا ملكة لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلا من بعد إذن الله فتريهم النفس السحارة هذا القدر غاية تنقيصهم وهضمهم ونزول أقدارهم وعدم تمييزهم عن المساكين الفقراء فتنفر نفوسهم من تجريد التوحيد أشد النفار ويقولون أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وتربهم تجريد المتابعة للرسول وما جاء به وتقديمه على آراء الرجال في صورة تنقيص العلماء والرغبة عن أقوالهم وما فهموه عن الله ورسوله وإن هذا إساءة أدب عليهم وتقدم بين أيديهم وهو مفض إلى إساءة الظن بهم وانهم قد فاتهم الصواب وكيف لنا قوة أن نرد عليهم ونفوز ونحظى بالصواب دونهم فتنفر من ذلك أشد النفار وتجعل كلامهم هو المحكم الواجب الاتباع وكلام الرسول هو المتشابه الذي يعرض على أقوالهم فما وافقها قبلناه وما خالفها رددناه أو أولناه أو فوضناه وتقسم النفس السحارة بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم

فصل وتربة صورة الإخلاص في صورة ينفر منها وهي الخروج عن حكم العقل
المعيشي والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين الناس فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئا تجنبوهم وتجنبوه وأبغضهم وأبغضوه وعاداهم وعادوه وسار على جادة فينفر من ذلك أشد النفار وغايته أن يخلص في القدر اليسير من أعماله التي لا تتعلق بهم وسائر أعماله لغير الله
فصل وتربة صورة للصدق مع الله وجهاد من خرج عن دينه وأمره في
قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم وأنه يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق وأنه يصير غرضا لسهام الطاعنين وأمثال ذلك من الشبه التي تقيمها النفس السحارة والخيالات التي تخيلها وترية حقيقة الجهاد في صورة تقتل فيها النفس وتنكح المرأة ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال وتربة حقيقة الزكاة والصدقة في صورة مفارقة المال ونقصه وخلو اليد منه واحتياجه إلى الناس ومساواته للفقير وعوده لمنزلته وتربه حقيقة إثبات صفات الكمال لله في صورة التشبيه والتمثيل فينفر من التصديق بها وينفر غيره وتريه ! حقيقة التعطيل والإلحاد فيها في صورة التنزيه والتعظيم
وأعجب من ذلك أنها تضاهى ما يحبه الله ورسوله من الصفات والأخلاق والأفعال بما يغضه منها وتلبس على العبد أحد الأمرين بالآخر ولا يخلص من هذا إلا أرباب البصائر فإن الأفعال تصدر عن الإرادات وتظهر على الأركان من النفسين الأمارة والمطمئنة فيتباين الفعلان في البطلان ويشتبهان في الظاهر ولذلك أمثلة كثيرة منها المداراة والمداهنة فالأول من المطمئنة والثاني من الأمارة وخشوع الإيمان وخشوع النفاق وشرف النفس والتيه والحمية والجفاء والتواضع والمهانة والقوة في أمر الله والعلو في الأرض والحمية لله والغضب له والحمية للنفس والغضب لها والجود والسرف والمهابة والكبر والصيانة والنكير والشجاعة والجرأة والحزم والجبن والاقتصاد والشح والاحتراز وسوء الظن والفراسة والظن والنصيحة والغيبة والهدية والرشوة والصبر والقسوة والعفو والذل وسلامة القلب والبله والغفلة والثقة والغرة والرجاء والتمني والتحدث بنعم الله والفخر بها وفرح القلب وفرح النفس ورقة القلب والجزع والموجدة والحقد والمنافسة والحسد وحب الرياسة وحب الإمامة والدعوة إلى الله والحب لله والحب مع الله والتوكل والعجز والاحتياط الوسوسة وإلهام الملك وإلهام الشيطان والأناة والتسويف والاقتصاد والتقصير والاجتهاد والغلو والنصيحة والتأنيب والمبادرة والعجلة والإخبار بالحال عند الحاجة والشكوى
فالشيء الواحد تكون صورته واحدة وهو منقسم إلى محمود ومذموم كالفرح والحزن والأسف والغضب والغيرة والخيلاء والطمع والتجمل والخشوع والحسد والغبطة والجرأة

والتحسر والحرص والتنافس وإظهار النعمة والحلف والمسكنة والصمت والزهد والورع والتخلي والعزلة والأنفة والحمية والغيبة وفي الحديث أن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يكرهه فالغيرة فالتي يحبها الله الغيرة في ربية والتى يكرهها الغيرة في غير ربية وإن من الخيلاء ما يحبه الله ومنها ما يكرهه فالتى يحب الخيلاء في الحرب وفي الصحيح أيضا لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا وسلطة على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها وفي الصحيح أيضا أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطى على العنف وفيه أيضا من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير فالرفق شيء والتواني والكسل شيء فإن التواني يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها فيتقاعد عنها والرفيق يتلطف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاوعة وكذلك المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم والفرق بينهما أن المدارى يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق وقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطها برفق وسهولة حتى أخرج ما فيها ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها ثم يشد عليها الرباط ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت والمداهن قال لصاحبها لا بأس عليك منها وهذه لا شيء فاسترها عن العيوب بخرقة ثم اله عنها فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها وهذا المثل أيضا مطابق كل المطابقة لحال النفس الأمارة مع المطمئنة فتأمله فإذا كانت هذه حال قرحة بقدر الحمصة فكيف بسقم هاج من نفس أمارة بالسوء هي معدن الشهوات ومأوى كل فسق وقد قارنها شيطان في غاية المكر والخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بجميع أنواع السحر حتى يخيل إليها النافع ضارا والضار نافعا والحسن قبيحا والقبيح جميلا وهذا لعمرو الله من أعظم أنواع السحر ولهذا يقول سبحانه فأنى تسحرون والذي نسبوا إليه الرسل من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه وهم أهله لا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كما أنهم نسبوهم إلى الضلال والفساد في الأرض والجنون والسفه وما استعاذت الأنبياء والرسل وأمراء الأمم بالاستعاذة من شر النفس الأمارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلا لأنهما أصل كل شر وقاعدته ومنبعه وهما متساعدان عليه متعاونان
رضيعي لبان ثدى أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا ننفرق

قال الله تعالى فإذا قرأت القرآن فأستعذ بالله من الشيطان الرجيم وقال وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فأستعذ بالله إنه سميع عليم وقال وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون وقال تعالى قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد فهذا استعاذة من شر النفس وقال قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب فأمر الله سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هذين الخلقين العظيم شأنهما في الشر والفساد والقلب بين هذين العدوين لا يزال شرهما يطرقه وينتابه وأول ما يدب فيه السقم من النفس الأمارة من الشهوة وما يتبعها من الحب والحرص والطلب والغضب ويتبعه من الكبر والحسد والظلم والتسلط فيعلم الطبيب الغاش الخائن بمرضه فيعوده ويصف له أنواع السموم والمؤذيات ويخيل إليه بسحره أن شفاءه فيها ويتفق ضعف القلب بالمرض وقوة النفس الأمارة والشيطان وتتابع إمدادهما وأنه نقد حاضر ولذة عاجلة والداعي إليه يدعو من كل ناحية والهوى ينفذ والشهوة تهون والتأسي بالأكثر والتشبه بهم والرضا بأن يصيبه ما أصابهم فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومنادي الجنة إلا من أمده الله بإمداد التوفيق وأيده برحمته وتولي حفظه وحمايته وفتح بصيرة قلبه فرأى سرعة انقطاع الدنيا وزوالها وتقلبها بأهلها وفعلها بهم وأنها في الحياة الدائمة كغمس إصبع في البحر بالنسبة إليه

فصل والفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق أن خشوع الإيمان هو خشوع
القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء وشهود نعم الله وجناياته هو فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع وكان بعض الصحابة يقول أعوذ بالله من خشوع النفاق قيل له وما خشوع النفاق قال أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته وسكن دخانها عن صدره فإنجلى الصدر وأشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حشي به وخمدت الجوارح وتوقر القلب واطمأن إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا ! له والمخبت المطمئن فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فإستنقع فيه الماء فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها وعلامته

أن يسجد بين يدي ربه إجلالا وذلا وانكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره وربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء فهذا خشوع الإيمان
وأما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا ومراءاة ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات وإرادات فهو يخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد ! الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة

فصل وأما شرف النفس فهو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي
تقطع أعناق الرجال فيربأ بنفسه عن أن يلقيها في ذلك بخلاف التيه فإنه خلق متولد بين أمرين إعجابه بنفسه وازدرائه بغيره فيتولد من بين هذين التيه والأول يتولد من بين خلقين كريمين إعزاز النفس وإكرامها وتعظيم مالكها وسيدها أن يكون عبده دنيا وضيعا خسيسا فيتولد من بين هذين الخلقين شرف النفس وصيانتها وأصل هذا كله استعداد وتهيؤها وإمداد وليها ومولاها لها فإذا فقد الاستعداد والإمداد فقد الخير كله
فصل وكذلك الفرق بين الحمية والجفاء فالحمية فطام النفس عن رضاع اللوم
من ثدي هو مصب الخبائث والرذائل والدنايا ولو غزر لبنه وتهالك الناس عليه فإن لهم فطاما تنقطع معه الأكباد حسرات فلا بد من الفطام فإن شئت عجل وأنت محمود مشكور وإن شئت أخر وأنت غير مأجور بخلاف الجفاء فإنه غلظة في النفس وقساوة في القلب وكثافة في الطبع ! يتولد عنها خلق يسمى الجفاء
فصل والفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله
سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة بعباده فلا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقا بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله وهذا خلق إنما يعطيه الله عز و جل من يحبه ويكرمه ويقربه

وأما المهانة فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السفل في نيل شهواتهم وتواضع المفعول به للفاعل وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه فهذا كله ضعة لا تواضع والله سبحانه يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة وفي الصحيح عنه وأوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد والتواضع المحمود على نوعين
النوع الأول تواضع العبد عند أمر الله امتثالا وعند نهيه اجتنابا فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره فيبدو منها نوع إباء وشراد هربا من العبودية وتثبت عند نهيه ! طلبا للظفر بما منع منه فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبودية
والنوع الثاني تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب تعالى وتفرده بذلك وغضبه الشديد على من نازعه ذلك فتواضعت إليه نفسه وانكسر لعظمة الله قلبه واطمأن لهيبته وأخبت لسلطانه فهذا غاية التواضع وهو يستلزم الأول من غير عكس والمتواضع حقيقة من رزق الأمرين والله المستعان

فصل وكذلك القوة في أمر الله هي من تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حتى
يقيمها الله والعلو في الأرض هو من تعظيم نفسه وطلب تفردها بالرياسة ونفاذ الكلمة سواء عز أمر الله أو هان بل إذا عارضه أمر الله وحقوقه ومرضاته في طلب علوه لم يلتفت إلى ذلك وأهدره وأماته ! في تحصيل علوه
وكذلك الحمية لله والحمية للنفس فالأولى يثيرها تعظيم الأمر والآمر والثانية يثيرها تعظيم النفس والغضب لفوات حظوظها فالحمية لله أن يحمى قلبه له من تعظيم حقوقه وهي حال عبد قد أشرق على قلبه نور سلطان الله فامتلأ قلبه بذلك النور فإذا غضب فإنما يغضب من أجل نور ذلك السلطان الذي ألقى على قلبه وكان رسول الله إذا غضب احمرت وجنتاه وبدا بين عينيه عرق يدره الغضب ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن موسى بن عمران كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا وهذا بخلاف الحمية للنفس فإنها حرارة تهيج من نفسه لفوات حظها أو طلبه فإن الفتنة في النفس والفتنة هي الحريق والنفس متلظية بنار الشهوة والغضب فإنما هما حرارتان تظهران على الأركان حرارة من قبل النفس المطمئنة أثارها تعظيم حق الله وحرارة من قبل النفس الأمارة أثارها استشعار فوت الحظ
فصل والفرق بين الجود والسرف أن الجواد حكيم يضع العطاء مواضعه
والمسرف مبذر وقد يصادف عطاؤه موضعه وكثيرا لا يصادفه وإيضاح ذلك أن الله سبحانه بحكمته جعل في المال حقوقا وهي نوعان حقوق موظفة وحقوق ثانية فالحقوق الموظفة كالزكاة والنفقات الواجبة على من تلزمه نفقته
والثانية كحق الضيف ومكافأة المهدى وما وقى به عرضه ونحو ذلك فالجواد يتوخى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال طيبة بذلك نفسه راضية مؤملة للخلف في الدنيا والثواب في العقبى فهو يخرج ذلك بسماحة قلب وسخاوة نفس وانشراح صدر بخلاف المبذر فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافا لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة وإن اتفقت له فالأول بمنزلة من بذر حبة في الأرض تنبت وتوخى ببذره مواضع المغل والإنبات فهذا لا يعد مبذرا ولا سفيها والثاني بمنزلة من بذر حبة في سباخ وعزاز من الأرض وإن اتفق بذره في محل النبات بذر بذرا متراكما بعضه على بعض فلذلك المكان البذر فيه ضائع معطل وهذا المكان بذر بذرا متراكما بعضه على بعض فلذلك يحتاج أن يقلع بعض زرعه ليصلح الباقي ولئلا تضعف الأرض عن تربيته والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق بل كل جود في العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى جوده أقل من قطرة في بحار الدنيا وهي من جوده ومع هذا فإنما ينزل بقدر ما يشاء وجوده لا يناقض حكمته ويضع عطاءه مواضعه وإن خفي على أكثر الناس أن تلك مواضعه فالله يعلم حيث يضع فضله وأي المحال أولى به
فصل والفرق بين المهابة والكبر أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب
يعظمه الله ومحبته وإجلاله فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور ونزلت عليه السكينة وألبس رداء الهيبة فأكتسى وجهه الحلاوة والمهابة فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة فحنت إليه الأفئدة وقرت به العيون وأنست به القلوب فكلامه نور ومدخله نور ومخرجه نور وعمله نور وإن سكت علاه الوقار وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع
وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت فنظره إلى الناس شزر ومشيه بينهم تبختر ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا الإيثار ولا الإنصاف ذاهب بنفسه تيها لا يبدأ من لقيه بالسلام وإن رد عليه

رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه لا ينطلق لهم وجهه ولا يسعهم خلقه ولا يرى لأحد عليه حقا ويرى حقوقه على الناس ولا يرى فضلهم عليه ويرى فضله لا يزداد من الله إلا بعدا ومن الناس إلا صغارا أو بغضا

فصل والفرق بين الصيانة والتكبر أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس
ثوبا جديدا نفى البياض ذا ثمن فهو يدخل به على الملوك فمن دونهم فهو يصونه عن الوسخ والغبار والطبوع وأنواع الآثار إبقاء على بياضه ونقائه فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثوبه وإن أصابه شيء من ذلك على غرة بادر إلى قلعة وإزالته ومحو أثره وهكذا الصائن لقلبه ودينه تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها فإن لها في القلب طبوعا وآثارا أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي للبياض ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع فتراه يهرب من مظان التلوث ويحترس من الخلق ويتباعد من تخالطهم مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين ونحوهم
يخلاف صاحب العلو فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه فهو يقصد أني علو رقابهم ويجعلهم تحت قدمه فهذا لون وذاك لون
فصل والفرق بين الشجاعة والجرأة أن الشجاعة من القلب وهي ثباته
واستقراره عند المخاوف وهو خلق يتولد من الصبر وحسن الظن فإنه متى ظن الظفر وساعده الصبر ثبت كما أن الجبن يتولد من سوء الظن وعدم الصبر فلا يظن الظفر ولا يساعده الصبر وأصل الجبن من سوء الظن ووسوسة النفس بالسوء وهو ينشأ من الرئة فإذا ساء الظن ووسوست النفس بالسوء انتفخت الرئة فزاحمت القلب في مكانه وضيقت عليه حتى أزعجته عن مستقره فأصابه الزلازل والاضطراب لإزعاج الرئة له وتضييقها عليه ولهذا جاء في حديث عمرو بن العاص الذي رواه أحمد وغيره عن النبي شر ما في المرء جبن خالع وشح هالع فسمى الجبن خالعا لأنه يخلع القلب عن مكانه لانتفاخ السحر وهو الرئة كما قلا أبو جهل لعتبة بن ربيعة يوم بدر انتفخ سحرك فإذا زال القلب عن مكانه ضاع تدبير العقل فظهر الفساد على الجوارح فوضعت الأمور على غير مواضعها فالشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنود كما أنه إذا ولى ولت سائر جنوده

وأما الجرأة فهي إقدام سببه قلة المبالاة وعدم النظر في العاقبة بل تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عن ملاحظة العارض فإما عليها وإما لها

فصل وأما الفرق بين الحزم والجبن فالحازم هو الذي قد جمع عليه همه
وإرادته وعقله ووزن الأمور بعضها ببعض فأعد لكل منها قرنة ولفظة الحزم تدل على القوة والإجماع ومنه حزمة الحطب فحازم الرأي هو الذي اجتمعت له شئون رأيه وعرف منها خير الخيرين وشر الشرين فأحجم في موضع الإحجام رأيا وعقلا لا جبنا ولا ضعفا
العاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فصل وأما الفرق بين الاقتصاد والشح أن الاقتصاد خلق محمود يتولد من
خلقين عدل وحكمة فبالعدل يعتدل في المنع والبذل وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به فيتولد من بينهما الاقتصاد وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا وقال تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقال تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا
وأما الشح فهو خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعا والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا
فصل والفرق بين الاحتراز وسوء الظن أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج
بماله ومركوبه مسافرا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق وكل مكان يتوقع منه الشر وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه فالمحترز كالمتسلح المتطوع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعد له عدته فهمه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب

وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه فهم معه أبدا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض ببغضهم ويبغضونه ويلعنهم ويلعنونه ويحذرهم ويحذرون منه فالأول يخالطهم ويحترز منهم والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض

فصل والفرق بين الفراسة والظن أن الظن يخطىء ويصيب وهو يكون مع ظلمة
القلب ونوره وطهارته ونجاسته ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه وأخبر أن بعضه إثم
وأما الفراسة فأثنى على أهلها ومدحهم في قوله تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أي للمتفرسين وقال تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم وقال تعالى ولو نشاء لأريناهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنزه من الأدناس وقرب من الله فهو ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه وفي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وهذه الفراسة نشأت له من قربه من الله فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه وأضاء له النور بقدر قربه فرأى في ذلك النور ما لم يره البعيد والمحجوب كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي فيما يروى عن ربه عز و جل أنه قال ما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها في يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي فأخبر سبحانه أن تقرب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطىء له فراسة فإن العبد إذا أبصر بالله أبصر الأمر على ما هو عليه فإذا سمع بالله سمعه على ما هو عليه وليس هذا من علم الغيب بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصول صورا الحقائق فيه وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره بحسب ذلك النور وقد كان رسول الله يرى أصحابه في الصلاة وهم خلفه كما يراهم أمامه ورأى بيت المقدس عيانا وهو

بمكة ورأى قصور الشام وأبواب صنعاء ومدائن كسرى وهو بالمدينة يحفر الخندق ورأى أمراءه بمؤتة وقد أصيبوا وهو بالمدينة ورأى النجاشي بالحبشة لما مات وهو بالمدينة فخرج إلى المصل فصلى عليه ورأى عمر سارية بنهاوند من أرض فارس هو وعساكر المسلمين وهم يقاتلون عدوهم فناداه يا سارية الجبل ودخل عليه نفر من مذحج فيهم الأشتر النخعي فصعد فيه البصر وصوبه وقال أيهم هذا قالوا مالك بن الحارث فقال ماله قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا
ودخل عمرو بن عبيد على الحسن فقال هذا سيد الفتيان إن لم يحدث وقيل أن الشافعي ومحمد بن الحسن جلسا في المسجد الحرام فدخل رجل فقال محمد أتفرس أنه نجار فقال الشافعي أتفرس أنه حداد فسألاه فقال كنت حدادا وأنا اليوم أنجر ودخل أبو الحسن البوشنجي والحسن الحداد على أبي القاسم المناوى يعودانه فاشتريا في طريقهما بنصف درهم تفاحا نسيئة فلما دخلا عليه قال ما هذه الظلمة فخرجا وقالا ما علمنا لعل هذا من قبل ممن التفاح فأعطيا الثمن ثم عادا إليه ووقع بصره عليهما فقال يمكن الإنسان أن يخرج من الظلمة بهذه السرعة أخبراني عن شأنكما فأخبراه بالقصة فقال نعم كان كل واحد منكما يعتمد على صاحبه في إعطاء الثمن والرجل مستح منكما في التقاضي وكان بين زكريا النخشي وبين امرأة سبب قبل توبته فكان يوما واقفا على رأس أبي عثمان الخيري فتفكر في شأنها فرفع أبو عثمان إليه رأسه وقال ألا تستحي وكان شاه الكرماني جيد الفراسة لا نخطىء فراسته وكان يقول من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهرة بإتباع السنة وتعود أكل الحلال لم تخطىء فراسته وكان شاب يصحب الجنيد يتكلم على الخواطر فذكر للجنيد فقال إيش هذا الذي ذكر لي عنك فقال له اعتقد شيئا فقال له الجنيد اعتقدت فقال الشاب اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد لا فقال فأعتقد ثانيا قال اعتقدت فقال الشاب اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد لا قال فاعتقد ثالثا قال اعتقدت قال الشاب هو كذا وكذا قال لا فقال الشاب هذا عجب وأنت صدوق وأنا أعرف قلبي فقال الجنيد صدقت في الأولى والثانية والثالثة لكن أردت أن أمتحنك هل يتغير قلبك وقال أبو سعيد الخراز دخلت المسجد الحرام فدخل فقير عليه خرقتان يسأل شيئا فقلت في نفسي مثل هذا كل على الناس فنظر إلى وقال اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه قال فأستغفرت في سري فناداني وقال وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وقال إبراهيم الخواص كنت في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه حسن

الحرمة فقلت لأصحابنا يقع لي أنه يهودي فكلهم كره ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم فقال إيش قال الشيخ فأحتشموه فألح عليهم فقالوا قال إنك يهودي فجاء فأكب على يدي فأسلم فقلت ما السبب فقال نجد في كتابنا أن الصديق لا تخطىء فراسته فقلت امتحن المسلمين فتأملتهم فقلت إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة فلبست عليكم فلما اطلع هذا الشيخ على وتفرسني علمت أنه صديق وهذا عثمان بن عفان دخل عليه رجل من الصحابة وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها فقال له عثمان يدخل على أحدكم واثر الزنا ظاهر على عينيه فقلت أوحى بعد رسول الله فقال لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة
فهذا شأن الفراسة وهي نور يقذفه الله في القلب فيخطر له الشيء فيكون كما خطر له وينفذ إلى العين فيرى مالا يراه غيرها

فصل والفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير
المسلم من مبتدع أو فتان أو غاش أو مفسد فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به كما قال النبي لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم فقال أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وقال بعض أصحابه لمن سافر معه إذا هبطت عن بلاد قومه فأحذروه
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه لتضع منزلته من قلوب الناس فهي الداء العضال ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب
فصل والفرق بين الهدية والرشوة وإن اشتبها في الصورة القصد فإن الراشي
قصده بالرشوة التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل فهذا الراشي الملعون على لسان رسول الله فإن رشا لدفع الظلم عن نفسه اختص المرتشي وحده باللعنة
وأما المهدى فقصده استجلاب المودة والمعرفة والإحسان فإن قصد المكافأة فهو معاوض وإن قصد الربح فهو مستكثر
فصل والفرق بين الصبر والقسوة أن الصبر خلق كسبى يتخلق به العبد وهو
حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي فيحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى والجوراح عما لا ينبغي فعله وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية
وأما القسوة فيبس في القلب يمنعه من الانفعال وغلظة تمنعه من التأثير بالنوازل فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله
وتحقيق هذا أن القلوب ثلاثة
قلب قاس غليظ بمنزلة اليد اليابسة وقلب مائع رقيق جدا
فالأول لا ينفعل بمنزلة للحجر والثاني بمنزلة الماء وكلاهما ناقص وأصح القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب فهو يرى الحق من الباطل بصفائه وبقلبه ويؤثره برقته ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته وفي الأثر القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها وهذا القلب الزجاجي فإن الزجاجة جمعت الأوصاف الثلاثة وابغض القلوب إلى الله القلب القاسي قال تعالى فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله وقال تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وقال تعالى ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم فذكر القلبين المنحرفين عن الاعتدال هذا بمرضه وهذا بقسوته وجعل إلقاء الشيطان فتنة لأصحاب هذين القلبين ورحمة لأصحاب القلب الثالث وهو القلب الصافي الذي ميز بين إلقاء الشيطان وإلقاء الملك بصفائه وقبل الحق بإخباته ورقته وحارب النفوس المبطلة بصلابته وقوته فقال تعالى عقيب ذلك وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم
فصل والفرق بين العفو والذل أن العفو إسقاط حقك جودا وكرما وإحسانا مع
قدرتك على الانتقام فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق بخلاف الذل فإن صاحبه يترك

الانتقام عجزا وخوفا ومهانة نفس فهذا مذموم غير محمود ولعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه قال تعالى والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون
فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء مالهم عليه ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح فقال وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين فذكر المقامات الثلاثة العدل وأباحه والفضل وندب إليه والظلم وحرمه
فإن قيل فكيف مدحهم على الانتصار والعفو وهما متنافيان
قيل لم يمدحهم على الاستيفاء والانتقام وإنما مدحهم على الانتصار وهو القدرة والقوة على استيفاء حقهم فلما قدروا ندبهم إلى العفو قال بعض السلف في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا فمدحهم على عفو بعد قدرة لا على عفو ذل وعجز ومهانة وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله وكان الله عفوا قديرا والله غفور رحيم وفي أثر معروف حملة العرش أربعة إثنان يقولان سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا قال المسيح صلوات الله وسلامه عليه إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي أن غفرت لهم غفرت عن عزة وهي كمال القدرة وحكمة وهي كمال العلم فغفرت بعد أن علمت ما عملوا وأحاطت بهم قدرتك إذ المخلوق قد يغفر بعجزه عن الانتقام وجهله بحقيقة ما صدر من المسيء والعفو من المخلوق ظاهره ضيم وذل وباطنه عز ومهانة وانتقام ظاهره عز وباطنه ذل فما زاد الله بعفو إلا عزا لا انتقم أحد لنفسه إلا ذل ولو لم يكن إلا بفوات عز العفو ولهذا ما انتقم رسول الله لنفسه قط وتأمل قوله سبحانه وهم ينتصرون كيف يفهم منه أن فيهم من القوة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم لا أن غيرهم هو الذي ينصرهم ولما كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حد العدل غالبا بل لا بد من المجاوزة شرع فيه سبحانه المماثلة والمساواة وحرم الزيادة وندب إلى العفو
والمقصود أن العفو من أخلاق النفس المطمئنة والذل من أخلاق الإمارة ونكتة المسألة أن الانتقام شيء والانتصار شيء فالانتصار أن ينتصر لحق الله ومن أجله ولا يقوى على ذلك إلا من تخلص من ذل حظه ورق هواه فإنه حينئذ ينال حظا من العز الذي قسم الله المؤمنين فإذا بغى عليه انتصر من الباغي من أجل عز الله الذي أعزه به غيرة على ذلك العز

أن يستضام ويقهر وحمية للعبد المنسوب إلى العزيز الحميد أن يستذل فهو يقال للباغي عليه أنا مملوك من لا يذل مملوكه ولا يحب أن يذله أحد وإذا كانت نفسه الأمارة قائمة على أصولها لم تحب بعد طلبه إلا الانتقام والانتصار لحظها وظفرها بالباغي تشفيا فيه وإذلالا له وأما النفس التي خرجت من ذل حظها ورق هواها إلى عز توحيدها وإنابتها إلى ربها فإذا نالها البغي قامت بالانتصار حمية ونصرة للعز الذي أعزها الله به ونالته منه وهو في الحقيقة حمية لربها ومولاها وقد ضرب لذلك مثلا بعبدين من عبيد الغلة حراثين ضرب أحدهما صاحبه فنفا المضروب عن الضارب نصحا منه لسيده وشفقة على الضارب أني عاقبه السيد فلم يجشم سيده خلقه عقوبته وإفساده بالضرب فشكر العافي على عفوه ووقع منه بموقع وعبد آخر قد أقامه بين يديه وجمله وألبسه ثيابا يقف بها بين يديه فعمد بعض سواس الدواب وأضرابهم ولطخ تلك الثياب بالعذرة أو مزقها فلو عفا عمن فعل به ذلك لم يوافق عفوه رأى سيده ولا محبته وكان الانتصار أحب إليه ووافق لمرضاته كأنه يقول إنما فعل هذا بك جرأة علي واستخفافا بسلطاني فإذا أمكنه من عقوبته فأذله وقهره ولم يبق إلا أن يبطش به فذل وانكسر قلبه فإن سيده يحب منه أن لا يعاقبه لحظة وأن يأخذ منه حق السيد فيكون انتصاره حينئذ لمحض حق سيده لا لنفسه كما روى عن علي رضي الله أنه مر برجل فاستغاث به وقال هذا منعني حقي ولم يعطني إياه فقال أعطه حقه فلما جاوزهما لج الظالم ولطم صاحب الحق فاستغاث بعلي فرجع وقال أتاك الغوث فقال له استقدمته فقال قد عفوت يا أمير المؤمنين فضربه على تسع دور وقال قد عفا عنك من لطمته وهذا حق السلطان فعاقبه على لما اجترأ على سلطان الله ولم يدعه ويشبه هذا قصة الرجل الذي جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال احملني فوالله لا أنا أفرس منك ومن ابنك وعنده المغيرة بن شعبة فحسر عن ذراعه وصك بها أنف الرجل فسال الدم فجاء قومه إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا أقدنا من المغيرة فقال أنا أقيدكم من وزعة الله لا أقيدكم منه فرأى أبو بكر أن ذلك انتصار من المغير وحمية الله وللعز الذي أعز به خليفة رسول الله ليتمكن بذلك العز من حسن خلافته وإقامة دينه فترك قوده لاجترائه على عز الله وسلطانه الذي أعز به رسوله ودينه وخليفته فهذا لون والضرب حمية للنفس الأمارة لون

فصل والفرق بين سلامة القلب والبله والتغفل أن سلامة القلب تكون من
عدم إرادة البشر

بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به وهذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة وهذا لا يحمد إذ هو نقص وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه والكمال أن يكون القلب عارفا بتفاصيل الشر سليما من إرادته قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لست بخب ولا يخدعني الخب وكان عمر أعقل من أن يخدع وأورع من أن يخدع وقال تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس فالقلب السليم الذي سلم من هذا وهذا

فصل والفرق بين الثقة والغرة أن الثقة سكون يستند إلى أدلة وإمارات
يسكن القلب إليها فكلما قويت تلك الإمارات قويت الثقة واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة واللفظة كأنها والله اعلم من الوثاق وهو الرباط فالقلب قد ارتبط بمن وثق به يوكلا عليه وحسن ظن به فصار في وثاق محبته ومعاملته والاستناد إليه والاعتماد عليه فهو في وثاقه بقلبه وروحه وبدنه فإذا صار القلب إلى الله وانقطع إليه تقيد بحبه وصار في وثاق العبودية فلم يبق له مفزع في النوائب ولا ملجأ غيره ويصير عدته وشدته وذخيرته في نوائبه وملجأه في نوازله ومستعانه في حوائجه وضروراته
وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والغرور ثقتك بمن لا يوثق به وسكونك إلى من لا يسكن إليه ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخبر كحال المغتر بالسراب قال تعالى والذي كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عهده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وقال تعالى في وصف المغترين قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء إذا انكشف الغطاء وثبتت حقائق الأمور علموا انهم لم يكونوا على شيء وبدا لهم من الله ما لم يكونا يحتسبون وفي اثر معروف إذا رأيت الله سبحانه يزيدك من نعمة وأنت مقيم عل معصيته فأحذره فإنما هو استدراج يستدرجك به وشاهد هذا في القرآن في قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فهم مبلسون وهذا من أعظم الغرة أن تراه يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على ما يكره فالشيطان وكل الغرور وطبع النفس الأمارة الاغترار فإذا اجتمع الرأي والبغي والرأي

المحتاج والشيطان الغرور والنفس المغترة لم يقع هناك خلاف فالشياطين غروا المغترين بالله وأطمعوهم مع إقامتهم على ما يسخط الله ويغضبه في عفوه وتجاوزه وحدوثهم بالتوبة لتسكن قلوبهم ثم دافعوهم بالتسويف حتى هجم الأجل فأخذوا على أسوأ أحوالهم وقال تعالى وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور وقال تعالى يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور واعظم الناس غرورا بربه من إذا مسه الله برحمة منه وفضل قال هذا لي أي أنا أهله وجدير به ومستحق له ثم قال وما أظن الساعة قائمة فظن أنه أهل لما أولاه من النعم مع كفره بالله ثم زاد في غروره فقال ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى يعني الجنة والكرامة وهكذا تكون الغرة بالله فالمغتر بالشيطان مغتر بوعوده وأمانيه وقد ساعد اغتراره بدنياه ونفسه فلا يزال كذلك حتى يتردى في آبار الهلاك

فصل والفرق بين الرجاء والتمني أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ
الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله فطوى سبحانه بساط الرجاء إلا عن هؤلاء وقال المغترون إن الذين ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه واتبعوا ما أسخطه وتجنبوا ما يرضيه أولئك يرجون رحمته وليس هذا ببدع من غرور النفس والشيطان لهم فالرجاء لعبد قد امتلأ قلبه من الإيمان بالله واليوم الآخر فمثل بين عينيه ما وعده الله تعالى من كرامته وجنته امتد القلب مائلا إلى ذلك شوقا إليه وحرصا عليه فهو شبيه بالماد عنقه إلى مطلوب قد صار نصب عينيه وعلامة الرجاء الصحيح أن الراجي يخاف فوت الجنة وذهاب حظه منها بترك ما يخاف أن يحول بينه وبين دخولها فمثله مثل رجل خطب امرأة كريمة في منصب شرف إلى أهلها فلما آن وقت العقد واجتماع الأشراف والأكابر وإتيان الرجل إلى الحضور علم عشية ذلك اليوم ليتأهب الحضور فتراه المرأة وأكابر الناس فاخذ في التأهب والتزيين والتجميل فأخذ من فضول شعره وتنظيف وتطيب ولبس أجمل ثيابه وأتى إلى تلك الدار متقيا في طريقه كل وسخ ودنس واثر يصيبه اشد تقوى حتى الغبار والدخان وما هو دون ذلك فلما وصل إلى الباب رحب به ربها ومكن له في صدر الدار على الفرش والوسائد ورمقته العيون وقصد بالكرامة من كل ناحية فلو أنه ذهب بعد أخذ

هذه الزينة فجلس في المزابل وتمرغ عليها وتمعك بها وتلطخ في بدنه وثيابه بما عليها من عذرة وقذر ودخل ذلك في شعره وبشره وثيابه فجاء على ذلك الحال إلى تلك الدار وقصد دخولها للوعد الذي سبق له لقام إليه البواب بالضرب والطرد والصياح عليه والإبعاد له من بابها وطريقها فرجع متحيزا خاسئا فالأول حال الراجي وهذا حال المتمني وإن شئت مثلت حال الرجلين بملك هو من أغير الناس وأعظمهم أمانة وأحسنهم معاملة لا يضيع لديه حق أحد وهو يعامل الناس من وراء ستر لا يراه أحد وبضائعه وأمواله وتجارته وعبيده وإماؤه ظاهر بارز في داره للعاملين فدخل عليه رجلان فكان أحدها يعامله بالصدق والأمانة والنصيحة لم يجرب عليه غشا ولا خيانة ولا مكرا فباعه بضائعه كلها واعتمد مع مماليكه وجواريه ما يجب أن يعتمد معهم فكان إذا دخل إليه ببضاعة تخير له احسن البضائع وأحبها إليه وإن صنعها بيده بذل جهده في تحسينها وتنميقها وجعل ما خفي منها أحسن مما ظهر ويستلم المؤنة ممن أمره أن يستلمها منه وامتثل ما أمره به السفير بينه وبينه في مقدار ما يعمله صفته وهيئته وشكله ورقته وسائر شئونه وكان الآخر إذا دخل دخل بأخس بضاعة يجدها لم يخلصها من الغش ولا نصح فيها ولا اعتمد في أمرها ما قاله المترجم عن الملك والسفير بينه وبين الصناع والنجار بل كان يعملها على ما يهواه ومع ذلك فكان يخون الملك داره إذ هو غائب عن عينه فلا يلوح له طمع إلا خانة ولا حرمة للملك إلا مد بصره إليها وحرص على إفسادها ولا شيء يسخط الملك إلا ارتكبه إذا قدر عليه فمضيا على ذلك مدة ثم قيل إن الملك يبرز لمعامليه حتى يحاسبهم ويعطيهم حقوقهم فوقف الرجلان بين يديه فعامل كل واحد منهما بما يستحقه فتأمل هذين المثلين فإن الواقع مطابق لهما فالراجي على الحقيقة لما صارت الجنة نصب عينه ورجاءه وأمله امتد إليها قلبه وسعى لها سعيها فإن الرجاء هو امتداد القلب وميله وحقق رجاءه كمال التأهب وخوف الفوت والأخذ بالحذر وأصله من التنحي ! ورجا البئر ناحيته وإرجاء السماء نواحيها وامتداد القلب إلى المحبوب منقطعا عما يقطعه عنه هو تنح عن النفس الأمارة وأسبابها وما تدعو إليه وهذا الامتداد والميل والخوف من شأن النفس المطمئنة فإن القلب إذا انفتحت بصيرته فرأى الآخرة وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته خاف وخف مرتحلا إلى الله والدار الآخرة وكان قبل ذلك مطمئنا إلى النفس والنفس إلى الشهوات والدنيا فلما انكشف عنه غطاء النفس خف وارتحل عن جوارها طالبا جوار العزيز الرحيم في جنات النعيم ومن هنا صار كل خائف راجيا وكل راج خائفا فأطلق اسم أحدهما على الآخر فإن الراجي قلبه قريب الصفة من قلب الخائف هذا الراجي قد نجى ! قلبه عن مجاورة النفس والشيطان مرتحلا إلى الله قد رفع له من الجنة علم فشمر إليه وله مادا إليه قلبه كله وهذا الخائف فار منه

جوارهما ملتجئ إلى الله من حبسه في سجنهما في الدنيا فيحبس معها بعد الموت ويوم القيامة فإن المرء مع قرينه في الدنيا والآخرة فلما سمع الوعيد ارتحل من مجاورة جار السوء في الدارين فأعطى اسم الخائف ولما سمع الوعد امتد واستطار شوقا وفرحا بالظفر به فأعطى اسم الراجي وحالاه متلازمان لا ينفك عنهما فكل راج خائف من فوات ما يرجوه كما أن كل خائف راج أمنه مما يخاف فلذلك تداول الاسمان عليه قال تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا قالوا في تفسيرها لا تخافون لله عظمة وقد تقدم أن سبحانه طوى الرجاء إلا عن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا وقد فسر النبي الإيمان بأنه ذو شعب وأعمال ظاهرة وباطنة وفسر الهجرة بأنها هجر ما نهى الله عنه والجهاد بأنه جهاد النفس في ذات الله فقال المهاجرين من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والمقصود بأن الله سبحانه جعل أهل الرجاء من آمن وهاجر وجاهد وأخرج من سواهم من هذه الأمم
وأما الأماني فإنها رءوس أموال المفاليس أخرجوها في قالب الرجاء وتلك أمانيهم وهي تصدر من قلب تزاحمت عليه وساوس النفس فاظلم من دخانها فهو يستعمل قلبه في شهواتها وكلما فعل ذلك منته حسن العاقبة والنجاة وإحالته على العفو والمغفرة والفضل وأن الكريم لا يستوفي حقه ولا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة ويسمي ذلك رجاء وإنما هو وسواس وأماني باطلة تقذف بها النفس إلى القلب الجاهل فيستريح إليها قال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا فإذا ترك العبد ولاية الحق ونصرته ترك الله ولايته ونصرته ولم يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا وإذا ترك ولايته ونصرته تولته نفسه والشيطان فصارا وليين له ووكل نفسه فصار انتصاره لها بدلا من نصرة الله ورسوله فاستبدل بولاية الله ولاية نفسه وشيطانه وبنصرته نصرة نفسه هواه فلم يدع للرجاء موضعا فإذا قالت لك النفس أنا في مقام الرجاء فطالبها بالبرهان وقل هذه أمنية فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فالكيس يعمل أعمال البر على الطمع والرجاء والأحمق العاجز يعطل أعمال البر ويتكل على الأماني التي يسميها رجاء والله الموفق

فصل والفرق بين التحدث بنعم الله والفخر بها أن المتحدث بالنعمة مخبر
عن صفات ولها ومحض جوده وإحسانه فهو مثن عليه بإظهارها والتحدث بها شاكرا له ناشرا لجميع ما أولاه مقصود بذلك إظهار صفات الله ومدحه والثناء وبعث النفس على الطلب منه دون غيره وعلى محبته ورجائه فيكون راغبا إلى الله بإظهار نعمه ونشرها والتحدث بها

وأما الفخر بالنعم فهو أن يستطيل بها على الناس ويريهم أنه أعز منهم وأكبر فيركب أعناقهم ويستعبد قلوبهم ويستميلها إليه بالتعظيم والخدمة قال النعمان بن بشير إن للشيطان مصالي وفخوخا وإن من مصاليه وفخوخه البطش بنعم الله والكبر على عباد الله والفخر بعطية الله في غير ذات الله

فصل والفرق بين فرح القلب وفرح النفس ظاهر فإن الفرح بالله ومعرفته
ومحبته وكلامه من القلب قال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك فإذا كان أهل الكتاب يفرحون بالوحي فأولياء الله وأتباع رسوله أحق بالفرح به وقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قال أبو سعيد الخدري فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله وقال هلال بن يساف فضل الله ورحمته الإسلام الذي هداكم إليه والقرآن الذي علمكم هو خير من الذهب والفضة الذي تجمعون وقال ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فهذا فرح القلب وهو من الإيمان ويثاب عليه العبد فإن فرحه به يدل على رضاه به بل هو فوق الرضا فالفرح بذلك على قدر محبته فإن الفرح إنما يكون بالظفر بالمحبوب وعلى قدر محبته يفرح بحصوله له فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته ولبه وله عبودية عجيبة وأثر القلب لا يعبر عنه فابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضل ما يعطاه بل هو جل عطاياه والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها فهذا شأن فرح القلب وله فرح آخر وهو فرحه بما من الله به عليه علمه من معاملته والإخلاص له والتوكل عليه والثقة به وخوفه ورجائه به وكلما تمكن في ذلك قوى فرحه وابتهاجه وله فرحة أخرى عظيمة الوقع عجيبة الشأن وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة فلو علم المعاصي إن لذة التوبة وفرحتها يزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية

وسر هذا الفرح إنما يعلمه من علم سر فرح الرب تعالى بتوبة عبده أشد فرح يقدر ولقد ضرب له رسول مثلا ليس في أنواع الفرح في الدنيا أعظم منه وهو فرح رجل قد خرج براحته التي عليها طعامه وشرابه في سفر ففقدها في أرض دوية مهلكة فاجتهد في طلبها فلم يجدها فيئس منه فجلس ينتظر الموت حتى إذا طلع البدر رأي في ضوئه راحلته وقد تعلق زمامها بشجر فقال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته
فلا ينكر أن يحصل للتائب نصيب وافر من الفرح بالتوبة ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحات ! ومضض ومحن لا تثبت لها الجبال فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح وإن ضعف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء وآخر أمره فوات ما آثره من فرحة المعصية ولذتها فيفوته الأمران ويحصل على ضد اللذة من الألم المركب من وجود المؤذي وفوت المحبوب فالحكم لله العلي الكبير

فصل وها هنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا
إلى الله إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه وقال له ملك الموت أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب ابشري بروح وريحان ورب غير غضبان اخرجي راضية مرضيا عنك يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمر بآيثارها فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح منها الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه ومنه فتح أبوب السماء لها وصلاة ملائكة السماء عليها وتشييع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح ويصلي عليها أهلها وشيعها مقربوها هكذا إلى السماء السابعة فكيف يقدر فرحها استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه يقول اكتبوا كتابه في غلبين ثم يذهب به فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعد الله له ويلقي أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله فيجدهم على أحسن حال ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر هذا كله قبل الفرج الأكبر يوم حشر الأجساد بجلوسه في ظل العرش وشربه من الحوض وأخذه كتابه بيمينه وثقل ميزانه وبياض وجهه وإعطائه النور التام والناس في الظلمة وقطعه جسر جهنم بلا تعويق وانتهائه إلى باب الجنة وقد أزلفت له في لموقف وتلقي خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه

وبعد ذلك فرح آخر لا يقدر قدره ولا يعبر عنه تتلاشى هذه الأفراح كلها عنده وإنما يكون هذا لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم وسلامه عليهم وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم
وليست هذه الفرحات إلا ... لذى الترحات في دار الرزايا
فشمر ما استطعت الساق واجهد ... لعلك أن تفوز بذي العطايا
وصم عن لذة حشيت بلاء ... الذات خلصن من البلايا
ودع أمنية إن لم تنلها ... تعذب أو تنل كانت منايا
ولا تستبط وعدا من رسول ... أتى بالحق من رب البرايا
فهذا الوعد أدنى من نعيم ... مضى بالأمس لو وفقت رايا

فصل والفرق بين رقة القلب والجزع أن الجزع ضعف في النفس وخوف في
القلب يمده شدة الطمع والحرص ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر وإلا فمتى علم أن المقدر كائن ولا بد كان الجزع عناء محضا ومصيبة ثانية قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم فمتى آمن العبد بالقدر وعلم أن المصيبة مقدرة في الحاضر والغائب لم يجزع ولم يفرح
ولا ينافي هذا رقة القلب فإنها ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال والله سبحانه إنما يرحم من عباده الرحماء وقد كان رسول الله أرق الناس قلبا وأبعدهم من الجزع فرقة القلب رأفة ورحمة وجزعه مرض وضعف فالجزع حال قلب مريض بالدنيا قد غشيه دخان النفس الأمارة فأخذ بأنفاسه وضيق عليه مسالك الآخرة وصار في سجن الهوى والنفس وهو سجن ضيق الأرجاء مظلم المسلك فانحصار القلب وضيقه يجزع من أدنى ما يصيبه ولا يحتمله فإذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد وامتلأ من محبة الله وإجلاله رق وصارت فيه الرأفة والرحمة فتراه رحيما رفيق القلب بكل ذي قربى ومسلم يرحم النملة في حجرها والطير في وكره فضلا عن بني جنسه فهذا أقرب القلوب من الله قال أنس كان رسول الله أرحم الناس بالعيال والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبدا أسكن في قلبه الرأفة والرحمة وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة وأبدله بهما الغلظة والقسوة وفي الحديث الثابت لا تنزع الرحمة إلا من شقي وفيه من لا يرحم لا يرحم وفيه ارحموا من في الأرض

يرحمكم من في السماء وفيه أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم عفيف متعفف ذو عيال والصديق رضي الله عنه إنما فضل الأمة بما كان في قلبه من الرحمة العامة زيادة على الصديقية ولهذا أظهر أثرها في جميع مقدماته حتى في الأسارى يوم بدر واستقر الأمر على ما أشار به وضرب له مثلا بعيسى وإبراهيم والرب تعالى هو الرءوف الرحيم وأقرب الخلق إليه وأعظمهم رأفة ورحمة كما أن أبعدهم منه من اتصف بضد صفاته وهذا باب لا يلجه إلا الأفراد في العالم

فصل والفرق بين الموجدة والحقد أن الوجد الإحساس بالمؤلم والعلم به
وتحرك النفس في رفعه فهو كمال وأما الحقد فهو إضمار الشر وتوقعه كل وقت فيمن وجدت عليه فلا يزايل القلب أثره
وفرق آخر وهو أن الموجدة لما ينالك منه والحقد لما يناله منك فالموجدة وجد ما نالك من أذاه والحقد توقع وجود ما يناله من المقابلة فالموجدة سريعة الزوال والحقد بطيء الزوال والحقد يجيء مع ضيق القلب واستيلاء ظلمة النفس ودخانها عليه بخلاف الموجدة فإنها تكون مع قوته وصلابته وقوة نوره وإحساسه
فصل والفرق بين المنافسة والحسد أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي
تشاهد من غيرك فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر قال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبا ورغبة فينافس فيه كل من النفسين الأخرى وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب رسول الله يتنافسون في الخير ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه بل يحض بعضهم بعضا عليه مع تنافسهم فيه وهي نوع من المسابقة وقد قال تعالى فاستبقوا الخيرات وقال تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء وكان عمر بن الخطاب يسابق أبا بكر رضي الله عنهما فلم يظفر بسبقه أبدا فلما علم أنه قد استولى على الإمامة قال والله لا أسابقك إلى شيء أبدا وقال والله ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته ويتسابقان إلى محابه فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه وكل منهما يحب الآخر ويحرضه على مرضاة سيده

والحسد خلق نفس ذميمة وضيعه ساقطة ليس فيها حرص على الخير فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها وتتمنى أن لوفاته كسبها حتى يساويها في العدم كما قال تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء وقال تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فالحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو والمنافس مسابق النعمة متمن تمامها عليه وعلى من ينافسه فهو ينافس غيره أن يعلو عليه ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة فمن جعل نصب عينيه شخصا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرا فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا لا نذمه وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة كما في الصحيح عن النبي لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق فهذا حسد منافسة وغبطة يدل على علو همة صاحبه وكبر نفسه وطلبها للتشبه بأهل الفضل

فصل والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله هو الفرق بين
تعظيم أمر الله والنصح له وتعظيم النفس والسعي في حظها فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يطاع ربه فلا يعصى وأن تكون كلمته هي العليا وأن يكون الدين كله لله وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه فقد ناصح الله في عبوديته وناصح خلقه في الدعوة إلى الله فهو يحب الإمامة في الدين بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين أما ما يقتدي به المتقون كما اقتدى هو بالمتقين فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلا وفي قلوبهم مهيبا وإليهم حبيبا وأن يكون فيهم مطاعا لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يده لم يضره ذلك بل يحمد عليه لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع ويعبد ويوحد فهو يحب ما يكون عونا على ذلك موصلا إليه ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه وأثنى عليهم في تنزيله وأحسن جزاءهم يوم لقائه فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم ثم قال والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة فإنما سألوه وما يعانون به المتقين على مرضاته وطاعته وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين كما قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا

بآياتنا يوقنون وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم ويمن عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة ظاهرا وباطنا التي لا تتم الإمامة إلى بها وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جلا جلاله ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته ومحض جوده ومنته وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف وهي المنازل العالية في الجنة لما كانت الإمامة في الدين من الرتب العالية بل من أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين كان جزاؤه عليها الغرفة العالية في الجنة
وهذا بخلاف طلب الرياسة فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض وتعبد القلوب لهم وميلها إليهم ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم فترتب على هذا المطلب من المفاسد مالا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله وتعظيم من حقره الله واحتقار من أكرمه الله ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد والرؤساء في عمى عن هذا فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه ولا سيما إذا حشروا في صور الذر يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتحقيرا وتصغيرا كما صغروا أمر الله وحقروا عباده

فصل والفرق بين الحب في الله والحب مع الله وهذا من أهم الفروق
وكل أحد محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا فالحب في الله هو من كمال الإيمان والحب مع الله هو عين الشرك والفرق بينهما أن المحب في الحب تابع لمحبة الله فإذا تمكنت محبته من قلب العبد أوجبت تلك المحبة ان يحب ما يحبه الله فإذا أحب ما أحبه ربه ووليه كان ذلك الحب له وفيه كما يحب رسله وأنبياءه وملائكته وأوليائه لكونه تعالى يحبهم ويبغض من يبغضهم لكونه تعالى ببغضهم وعلامة هذا الحب والبغض في الله أنه لا ينقلب بغضه لبغيض الله حبا لإحسانه إليه وخدمته له وقضاء حوائجه ولا ينقلب حبه لحبيب الله بغضا إذا وصل إليه من جهته من يكرهه ويؤلمه إما خطأ وإما عمدا مطيعا لله فيه أو متأولا أو مجتهدا أو باغيا نازعا تائبا والدين كله يدور على أربع قواعد حب وبغض ويترتب عليهما فعل وترك فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان بحيث إذا أحب أحب لله وإذا أبغض أبغض لله وإذا فعل فعل لله وإذا ترك ترك لله وما نقص من أصنافه هذه الأربعة نقص من إيمانه ودينه بحسبه وهذا بخلاف الحب مع الله فهو نوعان يقدح في أصل التوحيد وهو شرك ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله ولا يخرج من الإسلام

فالأول كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وهؤلاء المشركون يحبون أوثانهم وأصنامهم وآلهتهم مع الله كما يحبون الله فهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والعبادة والدعاء وهذه المحبة هي محض الشرك الذي لا يغفره الله ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد وشدة بغضها وبغض أهلها ومعاداتهم ومحاربتهم وبذلك أرسل الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه وخلق النار لأهل هذه المحبة الشركية وخلق الجنة لمن حارب أهلها وعاداهم فيه وفي مرضاته فكل من عبد شيئا من لدن عرشه إلى قرار أرضه فقد اتخذ من دون الله إلها ووليا وأشرك به كائنا ذلك المعبود ما كان ولا بد أن يتبرأ منه أحوج ما كان إليه
والنوع الثاني محبة ما زينه الله للنفوس من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث فيحبها محبة شهوة كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء فهذه المحبة ثلاثة أنواع فإن أحبها لله توصلا بها إليه واستعانة على مرضاته وطاعته أثيب عليها وكانت من قسم الحب لله توصلا بها إليه ويلتذ بالتمتع بها وهذا حاله أكمل الخلق الذي حبب إليه من الدنيا النساء والطيب وكانت محبته لهما عونا له على محبة الله وتبليغ رسالته والقيام بأمره وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه بل نالها بحكم الميل الطبيعي كانت من قسم المباحات ولم يعاقب على ذلك ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه وإن كانت هي مقصودة ومراده وسعيه في تحصيلها والظفر بها وقدمها على ما يحبه الله ويرضاه منه كان ظالما لنفسه متبعا لهواه
فالأولى محبة السابقين
والثانية محبة المقتصدين
والثالثة محبة الظالمين
فتأمل هذا الموضع وما فيه من الجمع والفرق فإنه معترك النفس الأمارة والمطمئنة والمهدي من هداه الله

فصل والفرق بين التوكل والعجز أن التوكل عمل القلب وعبوديته اعتمادا
على الله وثقة به والتجاء إليه وتفويضا إليه ورضا بما يقضيه له لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها فقد كان رسول الله

أعظم المتوكلين وكان يلبس لامته ودرعه بل ظاهر يوم أحد بين درعين واختفى في الغار ثلاثا فكان متوكلا في السبب لا على السبب
وأما العجز فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما فإما أن يعطل السبب عجزا منه ويزعم أن ذلك توكل ولعمر الله إنه لعجز وتفريط وإما أن يقوم بالسبب ناظرا إليه معتمدا عليه غافلا عن المسبب معرضا عنه وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ولم يعلق قلبه به تعلقا تاما بحيث يكون قلبه مع الله وبدنه مع السبب فهذا توكله عجز وعجزه توكل
وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطا فأحد الطرفين عطل الأسباب محافظة على التوكل
والثاني عطل التوكل محافظة على السبب والوسط علم أن حقيقة التوكل لا يتم إلا بالقيام بالسبب فتوكل على الله في نفس السبب وأما من عطل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمن كمن عطل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري فالتوكل نظير الرجاء والعجز نظير التمني فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلا له قد فوض إليه كما يفوض الموكل إلى وكيله للعالم بكفايته نهضته ونصحه وأمانته وخبرته وحسن اختياره والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدره سبحانه ودبره واقتضته حكمته وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه واخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة فالعاجز من رمي هذا كله وراء ظهره وقعد كسلان طالبا للراحة مؤثرا للدعة يقول الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي ولو أنى هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني فيقال له نعم هذا كله حق وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك بسعيك أم بسعي غيرك وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت انه يقدر لك إتيانه عفوا بلا سعي ولا كد فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقا فإذا رأيت هذا عيانا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك وأيضا فهذا الذي أوردته عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار فهل تعطلها اعتمادا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل بل لن تخلو الأرض من متوكل صبر نفسه لله وملأ قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن

إليه ووثق به وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه فلم يعطل السبب وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك أو من كماله فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض أحدهما إلى الآخر ولا ريب ان هذا أكمل حالا ممن امتلأ قلبه بالسبب واشتغل به عن ربه وأكمل منهما من جمع الأمرين وهي حال الرسل والصحابة فقد كان زكريا نجارا وقد أمر الله نوحا أن يصنع السفينة ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتمادا على التوكل بل كانوا أقوم الناس بالأمرين ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه وآله

فصل والفرق بين الاحتياط والوسوسة ان الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في
اتباع السنة وما كان عليه رسول الله وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة ولم يفعله رسول الله ولا أحد من الصحابة زاعما أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاثة فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله وصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارا أو مرة واحدة ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطا ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطا إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا وزعموا أنه احتياط وقد كان الاحتياط باتباع هدى رسول الله وما كان عليه أولى بهم فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط وعدل عن سواء الصراط والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السنة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كلهم
فصل والفرق بين إلهام الملك وإلقاء الشيطان من وجوه منها أن ما كان
لله موافقا لمرضاته وما جاء به رسوله فهو من الملك وما كان لغيره غير موافق لمرضاته فهو من إلقاء الشيطان ومنها أن ما أثمر إقبالا على الله وإنابة إليه وذكرا له وهمة صاعدة إليه فهو من إلقاء الملك وما أثمر ضد ذلك فهو من إلقاء الشيطان ومنها أن ما أورث أنسا ونورا في القلب وانشراحا في الصدر فهو من الملك وما أورث ضد ذلك فهو من الشيطان ومنها أن ما أورث

سكينة وطمأنينة فهو من الملك وما أورث قلقا وإنزعاجا واضطرابا فهو من الشيطان فالإلهام الملكي يكثر في القلوب الطاهرة النقية التي قد استنارت بنور الله فللملك بها اتصال وبينه وبينها مناسبة فإنه طيب طاهر لا يجاور إلا قلبا يناسبه فتكون لمة الملك بهذا القلب أكثر من لمة الشيطان وأما القلب المظلم الذي قد اسود بدخان الشهوات والشبهات فإلقاء الشيطان ولمة به أكثر من لمة الملك

فصل والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي
الإفراط والتفريط وله طرفان هما ضدان له تقصير ومجاوزة فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين قال تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقال تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا والدين كله بين هذين الطرفين بل الإسلام قصد بين الملل والسنة قصد بين البدع ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر والغلو مجاوزته وتعديه وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان فأما إلى غلو ومجاوزة وغما إلى تفريط وتقصير وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلق رسول الله وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم وهذا أن المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير وخوفوا من بلى بأحدهما بالهلاك وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو الحال أكثر الخلق يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه غالبا متجاوزا في بعضه والمهدي من هداه الله
فصل والفرق بين النصيحة والتأنيب أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة
الرحمة له والشفقة عليه والغيرة له وعليه فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه فيتلطف في بذلها غاية التلطف ويحتمل أذى المنصوح ولائمته ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق المريض المشبع ! مرضا وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن فهذا شأن الناصح
وأما المؤنب فهو رجل قصده التعبير والإهانة وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح فهو يقول له يا فاعل كذا وكذا يا مستحقا الذم والإهانة في صورة ناصح مشفق وعلامة هذا أنه

لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مثل عمل هذا أو شر منه لم يعرض له ولم يقل له شيئا ويطلب له وجوه المعاذير فإن غلب قال وإني ضمنت له العصمة والإنسان عرضه للخطأ ومحاسنه أكثر من مساويه والله غفور رحيم ونحو ذلك فيا عجبا كيف كان هذا المن يحبه دون من يبغضه وكيف كان ذلك منك التأنيب في صورة النصح وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة وطلب وجوه المعاذير
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته وقال قد وقع أجرى على الله قبلت أو لم تقبل ويدعو لك بظهر الغيب ولا يذكر عيوبك ولا يبينها في الناس والمؤنب بعد ذلك

فصل والفرق بين بالمبادرة والعجلة أن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها
ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في أدبارها ولا قبل وقتها بل إذا حضر وقتها بادر إليها ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضلها وإدراكها
والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها كلها فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما التفريط والإضاعة والثاني الاستعجال قبل الوقت ولهذا كانت العجلة من الشيطان فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها وتجلب عليه أنواعا من الشرور وتمنعه أنواعا من الخير وهي قرين الندامة فقل من استعجل إلا ندم كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة
فصل والفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى وإن اشتبهت صورتهما ان
الأخبار بالحال يقصد المخبر به قصدا صحيحا من علم سبب إدانته أو الاعتذار لأخيه من أمر طلبه منه أو يحذره من الوقوع في مثل ما وقع فيه فيكون ناصحا بإخباره له أو حمله على الصبر بالتأسي به كما يذكر عن الأحنف أنه شكا إليه رجل شكوى فقال يا ابن أخي لقد ذهب ضوء عيني من كذا وكذا سنة فما أعلمت به أحدا ففي ضمن هذا الأخبار من حمل الشاكي على التأسي والصبر ما يثاب عليه المخبر وصورته صورة الشكوى ولكن القصد ميز بينهما ولعل من هذا قول النبي لما قالت عائشة وارأساه فقال بل أنا وارأساه أي الوجع القوي بي

أنا دونك فتأسى بي فلا تشتكي ويلوح لي فيه معنى آخر وهو أنها كانت حبيبة رسول الله بل كانت أحب النساء إليه على الإطلاق فلما اشتكت إليه رأسها أخبرها أن بمحبها من الألم مثل الذي بها وهذا غاية الموافقة من المحب ومحبوبه يتألم بتألمه ويسر بسروره حتى إذا آلمه عضو من أعضائه آلم المحب ذلك العضو بعينه وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة فالمعنى الأول يفهم أنك لا تشتكي واصبري فبي من الموجع مثل ما بك فتأسى بي في الصبر وعدم الشكوى والمعنى الثاني يفهم إعلامها بصدق محبته لها أي انظري قوة محبتي لك كيف واسيتك في ألمك ووجع رأسك فلم تكوني متوجعة وأنا سليم من الوجع بل يؤلمني ما يؤلمك كما يسرني ما يسرك كما قيل
وإن أولى البرايا ان تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
وأما الشكوى فالأخبار العاري عند القصد الصحيح بل يكون مصدره السخط وشكاية المبتلي إلى غيره فإن شكا إليه سبحانه وتعالى لم يكن ذلك شكوى بل استعطاف وتملق واسترحام له كقول أيوب ربي أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وقول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقول موسى اللهم لك الحمد وإليك المشتكي وأنت المستعان وبك المستعاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك وقول سيد ولد آدم اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل على غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك فالشكوى إلى الله سبحانه لا تنافي الصبر بوجه فإن الله تعالى قال عن أيوب إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله مسني الضر وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل والنبي إذا قال وفي مع قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ولم يجعل ذلك نقصا لصبره ولا يلتفت إلى غير هذا من ترهات القوم كما قال بعضهم لما قال مسني الضر قال تعالى إنا وجدناه صابرا ولم يقل صبورا حيث قال مسني الضر وقال بعضهم لم يقل ارحمني وإنما قال أنت أرحم الراحمين فلم يزد على الأخبار بحاله ووصف ربه وقال بعضهم إنما شكا مس الضر حين ضعف لسانه عن الذكر فشكا مس ضر ضعف الذكر لا ضر المرض والألم وقال بعضهم استخرج منه هذا القول ليكون قدوة للضعفاء من هذه الأمة وكأن هذا القائل رأى أن الشكوى إلى الله تنافي الصبر وغلط أقبح الغلط فالمنافي للصبر شكواه لا الشكوى إليه فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه

وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف فرحمته اقرب إلى هذا القلب من اليد للفم

فصل وهذا باب من الفروق مطول ولعل إن ساعد القدر أن نفرد فيه
كتابا كبيرا وإنما نبهنا بما ذكرنا على أصوله واللبيب يكتفي ببعض ذلك والدين كله فرق وكتاب الله فرقان ومحمد فرق بين الناس ومن اتقى الله جعل له فرقانا يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وسمى يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق بين أولياء الله وأعدائه فالهدى كله فرقان والضلال أصله الجمع كما جمع المشركون بين عبادة الله وعبادة الأوثان ومحبته ومحبة الأوثان وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه فجعلوا الأمر واحد واستدلوا بقضائه وقدره على محبته ورضاه وجمعوا بين الربا والبيع فقالوا إنما البيع مثل الربا وجمعوا بين المذكي والميتة وقالوا كيف نأكل ما قتلنا ولا نأكل ما قتل الله وجمع المنسلخون عن الشرائع بين الحلال والحرام فقالوا هذه المرأة خلقها الله وهذه خلقها وهذا الحيوان خلقه وهذا خلقه فكيف يحل هذا ويحرم هذا وجمعوا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وجاءت طائفة الاتحادية فطموا الوادي على القرى وجمعوا الكل في ذات واحدة وقالوا هي الله الذي لا إله إلا هو وقال صاحب فصوصهم وواضع نصوصهم واعلم أن الأمر قرآنا لا فرقانا
ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشراع بالحكم
والمقصود أن أرباب البصائر هم أصحاب الفرقان فأعظم الناس فرقانا بين المشتبهات أعظم الناس بصيرة والتشابه يقع في الأقوال والأعمال والأحوال والأموال والرجال وإنما أتى أكثر أهل العلم من المتشابهات في ذلك كله ولا يحصل الفرقان إلا بنور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده يرى في ضوئه حقائق الأمور ويميز بين حقها وباطلها وصحيحها وسقيمها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ولا تستطل هذا الفصل فلعله من أنفع فصول الكتاب والحاجة إليه شديدة فإن رزقك الله فيه بصيرة خرجت منه إلى فرقان أعظم منه وهو الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه أهل التعطيل والفرق بين إثبات الصفات والعلو والتكلم والتكليم حقيقة وبين التشبيه والتمثيل والفرق بين تجريد

التوحيد العملي الإرادي وبين هضم أرباب المراتب مراتبهم التي أنزلهم الله إياها والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وبين إهدار أقوال العلماء وإلغائها وعدم الالتفات إليها والفرق بين تقليد العالم وبين الاستضاءة بنور علمه والاستعانة بفهمه والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان والفرق بين الحال الإيماني الرحماني والحال الشيطاني الكفرى والحال النفساني والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع على كل واحد والحكم المؤول الذي نهايته أن يكون جائز الإتباع عند الضرورة ولا درك على مخالفه

فصل ونحن نختم الكتاب بإشارة لطيفة إلى الفروق بين هذه الأمور إذ كل
فرق منها يستدعي بسطه كتابا كبيرا فالفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين أن توحيد الرسل إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل وعبادته وحده لا شريك له فلا يجعل له ندا في قصد ولا حب ولا خوف ولا رجاء ولا لفظ ولا حلف ولا نذر بل يرفع العبد الانداد له من قلبه وقصده ولسانه وعبادته كما أنها معدومة في نفس الأمر لا وجود لها البتة فلا يجعل لها وجودا في قلبه ولسانه
وأما توحيد المعطلين فنفى حقائق أسمائه وصفاته وتعطليها ومن أمكنة منهم تعطليها من لسانه عطلها فلا يذكرها ولا يذكر آية تتضمنها ولا حديثا يصرح بشيء منها ومن لم يمكنه تعطيل ذكرها سطا عليها بالتحريف ونفى حقيقتها وجعلها اسما فارغا لا معنى له أو معناه من جنس الألغاز والأحاجي على أن من طرد تعطيله منهم على أنه يلزمه في ما حرف إليه النص من المعنى نظير ما فر منه سواء فإن لزم تمثيل أو تشبيه أو حدوث في الحقيقة لزم في المعنى الذي حمل عليه النص وإن لا يلزم في هذا فهو أولى أن لا يلزم في الحقيقة فلما علم هذا لم يمكنه إلا تعطيل الجميع فهذا طرد لأصل التعطيل والفرق اقرب منه ولكنه مناقض يتحكم بالباطل حيث أثبت لله بعض ما أثبته لنفسه ونفى عنه البعض الآخر واللازم الباطل فيهما واحد واللازم الحق لا يفرق بينهما
والمقصود أنهم سموا هذا التعطيل توحيدا وإنما هو إلحاد في أسماء الرب تعالى وصفاته وتعطيل لحقائقها
فصل والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة أن الرسل نزهوه سبحانه عن
النقائض والعيوب التي نزه نفسه عنها وهي المنافية لكماله وكمال ربوبيته وعظمته كالسنة والنوم والغفلة والموت

واللغوب والظلم وإرادته والتسمي به والشريك والصاحبة والظهير والولد والشفيع بدون إذنه وأن يترك عباده سدى هملا وأن يكون خلقهم عبثا وأن يكون خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا لا لثواب ولا عقاب ولا أمر ولا نهى وأن يسوى بين أوليائه وأعدائه وبين الأبرار والفجار وبين الكفار والمؤمنين وأن يكون في ملكه مالا يشاء أن يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه وأن يكون لغيره معه من الأمر شيء وأن يعرض له غفلة أو سهو أو نسيان وأن يخلف وعده أو تبدل كلماته أو يضاف إليه الشر اسما أو وصفا أو فعلا بل أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها خير وحكمة ومصلحة فهذا تنزيه الرسل لربهم
وأما المعطلون فنزهوه عما وصف به نفسه من الكمال فنزهوه عن أن يتكلم أو يكلم أحدا ونزهوه عن استوائه على عرشه وأن ترفع إليه الأيدي وأن يصعد إليه الكلم الطيب وأن ينزل من عنده شيء أو تعرج إليه الملائكة والروح وأن يكون فوق عباده وفوق جميع مخلوقاته عاليا عليها ونزهوه أن يقبض السموات بيده والأرض باليد الأخرى وان يمسك السموات على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع ونزهوه أن يكون له وجه وأن يراه المؤمنون بأبصارهم في الجنة وأن يكلمهم ويسلم عليهم ويتجلى لهم ضاحكا وأن ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه فلا نزول عندهم ولا قول ونزهوه أن يفعل شيئا لشيء بل أفعاله لا لحكمة ولا لغرض مقصود ونزهوه أن يكون تام المشيئة نافذ الإرادة بل يشاء الشيء ويشاء عباده خلافه فيكون ما شاء العبد دون ما شاء الرب ولا يشاء الشىء فيكون مالا يشاء ويشاء مالا يكون وسموا هذا عدلا كما سموا ذلك النزيه توحيدا ونزهوه عن أن يحب أو يحب ونزهوه عن الرأفة والرحمة والغضب والرضا ونزهة آخرون عن السمع والبصر وآخرون عن العلم ونزهه آخرون عن الوجود فقالوا الذي فر إليه هؤلاء المنزهون من التشبيه والتمثيل يلزمنا في الوجود يلزمنا في الوجود فيجب علينا أن ننزهه عنه فهذا تنزيه الملحدين والأول تنزيه المرسلين

فصل الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل يما
قاله الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الهدى أن التشبيه والتمثيل أن تقول يد كيدي أو سمع كسمعي أو بصر كبصري ونحو ذلك وأما إذا قلت سمع وبصر ويد ووجه واستواء لا يماثل شيئا من صفات المخلوقين بل بين الصفة والصفة من الفرق كما بين الموصوف والموصوف فأي تمثيل ههنا وأي تشبيه لولا تلبيس الملحدين فمدار الحق الذي اتفقت عليه الرسل على أن يوصف الله بما وصف

به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل إثبات الصفات ونفى مشابهه المخلوقات فمن شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد حقائق ما وصف الله به نفسه فقد كفر ومن أثبت له حقائق الأسماء والصفات ونفى عنه مشابهة المخلوقات فقد هدى إلى صراط مستقيم

فصل والفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب أن تجريد
التوحيد أن لا يعطى المخلوق شيئا من حق الخالق وخصائصه فلا يعبد ولا يصلى له ولا يسجد ولا يحلف باسمه ولا ينذر له ولا يتوكل عليه ولا يؤله ولا يقسم به على الله ولا يعبد ليتقرب إلى الله زلفى ولا يساوي برب العالمين في قول القائل ما شاء الله وشئت وهذا منك ومن الله وأنا بالله وبك وأنا متوكل على الله وعليك والله لي في السماء وأنت في الأرض وهذا من صدقاتك وصدقات الله وأنا تائب إلى الله وإليك وأنا في حسب الله وحسبك فيسجد للمخلوق كما يسجد المشركون لشيوخهم يحلق رأسه له ويحلف باسمه وينذر له ويسجد لقبره بعد موته ويستغيث به في حوائجه ومهماته ويرضيه بسخط الله ولا يسخطه في رضا الله ويتقرب إليه أعظم مما يتقرب إلى الله ويحبه ويخافه ويرجوه أكثر مما يحب الله ويخافه ويرجوه أو يساويه فإذا هضم المخلوق خصائص الربوبية وأنزله منزلة العبد المحض الذي لا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لم يكن هذا تنقصا له ولا حطا من مرتبته ولو رغم المشركون وقد صح عن سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال لو تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله وقال أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي وقال لا تتخذوا قبري عيدا وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا وقال له رجل قد أذنب اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال عرف الحق لأهله وقد قال الله له ليس لك من الأمر شيء وقال قل إن الأمر كله لله وقال قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله وقال قل إني لا املك لنفسي ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا أي لن أجد من دونه من ألتجىء إليه واعتمد عليه وقال لا بنته فاطمة وعمه العباس وعمته صفية لا أملك لكم من الله شيئا وفي لفظ في الصحيح لا أغني عنكم من الله شيئا فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم وأبوا ذلك كله وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضمهم مراتبهم وتنقصهم وقد هضموا جانب الإلهية

غاية الهضم وتنقصوه فلهم نصيب وافر من قوله تعالى وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون

فصل والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها
أن تجريد المتابعة أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولا فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا فإذا تبين لك لم تعدل عنه ولو خالفك من بين المشرق المغرب ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به ولو لم تعلمه فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله بل أذهب إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ولكن لم يصل إليك هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة انه اعلم بها منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمى تقليدا بخلاف ما استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى قال الشافعي اجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد
فصل والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أن أولياء الرحمن
لا خوف عليهم ولاهم يحزنون هم الذين آمنوا وكانوا يتقون وهم المذكورون في أول سورة البقرة إلى قوله هم المفلحون وفي وسطها في قوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله

أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون وفي أول الأنفال إلى قوله لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم وفي أول سورة المؤمنين إلى قوله هم فيها خالدون وفي آخر سورة الفرقان وفي قوله إن المسلمين والمسلمات إلى آخر الآية وفي قوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وفي قوله ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وفي قوله إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون إلى قوله في جنات مكرمون وفي قوله التائبون العابدون الحامدون إلى آخر الآية
فأولياء الرحمن هم المخلصون لربهم المحكمون لرسوله في الحرم والحل الذين يخالفون غيره لسنته ولا يخالفون سنته لغيرها فلا يبتدعون ولا يدعون إلى بدعة ولا يتحيزون إلى فئة غير الله ورسوله وأصحابه ولا يتخذون دينهم لهوا ولعبا ولا يستحبون سماع الشيطان على سماع القرآن ولا يؤثرون صحبة الأفتان على مرضاة الرحمن ولا المعازف والمثاني على السبع المثاني
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض مورد للضنا
وكم قلت يا قوم انتم على ... شفا جرف من سماع الغنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... تركنا غويا وما قد جنا
وهل يستجيب لداعي الهدى ... غوى اصار الغنا ديدنا
فعشنا على ملة المصطفى ... وماتوا على تأتنا تنتنا
ولا يشتبه أولياء الرحمن بأولياء الشيطان إلا على فاقد البصيرة والإيمان وأنى يكون المعرضون عن كتابه وهدى ورسوله وسنته المخالفون له إلى غيره أولياءه وقد ضربوا لمخالفته جاشا وعدلوا عن هدى نبيه وطريقته وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون
فأولياء الرحمن المتلبسون بما يحبه وليهم الداعون إليه المحاربون لمن خرج عنه وأولياء الشيطان المتلبسون بما يحبه وليهم قولا وعملا يدعون إليه ويحاربون من نهاهم عنه فإذا رأيت الرجل يحب السماع الشيطاني ومؤذن الشيطان وإخوان الشياطين ويدعو إلى ما يبحه الشيطان من الشرك والبدع والفجور علمت أنه من أولياءه فإن اشتبه عليك فاكشفه في ثلاثة مواطن في صلاته ومحبته للسنة وأهلها ونفرته عنهم ودعوته إلى الله ورسله وتجريد التوحيد والمتابعة وتحكيم السنة فزنه بذلك لا تزنه يحال ولا كشف ولا خارق ولو مشى على الماء وطار في الهواء

فصل وبهذا يعلم الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني فإن الحال
الإيماني ثمرة المتابعة للرسول والإخلاص في العمل وتجريد التوحيد ونتيجته منفعة المسلمين في دينهم ودنياهم وهو إنما يصح بالاستقامة على السنة والوقوف مع الأمر والنهي
والحال الشيطاني نسبته أما شرك أو فجور وهو ينشأ من قرب الشياطين والاتصال بهم ومشابهتهم وهذا الحال يكون لعباد الأصنام والصلبان والنيران والشيطان فإن صاحبه لما عبد الشيطان خلع عليه حالا يصطاد به ضعفاء العقول والإيمان ولا إله إلا الله كم هلك بهؤلاء من الخلق ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فكل حال خرج صاحبه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول فهو شيطاني كائنا ما كان وقد سمعت بأحوال السحرة وعباد النار وعباد الصليب وكثير ممن ينتسب إلى الإسلام ظاهرا وهو بريء منه في الباطن له نصيب من هذا الحال بحسب موالاته للشيطان ومعاداته للرحمن وقد يكون الرجل صادقا ولكن يكون ملبوسا عليه بجهله فيكون حاله شيطانيا مع زهد وعبادة وإخلاص لكن لبس عليه الأمر لقلة علمه بأمور الشياطين والملائكة وجهله بحقائق الإيمان وقد حكى هؤلاء وهؤلاء من ليس منهم بل هو متشبه صاحب مخاييل ومخاريق ووقع الناس في البلاء بسبب عدم التمييز بين هؤلاء وهؤلاء فحسبوا كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة والفرقان اعز ما في هذا العالم وهو نور يقذفه الله في القلب يفرق به بين الحق والباطل ويزن به حقائق الأمور خيرها وشرها وصالحها وفاسدها فمن عدم الفرقان وقع ولا بد في إشراك الشيطان فالله المستعان وعليه التكلان
فصل والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي غايته
ان يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله على رسوله وحكم به بين عباده وهو حكمه الذي لا حكم له سواه
وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله ولم يلزموا به الأمة بل قال أبو حنيفة هذا رأي فمن جاءني بخير منه قبلناه ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبى يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال قد تفرق أصحاب رسول الله

في البلاد وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه وهذا الإمام أحمد ينكر على من كتب فتاواه ودونها ويقول لا تقلدني ولا تقلد فلانا ولا فلانا وخذ من حيث أخذوا ولو علموا رضي الله عنهم أن أقوالهم يجب اتباعها لحرموا على أصحابهم مخالفتهم ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء ولما كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروي عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحس أحواله أن يسوغ اتباعه والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه ولا يخرج عنه
وأما الحكم المبدل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم
والمقصود التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة واللوامة والأمارة وما تشترك فيه النفوس الثلاثة وما يتميز به بعضها من بعض وأفعال كل واحدة منها واختلافها ومقاصدها ونياتها وفي ذلك تنبيه على ما وراءه وهي نفس واحدة تكون أمارة تارة ولوامة أخرى ومطمئنة أخرى وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة وأما المطمئنة فهي اقل النفوس البشرية عددا وأعظمها عند الله قدرا وهي التي يقال لها ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
والله سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة الإجابة أن يجعل نفوسنا مطمئنة إليه عاكفة بهمتها عليه راهبة منه راغبة فيما لديه وان يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل تم الكتاب

أقسام الكتاب
1 2