كتاب:الصفدية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

الفاعل فاعلا فالفاعل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا ولا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا فباعتبار كون الثاني غير الأول سمي تسلسلا وباعتبار كون جنس الإحداث موقوفا على جنس الإحداث يسمى دورا فهو تسلسل إذا أخذ حادث بعد الحادث وهو دور إذا أخذ جنس الحوادث ووجود حادث بعد حادث إنما يمكن إذا كان هناك فاعل محدث يحدث شيئا بعد شيء فأصل كونه فاعلا لا يتوقف على حدوث شيء من الأشياء بل يكون من لوازم ذاته وإحداثه للمعين قد يكون موقوفا على إحداثه للمعين
فحقيقة حجة هؤلاء أن القول بحدوث جنس الفعل يستلزم تأخر الأثر عن المؤثر التام أو وجوده بدون المؤثر التام فالذي سموه تسلسلا مضمونه وجود الأثر بدون المؤثر التام فلما كانت حجتهم مبنية على مقدمتين إحداهما امتناع الترجيح بلا مرجح والثانية امتناع التسلسل كان مضمون الأولى امتناع أن يتأخر الأثر عن مؤثره التام تأخر بينونة وانفصال ومضمون الثانية امتناع صدور أثر بدون مؤثر تام فالأمر يرجع إلى أصل واحد وهو تلازم المؤثر التام وأثره فلا يكون مؤثر تام إلا وأثره لازم له ولا يكون أثر إلا ومؤثره التام لازم له ثم هل ترتب الأثر على مؤثره التام ترتبا زمانيا أو ترتبا عقليا بحث آخر في غير هذا الموضع
فإذا عرف حقيقة الأصل الذي بنوا عليه حجتهم فقول القائل

في الجواب التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة لأن مبناها على امتناع التسلسل في الآثار يرد عليه أن مبناها على امتناع التسلسل في أصل التأثير وجنسه والممكن إنما هو التسلسل في جنس الآثار وأعيان التأثيرات لا في جنس التأثير فإن الفرق بين التسلسل في الآثار والتسلسل في التأثير ثابت كما سبق والممتنع التسلسل في التأثير أي في جنسه فهذا السؤال هو الوارد على هذا الجواب وجواب
هذا الإيراد أن يقال إذا كان التسلسل في الآثار ممكنا وفي أعيان التأثيرات أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مخلوقة من شيء آخر قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإنهم أخبروا أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء وأخبروا أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11 والدخان فيما ذكره المفسرون هو البخار وهو بخار ذلك الماء فقد أخبروا أنها مخلوقة من مادة كانت موجودة قبلها وتلك المادة يمكن أن تكون مخلوقة من مادة كانت كما خلق الله الإنسان من مادة وخلق المادة من مادة
وإذا كان كذلك كان ما جوزوه في الآثار مبطلا لحجتهم على قدم هذا العالم وهذا هو المطلوب فإنهم إنما احتجوا على قدمه بكون المؤثر التام لا بد أن يكون ثابتا في الأزل فإنه لو لم يكن مؤثرا ثم صار

مؤثرا افتقر حدوث تأثيره إلى مؤثر وذلك المؤثر أو تمام تأثيره يفتقر إلى مؤثر وذلك يقتضي التسلسل في أصل التأثير وتمام كونه مؤثرا والتسلسل في تمام أصل التأثير ممتنع كالتسلسل في نفس المؤثر
فيقال لهم هب أن هذا ممتنع لكن أنتم تجوزون التسلسل في أعيان التأثيرات والآثار فهذا التسلسل إن كان ممكنا بطلت الحجة التي يحتج بها على قدم العالم أو قدم شيء من العالم وهذا هو المطلوب
وأما قدم نوع التأثير فهذا لا ينفعهم في مطلوبهم ولا يقدح فيما جاءت به الرسل بل هو دليل على تصديق ما جاءت به الرسل وأن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن لامتناع المؤثر التام في الأزل لشيء من الأشياء لأن كل ما سوى الله ملزوم للحدوث فوجوده بدون الحوادث المقارنة له محال ووجود الحوادث عن مؤثر تام يستلزم أثره محال ووجود حادث بعد حادث من مؤثر تام محال فإنه لا يكون مؤثرا تاما في الشيء إلا إذا استعقبه أثره وليس شيء من الحوادث المتعاقبة يستعقب المؤثر الأزلي لأنه يقتضي كون شيء من الحوادث المتعاقبة أزليا وهو ممتنع لأن ما قارن الأزلي فهو أزلي ليس له مبدأ محدود حتى يكون الشيء عقبه فلا يكون المقارن له إلا أزليا فإذا كان كل ما سوى الرب لا يوجد إلا مقارنا لحادث ولا يمكن وجود الحوادث لا معينة ولا متعاقبة عن مؤثر تام أزلي ولا يمكن شيء من العالم إلا مقارنا

للحادث امتنع وجود شيء من العالم في الأزل إذ وجوده في الأزل ممتنع بدون الحادث وممتنع مع الحادث
ولا يمكن أن يقال القول في حوادثه المتعاقبة عليه كحركات الفلك كالقول في كلمات الرب المتوالية وأفعاله المتوالية لأن الرب هو الموجود بنفسه الواجب الوجود بنفسه الغني بنفسه القيوم بنفسه فلا يتوقف قوله وفعله على غيره ولا يمتنع أن يكون فعله الثاني أو كلامه الثاني مشروطا بوجود الأول قبله إذ ما يكون بذاته حادثا شيئا بعد شيء يمتنع وجوده كله في الأزل وأما ما سواه فهو مفعول مصنوع مفتقر من كل وجه إلى غيره فإذا كانت الحوادث تقارنه شيئا بعد شيء امتنع أن تصدر عن مؤثر تام أزلي وامتنع أن يكون المؤثر التام الأزلي يحدث شيئا بعد شيء بل يجب أن يقارنه أثره وامتنع أن يكون المؤثر التام الأزلي موجبا لذاته في الأزل ومقتضيا لحوادثه شيئا بعد شيء لأن حدوث الحوادث المتوالية عن مؤثر تام باق على حالة واحدة وحينئذ فيجوز ترجيح القادر المختار بلا مرجح فتبطل حجتهم
وإن كانت تحدث الحوادث بحدوث أمور منه بحيث تكون ذاته مؤثرا تاما لذات الفلك في الأزل وأفعاله المتوالية موجبة لحوادثه المتوالية فهو لم يكن قط إلا مقارنا لأفعال متوالية قائمة به وحدوث مفعول بلا فعل ممتنع وقدم فعل معين ممتنع لأن الفعل لذاته يقتضي أن يكون شيئا بعد شيء ولا يعقل قدم عين الفعل
وهذا دليل مستقل على حدوث كل ما سوى الله فإن المفعول

القديم لا بد له من فعل قديم وتقدير فعل قديم العين ليس كله ممتنع لذاته لأن العقل لا يعقل إلا حادث الأعيان وإن فرض قدم نوعه لحدوثه شيئا بعد شيء كالحركة التي لا تعقل إلا حادثة الأعيان وإن فرض قدم نوعها
وأيضا فإن الفعل لا بد أن يتقدم المفعول الأزلي لا يتقدمه غيره وهذا أيضا دليل ثان مستقل على حدوث كل ما سوى الله
وقول القائل الأثر يقارن المؤثر والمعلول يقارن العلة إذا أريد به أن يكون عقبه فهذا ممكن وأما إذا أريد به أنهما يكونان معا فهذا ممتنع والتقدم الحقيقي بدون الزمان لا يعقل
وقول القائل إن تقدم العلة على المعلول تقدم عقلي لا زماني دعوى مجردة وتمثيل ذلك بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم تمثيل غير مطابق فإن حركة اليد ليست علة تامة لا لهذا ولا لهذا بل هي ملزومة لها والشيئان المتلازمان الصادران عن فاعل واحد ليس أحدهما معلولا لآخر وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر
وأيضا فهذا يستلزم أن يكون للذات فعل معين قديم معها لازم لها بأفعال متوالية قائمة بها بحيث تضاف الحوادث إلى تلك الأفعال المتوالية ويضاف المفعول القديم إلى الفعل القديم وذلك يقتضي أن يكون ذلك الفعل القديم تناول الملزوم دون اللازم فإنه يتناول العين الملزومة للحوادث دون حوادثها اللازمة كالفلك مثلا والفاعل إذا فعل مفعولا بفعل امتنع أن يفعل بدون لوازمه فإن ذلك يقتضي أن يكون

الفعل القديم تناول ذلك المفعول وأفعال أخر تناولت لوزامه المتعاقبة ومعلوم أن الواجب بالذات أوجب ذاته ذلك الموجب وإيجاب ذاته لها هو فعلها إياها وهذا الفعل القديم الذي هو الإيجاب القديم لا بد أن يكون من لوازم الذات فيمتنع وجودها بدون ذلك الفعل القديم وذلك الفعل القديم يمتنع وجوده بدون لوزامه المتوالية وتلك اللوازم المتوالية مفتقرة إلى الفعل القديم والفعل القديم يفتقر إليها بمعنى أنه يمتنع وجود أحدهما إلا مع الآخر لامتناع وجود مفعول أحدهما إلا مع الآخر
والقديم لا يجوز أن يكون مفتقرا إلى الحوادث لافتقار المعلول إلى العلة ولافتقار المشروط إلى الشرط ولكن قد تكون الحوادث لازمة له مفتقرة إليه وأما هو فلا يكون مفتقر لا إلى عينها ولا إلى نوعها لأن النوع إنما يوجد شيئا فشيئا فيكون القديم الأزلي مفتقرا إلى ما لا يوجد إلا شيئا بعد شيء وما وجب قدمه امتنع عدمه ودام وجوده وما دام وجوده ووجب ذلك لا يكون مفتقرا إلى حوادث متعاقبة إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقال إن الرب الذي يفعل دائما مفتقر إلى فعله لكون فعله لازما له فإن غاية ما يقال في ذلك إن الفعل القديم مشروط بمقارنة الأفعال المتوالية بحيث لا يتصور أن يكون ذلك القديم إلا مع هذه الحوادث المتعاقبة
وحينئذ فيكون وجود فعله القديم بدون الحوادث ممتنع وفعله من لوزام ذاته بمنزلة صفاته اللازمة له فيكون ذلك بمنزلة أن يقال إن صفاته

اللازمة له يمتنع وجودها إلا مع الحوادث المتعاقبة والحوادث المتعاقبة أفعاله وهذا بمنزلة أن ذاته مفتقرة أو مشروطة بأفعاله المتعاقبة
ومعلوم أن أفعاله مفتقرة إليه من كل وجه فيمتنع أن يفتقر إلى ما هو مفتقر إليه
وهذا دليل ثالث مستقل في المسألة فإن وجود العالم بدون الحوادث ممتنع فلو كان فعله العالم كصفاته الذاتية اللازمة له مفتقرا إلى الحوادث كان صفاته اللازمة له مفتقرة إلى الحوادث وهذا ممتنع وذلك لأن ما لزم ذاته وما قام بها فهو صفة لها
وهؤلاء إن قالوا إن المفعول نفس الفعل والموجب نفس الإيجاب كما هو قول طائفة من النظار فهذا باطل قطعا فإنا نعلم أن خلق المخلوق ليس هو نفس المخلوق ولا ذلك يقتضي أن تكون المخلوقات وجدت بدون فعل من الرب
ولأن الذين قالوا ذلك من أهل الكلام كالأشعري ومن وافقه كابن عقيل وغيره إنما قالوا ذلك لئلا يلزم التسلسل في الآثار وهو باطل عندهم فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق والتأثير غير الأثر فذلك الخلق إن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو ممتنع وإن كان حادثا افتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل
والذين خالفوهم ثلاث طوائف طائفة قالت بل الفعل قديم أزلي ومفعوله محدث كما يقول ذلك طوائف من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث والصوفية ومن أهل الكلام

وهؤلاء يقولون كما وافقتمونا على أن الإرادة قديمة والمراد متأخر فكذلك نقول الفعل قديم والمفعول متأخر
وطائفة ثانية قالت بل الفعل حادث العين قائم بذاته ولا يلزم التسلسل كما يلزم التسلسل إذا كانت المفعولات حادثة الأعيان وهذا قول طوائف من الكرامية والمرجئة وغيرهم
وطائفة ثالثة قالت بل أعيان الفعل حادثة وإن جاز أن يكون نوعه قديما
والمقصود هنا أن الذين قالوا إن الفعل عين المفعول إنما فروا من التسلسل وهو جائز عند هؤلاء الفلاسفة وحينئذ فلا يمكنهم أن يحتجوا بحجة هؤلاء فلا تكون حجة على أن الفعل نفس المفعول إلا قولهم بنفي الصفات مطلقا أو قولهم بنفي الأمور الإختيارية وكلا القولين في غاية الفساد وهم متنازعون في كلا الأصلين
فقول النفاة منهم ومن غيرهم ضعيف فيهما كما بسط في موضعه مع أن القول بحدوث العالم مستلزم لهذين الأصلين كما أن هذين الأصلين يستلزمان لحدوث العالم
وإذا كان كذلك تبين أنه لا يمكنهم القول بأن الفعل نفس المفعول فيلزم أن يكون غيره فإذا قدر الفعل قديم العين كانت صفة لازمة له قديمة العين وإذا كان كذلك فإنه يمتنع أن يفتقر إلى شيء من الحوادث سواء كانت حادثة النوع أو الأعيان كما يمتنع ذلك في ذاته القديمة فإنها إن كانت مفتقرة افتقار المعلول إلى علته امتنع كون

الحادث علة للقديم وإن كانت مفتقرة افتقار المشروط إلى شرطه فلا ريب أن المحدث مشروط بالقديم فإذا كان القديم مشروطا به كان كل من الأمرين مشروطا بالآخر
وهذا ممكن فما كان معلولي علة واحدة وهما حادثان كالأبوة والبنوة أو ما كانا قديمين متلازمين لا علة لهما كالذات والصفات أما إذا كان أحدهما قديم العين والآخر حادث الأعيان كان وجود القديم مشروطا بأمور لم توجد بعد وكان الشرط متأخرا عن المشروط
وإن قيل المشروط هو النوع وهو ملازم للعين لكن النوع لا يوجد إلا شيئا فشيئا فلا وقت من الأوقات إلا والمقرون بالقديم واحد محدث فيكون ذلك المحدث شرطا في وجود ذلك القديم لا يوجد إلا مع وجوده كما لا يوجد أحد المحدثين إلا مع الآخر ولا الذات القديمة إلا مع الصفة القديمة والقديم لازم للذات وكل من الحوادث ليس بلازم بل عارض وإن كان النوع لازما
أقصى ما يقال إن الذات هي الموجبة للمعين اللازم وللنوع الحادث أعيانه فيشبه ذلك أحد الصفتين مع الأخرى فيقال الأمر اللازم لا وجود للذات بدونه وإذا كان قائما بالذات فقد دخل في مسماها وصار منها فإن أسماء الله تعالى متناولة لصفاته فما قام بذاته من الصفات اللازمة فهو داخل في اسمه تعالى
فإذا كان ذلك مشروطا بأفعال يحدثها شيئا بعد شيء صار ما هو

واجب الوجود مفتقرا إلى ما هو ممكن الوجود مع أن هذا المقام إذا تحرر كان مفسدا لأصل مذهبهم وكان دليلا مستقلا رابعا
فإن حقيقة قولهم إن الفلك لازم لذات الله تعالى لا يمكن وجود الرب بدون وجود الفلك بل هو مستلزم له كما أن الفلك مستلزم له فهما متلازمان وهذا بعينه قول بأن مفعوله شرط في وجوده وأن وجوده بدون وجود مفعوله ممتنع وهو قول بافتقار الواجب بذاته إلى الممكن بذاته وهو ممتنع
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن ذكرناها هنا تنبيها على حجتهم العظمى وأن إبطال حجتهم قد يتضمن بطلان قولهم ويكون دليلا على صحة ما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
الوجه الثاني أن يقال إحدى المقدمتين في هذه الحجة بطلان التسلسل وأنتم قائلون بجوازه ولكن منازعوكم يقولون بامتناعه فتكون الحجة على أصلكم إلزامية لا علمية فلا تفيدكم المطلوب
هذا إذا فسروا التسلسل بالتسلسل في الآثار دون التأثير وإن فسروه بالتسلسل في أصل التأثير فهذا لا يقوله أحد وهذا هو مراد أئمتهم بالتسلسل في هذا الموضع وإن فهم منه بعض الناس الأول لكن هذه الحجة حنيئذ إنما تدل على دوام نوع الحادث فمن قال لم

يزل مؤثرا متكلما إذا شاء وفى بموجب هذه الحجة ولا تدل على قدم شيء من العالم أصلا
ومنازعوكم قد عارضوكم وألزموكم امتناع الحوادث مطلقا فتبين فسادها أيضا
فإن قالوا نحن نجوز التسلسل في الحوادث القائمة بالعالم وهذه تقتضي التسلسل قبل حدوث العالم أو قبل حدوث شيء من العالم وذلك لا نقول به
قيل لهم أولا إذا كان التسلسل في الأزل ممكنا لم يكن فرق بين هذا وهذا بل يجوز أن يقال إن الرب تقوم به أمور اختيارية لا أول لها
وقيل لهم ثانيا هذا لا ينفعكم في قدم الأفلاك وما فيها لإمكان أن يكون حدوثها موقوفا على أسباب قبلها حادثة وكذلك الأخرى
وقيل لهم ثالثا إذا أمكن التسلسل في الأفعال اللازمة القائمة بالصانع أو في المفعولات المتعدية كان كل منهما مبطلا لاحتجاجكم على قدم الأفلاك والعناصر فكيف إذا اجتمع هذا وهذا
الوجه الثالث أن يقال هذا مبني على امتناع التسلسل في الآثار والتسلسل سواء عنى به التسلسل في أصل التأثير أو في الآثار فإنه لا يدل على مطلوبكم والذي يليق بهذه الحجة إنما هو التسلسل في أصل الفعل وهو ممتنع وفاقا

وأما التسلسل في الآثار فهذا فيه قولان معروفان للناس أحدهما منعه كقول كثير من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث
والثاني جوازه كما هو قول كثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة
وحينئذ فهؤلاء يقولون بجواز هذا التسلسل وأن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن سواء قالوا بقدم نوع الفعل اللازم أو نوع الفعل اللازم والمتعدي فعلى التقديرين يمكن أن يكون كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بالعدم والرب فاعل بمشيئته وقدرته سائر الأشياء
وليس للفلاسفة حجة تعارض هذا القول أصلا إذ ليس لهم حجة تقتضي قدم الأفلاك والعناصر ولا قدم شيء من العالم أصلا بل جميع ما يحتجون به إنما يدل على دوام كون الرب فاعلا سواء في ذلك الحجج العائدة إلى الفاعل والمادة والصورة والغاية وغير ذلك فالأولى مثل قولهم إن كونه فاعلا أمر لازم لنفسه لأنه لو كان عارضا لهذا لاقتضى حدوث ما يجعله كذلك وذلك لا يكون إلا فعلا له ولا يكون عارضا لما تقدم فلا بد أن يكون كونه فاعلا من لوازمه ذاته
وكذلك قولهم هو جواد وعلة جوده ذاته ونحو ذلك فإن هذا يدل على كون نوع الفعل من لوازمه لا على فعل معين ولا مفعول معين فليس في ذلك ما يدل على قدم السموات ولا مادة السموات ولا غير ذلك من أصناف العالم بل هذا دل على أنه لا يلزمه عين الفعل إذ لو

لزمه ذلك لكان فعله كله قديما والمؤثر التام يستلزم أثره فكان تكون جميع المفعولات قديمة فلا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف الحس
وبهذا يظهر كشف عوار هذه الحجة التي حارت فيها عقول جمهور النظار فإنهم إذا قالوا كل ما لا بد منه في كونه مؤثرا لا بد وأن يكون موجودا في الأزل وإلا لزم حدوثه بعد ذلك بدون مؤثر تام وهو ممتنع وإذا كان موجودا في الأزل لزم حصول الأثر معه كان لفظ التأثير مجملا فإنه يراد به جنس التأثير ويراد به التأثير المعين ويراد به التأثير العام في كل شيء فإنه إما عام وإما مطلق وإما معين فإن أريد به التأثير في كل شيء لزم كون كل شيء قديما وهو مخالف للحس
وكذلك إن أريد به معين فإنها لا تدل على امتناعه لجواز أن يكون مشروطا بحادث قبله وهم وسائر العقلاء يسلمون حدوث الشيء المعين وإن أريد به الجنس لم يدل إلا على دوام النوع لا على قدم شيء بعينه فلم يكن فيها ما يدل على قدم شيء من العالم
والأزل ليس عبارة عن وقت بعينه فإذا قيل جميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا هي قديمة أزلية قيل في كونه مؤثرا في الجملة وكونه مؤثرا في شيء بعينه أو في كونه مؤثرا في كل شيء
الأول مسلم عند السلف والأئمة ولا ينفعهم والثاني ممنوع وكذلك ثالثهم وذلك لأن كونه مؤثرا في شيء بعد شيء يقتضي دوام مؤثرتيه ولا يقتضي قدم شيء من العالم ودوام التأثير في شيء بعد شيء هو

ممكن عندهم وهو لا يخلو إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا حصل المقصود وإن كان ممتنعا لزم حدوث كل ما سواه
فتبين أن قولهم بقدم شيء من العالم لا حجة عليه بوجه من الوجوه وكذلك قولهم إن التقدم والتأخر لا يعقل إلا بالزمان الذي هو مقدار الحركة وقولهم إن كون الشيء حادثا يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن والقبلية والبعدية من لوازم الزمان فإن هذا يستلزم دوام نوع الفعل لا دوام حركة الفلك والشمس والقمر بل السموات والأرض إذا كان الله قد خلقهما في ستة أيام كان هذا الشمس والقمر وهذا الليل والنهار مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن وإن كان بعد قيام القيامة انشقاق السموات وتكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر الكواكب تكون حركات أخرى ولها زمان آخر
كما قال تعالى في الجنة ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا سورة مريم 62 وفي الجنة يوم الجمعة يوم المزيد فهناك أيام معروفة بأمور أخر جعلها الله في الجنة غير الشمس والقمر وكذلك قولهم إن كل حادث مسبوق بالإمكان المفتقر إلى مادة غايته أن قبل كل حادث حادثا وهذا لا يوجب قدم شيء من العالم وإنما يقتضي تسلسل الحوادث
وكذلك إذا قيل إن المؤثرية وصف وجودي فإن كانت حادثة

افتقرت إلى أخرى ولزم التسلسل وكونه محلا للحوادث وإن كانت قديمة لزم قدم الأثر فإن لازم هذا الدليل ليس بممتنع عندهم وعند السلف وجمهور أهل الحديث وهو كون القديم تقوم به الحوادث المتسلسلة ثم إن كان هذا ممتنعا لزم حدوث الأفلاك فبطلت الحجة الدالة على قدمها وإن لم يكن ممتنعا بطلت الحجة فهي باطلة على التقديرين وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم ولكن الذين ناظروهم من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم جعلوا نوع فعله ومفعوله محصور الإبتداء والإنتهاء كما قاله الجهم بن صفوان وأبو الهذيل إماما هاتين الطائفتين أو جعلوه ممتنع الدوام في الإبتداء دون الإنتهاء كما قال ذلك كثير من أتباعهما وجعلوا الرب يمتنع عليه الكلام باختياره في الأزل ويمتنع عليه الفعل الإختياري في الأزل بل جعلوه غير قادر على الكلام والفعل في الأزل كما يقوله المعتزلة والكرامية أو غير قادر على الفعل في الأزل ولا قادر على الكلام لا في الأزل ولا فيما يزال كما يقوله الكلابية والأشعرية والسالمية بل الكلام عندهم كالحياة لا يوصف بأنه قادر عليه ولا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته واختياره
وكثير من هؤلاء يقول إن العالم يعدم بالكلية فلا يبقى الرب فاعلا لشيء كما لم يكن قبل ذلك على قولهم وهو فناء هذا العالم عندهم ويقول إن ذلك دل عليه السمع والعقل ومنهم من يقول بل دل عليه السمع وإن إعادة الله للعالم هو بأن يعدمه بالكلية ثم يعيد العالم الذي كان أعدمه

فهؤلاء وأمثالهم تكلموا في تعطيل الرب عن الفعل وعن الكلام وقالوا إن كلامه مخلوق أو محدث النوع او محدث العين كان الكلام بعد أن لم يكن متكلما في الأزل بل ولا كان عندهم قادرا على الكلام وإن اطلق بعضهم أنه لم يزل قادرا فهم يقولون مع ذلك بامتناع المقدور في الأزل ومعلوم أنه مع امتناع المقدور يمتنع كونه قادرا وقالوا إن هذا هو القول بحدوث العالم الذي أخبرت به الرسل ونسبوا هذا القول إلى أهل الملل هم ومناظروهم من الفلاسفة
ولهذا استظهرت الفلاسفة على أهل الملل بسبب ظنهم أن هذا هو قولهم حتى آل الأمر إلى أن يقول الفلاسفة إن الرسل لم تخبر بعلم وإنما أخبرت بما فيه تخييل وتمثيل ومعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا حديث عن رسول الله ولا في أثر عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين شيء من هذه الأقوال ولا ما يستلزم هذه الأقوال بل هي أقوال مبتدعة في الدين وهي من الكلام الذي أنكره السلف والأئمة وعابوه وذموه
وقول أولئك بأن السموات أزلية وأنها لا تنشق أعظم إلحادا وضلالا ومخالفة لدين الرسل وهؤلاء أثبتوا قدم الأعيان المخلوقة وأولئك نفوا قدرة الرب على الفعل والكلام دائما فادعوا حدوث النوع
وهذا كما في مسألة القرآن طائفة ادعت قدم أعيان الكلام إما المعنى الواحد المعين وإما الحروف المعينة أو الأصوات والحروف المعينة حتى قالوا إن ما سمعه موسى كان قديما لم يزل الله متصفا به وإنما تجدد السماع فقط وقالوا إنه لم يناده في ذلك الوقت كما دل عليه القرآن

حيث يقول فلما أتاها نودي يا موسى سورة طه 11 بل ما زال مناديا له في الأزل ولكن تجدد سماع موسى لذلك النداء
وطائفة قالت بل نوع الكلام حادث بعد أن لم يكن إما حادثا في غيره فيكون مخلوقا وإما في نفسه فيكون حادثا أو محدثا غير مخلوق وقال هؤلاء لم يكن في الأزل متصفا بأنه متكلما إلا إذا فسروا المتكلم بالقارد على الكلام ثم كان تفسيره بهذا مع امتناع الكلام في الأزل جمع بين النقيضين بل لم يزل عندهم غير متكلم ويمتنع عندهم أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء
والسلف والأئمة قالوا لم يزل الله متكلما إذا شاء فالفرق بين دوام النوع وقدمه ودوام الشيء المعين وقدمه يكشف الحجاب عن الصواب في هذا الباب الذي اضطرب فيه أولو الألباب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وليس للفلاسفة حجة تعارض هذا القول ولكن حجتهم تقتضي دوام فاعلية الرب وأن الفعل ولازمه الذي هو تقرير الفعل المسمى بالزمان لا أول له وأن إمكان حدوث الحوادث لا أول له وإمكان تأثير الرب فيها لا أول له وهذا كله يقتضي دوام نوع الفعل لا دوام فعل معين
وقد تقدم بيان أن قولهم يقدم العالم عن العلة التامة باطل قطعا وأن العلة التامة لا يجوز تأخر شيء من معلولها عنها بل وجود علة تامة لم تزل مقارنة لمعلول ممتنع ويمتنع أن يكون المقارن في الزمان مفعولا للفاعل

والحوادث متعاقبة شيئا بعد شيء لا يجوز حدوثها عن علة تامة أزلية فبطلت حجتهم وبطل قولهم بقدم العالم وتبين إمكان حدوث كل ما سوى الله وأنه يمتنع أن يكون العالم صادرا عن علة تامة أزلية موجبة بالذات وهو المطلوب
وتبين أنه لا يمكن حدوث شيء من الحوادث إلا عن فاعل يفعل شيئا بعد شيء وإن قدر أنه غير فاعل بالإرادة فكيف إذا تبين أنه لا تحدث الحوادث إلا عن فاعل مختار بأمور اختيارية تقوم به
والعالم مستلزم للحوادث فيمتنع ثبوت الملزوم دون اللازم فيمتنع صدور العالم عن موجب بالذات فيمتنع قدمه ويمتنع قدم شيء منه فإن أي شيء قدر قدمه لم يصدر إلا عن موجب بذاته سواء قدر موجب بذات مجردة أو موجب بالإرادة لذلك القديم يكون إيجابه له قديما دائما بدوامه فيكون ذلك الإيجاب الذي هو التأثير والإقتضاء والفعل المعين لذلك المفعول المعين في الأزل قديما أزليا دائما بدوام الرب تعالى وهو إنما يلزمه نوع الفعل لا فعل معين إذا الفعل لا يعقل ولا يمكن إلا شيئا فشيئا فأما شيء معين دائم ملزوم للحوادث أو غير ملزوم للحوادث فلا يعقل أنه فعل لا سيما ومثل هذا لا يكون إلا مفعولا بالإختيار بل لا يكون إلا عن ذات تختار شيئا بعد شيء فهي لا تكون مجردة عن الإختيار ولا تكون علة تامة أزلية فضلا عن أن يجتمع فيها عدم الإختيار مع كونه علة تامة أزلية

أقصى ما يقال إنه قد تقوم بها الأمور الإختيارية شيئا بعد شيء وكل ما قام بها شيء من ذلك حصل تمام التأثير لما يحدث حينئذ وهي بمجردها علة تامة للمعين الذي يلزمه الحوادث لكن هذا باطل أيضا فإنها لا تكون مجردة قط ولا يمكن أن تكون بمجردها فاعلة لشيء
وأيضا فلا يمكن أن يقارن المفعول فاعله في الزمان وذلك أنه لو قدر تجردها في وقت لم يجز حصول قيام شيء من الأمور الإختيارية لها بعد ذلك لأن ذلك يقتضي حدوث حادث بلا سبب وبتقدير تجردها عن الأمور الإختيارية القائمة بها يمتنع أن يحدث عنها أو فيها شيء لامتناع حدوث الشيء بدون علة تامة وهي مع تجردها ليست علة تامة إذ لو كانت كذلك للزم مقارنة الأمور الأختيارية المتجددة شيئا بعد شيء لها في الأزل وذلك جمع بين النقيضين
والأمور الإختيارية الحاصلة شيئا بعد شيء لازمة لها فيمتنع تقدير تجردها عنها فلا يمكن تجردها ولو قدر تجردها لم يجز أن يكون مجردها علة تامة أزلية لشيء معين لأن ذلك المعين مستلزم للحوادث إذ كل ممكن فإنه لم يسبق الحوادث فلو كانت علة تامة أزلية للزم وجود كل واحد من الحوادث في الأزل وهو جمع بين النقيضين وإذا امتنع تجردها وامتنع بتقدير تجردها أن يصدر عنها شيء امتنع أن يصدر شيء عنها إلا مع قيام الأمور الإختيارية بها

والأمور الإختيارية حاصلة شيء بعد شيء فامتنع أن تكون علة تامة لشيء معين دائما إذ مجموع الأمور المشروطة فى التأثير إذا لم تكن إلا حاصلة شيئا فشيئا امتنع أن تكون دائمة لشيء معين فامتنع قدم شيء معين فإنه إذا كان قديما أزليا دائما لم يكن بد من أن يكون المقتضي التام له قديما أزليا دائما ومقتضي تام أزلي ممتنع فقدمه ممتنع لأن المقتضي التام إما الذات المجردة عن قيام الأمور المتعاقبة بها التي تصير بها فاعلة شيئا فشيئا أو الذات الموصوفة بذلك والأول الذي يقوله من الفلاسفة من يقوله ممتنع لامتناع تجردها وامتناع حصول شيء عنها في حال التجريد لو قدر ذلك لأن المعلول ملزوم للحوادث فلا يجوز وجوده عن علة تامة أزلية وهي المجردة
وأما الذات الموصوفة بذلك فهي لاتصير فاعلة إلا شيئا فشيئا كما تقدم فيمتنع أن يكون لها فعل معين قديم أزلي فضلا عن أن يكون لها مفعول معين قديم أزلي
ولا يمكن أن يقال هي بمجردها مقتضية لمحل الحوادث وما يقوم بها مقتض لتلك الحوادث لأن الفاعل بقدرته ومشيئته لا يتوزع بعض فعله عليه مجردا عن الإرادة وبعضه عليه مقرونا بالإرادة إذ فعل الموصوف بالإرادة بدون الإرادة ممتنع وكذلك ما يقدر قائما به من

الأمور المتجددة فإنها قائمة به فليس موجودا دونها حتى يقال إنه يفعل بدونها وتقدير الإنفصال لا يقتضي تحقيق الإنفصال
وهذا كما لو قيل مجرد الذات تفعل منفكة عن الصفات لا سيما وتلك الأمور شرط في الفعل فلا يوجد المشروط بدون شرطه كما أن الحوادث القائمة بالمفعول شرط في وجوده فيمتنع وجود المستلزم للحوادث بدون الحوادث
وكذلك يمتنع أن تفعل الذات الملزومة دون لوازمها إذ فعلها لملزوم الحوادث مشروط بفعلها لحوادثه اللازمة وفعلها ذلك لا يوجد إلا شيئا فشيئا فصار ذلك الفعل مشروطا بما لا يوجد إلا شيئا فشيئا ووجود المشروط بدون الشرط ممتنع ففعل الملزوم وحده ممتنع فكما أن وجود ذات مجردة عن الصفات ممتنع فوجود فعله مجردا عن ما يقوم به ممتنع ففعله لا يوجد إلا مع اللوازم ولا يكون فعلا له إلا مع اللوازم كما أن المفعول لا يكون موجودا ولا مفعولا إلا مع اللوازم وإذا لم يكن فعلا له إلا مع اللوازم المتعاقبة لم يكن فعلا أزليا فلا يكون المفعول أزليا لأن اللوازم المتعاقبة ليس مجموعها أزليا ولا واحدا منها أزليا ولكن النوع أزلي بمعنى وجوده شيئا فشيئا فيكون الفعل المشروط به موجودا شيئا فشيئا لامتناع وجود المشروط بدون الشرط وإذا كان ذلك الفعل يوجد شيئا فشيئا كان المفعول كذلك بطريق الأولى لامتناع تقدم المفعول على فعله فلا يكون فعل دائم معين فلا يكون مفعول معين دائم

يبين ذلك أن الفعل هو الإبداع والخلق الذي يسمى اقتضاء وإيجابا وتأثيرا ونحو ذلك
فإذا قيل إبداع الملزوم واحد معين أزلي وإبداع اللوازم نوع يتجدد شيئا فشيئا فأحد الإبداعين ملزوم للآخر كما أن أحد المبدعين ملزوم للآخر والثاني شرط في نفس كون الأول إبداعا للمفعول لا في مجرد وجوده فإنه لا يصير الإبداع إبداعا إلا مع لازمه الحاصل شيئا فشيئا فلا يكون الإبداع إلا شيئا فشيئا
وليس لزوم هذا لهذا كلزوم نوع الفعل للذات لأن الذات تستلزم صفاتها اللازمة لها وليست مفعولة لها وفعلها صادر عنها وليس أحد الإبداعين صادر عن الآخر بل إبداع المعين إذا قدر أنه أزلي لم يزل كان نوع الإبداع للأمور المتعاقبة قديما أيضا لم يزل وكل منها فعل وخلق وإبداع
ونفس حقيقة الفعل المعين يمتنع قدمه فكيف إذا كان ملازما لما هو حادث شيئا فشيئا فإنهما فعلان متلازمان وأحدهما لا يوجد إلا شيئا فشيئا فالآخر لا يوجد إلا شيئا فشيئا لكونه فعلا بالإرادة ولأن وجود أحد المتلازمين دون الآخر ممتنع وأحدهما يمتنع قدم عينه فالآخر يمتنع قدم عينه لأن وجود القديم الواجب بعلته كما تجب الصفة القديمة بالذات المستلزمة لها لا يتوقف على وجود شيء من الحوادث
ولئن قدر دوام نوعها فليست الصفة القديمة متوفقة عليها

كما أن الذات القديمة ليست متوقفة عليها بخلاف المفعول المعين وفعله المعين فإنه متوقف على وجود ما لا بد له منه من الحوادث المتعاقبة والمحتاج إلى الحوادث المتعاقبة لا يكون قديما أزليا وأحد الفعلين والمفعولين يحتاج إلى الآخر المشروط به الذي يمتنع وجوده إلا بوجود شرط في فعل الفاعل فلا يمكن فعل هذا إلا مع فعل هذا بخلاف الذات وصفاتها مع الفعل
وإذا لم يمكن فعله إلا مع فعل هذا وهذا لا يكون شيء منه قديما فالآخر كذلك ولا يمكن قدم شيء من العالم إلا بقدم فعل له معين ولزوم ذلك الفعل لذات الرب كما تلزم الصفة للموصوف
ومن المعلوم بصريح المعقول الفرق بين صفة الموصوف وبين فعل الفاعل أما الصفة فيعقل كونها لازمة للموصوف إما عينا كالحياة وإما نوعا كالكلام والإرادة ويعقل كونها عارضة لكن ذلك إنما يكون في المخلوق
وأما الفعل فلا يعقل إلا حادثا شيئا بعد شيء وإلا فمن لم يحدث شيئا لا يعقل أنه فعل ولا أبدع سواء فعل بالإرادة أو قدر إنه فعل بلا إرادة ولو كان الفعل لا يحدث لم يعقل الفرق بينه وبين الصفة اللازمة إذ كلاهما معنى قائم بالذات لازم لها بعينه وما كان كذلك لم يكن فعلا لذلك الموصوف ولا يعقل كون الموصوف فعله

وإن قدر أن الفعل هو المفعول وأنه مبدع المفعولات بدون فعل فلزوم هذا له أبعد عن المعقول من لزوم ما يقوم به لا سيما إذا كان قد فعله بقدرته ومشيئته فإن هذا لا يعقل كونه مقدورا مرادا بل إذا قدر أن هذا مفعول مراد لزم إمكان كون الصفة اللازمة التي لا توجد الذات إلا بها مقدورة مرادة
والقادر المريد لا يكن فاعلا إلا بقدرته وإرادته فإذا كانت قدرته وإرادته مقدورة مرادة لزم الدور في التأثير والفعل والإقتضاء فلا يكون قادرا مريدا حتى يكون قادرا مريدا وهذا ممتنع في صريح العقل
وإيضاح ذلك أن ما كان لازما للذات بعينه إما أن يمكن كونه مقدورا مرادا وإما أن لا يمكن فإن لم يمكن كونه مقدورا مرادا ثبت ما قلناه ويتبين أن ما كان لازما بعينه للذات لم يكن مقدورا ولا مرادا فلا يكون شيء من الفعل لازما للذات لأن الفعل لا يكون إلا بقدرته وإرادته لأنه فاعل بالإختيار لأنه لو كان موجبا بالذات لم يتأخر عنه شيء من آثاره ولأن تقدير ذات مجردة عن الصفات ممتنع ولأن الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله وإن سمي علة فلا يعقل مفعول مقارن للفاعل في الزمان
وما يذكر من أن التقدم بالذات كتقدم العلة على المعلول لأنه في الإقتران في الزمان إذا أريد بالعلة الفاعل فهو باطل وإن أريد به غير ذلك فليس هو المراد هنا
وما يذكر من قولهم تحركت يدي فتحرك المفتاح ليس بمثال

مطابق فإن حركة اليد ليست فاعلة لحركة المفتاح بل هي ملازمة لها وقد بين في غير هذا الموضع أن الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله بالزمان مع قطع النظر عن كونه فاعلا بالإرادة
وكونه فاعلا بالإرادة دليل آخر فإنه إذا كان الفعل بقدرته وإرادته وكل ما كان بقدرته وإرادته لم تكن عينه لازمة لذاته فلم يكن شيء من أعيان الفعل لازما لذاته فلا يكون شيء من المفعولات لازما لذاته فلا يكون قديما وهو المطلوب
وهذا في غاية الحسن والصحة
وإن قيل يمكن أن يكون المعين اللازم للذات مقدورا مرادا
قيل فتلك القدرة والإرادة يمكن حينئذ أن تكون مقدورة مرادة وحينئذ فإن كانت مقدروة مرادة بتلك الإرادة والقدرة لزم الدور في التأثير والفعل والإقتضاء وإن كانت بأخرى لزم التسلسل في التأثير ونوعه
وكلاهما ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء فإنه حينئذ تلزم الذات قدرة قديمة وإرادة قديمة وتلك لا توجد إلا بقدرة قديمة وإرادة أخرى قديمة وتلك لا توجد إلا بقدرة أخرى قديمة وإرادة أخرى قديمة والفاعل لا يفعل شيئا من القدر والإرادات إلا بعد فعله لبعض القدر والإرادات فلا تلزم أن لا يفعل شيئا فهذا هو الدور في أصل الفعل والتأثير

وإن قيل بل الفعل المعين اللازم للذات مقدور مراد ونفس القدرة والإرادة المشروطتين فيه ليست مقدورتين مرادتين
قيل إن كان المرجع إلى المعقول الصريح فلا فرق بين تقدير فعل معين لازم لذات فاعلة وتقدير غيره من الأمور اللازمة لذات ذلك الفعل فإن الذات مستوجبة للوازمها المعينة لا يمكن وجودها بدون وجود شيء من لوازمها فتفريق المفرق بين لازم ولازم بأن هذا اللازم هو لازم له بقدرته وإرادته وهذا اللازم لازم له بدون قدرته وإرادته تفريق بين المتماثلين وخروج عما يعقل في هذا الباب
ومن أعرض عن نصوص الأنبياء وادعى عقليات تخالفها وليس معه معقول صريح ولا قياس صحيح كان كلامه خارجا عن العقل والسمع كما قال أهل النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير سورة الملك 10
وهذا الموضع من أحكمه انكشف له حجاب هذا الباب فإن نفس كون الفاعل فاعلا يقتضي حدوث الفعل إما نوعا وإما عينا وأما فعل ليس بحادث لا نوعه ولا عينه بل هو لازم لذات الفاعل فليس هو فعل أصلا
ولهذا كان نفس علم الخلق بأن الشيء مخلوق يوجب علمهم بأنه مسبوق بالعدم إذ لا يعقل مخلوق مقارن لخالقه لازم لم يزل معه
ولهذا كان كلام الله الذي بعث به رسله موافقا لما فطر الله عليه الخلائق والذي فطر عليه العباد أنه إذا قيل هذا فعل هذا أو صنعه

أو خلقه أو أبدعه أو نحو هذه العبارات لم يعقل منه إلا أنه أحدثه بعد أن لم يكن وهذه المقدمة بينة بنفسها لا يحتاج إلى إثباتها بأدلة فطرية بل تقدير نقيضها معلوم الفساد في بدائه العقول
فإذا قيل هذا مفعول لهذا وهو معه لم يزل مقارنا له كان هذا عند العقل جمعا بين النقيضين وكأنه قيل هو مفعول له ليس مفعولا له بل يقول العاقل إذا كان الأمر كذلك لم يكن جعل أحدهما فاعلا والآخر مفعولا بأولى من العكس
وإذا قيل أحدهما ممكن يقبل الوجود والعدم والآخر واجب بنفسه لا يقبل العدم كان هذا أيضا مما تنكره العقول بفطرتها
فإنه إذا قيل هذا يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد لم يعقل هذا إلا فيما كان حادثا والإمكان يعود إلى الفاعل تارة وإلى القابل أخرى فيقال في الأول هذا يمكنه أن يكتب ويقوم ويتكلم ويقال في الثاني هذه الأرض يمكن أن يزدرع فيها وهذه المرأة يمكن أن تحمل
وهذا القدر مما اتفق عليه الجمهور من العقلاء وهو مذهب أئمة الفلاسفة بل مذهب أئمة المشائين كأرسطو وأتباعه فإنهم لم يصفوا بالإمكان إلا ما كان حادثا

وأما تقدير قديم ممكن فهذا يوجد في كلام ابن سينا ومن سلك سبيله كالسهروردي وكالرازي والآمدي وقد أنكر ذلك على ابن سينا طائفة من الفلاسفة إخوانه كابن رشد الحفيد وغيره وبينوا أنه خرج بذلك عن مذهب سلفه القدماء كما خرج به عن المعقول الصريح
ولهذا ورد على هؤلاء في الإمكان من الإشكالات ما لم يمكنهم الجواب عنه كما قد بيناه في كلامنا على المحصل وغيره فإنهم فرضوا ما يستلزم الجمع بين النقيضين وهي تقدير ذات قديمة أزلية لا يمكن عدمها ألبتة
فإن قالوا مع ذلك هي واجبة بغيرها وقالوا مع ذلك هذه الذات باعتبار حقيقتها تقبل الوجود والعدم ليس أحدهما أولى بها وزادوا على ذلك فقالوا لا يكون وجودها ولا عدمها إلا بسبب منفصل قالوا وسبب عدمها عدم السبب الفاعل
فقال لهم جمهور العقلاء هذا باطل من وجهين أحدهما أن

العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى سبب بل العقل الصريح يعلم أن ما لم يوجد قط لا يحتاج في أن لا يوجد إلى علة
ولهذا قال نظار المسلمين إن العدم المحض لا يحتاج إلى علة ثم إذا قالوا علة العدم عدم العلة كان عدم العلة أيضا محتاجا إلى علة إن كان العدم لا بد له من علة
نعم إذا قيل عدم العلة يستلزم عدم المعلول كان هذا صحيحا ولكن ليس كل ملزوم فاعلا فكل ما لا يوجد إلا بسبب يلزم من عدم سببه عدمه لأن نفس عدم السبب هو الذي جعله معدوما في نفس الأمر بل عدمه في نفس الأمر لا علة له أصلا
الثاني قولهم في موجود قديم أزلي إنه ممكن يقبل الوجود والعدم كما يقولون مثل ذلك في الفلك فإن هذا باطل أيضا عند جماهير العقلاء من الفلاسفة وأهل الملل وغيرهم وإنما قالته هذه الشرذمة
وأول من قال من الفلاسفة بقدم الفلك صورته ومادته هو أرسطو واتبعه على ذلك من اتبعه كثامثطيوس والإسكندر

الأفرديوسي لكن هؤلاء لم يقولوا إنه ممكن يقبل الوجود والعدم كما يقوله ابن سينا وأتباعه فإن القابل للعدم إن أريد به هذا القديم فالقديم الواجب وجوده ولو بغيره كيف يعقل قبوله العدم
وهذا كالصفات اللازمة لذات الرب تعالى فإنها لا تقبل العدم بحال فحياته تعالى لازمة لذاته المقدسة لا تقبل العدم أصلا بل فرض عدمها محال
وإن قيل هو باعتبار ذاته يقبل العدم
قيل عنه جوابان أحدهما أن تقدير ذات غير الوجود المعين قول تقوله طائفة من الفلاسفة كأتباع أرسطو من أهل المنطق وهو قول باطل عند جمهور العقلاء كما قد بسط في موضعه
ولهذا كان تفريق هؤلاء بين الصفات المقومة الداخلة في الماهية والصفات العرضية اللازمة إما للماهية وإما لوجودها يعود عند التحقيق إلى اعتبارات ذهنية لا إلى صفات تبنى الحقائق عليها في نفس الأمر

بل حقيقة قولهم في تمام الماهية وجزء الماهية ولازم الماهية يرجع في المعنى إلى دلالة المطابقة والتضمن والإلتزام فما قصده الإنسان بلفظ كان تمام ذلك مراده وتمام معناه وتمام الماهية القائمة في ذهنه التي عبر عنها بذلك اللفظ وما كان جزء ذلك المعنى وهو المدلول عليه بالتضمن وهو جزء ما أراده وجزء ما قام بنفسه من تلك الماهية وما كان لازما لمدلول اللفظ كان خارجا عن المدلول لازما له وهو خارج عن تلك الماهية القائمة في نفسه لازم لها
وهذا الموضع قد بسط في الكلام على المنطق بسطا ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه فمن حقق كلامهم في الصفات الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفات اللازمة الخارجة عن الماهية ورأى كتبهم الكبار المبسوطات في هذا الباب وأعطى النظر العقلي حقه ولم يسلم عبارات لم يحقق معناها تبين له أن ما يذكرونه من الفرق بين الذاتي والعرضي اللازم وما يذكرونه من تركيب الحقيقة من الجنس والفصل وأن هذا هو الذاتي المشترك وهذا هو الذاتي المميز والمركب منهما هو النوع وأن العرضي المشترك هو العرض العام والعرضي المميز هو الخاصة وإنما يعود هذا إلى أمور اعتبارية وهو تركب في الذهن لا تركب في الخارج وذلك يتبع ما يتصوره الإنسان ويعبر عنه لا يتبع الحقائق في نفس الأمر فمن تصور حيوانا ناطقا فالأول ذاتي مشترك والثاني ذاتي مميز والضاحك خارج عما تصوره ومن تصور حيوانا ضاحكا كان الأمر بالعكس فالضاحك في تصور هذا ذاتي والناطق خارج عن الذات

وهذا المعنى مما تفطن له طائفة من النظار من الفلاسفة وغيرهم وبينوا به ما وقع من غلط هؤلاء في هذا الموضع الذي اشتبه فيه الماهيات الذهنية بالحقائق الخارجية وإلا فكيف يكون الإنسان الموجود في الخارج مركبا من الحيوان والناطق أو الحيوانية والناطقية إن كان مركبا من عرضين فالجوهر لا يتركب من عرضين وإن كان من جوهرين فالإنسان الموجود ليس فيه جواهر متعددة الواحد جسم والآخر حساس والآخر نامي والآخر متحرك بالإرادة والآخر ناطق بل الحق أن الموصوف بهذه الصفة هو الموصوف بالآخر فهو نفسه جسم حساس نام متحرك بالإرادة ولكن بعض هذه الصفات جنسه أعم من بعض فالأعم منها يشركه فيه كل جسم والنامي يشركه فيه النبات والحساس يشركه فيه الحيوان البهيم والناطق لا يشركه فيه إلا الإنسان وأما الموصوف المعين فما قام به من الصفات مختص ولا يشركه فيه غيره وإذا قيل يشاركه فيه غيره فالإشتراك في الأمر الكلي الذي لا يكون كليا إلا في الذهن ومتى وجد في الخارج لم يكن إلا معينا
والإنسان به ذات موصوفة بصفات ومعلوم أن صفة الموصوف لا تكون متقدمة عليه لا في العقل ولا في الوجود ولا يكون مركبا منها وهم يقولون إن أجزاء المركب متقدمة عليه سابقة له وهذا ممتنع في صفة الموصوف لكن إذا أريد بالمركب ما يتصوره الذهن من قول القائل جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق فلا ريب أن هذا

مركب في الذهن وله أجزاء كما إذا تكلم اللسان به كان مجموع الكلام مركبا من الأجزاء وإذا كتب اللفظ بالخط كانت الكتابة مركبة من الأجزاء فالشيء له حقيقة في نفسه ثم يتصور في الذهن ثم يعبر عنه باللسان ثم يكتب بالقلم له وجود في الأعيان والأذهان واللسان والبنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي لكن وجوده الذي هو الوجود الحقيقي هو الوجود العيني كالإنسان الموجود في الخارج
وهذا الإنسان يتصف بأنه حي وبأنه ناطق لكن لم تكن هذه الصفات متقدمة عليه لا في الخارج ولا في العقل ولا مركب منهما بل هو متصف بهما كما هو متصف بسائر صفاته اللازمة له وهذا هو الذي عليه نظار المسلمين وجمهور العقلاء أن الصفات اللازمة للموصوف كلها مشتركة في هذا الباب وأما تقسيمها إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وعرضي لازم خارج وتقسيم اللازم إلى ما هو لازم للذات ولازم لوجودها فهذا قول هؤلاء المنطقيين وقد خالفهم في ذلك جمهور طوائف النظار من المسلمين وغيرهم كما هو موجود في كتب النظار المسلمين
وأول من علمت أنه وافقهم على ذلك أبو حامد في كتبه وأنكر الناس عليه ذلك كما أنكروا ما وافقهم عليه في بعض مسائل الإلهيات والنبوات وإن كان أبو حامد نفسه قد أنكر عليهم ما أنكره من خطئهم في الإلهيات فهذه الأمور مبسوطة في موضعها
والمقصود هنا أن إثبات قديم أزلي يمكن وجوده ويمكن عدمه قول

منكر عند جماهير النظار من المسلمين والفلاسفة كما هو منكر في فطر العقلاء لأن دعوى ذات الممكن في الخارج غير الموجود في الخارج باطل وما يذكرونه من أن الإنسان يتصور المثلث مع الشك في وجوده فذاك لأنه لا يتصوره في الذهن ولا نزاع بين العقلاء أن ما تتصوره الأذهان مغاير لما يوجد في الخارج فإذا أريد بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وقيل ماهية الشيء مغايرة لوجوده كان هذا صحيحا وإنما المنكر أن يراد بالماهية أمر ثابت في الخارج غير الموجود الخارج ويقال إن تلك الماهية هي حقيقة هذا الموجود وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
الوجه الثاني أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فالقديم الواجب الوجود بغيره لم تزل ماهيته موجودة والوجود لازم لها وتقدير عدمها تقدير ممتنع فإذا قيل يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة لم يكن صحيحا بل لا يمكن عدمها بحال وغايته أن وجودها اللازم لها هو من غيرها لا منها مع أنه وجود واجب بغيره هذا لو أمكن أن يكون القديم الأزلي مفعولا وهذا ممتنع في فطر العقلاء قاطبة
ولهذا جاءت الكتب الإلهية بخطاب الناس بالمعقولات الصحيحة الفطرية فإن الرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها لا بتغيير الفطرة وتحويلها والنفس إنما تنال كمالها بسعادتها ونجاتها بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة ولهذا حيث ذكر الله في كتابه شيئا من هذه الأسماء التي تدل على الفعل لم يعقل العقلاء من ذلك إلا أنه محدث كقوله تعالى اقرأ باسم

ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم سورة العلق 1 3 فهل يعقل العقلاء قط أن الشيء يكون مخلوقا ولا يكون حادثا غير هؤلاء الملحدين في السمعيات والعقليات الذين سلكوا في العقليات مسلك السفسطة وفي السمعيات مسلك القرمطة
وكذلك قوله خلق السموات والأرض سورة النحل 3
وقوله والسماء بنيناها بأيد سورة الذاريات : 3 وقوله والسماء وما بناها سورة الشمس : 5
وقوله أم السماء بناها رفع سمكها فسواها سورة النازعات 27 28
وقوله رفع السموات بغير عمد ترونها سورة الرعد 2
وقوله وجعلنا السماء سقفا محفوظا سورة الأنبياء 32
خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور سورة الأنعام 1
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر سورة الأنبياء 33 إلى أمثال ذلك من الخطاب الذي قد علم بالإضطرار معناه وأن بناءها أمر حادث كان بعد أن لم يكن وليس المراد أنها قديمة أزلية لم تزل كذلك وأن معنى خلقها أنها معلولة لعلة قديمة أزلية
ومن افترائهم على السمعيات أنهم يسمعون هذا أيضا حدوثا

ويقولون هذا العالم محدث أي معلول ومعنى حدوثه عندهم وجوبه بالواجب بنفسه وافتقاره إليه
ومعلوم بالإضطرار أن هذا لا يسمى حدوثا كما لا يسمى خلقا ولم يختلف المسلمون وغيرهم أن كل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وأن كل مخلوق حدث وإنما تنازعوا في كل محدث هل يجب أن يكون مخلوقا وأن كل حادث يجب أن يكون محدثا هذا فيه نزاع معروف بين المسلمين كما هو مبسوط في موضعه
ولهذا كان قدماء النظار عندهم كل من قال العالم قديم فقد أنكر الصانع إذ كانوا لا يعقلون أن يقال هو قديم وهو مفعول ولكن متأخريهم لما رأوا من قال من الفلاسفة إنه معلول غير واجب ذكروا هذا القول وبحثوا مع أصحابه
وأما أرسطو وأتباعه فإنما في كلامهم إثبات العلة الأولى من حيث هي غاية وأن الفلك يتحرك للتشبه بها فأوجب وجودها من هذه الجهة لم يثبت وجودها من حيث أن الفلك معلول علة فاعلة كما فعله ابن سينا ومن سلك سبيله فإنه سلك سبيلا بعضها من أصول سلفه الفلاسفة وبعضها أخذه من أصول المعتزلة ونحوهم والرسل صلوات الله عليهم لم يقولوا إن الرب كان في الأزل متعطلا عن الكلام والفعل وأنه لم يمكنه أن يتكلم ولا أن يفعل في الأزل بمشيئته وقدرته وإنما أهل الكلام

المحدث في الإسلام من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم في أصلهم التبس عليهم حدوث الأعيان المخلوقة بحدوث نوعها كما التبس عليهم قدم نوع كلام الله بقدم عين الكلمة وظنوا أن حدوث الأعيان لا يحصل إلا بحدوث النوع فالتزموا تعطيل الرب وتعجيزه في الأزل عن الكلام والفعال وسلبوه صفات الكمال فتسلطت عليهم السلف والأئمة ورثة الأنبياء بالتبديع والتضليل بل وبالتكفير وانفتح عليهم من الفلاسفة سد الدهرية بعد أن كان مبنيا بزبر الحديد فلا للإسلام نصروا ولا للكفار كسروا ولا بحبل الله اعتصموا ولا للكتاب والسنة اتبعوا بل فرقوا دينهم وكانوا شيعا واعتاضوا عن الشريعة الإلهية بما أحدثوا بآرائهم بدعا
ومما يبين هذا انه لما كان شواهد الإفتقار في أعيان العالم واحتياجها إلى الصانع بينة ظاهرة بل معلومة بالبديهة كان معلوما مع ذلك أن كلا منها محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن في فطر العامة فإن الأمر مبني على مقدمتين إحداهما أن هذا المعين مفتقر إلى فاعل إذ هو ليس بواجب بنفسه والثانية أن ما افتقر إلى فاعل لم يكن إلا محدثا فإذا كل شيء من العالم تثبت فيه هاتان المقدمتان
وأما كون هذا المعين مفعولا مخلوقا مربوبا مفتقرا إلى بارئه وأنه لازم لفاعله للزوم الفعل الذي به فعله فاعله كلزوم حياته أو بدون فعل قائم به فهذا مما لا يعقله الخلق بفطرتهم التي فطروا عليها

وهذا النوع من الكلام دليل مستقل على حدوث كل شيء من العالم من جهة كونه ممكنا مفعولا لغيره لا واجبا بنفسه والأول من جهة كونه ممكنا مستلزما لاقترانه بالحوادث فإذا عرف أنه محتاج إلى مبدعه الواجب بنفسه علم أنه محدث من جهة أن فعل الفاعل لا يكون إلا حادث العين أو النوع ومن جهة أن ما كان مستلزما للحوادث لم يمكن أن يفعله الفاعل دونها وفاعل الحوادث لا يكون موجبا بذاته يلزمه مفعوله وما لم يلزمه مفعوله المعين لا يكون مفعوله قديما فلا يكون شيء من العالم قديما
ومن تدبر كلام الدهرية القائلين بقدم الأفلاك من المتفلسفة الإلهيين كأرسطو وشيعته وغيرهم لم يجد لهم دليلا أصلا على قدم شيء من العالم لا الأفلاك ولا غيرها ولكن يذكرون ما يدل على دوام فاعليه الفاعل ونحو ذلك
والذين ناظروا هؤلاء من أهل الجدل والكلام الذي ذمه السلف وعابوه بنوا الأمر على أن الرب لم يزل معطلاعن الكلام والفعل لا يمكنه أن يتكلم ولا أن يفعل ثم صار يمكنه الكلام والفعل بعد أن لم يمكنه من غير تجدد شيء
وهذا أصل الجهمية والمعتزلة والكرامية وهو أصل الكلابية والأشعرية لكن سلكوا في كلام الله تعالى وصفاته مسلكا انفردوا به دون السلف والأئمة وأهل الحديث ودون المعتزلة كما هو معروف من قولهم
ولهذا كان فيما أنكره الناس على الكلابية قولهم إن الرب لم يكن

قادرا على الفعل في الأزل وليس هذا قولهم وحدهم بل هو قول هؤلاء الذين أخذوا عنهم الكلام
ولهذا لما وقع في أرض المشرق زمن السلطان محمود بن سبكتكين ثم في أول دولة السلاجقة زمن ألب رسلان فتنة بين الحنفية والشافعية وكان السلطان قد تقدم بلعنة أهل البدع على المنابر لما كاتبه الحاكم المصري الملحد ودعاه إلى مبايعته فأرسل إلى الإمام القادر فعرفه لصورة الحال وبمبايعته لشريعة الإسلام وكتب الإمام القادر الإعتقاد القادري المعروف وعامته من نظم الشيخ أبي أحمد الكرجي وأمر القائم بقراءته على الناس وتقدم باستتابة أهل البدع فاستتيبت المعتزلة سنة بضع وأربعمائة وجرى على القاضي أبي بكر بن الطيب محنة وقام عليه الشيخ أبو حامد الإسفراييني الشافعي والشيخ أبو عبدالله بن حامد الحنبلي وكان الإسفراييني مظهرا للإنكار عليه جدا مظهرا لمخالفته في قوله في القرآن وكان القاضي أبو بكر يكتب محمد بن الطيب الحنبلي إذ كانت الأشعرية منتسبة إلى السنة وإلى أئمتها منتصرة للمقالات المشهورة عن إمام السنة أحمد بن حنبل وغيره من علماء أهل السنة وصنف القاضي أبو بكر إذ ذاك كتابه المشهور في الرد على الباطنية حزب الحاكم المصري العبيدي وقام السلطان محمود بأرض المشرق وأظهر لعنة أهل البدع على المنابر وكذلك بعده ملوك السلاجقة فأدخل أقوام من الحنفية وغيرهم الأشعرية في اللعنة حتى صنف أبو القاسم القشيري شكايته المشهورة وصنف الحافظ أبو بكر البيهقي رسالة معروفة وذكروا أشياء مما نقمت على أبي الحسن الأشعري وكان مما ذكروه قوله إن الرب لم يكن في الازل قادرا على الفعل

وهذا أصل قول هؤلاء المتكلمين الذين احتجوا على حدوث العالم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ويلزم من ذلك امتناع أن يكون مقدورا للرب فقالوا صار الفعل ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا
ومعلوم عند من يعلم الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها أنه ليس في الكتاب ولا السنة شيء يدل على أن الرب لم يكن الفعل ممكنا له في الأزل أو لم يكن الفعل والكلام ممكنا له في الأزل أو أنه لم يزل معطلا عن الفعل أو عن الفعل والكلام لم يزل معطلا ثم إنه صار قادرا فاعلا متكلما بعد أن لم يكن كذلك
وقد يجيبون عن هذا بجواب فيه مغلطة فيقولون لم يزل قادرا ولكن المقدور كان ممتنعا في الأزل وهذا تناقض فإن المقدور لا يكون ممتنعا بل لا يكون إلا ممكنا ولأن ذلك يتضمن الإنتقال من الإمتناع إلى الإمكان بلا حدوث شيء وهو باطل
والجهم هو أول من أظهر هذا الكلام في الإسلام وطرد قياسه بأن ما كان له ابتداء فلا بد أن يكون له انتهاء وأن الدليل الدال على امتناع ما لا يتناهى لا يفرق بين الماضي والمستقبل فقال بفناء الجنة والنار
وكان هذا مما أنكره عليه سلف الأمة وأئمتها مع إنكارهم عليه نفي الصفات والقول بخلق القرآن ونفى الرؤية الذي هو لازم قوله بهذه الحجة

فإن طردها أوجب عليه أن لا يقوم بذات الله لا صفة ولا فعل ولا كلام وكان ذلك مستلزما لنفي الصانع ولهذا عظم نكير سلف الأمة عليه وعلى أتباعه من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم
قال حرب الكرماني ورواه عنه أبو بكر الخلال في كتاب السنة ثنا محمد بن إدريس يعني أبا حاتم الرازي ثنا علي بن ميسرة ثنا علي بن الحسين بن شقيق سمعت خارجة بن مصعب يقول كفرت الجهمية بآيات من كتاب الله قال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد 35 وقالوا ينقطع
وقال تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة سورة القيامة 22 : 23 فقالوا لا تنظر
وقال الخلال ثنا أبو داود السجستاني ثنا أحمد حدثني أبي قال قال إبراهيم بن طهمان ما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم يعني جهما
قال أبو داود ثنا عبدالله بن مخلد ثنا علي بن إبراهيم ثنا يحيى ابن شبل قال كنت جالسا مع مقاتل بن سليمان وعباد بن كثير إذ جاء شاب فقال ما تقول في قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه سورة القصص 88 فقال مقاتل هذا جهمي ثم قال ويحك والله إن

جهما ما حج هذا البيت قط ولا جالس العلماء إنما كان رجلا أعطي لسانا
قال أبو داود ثنا أحمد بن الصباح ثنا علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك قال إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى وما نستطيع أن نحكي كلام الجهمية
قال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل ثنا محمد بن مصفى ثنا بقية بن الوليد عن عبدالعزيز بن الماجشون قال جهم وشيعته الجاحدون
وقال ثنا عبدالله بن أحمد ثنا الحسن بن عيسى مولى ابن المبارك ثنا حماد بن قيراط سمعت إبراهيم بن طهمان يقول الجهمية كفار
وقال عبدالله بن أحمد ثنا محمد بن صالح مولى بني هاشم ثنا عبدالملك بن قريب الأصمعي أنا المعتمر بن سليمان عن أبيه أنه قال ليس قوم أشد نقضا للإسلام من الجهمية
قال عبدالله حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي وعلي بن مسلم ثنا سليمان بن حرب سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء
قال الخلال أنا أبو بكر المروزي ثنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال كان أبي وعبدالرحمن يقولان الجهمية تدور على أن ليس

في السماء شيء قال المروزي سمعت أحمد الدورقي سمعت يزيد بن هارون وذكر الجهمية فقال كفار لا يعبدون شيئا قال المروزي ثنا إسماعيل بن أبي كريمة سمعت يزيد بن هرون يقول القرآن كلام الله لعن الله جهما ومن يقول بقوله كان كافرا جاحدا ترك الصلاة أربعين يوما يريد زعم يرتاد دينا وذلك أنه شك في الإسلام
قال الخلال وأخبرني حرب الكرماني ثنا أبو علي الحسن بن الصباح ثنا قاسم العمري ثنا عبدالرحمن بن محمد بن حبيب حدثنا أبي عن جدي حبيب قال شهدت خالد بن عبدالله القسري خطب الناس بواسط يوم النحر فقال أيها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه
والجهم بن صفوان أخذ مذهبه عن الجعد بن درهم وكان الجعد هذا من أهل حران وإليه ينسب مروان الجعدي آخر خلفاء بني أمية وكان بحران أئمة الفلاسفة الصابئة القائلين بقدم العالم وتعطيل الصفات وعنهم أخذ تحقيق ذلك أبو نصر الفارابي لما دخل حران وكان الجعد فيما يقال أخذ تعطيل الصفات عنهم ولهذا أنكر كلام الله ومحبة الله فلا يكون له كليم ولا خليل
هذا مع أن الفلاسفة مختلفون في قدم العالم وحدوثه وأساطينهم

المتقدمون على القول بحدوثه بل وعلى إثبات الصفات والأمور الإختيارية القائمة بالله وأول من عرف عنه من الفلاسفة المشائين القول بقدم الأفلاك هو أرسطو وحججه على ذلك واهية جدا لا تدل على مطلوبه بل استدلاله على قدم الزمان وأنه مقدار الحركة فيلزم قدمها ثم ظن أن جنس الزمان مقدار حركة الفلك وهذا غلط عظيم فإن جنس الزمان إذا قيل الزمان مقدار الحركة فهو مقدار جنس للحركة لا حركة معينة بل الزمان المعين مقدار الحركة المعينة ولهذا كان جنس الزمان باقيا عند المسلمين بعد قيام القيامة وانشقاق السماء وتكوير الشمس ولأهل الجنة أزمنة هي مقادير حركات هناك غير حركة الفلك ولهم في الآخرة يوم المزيد يوم الجمعة مع أن الجنة ليس فيها شمس ولا زمهرير بل أنوار وحركات أخر
فمن قال إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء وبما شاء كان الكلام عنده صفة ذات قائم بذات الله وهو يتكلم بفعله وفعله بمشيئته وقدرته فمقدار ذلك إذا قيل بقدمه كان وفاء بموجب الحجة المقتضية لقدم نوع ذلك من غير أن يكون شيء من العالم قديم مع الله تعالى ولا يحتاج مع ذلك أن يقال لإمكان الفعل بداية ولا أن يجمع بين النقيضين في التقدير فيقال إذا قيل الفعل أو الحادث بشرط كونه مسبوقا بالعدم لا أول لإمكانه فإن هذا التقدير جمع بين النقيضين كما في تقدير كونه لم يزل قادرا مع امتناع دوام المقدور

فإذا قيل لم يزل الرب قادرا وقيل مع ذلك لم يكن الفعل ممكنا ثم صار ممكنا وأنه يمتنع أن يكون الفعل لم يزل مقدورا كان حقيقة الكلام لم يزل قادرا مع كونه كان غير قادر ثم صار قادرا فإن إثبات القادرية مع امتناع المقدور جمع بين المتناقضين وكذلك هذا وذلك أن الفعل بشرط كونه مسبوقا بالعدم يجب أن يكون له أول فكل ما سبق بالعدم فله أول إذ العدم قبله وما لا أول له ليس قبله شيء بل هو دائم لم يزل
فإذا قيل الفعل بشرط كونه مسبوقا بالعدم لا أول لإمكانه كان المعنى أن الفعل بشرط كونه له أول لا أول له ونظير هذا التناقض فرقهم بين أزلية الصحة وصحة الأزلية وربما قالوا بين إمكان الأزلية وأزلية الإمكان وهو فرق لا حقيقة له فإنه إذا كان الإمكان الذي هو الصحة أزليا فمعنى ذلك أنه لم يزل الفعل ممكنا صحيحا
هذا هو المراد بأزلية الإمكان والصحة ومعلوم أن هذا يتضمن إمكان أزلية الفعل وصحة ذلك فإنه إما أن يكون الثابت في نفس الأمر أزلية الفعل أو امتناعها فإن كان الثابت هو الامتناع كان الفعل ممتنعا في الأزل فلم يكن ممكنا وحينئذ فلا يكون الإمكان أزليا بل حادثا بعد أن لم يكن وهذا قول بأن إمكان الفعل ليس بأزلي بل حادث بعد أن لم يكن من غير مسبب يوجب حدوثه وهو خلاف قولهم بأزلية الإمكان

ثم إنه ممتنع بصريح العقل فإنه إذا كان إمكان الفعل له بذاته وهو حادث بعد أن لم يكن كان هذا ممتنعا لوجهين أحدهما أنه يلزم حصول الإمكان بعد الإمتناع من غير سبب أوجب كونه قادرا وهو سلب لصفة الكمال للرب في الأزل ودعوى حدوثها بعد أن لم تكن من غير سبب أوجب ذلك وكلاهما ممتنع فإن كماله من لوازم ذاته وكونه قادرا من لوازم ذاته إذ لو لم يكن من لوازم ذاته لكان عارضا لهذا وكان مفتقرا في ثبوت كونه قادرا إلى غيره ثم ذلك الغير إن كان مفعوله فإنه يستلزم الدور القبلي فإنه لا يكون فاعلا للمفعول إلا إذا كان قادرا فلو استفاد كونه قادرا من المفعول والمفعول لا يكون قادرا على الإقدار إلا بإقداره لزم أن لا يكون هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا فلا يكون واحد منهما قادرا
وأيضا فكون المفعول هو الذي يجعل الفاعل قادرا أو فاعلا معلوم فساده بصريح العقل فإن كل ما للمفعول هو من الفاعل لا من نفسه فلو لم يكن الفاعل قادرا إلا بإقدار المفعول له لم يكن قادرا بحال بل ولا كان مفعول أصلا فضلا عن كونه قادرا فضلا عن كونه مقدورا لفاعله
وكذلك لو قدر قديمان أو واجبان كل منهما إنما صار واجبا قادرا بإقدار الآخر كان هذا ممتنعا في صريح العقل وكان مستلزما للدور القبلي فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك قادرا وذاك لا يكون قادرا حتى يجعله هذا قادرا فلا يكون كل واحد منهما قادرا

فإن كون القادر قادرا في نفسه هو سابق لكونه يجعل غيره قادرا فمن ليس بقادر في نفسه يمتنع أن يجعل غيره قادرا فالإمتناع يعلم من جهة بطلان الدور القبلي ومن جهة أن من ليس بقادر يمتنع أن يجعل غيره قادرا
وهذا من أحسن ما يستدل به على التوحيد فإنه يعلم به أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه لا تكون قدرته مستفادة من غيره وحينئذ فإذا قدر قادران كان اجتماعهما على فعل المفعول الواحد ممتنعا لذاته بصريح العقل واتفاق العقلاء فإن فعل أحدهما له يوجب استقلاله فيمتنع أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون هناك فاعل آخر مستقل
ولهذا كان من المعلوم عند العقلاء بصريح العقل أنه يمتنع اجتماع مؤثرين تامين على أثر واحد وإن شئت قلت يمتنع اجتماع علتين تامتين على معلول واحد
وإذا كان كذلك فإذا قدر ربان امتنع استقلال كل منهما بفعل شيء واحد بل إذا فعل أحدهما شيئا كان الآخر فاعلا لشيء آخر وهذا تحقيق قوله تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون 91
وأيضا فإذا كانا قادرين فإن أمكن أحدهما أن يفعل بدون الآخر أمكن أن يريد ضد مراد الآخر فيلزم التمانع فإنه إن وجد مرادهما لزم اجتماع الضدين وإن لم يوجد مراد واحد منهما لزم عجزهما جميعا ولزم خلو المحل من أحد المتقابلين اللذين لا يخلو الجسم عنهما مثل أن يريد

أحدهما إحياء جسم ويريد الآخر إماتته أو يريد تحريكه ويريد الآخر تسكينه ونحو ذلك
وإن قيل يجب اتفاقهما في الفعل بمعنى أنه إذا فعل أحدهما شيئا لم يعارضه الآخر فيه لم يكن واحد منهما قادرا إلا بشرط تمكين الآخر له والإمساك عن معارضته وهذا يستلزم أن لا يكون واحد منهما قادر بنفسه وهو ممتنع كما تقدم
وإن فسر الإتفاق في الفعل بمعنى الإشتراك فيه فالإشتراك في المفعول الواحد بمعنى أن كلا منهما مستقل بالمفعول ممتنع كما تقدم
والإشتراك بمعنى أن هذا له فعل ومفعول غير فعل هذا ومفعوله يوجب أن يذهب كل إله بما خلق والعالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطا ويحتاج بعضه إلى بعض احتياجا يمتنع معه أن يكون بعضه مفعولا لواحد وبعضه مفعولا لآخر فإذا قدر فاعلان لزم أن يذهب كل إله بما خلق وأن يعلو بعضهم على بعض فذهاب كل إله بما خلق لأن مفعول هذا غير مفعول هذا وعلو بعضهم على بعض لأن كونهما قادرين يوجب أن كلا منهما غني في قدرته عن الآخر وأنه يمكنه أن يفعل بدونه فيمتنع أن يفعلا شيئا سواء كانا متفقين لامتناع صدور الفعل الواحد عن فاعلين أو كانا مختلفين لأن ذلك يستلزم التمانع فيكون كل منهما مانعا للآخر فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر دون الآخر فيكون

القادر هو القاهر للآخر فيعلو عليه كما قال تعالى ولعلا بعضهم على بعض سورة المؤمنون 91 وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر لما تكلمنا على طرق الناس في إثبات التوحيد ومعناه
والمقصود هنا أنه يمتنع كون واجبين قدرة كل منهما مشروطة بقدرة الآخر فلا بد أن يكون الرب قادرا بنفسه فتكون قدرته من لوازم ذاته واللازم لا ينفك عن الملزوم وإذا لم يزل قادرا لم يزل يمكنه فعل المقدور وإذا لم يكن فعل المقدور ممكنا لم يكن قادرا في الأزل بل صار قادرا بعد أن لم يكن وليس هذا من الدور المعي الممكن مثل أن يقال لا يكون هذا قادرا إلا مع كون هذا قادرا فإن هذا ممكن في المخلوقات لمعلولي العلة الواحدة فإنهما يحصلان بعلة واحدة فلذلك إذا كان الفاعلان قادرين بإقدار ثالث أمكن أن تكون قدرة أحدهما مشروطة بقدرة الآخر كالأمور المتلازمة التي لا يوجد هذا وقوته إلا مع هذا وقوته
وأما الواجبان القديمان الخالقان اللذان لم يستفيدا قدرتهما من ثالث فلو قيل إن قدرة أحدهما مشروطة بقدرة الآخر لكان من باب الدور القبلي فإن أحدهما إذا لم تكن قدرته من نفسه ولا من ثالث كانت من الآخر وهذا هو الدور القبلي وإن قيل بل هي حاصلة منه ومن الآخر قيل فالحاصل فيه مشروط بقدرته فلا بد له من قدرة يستقل بها لا يفتقر فيها إلى غيره ولا يكون غيره شرطا فيها فتكون تلك القدرة من لوازم ذاته وهو المطلوب وإن كانت من لوازم ذاته امتنع أن يصيرا قادرا بعد أن لم يكن وامتنع أن يصير الفعل ممكنا بعد أن لم يكن

فثبت أنه لم يزل قادرا ولم يزل المقدور ممكنا فثبت أن إمكان الفعل لا أول له وإذا كان الفعل لم يزل ممكنا أمكن أن يكون أزليا وإلا امتنع كونه أزليا
فعلم أن القول بأزلية الإمكان دون إمكان الأزلية جمع بين النقيضين وحذاقهم يعترفون بهذا وإنما ألجأهم إلى هذا ما ادعوه من كون الفعل أو الكلام والفعل لم يكن ممكنا فصار ممكنا بعد أن لم يكن وهذا أول من قاله في الإسلام الجهمية والمعتزلة ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام ولا نقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه و سلم لا بلفظه ولا بمعناه ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان
ثم إنهم لما قالوا هذا احتاجوا أن يجيبوا عن قول المنازع لهم الإمكان لا أول له إذ لو كان له أول للزم الإنقلاب من الإمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا موجب فقالوا نقدر أن إمكان الحدوث لا اول له أو نقول الإمكان بشرط حدوث الممكن لا أول له فيكون حقيقة الكلام إمكان الحدوث له أول لا أول له وهو جمع بين النقيضين بل كل ما قدر أنه يجب حدوثه ويمتنع قدمه فإن إمكان حدوثه له أول ويمتنع أن يكون إمكان هذا الحدوث لا أول له وسواء كان إمكان الحدوث مشروطا بشرط من جهة الفاعل أو القابل فمتى كان إمكان الحدوث له أول امتنع أن لا يكون له أول وإن كان الحدوث للذي له أول يعقل في أعيان الحوادث فما من شيء من المخلوقات إلا وإمكان حدوثه للذي له أول ويمتنع أن يكون حادثا ويكون إمكان الحدوث أزليا

فهذا القول الذي أحدثته الجهمية والقدرية في الإسلام واتبعهم عليه من اتبعهم وهو بدعة في الشرع وباطل في العقل
وأما إبطال مذاهب الفلاسفة المخالفة للكتاب والسنة فهو ولله الحمد ممكن بصريح المعقول من وجوه متعددة لا تستلزم إلا حقا
فقول الفلاسفة بقدم شيء بعينه من العالم يوجب أنه علة تامة له وهذا باطل من وجوه متعددة كما قد ذكر في موضعه
وأيضا فإنه يمتنع حدوث حادث عن علة قديمة لم يقم بها شيء فإن الفاعل إذا كان حاله عند وجود المعلول الحادث وقبله ومعه سواء كان تخصيص الوقت المعين بحدوث الحادث المعين تخصيصا بلا مخصص وحدوثا بلا سبب حادث فيمتنع أن يحدث عنه شيء بوسط أو بغير وسط فيلزمه أن لا يكون للحوادث محدث وهذا غاية السفسطة
ففروا من القول بأن الحادث لا بد له من سبب فلزمهم أن لا يكون له محدث فكان ما فروا إليه أعظم مما فروا منه بكثير
فتبين أنه لو كان علة قديمة لم يكن حاله بعد أن أوجب ذلك القديم كحاله حين أوجبه لأنه لو استوت الحالان لم يكن تخصيص حال القدم بالإيجاب أولى من غير حال القدم ولم يكن حال الإحداث المعين أولى من حال عدم الإحداث المعين إذ كانت نسبة الجميع إليه سواء من كل وجه

وإذا قيل إنه موجب للمعين دائما
قيل له إيجاب الفاعل للمفعول المعين بمعنى مقارنته له في الزمان ممتنع كما بين في موضعه
وإيجاب الحوادث شيئا بعد شيء بدون قيام أمور متجددة به ممتنع أيضا كما قد بسط في موضعه وإيجاب المعين بدون هذا الحادث وهذا الحادث محال وإيجاب هذا الحادث دائما وهذا الحادث دائما محال
وأما إيجاب الحوادث شيئا بعد شيء فيستلزم أن لا يكون موجبا للحادث إلا عند حدوثه وحينئذ يستكمل شرائط الإيجاب فيلزم من ذلك تجدد الإيجاب بشيء بعد شيء فحينئذ لم يكن موجبا لمعين إلا بإيجاب معين وما استلزم الحوادث لا يكون له إيجاب معين وأما الإيجاب الذي يتجدد شيئا بعد شيء فيمتنع أن يكون به شيء بعينه قديما لأن القديم لا يكون إلا بإيجاب قديم بعينه لا يتجدد شيئا بعد شيء
وصار أصل التنازع في فعل الله هل هو قديم أو مخلوق أو حادث من جنس أصل التنازع في كلام الله تعالى وكثير من المتنازعين في كلامه وفعله ليس عندهم إلا قديم بعينه لم يزل أو حادث النوع له إبتداء فالأول قول الفلاسفة القائلين بقدمه والثاني قول المتكلمين من الجهمية والمعتزلة
ومسألة حدوث العالم متعلقة بهذا لكن الدهرية لم يمكنهم القول

بقدم كل شيء من أعيان العالم فإنه خلاف الشاهد فقالوا بقدم أصول العالم كالأفلاك والعناصر وهم يقولون بدوام الحوادث ويثبتون قديم النوع حادث الأعيان
وصار المناظرون لهم من أهل الكلام يمنعونهم ثبوت هذا النوع ويقولون كل ما ثبت حدوث شيء من نوعه لزم أن يكون نوعه حادثا وأن يكون له ابتداء لامتناع دوام الحدوث والفعل عندهم وظنوا أن القول بأن الله خالق كل شيء لا يتم إلا بهذا فاستظهر الفلاسفة عليهم بهذا وطولوا الكلام عليهم في إبطال هذا وظنوا أنهم بردهم ثبت لهم قدم العالم
وكان خطأ هؤلاء الفلاسفة أعظم من خطأ أولئك فإن نفس الأصل الكلي الذي اعتمدوا عليه لو أعطوه حقه لم يكن فيه دليل إلا على إبطال قول من زعم أن الرب كان معطلا عن الفعل والكلام ليس فيه دليل على قدم شيء من العالم بل هو بعينه يدل على أن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن
والإستدلال بذلك أصح من الإستدلال بتناهي الحوادث لوجهين أحدهما أن ذلك قد بينوا بطلانه والنزاع فيه طويل ولوازمه شنيعة

والثاني أن متأخريهم قالوا هذا إنما يدل على حدوث الأجسام التي لا تخلو عن الحوادث
قالوا فإذا جاز وجود موجود ليس بجسم كالعقول والنفوس لم يكن في هذا ما يدل على حدوث هذا
وهكذا ذكره الشهرستاني والرازي والآمدي والأرموي وغيرهم حتى قال من قال في عقيدته الأجسام حادثة من المتأخرين أتباع هؤلاء وقد لا يجزم بقدم العقول والنفوس لكن يقف عند ذلك ويجزم بحدوث الأجسام لكون هذا هو الذي دل عليه العقل عنده وزعم بعض هؤلاء أن سبب حدوث الأجسام هو ما يحدث من تصورات النفوس المتعاقبة وأجابوا بهذا عما طالبهم به خصومهم من شبهة الحدوث
وزعم الرازي في المطالب العالية أن هذا هو الجواب الباهر عن حجة الفلاسفة واتبعه على ذلك الأرموي في كتابه وزعم هؤلاء أن قدماء المتكلمين لم يجيبوا
عنه وليس الأمر كذلك بل شيوخ المتكلمين قرروا في كتبهم بأنه يمتنع وجود ممكن إلا جسما أو عرضا وبينوا أن ما يدعى الفلاسفة إثباته خارجا عن ذلك كالعقل والنفس والمادة والصورة باطل وإنما يعود ذلك إلى إثبات أمور ثابتة في الذهن لا في الخارج وهي من نوع العرض

أو إلى ثبوت قدر مشترك بين الأجسام وهو الكليات التي لا تخرج عن جسم أو عرض أو إثبات صورة هي إما جسم وإما عرض حتى أن ابن حزم وهو ممن يعظم الفلاسفة قرر أن الأمر منحصر في الأجسام والأعراض وبينوا أنه لا يخرج الممكن عنهما
وآخرون من أئمة الكلام والنظر قرروا ما هو أعم من ذلك أن الموجود لا يخرج عن هذين القسمين وبينوا أن ما يدعى غيرهم إثباته إما أن يكون ممتنعا ثبوته في الخارج وإما أن يكون داخلا في أحد القسمين
ولكن لفظ الجسم والعرض فيه نزاع اصطلاح لفظي وفيه نزاع عقلي كما قد بسط في موضعه والمقصود هنا أن الفلاسفة لا حجة لهم أصلا على قدم شيء من أشخاص العالم بل الأصل العقلي الذي يعتمدون عليه يمنع قدمها وقد ذكرنا هذا في مواضع
وهذا ابن سينا أفضل متأخريهم وهو الذي أخذ فلسفة الأوائل لخصها وضم إليها البحوث العقلية التي تلقاها عن المتكلمين من المعتزلة وغيرهم فزاد فيها ما يوافقها ويقويها بحث صار لهم في الإلهيات كلام له قدر لا يوجد لمتقدميهم فصار أحسن ما عندهم من الإلهيات ما استفاده ابن سينا من كلام المتكلمين والمواضع التي تخالف أصولهم وقد زل فيها المتكلمون صارت عمدة له في الرد على المتكلمين

والمتكلمون المعتزلة لهم مواضع أخطأوا فيها وشاركهم الفلاسفة فيها فصارت الفلاسفة تحتج بها عليهم كنفي الصفات ولهم مواضع انفردوا بالخطأ فيها دون غيرهم من المسلمين والفلاسفة فاستطالت بها عليهم الفلاسفة كقولهم إن المحدث لا يحتاج إلى الفاعل إلا في حال حدوثه لا في حال بقائه وقولهم إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وقولهم إن الممكن يترجح أحد طرفيه إذا كان الوجود أولى به من العدم وإن لم ينته إلى حد الوجود
فهذه الأمور ونحوها من كلام القدرية التي خالفهم فيها أهل السنة وجمهور المسلمين هي مما طولت لسانه عليهم واشتركوا هم وهم في نفي الصفات وسلك ابن سينا فيها مسلكا فمن تدبر كلامه وجده مشتقا من كلامهم إذ كلام قدماء الفلاسفة في ذلك نزر قليل ولم يصر للقوم كلام يعتد به في الإلهيات إلا بسبب ابن سينا وأمثاله بما استفاده من مبتدعة المسلمين
ولهذا لم يكن أولئك يسمون هذا العلم الإلهي وإنما يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار وجوده أو علم ما بعد الطبيعة باعتبار معرفته وهو كلام في الوجود المطلق ولواحقه كالواحد ولواحقه وكتقسيم ذلك إلى الجوهر والعرض وكتقسيم العرض إلى الأجناس التسعة التي هي الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع

والملك وأن يفعل وأن ينفعل ومنهم من يجعلها خمسة ومنهم من يجعلها ثلاثة وقد أنشد فيها ... زيد الطويل الأسود بن مالك ... في بيته بالأمس كان متكى ... بيده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوا ...
ثم أخذوا يتكلمون في أنواع هذه الأجناس حتى ينتهوا إلى مبادىء علومهم الجزئية كالمقدار الذي هو موضوع الهندسة والعدد الذي هو موضوع الحساب والجسم الذي هو موضوع العلم الطبيعي ونحو ذلك وتكلموا في العلة والمعلول بكلام قليل
وأما الكلام بلفظ الواجب الوجود وممكن الوجود فهذا من كلام ابن سينا وأمثاله الذين اشتقوه من كلام المتكلمين المعتزلة ونحوهم وإلا فكلام سلفهم إنما يوجد فيه لفظ العلة والمعلول
وقد تكلمت على ما ذكره معلمهم الأول أرسطو في غير هذا الموضع وبينت قلة فائدة الحق منه وما فيه من التقصير والخطأ الكثير وأنه كما قيل لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فيقلى
وأولئك كانوا يعتمدون في إثبات العلة الأولى على أن الفلك متحرك بإرادة والمتحرك بالإرادة لا بد له من مراد يكون محركا له تحريك المعشوق لعاشقه وهذا إذا ثبت لم يفد إلا أن له علة غائية لا يفيد أنه معلول

لعلة فاعلة وهم مع ذلك لا يجعلون مراد الفلك عبادة الله ومحبته بل مراده التشبه به ولهذا جعلوا الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة
2 - والفلك عندهم ليس مفعولا ولا ممكنا ولا معلولا لعلة فاعلة بل هو موجود بنفسه والممكن عندهم لا يكون إلا المحدث المسبوق بالعدم والفلك ليس كذلك
وابن رشد وأمثاله من الفلاسفة يسلكون طريقة القدماء في هذا الباب فعدل ابن سينا عن ذلك إلى ما استفاده من طرق المتكلمين فسلك طريق تقسيم الوجود إلى الواجب والممكن كما يقسمونه هم إلى القديم والمحدث وتكلم على خصائص واجب الوجود بكلام بعضه حق وبعضه باطل لأن الوجوب الذي دل عليه الدليل إنما هو وجوده بنفسه واستغناؤه عن موجد فحمل هو هذا اللفظ ما لا دليل عليه مثل عدم الصفات وأشياء غير هذه
وهذا اشتقه من كلام المعتزلة في القديم فلما أثبتوا قديما وأخذوا يجعلون القدم مستلزما لما يدعونه من نفي الصفات جعلوا الوجود الذي ادعاه كالقدم الذي ادعوه وليس في واحد منهما ما يدل على مقصود الطائفتين
وسلك طريقا ثانيا في إثبات واجب الوجود ذكرها في كتابه المسمى بالنجاة وهي مبنية على الحدوث فقال فصل في آخر في

البيان ويقول أيضا إن كل حادث فله علة مع حدوثه فلا يخلوا إما أن يكون حادثا باطلا مع الحدوث لا يبقى زمانا وإما أن يكون إنما يبطل الحدوث بلا فصل زمان وإما أن يكون بعد الحدوث باقيا والقسم الأول محال ظاهر الإحالة والقسم الثاني أيضا محال لأن الآنات لا تتالى وحدوث أعيان واحدة بعد الأخرى متباينة في العدد لا على سبيل الإتصال الموجود في مثل الحركة يوجب تتالي الآنات وقد بطل ذلك في العلم الطبيعي ومع ذلك فليس يمكن أن يقال إن كل موجود هو كذلك فإن في الموجودات موجودات باقية بأعيانها فلنفرض الكلام فيها فنقول إن كل حادث فله علة في حدوثه وعلة في ثباته ويمكن أن يكون ذاتا واحدة مثل القالب في تشكيله للماء ويمكن أن يكونا شيئين مثل الصورة الصنمية فإن محدثها الصانع ومثبتها يبوسة جوهر العنصر المتخذ منه

وملخص هذا الكلام أن الموجود الحادث قد يبقى فلا يمكن أن يقال حين حدوثه بطل فإنه جمع بين النقيضين ولا أنه يجب عدمه بعد حدوثه إلا في مثل الحركة وأما في غيرها فأن نعلم أن فيها ما هو باق وأيضا فإنه يوجب تتالي الآنات وهو مبني على مسألة إثبات الجوهر الفرد فيكون الآن جزءا لا ينقسم تلو الآن الآخر وهو يبطل ذلك
وفي الجملة فهذه المقدمة هو أن في المحدثات أمورا باقية هي حق لا ينازعه فيها أحد وما يحكي عن النظام أنه قال إن الأجسام لا تبقى إما أن يقال هو مخالفة للضرورة وإما أن يقال النزاع فيها لفظي وإما أن يقال النزاع فيها في مسألة أخرى وهو افتقار المحدث في حال بقائه إلى ما يبقيه فإنه قد قيل إن النظام إنما أراد بذلك مخالفة أصحابه المعتزلة الذين يقولون إن المحدث إنما يفتقر إلى المؤثر حين حدوثه لا حين بقائه فقال هو إن الباقي حال بقائه مفتقر إلى المؤثر وهذا الذي قاله النظام هو الذي قصده ابن سينا أيضا وهو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة وجماهير العقلاء
ولهذا قال ابن سينا بعد ذلك كلاما صحيحا قال ولا يجوز أن يكون الحادث ثابت الوجود بعد حدوثه بذاته حتى يكون إذا حدث فهو واجب أن يوجد ويثبت لا بعلة في الوجود والثبات
وذلك أنك تعلم أن كل حادث بل كل معلول فإنه

باعتبار ذاته ممكن الوجود ولكن الحق أن ذاته ممكنة في نفسها وإن كان باشتراط عدمها ممتنع الوجود وباشتراط وجودها واجب الوجود وفرق بين أن يقال وجود زيد الموجود واجب وبين أن يقال وجود زيد ما دام موجودا فإنه واجب وكذلك فرق بين أن يقال إن ثبات الحادث واجب بذاته وبين أن يقال إنه واجب بشرط ما دام موجودا فالأول كاذب والثاني صادق فإذا لم نتعرض لهذا الشرط كان ثبات الوجود غير واجب واعلم أن ما أكسبه الوجود وجوبا أكسبه العدم امتناعا ومحال أن يكون حال العدم ممكنا ثم يكون حال الوجود واجبا بل الشيء في نفسه ممكن ويعدم ويوجد وأي الشرطين اشترط عليه دوامه صار مع شرط دوامه ضروري الحكم لا ممكنا ولم يتناقض ذلك فإن الإمكان باعتبار ذاته والوجوب والإمتناع باعتبار شرط لاحق به فإذا كانت الصورة كذلك فليس للمكن في نفسه وجود واجب بغير اشتراط ألبتة بل ما دام ذاته تلك الذات لم تكن واجبة الوجود بالذات بل بالغير وبالشرط فلم يزل متعلق الوجود بالغير وكل ما احتيج

فيه إلى غير وشرط فهو محتاج فيه إلى سبب فقد بان أن ثبات الحادث ووجوده بعد الحدوث بسبب يمد وجوده فإن وجوده هو بنفسه غير واجب فليس لأحد من المنطقيين أن يعترض علينا فنقول إن الإمكان الحقيقي هو الكائن في حال العدم للشيء وإن كل ما يوجد فوجوده ضروري فإن قيل له ممكن فباشتراك الإسم فإنه يقال له إن كان الحصول يلحقه بالضروري الوجود فإن العدم أيضا يجب أن يلحقه بالضروري العدم ولا يحفظ عليه الإمكان فإنه كما أنه متى كان موجودا كان واجبا أي يكون موجودا ما دام موجودا كذلك متى كان معدوما كان واجابا أي يكون معدوما ما دام

معدوما لأن نظرنا هنا في الواجب بذاته والممكن بذاته ونظرنا في المنطق ليس كذلك
قلت هذا الذي ذكره من اعتراض أهل المنطق عليه قد اعترض عليه ابن رشد وغيره وإن كان ابن رشد متأخرا عنه
وذلك أن الممكن في كلام سلفهم الفلاسفة كأرسطو وأصحابه إنما يكون في حال العدم ولهذا يقولون إن الإمكان يفتقر إلى محل يقوم به قبل حصول الممكن ولهذا قالوا كل حادث فإنه مسبوق بإمكان العدم والإمكان وصف ثبوتي فلا بد له من مادة تقوم به
وأولئك لم يكونوا يقسمون الموجود إلى واجب وممكن وإنما هذا تقسيم ابن سينا وأتباعه بل العالم عندهم من قسم الواجب لا الممكن فلفظ الممكن يراد به هذا وهذا وابن سينا لم يرض أن يجعله من باب الإشتراط اللفظي فقط بل أخذ القدر المشترك وهو إمكان أن يوجد وأن يعدم مع قطع النظر عما هو متصف به في الحال وهو السبب الموجب لأحدهما ولا ريب أن هذا يتصف به في الحالين وأما إذا أريد بالممكن أن يوجد أي يصير موجودا في المستقبل فلا يتصف به إلا المعدوم القابل لذلك
وهذا الذي قاله يستلزم أمرين باطلين

أحدهما ما غلط فيه هو وسلفه حيث ظنوا أن في الخارج حقيقة تقبل هذا وهذا وأنها متصفة بالوجود والعدم كالذين قالوا المعدوم شيء وقد بسط هذا في موضعه وبين أن الصواب أن هذه الحقيقة المتصورة في العقل هي المحكوم عليها بانها تقبل أن تكون موجودة في الأعيان وتقبل أن لا تكون موجوده كما أن الممتنع كاجتماع النقيضين إذا قلنا إنه ممتنع فالمراد أن هذه الحقيقة المتصورة ممتنع ثبوتها في الخارج
الثاني ما خالف فيه وهو ومتبعوه سلفه حيث ظنوا أن القديم الأزلي الواجب الوجود قد يكون ممكنا بغيره يقبل العدم فإنهم جمعوا في ذلك بين كونه ممتنع العدم وكونه قابل العدم وهو إنما يقبل العدم باعتبار كون ذاته مجردة عن الموجب وهذا تقدير ممتنع فلا يقبل العدم إلا على تقدير ممتنع وما كان كذلك فقبوله للعدم ممتنع فجمعوا بين النقيضين وورد عليهم إشكالات لا جواب لهم عنها كما قد بسط في مواضع مثل الكلام على المحصل وغيره
والمقصود هنا تمام كلامه في افتقار المحدثات إلى علة دائمة ليتبين من نفس يصححونه بالمعقول ثبوت حدوث كل ما سوى الله
قال فتبين من هذا أن المعلولات مفتقرة في بيان

وجودها إلى العلة وكيف وقد قلنا إنه لا تأثير للعله في العدم السابق فإن علته عدم العلة ولا في كون هذا الوجود بعد العدم فإن هذا مستحيل أن لا يكون هكذا فإن الحادثات لا يمكن أن يكون لها وجود بالطبع إلا بعد عدم فالمتعلق بالعلة هو الوجود الممكن في ذاته لا في شيء من كونه عبد عدم أو غير ذلك فيجب أن يدوم هذا المتعلق فيجب أن تكون العلل التي لوجود الممكن في ذاته من حيث وجوده الموصوف مع المعلول
قلت هذا إشارة إلى ما قدمه قبل هذا من أن سبب الإفتقار إلى المؤثر هو الإمكان لا الحدوث وليس لنا غرض هنا في كشف ذلك فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الإفتقار إلى المؤثر ليس علة أصلا بل نفس المفتقر إلى المؤثر مفتقر إليه لذاته لا لوصف من أوصاف ذاته فكل ما سوى الله فإنه بذاته فقير إليه لا يتصور أن لا يكون فقيرا إليه وفقره إلى الله ليس لعلة أوجبت له أن يكون فقيرا بل فقره لذاته

وأما كونه محدثا وكونه ممكنا يقبل الوجود والعدم فهذا دليل على فقره ومستلزم لفقره فإن المحدث كان معدوما وما كان معدوما لم يكن موجودا بنفسه بل بغيره وكذلك ما كان يقبل الوجود والعدم فإنه ليس له من ذاته أن يكون موجودا وهذا مثل قولنا مصنوع مخلوق ونحو ذلك فإن ذلك دليل على إفتقاره وإلا ففقر الأشياء واحتياجها إلى الخالق هو لذاتها وقولنا لذاته هو بحسب ما اعتيد من الخطاب وإلا فليس لها ذات دونه توصف بفقر ولا غنى بل هو المبدع لإنياتها ولا إنية لها بدون إبداعه ولا دوام لإنياتها بدون إبداعه ولا علة لذلك أصلا كما أن وجوبه بنفسه لا علة له واستغناؤه عن غيره لا علة له
وإذا قلنا هو موجود بنفسه أو واجب بنفسه أو غني بنفسه فليس المراد أن نفسه جعلته موجودا أو جعلته واجبا أو جعلته غنيا بل نفس الوجود الواجب الغني هو نفسه لا أن هنا فاعلا ومفعولا وعلة معلولا وإنما يغلط في هذا من يظن أن وجوده زائد على حقيقته كأبي هاشم وطائفة من أهل الكلام ومن وافقه من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم والرازي في أحد قوليه فإنهم يجعلون الوجود الواجب معلول الذات الموصوفة كما يجعلون هم والمتفلسفة الذات الممكنة قابلة للوجود المتصفة به ويجعلون الوجود صفة للذات الموجودة
وهذا يقوله تبعا لهم طوائف من نظار أهل السنة كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير منهم كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره والمتكلم بهذا

إما أنه توسع في العبارة أو زل في الفهم وإلا فالذي عليه حذاق النظار من متكلمي أهل السنة وغيرهم أن الموجود في الخارج هو الحقيقة الموجودة في الخارج ليس هناك شيئان أحدهما وجود هو جوهر أو عرض والثاني حقيقة موجودة متصفة بهذا
ولفظ الوجود قد يعنى به المصدر إما مصدر وجد يجد وجودا أو مصدر أوجده الله او مصدر وجدته أجده وجودا
لكن ليس المراد في هذا المقام مسمى المصادر فإن إيجاد الله للخلق هو خلقه لهم وهذا عند الأكثرين هو فعل غير المخلوقين وعند كثير من النظار الخلق هو المخلوق
وأما مصدر وجدت الشيء أجده كما في قوله تعالى ووجد الله عنده سورة النور 39 فهذا فعل قائم بالواجد كالرؤية والمعاينة ونحو ذلك وليس مرادهم بقولهم هذا موجود هذا مرئي معاين وإن كان أصل اللفظ أخذ من هذا فإن ما كان ثابتا في نفسه كان بحيث يجده الواجد أي يراه ويعاينه بخلاف المعدوم المنفي فسمي ما هو بحيث يجده الواجد موجودا لكن إذا قالوا وجد فمرادهم أنه حصل وكان ولا يلحظون أن غيره وجده وإن كان لفظ الفعل مبنيا لما لم يسم فاعله فإذا كان المراد أنه كان وحصل فمعلوم أن كونه وحصوله مصدر كان يكون وحصل يحصل لكن هو إذا صار كائنا وحاصلا فالكائن الحاصل هي حقيقته الموجودة ليس هناك هذا الكائن الحاصل وجود قائم به بعد كونه غير حقيقته الموجودة

إذا تبين هذا فقولنا مفتقر لذاته لا يريد به أن هناك ذاتا غير الموجودة ثابتة في الخارج هي الموصوفة بالفقر وإنما يسوغ هذا عند من يقول المعدوم شيء وحقيقته زائده على الوجود في الخارج وإنما المقصود بذلك أن هذا الموجود المخلوق في الخارج هو فقير محتاج فنفس حقيقته التي هي الموجودة هي الفقيرة وإذا قدر أن هناك وجودا زائدا عليه أو وجوده الذي هو مصدر فكل ذلك فقير محتاج كما أن نفسه الموجودة فقيرة محتاجة كما أن الرب غني بنفسه الموجودة وهذا المخلوق موصوف بالفقر والحاجة قبل أن يوجد وبعد أن وجد
أما قبل وجوده فالمراد بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بالخالق فلا يصير موجودا بنفسه وأما بعد الوجود فالمراد بذلك أنه ما صار موجودا ولا يدوم وجوده ولا صار له حقيقة ولا تدوم له حقيقة إلا بالخالق
وإذا قلنا لا يكون موجودا فقد أخبرنا عن شيء تصورناه قبل وجوده وهذه هي ما يتصور في الذهن منه
ولا ريب أن الذين قال المعدم شيء والذين قالوا إن ماهية الشيء زائدة على وجوده وجدوا الفرق بين ما هو ثابت في الذهن وما هو ثابت في الخارج
وهذا فرق صحيح فإن المعاني الذهنية ليست هي الحقائق

الخارجية لكن توهموا أن هذه المعاني الذهنية ثابتة في الخارج وهذا غلط وهذا مبسوط في موضعه
وإذا كان كل ما سوى الله مفتقرا إليه لذاته والحدوث والإمكان مستلزمان لفقره دالان عليه فهل يتصور إمكان بلا حدوث هذا محل نزاع فجمهور العقلاء من الأولين والآخرين أهل الملل قاطبة وأئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه يقولون إن الإمكان والحدوث متلازمان وخالف في ذلك ابن سينا وموافقوه فزعموا أن الممكن قد يكون قديما أزليا واجبا بغيره
والمقصود هنا أن ابن سينا ذكر أنه يجب أن تكون العلل التي لوجود الممكن في ذاته من حيث وجوده الموصوف مع المعلول فما دام المعلول دامت عليته كذلك ما دامت العلة دام معلولها
قال فإذ قد اتضح هذه المقدمات فلا بد من واجب الوجود وذلك أن الممكنات إذا وجدت وثبت وجودها كان لها علل لثبات الوجود ويجوز أن تكون تلك العلل علل الحدوث بعينها إن بقيت مع الحادث ويجوز أن تكون عللا أخرى ولكن مع الحادثات وتنتهي لا محالة إلى واجب الوجود إذ قد بينا أن العلل لا تذهب إلى غير نهاية ولا تدور

قال وهذا في ممكنات الوجود التي لا تفرض حادثة أولى وأظهر
قال فإن تشكك متشكك وسأل فقال إنه لما كان إنما يثبت الممكن الحادث بعلة وتلك العلة لا تخلو إما أن تكون دائما علة لثباته أو حدث كونها علة لثباته فإن كانت دائما علة لثباته وجب أن لا يكون الممكن حادثا وقد وضعناه حادثا فإن حدث كونها علة لثباته فيحتاج أيضا كونه علة لثباته والنسبة التي له إليه إلى علة أخرى لثباته بعد العلة المحدثة لهذه النسبة فإن النسبة التي بينهما قد كانت بسبب ما فيجب أن يدوم ويبقى بسبب والكلام في الأخرى كالكلام في الأولى فهذا بعينه يوجب وضع العلل الممكنة الحادثة معا بلا نهاية

قال نقول في جواب هذا إنه لولا تسبب شيء من شأن ذلك الشيء أن يكون حدوثه بلا ثبات أو ثباته على سبيل الحدوث والتجدد على الإتصال فيلزم منه انتهاء علل محدثة ومثبتة إلى علل أخرى في زمان آخر يناقض تلك أو يزيد عليها تأثيرا حادثا من غير تشايع آنات بل مع بقاء كل علة ومعلول ريثما يتألف إلى الآخر لكان هذا الإعتراض لازما
قال فأما هذا الشي فهو الحركة وخصوصا المكانية وخصوصا المستديرة
قلت من هنا يتبين المقصود فإن هذا الإعتراض لازم لا محيد عنه وما ذكره من الجواب في غاية الفساد وذلك أن صاحب الإعتراض قال ثبات الحادث لا بد له من علة دائمة كما تقدم فإن كانت تلك العلة القديمة دائمة وجب كون المحدث بها قديما معها لا حادثا فإن حدث كونها علة فذاك أيضا حادث فيلزم أن تكون علية ذلك الحادث حادثة ثانية ثم علية ثبات تلك العلة الحادثة يقتضي علة حادثة ثالثة وهلم جرا

والعلة يجب أن تكون مع المعلول فهذا يقتضي تقدير علل ممكنة حادثة معا بلا نهاية وهو ممتنع
وهذا الإعتراض مستقيم سواء قيل إن علة الحدوث هي علة الثبات أو قيل للثبات علة غير علة الحدوث وذلك أن علة الحدوث لا بد أن تكون حادثة أيضا فإنها لو كانت قديمة لزم صدور الحادث عن العلة القديمة وهذا ممتنع فإن تلك العلة إما أن تكون دائما علة لحدوثه فيلزم أن يكون المحدث غير محدث بل دائما وإما أن تكون حال كونه علة لحدوثه ثم حدوث كونها علة لحدوثه هو أمر حادث والقول فيه كالقول الأول فلا بد أن تكون له علة حادثة فهذه حوادث في آن واحد لأن علية العلة يجب أن تكون مع المعلول
وأما الجواب الذي ذكره فمقصوده به أنه لولا الحركة لكان هذا الإعتراض لازما فإن الحركة تحدث بلا ثبات أو تثبت على سبيل الحدوث والتجدد على الإتصال فلزم بها انتهاء العلل المحدثة والمثبتة إلى علل أخر في زمان آخر
ومضمون هذا أن كون الشيء علة لحدوث شيء أو لثباته وإن كان حادثا فيسبب حدوثه الحركة المتصلة والحركة المتصلة تحدث عللا أخر في زمان آخر لتلك الكليات فلا تزال العلة باقية بهذا السبب

فيقال هذا الجواب باطل من وجهين
أحدهما أن الكلام في حدوث هذه الحركة الحادثة كالكلام في حدوث غيرها سواء كانت طبيعية أو قسرية أو إرادية لا سيما وهم يقولون هي إرادية
وقد قال بعد هذا وأما الحركة الإرادية فإن عللها أمور إرادية ثابتة واحدة كأنها كلية تنحو نحو الغرض الذي يحصل من التصور أولا فهو محفوظ بعينه ثابت وإرادة بعد إرادة بحيث يتصور بعد بعد بعد وأين بعد أين معين كحركة بعد حركة ويكون كل ذلك على سبيل التجدد لا على سبيل الثبات ويكون هناك شيء واحد ثابت دائما وهو الإرادة الثابتة ها هنا الكلية كما كانت الطبيعة في الطبيعة وأشياء تتجدد وهي تصورات جزئية وإرادات مختلفة كما يكون في الطبيعة اختلافات مقادير القرب والبعد ويكون جميعها على سبيل الحدوث

قال ولولا حدوث أحوال على علة باقية بعضها علة لبعض على الإتصال لما أمكن أن كون حركة فإنه لا يجوز أن يلزم عن علة ثابتة أمر غير ثابت
قال وأنت تعلم من هذا أن العقل المجرد لا يكون مبدأ جزء الحركة بل يحتاج إلى قوة أخرى من شأنها أن تتجدد فيها الإرادة وتحيل الأينات الجزئية وهذا يسمى النفس وأن العقل المجرد إذا كان مبدأ الحركة فيجب أن يكون مبدءا آمرا متمثلا او متشوقا أو شيئا مما أشبه هذا فأما مباشر للتحريك فكلا بل يجب أن يباشر التحريك بالإرادة ما من شأنه أن يتغير بوجه ما فيحدث منه إرادة بعد إرادة على الإتصال وقد أشار المعلم الأول في كلامه في النفس إلى أصل ينتفع به في هذا المعنى إذ قال إن لذلك أي العقل النظري الحكم العقلي وأما لهذا فالأفعال الجزئية

والتعقلات الجزئية أي العقل العملي وليس هذا في إرادتنا فقط بل وفي الإرادة التي تحدث عنها حركة السماء
قلت فقد بين أن العلة الثابتة لا يلزمها أمر غير ثابت وأن الحركة لا تحدث إلا بحدوث تصورات وإرادات جزئية وحينئذ فيقال الكلام في حدوث تلك التصورات الجزئية والإرادات الجزئية التي تحدث عنها الحركة كالقول في حدوث الحركة وليس فوقها عندكم إلا أمر ثابت لا يحدث والأمر الثابت لا يلزم أن يحدث عنه أمر غير ثابت ولا يلزم الثابت أمر غير ثابت وهذا يلزم منه أن لا يكون للحوادث محدث أصلا أو لا يكون تمام علة حدوثها حاصلة بل تحدث حوادث متصلة من إرادات وتصورات وليس هناك إلا أمر ثابت والثابت لا يلزم عنه أمر غير ثابت
فهذا مما يبين بطلان قولهم ومن وجه آخر هو أنه إذا كانت العلة الثابتة لا يلزم عنها أمر غير ثابت فواجب الوجود عندكم علة ثابتة فلا يلزم عنها أمر غير ثابت بل أمر ثابت وإذا كان هذا الذي يلزم عنها فلا يلزم عنه إلا ثابت فالمعقول ثابت والنفس في ذاتها ثابتة فلا يلزم عن ذلك إلا أمر ثابت والتصورات والإرادات المتعاقبة والحركة الحادثة عنها أمر غير ثابت وليس هناك علة لا علة ثابتة ولا علة غير ثابتة

وهذا تصريح بأن الحوادث تحدث بلا علة وأين تقريره من أن الحوادث بعد الحدوث لا بد لها من علة لثباتها وقد أنكر على من قال يكفيها علة الحدوث وقوله يستلزم أن لا تكون للحوادث علة لحدوثها ولا لثباتها
ومما يبين هذا انه قد ذكر عن المعلم الأول كلاما ارتضاه وهو قوله إن للعقل النظري الحكم العقلي وأما العقل العملي فله الأفعال الجزئية والتعقلات الجزئية
قال وليس هذا في إرادتنا فقط بل وفي الإرادة التي تحدث عنها حركة السماء وإذا كان كذلك فمعلوم أن أعمالنا الحادثة بإراداتنا الجزئية وتعقلاتنا الجزئية لا تحصل إلا بسبب يقتضي ذلك وإلا فمجرد العقل الكلي لا يوجب ذلك لكن هم يقولون إن سبب تغيرات تصوراتنا وإراداتنا هي سبب لحدوث الحوادث مطلقا وهو الحركة الفلكية ولم يتكلم هنا في سبب حدوث الحركة الفلكية المقتضية لتغيرنا إذ لم يكن هناك إلا شيء ثابت دائم إلا عقل كلي وإرادة ثابتة واحدة كلية فأين سبب حدوث هذه الإرادات والتعقلات المتعاقبة التي هي سبب حدوث الحوادث كلها في السموات والأرض
وأيضا فقد قال بعد ذلك فقد بان إذا أن شيئا ثباته على

سبيل الحدوث وهو الحركة وأن له علة إنما تكون علة بالفعل لتجدد بعد تجدد يعرض من حالها على الإتصال أو يكون لها ذات باقية متغيرة الأحوال ولولا أنها متغيرة الأحوال لم يحدث عنها تغير ولولا أنها دائمة باقية لم يحدث عنها اتصال التغير وعلى أنه لا بد للتغير من حامل باق سواء كان تغير المؤثر حين يؤثر أو تغير المتأثر فقد انكشفت الشبهة المسئول عنها إذ ظهر أن علل إثبات الحادثات تنتهي إلى علل أولى لها ثابتة الذوات متبدلة الأحوال تبدلا يكون سبب كل ما تجدد وتلك الذات الثابتة مع الحال المعلولة لتلك الذات بسبب أمر آخر مؤد إلى الحال الثابتة التي تصير الذات بها علة لما تجدد ثانيا

فيقال لهذا فهذا يقتضي أن العلل الأولى متبدلة الأحوال وتبدل أحوالها هو من الأمور الحادثة فلا بد من بيان سبب حدوثه وإلا فالعلل الثابتة لا يصدر عنها أمور غير ثابتة فهذا أحد الوجهين
الوجه الثاني أن يقال هب أن الحركة سببها أحوال حادثة لهذه الذات لكن العلة يجب أن تكون مع المعلول فإذا كان المعلول ثابتا وجب أن تكون علته ثابتة والحركة منقضية والأحوال التي عنها الحركة وهي التصورات الجزئية والإرادات الجزئية منقضية لا يثبت منها شيء فيجب كما كان معلولها حادثا لا قديما أن يكون أيضا زائلا بزوالها لا ثابتا
وإن قلت بإثبات علية بأمر حادث غير ذلك الأمر الاول
قيل الحادث الحركة المتوالية كما لا تكون ثابتة لا يكون علتها ولا معلولها ثابتا فكما أن الثابت لا يلزم عنه غير ثابت فغير الثابت لا يلزم عنه ثابت بل المعلول مساو للعلة في الثبات وعدم الثبات
فالقوم كما أنهم أثبتوا حوادث لا تحدث أصلا فأثبتوا ثبوت ثابتات بلا مثبت أصلا فحقيقة قولهم إنه ليس للحوادث محدث ولا للباقيات مبق وهو إنكار المبدع للممكنات وللحوادث فهذا اللازم مذهب القوم لا محيد عنه

فإن قيل هم يقولون إن تلك الأحوال لها محرك أول فهذا هم متفقون عليه كما ذكره أرسطو وأتباعه
وقد ذكره ابن سينا فقال فصل في أن المحرك الأول كيف يحرك وأنه محرك على سبيل الشوق قال والذي يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واشتياق فهو الغاية والغرض الذي إليه ينحو المتحرك هو المعشوق والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق
قال ولا بد أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا قائما بذاته ليس من شأنه أن ينال وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان
قال والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل حال تكون للشيء دائما ولم يكن هذا ممكنا للجرم السماوي

بالعدد فحفظ بالنوع والتعاقب فصارت الحركة حافظة لما يمكن من هذا الكمال ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه ويتبع ذلك من الأحوال والمستفاد من المقادير الفائقة ما يتشبه فيه بالأول من حيث هو مفيض الخيرات لا أن يكون المقصود تلك الأشياء فتكون الحركة لأجل تلك الأشياء بل أن يكون المقصود هو التشبه بالأول بقدر الإمكان في أن يكون على أكمل الأمور في نفسه وفيما يتبعه من حيث هو تشبه بالأول لا من حيث هو يصدر عنه أمور

بعده فتكون الحركة لأجل ذلك المقصود الأول والتشبه به وتعقل ذاته في كمالها الأبدي وذلك يوجب البقاء الأبدي على أكمل ما يكون لجوهر الشيء في أحواله ولوازمه
إلى أن قال فعلى هذا النحو يحرك المبدأ الأول جرم السماء
قال وقد اتضح لك من هذه الجملة أيضا أن المعلم الأول إذا قال إن الفلك متحرك بطبعه فماذا يعني أو قال إنه متحرك بالنفس فماذا يعني أو قال إنه متحرك بقوة غير متناهية يحرك كما يحرك المعشوق فماذا يعني وأنه ليس في أقواله تناقض ولا اختلاف
قلت فهذا الذي قالوه يقتضي أن الأول إنما يحرك الأفلاك الحركة الإرادية الشوقية كما يحرك المعشوق لعاشقه تحريك المتشبه به لا لأنه محبوب معبود لذاته ومعلوم أن هذا غايته أنه تحريك من جهة كونه محبوبا مرادا لا من جهة كونه فاعلا ومبدعا وهذا كتحريك الطعام للآكل

والشراب للشارب وكتحريك حسن المرأة لزوجها حتى يجامعها وتحريك الروائح الطيبة للشام حتى يشمها وتحريك كل شائق مطلوب مراد لمن طلبه وأراده واشتاق إليه وكل محبوب لمن أحبه
ومعلوم أن المطلوب المحبوب المراد ليس هو الفاعل المحدث لنفس القوة التي بها يشتهي ولا لنفس الشهوة ولكن وجوده سبب في أن هذا المريد أراد ذلك وفعله وهو سبب غائي لا سبب فاعلي والسبب الغائي هو سابق في التصور والقصد من غير أن يكون له وجود في الخارج وفي الحقيقة فإنما يحرك المحب العاشق الطالب ما في نفسه من تصور المطلوب وقصده ولهذا يكون قبل وجود المطلوب في الخارج بل إذا كانت ذات المحبوب تراد لفعل يتعلق بها كأكل الطعام وشرب الشراب والمتعة بالمرأة نظرا ومباشرة وجماعا ونحو ذلك فالمطلوب بهذه الأفعال هي العلة الغائية فكيف إذا كان المطلوب هو التشبه بالمحبوب لا فعل يتعلق به فليس هو هنا فاعلا شيئا من التصورات والإرادات الحادثة في نفس المحب ولا لشي من أفعاله التي يتشبه فيها بالمحب فقد تبين أن الذي قالوه لو كان صحيحا لم يكن فيه إثبات فاعل لشيء من الحوادث لا العلوية ولا السفلية بل ولا إثبات مبدع لشيء من الممكنات
وأيضا فالمعلم الأول وأتباعه لم يثبتوا أن الفلك ممكن بذاته واجب بغيره ولا أنه معلول علة مبدعه وإنما جعلوا علة حركته وجود الأول

الذي يتشبه به وإنما تكلم في الوجود والواجب والممكن وما يتبع ذلك ابن سينا الذي اشتق ذلك من كلام المتكلمين من المسلمين
وحينئذ فيقال لهؤلاء هذا الفلك الذي يتحرك هذه الحركة الشوقية إما أن يكون ممكنا بذاته مفتقرا إلى مبدع يبدعه وإما أن يكون واجبا بذاته فإن كان الأول لزم أن يكون مبدعه يحركه وإن من أبدع ذاته فهو على إبداع حركاته أقدر وحينئذ فليس لكم أن تتكلفوا طريقا في إبداع حركاته فإن حركاته إذا كانت إرادية جاز أن يكون المحرك له ملائكة يحركونه بإرادات فيهم وجاز أن تكون تلك الإرادات عبادات لله لا لأجل التشبه بالله ولا طلب ما لا يدرك فإن كلامهم في مقصود الفلك بحركته يشبه كلام الصبيان إذ كان مقصود الفلك أن يتحرك دائما حركة ليس فيها مقصود إلا إخراج أيون وأوضاع يعلم أنه لا يمكنه إخراجها بمنزلة من تدور طول الزمان حول مكان لأن الكمال أن أتحرك من الأزل إلى الأبد وأنا لا يمكنني ذلك فأدور ما يمكنني من الدوران في هذا المكان فهذا بفعل المجانين أشبه منه بفعل العقلاء

وإن كان الفلك واجبا بنفسه ليس له مبدع لزم أن يكون واجب الوجود بنفسه مفتقرا إلى علة تحركه لا سيما وقد قالوا إنه لا قوام له إلا بالمحرك الأول وما كان كذلك كان مفتقرا إلى غيره لا واجبا بنفسه فإن الواجب بنفسه لا بد أن يكون غنيا عن غيره فإذا جعلوه واجبا بنفسه مفتقرا إلى غيره فقد جمعوا بين النقيضين وإذا كان مفتقرا إلى غيره لزم أن يكون مربوبا مدبرا فيلزم النوع الأول
وأيضا فإن كان واجب الوجود لزم أن يجوز على واجب الوجود الحركة باختياره وإذا كان كذلك فقولوا هذا في الأول ولا حاجة إلى هذا
وأيضا فيلزم أن يكون الواجب الوجود جسما متحيزا تقوم به الحوادث وحينئذ فلا يمتنع أن يكون الأول كذلك
وأيضا فقد قلتم إن الثابت لا يلزم عنه أمر غير ثابت والأول ثابت وحركة الفلك غير ثابتة وإرادته وتصوراته غير ثابتة فيجب أن لا تكون لازمة عن الأول فلا يكون الأول علة بحال
ومما يبين هذا أن يقال حركة الفلك سواء كانت إرادية أو غير إرادية لا بد لها من علتين علة فاعلة وعلة غائية كسائر الحركات وأنتم لم تثبتوا لها لا علة فاعلة ولا علة غائية فإن ما ذكرتموه من الغاية يمتنع أن يكون مقصود العاقل الذي لا يزال يدور من الأزل إلى الأبد
وأيضا فيقال إذا كان الحادث لا بد له من علة حادثة فأن تكون العلة مع المعلول لا يجوز أن تتقدم عليه بدون المعلول ولا أن تتأخر عنه

بدون المعلول فلا توجد إلا معه وحركات الفلك حادثة لزم أن يكون لها علل حادثة تكون معها حادثة والفلك وما فيه معلول لغيره فلا بد لما يحدث فيه من مؤثر منفصل عنه والكلام في ذلك المؤثر كالكلام في غيره فلا بد من إثبات المؤثر الواجب الوجود بنفسه ويمتنع أن يكون تأثيره موقوفا على غيره لئلا يلزم الدور أو التسلسل فيجب أن يكون هو المحدث لهذا كله ويمتنع أن يكون محدثا للحركة اليومية في الأزل لامتناع وجودها في الأزل فكل حركة يومية فإنها لا توجد إلا مقارنة لمؤثرها التام فإذا ليس في الأزل مؤثر تام لشيء من الحركات ويمتنع وجوده في الأزل معها وبدونها فيمتنع كونه أزليا على التقديرين
أما قدمه معها فلا يكون قديما مع مجموعها ولا مع حركة يومية بعينها لامتناع كون هذا أزليا ولا مع حركة بعد حركة
أما أولا فلأن المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان ولا يعقل ذلك في شاهد ولا غائب سواء قيل إنه فاعل بمشيئته أو فاعل بغير مشيئته فكيف إذا كان فاعلا بمشيئته
فقوله الفاعل إن كان موجبا بذاته جاز أن يقارنه مفعوله خطأ مخالف لما عليه جماهير عقلاء بني آدم من الاولين والآخرين من أهل الملل والفلاسفة وإنما قال هذا شرذمة من الفلاسفة وإنما يعقل هذا في مستلزم ليس بفاعل كالذات المستلزمة للصفات وأما المفعول فلا يكون مقارنا للفاعل ألبتة كما قد بسط في موضع آخر

وأما ثانيا فلأنه إذا قدر قديما مفعولا فإن المقتضي له في الازل لا بد أن يكون مؤثرا تاما له في الأزل مستلزما له بذاته في الأزل إذ لولا ذلك لم يكن أزليا لامتناع وجود قديم إلا بنفسه أو بموجب لقدمه والمقتضي لقدمه الذي هو مؤثر تام فيه لا يجوز أن يفعل ما هو متحرك دائما لأن المعلول يجب أن يناسب العلة فيمتنع وجود ما لم يزل متحركا عما لا حركة فيه بحال لأن نسبته إلى كل جزء من الحركات واحد في جميع الأوقات فتخصيص بعض الأوقات ببعضها دون بعض مع كون الموجب على حال واحدة في جميع الأوقات ممتنع وإن جوز هذا جاز أن يصدر عنه الفعل بعد أن لم يكن صادرا عنه ولأن العالم يشتمل على أنواع مختلفة فصدورها عن واجب بسيط ممتنع سواء قيل هي حادثة بواسطة أو بغير واسطة إذ الواسطة إن كان واحدا لزم أن يصدر عنه مختلف وإن لم يكن واحدا فقد صدر عن البسيط ما هو مختلف
وقول القائل إنه أبدع الثاني بتوسط الأول لا يدفع هذا فإنه إذا قيل صدرا عنه معا لزم صدور المختلف المتعدد وإن كان أحدهما شرطا في الآخر وإن قيل بل أحدهما صدر عن الآخر لزم صدور المختلف عن البسيط ضرورة
وأيضا فالفلك الثاني مكوكب كثير الكواكب ففيه أمور كثيرة مختلفة وليس فوقه إلا ما هو بسيط عندهم يمتنع أن تصدر عنه المختلفات فكيفما قدروا ظهر ضلالهم
وإن قالوا فالرب تقوم به الحوادث كما يقوله كثير من أساطينهم

قيل فعلى هذا يكون القول بقدم العالم أبعد فإنه يمكن حدوثه على هذا التقدير
وأيضا فالذات هنا إنما تفعل بواسطة لا بقدرتها والفعل لا يكون إلا حادثا فيمتنع أن يكون مفعوله قديما فإن المفعول لا يتعدد فعله فلو كان المفعول قديما لزم أن يكون قبل فعله وهو ممتنع
فإن قيل فعلى هذا القول تكون الذات مستلزمة لما يقوم بها شيئا بعد شيء فكذلك القول في حوادث الفلك
قيل الفرق بينهما أن الذات واجبة الوجود بنفسها ما هي عليه من الصفات والأحوال لا يقف شيء من ذلك عليه فإذا قيل إنها مقتضية للثاني بشرط انقضاء الأول لم يمتنع بخلاف المعلول الممكن الذي ليس له من نفسه شيء فإنه مفتقر في نفسه وصفاته وأحواله إلى غيره وغيره هو الخالق لذلك كله فإذا قدر الخالق واحدا بسيطا لا تقوم به صفة ولا فعل امتنع أن تكون ذاته علة للأمور المتغيرة المتكثرة أعظم مما يمتنع أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إذ العلة إن لم يكن فيها تغير ولا تكثر امتنع وجود ذلك في المعلول كما أنها إذا كان فيها تغير وتكثر امتنع أن يكون المعلول واحدا بسيطا لما بين المعلول والعلة من المناسبة
ولهذا قالوا الواحد لايصدر عنه إلا واحد وهو صحيح ولكن تقديرهم الأول بسيط لا يصدر عنه فعل تقدير باطل وكذلك

تقديرهم أنه صدر عنه واحد بسيط تقدير باطل فلهذا كثر التناقض والخطأ في أقوالهم وكثر رد الناس عليهم وتجهيلهم لهم في الإلهيات ومتى سلموا ما سلمه الأساطين الأول بحدوث الصفات والأفعال فإن امتناع مقارنة شيء من المفعولات له أزلا وأبدا أظهر منه على التقدير الأول فيمتنع على التقديرين أن يكون حين اقتضائه إياه مؤثرا في حركة بعد حركة بل لما تقدم من أن المؤثر في الحركة يجب أن يقارنها لا يتقدم عليها فالمؤثر التام فيه يجب أن يقارنه فيكون قديما والمؤثر التام في حركة بعد حركة حين تأثيره فيه وقبل تأثيره فيه وبعد تأثيره أما قبله فممتنع فإن القديم ليس قبله شيء وأما بعده فممتنع لأنه حينئذ يلزم أنه حين قدمه لم تكن فيه حركة
والتقدير أنه مستلزم للحركة ولأنه يستلزم أن يكون المؤثر الأول صار مؤثرا بعد أن لم يكن بدون سبب أوجب ذلك وهذا ممتنع لأن غيره لا يؤثر فيه وأما مع تأثيره فيه فممتنع أيضا لأنه حينئذ على هذا التقدير لا يكون مؤثرا إلا في حادث بعد حادث بل يكون تأثيره في كل حادث بعد تأثيره في الحادث الآخر مع أنه على حال واحدة مع جميع الحوادث
ووجود الفلك مع جميع حوادثه فممتنع لأنه قد صارت فيه الحوادث فلو حدثت بعد أن لم تكن لافتقرت إلى محدث يحدثها وذلك يقتضي أن المحدث لها حدث أو حدث إحداثه لها في حين إحداثها

لأن المعلول لا تتقدم عليه علته والقول في حدوث إحداث الإحداث كالقول في حدوث الإحداث وهلم جرا وذلك يستلزم تسلسل علل حادثة في آن واحد ليس فيها علة واجبة وذلك ممتنع فامتنع أن تكون فيه الحوادث بعد أن لم تكن وهم يسلمون ذلك وامتنع أن لا تزال فيه لامتناع موجب لها فامتنع أن تكون علة موجبة لفلك مع حوادثه بدون حوادثه وهو المطلوب
وأيضا فيقال لابن سينا وأتباعه إنكم عدلتم عن طريقة سلفكم في إثبات العلة الأولى عن طريقة الحركة إلى طريق الوجود وقلتم نحن نبين أن وجود الواجب بنفس الوجود لا يفتقر إلى إثباته بالحركة ثم في آخر الأمر أثبتم العلة الأولى بالحركة حركة الفلك كما أثبتها قدماؤكم فإن كانت هذه الطريق صحيحة فلا تعاب ولا يعدل عنها وإن كانت باطلة فلا تسلك
وإن قيل هي صحيحة وتلك صحيحة
قيل لا يحصل المراد لا بهذه ولا هذه فإن هذه إنما تثبت علة غائية وليس فيها إثبات مبدع للعالم وطريقة الوجود إنما فيها إثبات موجود واجب لا يتعين أن يكون هو الأول الذي يحرك الفلك بل ولا فيها إثبات مغايرته للفلك بل ولا إثبات لوجوده مباينا للعالم إن لم يضموا إلى ذلك طريقة نفي الصفات بنفي ما سموه تركيبا وذلك باطل على ما قد بسط في موضعه وهو باطل أيضا وإن قدر نفي الصفات لأن ذلك

يستلزم بسيطا لا صفة له ولا فعل وذلك يمتنع أن تصدر عنه الأمور البسيطة ا 4 لمتغيرة وأيضا تمتنع مقارنة المفعول للفاعل
وإن قلتم بمجموع الأمرين يحصل المقصود
قيل ولا يحصل بمجموع الطريقين أيضا لأن الوجود الواجب الذي أثبتموه لا حقيقة له في الخارج فضلا عن أن يكون هو الأول ولا في أدلتكم الصحيحة ما يمنع أن يكون هو الأول والذي أثبته أولئك لا يقتضي أن الفلك ليس بواجب الوجود بنفسه وهذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا أنه من نفس كلامهم يتبين نقيض مطلوبهم والله أعلم
واعلم أن حقيقة قول هؤلاء القوم في أفعال السموات شر من قول القدرية في أفعال الحيوانات ومن أقوال الطبائعية في الطبيعيات مع فساد قول الطائفتين وذلك أن القدرية يقولون إن الله خالق الحيوان وخالق قدرته التي يقدر بها على الخير والشر لكنه يرجح أحدهما باختياره الذي أنشأه من غير أن يحدث ذلك أحد وهو إنما يختار هذا على هذا لحبه إياه فالأمور التي يحبها هي محركة له كما جعل هؤلاء الأول محركا للفلك وهؤلاء جعلوا حركة الفلك اختيارية وتصوراته التي أحدثها هو من غير أن يحدث ذلك أحد لكن لم يثبتوا أن الفلك وقوته من خلق

الخالق كما نفى ذلك القدرية في الحيوان وأما الطبائعية فإنهم يثبتون في الأجسام الطبيعية قوة هي مبدأ الحركة ولكن يجعلون فوقها أمرا آخر أحدثها ويثبتون حدوث الأسباب مع حدوث المسببات وهؤلاء يجعلون الحركة الفلكية متجددة دائما من غير حدوث أمر يقتضي حدوثها وقولهم شر من قول المجوس الذين قالوا بالأصلين اللذين أحدهما يحدث الخير والآخر يحدث الشر سواء قالوا إن فاعل الشر قديم أو محدث وذلك لأن المجوس جعلوا الخير الحادث من الإله القديم الفاعل للخير وهؤلاء لم يثبتوا أن الله أحدث شيئا لا خيرا ولا شرا فإنه لا موجب للحوادث عندهم إلا حركة الأفلاك والأفلاك تتحرك بما يحدثه من التصورات والإرادات من غير أن يكون الله فاعل شيء من ذلك على قولهم
وأيضا فالمجوس إما أن يجعلوا فاعل الشر قديما آخر فيكونوا قد أخرجوا بعض الحوادث عن خلق الرب وإما أن يكونوا قد جعلوه حادثا فيكونون فيه كالقدرية وقول القدرية خير من قول هؤلاء وقد علم أن كل حادث فلا بد له من محدث وأن كون الحيوان صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا لا بد له من مرجح ومحدث وإلا لو كان حاله وهو فاعل كحاله حين ليس بفاعل لزم الترجيح بلا مرجح فلا بد أن يحدث له عند الفعل ما به يصير فاعلا وذلك الحادث إن كان منه فالقول فيه كالقول في الأول وكالقول في سائر الحوادث وذلك يستلزم حدوث الحادث بلا

محدث وهو ممتنع وإن قيل بالتسلسل لزم تسلسل المؤثرات وهو ممتنع فلا بد أن ننتهي إلى الخالق
وهذا مما يسلمه الفلاسفة ويحتجون به على المعتزلة فهي حجة عليهم هنا وهو أن يقال كون الفلك متحركا لا بد له من محدث لحركته ونفس التشبه به لا يوجب إحداثا للحركة فيجب أن يكون هو المحدث لها ويمتنع أن يكون محدثا للشيء قبل حدوثه فيجب أن يكون محدثا لكل جزء جزء من الحركة عند حدوثه والفلك مستلزم للحوادث فلا بد له في كل آن من يحدث الحادث فيه ويمتنع في القدم إحداث حادث فيه فيمتنع قدمه لأن القدم لا يكون فيه حادث معين ولا جملة الحوادث بل القدم يتضمن أنه دائم بدوام موجبه فيلزم أن يكون موجبه موجبا لحوادثه شيئا بعد شيء والموجب بذاته المستلزم لمعلوله لا يوجب شيئا بعد شيء بل يكون موجبه لازما له دائما ولأن ذلك يستلزم وجود يتغير يقتضي لزوم ما يتغير بما لا يتغير وكونه مفعولا له وهو ممتنع
وأيضا فإذا كانت حركات الأفلاك اختيارية ولا موجب للحوادث إلا هي لزم أن يكون المدبر للعالم أربابا متعددة كل منها حي قادر مريد وقدماؤهم يسمونها الآلهة والأرباب وهذا ممتنع لأن الإثنين إذا اشترطا فإما أن يجب اتفاقهما أو يجوز اختلافهما فإن وجب اتفاقهما بحيث لا يجوز أن يريد أحدهما إلا ما يريد الآخر ولا يقدر أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله فقدرتهما إما أن تكون من غيرهما وإما أن تكون منهما

فإن كانت منهما لزم أن لا يكون كل واحد منهما قادرا إلا بإقدار الآخر له وذلك دور ممتنع فلا يكون واحد منهما قادرا وإن كانت قدرتهما من غيرهما فهما لا يقدران على الإرادة والفعل إلا بإقدار من فوقهما لهما وذلك يستلزم أن يكون فوق الأفلاك من يجعلها قادرة فاعلة وذلك هو ربها فثبت بذلك كون الأفلاك مربوبة وحينئذ يمتنع قدمها كما تقدم
وإن جاز اختلافهما لزم تمانعهما والتمانع يقتضي عجز كل من المتمانعين وأن فعله مشروط بتمكين الآخر له وحينئذ فالعاجز لا يحدث الحوادث بل فوقه قادر يدبره فيلزم أن لا يحدث في العالم حادث عنهما فثبت على كل تقدير أن الأفلاك ليست هي نفسها محدثة للحوادث فبطل قول من يجعلها هي المحدثة لحوادث العالم ويجعلها أربابا آلهة
وأيضا فكل من المخلوقات له وحدة تخصه كالإنسان الواحد والفرس الواحد والشجرة الواحدة ولا يجوز أن يكون المحدث له اثنين فصاعدا لا على سبيل الإستقلال ولا على سبيل التعاون
أما الأول فمتناقض ممتنع من نفسه فإن استقلال أحدهما يناقض مشاركة الآخر فضلا عن استقلاله
وأما الثاني فلأن المتشاركين في عمل الأبدان يتميز كل واحد منهما عن عمل الآخر فأما الواحد فيمتنع أن يكون بين اثنين ألا ترى أن البنائين والخياطين والحايكين والكاتبين والحارثين وحاملي الخشبة وكل متشاركين لا بد أن يتميز فعل كل واحد منهما عن فعل الآخر كما قال تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون 91

وإذا كان الواحد لا يتميز فيه فعل واحد عن فعل آخر امتنع أن يكون مشتركا بين اثنين بل كان خالقه واحدا فمن لم يجعل حدوثه إلا للأفلاك والكواكب المتحركة ونحو ذلك كان قوله باطلا
وأيضا فقولهم إن العقل الفعال أفاض صور العالم إذا استعدت
يقال لهم هذا الذي فاض عنها جوهر او عرض فإن كان عرضا كفيضان الشعاع عن الشمس والضوء عن السراج ونحو ذلك فالمحدثات الحيوان والنبات والمعدن وروح الإنسان جواهر لا أعراض وإن كان الفائض جوهرا قائما بنفسه فهذا إنما يعرف إذا انفصل من الأول شيء كالماء الفائض ونحو ذلك ولكن قد يكون سببا لحدوث شيء آخر
ومعلوم أن الأجسام تختلط ويمتزج بعضها ويستحيل من حال إلى حال وتلك الحركة عندهم من تحريك الفلك وحدوث الإمتزاج الحاصل بالإستحالة تابع لحركة الأجسام لا يتميز أحدهما عن الآخر فلا يكون فاعل هذا غير فاعل هذا حتى يقال التحريك بالأفلاك والإمتزاج من العقل الفعال بل فاعل التحريك والخلط هو فاعل المزج والإختلاط وهذا مستلزم لهذا وفعل الملزوم بدون اللازم محال
وهؤلاء يقولون الأفلاك إذا تحركت تحركت العناصر فامتزجت فتستعد لقبول الصور التي تفيض عليها من العقل الفعال وهذا كلام لا حقيقة له وذلك أنه إذا نزل الماء على التراب فصار طينا فالذي خلط هذا بهذا هو الذي جعل ذلك طينا ولا يجوز أن يكون هذا غير هذا لأنهما لا يختلطان إلا ويصيرا طينا وفعل الملزوم بدون اللازم ممتنع

فلو قيل إن فاعل الإختلاط غير جاعلهما طينا لقيل إن فاعلا فعل الملزوم بدون لازمه الذي لا يمكن وجوده بدونه وذلك ممتنع
ويوضح ذلك أنا إذا قدرنا فاعلين ليس أحدهما ملازما للآخر أمكن وجود هذا أو فعله بدون هذا وفعله فيلزم وجود الإختلاط بدون الطين أو الطين بدون الإختلاط وذلك ممتنع وإن جعلا متلازمين امتنع كون كل منهما واجب الوجود بنفسه واستغناؤه عن غيره ولزم افتقار كل منهما إلى غيره وأن لا يوجد إلا بوجود ذلك الغير وحينئذ فيجب أن يكون لهما فاعل مباين لهما وإلا لزم الدور الممتنع وهو الدور في المؤثرات وهو الدور القبلي لأنه يلزم كون هذا مؤثرا في وجود هذا فلا يوجد إلا به وهذا مؤثر في وجود هذا فلا يوجد إلا به
وأما الدور المعي الإقتراني فذاك إنما يكون في الآثار كالأبوة مع البنوة وكلاهما أمر الإيلاد وأما المؤثرات وشروط التأثير فيمتنع أن يكون الشيئان كل منهما مؤثرا في الآخر أو شرطا في تأثير الآخر فإذا كان شيئان واجبان بأنفسهما كل منهما له تأثير في وجود الآخر بحيث يكون شرطا في وجوده لزم أن لا يوجد واحد منهما حتى يوجد شرط وجوده والتقدير أنه ليس هناك غيرهما ليكون هو الموجد لشرط الوجود بل هذا هو شرط وجود هذا وهذا شرط وجود هذا فلا يوجد واحد منهما وهذا مما يبين أن ليس في العالم ما هو واجب الوجود بنفسه بل الواجب هو واحد مباين للعالم
يوضح هذا أن وجود كل منهما مفتقر إلى إيجاد الآخر فإن هذا من باب الدور القبلي لأن الموجد قبل الإيجاد لم يكن من باب الدور المعي والدور المعي لا يكون إلا في مفعولين أو في الأمور المتلازمة التي لا تفتقر إلى فاعل لصفات الباري تعالى

وأيضا فإن قوله بنفي الصفات في غاية الفساد واعتبر ذلك بقول فاضلهم ابن سينا فإن ما في كلامه من المستقيم أخذه من المسلمين وما فيه من ضلال فمن أصحابه أو منه وربما قرنه بما يأخذه من كلام المعتزلة وقولهم أيضا بنفي الصفات باطل فإنه أثبت علمه للأشياء بأنه مبدأ فيعقل نفسه ولوازم نفسه إذ العلم بالملزوم يستلزم العلم باللازم
وهذه الطريقة إذا بينت على وجهها فهي مأخذوة من قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير سورة الملك 14 ليس من كلام أئمته ولا عند أرسطو من ذلك خبر بل أرسطو نفي علمه بالأشياء مطلقا وأما كلامه في نفي الصفات فإنه قال في النجاة فصل في تحقيق وحدانية الأول بأن علمه لا يخالف قدرته وإرادته وحياته في المفهوم بل ذلك كله واحد لا يتجزأ لأجل هذه الصفات ذات الواحد المحقق فالأول يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل أنه كيف يكون بذلك النظام لا يعقله وهو مستفيض كائن موجود وكل معلوم الكون وجهة الكون عن مبدئه عنده مبدؤه وهو خير غير مناف وهو تابع الخيرية ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتهما فذلك الشيء مراد لكن ليس مراد الأول على نحو مرادنا حتى يكون له فيما يكون

عنه عرض بل هو لذاته مريد هذا النحو من الإرادة العقلية المختصة وحياته هذا بعينه فإن الحياة التي عندنا تكمل بإدراك فعل هذا التحريك ينبعثان عن قوتين مختلفتين وقد قدم أن نفس مدركه وهو ما يعقله عن الكل هو سبب الكل وهو بعينه مبدأ فعله وذلك إيجاد الكل فمعنى الحياة منه وأخذه منه هو إدراك وسبيل إلى الإيجاد فالحياة منه ليس مما يفتقر إلى قوتين مختلفتين ولا الحياة منه غير العلم
قال وكذلك القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ للكل لا مأخوذا عن الكل
فيقال هذا الكلام من أفسد ما يعقل العقلاء بطلانه وإن كان هذا التلخيص الذي لخصه ابن سينا لم يصل إليه أحد من سلفه الفلاسفة بل هم أجهل من أن يصلوا إلى هذا
وذلك أن يقال أولا ذاته هي نفس أن يعقل النظام أم لا فإن قيل هو هي لزم أن تكون ذاته هي نفس العلم الذي هو مصدر وصفة ومعنى قائم بغيره والعلم مع العالم هو صفة مع الموصوف كالعرض مع الجوهر ومن

المعلوم أن ذاته قائمة بنفسها وإثبات عقل لها ليس هو إياها
وأيضا فذاته هي نظام الخير أم لا والأول ممتنع لأن ذاته ليست هي النظام الموجود في الممكنات ولأنه قد فرق بين ذاته وبين النظام فهذا معلوم وذاته عالمة فقد ثبت بهذا أن العالم ليس هو العلم ولا المعلوم وهذا يبطل قولهم
وأيضا فهذا النظام الموجود في الكل هو واجب بنفسه أو ممكن فالأول يوجب أن يكون الممكن هو الواجب والمبدع هوالمبدع وأما الثاني فإذا كان النظام ممكنا فالموجب له ذاته أم علمه به أم مجموعهما فإن كان الأول فلا حاجة إلى علمه بالنظام فتبقى ذات مجردة عن العلم وإن كان الثاني فذاته موجبة للعلم والعلم موجب للنظام فهذا ذات وعلم وهذا ينقض قوله وكذلك إذا قال المجموع
وأيضا فنفس العلم بنفس النظام من أين صار وحده مقتضيا للنظام ومجرد العلم لا يوجب المعلوم في صورة من الصور لا في العلم النظري ولا العملي أما النظري فظاهر وأما العملي فالعلم شرط في العمل لا أنه موجب للعمل بنفسه وإلا لكان كل من تصور شيئا مما يراد يصير موجودا بنفس تصوره
وإذا قيل إن العلم ينقسم إلى فعل وانفعال فالعلم الفعلي غايته أن يكون شرطا في الفعل لا أنه موجب للفعل فكون العلم وحده هو الموجب للنظام قضية لم يذكر عليها دليلا بل ادعاها دعوى مجردة وإذا تصورت علم أنها فاسدة بالضرورة

وأيضا فعلمه بالنظام الذي أبدعه تابع للنظام إذ لو فرض أن المبدع غير ذلك النظام كان العلم أيضا متعلقا به فيجب أن يكون سبب إبداع النظام غير العلم
وأيضا فالعلم من شأنه أن يطابق المعلوم أي معلوم كان فلا فرق بالنسبة إلى العلم بين نظام ونظام إن لم يكن هناك سبب يقتضي تخصيص ذلك النظام دون غيره
وأيضا فيقال كون ذلك النظام هو النظام الأصلح أمر وجب له بنفسه أم استفاده من مبدعه والأول ممتنع فتعين الثاني وإذا كان إنما استفاده من مبدعه فالموجب له ذات المبدع لا علمه بما في النظام من المصلحة إذ علمه بأن هذا نظام الخير لا يكون علما حتى يكون المعلوم نظام الخير فلا يكون العلم هو الذي جعله نظام الخير وهو في نفسه لم يكن نظام الخير بذاته لأنه يلزم أن يكون واجب الوجود فيلزم أن يكون إنما صار نظام الخير بمبدعه لا بذاته ولا بمجرد العلم وحينئذ فإذا لم يمكن صار نظام الخير بالعلم امتنع أن يصير موجودا بالعلم بطريق الأولى
وأيضا فإذا قدر الذات عالمة بنظام الخير وهي لا تريده امتنع أن تفعله وإذا قدر أنها إرادته ولم تقدر عليه امتنع أن تفعله ومجرد العلم لا يجعل العالم قادرا ولا مريدا فتعين أنه لا بد من القدرة ومن الإرادة وليس واحدة منهما هي العلم
وأيضا فافتقار الفعل إلى كون الفاعل قادرا أعظم من افتقاره إلى

كونه عالما ولهذا يثبتون الأفعال الطبيعية بقوى في الأجسام من غير علم فلو قالوا إنه يفعل بقدرة تغني عن العلم لكان خيرا من قولهم يفعل بعلم يغني عن القدرة مع أن كلاهما باطل وهذا المكان يضيق عن استيفاء بيان فساد كلامهم فإنه كلما ازداد اللبيب له تصورا وتفهما ازداد علما بفساده وتناقضه وبأن القوم من أجهل الناس بالله تعالى
ولهذا أطبق العقلاء على اضطرابهم في العلم الإلهي حتى ابن سبعين وأمثاله يصرحون بذلك فهذا حال هؤلاء الفلاسفة وصار الذين عارضوهم بالكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة الذين يقولون بأن الرب كان معطلا عن الفعل والكلام أو عن الكلام ثم أحدث الكلام عمدتهم في السمع قوله كان الله ولا شيء 4 معه ليس معهم آية ولا حديث
ثم إن هذا الحديث يحتج به نفاة الصفات على أن القرآن مخلوق وأن الله لا علم له ولا قدرة لقوله كان الله ولا شيء معه ثم زاد فيه كثير من المتأخرين وهو الآن على ما عليه كان ومنهم من يظن أن هذا من كلام النبي صلى الله عليه و سلم مع أن هذا لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه و سلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ويحتج طائفة بهذا على أن الله تعالى لم يستو علىالعرش وأنه ليس فوق العالم بقولهم وهو الآن على ما عليه كان مع أن الناس متفقون على تجرد النسب والإضافات وأنه تعالى بعد أن خلق السموات والأرض تجدد له نسب وإضافات كالمعية والعلو وغير ذلك

وجاءت الإتحادية القائلون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق يقولون وهو الآن على ما علهي كان ليس معه غيره فهذه الموجودات ليست أغيارا له ولا تعدد في الوجود ولا ثنوية ويلقنون شيوخهم العباد المشهورين أن يقولوا الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله ويقولون نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ونحو ذلك من المقالات التي هي أعظم الكفر والإلحاد وهي عند ذاك الشيخ المعظم تحقيق التوحيد ويكتب مضمونه في ورقة ويبعثها إلى المشهورين بالعلم والذين يرقون بها المرضى
وقد تقدم أن هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه في غير موضع فرواه في أول الكتاب في كتاب العلم ولفظه كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض ولفظه في موضع آخر ولم يكن شيء غيره وفي موضع ثالث ولم يكن شيء معه والحديث واحد وذكر في مجلس واحد فالظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل إلا احد الألفاظ الثلاثة والآخران رويا بالمعنى واللفظ الثابت عنه بلا ريب هو الذي جاء في حديث آخر ولا شيء قبله وإذا قيل ولا شيء معه ولا غيره مع كونه أخبر عن حال كون عرشه على الماء فمراده أنه لا شيء معه من هذا الأمر المسئول عنه وهم سألوه عن أول الأمر وسياق الحديث يدل على أنه

أخبرهم بأول هذا العالم الذي خلق في ستة أيام لم يخبرهم بما قبل ذلك كما أن الله في القرآن إنما أخبر بذلك فالذي جاءت به السنة مطابق لما في القرآن في المستقبل أخبر تعالى بالقيامة والحسنات والجنة والنار ولم يخبر بأن العالم يعدم ويفنى بحيث لا يبقى شيء بل أخبر باستحالة العالم
قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار سورة إبراهيم 48 وقال تعالى فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان سورة الرحمن 37 وقال تعالى يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن سورة المعارج 8 : 9 وقال تعالى إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا 2 فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة سورة الواقعة 4 7 وقال تعالى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش سورة القارعة 4 5 وقال تعالى إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت سورة التكوير 1 6 وقال تعالى إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت سورة الإنفطار 1 4 وقال إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت سورة الإنشقاق 1 4 وأمثال هذه النصوص التي تبين الإستحالة والتغير على السموات والأرض والجبال وأنها تستحيل أنواعا من الإستحالة لتعدد الأوقات

وكذلك أخبر بإحياء الموتى وقيامهم من قبورهم في غير موضع وقرر سبحانه معاد الأبدان بأنواع من التقرير فتارة يخبر بوقوع إحياء الموتى كما أخبر بذلك في سورة البقرة في عدة مواضع في قوله وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون سورة البقرة 55 إلى قوله ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون سورة البقرة 55 56 وقوله فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون سورة البقرة 73 وقوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم سورة البقرة 243 وقوله أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال انى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام سورة البقرة 259 وقوله وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير الآية سورة البقرة 260 وذكر إحياء المسيح الموتى وذكر قصة أصحاب الكهف ونومهم ثلثمائة سنة وتسع سنين والنوم أخو الموت فهذه سبع مواضع
ومنها إحياء الحيوان البهيم وإبقاء الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير وذكر سبحانه إمكان ذلك بخلق الحيوان وهو الخلق الأول وبخلق النبات وهو نظيره وبخلق السموات والأرض وأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم فالأول بيان للوقوع وهذا بيان للإمكان

وهؤلاء المتفلسفة المنكرون لمعاد الأبدان ولحدوث الأفلاك عامتهم يقولون إن المعجزات والكرامات قوى نفسانية إما قوة الإدراك والعلم وإما قوة الحركة والعمل فالإدراك هو قوة النفس التي ينال بها العلم فيجعلون ما أخبرت به الرسل وأمرت به كله استفادوه بهذه القوة من غير أن يكون هناك ملائكة هم أحياء ناطقون نزلوا عليهم بوحي ومن غير أن يكون لله كلام تكلم به خارجا عن أنفسهم ومن غير أن يكون هناك رب خلق العالم بقدرته ومشيئته يقدر على تغيير العلويات وتبديل الأرض والسموات
وكل من فهم حقيقة قولهم وحقيقة ما جاءت به الرسل علم مناقضتهم لهم كما قيل لبعض شيوخنا الفضلاء الذين كانوا يعرفون ذلك ما بين الفلاسفة والأنبياء فقال السيف الأحمر
بل حقيقة أمرهم أنهم لايؤمنون لا بالله ولا كتبه ولا ملائكته ولا رسله ولا بالبعث بعد الموت فهم أسوأ حالا من اليهود والنصارى
والمقصود هنا أن ابن سينا وهؤلاء بنوا أصل دينهم على أن الوجود لا بد له من واجب وأن الواجب يشترط أن يكون واحدا ويعنون بالواحد ما لا صفة له ولا قدر ولا يقوم به فعل لئلا يثبتوا له صفة كالعلم والقدرة فيكون في الوجود واجبان وهذا ضاهوا به المعتزلة حيث قالوا أخص صفات الرب أن يكون قديما فلا تكون له صفة قديمة لئلا يكون في الوجود قديمان وهي عبارة موهمة فيظن الظان أن أهل الإثبات للأسماء والصفات أثبتوا إلهين قديمين وهم إنما أثبتوا إلها واحدا لا إله إلا هو وهو

موصوف بصفاته التي يستحقها وهو سبحانه قديم بصفاته القديمة والصفة القديمة لا يجب أن تكون مثل الموصوف القديم ولا تكون إلها كما أن صفة الإنسان المحدث لا يجب أن تكون مثل الموصوف المحدث ولا تكون إنسانا وكذلك صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا
وكذلك إذا قيل من أثبت الصفات فقد أثبت واجبين وتعدد الواجب ممتنع كان موهما أن المثبتن أثبتوا إلهين واجبين بذاتهما وإنما أثبتوا إلها واحدا واجبا بنفسه له صفات لازمة له واجبة بوجوبه لا يقبل العدم والتعدد الممتنع في الواجب إنما هو تعدد الإله كما أن التعدد الممتنع في القديم إنما هو تعدد الإله القائم بنفسه لأن ذلك هو تعدده
والمسلمون يقولون كما قال الله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم سورة البقرة 163 والتوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له وهو متضمن لشيئين أحدهما القول العملي وهو إثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن النقائص وتنزيهه عن أن يماثله احد في شيء من صفاته فلا يوصف بنقص بحال ولا يماثله أحد في شيء من الكمال كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فالصمدية تثبت له الكمال والاحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع
والتوحيد العملي الإرادي أن لا يعبد إلا إياه فلا يدعو إلا إياه

ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف إلا إياه ولا يرجو إلا إياه ويكون الدين كله لله قال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين سورة الكافرون
وهذا التوحيد يتضمن أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا شريك له في الملك فجاءت الجهمية ومن شاركهم في النفي فأدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهو في الحقيقة تعطيل مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول وأخذ ذلك هؤلاء الملاحدة فزادوا في النفي
وكانت الجهمية تقول الواحد هو الذي لا ينقسم وهذا لفظ مجمل فإن الله تعالى منزه عن قبول التفريق والتبعيض ولكن مقصودهم بذلك نفى الصفات كما يقولون الواحد الذي لا تركيب فيه ومعلوم أن التركيب الذي هو التركيب المعقول منتفي عن الله فإن التركيب المعقول هو أن يكون اثنان مفترقين فيركبهما غيرهما ثم إن تركبا بأنفسهما كان تركبا لا تركيبا لكن هو أعظم امتناعا في حق الله وكل ما يعقل الناس أنه مركب فهو هذا وهو يمتنع في حق الباري بضرورة العقل واتفاق العقلاء
وما يقولونه من تركيب الجسم من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهو منتف عند جمهور العقلاء في الأجسام المخلوقة فكيف لا يكون منتفيا عن الباري تعالى وما يقولونه من تركيب الأعيان من وجود وماهية هو أيضا منتف عند جمهور العقلاء عن المخلوقات فانتفاؤه عن الخالق أولى

وما يقولونه أيضا من تركيب الأنواع من الصفات الذاتية الداخلة فهي في ماهيتها المقومة لها المشتركة المميزة هو منتف أيضا عند جمهور العقلاء عن المخلوقات فكيف يكون الخالق
وأما اتصاف الرب تعالى بصفات كماله فهذا ليس تركيبا في المخلوقات والواحد منها إذا قيل إنه موجود حي عليم قدير لم يكن في هذا تركيب يعقل أنه تركيب كما يعقل تركيب الكل من أجزائه وإذا سموا هذا تركيبا اصطلاحا لهم أوتوهموه تركيبا ظنا منهم لم يكن لفظهم ووهمهم موجبا لأن ينفي عن الرب ما يستحقه من صفات كماله ويوجب أن يثبت وجودا مطلقا لا حقيقة له إلا في الأذهان وأي موجود قدر في الأذهان كان أكمل منه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
والمقصود هنا أن هؤلاء القائلين بقدم العالم وإن أقروا بمبدع العالم فقولهم بالحجة التي يثبتون عليها إثبات مبدع العالم حجة ضعيفة بل قولهم مستلزم لنفي الصانع وهذا كان المشهور عند أكثر أهل الكلام عن القائلين بقدم العالم أنهم ينكرون الصانع وأكثر كتب المتكلمين ليس فيها نقل عن القائلين بقدم العالم إلا إنكار الصانع ولكن الذين نقلوا كلام ابن سينا وأمثاله هم الذين صاروا يحكون عنهم قولين أحدهما إنكار الصانع والآخر القول بوجوب العالم عن علة موجبة له ولبسوا بهذا على بعض الناس لكن القول بنفي الصانع أعظم فسادا في العقول والأديان من قولهم

وقد بسطنا الكلام على طرق الناس في إثبات الصانع في غير هذا الموضع وبينا كثرة الطرق في ذلك وأن القرآن جاء بأكمل الطرق في ذلك وتكلمنا على قول من قال إن الإقرار بالصانع فطري ضروري ومن قال إنه نظري استدلالي ومن قال إنه تارة يكون فطريا ضروريا وتارة يكون نظريا استدلاليا وذكرنا ما يذكر في ذلك من المقدمات التي لا يحتاج إليها في أصل الإستدلال وإنما يحتاج إليها من عرضت له الشبهة التي يحتاج إلى إزالتها فتكون الحاجة إلى تلك المقدمة عارضة بحسب حال بعض الناس ليست لازمة لكل من عرف الصانع أو استدل على وجوده فهي من عوارض طريق المعرفة لا من لوازم طريق المعرفة
وهذا مثل إبطال الدور والتسلسل وغير ذلك فإن الناس في هذا الباب تنوعت مسالكهم فمن الناس من سلك في العلم بإثبات الصانع طريقة يزعم أنه لا يمكن معرفته إلا بها كما يفعل ذلك كثير من أهل النظر والكلام ثم تلك الطريقة قد تكون صحيحة مع طولها واختصارها أو قد تكون باطلة وآخرون يقولون كل ما ذكره الناس من الطرق النظرية والمسالك الإستدلالية في هذا الباب فهو بدعة وضلال لا يحتاج إليه ولا ينتفع به
وتحقيق الأمر أن الأدلة المذكورة نوعان حق وباطل والحق نوعان أحدهما فيه تطويل لا يحتاج إليه كل أحد والباطل مذموم مطلقا
والتطويل الذي يذكر على سبيل الحاجة إليه مع أنه يمكن الإستغناء عنه مذموم أيضا

وأما التطويل الذي قد ينتفع به بعض الناس أو يحتاج إليه بعضهم فإذا ذكر على هذا الوجه فهو حسن وإن كان يستغني عنه بعض الناس
والنوع الثاني من الأدلة ما هو صحيح مذكور على أقرب الطرق فهذا حق لا عيب فيه وليس هذا موضع تفصيل الكلام في هذا فإن هذا أعظم من أن يكون تبعا لغيره
والمقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء القائلين بأن العالم معلول لعلة مبدعة وأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية هم شر من أكثر المشركين وعباد الأصنام ومما يبين ذلك أن هؤلاء لا يقولون إن العبادات التي شرعتها الرسل إنما غايتها إصلاح خلق الإنسان فإن حكمتهم كحكمة سائر الناس نوعان علمية وعملية والعملية هي إصلاح سياسة الخلق والمنزل والمدينة ويزعمون أن الشرائع مقصودها هو هذا وهو السياسة المدنية والمنزلية والخلقية
وقد تقدم أنا لا ننكر ما في قولهم من الحق بل ننكر عليهم ما في قولهم من الباطل وننكر عليهم زعمهم أن لا حق فيما جاءت به الرسل إلا ما ذكروه فننكر تصديقهم بكثير من الباطل وتكذيبهم بكثير من الحق ولا ريب أن فيما جاءت به الرسل إصلاح أخلاق الناس وإصلاح منازلهم في عشرة الأهل والأزواج وغير ذلك وإصلاح المدائن بالسياسة العادلة الشرعية لكن هذا كله جزء من مقاصد الرسل وهؤلاء الفلاسفة إنما قالوا هذا لأن الله عندهم لا يجيب دعاء داع ولا يحدث ثوابا لعابد مطيع وليس للنفوس بعد المفارقة عندهم ثواب منفصل عنها

ولا عقاب منفصل عنها ولا يقوم الناس من قبورهم عندهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم والعمل الصالح ثوابه عندهم ما يحصل للنفوس من الهيئة الصالحة والنعيم بعد الفراق عندهم هو نفس تنعمها بما يحصل لها من العلم مع أن في أقوالهم أنواعا من الفساد فإن كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود يتمثل فيه صورة الوجود على ما هو عليه
ثم إنهم يجعلون ذلك هو العلم بالوجود المطلق والمطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان ويقولون الفلسفة الأولى هي العلم بالوجود ولواحقه فيقسمون الوجود إلى واجب وممكن وجوهر وعرض والجوهر خمسة أنواع والعرض تسعة أنواع ونحو ذلك وهذا كله علم بأمور كلية مطلقة لا وجود لها إلا في الذهن فليس هو علما بنفس أعيان الحقائق الموجوده في الخارج وليس في شيء من هذا علم بالله ولا ملائكته ولا بأنبيائه بل ولا بسمواته وأرضه فإن العلم بهذه عندهم من العلم الطبيعي لا من علم ما بعد الطبيعة
فهم ضلوا من وجوه منها ظنهم أن النفس كمالها في مجرد العلم وأن العبادات الشرعية مقصودها تهذيب الأخلاق ورياضة النفس حتى تستعد للعلم فإن هذا باطل قطعا وذلك أن النفس لها قوتان قوة علمية وقوة عملية قوة الشعور والعلم والإحسان وقوة الحب والإرادة والطلب والعمل فالنفس ليس كمالها في أن تعلم ربها فقط بل في أن

تعرفه وتحبه وإلا فإذا قدر أن النفس تعرف الواجب وهي تبغضه وتنفر عنه وتذمه كانت شقية معذبة بل هذا الضرب من أعظم الناس شقاء وعذابا وهي حال إبليس وفرعون وكثير من الكفار فإنهم عرفوا الحق ولم يحبوه ولم يتبعوه وكانوا أشد الناس عذابا
بل حب الله تعالى هو الكمال المطلوب من معرفته وهو من تمام عبادته فإن العبادة متضمنة لكمال الحب مع كمال الذل وهذا حقيقة دين إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء الذي قال الله تعالى فيه إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين سورة النحل 120 والأمة هو الذي يؤتم به كما أن القدوة هو الذي يقتدى به كما قال في الآية الأخرى وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما سورة البقرة 124 وإبراهيم الخليل هو الذي عادى هؤلاء كالنمرود وغيره
فنفس عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه هو من أعظم كمال النفس وسعادتها لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي عن حب وعبادة وتأله وقول هؤلاء من جنس قول جهم وأتباعه الذين يجعلون الإيمان مجرد علم النفس أو تصديقها ولا يجعلون حبها وغير ذلك من أعمالها من الإيمان وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير موضع
وهؤلاء المتفلسفة جمعوا الشر كله فقول جهم بن صفوان الذي عظم السلف الإنكار عليه جزء من قولهم بل المشركون الذين جعلوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله خير من هؤلاء الفلاسفة فإن أولئك أثبتوا محبة الله فجعلوها من كمال الإنسان لكن ضلوا حيث أحبوا مع الله غيره

فكانوا مشركين وهؤلاء معطلون لم يثبتوا محبة له لا خالصة له ولا مشتركة مع غيره ولهذا لا يعبدونه بقلوبهم إذ العبادات عندهم إنما مقصودها إعداد النفس لمجرد العلم الذي يزعمون أنه الغاية عندهم
وكذلك الجهمية لا تجد في قلوبهم من محبة الله وعبادته ما في قلوب عباده المؤمنين بل غاية عابدهم أن يعتقد أن العباد من جنس الفعلة الذين يعملون بالكراء فمنتهى مقصوده هو الكراء الذي يعطاه وهو فارغ من محبة الله والفلاسفة تذم هؤلاء وتحتقرهم كما ذكرنا كلامهم في ذلك في غير هذا الموضع لكن هؤلاء خير منهم في الجملة فإنهم يوجبون العبادة ويلتزمونها ويعتقدون لها منفعة غير مجرد كونها سببا للعلم بخلاف الفلاسفة والمتصوفة والمتفلسفة فإن عبادتهم مقصودها الكشف والتأثير كما يذكره أبو حامد وأتباعه ومما يبين أمر هذا أنهم يقولون إن الله يلتذ ويبتهج وهذا وإن كان قد أنكره طوائف من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن اتبعهم فالسلف والأئمة وأهل السنة مقرون بما جاء به الكتاب والسنة من محبة الله وفرحه ورضاه وضحكه ونحو ذلك وما يثبتون من الحق فهو داخل في هذه المعاني لكن أهل السنة يعبرون بالعبارات الشرعية فيجمعون بين كمال المعنى واللفظ وموجب العقل والشرع
وهؤلاء المتفلسفة أخطأوا من وجه آخر حيث قالوا اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهذا غلط فإن اللذة ليست هي الإدراك ولكن الإدراك سببها فهي حاصلة عنه كحصول الصوت عن الحركة والشبع عن الاكل وذلك أن الإنسان يشتهي الطعام فيأكله فيلتذ به هنا ثلاثة أشياء شهوة وإدراك ولذة فليست اللذة هي نفس الأكل

والذوق وإنما هي أمر آخر يحصل بالاكل والذوق وهو أمر يجده الإنسان من نفسه فلا يعبر عنه بعبارة بمعنى أبين منه وكل حي يجد في نفسه اللذة والألم وهؤلاء القوم من عادتهم أنهم يجعلون المعاني المتعددة شيئا واحدا فيجعلون العلم والقدرة والإرادة شيئا واحدا بل يجعلون العلم هو العالم والقدرة هي القادر فكذلك جعلهم اللذة هي الإدراك وفي موضع آخر يجعلون الشيء الواحد أشياء متعددة كما يجعلون الحقائق الموجودة في الخارج شيئين ويجعلون صفاتها اللازمة لها ثلاثة أشياء مقومة داخلة فيها ولازمة لماهيتها
ومما يبين ذلك أن اللذة لا تكون إلا مع محبة فما لا يكون محبوبا لا يكون في إدراكه لذة وحب الشيء زائد على التصور المشروط في محبته فكذلك اللذة به زائدة على الإدراك المشروط في اللذة
وإذا تبين هذا علم أن الرب تعالى موصوف بالعلم والحب والفرح والرضا وغير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة والعبد كماله في أن يعرف الله فيحبه ثم في الآخرة يراه ويلتذ بالنظر إليه
كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة
وفي حديث عمار بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم اللهم إني أسألك

لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة رواه النسائي وغيره
والمقصود هنا أن النفس ليس كمالها في مجرد علم بالله لا يقترن به حب لله ولا عبادة له ولا غير ذلك بل لا تصلح وتكمل إن لم تحب الله وتعبده
وأيضا فلو قدر كمالها في مجرد العلم فليس هو العلم بوجود مطلق وأمور كليات تقوم بنفسه وهذه هي العقليات التي يجعلونها كمال النفس لا سيما على رأي ابن سينا وموافقيه الذين يزعمون أن الأمور المعينة الشخصية لا تدرك إلا بجسم أو قوة في جسم والنفس عندهم ليست كذلك فلا تدرك شيئا من المعينات الموجودة في الخارج وهذا مما نفوا به كون الباري تعالى يعلم المعينات الموجودة المسماه بالجزئيات فهو عندهم لا يعلم إلا أمرا مطلقا كليا وكذلك النفس ومعلوم أن الموجودات الخارجة ليست كلية فلا يكون العلم بتلك المطلقة المجردة عن التعيين علما بموجود في الخارج فليس هذا علما حقيقيا مطلوبا بالقصد الأول وإنما العلم الحقيقي المطلوب بالقصد الأول هو العلم بالموجودات الخارجة الثابتة في نفسها
وأيضا فالعلم الذي تكمل النفس به لا بد أن يتضمن العلم بالله وهم لا يعرفون الله بل إنما يعرفون وجودا مطلقا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فهم إنما جعلوا العبادات لأجل إصلاح الأخلاق بناء

على أن المقصود بالقصد الأول إنما هو تكميل النفس بهذا العلم وأن تهذيب الأخلاق ورياضة النفس تعد النفس لذلك والعبادات تعين على ذلك فإذا بين فساد الأصل الذي بنوا عليه كلامهم تبين فساده من أصله
وأيضا فقد علم بالإضطرار من النقل المتواتر والتجارب المعروفة أن الأعمال الصالحة توجب أمورا منفصلة من الخيرات في الدنيا وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك وأن الله تعالى عذب أهل الشرك والفواحش والظلم كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون بالعذاب المنفصل والمشاهد الخارج عن نفوسهم وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة في المشاهدة وهذا أمر تقر به جميع الأمم فكيف يقال إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخلق
وأيضا فقد تبين بما تقدم أن الله تعالى فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته وأنه يجيب دعاء عباده المؤمنين وأنه يخرق العادات بأمور خارجة عن القوى الطبيعية والنفسانية المعلومة وهذا مما يبين تأثير العبادات والطاعات في الخارج
ومما يبين فاسد قولهم أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا وأن الرسل لم تبين للناس حقائق الأمور بل أظهرت خلاف ما أبطنت بناء على أن الحق في نفس الأمر هو قول الفلاسفة
وهذا إذا ظهر للناس أنكرته الفطر وكذب به الناس ولم يبق عندهم إله يخشى ويعبد ولا رب يصلى له ويسجد قالوا فالرسل

ما كان يمكنهم إظهار الحق الذي هو قولنا فأظهرت للناس من التمثيلات ما ينتفعون به وكانت في الباطن تعتقد ما تعتقده الفلاسفة ولهذا يقولون إن الخواص تسقط عنهم العبادات كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية والفلاسفة وملاحدة المتصوفة وغيرهم قالوا لأن المقصود العلم والمعرفة فإذا حصل المقصود لم يبق في العبادة فائدة
ويقولون إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسر إلى خواص أصحابه ما يوافق قولهم ومن عرف حال نبينا صلى الله عليه و سلم وحال أصحابه معه علم بالإضطرار أن هؤلاء مخالفون له مناقضون مفترون عليه وأنهم من شرار المنافقين فإن النبي صلى الله عليه و سلم وخواص أصحابه كانوا من أعبد الناس لله وأعظمهم إتيانا بأداء الواجبات وترك المحرمات وكان خواص أصحابه من أعظم الناس تقريرا لما بعث به من الإخبار عن الله بأسمائه وصفاته وعن ملائكته وعن اليوم الآخر وغير ذلك من أخباره ومن أعظم الناس تقريرا لما بعث به من الأمر والنهي فكان ما يبطنونه من العلم والحال موافقا لما يظهرونه من القول والعمل ولم يكونوا يبطنون ما يناقض ظاهرهم ولا كانوا يعتقدون مذهب أهل النفي بل قول نفاة الصفات إنما حدث في الأمة بعد انقضاء عصر الصحابة وكبار التابعين وإلا فلم يكن احد يتكلم في زمن الصحابة بشيء من أقوال الجهمية نفاة الصفات فكيف بأقوال هؤلاء الملاحدة الذين نفى الصفات بعض إلحادهم
ولهذا تنازع الناس في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقة

أم لا فقالت طائفة من السلف كيوسف بن أسباط وعبدالله بن المبارك الثنتان وسبعون فرقة هم الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وأخرجوا الجهمية من أن تكون من الثنتين وسبعين فرقة وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم
وبكل حال فالجهمية حدثوا في الإسلام بعد حدوث هذه البدع الأربعة فأما الصحابة والتابعون فمتفقون على إثبات ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم من صفات الله واليوم الآخر والعبادات الشرعية واعلم أن النصارى واليهود خير من هؤلاء من وجوه متعددة فيما يتعلق بالإعتقادات والعبادات والإعتقاد يدخل عندهم في الحكمة النظرية والعبادات في الحكمة العملية
والمقصود هنا الحكمة العملية فإن اليهود والنصارى يقرون بالعبادات وبأن الله هو المستحق للعبادة ويقرون بالثواب والعقاب المنفصلين مع القيامة الكبرى ومعاد الأبدان مع معاد النفوس إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل لكن بدلوا بعض ما جاءت به الرسل ولم يتبعوا الناسخ من شرائعهم فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر بعد التبديل والنسخ للكتاب الأول وليس في أصل دين اليهود والنصارى سقوط فعل العبادات الشرعية عن أحد ولا حل المحرمات الشرعية لأحد

وهؤلاء لما ظنوا أن كمال الإنسان في أن يعرف الوجود فقط وظنوا أن ما ذكروه يحصل به معرفة الوجود ظنوا أن العارف منهم لا تجب عليه العبادات الشرعية ولا تحرم عليه المحرمات الشرعية حتى صار المثل يضرب بهم فيقول المترسل في رسائله إنهم استحلوا حرمتي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع
ولهذا صارت الملاحدة الباطنية تسلك هذا المسلك فيسقطون الواجبات الشرعية عن البالغين منهم ويبيحون لهم المحرمات الشرعية والملاحدة الباطنية من الصوفية سلكوا نوعا من هذا وإن كانوا لا يصلون إلى إلحاد ملاحدة الإسماعيلية ونحوهم من المنتسبين إلى التشيع مع اتفاق الشيعة المسلمين على أنهم كفار وهؤلاء الطوائف براء من الحنيفية ملة إبراهيم بل من أتباع المرسلين كلهم
فإن الله تعالى أرسل الرسل ليدعوا الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون سورة الأنبياء 25 وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت سورة النحل 36 وقال تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون سورة البقرة 21
وأخبر عن كل نبي أنه دعا قومه إلى ذلك فقال عن نوح ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم سورة الأعراف 59 وقال عن هود

وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدو الله ما لكم من إله غيره سورة هود 50 وكذلك سائرهم وأمثال ذلك فكمال الإنسان وصلاحه وسعادته في أن يعبد الله وحده لا شريك له وهذه ملة إبراهيم التي قال الله فيها ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه سورة البقرة 130 وقال بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 112
وهذا هو الإسلام العام الذي بعث الله به جميع الرسل وهو الذي لا يقبل من أحد دينا غيره لا من المتقدمين ولا من المتأخرين
قال تعالى عن نوح يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 71 : 72
وقال تعالى عن إبراهيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة 130 132

وقال تعالى عن موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84 وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء سورة المائدة 44
وقال تعالى في قصة بلقيس قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44
وقال تعالى عن الحواريين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون سورة المائدة 111 فهؤلاء السعداء الكاملون من نوح إلى الحواريين على الإسلام
وكذلك الإيمان قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 62
فبين اتصاف السعداء من هذه الأصناف الأربعة بالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وقد ذكر في سورة الحج ست ملل فقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد سورة الحج 17 فهنا لما ذكر فصله بينهم يوم القيامة ذكر الملل الست وهناك لما ذكر

السعداء لم يذكر إلا الملل الأربع فإن المجوس والمشركين ليس منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا بل كلهم كفار
والقرآن بين أن السعداء هم الذين اتبعوا الرسل ولا يكون الكامل إلا سعيدا وأن الأشقياء هم المخالفون للرسل فإنما يعذب الله في الآخرة من يخالف الرسل كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء 15 وقال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير سورة الملك 8 9 وأمثال هذه النصوص
وقد قال تعالى في خطابه لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين سورة ص 85 فأقسم أنه لابد أن يملأها منه ومن أتباعه فدل ذلك على أنه لا يدخلها إلا من اتبع الشيطان إذ لو دخلها غيرهم لامتلأت من هؤلاء وهؤلاء وهو خلاف النص
ولهذا لما تنازع الناس في أطفال الكفار فطائفة جزمت بأنهم كلهم في النار وطائفة جزمت بأنهم كلهم في الجنة كان الصواب الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهو قول أهل السنة أنه لا يحكم فيهم كلهم بجنة ولا بنار بل يقال فيهم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قيل يا رسول الله أفرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين

وكذلك ثبت هذا في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد جاء في آثار أخرى أنهم يمتحنون يوم القيامة وجاءت بذلك أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه و سلم فيمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا كالمجنون والشيخ الكبير الأصم الذي أدركه الإسلام وهو أصم لا يسمع ما يقال ومن مات في الفترة وأن هؤلاء يؤمرون يوم القيامة فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلا استحقوا العذاب وكان هذا تصديقا لعموم قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء 15 وبذلك استدل أبو هريرة على أن أطفال الكفار لا يعذبون حتى يمتحنوا في الآخرة

وقد قال تعالى في حق السعداء سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله سورة الحديد 21 فبين أن الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله وقال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126 فبين أن من اتبع الهدى الذي جاء من عنده وهو ما جاءت به الرسل فإنه لا يضل ولا يشقى بل يكون من المهتدين المفلحين كما قال تعالى في نعتهم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون سورة البقرة 2 4 ولهذا قال في الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
فأهل الغضب والضلال هم أهل الشقاء والضلال وهم الذين قيل فيهم إن المجرمين في ضلال وسعر سورة القمر 47 وهم ضد أهل الهدى والفلاح فأهل الهدى الذي يتضمن العلم والسعادة هم المتبعون للكتاب المنزل فمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض كاليهود والنصارى لم يكن من هؤلاء فكيف بمن لم يؤمن بالكتاب بل هو ممن

قيل فيه ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون سورة غافر 69 72 إلى قوله في آخر السورة فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون سورة غافر 83 ولهذا قال بعض أهل العلم إن هذه الآية تتناول الفلاسفة
وحقيقة الأمر أن المتفلسفة نوعان نوع معرضون عما جاءت به الرسل بعد بلوغ ذلك لهم وقيام الحجة عليهم بما جاءت به الرسل فهؤلاء كفار أشقياء بلا ريب ومن كان منهم مؤمنا بما جاءت به الرسل ظاهرا وباطنا فهذا مؤمن حكمه حكم أهل الإيمان لكن لا يمكن مع هذا أن نعتقد ما يناقض الإيمان من أقوالهم بل نوافقهم في الأقوال التي توافق أقوال الرسل أو في أقوال لا تتعلق بالدين لا نفيا ولا إثباتا من الأمور الطبيعية والحسابية
وأما من وافقهم على أقوالهم المخالفة لما جاءت به الرسل مع تعظيمه للرسل ولنواميسهم وإيجابه لاتباعهم كالفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام فهؤلاء آمنوا ببعض ما جاء به الرسل وكفروا ببعض وهم يشبهون اليهود والنصارى من هذا الوجه لكن هؤلاء بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه و سلم خير من اليهود والنصارى واليهود والنصارى بإيمانهم بجنس ما اتفقت عليه الرسل من عبادة الله وحده والإيمان باليوم الآخر والقيامة الكبرى ومعاد الأبدان وإيجاب العبادات الشرعية وتحريم المحرمات الشرعية والتصديق

بحقيقة الملائكة وكلام الله هم خير منهم إلا من كان من اليهود والنصارى على مذهب الفلاسفة وهذا اجتمع فيه نقص الكفر من وجهين وهو أسوأ حالا من هؤلاء وهؤلاء
فالسعادة مشروطة بشرطين بالإيمان والعمل الصالح بعلم نافع وعمل صالح بكلم طيب وعمل صالح وكلاهما مشروط بأن يكون على موافقة الرسل كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير عن اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادا أو اقتصادا على منهاج الأنبياء وسننهم
وهؤلاء ظنوا أن الكمال ليس إلا في العلم وأن العمل إنما هو وسيلة فقط ثم خرجوا في العلم والعمل عن منهاج الأنبياء وسننهم وإذا كانت النصارى لكونهم أدخلوا في عبادتهم نوعا من الشرك والبدع خرجوا عن الحنيفية إذ كانت الحنيفية أن لا نعبد إلا الله وحده وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع والنصارى كما قال الله تعالى فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 31 وقال تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان

الله سورة الحديد 27 ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة الملك 2 قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
فإذا كانت النصارى على هذه الحال فكيف بهؤلاء الذين هم أضل منهم فإن ما عند هؤلاء من الحكمة هو جزء مما عند النصارى فإن السياسة الخلقية والمنزلية والمدنية داخلة في دين النصارى الذين ابتدعوا بعضه ولم ينزل الله به وكسر الشهوة والغضب جزء من عبادة الرهبان وكذلك الزهد في المال والرئاسة جزء من حال الراهب الناقص الكافر فكيف يكون هذا هو مقصود العبادة والزهد الذي جاءت به الشريعة
وهؤلاء رأوا أن النفس لها قوتان قوة علمية وقوة عملية والقوة العلمية نوعان قوة الحب والبغض والشهوة من الحب والغضب من البغض فبالشهوة تجلب المنفعة والغضب لدفع المضرة وصلاح الجميع بالعدل فجعلوا الحكة العملية في هذه الأربع في العلم والعدل والعفة والشجاعة أو الحلم فالعفة اعتدال قوة الشهوة والحلم أو الشجاعة اعتدال قوة الغضب
وهذا الذي ذكره جزء من العمل الذي أمرت به الرسل وما ذكروه مع هذا أمر مجمل فإن العلم له أنواع كثيرة والشهوة

والغضب يحتاج معرفة صلاحهما والعدل فيهما إلى تفصيل لا يكفي فيه هذا الإجمال وكذلك العدل فلا ريب أنه لا بد في سلوك الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين من إصلاح حال هذه القوى
لكن ما ذكروه فيه قصور وتقصير من وجوه
أحدها أن ما ذكروه كأمر مجمل لا يبين الأنواع التي تستعمل بها الشهوة والغضب والأنواع التي لا تستعمل ولا يبين مقدار ما يستعمل من هذا وهذا ومقدار ما لا يستعمل فكان بمنزلة من علم أن أخلاط البدن تنقسم إلى حار وبارد وأنه ينبغي استعمال ما يوجب اعتدال الأخلاط وهذا كلام مجمل لا يفيد حفظ الصحة ولا إزالة المرض
الثاني أنه هب أنه حصل الإعتدال في الشهوة والغضب فهذا القدر لا يوجب السعادة ولو قدر أنه انضم إليه ما يسمونه علما ولا دليل لهم على أن السعادة تحصل بهذا والرسل متفقون على أن مجرد هذا لا يوجب السعادة
الثالث أن العلم الذي تحصل به السعادة لم يعرفوا لا نوعه ولا قدره
الرابع أن العلم الذي هو أصل السعادة ورأسها هو العلم بالله وهم أبعد الطوائف عنه فلا يعرف في المقالات المشهورة في العلم الإلهي مقالة أبعد عن الحق من مقالتهم فإن مقالة اليهود والنصارى في

العلم الإلهي خير من مقالتهم ومقالات أهل البدع الداخلين في الملل حتى الجهمية والمعتزلة ونحوهم من الطوائف التي تذمها أئمة أهل الملل هي خير من مقالتهم وأعني بذلك مقالة أرسطو وأتباعه وأما ما نقل عن الأساطين قبله فقولهم أقرب إلى الحق من قوله
الخامس أن الصفة اللازمة للنفس الناطقة التي هي الحب والإرادة لم يتكلموا في كمالها ولا صلاحها فإن الشهوة والغضب متعلقان بالبدن إما لجلب منافعه وإما لدفع مضاره ولهذا يؤمر فيهما بالعدل بخلاف حب النفس لمعبودها وإلهها وبغضها لغيره وهذا هو حقيقة الحنيفية وهي حقيقة وقول لا إله إلا الله فهذا ليس لهم منه حظ أصلا ولهذا كان الشرك غالبا عليهم بل هم معطلون في العبادة شر من المشركين كما قال الله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين سورة غافر 60 وهؤلاء مستكبرون عن عبادة الله بل وعن جنس العبادة مطلقا وهم ممن يتناوله قوله تعالى إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه سورة غافر 56
وسبب ذلك أنهم لا يجعلون للنفس بعد مفارقتها حركة أصلا بل تبقى عقلا محضا عندهم والعقل في اصطلاحهم هو الروحاني العاقل الذي ليس فيه حركة أصلا ولا له إرادة وطلب ومحبة بل كل ما يمكن أن يكون له فهو له أزلا وأبدا
وهم يزعمون أن الأول الصادر عن واجب الوجود هو العقل الأول

ثم عنه العقل الثاني هو إله الفلك التاسع ثم عنه عقل ثالث الذي هو إله الفلك الثامن ثم كذلك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الذي هو إله فلك القمر وإله ما تحته وعنه يفيض ما تحت فلك القمر من العلوم والأخلاق وعنه يصدر عندهم ما يوحى إلى الأنبياء وغيرهم من العلوم والذين يريدون أن يجمعوا بين الكتب الإلهية وبين كلام هؤلاء المتفلسفة يزعمون أن ذاك هو جبريل الذي ذكرته الرسل ويقولون إنه ليس على الغيب بضنين على قراءة من قرأ بالضاد الساقطة أي هو فياض ليس ببخيل وتارة يجعلون جبريل هو ما يتشكل في نفس النبي من الصور الخيالية المناسبة للعلم الذي حصل له كما يحصل للنائم
ولهذا قال من سلك سبيلهم كابن عربي إن الولي أو خاتم الأولياء أفضل من الرسل والانبياء وإن الولاية أفضل من النبوة قالوا لأن الذي سموه خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فإن الرسول يأخذ عندهم عن الخيال الذي في نفسه وهو جبريل عندهم والخيال يأخذ عن المعقولات الصريحة والولي بزعمهم يأخذ عن تلك المعقولات ويزعمون أن الملائكة التي أخبرت بها الرسل هي هذه العقول العشرة أو الصور الخيالية التي تمثل في نفوس الناس
وأما النفوس الفلكية فلهم فيها قولان أحدهما أنها أعراض قائمة بالفلك كالقوة الشهوية والغضبية وهذا قول أكثر أتباع أرسطو

والثاني أنها جواهر قائمة بأنفسها كالنفس الناطقة وإليه يميل ابن سينا وغيره وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن النفس الناطقة تتبقى عندهم بعد مفارقة البدن عقلا ليس فيها طلب وإرادة ومحبة لعلم أصلا وهذا هو الكمال عندهم ولهذا لما ذكر أبو البركات مذهبهم بين هذا كما قال الفصل الثاني في ذكر رأي أرسطو وشيعته في بدء الخلق قال من يعتبر كلامه أن الله الذي بدأ منه الخلق واحد من كل وجه لا كثرة فيه بوجه والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فأول خلق من الموجودات موجود واحد هو أقرب الموجودات إليه وأشبهها به قال وأسميه عقلا ويكون معنى العقل عنده معروفا من معنى النفس الإنسانية من جهة كونه جوهرا روحانيا لا جسمانيا كالنفس لكن للنفس علاقة بالبدن كنفس الإنسان الشخصية ونفس الفلك ونفس الكوكب المحركة له على أنها تباشر التحريك والعقل بريء من الأجسام وعلائقها وتكون النفس كالقوة من جهة تحريك الأجسام وتبديل حالاتها فتشعر بمتجدداتها في

الأين والكيف وغير ذلك مما يتجدد للمتحركات بالحركات والعقل بالفعل فيما يعرفه ويعلمه لا يتجدد له علم ومعرفة بشيء لم يكن يعرفه ويعلمه فهذا بالفعل أبدا فيما يعقله على حال واحدة والنفس على حالات مختلفة من جهة ما تعرفه وتبتديه من الأجسام وفيها بحركاتها وتحريكاتها لها فالنفس عقل بالقوة والعقل عقل بالفعل والعقل يعقل جيمع المعقولات والنفس تعقل بعضها فإن تجردت النفس عن الأجسام وانقطعت علاقتها بها وكانت مما تعقل وممن تعقل صارت عقلا بالفعل أيضا وتكون مرتبتها بحسب نوعها في الموجودات وكسبها من المعلومات قالوا فأول العقول هو هذا الذي وجد عن العلة الأولى وكان أول ما سموا عقلا سموه من جهة النفس الإنسانية حيث قالوا إنها عقل بالقوة وتصير بالفعل وما بالقوة لا يخرج نفسه إلى الفعل وإنما يخرجه إلى الفعل شيء هو بالفعل كالنار بالفعل تجعل النفط الذي هو نار بالقوة نارا بالفعل ولا يشعل النفط نفسه فيجعل نفسه نارا بالفعل فهذا الشيء الذي هو عقل بالفعل الذي يجعل نفس الإنسان عقلا بالفعل يسمونه العقل الفعال ويقولون إنه لنفوسنا كالأستاذ والمعلم

والمبدأ الذي عنه توجد فهو مبدؤها القريب في الوجود ومعادها الأدنى من الكمال قالوا ولكل فلك نفس محركة ولكل نفس عقل مفارق تقتدي به فيما تفعله وتعقله حتى تنتهي إلى الفلك الأول فتكون نفسه أول النفوس وعقله أول العقول وهو أول موجود وجد عن المبدأ الأول ويقولون عن المبدأ الأول إنه عقل أيضا لكنه أعلى العقول مرتبة وهو بالفعل أبدا وكل عقل غيره يقتدي بغيره وقدوته هو مبدؤه القريب وهو تعالى قدوة كل مقتد ومبدأ كل مبدأ فهو المبدأ الأول والإله الأقصى ولا يتحاشون من تسميته عقلا وهذا العقل الذي يقولونه الآن منقول بالعربية من لفظة قيلت في لغة يونان وليس موقعها في تلك اللغة موقع هذه في العربية من جهة الوضع الأول على ما قلنا في علم النفس فإن في اللغة العربية يراد بالعقل الشيء الذي يمنع الخواطر والشهوات من الناس ويمنعها عن أن تمضي العزائم بحسبها فإن الإنسان يؤثر أشياء بخواطره الأولى التي تقتضي شهوته وغضبه ويرده

عنها فكره ورأيه ونظره في عواقب أمره فهذا الناظر المفكر الراد عن الخواطر الأولى هو الذي يسمونه عقلا من حيث يصد الإنسان عما هم به كما يصد الناقة عقالها عن الحركة إلى حيث تشاء فهو الذي يسمونه عقلا والعلم بهذا إنما يصح بدليل من جهة النظر حيث يقولون إنه إنما رد الخواطر بفكر صدر عن علم فهو عقل من جهة العمل لا من جهة العلم وهذا الذي يسميه اليونان هو من جهة العلم لا من جهة العمل ويصير مبدءا للعمل إلى أن قال وليس للعقل في عرفهم المعنى الإضافي وله في العربية ذلك فإن العقل عقل لشيء ومعنى العقل المقول في لغتهم لا يراد به الإضافة إلى شيء وإن كانوا يعرفونه بشيء ومن شيء ويسمونه باسم يخصه من ذاته لا من جهة إضافاته وإن أضيف فإلى فعله الخاص به كالعلم والعالم والعاقل والعالم والعقل والعلم عندهم أسماء مترادفة ويقولون أيضا إن فعل العقل الذي هو بالفعل هو ذاته فالعقل والعاقل عندهم واحد

قلت العقل في لغة العرب بتناول العلم والعمل بالعلم جميعا ومن أهل الكلام من يجعله اسما لنوع من العلم فقط فيقول هو نوع من العلوم الضرورية ومن الناس من يريد به العمل بالعلم فقط كما ذكره أبو البركات
وقد يراد بالعقل القوة التي في الإنسان وهي الغريزة التي بها يحصل له ذلك العلم والعمل به ولهذا كان في كلام السلف كأحمد والحارث المحاسبي وغيرهما اسم العقل يتناول هذه الغريزة ومن انكر الغرائز والطبائع والقوى التي في الأعيان وقال إن القادر المختار يحدث جميع الحوادث بمجرد المشيئة التي ترجح أحد المتماثلين على الآخر لا بمرجح كما يقوله أبو الحسن الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الحسن بن الزاغوني وأبي بكر بن عربي وغيرهم فإن هؤلاء لا يجعلون اسم العقل إلا لنوع من العلوم الضرورية إذ ليس عندهم طبيعة تكون بها العلوم والإرادات وليس عندهم في الموجودات أسباب تحصل بها الحوادث ولا يترجح حادث على حادث لمعنى فيه بل يقولون إن القادر المختار يفعل عند هذه الأمور لا بها بمجرد عادة فما يقول الإنسان إنه سبب ومسبب يقولون الخالق المختار قرن أحدهما بالآخر عادة لا لأن في أحدهما قوة اقتضى بها الآخر ولهذا من أثبت القياس من هؤلاء يقول إن علل الشرع مجرد أمارات وإنه إن حصل فيها مناسبة كما يحصل في المخلوقات رحمة فذلك مجرد عادة

اقتران لا لأن الخالق خلق هذا بهذا ولا لأجل هذا إذ لا سبب عندهم ولا حكمة يفعل الخالق لأجلها وليس عندهم في القرآن في أفعال الله وأحكامه لام تعليل بل لام عاقبة وهذه مسألة كبيرة قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن اسم العقل في اصطلاح جميع المسلمين بل وجميع أهل الملل وعامة بني آدم يراد به ما هو قائم بغيره سواء كان علما أو قوة أو عملا بعلم أو نحو ذلك لا يراد به ما هو جوهر قائم بنفسه إلا في اصطلاح هؤلاء الفلاسفة والنفس الكاملة بعد المفارقة تصير عقلا عندهم
ثم إن أتباع أرسطو يقولون إن العقل لا يتجدد له علم أصلا ويقولون إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد ويقولون إن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس له صفة أصلا إلى غير ذلك من الأقوال التي يخالفهم فيها غيرهم من الفلاسفة ويقول جمهور العقلاء إنها أقوال معلومة الفساد بصريح المعقول
وأبو البركات وغيره من الفلاسفة ممن يخالفهم في ذلك ويبين فساد قولهم فيه ولهذا لما حكى أبو البركات قولهم قال هذا هو الذي نقل عن شيعة أرسطو وما خالفهم فيه مخالف ولا اعترض

فيه معترض وهو بالأخبار النقلية أشبه منه بالأنظار العقلية فلنأخذ في تتبعه
قلت قوله لم يخالفهم فيه مخالف إنما قاله بحسب علمه واطلاعه أو أراد من الفلاسفة المشهورين المصنفين على طريقة أرسطو في المنطق الطبيعي والإلهي كبرقلس والأسكندر الأفرديوسي وثامسطيوس والفارابي وابن سينا وإلا فالمنقول في كتب المقالات عن الفلاسفة المتقدمين من مخالفة هذا المذهب موجود في كتب متعددة لكن أولئك ليس لهم كتب مصنفة على هذه الطريقة بل مذهب أرسطو يشبه مذهب أئمة الفقهاء في الفقه كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وإن خالفهم في كثير منها أئمة كبار مثل الأوزاعي والليث بن سعد والثوري وإسحاق بن راهويه فقد يقول القائل إنه لم يخالف أولئك مخالف أي في الكتب المعروفة المصنفة على مذاهبهم وكتب المقالات تنطق بأن أرسطو هو الذي اشتهر عنه القول بقدم العالم وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكن هذا قولهم وهذا يحكيه المعظمون لأرسطو وغير المعظمين له مع أن كلام الرجل في الإلهيات قليل جدا وفيه خطأ كثير وإنما علم الرجل الواسع هو الطبيعيات ففيها يتبجح
والمقصود أن هؤلاء القوم جعلوا النفس بعد فراقها ليس لها علم ولا حركة ولا ازدياد من علم ولا محبة لشيء يطلب حصوله وإنما تلتذ لذة دائمة متماثلة بما حصل لها من العلم كما يقولونه في المبدأ الأول وفي العقول

وظنوا أن هذا هو الكمال وكان ضلالهم في ذلك من أعظم الضلال من جهة أن الكمال ليس إلا في مجرد العلم ومن جهة أنهم لم يثبتوا لها مزيد علم ومن جهة أن ما أثبتوه من العلم لا يكفي في السعادة ومن جهة أن فيه من الجهل ما يناقض العلم فكثير من كلامهم في الإلهيات بل أكثره جهل لا علم
ولكن المقصود في هذا الوجه أنهم لم يثبتوا للنفس بعد المفارقة كمالا من جهة الحب والإرادة بل من نفس العلم فقط ثم إنهم غلطوا من وجه آخر وهم أنهم جعلوا اللذة هي مجرد العلم
ونحن نبين هذا فنقول الوجه السادس أن يقال السعادة وهي اللذة والبهجة والسرور الذي يحصل للنفس بما تعلمه من المعارف ليس هو نفس العلم بل هو أمر يحصل بشرط العلم فالعلم شرط فيه ليس موجبا له فضلا عن أن يكون هو إياه وهؤلاء غلطوا من وجهين من ظنهم أن مجرد العلم موجب لذلك والثاني أنهم جعلوا اللذة نفس الإدراك والعلم فقالوا اللذة هي إدراك الملائم من جهة كونه ملائما وهذا غلط فإن اللذة ليست هي نفس الإدراك ولكن هي حاصلة عقب الإدراك فإن الإنسان يشتهي الطعام مثلا فيذوقه فيلتذ بذلك فاللذة ليست هي الذوق ولكن هي حاصلة بالذوق
وكذلك الأنواع التي يسمونها إدراكا كالسمع والبصر والعلم واللمس ليست هي اللذة بل هي سبب اللذة فإن سمع الصوت الحسن

سبب للذة به وكذلك رؤية الشيء الحسن سببب للذة به والعلم بالشيء الملائم سبب للذة به فاللذة لا تحصل إن لم تكن بين الملتذ والملتذ به ملائمة وهي المحبة فإن لم يكن العالم والمدرك محبا لمعلومه ومدركه أو لما يحصل به لم يلتذ بسبب العلم والإدراك ولهذا قد يدرك الإنسان ما يؤذيه ويعلم ما يؤذيه كما يدرك ويعلم ما يلتذ به فتبين أن العلم والإدراك ليس هو اللذة ولا موجبا لها بل هو شرط فيها وسبب لها بمعنى أنه إذا حصل الحب للمعلوم والمدرك وحصل إدراكه ومعرفته حصلت اللذة به وإلا فلا
وهؤلاء يقولون إنه إدراك مخصوص وهو إدراك الملائم فيكون الإدراك على قولهم جنسا تحته نوعان أحدهما اللذة وإذا كان أحدهما اللذة فينبغي أن يكون الألم إدراك المنافي فيكون أحد نوعيه اللذة والآخر الألم ويكون نفس العلم والسمع والبصر والذوق تارة ألما وتارة لذة وفساد هذا معلوم بالضرورة
وينبغي أن يكون قول القائل علمت هذا ورأيته وسمعته إذا كان ملائما له بمنزلة قوله تنعمت به وفرحت به وسررت به وابتهجت به وبمنزلة قوله تأذيت به وتألمت به ونحو ذلك ومعلوم فساد هذا وهذا وهذا ونفيهم فيه نفي الصفات المتعددة كما جعلوا نفس العاقل العالم هو نفس عقله وعلمه ونفس عقله وعلمه هو نفس إرادته ونفس إرادته هو نفس قدرته وكل هذا يعلم فساده بصريح العقل
والله تعالى فطر العباد على الإقرار به ومحبته وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم

في الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء أخرجاه في الصحيحين
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يقول الله تبارك وتعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم سورة الروم 30 وهذه ملة إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا
وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125 وقوله أسلم وجهه أي أخلص قصده وعمله لله وهو محسن في عمله فيكون الله هو معبوده بالعمل الصالح ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله

لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة الملك 2 قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وأول من أنكر حقيقة محبة الله لعبده والعبد لربه في الإسلام هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبدالله القسري بواسط وقال يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه
وكان الجعد هذا أول من ظهر عنه التعطيل بإنكار صفات الله تعالى وبإنكار محبته وتكليمه كما يقول هؤلاء المتفلسفة والجهمية والباطنية ونحوهم من المعطلة والجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم فينكرون أن يكون الله يحب أو يحب حقيقة وينكرون التمتع برؤيته وينكرون أن يكون هو سبحانه موصوفا بالفرح ونحوه لزعمهم أن هذا من نوع اللذة والبهجة والله لا يوصف بذلك عندهم
وأما هؤلاء الفلاسفة فيقولون إنه يوصف بذلك لكن يتناقضون فيزعمون أن اللذيذ والملتذ واللذة شيء واحد بالعين فيجعلون الصفة هي

الموصوف ويجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويقولون إن نفس العلم هو نفس اللذة وهو نفس العالم وهو الملتذ وهذا مما يعلم بطلانه بصريح المعقول
والذين سلكوا مسلك المتفلسفة من أهل التصوف والكلام وأثبتوا لذة المعرفة بالله ولذة النظر إليه في الآخرة جعلوا ذلك هو نفس العلم بوجوده او نحو ذلك كما يذكر ذلك أبو حامد الغزالي ومن حذا حذوه وقد سلك هذا المسلك أبو نصر الفارابي وغيره من الفلاسفة فأقروا بما أخبر به الرسول من رؤية الله في الآخرة وفسروا الرؤية بهذا المعنى الذي أثبتوه على أصولهم الفاسدة
وهؤلاء الذين خلطوا الفلسفة بالكلام وإن كانوا أقرب إلى الحق المعقول والمنقول منهم فلم يثبتوا لله كل ما يستحقه من الأسماء والصفات كما نطق بذلك الكتاب والسنة ولا أثبتوا كل ما جاءت به الرسل من محبته وعبادته ولذة النظر إليه كما أثبت ذلك سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث
كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل أهل الجنة منازلهم نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم تبيض

وجوهنا وتثقل موازيننا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه وهو الزيادة
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث عمار بن ياسر وغيره أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك
وهذا يتعلق بمسألة محبة الله أي أنه محبوب في نفسه وهو محب لنفسه ولعباده المؤمنين وهي أصل هذا الباب وهي أصل ملة إبراهيم التي بعث الله بها موسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه و سلم أجمعين بل هي أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وبها تزول عامة الشبهات الواقعة في هذا الباب في مسألة فعله هل هو معلل أم لا وفي الإرادة والمحبة وفي مسألة التحسين والتقبيح وفي عامة مسائل الخلق والأمر

والمقصود هنا أن السعادة التي هي كمال البهجة والسرور واللذة ليس هي نفس العلم ولا تحصل بمجرد العلم بل العلم شرط فيها بل لا بد من العلم بالله وبأمره كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فكل من أراد الله به خيرا فلا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرا وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيرا بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح فلا بد من معرفة الرب تعالى ولا بد مع معرفته من عبادته والنعيم واللذة حاصل بذلك لا أنه هو ذلك فغلطوا من هذين الوجهين هذا لو كان ما ذكروه من العلم حقا وكان كافيا فكيف والامر بخلاف ذلك
ولهذا قال من قال من المسلمين الإيمان قول وعمل ومتابعه للسنة وهؤلاء أخرجوا العمل ولم يلتزموا شرائع الأنبياء وإنما معهم نوع من القول لا يكفي مع ما فيه من الخطاء وهم يدعون أن كمال النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود ولهذا تنازعوا في بقائها بعد الموت على ثلاثة أقوال والثلاثة للفارابي فمنهم من قال تبقى العالمة والجاهلة كما يقوله ابن سينا وأمثاله ومنهم من يقول بل تبقى العالمة فقط لأنها تبقى ببقاء معلوماتها والجاهلة ليس لها معلوم باق فلا تبقى ومنهم من يقول بل كلاهما تفسد بالموت وهو قول المعطلة المحضة منهم ومن غيرهم الذين ينكرون معاد الأبدان ومعاد الأرواح جميعا أو ينكرون معاد

الأرواح وبقاءها بعد الموت فقط مع بقاء البدن فقط كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام المحدث في الإسلام
فإن لبني آدم في المعاد أربعة أقوال أحدها القول بمعاد البدن والروح جميعا وأن الروح المفارقة للبدن التي يسمونها النفس الناطقة تكون بعد فراق البدن منعمة أو معذبة ثم إن الله يعيدها عند القيامة الكبرى إلى البدن وهذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وعليه دل الكتاب والسنة وإن كانوا لا يصفون بالنفس بالصفات التي يذكرها المتفلسفة بل يثبتون لها بعد الموت حركة وبقاء وغير ذلك مما دلت عليه النصوص النبوية والآثار السلفية
والثاني القول بمعاد البدن فقط وهذا قول كثير من أهل الكلام من الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم فبنوا ذلك على أنه ليس فينا روح تبقى بعد فارق البدن بل ظنوا أن الروح عرض يقوم بالبدن كالحياة أو جزء من أجزاء البدن كالنفس الخارج والداخل فأنكروا أن تكون الأرواح المفارقة للأبدان منعمة أو معذبة ثم من أثبت من هؤلاء عذاب القبر كالأشعرية وبعض المعتزلة قال إنه تخلق حياة في جزء من أجزاء البدن فينعم أو يعذب وإنكار بقاء النفس بعد الموت

قول مبتدع في الإسلام لم يذهب إليه أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وإن كان كثير من كتب الكلام لا يوجد فيها قول للمسلمين إلا هذا وربما حكاه بعضهم عن أكثر المسلمين وهذا لأن الذين يذكرون هذا كالرازي وأمثاله ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين بل إنما يعرفون أقوال الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعة عند سلف الأمة وأئمتها وبسبب مناظرة هؤلاء للمتفلسفة حصل شر كثير في الإسلام فإنهم يناظرون بجهل كثير بالعقليات والسمعيات
والقول الثالث قول من يقول بمعاد الأرواح التي هي النفس الناطقة فقط كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة
والرابع إنكار المعادين مطلقا كما هو قول المكذبين بالجزاء بعد الموت كما كان عليه المكذبون بذلك من مشركي العرب وغيرهم من الأمم ولهذا بين الله المعاد في كتابه بأنواع متعددة من البيان كما قد بسط في موضعه
الوجه السابع أن يقال إن النفس بعد مفارقتها إن لم يكن لها حب وطلب لم يكن لها لذة فإن وجود اللذة بدون المحبة غير معقول ولا موجود بل هو ممتنع فإذا قالوا إن النفس بعد المفارقة لا يبقى لها إلا مجرد

أن تعلم لم يكن لها لذة ولا سرور وإذا قالوا لها لذة وسرور فقد أثبتوا لها محبة فحينئذ تكون لها قوتان قوة العلم والشعور والثاني قوة الإرادة والمحبة ولا تكمل النفس إلا بالكمال في القوتين فدعواهم أن الكمال في مجرد العلم دعوى باطلة بمنزلة من قال كمال النفس في مجرد القدرة أو في مجرد الإرادة
والكمال لا يحصل إلا بالعلم والقدرة والإرادة التي أصلها المحبة وحيث كان الإنسان يلتذ بالعلم فلا بد أن تكون هناك محبة لما يلتذ به
فتارة يكون المعلوم محبوبا يلتذ بعلمه وذكره كما يلتذ المؤمنون بمعرفة الله وذكره بل ويلتذون بذكر الأنبياء والصالحين ولهذا يقال عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة بما يحصل في النفوس من الحركة إلى محبة الخير والرغبة فيه والفرح به والسرور واللذة والأمور الكلية تحب النفس معرفتها لما فيها من الإحاطة التي توصلها إلى معرفة المعينات
وتارة يكون بالعلم يدفع من الشبه ما يعارض محبوبه فقد يكون محبه شيئا وقد عرف منه أمورا عورض فيها فصار عنده ألم ومرض قلب لما عنده من الجهل بزوال تلك الشبه فإذا علم ما يزيلها وجد لذة عظيمة وإما أن يكون محتاجا إلى العلم بذلك لأنه يتوصل به إلى جلب منفعة ودفع مضره وهذا كثير مشهور وأما إن لم يكن هناك محبوب بل المعلوم بغيض فإن تصوره يؤلم النفس لا يسرها فلا يقال إن كل علم يحصل به لذة وهم يسلمون هذا ويقولون إنما اللذة إدراك الملائم لكن يتناقضون مع ذلك فيجعلون اللذة في مجرد علم بالوجود المطلق

من غير بيان فلا يفيد الإنسان فيعود كلامهم إلى أن نفس اللذة هي نفس العلم من غير تقييد بالملائمة للمعلوم ويقولون إن العين تلتذ بالنظر والأذن بالسمع والنفس تلتذ بالعقل ومعلوم أن العين لا تلتذ برؤية كل شيء ولا يلتذ السمع بسمع كل شيء كذلك النفس لا تلتذ بعقل كل شيء بلا لا بد أن يكون ذلك الشيء ملائما أو عونا على الملائم أو مانعا من المنافي ونحو ذلك
الوجه الثامن أن يقال إذا كان لها حب وإرادة كان لها عمل في تحصيل المحبوب المراد وهذا نوع من الحركة التي تناسبها فإن الحركة في اصطلاحهم ليست هي النقلة من مكان إلى مكان بل النقلة نوع من الحركة وهم يقولون حركة في الكم وحركة في الكيف وحركة في الأين وحركة في الوضع فالحركة في الكيف هو تحول الموصوف من صفة إلى صفة إما في لونه وإما في طعمه أو ريحه أو غير ذلك وكذلك النفس إذا كانت جاهلة فصارت عالمة أو كانت مبغضة فصارت محبة أو كانت متألمة فصارت ملتذة فهذا حركة في الكيف
والحركة في الكم مثل النمو الذي يحصل في أبدان الحيوان والنبات
والحركة في الوضع مثل حركة الفلك فإن حركته لا توجب خروجه من حيزه والحركة في الأين هي النقلة مثل حركة الماء والتراب والهواء والمولدات من حيز إلى حيز وإذا كان كذلك فالنفس بعد الموت لها محبة لشيء وطلب إن حصل التذت به وإلا تألمت فهي متألمة أو ملتذة لما تدركه من مناسب أو مناف وهذه حركة ومن المعلوم بالضرورة أن ما يحدث له آلام ولذات فلا بد له من نوع حركة

الوجه التاسع إنهم يقولون اللذه إدراك الملائم والألم إدراك المنافي وسواء كانت اللذة هي نفس الإدراك والشعور والمعرفة أم هي حاصلة بسبب الإدراك والشعور والمعرفة فعلى التقديرين إنما تكون اللذة في إدراك الملائم فلم يبق جنس الإدراك والعلم هو اللذة ولا موجبا للذة بل لا تكون اللذة إلا في إدراك الملائم فلا بد أن يكون المعروف المعلوم المشعور به المدرك ملائما في نفسه للعالم العارف الشاعر المدرك حتى يكون في إدراكه له لذة ومعلوم أن ما لاءم الشيء فهو محب له وما نافره فهو مبغض له فلا بد في اللذة والألم من ثلاثة أمور ملائمة ومنافرة بين المدرك والمدرك ومحبة أو بغضة من المدرك للمدرك ثم علم به وإدراك له ثم تحصل اللذة أو الألم بعد هذا وهذا مما يبين أن أكمل اللذات لذة النظر إلى الله كما دلت عليه نصوص الأنبياء
ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه وهي الزيادة
فدل على أن اللذة الحاصلة بالنظر أعظم من كل لذة كانت قبل ذلك

وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول في دعائه اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الغنى والفقر وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
وهذا كما أنه ليس في الدنيا من اللذات أعظم من لذة العلم بالله وذكره وعبادته ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة هكذا لفظ الحديث لم يقل حبب إلي ثلاث فإن المحبب إليه من الدنيا اثنان وجعلت قرة عينه في الصلاة فهي أعظم من ذينك ولم يجعلها من الدنيا وفي الحديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل وما رياض الجنة قال حلق الذكر ولهذا كان أعظم آية في القرآن آية الكرسي كما ثبت في

صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بن كعب يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم قال الله لا إله إلا هو الحي القيوم سورة البقرة 225 فضرب بيده في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر
وثبت في الصحيح من غير وجه أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن
فإن القرآن كلام والكلام إما خبر وإما إنشاء فالإنشاء هو الأمر والنهي والإباحة والخبر إما عن المخلوق وهو القصص وإما عن الخالق وقل هو الله أحد اشتملت على هذا الثلث وهو الخبر عن الخالق
الوجه العاشر إنه إذا كانت اللذة في إدراك الملائم ولا بد أن يكون المدرك ملائما للمدرك ثم بالإدراك له تحصل اللذة بطل ما يقولونه في

نهاية فلسفتهم وهو أن كمال النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود فإن ذلك إنما يكون بإدراك الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم التي يقال لها علم ما بعد الطبيعة باعتبار علم الناس وقد يقال علم بأنها باعتبار وجودها في نفسها ويسمونه العلم الإلهي
ويقولون موضوعه هو الوجود وما يلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وإلى قديم ومحدث وإلى علة ومعلول وإلى الجوهر والعرض وانقسام الجواهر إلى خمسة وهي النفس والعقل والمادة والصورة والجسم وانقسام الأعراض إلى تسعة أجناس على رأي المعلم الأول جمعها بيتان ... زيد الطويل الاسود بن مالك ... في داره بالأمس كان يتكي ... في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوا ...
فذكر الجوهر والكم والكيف والإضافة والأين ومتى وهو المكان والزمان والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل وقد مانع كثير من الناس في حصرها في تسعة حتى قال بعضهم تنحصر في ثلاثة وبعضهم قال في خمسة
والمقصود أن موضوع هذا العلم هو أمر كلي مطلق مشترك بين أنواعه فإن الوجود المنقسم إلى الواجب والممكن وإلى الجوهر والعرض وإلى القديم والمحدث ليس هو وجودا معينا موجودا في الخارج إذ القسمة قسمتان قسمة الكلي إلى أنواعه وقسمة الكل إلى أجزائه والمراد بلفظ القسمة عند الجمهور هو الثاني وبذلك جاء القرآن في مثل قوله

ونبئهم أن الماء قسمة بينهم سورة القمر 28 وقوله لكل باب منهم جزء مقسوم سورة الحجر 44 وقوله نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا سورة الزخرف 32 ومنه باب القسمة التي يذكرها الفقهاء كقسمة المواريث والغنائم والفيء من عقار ومنقول بين المشتركين فيه فيحصل لكل واحد جزء من المقسوم موجود في الخارج غير الجزء الحاصل للشريك الآخر
وقد قال جابر قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة
ولهذا كان قدماء النحاة يقولون الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف كما ذكره غير واحد منهم ابن جني والزجاجي صاحب الجمل وغيرهما فاعترض عليهم بعض المتأخرين كالكزولي صاحب القوانين النحوية وقال كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه فاسم المقسوم الأعلى صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له
وكذلك أبو البقاء النحوي ذكر هذا فيما اعترض به على ابن جني وأجاب أن مراده أجزاء الكلام ونحو ذلك
وليس هذا الإعتراض بشيء فإن ما ذكره هؤلاء إنما هو في القسمة العقلية وهو قسمة الكل الذي يكون كليا في العقل إلى أنواعه وأشخاص أنواعه وأما القسمة الحسية الموجودة في الخارج فهو قسمة

الكل إلى أجزائه والكلام مركب من الإسم والفعل والحرف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والأرض وكتركب بدن الإنسان من رأس وصدر وبطن وأفخاذ وغير ذلك
فقولهم الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام أرادوا به هذه القسمة كما يقال الدار ينقسم إلى سفل وعلو وهذه الأرض تنقسم إلى بيضاء وذات شجر ونحو ذلك وهذه القسمة التي يعرفها بنو آدم فإنها قسمة لما هو موجود معلوم بنفسه إما جوهر كالعقار وإما عرض قائم بالجوهر كالكلام والأصوات والألوان وتلك القسمة إنما هي بعد أن ينتزع العقل من الجزئيات أمرا كليا مشتركا عاما ثم يقسمه العقل إلى أنواعه وأشخاصه وهي تلك الجزئيات والكليات الخمسة التي يسمونها الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام تنقسم هذه القسمة فإذا كان موضوع الفلسفة الاولى والحكمة العليا عندهم هو الوجود الكلي المشترك المطلق الذي يعم كل موجود فلفظه ومعناه يتناول الموجودات كلها وكذلك لفظ الثبوت والشيء ونحوهما مطابق للفظ الوجود عند جمهور النظار
فغاية ما يسمى الوجود أن يكون بمنزلة مسمى الشيء ومسمى الثبوت والحصول ونحو ذلك وهذا المعلوم ليس هو شيئا موجودا في الخارج حتى يقال إنه ملائم للنفس أو غير ملائم بخلاف ما إذا قيل واجب الوجود ورب العالمين وخالق العالم فإن مسمى هذا الإسم موجود بنفسه سبحانه وتعالى وهو الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه فالنفس إذا عرفته عرفت ما يكون كمالها في معرفته وعبادته وهو سبحانه العلي الأعلى فالعلم به أعلى العلوم إذ العلم يطابق المعلوم
وأما الوجود العام المشترك كاسم الشيء فذاك لا يوجد كليا إلا في

الذهن ليس في الخارج شيء يعم جميع الأشياء ولا وجود يعم جميع الموجودات
ومن المعروف عندهم وعند غيرهم أن الكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان وهم قد جعلوا الكليات ثلاثة الطبيعي والعقلي والمنطقي فالطبيعي أن يوجد الكلي مطلقا لا بشرط الإطلاق كما إذا أخذ الإنسان مطلقا والحيوان مطلقا من غير تقييد بوجود ولا عدم ولا وحده ولا كثرة ولا غير ذلك من القيود
والمنطقي ما يعرض له من العموم والكلية فإن المنطقي ينظر في عموم هذا وخصوصه فكونه عاما وخاصا هو موضوع نظر المنطقي
والمركب منهما هو العقلي وهو الإنسان بشرط كونه عاما ومطلقا وهو المطلق بشرط الإطلاق وهذا يسلمون كلهم أنه لا يوجد إلا في الذهن إلا من قال بالمثل الأفلاطونية
وأما الطبيعي فقد يقولون هو موجود في الخارج وقد ينازع منازع في ذلك وفصل الخطاب أنه موجود في الخارج لكن لا يكون كليا في الخارج فليس في الخارج ما هو كلي في الخارج بل ما يوجد كليا في الذهن يوجد في الخارج معينا مشخصا مخصوصا مقيدا وقولهم هذا موجود في الخارج كما يقال لما يتصور في النفس إنه موجود في الخارج وكما يقال فعلت ما في نفسك وقلت ما في نفسك ونحو ذلك فإن الشيء موجود في نفسه ثم الذهن يتصوره ثم يعبر اللسان عن ما تصوره الذهن ثم يكتب بالخط عبارة اللسان ولهذا يقال للشيء أربع وجودات وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي

ولهذا كان أول ما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه و سلم سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم سورة العلق 1 5 فذكر في هذه السورة التي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنها أول ما أنزل عليه من القرآن أنه سبحانه موجد الموجودات الأربعة فذكر الوجود العيني وهو الوجود الحقيقي الثابت في نفسه فعم بالخلق وخص الإنسان فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ثم ذكر الموجودات الثلاثة المطابقة لهذا فعم وخص فقال اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فذكر العلم عموما وخص الإنسان بالتعليم وذكر أنه علم بالقلم وذلك هوالخط والخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى الذي في القلب فإن الخط لا يدل بنفسه على المعنى وإنما يدل على العبارة الدالة على المعنى
ولهذا من لم يعرف لغة صاحب الخط فإنه إذا قرأ خطا بالعربي واللسان فارسي وهو لا يعرف معنى اللغة الفارسية لم يعرف المعنى فإن الخط إنما يدل بواسطة اللفظ
فهؤلاء إذا قالوا الكلي الطبيعي موجود في الخارج كما يقال إن

المعلوم في نفسي موجود في الخارج فهو صحيح فإن الكلي الطبيعي مطلق لا بشرط فهو مطابق للأعيان الموجودة في الخارج
فإذا قيل الإنسان يطلق على هذا وهذا كان صحيحا بخلاف الكلي العقلي فإنه يطلق بشرط الإطلاق وذاك إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فلا يطابق ما في الخارج بل هو من باب المقدرات الذهنية كما يقدر في الذهن ما يمتنع وجوده في الخارج مثل الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين
فإذا قدر أن الشيء موجود معدوم أو لا موجود ولا معدوم فهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن ولا يكون في الخارج والذين ظنوا أن هذا الكلي يكون في الخارج مقارنا للموجودات المعينة أو مفارقا لها فقد غلطوا في ذلك كما غلط أمثالهم من المتفلسفة فإن هؤلاء المتفلسفة كثيرا ما يغلطون فيظنون ما هو موجود في الأذهان موجودا في الخارج مثل غلط أولهم فيثاغورس وشيعته في الأعداد المقارنة المطلقة المجردة حيث ظنوا أنها تكون في الخارج مجردة عن المعدودات والمقدورات ومثل غلط أفلاطون وشيعته في الطبائع الكلية كالإنسان الكلي والحيوان الكلي حيث ظنوا أنها تكون في الخارج كليات مجردة عن الأعيان أزلية أبدية لم تزل ولا تزال وقالوا ذلك في الزمان والمكان والمادة فظنوا أن في الخارج جوهرا عقليا أزليا أبديا غير الأجسام وأعراضها وجوهرا مثالا أزليا أبديا غير الأجسام وحركاتها ومقدار حركاتها وظنوا وجود مادة عقلية مجردة عن جميع الصور هي المادة الأولية التي يثبتها هؤلاء

وقد خالفهم أصحابهم كأرسطو وشيعته والمتأخرون الذين سلكوا خلفه كالفارابي وابن سينا وردوا على متقدميهم وقالوا إن الفلسفة كانت نية فأنضجت فإن مبدأها إنما هو النظر في الطبيعيات ثم انتزعوا من الأمور الطبيعية هذه الكلية العقلية وظنوا وجودها في الخارج
فرد عليهم هؤلاء وأصابوا في الرد ثم جعل هؤلاء هذه الماهيات العقلية موجودة في الخارج مقارنة للموجودات الحسية الطبيعية فاثبتوا مادة عقلية مع الجواهر الحسية وأثبتوا ماهية مجردة كلية مقارنة للأعيان وقالوا هذه الماهيات غير الوجود وأسباب الماهية شيء وأسباب الوجود شيء فإنا نعقل المثلث قبل أن نعلم وجوده وقالوا هذه الماهية يغشاها غواش غريبة حسية وخيالية
وقسموا في منطقهم اليوناني المتلقي عن معلمهم الأول أرسطو الذي هو صاحب تعاليم المنطق والطبيعي والإلهي قسموا الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتي داخل في الماهية مقوم لها وإلى عرضي خارج عن الماهية ثم العرضي قسموه إلى لازم للماهية وإلى لازم لوجودها لما فرقوا بين الوجود والماهية وإلى عارض لها إما بطيء الزوال أو سريع الزوال
وهذا التقسيم وما بنوه عليه من الحدوث مما أنكره عليهم جمهور النظار من المسلمين وغيرهم وبينوا ما بينوه من خطئهم فيه كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع
والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم أما تقسيم الصفات إلى لازم للموصوف وإلى غير لازم فهذا حق وهو تقسيم نظار المسلمين يقسمون الصفات إلى لازم وعارض فإن الحيوانية الناطقية والضاحكية لوازم للإنسان بخلاف العربية والعجمية والسواد والبياض والشباب والمشيب والإسلام والكفر

وأما تقسيم الصفات اللازمة إلى ثلاثة أنواع نوع داخل في الماهية ونوع خارج عنها والخارج على قسمين لازم لها ولوجودها ودعوى أن الماهية مركبة من الصفات الداخلة فيها وهي الذاتية وهو الجنس والفصل كالحيوان والناطق وأن الإنسان مركب منهما وأن الحدود الحقيقية لا تصح إلا بذكر الصفات الذاتية المشتركة وهي الجنس والمميزة وهي الفصل وبهما يتم النوع المركب كما يتم الإنسان بالحيوان والناطق فهذا من الخطأ الذي أنكره عليهم نظار المسلمين كما قد كتبنا بعض كلام النظار في ذلك في غير هذا الموضع في الكلام على المحصل وعلى منطق الإشارات وعلى المنطق اليوناني مصنف كبير ومصنف مختصر وغير ذلك
وذلك أن لفظ الماهية والوجود قد يعني بالماهية ما يتصور في الذهن وبالوجود ما يكون في الخارج وهذا حق لم ينازع فيه نظار المسلمين ولا ريب أن الماهية المتصورة في الذهن ليست عين الموجود في الخارج ولكن ما يتصور في الذهن إذا كان مطابقا لما في الخارج كان علما كما أن القول الذي يكون معناه في الذهن ولفظه في اللسان إذا طابق ما في الخارج كان صدقا وليس نفس القول هو المقول الذي في الخارج فكذلك إذا تصورنا ماهية شيء من الأشياء في أنفسنا فما في النفس من التصور يطابق ما في الخارج لا أن هذا عين ذلك فمن قال إن الماهية غير الوجود وأراد بالماهية الصورة العلمية الذهنية وبالوجود ما يوجد في الخارج فقد أصاب وأما إذا عنى بالماهية والوجود جميعا

ما هو ثابت في الخارج أو عنى بهما جميعا ما هو متصور في الذهن وقيل إن في الذهن شيئين ماهية ووجودها أو في الخارج شيئان ماهية ووجودها فهذا خطأ
وبهذا التفصيل يزول الإشتباه والنزاع الموجود في أن الماهية هل هي غير وجودها أم لا فمن لم يفصل هذا التفصيل فإما أن يحار ويقف كالآمدي ونحوه وإما أن يختلف كلامه ويتناقض كالرازي ونحوه أو يصر على الباطل إذا نصر أحد القولين كبعض المتكلمين والمتفلسفة
والمقصود هنا التنبيه على مثار غلطهم وهو أنهم يتوهمون ما في الذهن موجودا بعينه في الخارج كما توهموا ذلك في هذه الكليات إما مجردة على رأي قدمائهم أصحاب المثل الأفلاطونية وأصحاب فيثاغورس وإما مقرونة بالموجودات على رأي متأخريهم كشيعة أرسطو ولهذا كان ما يثبتونه من المجردات المفارقة للمادة ليس يسلم لهم منها شيء إلا نفس الإنسان إذا فارقت بدنه فإنها تكون مفارقة لبدنه بالموت وإنما سموا ما سواها مجردا مفارقا للمادة من هذا الباب
فما أثبتوه من العقول العشرة المحركات المفارقات التي ليست جسما ولا متعلقة بجسم ويعبرون عن الجسم بالمادة فيقولون لا في مادة ولا متعلقة ومن النفوس الفلكية التسعة التي ليست في جسم ومادة لكنها متعلقة بالمادة التي هي الجسم تعلق التدبير والتصريف

وهذا التفريق عندهم بين قسمي النفس والعقل أصله من نفس الإنسان فإنها تارة تكون في بدنه مدبرة له فتسمى نفسا وتارة تفارقه فتسمى عقلا عندهم لأنهم عقلت العقليات التي صارت بها عالما معقولا مطابقا للموجود ولهذا سموا العقول العشرة عقولا والنفوس الفلكية نفوسا وهم مختلفون هل هي أعراض في جسم أم هي مجردات على قولين
وإذاأعطى النظر والبحث حقه وكشف حقيقة ما يقولونه في هذا الباب وأزيلت الشبه عن الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة لم يكن عند القوم من المعقولات المجردة إلا ما هو معقول للإنسان في نفسه مثل الكليات كالإنسانية والحيوانية والوجود العام المشترك ونحو ذلك وإما شيء موجود في نفسه خارج يكون من المعقولات التي أثبتوها فهذا لا حقيقة له
ولهذا غلط من ظن أن عالم المعقولات التي يثبتونها هو الغيب الذي أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين كما يذكر مثل ذلك جماعة ممن رام أن يجمع بين ما قالوه وبين ما اخبرت به الرسل كما يوجد مثل ذلك في كلام الشهرستاني وأبي حامد والرازي وغيرهم فإن ما أثبتوه من العقليات يجعلون فيه الفرق بين العالم العقلي والحسي هو الفرق بين الغيب والشهادة وليس الأمر كذلك فإن المعقولات التي يثبتها هؤلاء إنما هي معقولات في نفس الناس وهو عرض قائم بنفسه
فأما ما يدعونه من عالم معقول يمتنع أن يكون محسوسا بحال فهذا ليس لهم عليه دليل ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات ذلك أثبتوه

بالكليات كما فعله ابن سينا في إشاراته أو بموجودات لا يحسها الإنسان لا لامتناع الإحساس بها مطلقا بل لأسباب أخر
وأما ما أخبرت به الرسل من الغيب فليس هو معقولا مجردا في النفس ولا هو موجود في الخارج لا يحس به بحال بل هو مما يحس به كما أخبرت بالملائكة والجن وغير ذلك وكل ذلك مما يجوز رؤيته والإحساس به
وكذلك ما أخبرت به من الجنة والنار هو مما يحس به وكذلك الرب تبارك وتعالى وتقدس وتعظم تجوز رؤيته بل يرى بالأبصار في الآخرة في عرصات القيامة وفي الجنة كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين
ولهذا فرقت الرسل بين هذا وذاك فإن هذا شهادة أي مشهود لنا محسوس الآن وذاك غيب أي غائب عنا الآن لا نشهده وهذا فرق إضافي باعتبار حالنا في شهوده الآن وعدم شهوده فإذا متنا صار الغيب شهادة وشهدنا ما كانت الرسل أخبرت به وكان غيبا عنا
قال تعالى لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد سورة ق 22
وقال تعالى ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون سورة الأنعام 30

وقال تعالى ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون سورة الأحقاف 34
وقال تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون سورة الملك 25 27
وقال تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا سورة الفرقان 21 22
وقال تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم سورة النساء 97 99
وقال تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد سورة الأنفال 50 51
وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال

أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون سورة الأنعام 93 وقال ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وبالجملة الملائكةالذين أخبر رسل الله عنهم كما ذكرهم الله في القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من أخبار الأنبياء من تدبر بعض ما ذكر عنهم وما تقوله المتفلسفة في المجردات العقول العشرة والنفوس التسعة علم بالإضطرار أن هذا مباين لهم من وجوه كثيرة وأن كل من رام من القرامطة الباطنية أو باطنية أهل الكلام والتصوف أن يجعل هذا مكان هذا ويجمع بين ما أخبرت به الرسل وما ذكرته الفلاسفة كان من أجهل الناس إن لم يعرف وأعظمهم تعمدا للكذب إن عرف
والجمع بين هذا وهذا أبعد من الجمع بين شريعة التوراة بعد النسخ والتبديل وبين شريعة القرآن فإن هؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع كل ما سوى الرب وكل ما سواه معلول مربوب له والعقل الفعال أبدع كل ما تحت السماء وهو معلول ومربوب له وهذا مما يعلم صبيان المسلمين أنه تكذيب صريح لما جاءت به الرسل ليس في كلام الرسل أن ملكا

من الملائكة خلق كل ما سوى الله ولا خلق جنسا من المخلوقات ولا كان قديما
بل قد ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
وقال سبحانه وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 26 27 28
وقال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون سورة آل عمران 80
وقال تعالى قل ادعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا سورة الأسراء 56 57 قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء الذين يدعونهم من الملائكة والأنبياء هم عباد الله كما أنتم عباده يرجون رحمته كما ترجون رحمته ويخافون عذابه كما تخافون عذابه ويتقربون إليه كما تتقربون إليه
وهؤلاء زعموا أن الشفاعة إنما هي بأن يتوجه الإنسان إلى روح

مفارق فيفيض عليه من ذلك الروح وذلك الروح قد فاض عليه الأمر من الرب وشبهوا ذلك بشعاع الشمس إذا وقع على مرآة ثم وقع شعاع المرآة على غيره وقد ذكر هذا المعنى ابن سينا والغزالي في المضنون به على غير أهله وغيرهما ممن بنى على أصلهم الفاسد إذ كانوا لا يرون أن الله يسمع كلام عباده ولا يعلم ما في نفوسهم ولا يقدر أن يغير شيئا من العالم ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء فأثبتوا الشفاعة على هذا الوجه
وهذه شر من الشفاعة التي يثبتها مشركو العرب والنصارى والمبتدعون من المسلمين ونحوهم ممن يقول إن الله فاعل مختار فإن هؤلاء يثبتون شفيعا يشفع إلى الله فيقضي حاجته وجعلوا شفيعهم من جنس الذي شفع عند الملوك
فأبطل الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك وكفر من أثبت هذه الشفاعة فقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سورة يونس 18
وقال تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون سورة الأنعام 51
وقال تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون سورة السجدة 4

وقال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه سورة البقرة 255
وقال عن الملائكة ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 28
وقال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى سورة النجم 26
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير سورة سبأ 22
وقال تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 23
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية بأن الملائكة إذا سمعوا تكلم الله بالوحي صعقوا فإذا أزيل الفزع عنهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 23
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة سورة البقرة 254

وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون سورة البقرة 48
والناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا
والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم في أهل الكبائر
وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه و سلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله ويحد له حدا كما في الحديث الصحيح حديث الشفاعة أنهم يأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى وعيسى فيقول لهم عيسى اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال فيأتوني فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع فأقول أي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حدا ذكر هذا ثلاث مرات

وفي الصحيح أن أبا هريرة قال لرسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فبين صلى الله عليه و سلم أن أسعد الناس بشفاعته في الآخرة أعظمهم إخلاصا لله وتوحيدا له في الدين
وذلك أنه من يشفع عنده بغير إذنه كان الشافع شريكا له في العقل ولهذا سمي الشفيع شفيعا لأنه يشفع للطالب كما قال تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها سورة النساء 85 فكل من أعان غيره على أمر فهو شافع له والشافع عند غيره تؤثر فيه حركة تغير اختياره ويكون شريكا له في المطلوب والله منزه عن ذلك كله

وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأسعد الناس بالمغفرة التي تنال بالشفاعة وغير الشفاعة أعظمهم إخلاصا له لا من كان فيه شرك يرجو غير الله ويسأل غير الله ويعبد غير الله كما يفعل المشركون الذين اتخذوا من دون الله شفعاء سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو صالحين أو من يظن فيهم الصلاح فيسألونهم ويستغيثون بهم إما في مغيبهم وإما عند قبورهم
وكثيرا ما يتمثل لهؤلاء المشركين صورة ذلك الشخص المستغاث به ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورته ليضل ذلك المستغيث به المشرك كما كانت الشياطين تكلم الناس من الأصنام وكما يقع كثير من ذلك في أرض الشرك أرض الصين والترك والهند والغرب والجنوب والشمال يرون أحيانا أن ميتهم قد جاء وحدثهم بأمور وقضى لهم حوائج فيظنونه قد عاش بعد موته وإنما هو شيطان قد تمثل على صورته ومنهم من يصنع قربانا للشيطان ويقرب له ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ويغنون غناء يناسبه ويأتون بشيخ لهم يناسب ذلك الشيطان فيسقونه الدم أو يفعل به الفاحشة أو ينطق بالكفر الذي يختاره الشيطان ثم يتكلم الشيطان إما منفردا وإما على لسان ذلك الشيخ ببعض ما يريدونه وربما صعد الشيخ في الهواء وهم يرونه وقد يحمل للشيطان بعض هؤلاء الشيوخ الذين لهم حال شيطاني فيطير به في الهواء فيذهب به إلى مكان آخر وربما مشى به على الماء لكن لا بد أن يكون الشيخ عاصيا لله ورسوله وكلما كان أفجر وأكفر كان أقرب له إلى الشياطين

كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم سورة الشعراء 221 222
وإذا كان من أولياء الله المتقين المطيعين لله ورسوله هربت منه هذه الشياطين وكان أعوانه جند الله من الملائكة والجن المؤمنين وغيرهم وقد يطيع الشياطين لولى الله في بعض ما يأمر به من طاعة الله ورسوله تعظيما له وإكراما له لا طاعة لله ولرسوله فهذا يقع كثير ولكن لم تسخر الجن والشياطين تسخيرا مطلقا لغير سليمان عليه السلام وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يظنون الأمور الذهنية المتصورة في الذهن حقائق ثابتة في الخارج وهذا الأمر غالب عليهم كثير في كلامهم ومن تفطن له تبين له وجه غلطهم في كثير من مطالبهم مع انهم لهم عقول ونظر وفضيلة بالنسبة إلى أتباعهم لا إلى أتباع الرسل
وعلم القوم الذي كانوا يعرفونه هو الطب والحساب فلهم في الطبيعيات كلام كثير جيد والغالب عليه الجودة وكذلك في الحساب في الكم المنفصل والكم المتصل وفيهم خلاف كثير في علم الهيئة وحركات الكواكب ومقاديرها وكذلك في سائر علومهم هم أكثر الطوائف اختلافا
وإذا قال أبو عبدالله الرازي اتفقت الفلاسفة فإنما عنده ما ذكره ابن سينا في كتبه وكذلك كلام المشائين أتباع أرسطو وإلا فالفلاسفة أصناف مختلفة وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتابه

الكبير في المقالات لما ذكر مقالات غير الإسلاميين وكذلك أبو عيسى الوراق والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم ممن يحكي مقالات الناس ويناظرهم ذكروا من أقوال الفلاسفة اختلافهم ما يكون كلام المشائين فيه قليل من كثير
وإذا كان غاية فلسفتهم إنما هو العلم بكليات لا وجود لها في الخارج إنما يوجد في الخارج أشخاص معينة وتلك الكليات لا وجود لها في الخارج فليس هناك شيء يلائم النفس حتى تكون النفس كاملة سعيدة بمعرفته فتبين أن ما ذكروه من كمال النفس وسعادتها بعد الموت خطأ وضلال
الوجه الحادي عشر أن الكليات هي مطابقة لجزئياتها فإذا كانت الجزئيات تقبل التغير من حال إلى حال لم تكن الكليات ثابتة على حال فلا يكون العلم بها علما بشيء باق وكل مخلوق فإنه يقبل التغير من حال إلى حال على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول وإذا لم يكن في الموجودات كليات عقلية أزلية أبدية لا تقبل التغير فيبقى ما في النفس من هذه الكليات المتعلقة بالمخلوقات جهلا لا علما وذلك مثل الكليات الطبيعية وهو أن النار تحرق فإن هذا له شروط وموانع فقد لا تحرق لفوات الشروط أو وجود المانع وليست الموانع أمرا محدودا فلا يمكن العلم القاطع أن كل نار تحرق بالفعل لما من عادته أن تحرقه ثم هم يدعون قدم الأفلاك وبقائها وكذلك العقول والنفوس

فيقال هذه أمور معينة لا كلية فإذا كانت النفس تبقى ببقاء معلومها فالمعلوم الباقي الأزلي الأبدي الذي لا ريب في بقائه وقدمه وهو رب العالمين فالسعادة والكمال في معرفته وعبادته وهذا هو العلم الأعلى الذي هو علم بالرب الأعلى ليس العلم هو العلم بوجود مطلق وأقسامه كما قوله هؤلاء ومن تبعهم حتى أدخل ذلك في أصول الفقه الرازي ونحوه ويحيلون بالبرهان على العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه
وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع على كلامهم في الحد والبرهان وبينا ما عليه نظار المسلمين في الحد وأن المقصود به التمييز للمحدود من غيره فمقصوده تفصيل ما دل عليه الإسم بالإجمال سواء كان حد الشيء اسم وهو الحد بحسب الإسم أو لشيء موجود وهو الحد بحسب الحقيقة وهذا الحد يحصل بالعرف المطابق للمحدود في العموم والخصوص بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه فيكون الحد مطردا منعكسا كالإسم مع المسمى
وأما ما يدعونه هم من أن الحد يحصل به معرفة حقيقة المحدود في الخارج وأنه يكون بالصفات الذاتية الداخلة في الحدود المركبة من الجنس والفصل فهذا مما تكلم نظار المسلمين على خطئهم فيه من وجوه كما بيناه في موضعه وبينا أن قولهم إن الإنسان مركب من الجنس والفصل إن أريد به تركيب ما في الذهن فهذا صحيح فإن الإنسان إذا تصور في نفسه حيوانا ناطقا كان ما تصوره مركبا من هذا وهذا وإن

تصور حيوانا ضاحكا كان ما تصوره مركبا هذا وهذا وكان لفظه دالا على ما تصوره بالمطابقة وعلى بعضه بالتضمن وعلى الخارج عنه اللازم له بالإلتزام فالمجموع هو مجموع الماهية التي تصورها في نفسه وجزؤها هو جزء الماهية وهو المدلول عليه بالتضمن والخارج عنها اللازم لما هو اللازم للماهية المقصودة في الذهن فيعود تمام الماهية وجزؤها الداخل ولازمها الخارج إلى ما دل عليه بالمطابقة والتضمن والإلتزام هذا هو الذي يتحصل من هذا كما حرره من حرره كما قد بسط في غير هذا الموضع
وأما أن تكون صفات الموصوف اللازمة بعضها داخل في ماهيته الخارجة وبعضها خارج عن ماهيته الخارجة فهذا باطل وما ذكروه من الفروق الثلاثة بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم قد اعترفوا هم ببطلانها وقد بين بطلانها بالدليل
وما ذكروه من الوسط بين بعض اللوازم وبعضها أراد به أئمتهم كابن سينا ونحوه أنه الدليل كما يقولون الحد الأوسط فجعلوا من الذات ما يعلم بلا دليل ومنها ما لا يعلم إلا بالدليل وهذا فرق يرجع إلى علم العالم بها لا إلى حقيقة هي علمها في نفس الأمر فظن من ظن من متأخريهم أنهم أرادوا بالوسط أن الصفات اللازمة تارة يتصف بها الموصوف بنفسها وتارة يكون بينه وبينها وسط في هذا الإتصاف

واضطربوا هنا اضطرابا يظهر به أن القوم في ظلمات بعضها فوق بعض فكلام سلفهم فيه خطأ كثير وقد حصل في النقل والترجمة ما حصل من الخطأ ويزيده متأخروهم خطأ فصاروا في شر من دين اليهود والنصارى فإن ذاك أصله حق جاء من عند الله ولكن هم بدلوا وغيروا وهؤلاء كان الأصل فاسد وكثر الفساد في الفروع فإن حاصل ما انتهى إليه أرسطو في الإلهيات فيه من الفساد ما لا يسعه هذا الموضع والقوم من أجهل الناس بذلك وفيه من الغلط أكثر مما في الطبيعيات
وهذا إذا اقتصر على الفلسفة الموروثة عن أولئك ولكن المنتسبون إلى الإسلام منهم والعربية صار لهم بسبب ما استفادوه من المسلمين من العقليات الصحيحة والمعارف الإلهية ما صاروا به خيرا من أوليهم وأعلم وأعقل ولهذا يوجد في كلام ابن سينا وأمثاله من تحقيق الأمور الإلهية والكليات العقلية ما لا يوجد لأوليهم وإن كان هو وأمثاله عند أهل الإيمان بالله ورسوله من جملة المرتدين والمنافقين
وإذا قالوا الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية فإن أرادوا انه مركب من جوهرين لزم أن يكون كل موصوف بصفات لازمة ذاتية مركبا من جواهر كثيرة فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق وهذا مما يعلم كل عاقل أنه فاسد وإن أرادوا أنه مركب من عرض فالجوهر كيف يتركب من الأعراض وكيف تكون الأعراض قائمة به مقومة له سابقة عليه وتكون هي أجزاءه وهل تكون قط

صفة موصوف متقدمة عليه بوجه من الوجوه لا سيما وهم يثبتون تقدما في الخارج لكنه تقدم كلي مثلما يدعونه من تقدم العلة على المعلول
وكلامهم في هذا ايضا فاسد فإنه لا يعرف قط أن الفاعل متقدم على مفعوله إلا تقدما حقيقيا بحيث يكون الفعل بعده حقيقة وهو الذي يسمونه تقدم بالزمان وسواء سمي الفالع علة أم لم يسم
وأما قول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم فحركة اليد ليست علة فاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لليد هو المحرك للخاتم والخاتم في اليد كأصبع في يد وليست حركة الكف علة لحركة الأصبع ولكنهما متلازمان لما بينهما من الإتصال
وقد بين هذا في موضعه وبين أن ما يدعونه من الفاعل الموجب بالذات الذي يكون مفعوله مساوقا له بالزمان مما اجتمع الاولون والآخرون من جميع طوائف العقلاء على فساده حتى أرسطو وأتباعه من الفلاسفة المتقدمين وإنما قال هذا بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين ادعوا أن الممكن بنفسه الذي يقبل الوجود والعدم يكون بنفسه قديما أزليا واجبا بغيره
وهذا قول شرذمة منهم وأما جمهور الفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه والقائلون بحدوثه فكلهم ينكرون هذا كما ينكره سائر

العقلاء ويقولون الممكن لا يكون إلا محدثا فكل ما كان ممكنا يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما لم يكن إلا حادثا كما قد بسط في موضعه
وحينئذ فإذا قالوا النفس تبقى ببقاء معلومها فليس من المعلومات المشهودة ما هو باق أبدا لا يستحيل من حال إلى حال ولا في المعلومات الموجودة التي يعلمون وجودها بالبرهان عندهم ما هو باق أزلا وأبدا لا يستحيل من حال إلى حال إلا الله وحده وما يثبتونه من العقول والنفوس ليس له حقيقة إلا في الوجود الذهني لا الخارجي وأما نفوس بني آدم وإن كانت باقية فهي العالمة التي تكمل وتبقى ببقاء معلومها
والمقصود أي ليس لها موجود معلوم يعلم بالبرهان بقاؤه أزلا وأبدا ليبقى ببقائه إلا الله وحده وإذا قالوا تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود فهذا العالم ليس ثابتا على حال من الأحوال بل هو يستحيل من حال إلى
حال أما علىالقول الحق فإن الأفلاك مخلوقة ومستحيلة وأما على زعمهم بأنها أزلية أبدية فليست كلية إنما هي أشياء معينة فهي من قبيل الحسيات لا من قبيل المعقولات الكلية ولهذا لما قال من قال منهم كابن سينا ونحوه إن الرب لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي وقال إنه يعلم نفسه ويعلم ما يصدر عنه صار متناقضا فإنه سبحانه معين وما يصدر عنه معين والعقول معينة لا كلية والأفلاك معينة لا كلية

فكيف يقال لا يعلم إلا الكليات ويقال مع ذلك إنه يعلم ما يصدر عنه
ولهذا كان هذا مما احتج به عليه المسلمون المثبتون للصفات واستدركه عليه أتباعه كالطوسي فأما المسلمون فقالوا كلامه صريح بإثبات كثرة المعلوم وهو دائما يفر من الكثرة وأما الطوسي فلما رأى هذا لازما أنكره على ابن سينا وادعى أن علمه بالمعلومات هي نفس المعلومات وزعم أنه حقق هذا وهذا من أفسد ما قيل في العالم وأبعده عن العقل
ولقد كان الناس يعجبون ويسخرون من قول الفلاسفة إن العلم هو العالم والعلم هو القدرة فيجعلون هذه الصفة هي الأخرى ويجعلون الصفة هي الموصوف فإن فساد هذا من أبين الأمور في العقل والعلم بفساده ضروري فجاء هذا المتأخر منهم ففر إلى ما هو شر من ذلك فقال بل العلم نفس المعلومات وهذا ما عرفت أحدا من العالمين سبقه إليه وهم يدعون معرفة العقليات وهذا كلامهم في رب العالمين لا يقوله إلا من هو من أضل الناس
وهم إنما قالوا ما قالوه فرارا من كثرة الصفات وفرارا من حلول الحوادث ولهذا كان كثير من أساطينهم أو أكثرهم وكثير من متأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في هذين الأصلين ويقولون بإثبات الصفات وبقيام الحوادث به كما قد حكيت مقالاتهم فإن عامة الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو كانوا يقولون بحدوث الأفلاك لكن

كانوا في المادة هل يقال بحوادث لا أول لها ولكل مادة مادة أو يقال بمادة قديمة أو حديثة وأما صورة الفلك فكانوا يقولون بحدوثها كما أخبرت به الرسل وأول من عرف عنه القول بقدمها أرسطو
هذا ذكره غير واحد من أهل المقالات وبحث أرسطو في كتابه يدل على ذلك وقد بسط الكلام على أرسطو نفسه وأقواله المنقولة عنه في الإلهيات وبين ما فيها من قلة العلم وكثرة الجهل وأنهم من أبعد الناس معرفة برب العالمين والذي لا ريب فيه أنهم لا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا يدينون دين الإسلام الذي بعث الله به جميع الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن هذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره
قال تعالى عن نوح يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 1 72
2 - وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أول رسول بعث إلى أهل الارض وأنه قال وأمرت لأن أكون أول المسلمين سورة الزمر 12

وقال تعالى عن إبراهيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة 130 132
وقال ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران 67
وقال إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين سورة النحل 120
وقال قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين سورة الأنعام 161

وقال عن قوم موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84
وقال عن سحرة فرعون قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون سورة الشعراء 47 48 إلى قوله إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين سورة الشعراء 51 وقال في الآية الأخرى ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين سورة الأعراف 126
وقال عن يوسف الصديق توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101
وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44
وقال عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون سورة المائدة 44
وقال عن الحواريين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إلى قوله ونكون عليها من الشاهدين سورة المائدة 111 112
فهذه الرسل وأممهم من نوح إلى الحواريين كلهم على الإسلام

وكذلك كل من كان قبلنا من أهل السعادة فهو مؤمن قال تعال إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 62 وفي الآية الأخرى والصابئون والنصارى سورة المائدة 69 فإن النصارى أفضل من الصابئين فلما قدموا عليهم نصب لفظ الصابئون ولكن الصابئون أقدم في الزمان فقدموا ها هنا لتقدم زمنهم ورفع اللفظ ليكون ذلك عطفا على المحل فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير ليشعر أنهم مؤخرون في المرتبة وإن قدموا في الزمن واللفظ
وهو سبحانه ذكر في سورة الحج ملل العالم فقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد سورة الحج 17 فأخبر أنه يفصل بين أهل الملل أجمعين ولم يذكرهم هنا ليتبين المحمود منهم في الآخرة وفي سورة البقرة والمائدة ذكر أربعة أصناف المسلمين والذين هادوا والنصارى والصابئين ثم قال من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 62 فدل على أن هذه الأربعة منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وأولئك هم السعداء في الآخرة بخلاف من لم يكن من هؤلاء مؤمنا بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وبخلاف من كان من المجوس والمشركين فهؤلاء كلهم لم يذكر منهم سعيد في الآخرة

وكذلك الإسلام العام قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 111 112
وقال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي ولهذا ترجم البخاري على ذلك باب من جاء في أن دين الأنبياء واحد

وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه سورة الشورى 13 فقد أمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه
وقال في الآية الأخرى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون سورة المؤمنون 51 53 فذم الذين تفرقوا على الأنبياء فآمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض وهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا
وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 31
وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء سورة الأنعام 159 وقال تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا سورة النساء 150 151

وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 213 قال ابن عباس وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقوله كان الناس أمة واحدة أي علىالحق وهو دين الإسلام فاختلفوا كما ذكر ذلك في سورة يونس هذا قول الجمهور وهو الصواب
وقد قيل كانوا أمة واحدة على الباطل وهو من الباطل فدين الله تعالى الذي ارتضاه لنفسه دين واحد في الأولين والآخرين وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا هو دين الإسلام وتنوع الشرائع كتنوع الشريعة الواحدة للشيء الواحد فإن محمدا صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين لا نبي بعده وقد بعث بدين الإسلام ما زال الإسلام دينه وقد

أمر أولا باستقبال صخرة بيت المقدس ثم أمر ثانيا باستقبال الكعبة والدين واحد وإن تنوعت الشريعة فكذلك قوله تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا سورة المائدة 48
فما جعله الله لكل كتاب من الشرعة والمنهاج والمنسك لا يمنع أن يكون الدين واحد فالذين كانوا يتمسكون بالتوارة والإنجيل قبل النسخ والتبديل كانوا على دين الإسلام وإن كان لهم شريعة تختص بهم وكذلك المتمسكون بالإنجيل قبل النسخ والتبديل على دين الإسلام وإن كان المسيح قد نسخ بعض ما في التوراة وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم وكذلك محمد صلى الله عليه و سلم بعث بدين الإسلام وإن نسخ الله ما نسخه كالقبلة ومن لم يتبع محمدا لم يكن مسلما بل كافرا ولا ينفعه بعد أن بلغه دعوة محمد التمسك بما يخالف ما أمر به فإن ذلك لا يقبل منه
ولهذا لما أنزل الله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه سورة آل عمران 85 قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون فقال تعالى ولله علىالناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا سورة آل عمران 97 فقالوا لا نحج فقال تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين سورة آل عمران 97 وقد روى الترمذي وغيره عن النبي

صلى الله عليه و سلم أنه قال من ملك زاد أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
وقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد سورة آل عمران 18 20 فأخبر سبحانه أن الدين عنده هو الإسلام أولا وآخرا وهو دين واحد ثم بين أن أهل الكتاب إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم من بعضهم على بعض لا لأجل طلب الحق
وهذا كقوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة 4 5

وقال في الآية الأخرى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين سورة الجاثية 16 19
والإختلاف المطلق الذي ذمه الله تعالى في القرآن أن تبتدع كل طائفة قولا يلتبس فيه الحق والباطل فتخالف كل طائفة الطائفة الأخرى وتعاديهم وكلهم مخالفون لما بعث الله به الرسل من دين الإسلام كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح وغيره واختلاف أهل الأهواء من هذه الأمة
فإن الإسلام وسط في الملل بين الأطراف المتجاذبة والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل فالمسلمون في صفات الله تعالى وسط بين اليهود الذين شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الخالق بالصفات التي تختص بالمخلوق وهي صفات النقص فقالوا إن الله فقير وإن الله بخيل وإن الله تعب لما خلق العالم فاستراح وبين النصارى الذين شبهوا المخلوق بالخالق فوصفوه بالصفات المختصة بالخالق فقالوا هو الله
والمسلمون وصفوا الخالق بصفات الكمال ونزهوه عن صفات النقص ونزهوه أن يكون شيء كفوا له في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن صفات النقص مطلقا ومنزه في صفات الكمال أن يماثله فيها شيء من المخلوقات

وكذلك هم في الأنبياء وسط فإن اليهود كما قال فيهم أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون سورة البقرة 87 وكذلك كانوا يقتلون الانبياء ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس
والنصارى غلوا فأشركوا بهم ومن هو دونهم قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 31
والمسلمون آمنوا بهم كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم ومن سب نبيا من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء وفي استتابته نزاع قال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة 136
وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين سورة البقرة 177
وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا

إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت سورة البقرة 285 286 والآية الأخرى وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من قرأ الآيتين في آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وتارة يقرأ في الأولى بآية الإيمان التي في البقرة قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية وفي الثانية بآية الإسلام في آل عمران قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلى قوله تعالى فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون سورة آل عمران 64
وكذلك المسلمون وسط في النسخ فإن اليهود قالوا ليس لرب العالمين أن يامر ثانيا بخلاف ما أمر به أولا والنصارى جوزوا لرؤوسهم أن

يغيروا شريعة المسيح فيحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاؤا والمسلمون قالوا رب العالمين يأمر بما يشاء له الخلق والأمر وليس لأحد من الخلق أن يغير دينه ولا يبدل شرعه ولكن هو يحدث من أمره ما يشاء فينسخ ما يشاء
ويثبت ما يشاء وكذلك في الشرائع كالحلال والحرام فإن اليهود حرمت عليهم طيبات أحلت لهم عقوبة لهم وعليهم تشديد في النجاسات يجتنبون أشياء كثيرة طاهرة مع اجتناب النجاسة والنصارى لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله بل يستحلون الخبائث ويباشرون النجاسات وكلما كان الراهب أكثر ملابسة للنجاسات والخبائث كان أفضل عندهم والمسلمون أباح الله لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث وهم وسط في سائر الأمور وليس هذا موضع بسط ذلك
وكذلك أهل السنة في الإسلام فهم في الصحابة وسط بين الرافضة التي يغلون في على فيجعلونه معصوما أو نبيا أو إلها وبين الخوارج الذين يكفرونه
وهم وسط في الوعيد بين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة الذين لا يجزمون بتعذيب أحد من فساق الأمة
وهم في القدر وسط بين النفاة للقدر من المعتزلة وغيرهم وبين الجهمية المثبتة الذين ينكرون حكمة الله في خلقه وأمره
وهم في الصفات وسط بين المعطلة الذين ينفون صفات الله أو بعضها ويشبهونه بالجماد والمعدوم وبين الممثلة الذين يمثلون صفاته

بصفات خلقه فيصفون الله بصفات خلقه فيصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ومن غير تكييف ولا تحريف
فمن حيث بعث محمد صلى الله عليه و سلم لم يكن الإسلام إلا ما أمر به لأن الإسلام أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا لغيره فمن استسلم له ولغيره فجعل له ندا فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165
ومن استكبر عن عبادة الله فلم يستسلم له فهو معطل لعبادته وهو شر من المشركين كفرعون وغيره قال الله تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين سورة غافر 60
والإسلام إنما يكون بأن تعبد الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أمر به فكل ما أمر به فهو حين أمر به من دين الإسلام وحين نهى عنه لم يبق من دين الإسلام كما كانت الصخرة أولا من دين الإسلام ثم لما نهى عنها لم تبق من دين الإسلام فلهذا صار المتمسك بالسبت وغيره من الشرائع المنسوخة ليس من دين الإسلام فكيف بالمبدل
والله تعالى قط لم يرض له دينا غير الإسلام ولا أحد من رسله لا سيما خاتم الأنبياء فإنه لم يرض من أحد إلا بدين الإسلام لا من

المشركين ولا من الذين أوتوا الكتاب وقوله تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها سورة الكافرون وهي كلمة تقتضي براءته من دينهم وأن ديني لي وأنتم بريئون منه ودينكم لكم وأنا بريء منه
كما قال تعالى في الآية الأخرى وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون سورة يونس 41 فقوله لي عملي ولكم عملكم هو نظير قوله لكم دينكم ولي دين وقرنه بمقتضاه وموجبه فقال أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في هذه السورة هي براءة من الشرك ولهذا كان يقرأها كثيرا مع قل هو الله أحد في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغيرهما لأن فيهما التوحيد هذه فيها توحيد العمل والإرادة وتلك فيها توحيد القول والعلم وإذا قال في 2 تلك قل هو الله أحد فأمره أن

يقول ما هو خبر عن الله بأنه الأحد الصمد وقال في هذه قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون فأمره أن يقول أنه لا يعبد ما يعبدون من دون الله إذ لا يعبد إلا الله وحده
ومثل هذا المعنى قوله تعالى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم سورة الشورى 15 أي لا خصومة والحجة هي ما يحتج به الخصم وإن كان باطلا فليس من شرط لفظ الحجة أن تكون حقا بل إذا كانت حقا سميت بينة وبرهانا ودليلا ولهذا قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء 165 لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم سورة البقرة 150 وهم المشركون يحتجون عليكم بحجة باطلة فيقولون قد رجع إلى قبلتنا فيوشك أن يرجع إلى ديننا وبهذا فسر الآية علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن قال من المتأخرين إن إلا بمعنى الواو وقالوا إن المراد لئلا يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم قولهم من الباطل الذي يظهر فساده من وجوه كثيرة

وقال تعالى والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد سورة الشورى 16 وقال في الحق وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء سورة الأنعام 83
وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعا من النار
وقد قال طائفة من المفسرين أن هذه السورة منسوخة أي فيما ظنوها دلت عليه من ترك القتال فإنهم ظنوا أن قوله لكم دينكم ولي دين يتضمن ترك القتال ومعلوم أن الله لم يأمر نبيه بمكة بالقتال بل إنما أمره بالقتال بالمدينة وأول آية نزلت في القتال قوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير سورة الحج 39 فأذن الله لهم أولا فيه ثم كتب عليهم ثانيا فقال كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم سورة البقرة 216

وكتب عليهم قتال من لم يسالمهم فأما من سالمهم فلم يؤمروا بقتاله كما قال تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله سورة الأنفال 61 وقال إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا سورة النساء 90
ولهذا كان بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين كثير من المشركين عهود مطلقة ومؤقتة فالمؤقتة كانت لازمة والمطلقة لم تكن لازمة بل لكل منهما فسخها فلما فتح الله مكة وغزا النبي صلى الله عليه و سلم تبوك سنة تسع من الهجرة وهي آخر غزواته أمر فيها بغزو أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون سورة التوبة 29
ولما رجع من غزوة تبوك أنزل الله سورة براءة وذكر أحوال المنافقين بقوله ومنهم ومنهم ولهذا تسمى الكاشفة والمبعثرة والفاضحة وأمر بنبذ العهود المطلقة وتحريم الحرم علىالكفار

فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر أميرا علىالموسم وأمره أن ينهى عن طواف العراة بالبيت وأن ينهى المشركين عن الحج ولهذا كان ينادي في الموسم ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان وأتبعه بعلي بن أبي طالب لأجل نبذ العهود إلى المشركين الذين كانت لهم عهود مطلقة وكان أبو بكر هو الأمير على الموسم وعلي معه يصلي خلفه ويأتمر بأمره لكن أرسله النبي صلى الله عليه و سلم لأنه كان من عادة العرب أن العهود لا يعقدها ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فخاف إن لم يبعث واحدا من أهل بيته أن لا يقبلوا نبذ العهود ولم يرجع أبو بكر إلى المدينة ولا عزله عن شيء كان ولاه وما روى من ذلك فهو من الكذب المعلوم أنه كذب
وكان تأميره على علي بعد قوله لعلي في غزوة تبوك أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى كما قد بسط في موضعه فقال

الله تعالى في براءة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين سورة التوبة 1 إلى قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين سورة التوبة 4 إلى قوله فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين سورة التوبة 4
وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه لا يجوز أن يعاهد الكفار إلا إلى أجل مسمى ثم اضطربوا فقال بعضهم يجوز نقضه ولا يكون لازما وقال بعضهم بل يكون لازما لا ينقضي واضطربوا في نبذ النبي صلى الله عليه و سلم العهد والصحيح أنه يجوز العهد مطلقا ومؤجلا فإن كان مؤجلا كان لازما لا يجوز نقضه لقوله فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم سورة التوبة 4 وإن كان مطلقا لم يكن لازما فإن العقود اللازمة لا تكون مؤبدة كالشركة والوكالة وغير ذلك وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وسمي من قال كل قول
والمقصود أن الله لما أنزل براءة وقال فيها فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين سورة التوبة 5 وهي الأربعة التي قال الله فيها فسيحوا في الأرض أربعة أشهر سورة التوبة 2 ليست الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وقد قال بعضهم هي هذه وغلط في ذلك قال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم

واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم التوبة 5 وهذه تسمى آية السيف فأمر الله فيها بقتال المشركين وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
ولهذا قال في آية الفتح ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح 16 وهم الروم وفارس كانوا أشد بأسا من العرب ولا بد من مقاتلتهم أو إسلامهم وإذا قوتلوا فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بخلاف ما كان قبل آية الجزية فإنهم كانوا تارة يقاتلون وتارة يعاهدون بلا جزية كما عاهد النبي صلى الله عليه و سلم اليهود والمشركين بلا جزية وكانوا قد دعوا عام الحديبية إلى قتال من يقاتل أو يعاهد وبعد ذلك يدعون إلى قتال من يقاتلون أو يسلمون ولم يقل أو يسلموا فإنه كان يكون المعنى حتى يسلموا وقتالهم لا يجب إلى هذه الغاية بل إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فقد قوتلوا القتال المأمور به
ثم العلماء مختلفون بعد نزول آية الجزية هل تؤخذ من أهل

الكتاب ومن له شبهة كتاب دون غيره أو تؤخذ من كل كافر جازت معاهدته والنبي صلى الله عليه و سلم إنما لم يأخذها من العرب لأن قتالهم كان قبل نزول آية الجزية أو يستثنى مشركو العرب فيها ثلاثة أقوال للعلماء مشهورة والجمهور يجوزون أخذها من مشركي الهند والترك وغيرهم من أصناف العجم كما يجوز الجميع معاهدة هؤلاء عند الحاجة أو المصلحة وهل يجوز أن يعاهدوا عهدا مطلقا أو لا يكون إلا مؤقتا على قولين
فلهذا يوجد كثير من المفسرين يقول في آيات يظن معناها النهي عن القتال إنها منسوخة بآية السيف فالذين قالوا قل يا أيها الكافرون منسوخة هذا مأخذهم والصواب أن هذه الآية لم تتعرض للقتال لا بأمر ولا بنهي بل مضمونها البراءة من دين الكفار وهذا أمر محكم لا ينسخ أبدا وأما أن يقال فيها أو في غيرها رضي الرسول بدين كافر فهذا لم يقله أحد من علماء المسلمين أصلا ولا أحد من سلف الأمة ولا من الأولين ولا من الآخرين ولا يقول ذلك إلا من هو مفتقر

على الله ورسوله لم يرض الله بغير دين الإسلام وهو الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم لم يرض الله ولا رسوله من أحد من الخلق بغير هذا الدين قط وإن كان لم يأمر بجهادهم في أول الأمر لعجز المسلمين وقلتهم
ولهذا لما استأذن الأنصار النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة لما بايعوه في الجهاد قال إني لم أومر بذلك بعد ثم لما كتب القتال كرهه بعضهم فقال تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا سورة النساء 77 وهذه الآية لبسطها موضع آخر
والمقصود هنا ذكر ما يتعلق بالفلاسفة والفلسفة لفظ يوناني ومعناها محبة الحكمة والفيلسوف في لغتهم محب الحكمة ولهذا يقولون سوفستيا أي حكمة مموهة ثم كثرت في الألسنة فقيل سفسطة أي حكمة مموهة وأما ما يقوله طائفة ممن يحكي مقالات الناس إن في العام رجلا كان اسمه سوفسطا وأنه كان هو شيعته ينكرون الحقائق كلها وجعلوا هذه أربع فرق فرقة تجزم بنفي الحقائق وطائفة تجزم بنفي العلم بها وتقول ليس عند أحد منهم علم بشيء وطائفة واقفة يقولون لا ندري تسمى المتجاهلة وتسمى اللاأدرية وطائفة تجعل الحقائق تتبع العقائد فكل من اعتقد شيئا فهو في نفس الأمر على ما اعتقد فهذا النقل على ظاهره باطل ليس في العالم طائفة معروفة تقول بشيء من هذه الأقوال في كل شيء ولا رجل اسمه سوفسطا

أقسام الكتاب
1 2 3 4