كتاب:بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

علمه فأنت به ثابت من حيثية تغايره وعلمه إياه وهو التعيين وبه هو موجود من حيثية أن علمه عين ذاته وهي أن لا تعيين وأنت العين من حيث أنت صورة في العلم لا من حيث إطلاق العلم فهذا يتضمن أن الأشياء التي جعلها موجودة ووحودها عين الحق هي علم الحق
وليس هذا قول أهل السنة الذين يقولون إن الأشياء ثابتة في علم الله قبل وجودها ليست ثابتة في الخارج فإن هؤلاء لا يقولون إن الأشياء الموجودة عين علمه ولا يقولون إن الأشياء المحسوسة بعد وجودها هي كما كانت في العلم بل يقولون إن الله علمها وقدرها قبل أن تكون والمخلوق قد يعلم أشياء قبل أن تكون كما نعلم نحن ما وصف لنا من أشراط الساعة وصفة القيامة وغير ذلك قبل أن يكون ومن المعلوم أن علمنا بذلك ليس هو من جنس الحقيقة الموجودة في الخارج فإنا إذا علمنا الماء والنار لم يكن في قلوبنا ماء ونار ولكن علمه بذلك يطابقه مطابقة العلم المعلوم ثم اللفظ يطابق العلم مطابقة اللفظ المعنى ثم الخط يطابق اللفط وهذه المراتب الأربع المشهودة هي الوجود العيني والعلمي واللفظي والرسمي وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان وفي البنان وقد تشبه هذه المطابقة مطابقة الصورة التي في المرآة للوجه ومطابقة النقش الذي في الشمعة والطين لنقش الخاتم الذي يطبع ذلك له
وليس هو أيضا قول من يقول إن المعدوم شيء ثابت في الخارج مستغن عن الله فإنه قد قال وأنت لا به لا شيء وهذا يخالف فيه ابن عربي والصواب معه فيه وإن كان أضل من وجه آخر بل قوله لون آخر

فإنه جعل علمه بالأشياء عين الأشياء إذ جعل لا وجود معه إلا لعلمه بذلك الشيء وجعل نفس الأشياء علمه ولهذا أثبت التغاير من وجه وعدمه من وجه وقال فأنت به ثابت من حيثية متغايرة ومن حيثية أن علمه عين ذاته
وهذا الثاني يشبه قول الفلاسفة الذين يقولون إنه عاقل ومعقول وعقل وأن ذلك واحد
ويقال إن أبا الهذيل العلاف يقرب إلى مذهبهم
وفساد هذا القول معلوم قد بسط في غير هذا الموضع لكن هو لما التزم أن يكون وجود الأشياء غي ماهيتها وهو عندهم عين وجود الأشياء ولا

بد من إثبات مغايرة الأشياء واستقبح أن يجعل الأشياء ثابتة في الأعيان جعلها عين علمه فوقع في شر مما فر منه حيث جعل نفس الأشياء الثابتة في الخارج عين علمه وهذا من جنس قوله أنه عين وجود الأشياء وهو في الحقيقة تعطيل لنفسه ولعلمه إذ جعل وجوده وجود الأشياء وعلمه هو الأشياء ثم يقول إن علمه عين ذاته فهذه ثلاث عظائم
ثم قال فإن عرفته في كل شيء عين كل شيء إلا الصورة المعينة لم تجهله في صورة أصلا ولم تكن فيمن يتجلى له في غير الصورة التي يعرفها وسيعود منه حتى يتجلى له في الصورة التي يعرفها فيتبعه وهذا وإن كان من السعداء فهو بعيد من أهل العلم بالله جدا وأي معرفة لمن يعرف المطلق مقيدا بصورة ما فهذا إلى الجهل أقرب منه إلى العلم غير أن بركة الإيمان وسعادته شملته فتنعم في الجنة من وراء غيب الإيمان ويشفع له النبي والذي صدقه فرفعت له الحجب وقتا ما فتنعم بالمشاهدة حسب حاله وعلى قدر نصيبه من رسوخه في الإيمان وأخذه بنصيبه من مقام الإحسان فإذا هو كأنه يراه لا أنه يراه وأين هذا المقام من مقام من رآه منذ عرفه في كل شيء عين كل

شيء سوى تقييد الشيء وتعينه بأنه هذا فإنه لا يجوز إليه الإشارة لأنه لم تقيده صورة قط فمن عرفه كما قلنا ورآه في كل شيء لم ينسه قط ولم ينسحب عليه من عقاب الآية شيء وهي قوله تعالى نسوا الله فنسيهم حاشاهم من ذلك بل ذكروه دائما فذكرهم ورأوه في كل شيء ومع كل شيء فشاهدهم كذلك وشهد لهم بالكمال
قلت وهذا الكلام الذي ذكره من تجليه تارة في غير الصورة التي يعرفها المتجلي له حتى يتعوذ منه وما ذكره من أن هذه الحال ناقصة أخذه من كلام ابن عربي وابن عربي يحتج في ذلك بالحديث المأثور في ذلك فإن ابن عربي كان أعلم بالحديث والتصوف من هذا وإن كان كلاهما من أبعد الناس عن معرفة الحديث والتصوف المشروع بل هما أقل الناس معرفة بالكتاب والسنة وآثار سلف الأمة وابن سبعين أعلم بالفلسفة من ابن عربي

وأما الكلام فكلاهما يأخذه من مشكاة واحدة من مشكاة صاحب الإرشاد وأتباعه كالرازي فإن ابن عربي ذكر في أول الفتوحات المكية ثلاث عقائد ورمز إلى الرابعة وذكر العقيدة التي في كلام صاحب الإرشاد مجردة ثم ذكرها مع الدليل الكلامي الذي ذكره ثم انتقل إلى عقيدة فلسفية أبعد عن اعتقاد أهل الإثبات ثم رمز إلى هذا التوحيد الذي أفصح به في الفصوص وعاد قولهم إلى تحقيق التعطيل الذي هو حقيقة قول فرعون وكان نقلهم لكلام المتكلمة والمتفلسفة من كلام الرازي في المحصل وغيره وهو يذكر أن ذلك حصل له بالكشف حتى كان القاضي بهاء الدين ابن الزكي يذكر أنه كان يقع بينه وبين والده منازعة في كلامه إذ كان من الغلاة فيه المعظمين لأمره حتى حدثني محي الدين بن

المصري وكان من أخص أصحابه أنه قال في معرض كلام له أفضل الخلق عندي بعد رسول الله علي وفاطمة والحسن والحسين ومحي الدين ابن عربي وكان يقول إن كلامه حصل له على طريق الكشف قال فوجدت نسخة من المحصل بخطه رخيصة جدا فجئت بها إلى والدي وقلت نسخ المحصل فلولا شدة رغبته في معرفة كلام هذا الرجل لما كان كتبها بخطه أو كلاما نحو هذا
وأما ابن سبعين فأصل مادته من كلام صاحب الإرشاد وإن أظهر تنقصه ونحوه من الكلام ومن كلام ابن رشد الحفيد ويبالغ في تعظيم ابن الصائع الشهير بابن باجة وذويه في الفلسفة وسلك طريقة الشوذية في

التحقيق وأخذ من كلام أبن عربي وسلك طريقا في تحقيقهم مغايرا لطريق غيره وإن كان مشاركا لهم في الأكثر وهما وأمثالهما يستمدان كثيرا مما سلكه أبو حامد في التصوف المخلوط بالفلسفة ولعل هذا من أقوى الأسباب في سلوكهم هذا الطريق
وأبو حامد مادته الكلامية من كلام شيخه في الإرشاد والشامل ونحوهما مضموما إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني لكنه في أصول الفقه سلك في الغالب مذهب ابن الباقلاني مذهب الواقفة وتصويب المجتهدين ونحو ذلك وضم إلى ذلك ما أخذه من كلام أبي زيد الدبوسي وغيره في القياس ونحوه وأما في الكلام فطريقته طريقة شيخه دون القاضي أبي بكر وشيخه في أصول الفقه يميل إلى مذهب الشافعي وطريقة الفقهاء التي هي أصوب من طريقة الواقفة

ومادة أبي حامد في الفلسفة من كلام ابن سينا ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفاء ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك وأما في التصوف وهو أجل علومه وبه نبل فأكثر مادته من كلام الشيخ أبي طالب المكي الذي يذكره في المنجيات في الصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص فإن عامته مأخوذ من كلام أبي طالب المكي لكن كان أبو طالب أشد وأعلى
وما يذكره في ربع المهلكات فأخذ غالبه من كلام الحارث المحاسبي

في الرعاية كالذي يذكره في ذم الحسد والعجب والفخر والرياء والكبر ونحو ذلك
وأما شيخه أبو المعالي فمادته الكلامية أكثرها من كلام القاضي أبي بكر ونحوه واستمد من كلام أبي هاشم الجبائي على مختارات له وكان قد فسر الكلام على أبي قاسم الأسكاف عن أبي إسحاق الإسفرائيني ولكن القاضي هو عندهم أولى
ولقد خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة وأما كلام أبي الحسن نفسه فلم يكن يستمد منه وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس
والرازي مادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي وله مادة قوية من كلام أبي الحسين البصري وسلك طريقته في أصول الفقه كثيرا وهي أقرب إلى طريقة الفقهاء من طريقة الواقفة

وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضا ونحوهما وأما التصوف فكان فيه ضعيفا كما كان ضعيفا في الفقه
ولهذا يوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه
ويوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه
ويوجد في كلام هذا وابي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة وإذا كان الغلط شبرا صار في الأتباع ذراعا ثم باعا حتى آل هذا المآل فالسعيد من لزم السنة
فصل
ومن تدبر الحديث وألفاظه على أنه حجة على هؤلاء الإتحادية الجهمية لا لهم وأنه مبطل لمذهبهم مع أنهم يجعلونه عمدتهم في دعواهم ظهوره في كل صورة من الصور المشهودة في الدنيا والآخرة حتى في الجمادات والقاذورات
والحديث مستفيض بل متواتر عن النبي وهو حديث طويل فيه قواعد من أمور الإيمان بالله وباليوم الآخر أخرجاه في الصحيحين من غير وجه من

حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد عن أبي هريرة وأبي سعيد
وأخرجاه أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ورواه مسلم عن جابر موقوفا كالمرفوع وهو معروف من حديث ابن مسعود وغيره ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن أناسا قالوا لرسول الله يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة
فقال رسول الله هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد

شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم اللهم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله ومنهم المخردل أو المجازي حتى ينجي حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد أن يرحمه ممن كان يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا اثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون

وفي لفظ البخاري منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار وهو آخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة فيقول أي رب أصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعوا الله ما شاء أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى هل عسيت أن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره فيقول لا يا رب لا أسألك غيره ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا اقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب ويدعو الله حتى يقول له فهل عسيت أن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب

أدخلني الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك تعالى منه فإذا ضحك الله منه قال أدخل الجنة فإذا دخلها قال الله له تمنه فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله ليذكره من كذا ومن كذا حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله ذلك لك ومثله معه
قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه
قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة
قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه
قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله قوله ذلك لك وعشرة أمثاله
قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة
وهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض معروف من حديث

ابن شهاب الزهري أحفظ الأمة للسنة في زمانه كان عنده عن سعيد بن المسيب أفضل التابعين وعن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة فكان تارة يحدث به عنهما وتارة عن أحدهما كما هو عادة الزهري في أحاديث كثيرة
وهذا الذي ذكرنا رواية إبراهيم بن سعد عنه عن عطاء بن يزيد ومنه رواه مسلم كما ذكر وعطف عليه رواية شعيب عنه عن سعيد بن المسيب وعطاء قال وساق الحديث بمثل معنى حديث إبراهيم وأما البخاري فرواه من حديث شعيب عن الزهري عنهما مرتين ورواه من حديث إبراهيم بن سعد أيضا الذي ساقه مسلم
ورواه من حديث معمر أيضا عن الزهري عن عطاء

وفي الصحيحين أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن ناسا في زمن رسول الله قالوا لرسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد ولا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فتدعي اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيز ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا رب فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم

تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح بن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال ما تنتظرون فيتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى أن بعضهم ليكان أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطا طيف وكلاليب

وحسك تكون فيها شوكة يقال له السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاود الخيل والركبان فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة الله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربما كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم اخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربما لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا ثم يقول أرجوا فمن وجدتم في قلبه نصف دينار فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فأخرجوا من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا
وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول الله عز و جل شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج قوما

لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في افواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل فيكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم تعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله تعالى الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول أدخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا وهذا سياق مسلم من حديث حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم ثم أتبعه برواية الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن

أسلم قال نحو حديث حفص بن ميسرة وزاد بعد قوله بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه
قال أبو سعيد بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف وليس في حديث الليث فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين
ثم رواه من حديث هشام بن سعد قال حدثنا زيد بن أسلم نحو حديث حفص وقد زاد ونقص شيئا
وأخرجه البخاري من حديث زيد أيضا

وفي صحيح مسلم من حديث ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود فقال نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا
قلت صوابه على تلخيص كما جاء مفسرا أظن أن ذلك فوق الناس

قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتبعونه ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب أو حسك تأخذ من شاء الله ثم يطفىء نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة ويجعلون أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل وتذهب حراقه ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها
فهذه الأحاديث ونحوها اعتمدها هؤلاء الجهمية الإتحادية في قولهم أن الله يظهر في الصور كلها ويجعلونه ظاهرا في كل صورة من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك ليظهر في الصور كلها إذ هو الوجود كله عندهم وعندهم أن ذاته لا ترى بحال كما قال صاحب الفصوص في الحكمة الياسية

قال العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته بالله على التنزيه لا على التشبيه وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله فنزه في موضع وشبه في موضع فرأى سريان الحق في الصور الطبيعية العنصرية وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطانا مما في هذه النشأة من العقول لأن العاقل لو بلغ ما بلغ في عقله لم يخل عن حكم الوهم عليه والتصور فيما عقل فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت شبهت في التنزيه بالوهم ونزهت في التشبيه بالعقل فارتبط الكل بالكل فلم يتمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه قال تعالى ليس كمثله شيء فنزه وهو السميع البصير فشبه وهي أعظم آية أنزلت في التنزيه ومع ذلك لم تخل عن التشبيه بالكاف وهو أعلم

العلماء بنفسه وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه ثم قال سبحان ربك رب العزة عما يصفون وما يصفونه إلا بما تعطيه عقولهم فنزه نفسه عن تنزيههم إذ حددوه بذلك التنزيه وذلك لقصور العقول عن إدراك مثل هذا ثم جاءت الشرائع كلها بما تحكم به الأوهام فلم يخل الحق عن صفة يظهر فيها كذا قالت وبذا جاءت الرسل فعملت الأمم على ذلك فأعطاها الحق التجلي فلحقت بالرسل وراثة فنطقت بما نطقت به رسل الله وبعد أن تتصور هذا فترخى الستور وتدلى الحجاب على عين المنتقد والمعتقد والصور وإن كانت من بعض صور ما تجلى فيها الحق ولكن قد أمرنا بالستر ليظهر تفاضل استعداد الصور وأن المتجلي في صور بحكم استعداد تلك الصورة فينسب إليه ما تعطيه حقيقتها ولوازمها لا بد من ذلك إلى أن قال قال الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي المجيب فلا خلاف في اختلاف الصور فهما صورتان بلا مثل وتلك الصور كلها كالأعضاء لزيد فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة

مشخصة وإن يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهذا تكثير الواحد المكثر بالصور الواحد بالعين وكالإنسان واحد بالعين فلا شك أن عمرا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا فهو وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور والأشخاص وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه يتجلى في القيامة في صورة فيعرف ثم يتحول في صورة فينكر ثم يتحول عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلي وليس غيره في كل صورة ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقدة في الله عرفه فأقر به وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي
وهذا الحديث يبين فساد مذهبهم بضد ما توهموه من وجوه
أحدها أن ناسا سألوا رسول الله هل يرون ربهم يوم القيامة ولم يسألوه عن رؤيته في الدنيا فإن هذا كان معلوما عندهم أنهم لا يرونه في الدنيا وقد أخبرهم النبي بذلك كما روي ذلك عن النبي من وجوه

منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس وصالح عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم فلم يشعر حتى ضرب النبي ظهره بيده ثم قال رسول الله لابن صياد أتشهد أني رسول الله فنظر إليه ابن صياد

فقال أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد لرسول الله أتشهد أني رسوله الله فرضه رسول الله وقال آمنت بالله وبرسله ثم قال له رسول الله ماذا ترى فقال ابن صياد يأتيني صادق وكاذب فقال له رسول الله خلط عليك الأمر ثم قال له رسول الله إني قد خبأت لك خبأ فقال ابن صياد هو الدخ فقال له رسول الله اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذرني يا رسول الله أضرب عنقه فقال له رسول الله إن يكن هو فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله وقال سالم بن عبد الله سمعت عبد الله بن عمر يقول انطلق بعد ذلك رسول الله وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد حتى إذا دخل رسول الله النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة فرأت أم ابن صياد رسول الله وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد يا صاف هو اسم ابن صياد هذا محمد فسار ابن صياد فقال رسول الله لو تركته بين

قال سالم قال عبد الله بن عمر فقام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح ولكن أقول لكم قولا لم يقله نبي لقومه تعلموا إنه أعور وأن الله ليس بأعور
قال ابن شهاب وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبر بعض أصحاب رسول الله أن رسول الله قال يوم حذر الناس الدجال أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن وقال تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت
وقد روي هذا المعنى من وجوه أخر عن النبي ففرق النبي بين ما قبل الموت وما بعده وأخبر أنه لن يراه أحد قبل الممات في سياق بيانه لهم أن الدجال ليس هو الله كما ذكر لهم أنه أعور وأن ربهم ليس بأعور وذكر لهم مع ذلك أنهم لا يرون ربهم في الدنيا ليعلموا أن كل ما يرى في الدنيا ليس هو الله وهذا يرفع قول بعض الجهال المتقرمطة من هؤلاء أنه لن يرى ربه حتى يموت أي تموت نفسه وهواه فإن هذا وإن لم يكن هو مدلول اللفظ ولا يحتمله مثل هذا اللفظ فلو كان حقا لم يصح أن يكون دليلا لهم

على أن الدجال ليس هو ربهم فإنه إذا جوز عند موت هوى النفس أن يرى بعينه الله لم يصح حينئذ أن يكون ينفي عن كل مرئي بالعين في الدنيا أنه الله
واعلم أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وأهل السنة من جميع الطوائف متفقون على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة عيانا كما يرون الشمس والقمر كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي ومتفقون على أنه لا يراه أحد بعينه في الدنيا كما ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن حنبل عن إسحاق بن حنبل قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول إن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة ثبت في القرآن وفي السنة وعن أصحاب رسول الله والتابعين
وأما رؤية النبي وتنازع عائشة وابن عباس فقد بسطنا الكلام فيه في غير هذا الموضع وبينا أن الثابت عن ابن عباس ثم عن الإمام أحمد هو شيء واحد وهو إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وأما التقييد بأنه رآه بعينه فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد بن حنبل ونحوهما

وأما الأحاديث التي يرويها بعض الناس في أن النبي رأى ربه بالطواف أو بعرفة أو في بعض سكك المدينة فكلها كذب موضوعة باتفاق أهل العلم
وتنازع المتأخرون المنتسبون إلى السنة في الكفار هل يحجبون عنه في الآخرة مطلقا أو يرونه ثم يحجبون على ثلاثة أقوال
فقال طوائف من أهل الكلام والفقه وغيرهم من أصحاب مالك لا يرونه بحال وقالت طائفة منهم أبو الحسن بن سالم وغيره بل يرونه ثم يحجب عنهم كما يدل على ذلك أحاديث معروفة
وقال أبو بكر بن خزيمة بل يراه المنافقون من هذه الأمة دون غيرهم

وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وأما من سوى أهل السنة فلهم قولان متطرفان
أحدهما وهو قول الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة والمتفلسفة وغيرهم أنه لا يرى بحال بل رؤيته ممتنعة عندهم
والثاني قول بعض المتكلمين وبعض جهال الصوفية أنه يرى في الدنيا وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي عن بعض الصوفية ورد عليه
وكذلك حكاه الأشعري في المقالات عن طائفة منهم
ومن الناس من يجعل للأشعري نفسه في هذه المسألة قولين وبعض أصحابه جوزوا وقوع ذلك

وليس النزاع في إمكان ذلك وقدرة الله عليه فإن هذا لا نزاع فيه بين مثبتي الرؤية وإنما النزاع هل يقع ذلك في الدنيا فمن أصحابه من يسوغ وقوعه بحسب ما تدعو إليه الدواعي وقد يحصل ذلك لبعض الناس وهذا باطل مخالف للنصوص ولإجماع السلف والأئمة بل نفاة الرؤية مع كونهم مبطلين أجل من هؤلاء وهؤلاء أقرب إلى الشرك منهم وأما هؤلاء الاتحادية فهم يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس لها اسم ولا صفة ولا نعت إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له ويقولون إنه يظهر في الصور كلها وهذا عندهم هو الوجود الأسمى لا الذاتي ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء ويتجلى في كل موجود لكنه لايمكن أن ترى نفسه بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي ترى الأشياء فيه وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور
وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى وهم جميعا يحتجون بالحديث وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقا بلا ريب فلم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود
وقد تقدم قول صاحب الفصوص في الفص الشيثي وأن المتجلي

له لا يرى إلا صورته في مرآة الحق ولا رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد ترى الصورة فيها وهي لا ترى مع علمك أنك ما رأيت الصورة إلا فيها
وزعم أنك إذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن تترقى في أعلى من هذه الدرج فما هو ثم أصلا وهذا تصريح بامتناع الرؤية وهو حقيقة قولهم إذ هم من غلاة الجهمية ثم مع ذلك يجعلونه نفس الموجودات كما يقول صاحب الفصوص ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لنفسها وليست إلا هو وكذلك ابن سبعين يقول فعين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى
واعلم أن طائفة ممن يثبت الرؤية من أصحاب الأشعري بل وبعض المنتسبين إلى الإمام أحمد يفسرون الرؤية بنحو تفسير الجهمية كالمريسي والمعتزلة فيقولون هي زيادة علم وانكشاف بحيث نعلم ضرورة ما كان يعلم نظرا وهؤلاء يجعلونها من جنس العلم

وأرفع منهم من يجعلها مع تعلقها بالعين وكونها مشروطة بوجود المرئي من هذا النمط فيقول هي مجرد خلق إدراك في العين وأنه لا حجاب إلا المانع المضاد لها في محل الرؤية فإذا أزيل حصلت الرؤية كما أنه لا مانع من العلم إلا الجهل المضاد فإذا زال حصلت الرؤية ولضرار وحفص الفرد والنجار في نفس الرؤية أقوال قريبة من هذا ليس هذا موضعها وكل ذلك فرارا مما أخبر به الرسول من الرؤية

العيانية وهو قد أفصح بها غاية الإفصاح وأوضحها غاية الإيضاح وبين لهم أعظم رؤية يعرفونها وأنه يرونه كذلك فزالت الشبهة
وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الرؤية ومحرفيها من شيعي ومعتزلي وغيرهما وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية فقلت هي كلها مبنية على مقدمتين
إحداهما أن الرؤية تستلزم كذا وكذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما
والثاني أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم إما أن لا يكون لازما بل يمكن الرؤية مع عدمه وهذا المسلك سلكه الأشعري وطوائف كالقاضي أحيانا وابن عقيل وغيرهم لكن أكثر العقلاء يقولون إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة
وإما أن يكون لازما فلا يكون محالا فليس في العقل ولا في السمع ما يحيله بل إذا قدر أنه لازم للرؤية فهو حق لأن الرؤية حق قد علم ذلك بالإضطرار عن خير البرية أهل العلم بالأخبار النبوية
وهؤلاء الاتحادية لما فهموا قول هؤلاء الذين لا حقيقة للرؤية عندهم إلا زوال حجاب في الإنسان كالآفة التي فيه المانعة من الرؤية قالوا إنه يمكن زوال هذا الحجاب فتحصل المشاهدة وضموا ذلك إلى بقية أصولهم الفاسدة من أنه لي مباينا لعباده بل هو الوجود المطلق فقالوا يرى

في الظاهر وإن كانت ذاته لا ترى بحال
وهذا الكلام هو تعطيل للخالق ولرؤيته ودعوى الربوبية لكل أحد كما قال صاحب الفصوص ولما كان فرعون في منصب التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيهم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق
فإذا كان قد جعل فرعون صادقا في قوله أنا ربكم الأعلى وهو عنده عين الحق فالدجال أيضا أحق بهذا الصدق فإنه يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج الخربة كنوزها تتبعه
ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رجعنا إليه عرف ذلك فينا فقال ما شأنكم قلنا يا رسول الله ذكرت الرجال فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم

فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلوات يوم قال لا أقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأشبعه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلأ شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويهلل ووجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا

كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجات في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أن قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله وأصحابه فيرسل الله عليهم النفف في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت

فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض كلها حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون تحتها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت أباطهم فتفيض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة
وفي الصحيحين من حديث ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا سعيد الخدري قال حدثنا رسول الله يوما حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا قال يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول له أشهد أنك الدجال الذي حدثنا

رسول الله حديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن قال فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الوداك واسم أبي الوداك جبر بن نوف عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه مشايخ الدجال فيقولون له أين تعمد فيقول اعمد إلى هذا الذي خرج قال فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول ما هو بربنا حقا فيقولون اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس قد نهاكم ربكم من أن تقتلوا أحدا دونه قال فينطلقون به إلى

الدجال فإذا رآه المؤمن قال يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول الله فيأمر الدجال به فيشبح فيقول خذوه واشبحوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا فيقول أو ما تؤمن بي قال فيقول أنت المسيح الكداب قال فيؤمر به فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين قال ثم يقول له قم فيستوي قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة قال ثم يقول أيها الناس إنه لا يفعل هذا بعدي بأحد من الناس قال فيأخذ الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا قال فيأخذه بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس إنما قذفه في النار وإنما ألقي في الجنة
فقال رسول الله هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين فإذا كان فرعون صادقا في قوله أنا ربكم الأعلى مع أنه لم يأت بشبهة

صادقة فالدجال أحق أن يكون صادقا على قول هؤلاء ويكفيك بقوم ضلالا أن يكون فرعون والدجال صادقين على مذهبهم وهما أعظما عدو لله من الإنس وأعظم الخلق فرية في دعوى الإلهية ولهذا أنذرت الرسل جميعها بالدجال وأما فرعون فلم يذكر الله في القرآن قصة كافر عدو له أكثر وأكبر من قصته ومعلوم أن موسى وعيسى هما الرسولان الكريمان صاحبا التوراة والإنجيل وموسى أرسل إلى فرعون وعلى يديه كان هلاكه والدجال ينزل الله إليه عيسى بن مريم فيقتله فيقتل مسيح الهدى الذي قيل أنه الله مسيح الضلالة الذي يزعم أنه الله ولما كانت دعواه الربوبية ممتنعة في نفسها لم يكن ما معه من الخوارق حجة لصدقه بل كانت محنة وفتنة يضل الله بها من يشاء ويهدي من يشاء كالعجل وغيره لكنه أعظم فتنة وفتنته لا تختص بالموجودين في زمانه بل حقيقة فتنته الباطل المخالف للشريعة المقرون بالخوارق فمن أقر بما يخالف الشريعة لخارق فقد أصابه نوع من هذه الفتنة وهذا كثير في كل زمان ومكان لكن هذا المعين فتنة أعظم الفتن فإذا عصم الله عبده منها سواء أدركه أو لم يدركه كان معصوما مما هو دون هذه الفتنة فكثير يدعون أو يدعى لهم الإلهية بنوع من الخوارق دون هذه
وآخرون يدعون النبوة وآخرون يدعون الولاية أو المهدية أو ختم الولاية أو الرسالة أو المشيخة وقد رأيت من هؤلاء طوائف
وفي الصحيحين من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي

هريرة عن النبي قال لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله
وفي الصحيح عن سماك عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله يقول إن بين يدي الساعة كذابين
قال سماك وسمعت أخي يقول قال جابر فاحذروهم
وقد روى مسلم في أوائل الصحيح من وجهين عن مسلم بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم

وهذا كما يدخل فيه من يحدث عن غيره فالذي يقول إنه يحدث عن قلبه عن ربه أو أنه يأخذ عن الله بلا واسطة وأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يوحى به إلى الرسول وأنه يحدث بمقتضى الأقيسة القطعية أولى فإن هذا يدعي ما هو عنده أعلى وإن كان له نصيب من قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله
وقد سأل بعضهم مالكا عن بعض من كان بالعراق من هؤلاء المبطلين فقال كلمة أو كلاما فيه هؤلاء الدجاجلة قال ما سمعت جمع دجاجلة إلا من مالك
وأصل الدجل التغطية والتمويه والتلبيس ومعلوم أن أتباع مسيلمة

الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي وسجاح كانوا مرتدين وقد قاتلهم أصحاب رسول الله مع أن مسيلمة إنما ادعى المشاركة في النبوة لم يدعي الألوهية ولا أتى بقرآن يناقض التوحيد بل جاء بكلام يتضمن ما ادعاه من الشركة في الرسالة وأسجاع من الكلام الذي لا فائدة فيه ولهذا قال أبو بكر لبعض بني حنيفة وقد استقرأهم شيئا من قرآن مسيلمة فلما قرأوه قال ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا الكلام لم يخرج من إل

وذلك نحو قوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين
وقوله والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا أهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ولكن قريش قوم لا يعدلون
وقوله والفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل
ولما كتب إلى رسول الله من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني أشركت في الأمر معك فكتب النبي يقول من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإنك لو سألتني بياض هذه ما أعطيتك إياه
فمن ادعى أنه مؤمن بما يقوله هؤلاء وإن اتبع الرسول في الشرائع مع مشاركته له في مشاهدة ذلك فهو فوقه في التحقيق والعلم بالله لأنه يأخذ من حيث الملك الذي يوحي به إلى الرسول
فلا ريب أن هذا القول أعظم فرية من قول مسيلمة الكذاب لكن هؤلاء لم يكونوا طائفة ممتنعة يدا ويحاربون فيها المسلمون بل هم موافقون

في الظاهر على أنه لا رسول إلا محمد وأكثر أتباعهم لا يعلمون أن هذا قول رئيسهم
ثم منهم قوم منافقون لا يجهرون بذلك بين المسلمين كما كان مسيلمة يجهر بدعواه النبوة حتى كان مؤذنه يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله ومن هؤلاء من هو في الباطن أكفر من المشركين فضلا عن أهل الكتاب ومنهم قوم يقرأون الكتب المتضمنة لذلك علانية وقد لا يفهمون ما فيها من الكفريات
وقد قال لي أفضل شيوخ هؤلاء بالديار المصرية لما أوقفته على بعض ما في هذا الكتاب مثل هذا الموضع وغيره فقال هذا كفر وقال لي في مجلس آخر هذا الكتاب عندنا من أربعين سنة نعظمه ونعظم صاحبه ما أظهر لنا هذه المصائب إلا أنت
ومنهم طائفة قد لا يكونون متعمدين الكذب لكنهم ملبوس عليهم الضلالة بحيث يظنون أن الرسول لم يعلم الحقائق وإنما علم الأعمال الظاهرة ويشركون في ذلك إخوانهم من المتفلسفة في نحو ذلك وتجد هؤلاء لا يعتمدون على الأمور العلمية والمسائل الخبرية عن الله تعالى وأسمائه وصفاته على كلام الله ورسوله وهذا من أصول الضلال التي وقع فيها أو في بعضها طوائف من أهل الزيغ والمنافقين
ومنهم طائفة يتأولون بعض هذه المقالات الكفرية إذا خاطبهم الجاهل الذي لا يفهم ما فيها أو يفوضون علمها إلى الشيخ ويقولون الشيخ أعلم

بما قال كأنه نبي معصوم مع كثرة ما في كلامه من الباطل والكذب والجهل وإن لم يكن كفرا مع ما فيها من الكفر بل قول هؤلاء يتضمن تعطيل التوحيد وحقيقة الرسالة وهما أصلا الإسلام
وقد تتضمن أيضا تعطيل الإيمان بما في اليوم الآخر من الثواب والعقاب بل ويتضمن أيضا تعطيل ما جاءت به الرسل من الأمر والنهي فهذه أصول الإيمان في كل ملة وزمان الإيمان بالله ورسله وباليوم الآخر والعمل الصالح قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبييين
وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
وفي حديث جبريل الذي في الصحيح من حديث أبي هريرة في مسلم ومن حديث عمر وهو طويل في أول مسلم قال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره

وشره وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة
وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
وقال تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
ولما كان هؤلاء من إخوان القرامطة الفلاسفة الباطنية وأولئك بدلوا الأصول الثلاثة التي هي أصول السعادة في كل ملة الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح كما ذكر ذلك في سورة البقرة والمائدة فذكر الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين بقوله تعالى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي البقرة فلهم أجرهم عند ربهم
فالقرامطة فالقرامطة الذين يضاهئون الصابئة الفلاسفة والمجوس الثنوية عطلوا وحرفوا الإيمان بالله وكذلك الإيمان باليوم الآخر وكذلك العمل الصالح حتى جعلوا ما جاءت به الشريعة من أسماء الأعمال إنما هي رموز

وإشارات إلى حقائقهم كقولهم إن الصلاة معرفة أسرارنا والصيام كتمان أسرارنا والحج زيارة شيوخنا المقدسين وأمثال ذلك كان في كلام هؤلاء من التعطيل والتحريف للإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ما ضاهوهم به وكما أن مذهب القرامطة وإلحادها ونفاقها لم يكن يظهر ابتداء لمن اتبعهم من الشيعة بل كانوا أولئك يظنون أنهم متبعون للشريعة وكان في الشيعة من البدعة من والوهم عليه مع تمسك الشيعة بما هم عليه من الإسلام كذلك قول هؤلاء لا يظهر ابتداء لمن اتبعهم من مفرط في معرفة السنة من متجهم ضعيف في التصوف أو في التفقه بل يكون فيه من البدعة والأهم عليه وهو متمسك بما هو عليه من الإسلام ولكن المحققون منهم لطريقهم هم الذين يصيرون مثل القرامطة كما قيل لأفضل محققيهم وقد قرىء عليه الفصوص هذا يخالف القرآن فقال القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا
وقال لا فرق بين الزوجة والأم عندنا ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا عليكم
ولهذا تجد المحقق منهم يستحل المحرمات من الخمر والفواحش وترك

الصلوات والكذب وموالات اليهود والنصارى بل يكون أعظم شرا في الباطن من اليهودي والنصراني المتمسك بشريعته المبدلة المنسوخة ولكن في اليهود والنصارى من هو شر منهم لموافقته لهم على هذا الإلحاد ولما كانت القرامطة إنما لبسوا على الناس بدخولهم من باب موالاة أولياء الله من أهل البيت كذلك دخل هؤلاء من من باب موالاة أولياء الله ولما كان في غلاة الشيعة من يعتنق نبوة علي أو ألوهيته وكان أيضا في غلاة المتنسكة من يعتقد في بعض المشايخ إلاهية أو نبوة كان هؤلاء كذلك وزادوا على ذلك حيث جعلوا خاتم الأولياء أعلى من جميع الأنبياء والرسل حتى خاتم الرسل وجعلوا الإلهية في كل شيء
ولما كان للقرامطة في الدعوة مراتب كذلك لهؤلاء في إلحادهم مراتب فأول ذلك زعمهم أن الولاية أفضل من النبوة والنبوة أفضل من الرسالة وينشدون
... مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي ...
وهذا مما يبوحون به لعوامهم ويناظرون الناس عليه ويقولون ولاية النبي أفضل من نبوته ونبوته أفضل من رسالته لأن ولايته اتصاله بالله والنبوة إخبار الحق له والرسالة تبليغه للناس والأول أرفع فهذه مقدمة
ثم يقولون والولاية باقية إلى يوم القيامة وتلك الولاية بعينها التي

كانت للرسول هي باقية في أمته فتارة يقولون هي في كل زمان لشخص وتارة يقولون هي لخاتم الأولياء
وهؤلاء قد يعظمون الإمام أحمد جدا والشيخ عبد القادر جدا فإن ابن عربي يعظم هذين جدا وينتسب في الخرقة إلى الشيخ عبد القادر وهم يغلون في ذلك حتى أنه كان كثير من شيوخهم له غلو في الشيخ عبد القادر فأخذ يفسر ما ينقل عنه من أنه قيل له يا سيد الخلق بعد الحق وأصحابه المقتصدون يفسرون ذلك بسيد أهل زمانه فزعم هذا الشيخ أنه سيد الخلق مطلقا بناء على أن الولاية المحمدية قائمة به ومن اتصف بها كان السيد مطلقا وجرى هذا بمجلس كنت فيه وكان فيه أحد المشايخ من أولاد الشيخ عبد القادر وهو رجل مسلم لا يعتقد شيئا من هذا لكن ذكر صاحب المجلس هذا عن ذلك الشيخ الغالي وأن آخر رد عليه وكان هذا الراد قد اعتدى علينا فقلت الصواب مع هذا الراد كائنا من كان فإن الحق يجب اتباعه من كل أحد والباطل يجب رده على كل أحد وهذا باطل ما يقوله مسلم فإن الولاية القائمة بالنبي هي بعينها لا تنتقل إلى أحد وأما مثلها فلم يحصل لأبي بكر وعمر ولا لأحد من الأنبياء والرسل

فضلا عن أن تحصل للشيخ عبد القادر أو غيره وهذا من جنس ما تدعيه الرافضة الإمامية من العصمة عن علي وغيره ويجعلونهم مثل رسول الله وكان بالشام طائفة منهم سألوا مرة أبا البقاء خلف بن يوسف النابلسي الشيخ المحدث المشهور فقالوا يا زين الدين أنت تقول إن مولانا أمير المؤمنين عليا ما كان معصوما فقال ما أخفيكم شيئا وكان يقول مثل هذا كثيرا أبو بكر وعمر عندنا خير منه وما كانا معصومين
وأقبح من غلو هؤلاء ما كان عليه المتسمون بالموحدين في متبوعهم الملقب بالمهدي محمد بن التومرت الذي أقام دولتهم بما أقامها به من الكذب والمحال وقتل المسلمين واستحلال الدماء والأموال فعل الخوارج المارقين ومن الإبتداع في الدين مع ما كان عليه من الزهد والفضيلة المتوسطة ومع ما ألزمهم به من الشرائع الإسلامية والسنن النبوية فجمع بين خير وشر لكن من أقبح ما انتحلوه فيه خطبتهم له على المنابر بقولهم الإمام المعصوم والمهدي المعلوم
وبلغني أن بعض عقلاء خلفائهم جمع العلماء فسألهم عن ذلك فسكتوا

خوفا لأنه كان من تظاهر بإنكار شيء من ذلك قتل علانية إن أمكن وإلا قتل سرا ويقال أنهم قتلوا القاضي أبا بكر بن العربي والقاضي عياضا السبتي وغيرهما
وجهالهم يغلون في ابن التومرت حتى يجعلوه مثل النبي وينشدون
... إذا كان من بالشرق في الغرب مثله ... فللوا له المشتاق أن يتحيرا ...
وهم يقولون في الخطبة الذي أيد بالحكمة فكان أمره حتما واكتنف بالعدل اللائح والنور الواضح الذي ملأ الأرض فلم يدع فيها ظلاما ولا ظلما
وقد اتفق المسلمون على أنه ليس من المخلوقين من أمره حتم على الإطلاق إلا الرسل الذين قال الله تعالى فيهم وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وأما من دونهم فيطاع إذا أمر بما أمروا به وأما إذا أمربخلاف ذلك لم يطع كما في الصحيحين عن النبي أنه قال من

أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني
وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي أنه بعث أميرا على سرية قال على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية الله فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة
وقد قال الصديق رضي الله عنه لما تولى أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق
وقال أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وبلغني أن ذلك المستخلف لما جمع العلماء وسألهم عن قولهم المعصوم وأمسك الأكثرون قام بعضهم فقال قد أجمع المسلمون وأهل السنة أو العلماء أو كما قال على أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وأجمعوا أنه لم يكن معصوما وانفض المجلس على بطلان قولهم المعصوم وأزيلت من المنابر إما من ذلك المجلس أو غيره وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا معصوم في الأمة غير رسول الله
وقول بعضهم النبي معصوم والولي محفوظ إن أراد بالحفظ ما يشبه العصمة فهو باطل وهذا باب دخل منه الضلال على طوائف ضاهوا النصرانية

كما قال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
وقد روي عن النبي أنه قال أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فكانت تلك عبادتهم
وقال تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا هذا حق الخالق
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وهذا حق المخلوق فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون
فتارة يجعلون في المعظمين من البشر نوعا من الإلهية وهذا قد ظهر قبحه وبطلانه أكثر من القسم الثاني وهو أنهم يضاهون بالرسل المعظمين من غير الرسل وكل من هذين خلل في الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين والمرسلين

وأما الغلاة من الرافضة وأشباههم الذين يصرحون بعصمة من يعظمونه من الأئمة والمشايخ والعلماء فضلا لهم أظهر من ضلال طائفة أخرى وهم لا يقولون أنهم معصومون لكن يعاملونهم معاملة المعصوم حتى قد يعادى أحدهم من يقول عن أحدهم أنه أخطأ وإن كان القائل معظما لمن قال ذلك فيه مكرما له مجلا له ولم يقل ذلك على وجه الانتقاص ولكن البيان أنه لا معصوم إلا رسول الله وأن من سواه يصيب ويخطىء بل قد يستحل عقوبته أو أذيته للقول الذي أجمع أئمة الدين على أنه الحق الذي يجب اعتقاده كما قال النبي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في تعبير الرؤيا أصبت بعضا وأخطأت بعضا والحديث في الصحيحين وكما قال لما ذكرت له سبيعة عن أبي السنابل بن بعكك أنه قال ما أنت بناكحة حتى تعتدي الأجلين فقال كذب أبو السنابل حللت فانكحي
وهذه الفتيا قد أفتى بها علي وابن عباس

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وفي الترمذي لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وقال ابن عمر ما سمعت عمر يقول لشيء كذا وكذا إلا كان كما كان يقول
وقال علي كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر
ومع هذا فقد كان الصديق الذي هو أفضل منه يقومه في أشياء كثيرة كما قومه يوم صلح الحديبية ويوم موت النبي بل كان آحاد الناس يبين

له الصواب فيرجع إلى قوله كما راجعته امرأة في قوله لئن بلغني أن أحدا زاد على صداقه أزواج النبي وبناته إلا رددت الفضل في بيت المال فقالت له امرأة لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه وقرأت قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فرجع إلى قولها وأمثال هذا ولما كان أهل العراق يحتجون على الشافعي بقول علي وعبد الله جمع كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكر كثيرا من المسائل التي ترك الناس فيها قولهما والسنة بخلاف ذلك وأعظم الناس موافقة للسنة أبو بكر الصديق فإنه لا يكاد يحفظ له مسألة يخالف بها النص كما حفظ لغيره من الخلفاء والصحابة ومع هذا فقد قال له النبي ما تقدم ذكره وهذا كله لاينازع فيه أحد من أهل العلم والدين ولكن ابتلى المسلمون بجهال وضلال يدعون الحقائق والأحوال وهم لم

يعرفوا معرفة عموم المسلمين من النساء والرجال
وأما الرسول فعصمته فيما استقر تبليغه من الرسالة باتفاق المؤمنين كما قال الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم
وليس هذا موضع ذكر تنازع الناس هل كان الإلقاء في السمع أو في اللفظ إذ لا نزاع بين الأئمة في أنه لا يقر على ما هو خطأ في تبليغ الرسالة فإن معصوم الرسالة لا يحصل مع تجويز هذا
وأما تنازع الناس في غير هذا كتنازعهم في وقوع الخطأ والصغائر فإنهم أيضا لا يقرون على ذلك فإذا قيل هم معصومون من الإقرار على ذلك كان في ذلك احتراز من النزاع المشهور بل إذا كان عامة السلف والأئمة وجمهور الأمة يجوز ذلك على الأنبياء ويقولون هم معصومون من الإقرار على الذنوب ويقولون وقوع ما وقع إنما كان لكمال النهاية لا لتفضيل البداية فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين كما دل الكتاب والسنة والآثار على ذلك
وما في ذلك من التأسي والاقتداء بهم فكيف يغيرهم لكن غيرهم ليس معصوما من الإقرار على خطأ إذ أفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون ولا يقدح في صديقيتهم وقوع الخطأ منهم بل لولا ذلك لكان الصديق

بمنزلة النبي والذين يغلون في هؤلاء هو أن قصد تعظيمهم بذلك فيه غض ونقص بمن هو خير منهم وهم الأنبياء والرسل كما أن الذي يغلو في الأنبياء والرسل يكون غلوه عيبا وغضا بالألوهية كما قال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
وفي الصحيحين عنه أنه قال لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله ولا النبي الأمي تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

وهؤلاء يسبون الله كما كان معاذ بن جبل يقول لا ترحموهم فقد سبوا الله مسبة ما سبه بها أحد من البشر
وفي الصحيح عن النبي أنه قال ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم وفي الصحيح أيضا عن النبي أنه قال يقول الله تعالى شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله أن لي ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته
والله سبحانه وتعالى له حقوق لا يشركه فيها أحد ورسله لهم حقوق لا يشركهم فيها غير الرسل والإقرار بهذين هو أصل الإسلام فحق الله تعالى أن نعبده ولا نشرك به شيئا كما في الصحيحين عن معاذ بن جبل قال

قال النبي يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال أن لا يعذبهم وقد أخبر الله سبحانه عن كل من المرسلين كنوح وهود وصالح أنه قال اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال فاتقوا الله وأطيعون وقال ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون فالطاعة لله ولرسله المبلغين عنه كما قال تعالى ومع يطع الرسول فقد أطاع الله
وأما الخشية والتقوى فلله وحده وقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا فالتسبيح لله وحده والتعزير والتوقير للرسول والإيمان بالله ورسوله وقال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقال تعالى فلا تخشوا الناس

واخشون وقال إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال عن إبراهيم فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له وقال تعالى واذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون
وقال فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له وقال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقال ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
ومثل هذا في القرآن كثير بل هذا هو أصل المقصود بالقرآن وأما

الرسول فقد قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم
وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره وقال تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله
ففي التوكل قالوا حسبنا الله ولم يقولوا ورسوله وفي الإيتاء قالوا سيؤتينا الله ورسوله لأن الإيتاء المحمود لا بد أن يكون مما أباحه الرسول وأذن فيه مبلغا عن الله وإلا فمن أوتي ملكا أو مالا غير مأذون له فيه شرعا كان معاقبا عليه وإن جرت به المقادير إذ يجب الفرق بين الإيتاء الكوني والديني كما يجب الفرق بين القضاء الكوني والديني والأمر الكوني والديني والحكم الكوني والديني والإرادة الكونية والدينية والكلمات الكونية والدينية والإذن الكوني والديني والبعث الكوني والديني والإرسال الكوني والديني وأشباه ذلك مما دل القرآن على الفرق بينهما فما كان موافقا للشريعة التي بعث بها رسوله فهو الدين الذي يقوم

به المؤمنون وما كان مخالفا لذلك وإن كان قدره الله ويكون شرا في حق صاحبه وعقوبة وكان عاقبته فيه عاقبة سوء فإن العاقبة للمتقين ولا حجة لأحد بالقدر بل المحتج به حجته داحضة والمعتذر به عذره غير مقبول وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وأبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون وقال تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
وقال تعالى واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير
وقال تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب
وقد ذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن فهذا وأمثاله من حقوق الرسول
وأما المؤمنون وولاة الأمور من العلماء والأمراء ومن يدخل في ذلك من المشايخ والملوك فلهم حقوق بحسب ما يقومون به من الدين فيطاعون في طاعة الله ويجب له من النصيحة والمعاونة على البر والتقوى وغير ذلك ما هو

من حقوقهم لعموم المؤمنين أيضا من المناصحة والموالاة وغيرها من الحقوق ما دل عليه الكتاب والسنة وليس هذا موضع تفصيل ذلك
وكل من جعل غير الرسول بمنزلة الرسول في خصائص الرسالة فهو مضاه لمن جعل معه رسولا آخر كمسيلمة ونحوه وإن افترقا في بعض الوجوه ثم يكون هؤلاء شرا إذا فضلوا متبوعهم على الرسول وقد يكون اتباع مسيلمة شرا إذا كان متبوع هؤلاء مؤمنا بالله ورسوله ولم يفضلوه على الرسول
ولما أظهرت ما في كتب هؤلاء من النفاق والإلحاد أخذ بعض من يقول بتفضيل الولي على الرسول ونحو ذلك يتأولون ذلك على ما تقدم ذكره من تفضيل ولاية الرسول على نبوته ورسالته حتى خاطبني في ذلك بعضهم وأخذ يتأول كلام ابن عربي في استفادة الأنبياء والرسل من مشكاة ناره لأنه هو ولاية الرسول والرسل يستفيدون من مشكاة خاتم الرسل فيلزم أنهم يستفيدون من مشكاة خاتم الأولياء فأخذت أولا أوقفه على ألفاظ ابن عربي المتقدمة التي كتبتها هنا حيث ذكر فيها إن هذا العلم الذي هو تحقيقهم وتوحيدهم وحقيقته التعطيل ليس إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى أن الرسل لا يروونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا

يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بمن دونهم من الأولياء وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فلذلك لا يقدح في مقدمه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أعلى ومن وجه يكون أنزل
فقد صرح في هذا الكلام بعد أن زعم أن الأنبياء والرسل لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الرسل وأن الأنبياء والرسل أيضا لا يرونه أيضا إلا من مشكاة خاتم الأولياء لكونهم أيضا أولياء ثم أعاد قوله فقال فالمرسلون من كونهم أيضا أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء
وهذا تصريح بأن ولايتهم القائمة بهم دون ولاية خاتم الأولياء ضد ما يتظاهرون به ثم صرح بأن خاتم الأولياء أعلى من خاتم الأنبياء من وجه وصرح فيما بعد بأنه موضع لبنتين
فقال فهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره ومايتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه فإنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا
فزعم أنه مع متابعته له في الأحكام الظاهرة يأخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه وهذا مقام مسيلمة الكذاب

ولا ريب أن هارون وإن كان نبيا مع موسى فلم يكن معه بهذه المنزلة بل كان موسى يبلغه عن الله ما لم يكن يأخذه هارون عن الله وهذا ادعى أنه مع محمد فوق ما كان هارون مع موسى ولم يرض بذلك بل هذا في الأحكام الظاهرة فقط وهذا أيضا مقام الذين إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله وهذا يزعم أنه قد أوتي مثل ما أوتي رسل الله
ثم قال وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول
فزعم أنه يأخذ من فوق الملك والرسول يأخذ من الملك فهو أعلى منه في أعلى القسمين وهو علم التحقيق والمعرفة كما قال في أثناء كلامه فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله فهناك مطلبهم وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها
وإذا كان متقدما على الرسول في أعلى القسمين وهو العلم ومشارك له في العلم بالأحكام فمعلوم أن مسيلمة الكذاب لم يدع مثل هذا ولا

المختار بن أبي عبيد الكذاب الذي ثبت فيه الحديث الذي في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي أنه قال وسيكون في ثقيف كذاب ومبير
فالمبير كان هو الحجاج
والكذاب هو المختار بن أبي عبيد
وقد قيل لابن عمر أو لابن عباس أن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق وإن الشياطين ليوحون إلى اوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون
وقيل لآخر إن المختار يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
فلما اربت هذا لمن كان يعظمهم غاية التعظيم ويتأول كلامهم على

ما تقدم انبهر حيث رآه قد صرح بالتفضيل على النبي وعلى جميع الأنبياء وأنهم يأخذون من مشكاة ولاية نفسه لا من ولاية الرسول ثم بينت له بطلان تلك الأصول بأن أحدا من الرسل لم يأخذ عن الآخر هذا العلم لوجهين
أحدهما أن هذا إلحاد وتعطيل لا يعتقده إلا زنديق فكيف يعتقده رسول
الثاني أن الرسل أوصى الله إليهم وعلمهم ما علمهم لم يحلهم في ذلك على من يخلق بعد فقد تيقن أن قول هؤلاء يستلزم قول الدجال بخلاف مسيلمة ونحوه ممن تعمد للكذب وبخلاف القرامطة وما استلزم الباطل فهو باطل
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من اربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال
وفي لفظ له وإذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال
وفي رواية طاوس سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله عوذوا

بالله من عذاب النار عوذوا بالله من عذاب القبر عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات وروى الأعرج عن أبي هريرة مثله
وفي إفراد مسلم عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول قولوا اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات
قال مسلم بلغني أن طاوسا قال لابنه دعوت بها في صلاتك قال لا قال أعد صلاتك
وهذا الذي ذكره عن طاوس قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم يرون وجوب هذا الدعاء ولا ريب أنه أوكد الأدعية المشروعة في هذا الموضع فإن النبي لم ينقل عنه أنه أمر بدعاء بعد التشهد إلا هذا الدعاء وإنما نقل عنه أنه كان يقول أدعية مشروعة وأمره

أوكد من فعله باتفاق المسلمين ولهذا كان الذين ذكروا هذا الدعاء في هذا الموضع من المصنفين أعلم بالسنة واتبع لها ممن ذكر غيره ولم يذكره
وقد ثبت عن النبي أنه أمر أصحابه بهذا التعوذ خارج الصلاة أيضا وقد جاء مطلقا ومقيدا في الصلاة ومعلوم أن ما ذكر معه من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات أمر به كل مصل إذ هذه الفتن مجرية على كل أحد ولا نجاة إلا بالنجاة منها فدل على أن فتنة الدجال كذلك ولو لم تصب فتنته إلا مجرد الذين يدركونه لم يؤمر بذلك كل الخلق مع العلم بأن جماهير العباد لا يدركونه ولا يدركه إلا أقل القليل من الناس المأمورين بهذا الدعاء وهكذا إنذار الأنبياء إباه أممهم حتى أنذر نوح قومه يقتضي تخويف عموم فتنته وإن تأخر وجود شخصه حتى يقتله المسيح بن مريم عليه السلام وكثيرا ما كان يقع في قلبي أن هؤلاء الطائفة ونحوهم أحق الناس باتباع الدجال فإن القائلين بالإتحاد أو الحلول المعين كقول النصارى في المسيح والغالية الهالكة في علي أوفيه وفي غيره كما ذهب إلى ذلك طوائف من غلاة الشيعة وغلاة المتصوفة لا يمتنع على قولهم أن يكون الدحال ونحوه هو الله فكيف القائلون بالوحدة أو الإتحاد أو الحلول المطلق الذين يجعلون فرعون والعجل والأصنام وغير ذلك هي عين الحق كما تقدم
وقد كان يعرض لكثير من الناس إشكال في كون النبي قال في الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور فقالاي حاجة إلى نفي ربوبيته

بدليل العور مع كثرة الأدلة التي يعلم بها كذبه وكذب كل بشر قال إنه الله حتى أن طائفة من أهل الكلام إخوان أولئك الإتحادية في النفي كالرازي كذبوا هذا الحديث وقالوا النبي أجل من أن يحتاج في نفي الربوبية إلى أن يدل أمته بهذا
واعلم أن الحديث ثابت متفق عليه مستفيض من وجوه
منها حديث ابن عمر المتقدم الذي سقناه في مسلم وهو في الصحيحين وفيه فقام رسول الله في الناس فأثنى على الله بما هو له أهل ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور وفي لفظ أن رسول الله ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ما من نبي إلا قد أنذر أمته الأعور الكذاب إلا إنه أعور وأن ربكم ليس بأعور بين عينيه ك ف ر

وفي رواية مكتوب بين عينيه ك ف ر أي كافر
وفي رواية الدجال ممسوح العين مكتوب بين عينيه كافر أتهجاها ك ف ر يقرؤه كل مسلم
وفي الصحيح من حديث حذيفة إن الدجال مسموح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب
واعلم أن النبي لم يقل أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور لأن ذلك وحده هو الدليل على كذبه وامتناع دعواه وأنه لولا العور لم تكن هناك أدلة أخرى يبين ذلك أنه قال لأقولن لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور
ولو كان هذا هو الدليل وحده على نفي ربوبيته لم يعلم كذبه بدون ذلك لوجب على الأنبياء كلهم أن يبينوا ذلك لوجوب بيان كذبه عليهم بل قد ذكر مع ذلك أدلة أخرى منها
أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن
ومنها أن أحدا منا لن يرى ربه حتى يموت

ومنها أن جنته نار وناره جنة كما في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله ألا أخبركم عن الدجال حديثا ما حدث به نبي قومه إنه أعور وأنه يجيء معه مثل الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه
وفي الصحيح أيضا عن حذيفة وعقبة بن عامر عن النبي قال الدجال يخرج وأن معه ماء ونارا فالماء الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد وعذب من أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب
ذكر هذه العلامات الظاهرة فإن فتنة الدجال أعظم فتنة تكون في الدنيا
وفي الصحيح عن هشام بن عامر سمعت رسول الله يقول ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال وهو يخرج بعد

بلاء شديد يصيب الناس وشبهات عظيمة مع رغبة عظيمة ورهبة عظيمة ويتبعه أكثر الناس حتى اليهود مع دعواهم الكتاب هم أكثر الناس تبعا له
كما جاء في الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله قال يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون الفا عليهم الطيالسة
وإذا كان قوم موسى قد عبدوا العجل واعتقدوا أنه الله وفيهم هارون نبي الله نهاهم فلم ينتهوا حتى رجع إليهم موسى وألقى الألواح
والنصارى فهم متفقون على أن المسيح هو الله تعالى الله علوا كبيرا ويقولون مع ذلك هو ابن الله
أيضا فكيف يمتنع على قولهم أن يقال ذلك في بشر
وهؤلاء الذين يدعون الفلسفة والكلام والتصوف وهم يدعون أنهم أكمل الناس معرفة بالتوحيد والتحقيق وأتبع الناس للشريعة وغيرها ويفضلون أنفسهم على الرسل ولا ريب أنهم من أحذق الناس في الفلسفة ويقولون أنه يظهر في كل صورة ويقولون أن عباد العجل ما عبدوا إلا الله كما قال ابن عربي في الفصوص ثم قال هارون لموسى عليهما السلام إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل فتجعلني سببا في تفريقهم فإن عبادة العجل ظهرت بينهم فكان فيهم من عبده إتباعا للسامري

وتقليدا له ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه عن ذلك فخشي هارون أن ينسب ذلك التفريق بينهم إليه فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء
إلى أن قال فكان عدم قوة أرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسلط على العجل كما تسلط موسى عليه حكمة من الله تعالى ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية فإذا كان الأمتان الكتابيتان اليهود والنصارى اعتقدوا ما تقدم في إنسان وعجل
وكذلك الغلاة من هذه الأمة المضاهون لكفار أهل الكتاب وهؤلاء الصابئة الفلاسفة وإن انتسبوا إلى الملل يقولون ما هو أبلغ من ذلك من ظهوره في كل صورة فيكيف بمن هو أبعد من هؤلاء الطوائف عن العلم والإيمان ولهذا لا يخلص من فتنة الدجال إلا المؤمنون صرفا من أمة محمد

وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الإتحادية زهدا ومعرفة ورياضة وكان من أشد الناس تعظيما لابن سبعين ومفضلا له عنده على ابن عربي وغلامه ابن إسحاق وأكثر الناس من الكبار والصغار كانوا يطيعون أمره وكان أصحابه الخواص به يعتقدون فيه أنه الله وأنه أعني ابن هود هو المسيح بن مريم ويقولون إن أمه كان اسمها مريم وكانت نصرانية ويعتقدون أن قول النبي ينزل فيكم ابن مريم هو هذا وأن روحانية عيسى تنزل عليه
وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس إذ ذاك معرفة بالعلوم الفلسفية وغيرها مع دخوله في الزهد والتصوف وجرى لهم في ذلك مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها جرت بيني وبينهم حتى بينت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا وبينت فساد ما دخلوا فيه من القرمطة حتى ظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذا لا يكون ولا يتم وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ فأبر الله تلك الأقسام والحمد لله رب العالمين هذا مع تعظيمهم لي

بمعرفتي عندهم وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون جهال بحقيقتهم وغوامضهم وإلا فمن كان عند هؤلاء يصلح أن يخاطب بأسرارهم إنما الناس عندهم كالبهائم حتى قال لي شيخ مشهور من شيوخهم لما بنت له حقيقة قولهم فأخذ يستحسن ويعظم معرفتي بقولهم وقال هؤلاء الفقهاء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فقلت له هب أن الفقهاء كذلك أبا لله أهذا القول موافق لدين الإسلام فيتحير المجتهدون ويضطربون إذا شبه عليهم
وقال لي بعض من كان يصدق هؤلاء الإتحادية ثم رجع عن ذلك فكان من أفضل الناس ونبلائهم وأكابرهم ما المانع من أن يظهر الله في صورة بشر والنبي يقول في الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور فلولا جواز ظهوره في هذه الصورة لما احتاج إلى هذا في كلام له وأخذ يحتج بذلك على إمكان أن يكون ابن هود الله فبينت له امتناع ذلك من وجوه وتكلمت معه في ذلك بكلام طال عهدي به لست أضبطه الآن حتى تبين له بطلان ذلك وذكرت له أن هذا الحديث لا حجة فيه والله سبحانه قد بين عبودية المسيح وكفر من ادعى فيه الإلهية بأنواع غير ذلك كقوله تعالى ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فأكل الطعام لازم لكل بشر

وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا
وقال تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم
وقال تعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأمثال ذلك واعلم أن ما تذكره النفاة المدعون للتنزيه من المتفلسفة والمتكلمة على نفي كونه جسما أو جوهرا أو متحيزا أو منقسما أو كونه في جهة أو متحركا ونحو ذلك لم يفدهم شيئا من هذا العام ولا أوجب اعتقاد نفي الإلهية في المسيح والدجال فإن هؤلاء بعينهم هم الذين يعتقدون إلاهية المسيح الدجال والمسيح بن مريم ونحوهما مع تصريحهم بوصف الرب بتلك الصفات السلبية وذلك أنهم إما أن يقولوا تدرع اللاهوت بالناسوت وحل به أو ظهر فيه أو هذه مظاهر ومجالي الإلهية أو تعات الحق أو نحو ذلك من مقالات الإتحاد والذي شاهدناه أن أحذق الناس في الفلسفة والنفي والتنزيه كان أتبع الناس لهؤلاء إذ هم بزعمهم يجمعون بين التنزيه والتشبيه في كل ما يصفونه به حتى وصفوه بكل عيب وكل نقص وكل صفة لمحدث كما قال صاحب الفصوص ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم ألا ترى

المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها وكلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق
وقال أيضا ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو فهو العلي لذاته أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو إلى أن قال فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من يبطن عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات إلى أن قال ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة ولد لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد خلق منها زوجها فما

نكح سوى نفسه إلى أن قال فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة
فصرح بأن الحق المنزه هو الخلق المشبه وصرح بأنه المنعوت بكل نعت مذموم ومحمود وصرح بأنه أبو سعيد الخراز وغيره من أسماء المحدثات كما صرح بأن المسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو وقال أيضا اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق هو في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب ولكن إذا أطلقناه وقالا به فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك فقد أساء الأدب وكذب الحق والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإليهة إذا نطقت عن الحق تعالى لما نطقت به إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول

وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ ثان إن كان في وضع ذلك اللسان فإن للحق في كل خلق ظهورا فهو الظاهر من كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته إلى أن قال وهو الإسم الظاهر كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيوجد في حد الإنسان مثلا ظاهره وباطنه وكذلك كل محدود فالحق تعالى محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولايحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة فكذلك يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة وهذا محال حصوله فحد الحق محال وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين على الإجمال لأنه يستحيل ذلك على التفصيل

لعدم الإحاطة بما في العالم من صور فقد عرفه مجملا لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل وكذلك ربط النبي معرفة الحق بمعرفة النفس فقال من عرف نفسه فقد عرف ربه وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وهو ما خرج عنك وفي أنفسهم وهو عينك حتى يتبين لهم أي للناظر أنه الحق من حيث أنك صورته وهو روحك فأنت له كالصورة الجسمية لك وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك والحد يشمل الظاهر والباطن منك فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانا ولكن يقال فيها أنها صورة تشبه صورة الإنسان فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ولا ينطلق عليها إسم إنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة وصورة العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنى بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها كذلك جعل الله صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصورة فالكل ألسنة للحق

ناطقة بالثناء على الحق ولذلك قال الحمد لله رب العالمين أي إليه ترجع عواقب الثناء فهو المنزه المثنى عليه وأنشد
... فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه كنت محددا ...
... وإن قلت بالأمرين كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا ...
... فمن قال بالإشفاع كان مشركا ... ومن قال بالإفراد كان موحدا ...
... فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا ...
... فما أنت هو بل أنت هو وتراه ... في عين الأمور مسرحا ومقيدا ...
إلى أمثال هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء الدجالون الكذابون ويقولون تارة إن النبي أعطاهم إياه وتارة أنهم أخذوا عن الله بلا واسطة والنبي وسائر الرسل يستفيدون منهم وتارة أنهم والحق أخذوه من معدن واحد
ومع هذا فقد جرى للمؤمنين مع أتباعهم من المحنة ما هي أشهر المحن الواقعة في الإسلام ومعلوم أن هذه المحنة هي نتيجة محنة الدجال بل هذه النتيجة أقرب إلى محنة الدجال من غيرها لأن النزاع في مثل دعوى الدجال قد سموا بعد وقد انتصروا غاية الإنتصار لما هو قول فرعون والدجال وعادوا من خالفهم ما هو أعظم من معاداة الدجال مع معرفة حذاقهم بأنه قول فرعون وقوله إنا على مذهب فرعون وزعمهم مع ذلك أنهم أكمل الخلق وأعظمهم معرفة وتحقيقا وتوحيدا

فإذا كان هذا حال بني آدم عوامهم وخواصهم من جميع الأصناف في الإنسان ظهر أن ما ذكره النبي من الدلائل على نفي ربوبية الدجال كان من أحسن الأدلة وأثبتها وأنفعها للعامة والخاصة وظهر بهذا أن غيره من الأنبياء وإن لم يقلها لكون الأدلة متعددة فالذي قالها كان أعلم بما ينفع الناس وأحرص عليهم وأرحم بهم كما قال تعالى ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن الدليل الوضح الظاهر عند اضطراب القلوب واشتباه الحق وافتتان كثير من الخلق أو أكثرهم ينفع ويظهر الحق ويدفع الباطل ما لا تسعه الأدلة الحسية وإن كانت قطعية يقينية والمقصود من الأدلة والأعلام هدى العباد وإرشادهم فكل ما كان من الأدلة أدل على الحق وأنفع للخلق كان أرجح مما ليس كذلك
والحمد لله الذي بعث إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة فهذا هو الوجه الأول وبيان أن أحدا من الناس لا يرى الله في الدنيا بعينه لا في صورة ولا في غير صورة وأن الحديث الذي احتج به الإتحادية على تجليه لهم من الصور في الدنيا يدل على نقيض ذلك

الوجه الثاني
إنهم سألوا النبي هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضامون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر

ولو كانت الرؤية هي تجليه في صور المخلوقات كلها كما يقوله الإتحادية لقال لهم إنكم ترون ربكم في هذه الصور إذ هم لا يرتقبون عندهم في القيامة تجليا غير هذا التجلي الذي في الدنيا وإنما تفاوت الناس عندهم بقدر تجرد أنفسهم حتى يشهدوا الوجود الساري في كل شيء لا فرق في ذلك عندهم بين دار ودار
وهذا ايضا حجة على من يجعل أنه لا مانع للرؤية إلا عدم الإدراك في العين فإنه على قوله لا فرق
وعلى كل من القولين فإنهم لا يرونه كما يرون الشمس والقمر وإن كان تشبيها للرؤية لا للمرئي بالمرئي إذ كاف التشبيه دخلت على ما المصدرية فإنه على قول الإتحادية هو موجود فيهم كوجوده في الشمس والقمر والكواكب والجبل والحيوان والنبات فيمتنع أن يروه كما يرون الشمس والقمر مباينا لهم منفصلا عنهم وعن غيرهم من الموجودات
وعلى قول أولئك لا يرونه مواجهة عيانا وإنما الرؤية من جنس العلم أو نوع منه وقولهم قول الإتحادية في رؤية الوجود المطلق وفي البخاري إنكم ترون ربكم عيانا
ومما يبين ذلك أنه ليس في الموجودات المرئية في الدنيا أعظم من هذين ولا يمكن أن يراهما الإنسان أكمل من الرؤية التي وصفها النبي وهذا يبين أن المؤمنين يرون ربهم أكمل ما يعرف من الرؤية

وعلى قول هؤلاء إنما يرى أخفى ما يكون أو يرى على وجه تستوي الموجودات كلها في رؤيته فإنهم إذا جعلوه الوجود المطلق ووصفوه بالسلوب كانت الرؤية من جنس العلم إن هذا ونحوه لا يرى بالعين وإن جعلوه الوجود الذي في المخلوقات جعلوا رؤيته كرؤية كل موجود من خفي وجلي وعلى التقديرين فهم مخالفون للنصوص السلبية التي احتجوا بها

الوجه الثالث
إنه قال لا تضامون في رؤيته ولا تضارون في رؤيته أي لا يلحقكم ضير ولا ضيم
وروى لا تضارون ولا تضامون أي لا يضر بعضكم بعضا ولا ينضم بعضكم إلى بعض كما جرت عادة الناس بالإزدحام عند رؤية الشيء الخفي كالهلال ونحوه وهذا كله بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور بحيث لا يلحق الرائي ضرر ولا ضيم كما يلحقه عند رؤية الشيء الخفي والبعيد والمحجوب ونحو ذلك
وعلى قول هؤلاء الجهمية الأمر بالعكس فإنهم إذا قالوا يتجلى في كل صورة من صورة الذباب والبعوض والبق والهلال والسها ونحو ذلك من الأجسام الصغيرة فمعلوم ما يلحق في رؤيتها من الضيم لا سيما وعند صاحب الفصوص لا يراه إنما يرى الذوات التي يتجلى فيها وأما إذا جعل الرؤية من جنس العلم فجنس هذه لا يبقى فيها ضرر ولا ضيم ولا يلحق فيها زحمة ولا مشقة فتكون بين ذلك مما هو علم أو كالعلم عديم الفائدة بعيد

المناسبة لا يليق بمن هو من آحاد الناس فضلا عن أكمل الخلق وأعظمهم معرفة وبيانا وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
تم الجزء الأول من بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والإتحاد من كلام الإمام شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس برحمته آمين ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى
الوجه الرابع أنه قال في الحديث يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه إلى آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على عبده ونبيه ورسوله وخيرته وصفوته محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

أقسام الكتاب
1 2