الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ أَوْ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ مُجَرَّدَةً عَنْ هَذَا وَهَذَا . فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا دَعَوْا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ - وَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا وَأَعْلَمُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَعْلَمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ مِنَّا بَلْ تَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عُدُولُهُمْ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالْأَفْضَلِ إلَى التَّوَسُّلِ بِالْمَفْضُولِ أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ بِالْأَفْضَلِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ }
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا صَحِيحًا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا لِي اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ } وَرَوَى النَّسَائِي نَحْوَ هَذَا الدُّعَاءِ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَه عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ { أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ : إنْ شِئْت دَعَوْت وَإِنْ شِئْت صَبَرْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك . فَقَالَ : فادعه . فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي تَوَجَّهْت بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرَوَاهُ النَّسَائِي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَنِيفٍ وَلَفْظُهُ { أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي . قَالَ فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي أَنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ قَالَ فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصَرِهِ } .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده : حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ يَزِيدَ

الخطمى الْمَدِينِيِّ قَالَ : سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حنيف { أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ إنْ شِئْت أَخَّرْت ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لِآخِرَتِك وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك قَالَ : لَا بَلْ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَشَفِّعْهُ فِيَّ . قَالَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ } . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِهِ مُطْلَقًا حَيًّا وَمَيِّتًا . وَهَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَتَوَسَّلُ بِذَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي مَغِيبِهِ وَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ أَنَّ تَوَسُّلَ الْأَعْمَى وَالصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ عَلَى اللَّهِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ بِذَاتِهِ أَنْ يَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ وَلَا إلَى أَنْ يُطِيعُوهُ فَسَوَاءٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ دَعَا الرَّسُولُ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَدْعُ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ تَوَسَّلَ بِهِ وَسَوَاءٌ أَطَاعُوهُ أَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ كَمَا يَقْضِي حَاجَةَ هَذَا الَّذِي تَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ وَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كِلَاهُمَا مُتَوَسِّلٌ بِهِ عِنْدَهُمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ تَوَسَّلَ بِهِ كَمَا تَوَسَّلَ بِهِ ذَلِكَ الْأَعْمَى وَأَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ الْأَعْمَى مَشْرُوعٌ لَهُمْ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ شَرْعًا وَقَدْرًا فَلَا هُمْ مُوَافِقُونَ لِشَرْعِ اللَّهِ وَلَا مَا يَقُولُونَهُ مُطَابِقٌ لِخَلْقِ اللَّهِ .

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ : هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهَا الَّتِي تُشْبِهُهَا فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا لَا مُمَاثِلٌ لَهَا وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ شَرْعًا وَقَدْرًا بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا كَالْآخَرِ . وَهَذَا الْأَعْمَى شَفَعَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا قَالَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " . فَعُلِمَ أَنَّهُ شَفِيعٌ فِيهِ وَلَفْظُهُ : { إنْ شِئْت صَبَرْت وَإِنْ شِئْت دَعَوْت لَك فَقَالَ : اُدْعُ لِي } فَهُوَ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَدْعُوَ هُوَ أَيْضًا لِنَفْسِهِ وَيَقُولَ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : " أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا " . فَالْحَدِيثَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ كَمَا ذَكَرَ عُمَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إذَا أَجْدَبُوا ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِغَيْرِهِ بَدَلًا عَنْهُ . فَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا سَوَاءً وَالْمُتَوَسِّلُ بِهِ الَّذِي دَعَا لَهُ الرَّسُولُ كَمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ التَّوَسُّلِ بِهِ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى رَبِّهِ وَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ وَسِيلَةً - إلَى أَنْ يَتَوَسَّلُوا بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُ .

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْمَى تَوَسَّلَ بِهِ وَلَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الْأَعْمَى لَكَانَ عُمْيَانُ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْأَعْمَى فَعُدُولُهُمْ عَنْ هَذَا إلَى هَذَا - مَعَ أَنَّهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِحُقُوقِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَشْرَعُ مِنْ الدُّعَاءِ وَيَنْفَعُ وَمَا لَمْ يَشْرَعْ وَلَا يَنْفَعْ وَمَا يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُمْ فِي وَقْتِ ضَرُورَةٍ وَمَخْمَصَةٍ وَجَدْبٍ يَطْلُبُونَ تَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَتَيْسِيرَ الْعَسِيرِ وَإِنْزَالَ الْغَيْثِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ مَا سَلَكُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَا فَعَلُوهُ دُونَ مَا تَرَكُوهُ وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ حَيًّا هُوَ الطَّلَبُ لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَسْأَلَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ وَهَذَا مَشْرُوعٌ ؛ فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ . وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ قَبْرِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ ؛ يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ الْمَيِّتَ حَاجَتَهُ أَوْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ بَلْ طَلَبُ الدُّعَاءِ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعُمْرَةِ : { لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مَنْ دُعَائِك } - إنْ صَحَّ

الْحَدِيثُ - وَحَتَّى { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ أُوَيْسٍ القرني أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلطَّالِبِ } وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِنْ أُوَيْسٍ بِكَثِيرِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ : ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } مَعَ أَنَّ طَلَبَهُ مِنْ أُمَّتِهِ الدُّعَاءَ لَيْسَ هُوَ طَلَبَ حَاجَةٍ مِنْ الْمَخْلُوقِ بَلْ هُوَ تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَلَّمَهُمْ يُعْظِمُ اللَّهُ أَجْرَهُ : فَإِنَّا إذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْنَا عَشْرًا وَإِذَا سَأَلْنَا اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْنَا شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ ثَوَابٍ يَحْصُلُ لَنَا عَلَى أَعْمَالِنَا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِنَا شَيْءٌ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا } وَهُوَ الَّذِي دَعَا أُمَّتَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ أُمَّتُهُ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَهْدُونَ إلَيْهِ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَحُجُّونَ عَنْهُ

وَلَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَهْدُونَ لَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ وَصَدَقَةٍ وَقِرَاءَةٍ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ؛ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا عَمِلَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْخَيْرِ يَكُونُ لِوَالِدَيْهِ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلِهَذَا يُهْدِي الثَّوَابَ لِوَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطِيعٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْغَبُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يسترقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . فَهَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَدْ مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يسترقون وَالِاسْتِرْقَاءُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ وَالرُّقْيَةُ مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقِي نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَهُ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى فِي هَذَا : " لَا يَرْقُونَ " ضَعِيفَةٌ غَلَطٌ ؛ فَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ لِأُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ الَّذِي غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ - بَلْ لَا يَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ - أَفْضَلُ مِمَّنْ يَسْأَلُ النَّاسَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ.
وَدُعَاءُ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ أَعْظَمُ إجَابَةً مِنْ دُعَاءِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ إخْلَاصًا وَأَبْعَدُ عَنْ الشِّرْكِ فَكَيْفَ يُشْبِهُ دُعَاءَ مَنْ يَدْعُو لِغَيْرِهِ بِلَا سُؤَالٍ مِنْهُ إلَى دُعَاءِ

مَنْ يَدْعُو اللَّهَ بِسُؤَالِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ ؟ وَفِي الْحَدِيثِ : { أَعْظَمُ الدُّعَاءِ إجَابَةً دُعَاءُ غَائِبٍ لِغَائِبِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَك بِمِثْلِهِ } . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَطْلُبُ مِنْ الْمَخْلُوقِ مَا يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهِ وَالْمَخْلُوقُ قَادِرٌ عَلَى دُعَاءِ اللَّهِ وَمَسْأَلَتِهِ فَلِهَذَا كَانَ طَلَبُ الدُّعَاءِ جَائِزًا كَمَا يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِعَانَةَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا . فَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ إلَّا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُطْلَبُ ذَلِكَ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ : اغْفِرْ لِي وَاسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أَوْ اهْدِ قُلُوبَنَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا رَوَى الطَّبَرَانِي فِي مُعْجَمِهِ { أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الصِّدِّيقُ : قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ إنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ } وَهَذَا فِي الِاسْتِعَانَةِ مِثْلُ ذَلِكَ . فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ :

{ إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } وَفِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَإِلَيْك الْمُسْتَعَانُ وَبِك الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان ؛ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك } وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ البسطامي : اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ : اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ هُمْ عِبَادِي كَمَا أَنْتُمْ عِبَادِي يَرْجُونَ رَحْمَتِي كَمَا تَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي كَمَا تَخَافُونَ عَذَابِي وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ كَمَا تَتَقَرَّبُونَ إلَيَّ فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ إخْبَارِهِ لَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لَنَا وَيَسْتَغْفِرُونَ مَعَ هَذَا فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُمْ . وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءً فِي قُبُورِهِمْ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْأَحْيَاءِ وَإِنْ وَرَدَتْ بِهِ آثَارٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ بِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ بِخِلَافِ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ ؛ وَلِأَنَّ مَا تَفْعَلُهُ الْمَلَائِكَةُ وَيَفْعَلُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ

فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ سُؤَالُ السَّائِلِينَ بِخِلَافِ سُؤَالِ أَحَدِهِمْ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ إجَابَةُ السَّائِلِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ يس : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }.

فَالشَّفَاعَةُ نَوْعَانِ : - أَحَدُهُمَا : الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَاَلَّتِي أَثْبَتَهَا الْمُشْرِكُونَ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهِمْ وَهِيَ شِرْكٌ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهَذِهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي وَيَسْجُدُ . قَالَ : { فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ } فَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ . قَالَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ : وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِ - بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ هُوَ دَاعِيًا لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ - أَنْ يَشْرَعَ ذَلِكَ فِي مَغِيبِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ ؛ مَعَ أَنَّهُ هُوَ لَمْ يَدْعُ لِلْمُتَوَسِّلِ بِهِ بَلْ الْمُتَوَسِّلُ بِهِ أَقْسَمَ لَهُ أَوْ سَأَلَ بِذَاتِهِ مَعَ كَوْنِ الصَّحَابَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يَدْعُو هُوَ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ وَدُعَاؤُهُ هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ الْخَلْقِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَدُعَاؤُهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَاعَتُهُ لَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ ؟ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَجَعَلَ هَذَا التَّوَسُّلَ كَهَذَا التَّوَسُّلِ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَدُعَائِهِ هُوَ وَالتَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ ضَرَرٌ

بَلْ هُوَ خَيْرٌ بِلَا شَرٍّ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ وَلَا مَفْسَدَةٌ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَمْ يُعْبَدْ فِي حَيَاتِهِ بِحُضُورِهِ فَإِنَّهُ يَنْهَى مَنْ يَعْبُدُهُ وَيُشْرِكُ بِهِ وَلَوْ كَانَ شِرْكًا أَصْغَرَ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَجَدَ لَهُ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَكَمَا قَالَ { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا : مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَخَافُ الْفِتْنَةَ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ كَمَا أَشْرَكَ بِالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ قُبُورِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَالَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعَنَا أَصْلَانِ عَظِيمَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ . وَالثَّانِي : أَنْ لَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ لَا نَعْبُدُهُ بِعِبَادَةِ مُبْتَدَعَةٍ . وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " كَمَا قَالَ تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .

وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ لَهُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ؛ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَالَ " وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَطَاعَتِهِ . وَمُوَالَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ . وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا سِوَاهُمَا وَضَمِنَ لَنَا بِطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَكَرَامَتَهُ . فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ فِي هَذَا عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَجَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ

وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَمَا عَلِمَهُ قَالَ بِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَا يَقْفُو مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ ذِكْرُ مَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَفِي لَفْظٍ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ فَلَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ ؛ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِأَحَدِ مِنْ الشُّيُوخِ أَوْ بِالْمُلُوكِ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ ؛ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ يُنْهَى عَنْهُ إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ ؛ وَإِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ . فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ . فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ فِي أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ وَقَدْ طَرَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - الْخِلَافَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا ضَعِيفٌ . وَأَصْلُ الْقَوْلِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالنَّبِيِّ ضَعِيفٌ شَاذٌّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ

فِيمَا نَعْلَمُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْمَخْلُوقَاتِ بَلْ إنَّمَا يُسْتَعَاذُ بِالْخَالِقِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ } قَالُوا : فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِهَا وَلَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا } فَنَهَى عَنْ الرُّقَى الَّتِي فِيهَا شِرْكٌ كَاَلَّتِي فِيهَا اسْتِعَاذَةٌ بِالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } .
وَلِهَذَا نَهَى الْعُلَمَاءُ عَنْ التَّعَازِيمِ وَالْإِقْسَامِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي حَقِّ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الشِّرْكَ ؛ بَلْ نَهَوْا عَنْ كُلِّ مَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْ الرُّقَى الْمَشْرُوعَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ . فَإِذًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ لَا قَسَمًا مُطْلَقًا وَلَا قَسَمًا عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَسْتَعِيذُ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَالسَّائِلُ لِلَّهِ بِغَيْرِ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْسِمًا عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَالِبًا بِذَلِكَ السَّبَبَ : كَمَا تَوَسَّلَ الثَّلَاثَةُ فِي الْغَارِ بِأَعْمَالِهِمْ ؛ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ .

فَإِنْ كَانَ إقْسَامًا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا بِسَبَبِ يَقْتَضِي الْمَطْلُوبَ كَالسُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فِيهَا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِثْلِ السُّؤَالِ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ . وَإِنْ كَانَ سُؤَالًا بِمُجَرَّدِ ذَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ سُؤَالٌ بِسَبَبِ لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَطْلُوبِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ طَالِبًا بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ كَالطَّلَبِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ دُعَاءَ الصَّالِحِينَ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَطْلُوبِنَا الَّذِي دَعَوْا بِهِ وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِثَوَابِ اللَّهِ لَنَا وَإِذَا تَوَسَّلْنَا بِدُعَائِهِمْ وَأَعْمَالِنَا كُنَّا مُتَوَسِّلِينَ إلَيْهِ تَعَالَى بِوَسِيلَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } .
وَأَمَّا إذَا لَمْ نَتَوَسَّلْ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِدُعَائِهِمْ وَلَا بِأَعْمَالِنَا وَلَكِنْ تَوَسَّلْنَا بِنَفْسِ ذَوَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ سَبَبًا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَائِنَا فَكُنَّا مُتَوَسِّلِينَ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا صَحِيحًا وَلَا مَشْهُورًا عَنْ السَّلَفِ . وَقَدْ نُقِلَ فِي ( مَنْسَكِ المروذي ) عَنْ أَحْمَدَ دُعَاءٌ فِيهِ سُؤَالٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْقَسَمِ بِهِ

وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى النَّهْيِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ - لَكِنْ مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ أَمْرٌ يَعُودُ نَفْعُهُ إلَيْهِمْ وَنَحْنُ نَنْتَفِعُ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّبَاعِنَا لَهُمْ وَمَحَبَّتِنَا لَهُمْ ؛ فَإِذَا تَوَسَّلْنَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِيمَانِنَا بِنَبِيِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ فَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ . وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِنَفْسِ ذَاتِهِ مَعَ عَدَمِ التَّوَسُّلِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً فَالْمُتَوَسِّلُ بِالْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَتَوَسَّلْ بِالْإِيمَانِ بِالْمُتَوَسَّلِ بِهِ وَلَا بِطَاعَتِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَسَّلُ ؟ .
وَالْإِنْسَانُ إذَا تَوَسَّلَ إلَى غَيْرِهِ بِوَسِيلَةِ فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْوَسِيلَةِ الشَّفَاعَةَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِأَبِي الرَّجُلِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ مَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ : اشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ وَهَذَا جَائِزٌ . وَإِمَّا أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُ بِحَيَاةِ وَلَدِك فُلَانٍ وَبِتُرْبَةِ أَبِيك فُلَانٍ وَبِحُرْمَةِ شَيْخِك فُلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقِ . وَإِمَّا أَنْ يَسْأَلَ بِسَبَبِ يَقْتَضِي الْمَطْلُوبَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى . { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِشَفَاعَةِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَجَائِزٌ وَالْأَعْمَى كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ كَمَا طَلَبَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ

الِاسْتِسْقَاءَ وَقَوْلُهُ " أَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ " أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لِي وَلِهَذَا تَمَامُ الْحَدِيثِ " اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ " . فَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } . فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالنَّصْبِ : إنَّمَا يَسْأَلُونَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ لَا بِالرَّحِمِ وَتَسَاؤُلُهُمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ إقْسَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِاَللَّهِ وَتَعَاهُدَهُمْ بِاَللَّهِ . وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هُوَ قَوْلُهُمْ أَسْأَلُك بِاَللَّهِ وَبِالرَّحِمِ وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلِ عَلَى جَوَازِهِ فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ أَسْأَلُك بِالرَّحِمِ لَيْسَ إقْسَامًا بِالرَّحِمِ - وَالْقَسَمُ هُنَا لَا يَسُوغُ - لَكِنْ بِسَبَبِ الرَّحِمِ أَيْ لِأَنَّ الرَّحِمَ تُوجِبُ لِأَصْحَابِهَا بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا كَسُؤَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ وَكَسُؤَالِنَا بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ كَانَ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ جَعْفَرٍ أَعْطَاهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِقْسَامَ بِغَيْرِ جَعْفَرٍ أَعْظَمُ بَلْ مِنْ بَابِ حَقِّ الرَّحِمِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبِ جَعْفَرٍ وَجَعْفَرٌ حَقُّهُ عَلَى عَلِيٍّ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي دُعَاءِ الْخَارِجِ إلَى الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً

وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك . أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ عَطِيَّةُ العوفي وَفِيهِ ضَعْفٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِوَجْهَيْنِ : - ( أَحَدُهُمَا ) لِأَنَّ فِيهِ السُّؤَالَ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَقِّ السَّائِلِينَ وَبِحَقِّ الْمَاشِينَ فِي طَاعَتِهِ وَحَقُّ السَّائِلِينَ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقُّ الْمَاشِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهَذَا حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يُوجِبَ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى شَيْئًا . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وقَوْله تَعَالَى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ { حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا . فَلَا تظالموا } . وَإِذَا كَانَ حَقُّ السَّائِلِينَ وَالْعَابِدِينَ لَهُ هُوَ الْإِجَابَةَ وَالْإِثَابَةَ ؛ بِذَلِكَ فَذَاكَ سُؤَالٌ لِلَّهِ بِأَفْعَالِهِ ؛ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك

أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } فَالِاسْتِعَاذَةُ بِمُعَافَاتِهِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ كَالسُّؤَالِ بِإِثَابَتِهِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ . وَرَوَى الطَّبَرَانِي فِي ( كِتَابِ الدُّعَاءِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : يَا عَبْدِي إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ : وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي ؛ فَاَلَّتِي لِي أَنْ تَعْبُدَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا وَاَلَّتِي هِيَ لَك أَجْزِيك بِهَا أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَاَلَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك مِنْك الدُّعَاءُ وَمِنِّي الْإِجَابَةُ وَاَلَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوهُ إلَيْك } . وَتَقْسِيمُهُ فِي الْحَدِيثِ إلَى قَوْلِهِ : وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك هُوَ مِثْلُ تَقْسِيمِهِ فِي حَدِيثِ الْفَاتِحَةِ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ؛ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَالْعَبْدُ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُ النِّصْفَيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ النِّصْفَيْنِ ؛ لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ ؛ وَمَا يُعْطِيهِ الْعَبْدَ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى عِبَادَتِهِ وَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوَّلًا ؛ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ وَبِذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْعِبَادَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ وَإِنْ كُنَّا خَرَجْنَا عَنْ الْمُرَادِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْعَمَلَ لَهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْعَبْدِ فَهُوَ كَالتَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْسَامًا بِهِ

أَوْ سَبَبًا بِهِ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ " بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك " إقْسَامًا فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ إلَّا بِهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا فَهُوَ سَبَبٌ بِمَا جَعَلَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ سَبَبًا وَهُوَ دُعَاؤُهُ وَعِبَادَتُهُ . فَهَذَا كُلُّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دُعَاءٌ لَهُ بِمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ مِنْهُ وَلَا عَمَلٍ صَالِحٍ مِنَّا .
وَإِذَا قَالَ السَّائِلُ : أَسْأَلُك بِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَحَقِّ الصَّالِحِينَ ؛ وَلَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِحَقِّ هَؤُلَاءِ - فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَلَا يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِهِ فَكَيْفَ يُقْسِمُ عَلَى الْخَالِقِ بِهِ ؟ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسِمُ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَسَبَّبُ بِهِ فَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ ذَوَاتِ هَؤُلَاءِ سَبَبٌ يُوجِبُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ مِنْهُ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَوْ مِنْهُمْ كَدُعَائِهِمْ . وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ تَعَوَّدُوا كَمَا تَعَوَّدُوا الْحَلِفَ بِهِمْ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ : وَحَقُّك عَلَى اللَّهِ وَحُقُّ هَذِهِ الشَّيْبَةِ عَلَى اللَّهِ . وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِجَاهِهِ : أَيْ أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِي لَهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ . قِيلَ : مَنْ قَصَدَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَقْصُودَ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ فَمَنْ قَالَ : أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِك وَبِرَسُولِك وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِإِيمَانِي بِرَسُولِك وَمَحَبَّتِي لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ

خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْت وَدَعَوْتَنِي فَأَجَبْت وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إلَى الْغَارِ وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ ثُمَّ دَعَوْا اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ فَفَرَّجَ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِرَاشٍ العجلاني وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا صَالِحٌ المري عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ مَرِيضٌ ثَقِيلٌ فَلَمْ نَبْرَحْ حَتَّى قُبِضَ فَبَسَطْنَا عَلَيْهِ ثَوْبَهُ وَلَهُ أُمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَالْتَفَتَ إلَيْهَا بَعْضُنَا وَقَالَ : يَا هَذِهِ احْتَسِبِي مُصِيبَتَك عِنْدَ اللَّهِ . قَالَتْ : وَمَا ذَاكَ مَاتَ ابْنِي ؟ قُلْنَا : نَعَمْ . قَالَتْ : أَحَقٌّ مَا تَقُولُونَ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ . فَمَدَّتْ يَدَيْهَا إلَى اللَّهِ فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَسْلَمْت وَهَاجَرْت إلَى رَسُولِك رَجَاءَ أَنْ تَعْقُبَنِي عِنْدَ كُلِّ شَدَّةٍ فَرَجًا فَلَا تَحْمِلْ عَلَيَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ الْيَوْمَ . قَالَ : فَكَشَفَتْ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى طَعِمْنَا مَعَهُ .
وَرُوِيَ فِي كِتَابِ الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ { أَنَّ دَاوُد قَالَ : بِحَقِّ آبَائِي عَلَيْك إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ . فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ : يَا دَاوُد وَأَيُّ حَقٍّ لِآبَائِك عَلَيَّ ؟ } وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فالإسرائيليات يُعْتَضَدُ بِهَا وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا .

وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْحَيَّ يُطْلَبُ مِنْهُ الدُّعَاءُ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ سَائِرُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ . يُحَقِّقُ هَذَا الْأَمْرَ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ وَالتَّوَجُّهَ بِهِ لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ بِحَسَبِ الِاصْطِلَاحِ فَمَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الصَّحَابَةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ فَيَكُونُونَ مُتَوَسِّلِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ ؛ وَدُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَأَمَّا فِي لُغَةِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِذَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ لَا يُقْسَمُ بِهَا بِحَالِ فَلَا يُقَالُ أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ بِمَلَائِكَتِك وَلَا بِكَعْبَتِك وَلَا بِعِبَادِك الصَّالِحِينَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ الرَّجُلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ إنَّمَا يُقْسِمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَيَقُولَ { أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ وَأَسْأَلُك بِأَنَّك أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وَأَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك } . الْحَدِيثُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَأَمَّا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَبِكَلِمَاتِك التَّامَّاتِ " .

مَعَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الثَّالِثَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ بِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ القدوري فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِي : قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ " بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك " أَوْ " بِحَقِّ خَلْقِك " . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : " مَعْقِدُ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ " هُوَ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُ هَذَا وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ : " بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " قَالَ القدوري : الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا يَجُوزُ - يَعْنِي وِفَاقًا - وَهَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ عَلَيْهِ إلَّا بِهِ . فَهَلَّا قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَأَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى مَخْلُوقٍ إلَّا بِالْخَالِقِ تَعَالَى ؟ قِيلَ لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ بَابِ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَذِكْرِ آيَاتِهِ وَإِقْسَامُنَا نَحْنُ بِذَلِكَ شِرْكٌ إذَا أَقْسَمْنَا بِهِ لِحَضِّ غَيْرِنَا أَوْ لِمَنْعِهِ أَوْ تَصْدِيقِ خَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ . وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : أَسْأَلُك بِكَذَا . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْسِمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفَّارَةُ فِي هَذَا عَلَى الْمُقْسِمِ لَا عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْسِمًا فَهُوَ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّائِلَ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِمَخْلُوقِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ . وَإِذَا قَالَ " بِاَللَّهِ أَفْعَلُ كَذَا "

فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا قَالَ : " أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ " وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ " فَلَمْ يَبِرَّ قَسَمَهُ لَزِمَتْ الْكَفَّارَةُ الْحَالِفَ . وَاَلَّذِي يَدْعُو بِصِيغَةِ السُّؤَالِ فَهُوَ مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِهِ وَأَمَّا إذَا أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَبِّ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ ثَنِيَّةَ الربيع فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَعَفَا الْقَوْمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فَهُوَ إقْسَامٌ عَلَيْهِ تَعَالَى بِهِ وَلَيْسَ إقْسَامًا عَلَيْهِ بِمَخْلُوقِ . وَيَنْبَغِي لِلْخَلْقِ أَنْ يَدْعُوا بِالْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا رَيْبَ فِي فَضْلِهِ وَحُسْنِهِ وَأَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِجَاهِي } حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي دُعَاءٍ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الدُّعَاءَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرُوا فِيمَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ التَّوَسُّلَ بِهِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ

دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ بِغَيْرِهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ؛ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنْ الْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ - لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ - عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُجْتَهِدِينَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ : أَسْأَلُك بِجَاهِ نَبِيِّنَا أَوْ بِحَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِعْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ وَلَا فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا . وَرَأَيْت فِي فَتَاوِي الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَحَّ حَدِيثُ الْأَعْمَى : فَلَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهُ - ثُمَّ رَأَيْت عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا يَجُوزُ الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَرَأَيْت فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي جَوَازِ الْحَلِفِ بِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَائِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِقْسَامِ بِالْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ بَابِ السُّؤَالِ بِذَاتِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ بِذَاتِهِ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ عَدَلُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ وَشُرِعَ لَهُمْ - وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُمْ - إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ الَّتِي بِهَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا . وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ . { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا } وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَّلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ رَبِّهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد - وَهَذَا لَفْظُهُ - وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ؛ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ؛ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْت سَلْ تعطه } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ " مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْقَائِمَةِ وَالصَّلَاةِ النَّافِعَةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَاءً لَا سَخَطَ بَعْدَهُ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَهُ ؟ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ قَلَّمَا تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوَتُهُ : عِنْدَ حُصُولِ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الطُّفَيْلِ بْنِ أبي بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَهَبَ رُبُعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ . جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ } . { قَالَ أبي : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْك فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي ؟ قَالَ مَا شِئْت قُلْت ؛ الرُّبُعَ ؟ قَالَ : مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت : النِّصْفَ . قَالَ ؟ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت : الثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك قُلْت : أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك وَفِي لَفْظٍ إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك } . وَقَوْلُ السَّائِلِ : أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي ؟ يَعْنِي مِنْ دُعَائِي ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الدُّعَاءُ قَالَ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } { وَقَالَتْ : امْرَأَةٌ : صَلِّ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى زَوْجِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِك } . فَيَكُونُ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَيْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ أَسْتَجْلِبُ بِهِ

الْخَيْرَ وَأَسْتَدْفِعُ بِهِ الشَّرَّ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ الدُّعَاءِ قَالَ : " مَا شِئْت " فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ : أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ { إذًا تُكْفَى هَمَّك وَيُغْفَرُ ذَنْبُك } . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { إذًا يَكْفِيك اللَّهُ مَا أَهَمَّك مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك وَآخِرَتِك } . وَهَذَا غَايَةُ مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ وَانْدِفَاعُ الْمَرْهُوبِ كَمَا بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ الْأَدْعِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَدْعِيَةِ الْبِدْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي اتِّبَاعُ ذَلِكَ . وَالْمَرَاتِبُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ : - إحْدَاهَا أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَقُولُ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَغِثْنِي أَوْ أَنَا أَسْتَجِيرُ بِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِك أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي . وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ . وَالْمُسْتَغِيثُ بِالْمَخْلُوقَاتِ قَدْ يَقْضِي الشَّيْطَانُ حَاجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا وَقَدْ يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِمَنْ اسْتَغَاثَ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ دَخَلَهُ وَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَصْنَامِ وَفِي الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِهِ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ فِي قَوْمٍ اسْتَغَاثُوا بِي أَوْ بِغَيْرِي وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَتَى شَخْصٌ عَلَى صُورَتِي أَوْ صُورَةِ غَيْرِي وَقَضَى حَوَائِجَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَرَكَةِ الِاسْتِغَاثَةِ بِي أَوْ بِغَيْرِي وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُمْ وَأَغْوَاهُمْ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَاِتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذَا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ

وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ كَمَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجُهَّالِ الْمُشْرِكِينَ . وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِقَبْرِهِ وَيُصَلِّيَ إلَيْهِ وَيَرَى الصَّلَاةَ أَفْضَلَ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ : هَذِهِ قِبْلَةُ الْخَوَاصِّ وَالْكَعْبَةُ قِبْلَةُ الْعَوَامِّ . وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى السَّفَرَ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ حَتَّى يَقُولَ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ مَرَّاتٌ يَعْدِلُ حَجَّةً وَغُلَاتُهُمْ يَقُولُونَ : الزِّيَارَةُ إلَيْهِ مَرَّةً أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا شِرْكٌ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِهِ .
الثَّانِيَةُ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ : اُدْعُ اللَّهَ لِي أَوْ اُدْعُ لَنَا رَبَّك أَوْ اسْأَلْ اللَّهَ لَنَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ جَائِزًا وَمُخَاطَبَتُهُمْ جَائِزَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ . يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } .

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْأَمْوَاتِ لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : " السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ " ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَرَادُوا الدُّعَاءَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَدْعُونَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا اعْتِبَارَ بِهِمْ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَى ذَلِكَ إمَامٌ مُتَّبَعٌ فِي قَوْلِهِ وَلَا مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ .
وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ . وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ - مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ - : يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ وَقْتَ السَّلَامِ كَمَا لَا يَسْتَقْبِلُهَا وَقْتَ الدُّعَاءِ بِاتِّفَاقِهِمْ . ثُمَّ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلَانِ :

قِيلَ يَسْتَدْبِرُ الْحُجْرَةَ وَقِيلَ يَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ . فَهَذَا نِزَاعُهُمْ فِي وَقْتِ السَّلَامِ وَأَمَّا فِي وَقْتِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ لَا الْحُجْرَةَ . وَالْحِكَايَةُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَنْصُورِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ : " هُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ " : كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ خِلَافُ الثَّابِتِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ بِأَسَانِيدِ الثِّقَاتِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ كَمَا ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِثْلَ مَا ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَقْوَامٍ يُطِيلُونَ الْقِيَامَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَأَنْكَرَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَالَ : لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فَإِنَّ الْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَوْ كَانَ اسْتِقْبَالُ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا لَكَانُوا هُمْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَكَانُوا أَسْبَقَ إلَيْهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَالدَّاعِي يَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ . وَقَدْ نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ دُعَائِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْحُجْرَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ

الغنوي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاء وَلَا غَيْرِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ إلَى الْقَبْرِ بَلْ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَكَذَلِكَ قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ الْقُبُورِ لَا سِيَّمَا قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عِنْدَ الدُّعَاءِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَصْدُ اسْتِقْبَالِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَدُعَاءُ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الصَّلَاةُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ شَيْئًا : لَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُشْكَى إلَيْهِ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ وَهَذَا يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ مُكَلَّفٌ أَنْ يُجِيبَ سُؤَالَ مَنْ سَأَلَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بَلْ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذِكْرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كَمَا أَنَّ مُوسَى يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ ؛ وَكَمَا صَلَّى الْأَنْبِيَاءُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَسْبِيحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ - فَهُمْ يُمَتَّعُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَمْتَحِنُ بِهِ الْعِبَادَ . وَحِينَئِذٍ . فَسُؤَالُ السَّائِلِ لِلْمَيِّتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؛ بَلْ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَاعِلًا لَهُ هُوَ يَفْعَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْعَبْدُ ؛ كَمَا يَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَهُمْ إنَّمَا

يُطِيعُونَ أَمْرَ رَبِّهِمْ لَا يُطِيعُونَ أَمْرَ مَخْلُوقٍ ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } فَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الشَّيْءِ فِي حَيَاتِهِ جَوَازُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَإِنَّ بَيْتَهُ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ مَشْرُوعَةً وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَسْجِدًا . وَلَمَّا دُفِنَ فِيهِ حَرُمَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ خَلْفَ قَبْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ وَأَنْ يُفْتِيَ وَأَنْ يَقْضِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرِدْ . وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ كَذِبٌ . وَهَذَا اللَّفْظُ صَارَ مُشْتَرَكًا فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : الَّتِي فِي مَعْنَى الشِّرْكِ ؛ كَاَلَّذِي يَزُورُ الْقَبْرَ لِيَسْأَلَهُ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِهِ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ عِنْدَهُ.

وَ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ : هِيَ أَنْ يَزُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى : لِلدُّعَاءِ لَهُ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَتِهِ . فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْرُوعُ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَقْصِدُ بِالزِّيَارَةِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ : زُرْت قَبْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْمَعْنَى الْفَاسِدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ .
الثَّالِثَةُ أَنْ يُقَالَ : أَسْأَلُك بِفُلَانِ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك وَنَحْوِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ عَدَلُوا عَنْهُ إلَى التَّوَسُّلِ بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي لَفْظِ " التَّوَسُّلِ " مِنْ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَسُّلِ وَالتَّوَجُّهِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ وَلُغَتِهِمْ هُوَ التَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَسَّلَ وَيَتَوَجَّهَ بِدُعَاءِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَتْبُوعِينَ يَحْتَجُّ بِمَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَعْيَتْكُمْ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَهْلِ الْقُبُورِ أَوْ فَاسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الْقُبُورِ } فَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْمَاعِ الْعَارِفِينَ بِحَدِيثِهِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ - عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَلَعَنَ أَهْلَهُ تَحْذِيرًا مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ . فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوهُمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ . فَمَنْ فَهِمَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى الْعِبَادَةِ الْإِعَانَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِالْمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِغَاثَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَيْهِ { وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فَالنَّصْرُ الْمُطْلَقُ - وَهُوَ خَلْقُ مَا يَغْلِبُ بِهِ الْعَدُوَّ - لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ هُوَ كَذَلِكَ فِي شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ : فَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ دُعَاءِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشِّرْكِ وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ عُقُوبَةِ اللَّهِ لِمَنْ فَعَلَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

فَصْلٌ :
وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ - فِي حَقِّ أَشْرَفِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَأَفْضَلِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَرْفَعِ الشُّفَعَاءِ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمِهِمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُشْرَكَ بِهِ وَلَا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ وَلَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِأَحَدِ مِنْ الْمَشَايِخِ الْغَائِبِينَ وَلَا الْمَيِّتِينَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : يَا سَيِّدِي فُلَانًا أَغِثْنِي وَانْصُرْنِي وَادْفَعْ عَنِّي أَوْ أَنَا فِي حَسْبِك وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَغِيثُونَ بِالْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ قُبُورِهِمْ - لَمَّا كَانُوا مِنْ جِنْسِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ - صَارَ الشَّيْطَانُ يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ كَمَا يَضِلُّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَيُغْوِيهِمْ فَتَتَصَوَّرُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَتُخَاطِبُهُمْ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَاشَفَةِ كَمَا تُخَاطِبُ الشَّيَاطِينُ الْكُهَّانَ وَبَعْضُ ذَلِكَ صِدْقٌ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَذِبٌ بَلْ الْكَذِبُ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّدْقِ .

وَقَدْ تَقْضِي الشَّيَاطِينُ بَعْضَ حَاجَاتِهِمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَهُ فَيَظُنُّ أَحَدُهُمْ أَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ الْغَيْبِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّرَ مَلَكًا - عَلَى صُورَتِهِ - فَعَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : هَذَا سِرُّ الشَّيْخِ وَحَالُهُ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ الْمُشْرِكَ بِهِ الْمُسْتَغِيثَ بِهِ كَمَا تَدْخُلُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَصْنَامِ وَتُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَتَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَصْنَامِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُوَ الْيَوْمَ مَوْجُودٌ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ التَّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ وَقَائِعَ كَثِيرَةً فِي أَقْوَامٍ اسْتَغَاثُوا بِي وَبِغَيْرِي فِي حَالِ غَيْبَتِنَا عَنْهُمْ فَرَأَوْنِي أَوْ ذَاكَ الْآخَرَ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ قَدْ جِئْنَا فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعْنَا عَنْهُمْ وَلَمَّا حَدَّثُونِي بِذَلِكَ بَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِي وَصُورَةِ غَيْرِي مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ اسْتَغَاثُوا بِهِمْ لِيَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَاتٌ لِلشَّيْخِ فَتَقْوَى عَزَائِمُهُمْ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِالشُّيُوخِ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا أَشْرَكَ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَغِيثُونَ مِنْ النَّصَارَى بِشُيُوخِهِمْ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ العلامس يَرَوْنَ أَيْضًا مَنْ يَأْتِي عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ النَّصْرَانِيِّ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ فَيَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَمْوَاتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشُّيُوخِ وَأَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَايَةُ أَحَدِهِمْ أَنَّ يُجْرَى لَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ يُحْكَى لَهُمْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ وَخَرْقُ عَادَةٍ بِسَبَبِ هَذَا الْعَمَلِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَأْتِي إلَى قَبْرِ الشَّيْخِ

الَّذِي يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْهَوَاءِ طَعَامٌ أَوْ نَفَقَةٌ أَوْ سِلَاحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطْلُبُهُ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَرَامَةً لِشَيْخِهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي عُبِدَتْ بِهَا الْأَوْثَانُ . وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } { رَبِّ إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَرَ لَا يُضِلُّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَّا بِسَبَبِ اقْتَضَى ضَلَالَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا خَلَقَتْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ إنَّمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ لِأَسْبَابِ : مِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهَا عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَمِنْهُمْ : مَنْ جَعَلَهَا تَمَاثِيلَ وَطَلَاسِمَ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْجِنِّ . وَمِنْهُمْ : مَنْ جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ . فَالْمَعْبُودُ لَهُمْ فِي قَصْدِهِمْ إنَّمَا هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ أَوْ الشَّمْسُ أَوْ الْقَمَرُ . وَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ : فَهِيَ الَّتِي تَقْصِدُ مِنْ الْإِنْسِ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَتُظْهِرُ لَهُمْ مَا يَدْعُوهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } { قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } . وَإِذَا كَانَ الْعَابِدُ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِلُّ عِبَادَةَ الشَّيَاطِينِ أَوْهَمُوهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدْعُو

الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَابِدُ ظَنَّهُ بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُحَرِّمُ عِبَادَةَ الْجِنِّ عَرَّفُوهُ أَنَّهُمْ الْجِنُّ . وَقَدْ يَطْلُبُ الشَّيْطَانُ الْمُتَمَثِّلُ لَهُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَنْ يُقَرِّبَ لَهُمْ الْمَيْتَةَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ إمَّا مَلَائِكَةٌ وَإِمَّا رِجَالٌ مِنْ الْجِنِّ يُسَمُّونَهُمْ رِجَالَ الْغَيْبِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ غَائِبُونَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَأُولَئِكَ جِنٌّ تَمَثَّلَتْ بِصُوَرِ الْإِنْسِ أَوْ رُئِيَتْ فِي غَيْرِ صُوَرِ الْإِنْسِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } كَانَ الْإِنْسُ إذَا نَزَلَ أَحَدُهُمْ بِوَادٍ يَخَافُ أَهْلَهُ قَالَ : أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ وَكَانَتْ الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِالْجِنِّ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِطُغْيَانِ الْجِنِّ وَقَالَتْ : الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا وَكَذَلِكَ الرُّقَى ؛ وَالْعَزَائِمُ الْأَعْجَمِيَّةُ : هِيَ تَتَضَمَّنُ أَسْمَاءَ رِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ يُدْعَوْنَ ؛ وَيُسْتَغَاثُ بِهِمْ وَيُقْسَمُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ يُعَظِّمُونَهُ فَتُطِيعُهُمْ الشَّيَاطِينُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ وَالشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا

يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ قَدْ حَمَلَتْهُ وَتَذْهَبُ بِهِ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ زِنْدِيقًا يَجْحَدُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَسْتَحِلُّ الْمَحَارِمَ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنَّمَا يَقْتَرِنُ بِهِ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى إذَا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَابَ وَالْتَزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَارَقَتْهُ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ مِنْ الإخبارات وَالتَّأْثِيرَاتِ ؛ وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا كَثِيرًا بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَأَمَّا الْجَزِيرَةُ وَالْعِرَاقُ وَخُرَاسَانُ وَالرُّومُ فَفِيهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَكْثَرُ مِمَّا بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا وَبِلَادُ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَعْظَمُ . وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ الَّتِي أَسْبَابُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ بِحَسَبِ ظُهُورِ أَسْبَابِهَا فَحَيْثُ قَوِيَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَنُورُ الْفُرْقَانِ وَالْإِيمَانِ وَظَهَرَتْ آثَارُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ضَعُفَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَحَيْثُ ظَهَرَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذَا وَهَذَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْحَالِ وَهَذَا الْحَالِ . وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ البخشية والطونية وَالْبُدَّى

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَشُيُوخِهِمْ الَّذِينَ يَكُونُونَ لِلْكُفَّارِ مِنْ التُّرْكِ وَالْهِنْدِ الْجَوَارِ وَغَيْرِهِمْ تَكُونُ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِيهِمْ أَكْثَرَ وَيَصْعَدُ أَحَدُهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَيُحَدِّثُهُمْ بِأُمُورِ غَائِبَةٍ وَيَبْقَى الدُّفُّ الَّذِي يُغَنَّى لَهُمْ بِهِ يَمْشِي فِي الْهَوَاءِ وَيَضْرِبُ رَأْسَ أَحَدِهِمْ إذَا خَرَجَ عَنْ طَرِيقِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا يَضْرِبُ لَهُ وَيَطُوفُ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي مَكَانٍ فَمَنْ نَزَلَ مِنْهُمْ عِنْدَهُ ضَيَّفَهُ طَعَامًا يَكْفِيهِمْ وَيَأْتِيهِمْ بِأَلْوَانِ مُخْتَلِفَةٍ . وَذَلِكَ مِنْ الشَّيَاطِينِ تَأْتِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا تَسْرِقُهُ وَتَأْتِي بِهِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَثِيرَةٌ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ مُشْرِكًا أَوْ نَاقِصَ الْإِيمَانِ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَعِنْدَ التَّتَارِ مِنْ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ .
وَأَمَّا الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُحَقِّقُوا التَّوْحِيدَ وَاتِّبَاعَ الرَّسُولِ بَلْ دَعَوْا الشُّيُوخَ الْغَائِبِينَ وَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ نَصِيبٌ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِمَّا يُرْضِي الشَّيْطَانَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ فِيهِمْ عِبَادَةٌ وَدِينٌ مَعَ نَوْعِ جَهْلٍ يُحْمَلُ أَحَدُهُمْ فَيُوقَفُ بِعَرَفَاتِ مَعَ الْحُجَّاجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَاذَى الْمَوَاقِيتَ وَلَا يَبِيتُ بمزدلفة وَلَا يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ وَكَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِ . فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَجِّ لَيْسَ مَشْرُوعًا وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ وَكَرَامَةٌ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ يَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُمْ أَجَلُّ

قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لِبَعْضِ مَنْ حُمِلَ هُوَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ الإسكندرية إلَى عَرَفَةَ فَرَأَى مَلَائِكَةً تَنْزِلُ وَتَكْتُبُ أَسْمَاءَ الْحُجَّاجِ فَقَالَ : هَلْ كَتَبْتُمُونِي ؟ قَالُوا أَنْتَ : لَمْ تَحُجّ كَمَا حَجَّ النَّاسُ أَنْتَ لَمْ تَتْعَبْ وَلَمْ تُحْرِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ لَك مِنْ الْحَجِّ الَّذِي يُثَابُ النَّاسُ عَلَيْهِ مَا حَصَلَ لِلْحُجَّاجِ . وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَدْ طَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ لَهُمْ : هَذَا الْحَجُّ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ عَنْكُمْ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَحُجُّوا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَعَلَى أَنْ يُعْبَدَ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْلِنَا : " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " . فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا . وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ وَلَا يُخَافُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُطَاعُ إلَّا اللَّهُ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ ؛ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ ؛ وَسَائِرِ مَا بَلَّغَهُ مِنْ كَلَامِهِ . وَأَمَّا فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَكَشْفِ الْبَلَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِغْنَاءِ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ وَيَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى

إنْزَالِ النِّعَمِ وَإِزَالَةِ الضُّرِّ وَالْقَسَمِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إلَى أَنْ يُعَرِّفَهُ أَحَدٌ أَحْوَالَ عِبَادِهِ أَوْ يُعِينَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ . وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ ذَلِكَ هُوَ خَلَقَهَا وَيَسَّرَهَا . فَهُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فَأَهْلُ السَّمَوَاتِ يَسْأَلُونَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعُ كَلَامِ هَذَا عَنْ سَمْعِ كَلَامِ هَذَا وَلَا يُغْلِطُهُ اخْتِلَافُ أَصْوَاتِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ بَلْ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ وَلَا يُبْرِمُهُ إلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ بَلْ يُحِبُّ الْإِلْحَاحَ فِي الدُّعَاءِ . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَحْكَامِ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجَابَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِمْ . فَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } فَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ " فَقُلْ " بَلْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } . فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ

فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى صَلَاتِهِ فَلَا يَبْصُقَن قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ هُوَ الْحَامِلُ بِقُدْرَتِهِ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ . وَقَدْ جَعَلَ تَعَالَى الْعَالَمَ طَبَقَاتٍ وَلَمْ يَجْعَلْ أَعْلَاهُ مُفْتَقِرًا إلَى أَسْفَلِهِ فَالسَّمَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْأَرْضِ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَغْنَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَفْتَقِرَ إلَى شَيْءٍ بِحَمْلِ أَوْ غَيْرِ حَمْلٍ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ الَّذِي كُلُّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا فَالتَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ مِثْلُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَالتَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ كَانَ أَيْضًا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } الْآيَةَ . وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ؛ فِيهِمَا دِينُ الْإِسْلَامِ وَفِيهِمَا الْإِيمَانُ الْقَوْلِيُّ وَالْعَمَلِيُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلَى آخِرِهَا يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ الْقَوْلِيَّ وَالْإِسْلَامَ . وَقَوْلُهُ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } - الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا - يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلِيَّ فَأَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَهُمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
فَهَذَا آخِرُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الَّذِي أَحْبَبْت إيرَادَهُ هُنَا بِأَلْفَاظِهِ ؛ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ وَالْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ الِاخْتِصَارِ . فَإِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ سِرُّ الْقُرْآنِ وَلُبُّ الْإِيمَانِ وَتَنْوِيعُ الْعِبَارَةِ بِوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعِبَادِ فِي مَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ :
أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَمَا فِي مَعْنَاهُ ؟ .
الْجَوَابُ :
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك : فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه ؛ لَكِنْ لَا يَقُومُ بِإِسْنَادِهِ حُجَّةٌ ؛ وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْنَاهُ : أَنَّ حَقَّ السَّائِلِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ وَحَقَّ الْعَابِدِينَ لَهُ أَنْ يُثِيبَهُمْ وَهُوَ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ . كَمَا قَالَ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } . فَهَذَا سُؤَالُ اللَّهِ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِينَ : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ } . وَكَدُعَاءِ الثَّلَاثَةِ : الَّذِينَ أَوَوْا إلَى الْغَارِ لَمَّا سَأَلُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ الَّتِي وَعَدَهُمْ أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا . ا هـ .

وَلَمَّا كَانَ الشَّيْخُ فِي قَاعَةِ التَّرْسِيمِ دَخَلَ إلَى عِنْدِهِ ثَلَاثَةُ رُهْبَانٍ مِنْ الصَّعِيدِ فَنَاظَرَهُمْ وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَمَا هُمْ عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ وَالْمَسِيحُ . فَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ نَعْمَلُ مِثْلَ مَا تَعْمَلُونَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِالسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالسَّيِّدَةِ مَرْيَمَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْحُسَيْنِ وَمِنْ نَفِيسَةَ وَأَنْتُمْ تَسْتَغِيثُونَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ وَنَحْنُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ وَأَيُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْكُمْ وَهَذَا مَا هُوَ دِينُ إبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ مَلَكًا وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا كَوْكَبًا وَلَا نُشْرِكَ مَعَهُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا صَالِحًا { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } . وَأَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ لَا تُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِثْلُ إنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالَاتِ وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ . وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُؤْمِنُ بِهِمْ وَنُعَظِّمُهُمْ وَنُوَقِّرُهُمْ وَنَتَّبِعُهُمْ

وَنُصَدِّقُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ وَنُطِيعُهُمْ . كَمَا قَالَ نُوحٌ ؛ وَصَالِحٌ وَهُودٌ وَشُعَيْبٌ : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } فَجَعَلُوا الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَالطَّاعَةَ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ . فَلَوْ كَفَرَ أَحَدٌ بِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَآمَنَ بِالْجَمِيعِ مَا يَنْفَعُهُ إيمَانُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ النَّبِيِّ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ آمَنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَكَفَرَ بِكِتَابِ كَانَ كَافِرًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْيَوْمُ الْآخِرُ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا : الدِّينُ الَّذِي ذَكَرْته خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِ . ثُمَّ انْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ .

سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ ؟ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَبَبِ أَخْذِ رِزْقٍ وَهُوَ مُكْرَهٌ كَذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ : أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ : فَلَا يَجُوزُ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا كَمَا { قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ ؟ قَالَ : لَا } { وَلَمَّا رَجَعَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ . فَقَالَ : كَذَبُوا عَلَيْهِمْ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ أَجْلِ حَقِّهِ عَلَيْهَا يَا مُعَاذُ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ } . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَمَنْ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا قُرْبَةً وَتَدَيُّنًا فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِينِ وَلَا قُرْبَةٍ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ

أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ : وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ قَالُوا إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ فُضُولِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْخُضُوعَ لِلَّهِ تَعَالَى : كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَكْرَهَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الرَّبَّانِيُّ وَالْحَبْرُ النُّورَانِيُّ ؛ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ " النُّهُوضِ وَالْقِيَامِ الَّذِي يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنْ الْإِكْرَامِ عِنْدَ قُدُومِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مُعْتَبَرٍ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُتَقَاعِدِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَادِمَ يَخْجَلُ أَوْ يَتَأَذَّى بَاطِنًا وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ وَمَقْتٍ وَأَيْضًا الْمُصَادَفَاتُ فِي الْمَحَافِلِ وَغَيْرِهَا وَتَحْرِيكُ الرِّقَابِ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَالِانْخِفَاضُ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ يَحْرُمُ ؟ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَادَةً وَطَبْعًا لَيْسَ فِيهِ لَهُ قَصْدٌ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَشْرَافِ وَالْعُلَمَاءِ وَفِيمَنْ يُرَى مُطَمْئِنًا بِذَلِكَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ سَجَدْت لِلَّهِ هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَوْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَمْ تَكُنْ عَادَةُ السَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ : أَنْ يَعْتَادُوا الْقِيَامَ كُلَّمَا يَرَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ

لِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا قَامُوا لِلْقَادِمِ مِنْ مَغِيبِهِ تَلَقِّيًا لَهُ كَمَا { رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ لِعِكْرِمَةَ } { وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ } وَكَانَ قَدْ قَدِمَ لِيَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ . وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلنَّاسِ : أَنْ يَعْتَادُوا اتِّبَاعَ السَّلَفِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْدِلُ أَحَدٌ عَنْ هَدْيِ خَيْرِ الْوَرَى وَهَدْيِ خَيْرِ الْقُرُونِ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ . وَيَنْبَغِي لِلْمُطَاعِ أَنْ لَا يُقِرُّ ذَلِكَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِحَيْثُ إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ إلَّا فِي اللِّقَاءِ الْمُعْتَادِ .
وَأَمَّا الْقِيَامُ لِمَنْ يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَلَقِّيًا لَهُ فَحَسَنٌ . وَإِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ إكْرَامُ الْجَائِي بِالْقِيَامِ وَلَوْ تُرِكَ لَا أَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لِتَرْكِ حَقِّهِ أَوْ قَصْدِ خَفْضِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ لِلسُّنَّةِ فَالْأَصْلَحُ أَنْ يُقَامَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لِذَاتِ الْبَيْنِ وَإِزَالَةِ التَّبَاغُضِ وَالشَّحْنَاءِ ؛ وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ عَادَةَ الْقَوْمِ الْمُوَافَقَةَ لِلسُّنَّةِ : فَلَيْسَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ إيذَاءٌ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقِيَامُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَقُومُوا لَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَقُومُوا لِمَجِيئِهِ إذَا جَاءَ ؛ وَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُقَالَ قُمْت إلَيْهِ وَقُمْت لَهُ وَالْقَائِمُ لِلْقَادِمِ سَاوَاهُ فِي الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْقَائِمِ لِلْقَاعِدِ . [وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا

صَلَّوْا قِيَامًا أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ . وَقَالَ : لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا يُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا } ] (*) وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَاعِدٌ لِئَلَّا يَتَشَبَّهَ بِالْأَعَاجِمِ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِعُظَمَائِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ الَّذِي يُصْلِحُ اتِّبَاعَ عَادَاتِ السَّلَفِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَالِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . فَمَنْ لَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ الْعَادَةُ وَكَانَ فِي تَرْكِ مُعَامَلَتِهِ بِمَا اعْتَادَ مِنْ النَّاسِ مِنْ الِاحْتِرَامِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ : فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا كَمَا يَجِبُ فِعْلُ أَعْظَمِ الصلاحين بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الِانْحِنَاءُ عِنْدَ التَّحِيَّةِ : فَيُنْهَى عَنْهُ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الرَّجُلِ يَلْقَى أَخَاهُ يَنْحَنِي لَهُ ؟ قَالَ : لَا } وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِنَا كَمَا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : ( { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } وَفِي شَرِيعَتِنَا لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ الْقِيَامِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ فَكَيْفَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ وَكَذَلِكَ مَا هُوَ رُكُوعٌ نَاقِصٌ يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعَبِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ ؛ فَيُسَمُّونَ بَعْضَهُمْ عَبْدَ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا كَانَ اسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْمُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ اللَّاتِ وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ الْعُزَّى وَبَعْضَهُمْ عَبْدَ مَنَاةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُضِيفُونَ فِيهِ التَّعْبِيدَ إلَى غَيْرِ اللَّهِ مِنْ شَمْسٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُشْرَكُ بِاَللَّهِ . وَنَظِيرُ تَسْمِيَةِ النَّصَارَى عَبْدَ الْمَسِيحِ . فَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَعَبَّدَهُمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَسَمَّى جَمَاعَاتٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ كَمَا سَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَنَحْوَ هَذَا وَكَمَا سَمَّى أَبَا مُعَاوِيَةَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى فَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَانَ اسْمَ مَوْلَاهُ قَيُّومٌ فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْقَيُّومِ . وَنَحْوَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَقَعُ فِي الْغَالِيَةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَمُشَابِهِيهِمْ الْغَالِينَ فِي الْمَشَايِخِ فَيُقَالُ هَذَا غُلَامُ الشَّيْخِ يُونُسَ أَوْ لِلشَّيْخِ يُونُسَ أَوْ غُلَامُ ابْنِ

الرِّفَاعِيِّ أَوْ الْحَرِيرِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُومُ فِيهِ لِلْبَشَرِ نَوْعُ تَأَلُّهٍ كَمَا قَدْ يَقُومُ فِي نُفُوسِ النَّصَارَى مِنْ الْمَسِيحِ وَفِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ آلِهَتِهِمْ رَجَاءً وَخَشْيَةً وَقَدْ يَتُوبُونَ لَهُمْ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتُوبُونَ لِبَعْضِ الْآلِهَةِ وَالنَّصَارَى لِلْمَسِيحِ أَوْ لِبَعْضِ الْقِدِّيسِينَ . وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ : تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ كَمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيُّرُ الْأَسْمَاءِ كَعُمَرِ إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الكفرية إلَى الْأَسْمَاءِ الْإِيمَانِيَّةِ وَعَامَّةِ مَا سَمَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ هُمَا أَصْلُ بَقِيَّةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الهروي قَدْ سَمَّى أَهْلَ بَلَدِهِ بِعَامَّةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكَذَلِكَ أَهْلُ بَيْتِنَا : غَلَبَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ التَّعْبِيدُ لِلَّهِ كَعَبْدِ اللَّهِ ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ ؛ وَالسَّلَامِ ؛ وَالْقَاهِرِ ؛ وَاللَّطِيفِ ؛ وَالْحَكِيمِ ؛ وَالْعَزِيزِ ؛ وَالرَّحِيمِ وَالْمُحْسِنِ ؛ وَالْأَحَدِ ؛ وَالْوَاحِدِ ؛ وَالْقَادِرِ ؛ وَالْكَرِيمِ ؛ وَالْمَلِكِ ؛ وَالْحَقِّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ } وَكَانَ مِنْ شِعَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْحُرُوبِ : يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ يَا بَنِي

عُبَيْدِ اللَّهِ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ وحنين ؛ وَالْفَتْحِ ؛ وَالطَّائِفِ ؛ فَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ وَشِعَارُ الْأَوْسِ يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ
__________
(*) آخِرُ مَا وُجِدَ الْآنَ مِنْ كِتَابِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَةِ، وَيَلِيهِ كِتَابُ تَوْحِيدُ الْرُبُوبِيَةِ

الْجُزْءُ الْثَّانِي
كِتَابُ تَوْحِيدُ الْرُبُوبِيَةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ : قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَاعِدَةٌ أَوَّلِيَّةٌ :
أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَمَبْدَأَهُ وَدَلِيلَهُ الْأَوَّلَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا : هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِنْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَحْيُ اللَّهِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ

خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ : عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي } وَقَالَ : { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى } وَقَالَ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }.

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْغَافِلِينَ . وَقَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي خُطْبَةِ عُمَرَ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامٌ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللَّهَ هَدَى نَبِيَّكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنَ فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ . . . (1) (*).
وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ فِي الْقُرْآنِ بِالرُّسُلِ كَثِيرٌ . كَقَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . وَقَوْلُهُ : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } الآية (2) قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ؟ وَقَوْلِهِ : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا

فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } ؟ الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } الْآيَةَ . وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ لِلسُّنَنِ عَلَى الْأَبْوَابِ إذَا جَمَعُوا فِيهَا أَصْنَافَ الْعِلْمِ : ابْتَدَأَهَا بِأَصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . كَمَا ابْتَدَأَ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ بِبَدْءِ الْوَحْيِ وَنُزُولِهِ ؛ فَأَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ نُزُولِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى الرَّسُولِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِكِتَابِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ ثُمَّ بِكِتَابِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ فَرَتَّبَهُ التَّرْتِيبَ الْحَقِيقِيَّ . وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدارمي صَاحِبُ ( الْمُسْنَدِ ) : ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا . وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ : أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ مُسْلِمٍ ؛ وَالتِّرْمِذِي وَنَحْوِهِمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يُعَظِّمُ هَذَيْنِ وَنَحْوَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمْ فُقَهَاءُ فِي الْحَدِيثِ أُصُولًا وَفُرُوعًا .
وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى : هُوَ الْإِيمَانُ بِالرِّسَالَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ : كَانَ ذِكْرُهُ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ بِالرِّسَالَةِ - الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ - كَثِيرًا جِدًّا . كَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلِهِ : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } . وَقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ } وَقَوْلِهِ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } وَقَوْلِهِ : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَوْلِهِ : { وَإِنَّكَ

لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ؟ . فَيَعْلَمُ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَمْنَعُ الْكُفْرَ وَهَذَا كَثِيرٌ .
وَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ وَالْفَلَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِلْءَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } الْآيَةَ . ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاَلَّذِينَ نَافَقُوا وَقَوْلِهِ : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } . فَحَكَمَ عَلَى النَّوْعِ كُلِّهِ وَالْأُمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ جَمِيعِهَا بِالْخَسَارَةِ وَالسُّفُولِ إلَى الْغَايَةِ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ .
وَكَذَلِكَ جُعِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَأَهْلُ النَّارِ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِلْمًا شَائِعًا مُتَوَاتِرًا اضْطِرَارِيًّا مِنْ دِينِ الرَّسُولِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ . وَرَبَطَ السَّعَادَةَ مَعَ إصْلَاحِ الْعَمَلِ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } . وَأَحْبَطَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِزَوَالِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } وَقَوْلِهِ : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } وَقَوْلِهِ : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ

فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَذَكَرَ حَالَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمَهْدِيَّةِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الْآيَةَ . وَلِهَذَا أَمَرَ أَهْلَ الْعَقْلِ بِتَدَبُّرِهِ وَأَهْلَ السَّمْعِ بِسَمْعِهِ فَدَعَا فِيهِ إلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَإِلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِبْصَارِ وَالْإِصْغَاءِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْوَجَلِ وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَلَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ فِطْرِيًّا - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ } الْحَدِيثَ - فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ وَالْإِنَابَةَ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ وَيُعْبَدُ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَةِ : وُصُولَ الْعِبَادِ إلَى مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْعِبَادَةُ أَصْلُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ الْمُسْتَتْبِعِ لِلْجَوَارِحِ فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ . وَهُوَ الْمُضْغَةُ الَّذِي إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ . وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَحَالِهِ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ : بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ : هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ فِي الْقُرْآنِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } .

وَقَالَ فِي صَدْرِ الْبَقَرَةِ - بَعْدَ أَنْ صَنَّفَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ : مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ - فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَذَكَرَ آلَاءَهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نِعْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَقْرِيرِهِ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } . وَالْمُتَكَلِّمُ يَسْتَحْسِنُ مِثْلَ هَذَا التَّأْلِيفِ وَيَسْتَعْظِمُهُ حَيْثُ قُرِّرَتْ الرُّبُوبِيَّةُ ثُمَّ الرِّسَالَةُ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ الْكَلَامِيَّةِ فِي نَظَرِهِ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّاتِ أَوَّلًا : مِنْ تَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ تَلَقِّي السَّمْعِيَّاتِ مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ الْكَلَامِيَّةُ لِلْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ أَوَّلًا بِنَاءً عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ ثُمَّ إثْبَاتِ صِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ - عَلَى مَا بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ اتِّفَاقٍ وَاخْتِلَافٍ : إمَّا فِي الْمَسَائِلِ وَإِمَّا فِي الدَّلَائِلِ - ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ مِنْ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْإِيمَانِ بِطَرِيقِ مُجْمَلٍ . وَإِنَّمَا عُمْدَةُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ : هُوَ تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْعَقْلِيَّاتِ وَهِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ . وَقَدْ بَنَوْهَا عَلَى مَقَايِيسَ تَسْتَلْزِمُ رَدَّ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ؛ فَلَحِقَهُمْ الذَّمُّ مِنْ جِهَةِ ضَعْفِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا وَمِنْ جِهَةِ رَدِّهِمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَهُمْ قِسْمَانِ : قِسْمٌ بَنَوْا عَلَى هَذِهِ الْعَقْلِيَّاتِ الْقِيَاسِيَّةِ : الْأُصُولَ الْعِلْمِيَّةَ دُونَ الْعَمَلِيَّةِ كَالْأَشْعَرِيَّةِ ،

وَقِسْمٌ بَنَوْا عَلَيْهَا الْأُصُولَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ كَالْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْأَفْعَالِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَمَا حَسُنَ مِنْ اللَّهِ حَسُنَ مِنْ الْعَبْدِ وَمَا قَبُحَ مِنْ الْعَبْدِ قَبُحَ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ النَّاسُ مُشَبِّهَةَ الْأَفْعَالِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمُتَكَلِّمَةُ الْمَذْمُومُونَ عِنْدَ السَّلَفِ لِكَثْرَةِ بِنَائِهِمْ الدِّينَ عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الْكَلَامِيِّ وَرَدِّهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَالْآخَرُونَ لَمَّا شَارَكُوهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ لَحِقَهُمْ مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ بِقَدْرِ مَا وَافَقُوهُمْ فِيهِ ؛ وَهُوَ مُوَافَقَتُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دَلَائِلِهِمْ ؛ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ بِهَا أُصُولَ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَفِي طَائِفَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِمْ الَّتِي يُخَالِفُونَ بِهَا السُّنَنَ وَالْآثَارَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ . وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّا قَدْ كَتَبْنَا فِيهِ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ جَاءَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ - فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ - بِأَكْمَلِ الْمَنَاهِجِ .
وَالْمُتَكَلِّمُ يَظُنُّ أَنَّهُ بِطَرِيقَتِهِ - الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا - قَدْ وَافَقَ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ : تَارَةً فِي إثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَارَةً فِي إثْبَاتِ الْمَعَادِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ مِثْلَ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ظَنِّهِ أَنَّ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ تُوَافِقُ طَرِيقَتَهُ مِنْ وُجُوهٍ .

مِنْهَا : أَنَّ إثْبَاتَ الصَّانِعِ فِي الْقُرْآنِ بِنَفْسِ آيَاتِهِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمُ بِهَا الْعِلْمَ بِهِ كَاسْتِلْزَامِ الْعِلْمِ بِالشُّعَاعِ : الْعِلْمَ بِالشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى قِيَاسٍ كُلِّيٍّ يُقَالُ فِيهِ : وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ ؛ أَوْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ ؛ أَوْ كُلُّ حَرَكَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِلَّةٍ غائية أَوْ فَاعِلِيَّةٍ ؛ وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يُقَالَ : سَبَبُ الِافْتِقَارِ إلَى الصَّانِعِ هَلْ هُوَ الْحُدُوثُ فَقَطْ - كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ؟ أَوْ الْإِمْكَانُ - كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ ؟ حَتَّى يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّانِيَ حَالٌ بَاقِيَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الصَّانِعِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الصَّحِيحِ دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنِّي قَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَوْضِعَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ وَبَيَّنْت مَا هُوَ الْحَقُّ ؛ مِنْ أَنَّ نَفْسَ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الصَّانِعِ وَأَنَّ فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا أَنَّ الْغِنَى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ لِهَذَا الِافْتِقَارِ غَيْرُ نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَعَيْنِ الْآنِيَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا عِلَّةَ لِغِنَاهُ غَيْرَ نَفْسِ ذَاتِهِ . فَلَك أَنْ تَقُولَ : لَا عِلَّةَ لِفَقْرِهَا وَغِنَاهُ ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَمْرٍ عِلَّةٌ ؛ فَكَمَا لَا عِلَّةَ لِوُجُودِهِ وَغِنَاهُ : لَا عِلَّةَ لِعَدَمِهَا إذَا لَمْ يَشَأْ كَوْنَهَا وَلَا لِفَقْرِهَا إلَيْهِ إذَا شَاءَ كَوْنَهَا وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُولَ : عِلَّةُ هَذَا الْفَقْرِ وَهَذَا الْغِنَى : نَفْسُ الذَّاتِ وَعَيْنُ الْحَقِيقَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ فَقْرَ نَفْسِهِ وَحَاجَتَهَا إلَى خَالِقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ أَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَالْمُمْكِنُ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ أَوْ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَالْمُحْدَثُ الْمَسْبُوقُ بِالْعَدَمِ ؛ بَلْ قَدْ يَشُكُّ فِي قِدَمِهَا أَوْ يَعْتَقِدُهُ . وَهُوَ يَعْلَمُ فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا إلَى بَارِئِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْفَقْرِ إلَى الصَّانِعِ عِلَّةً إلَّا الْإِمْكَانَ أَوْ

الْحُدُوثَ لَمَا جَازَ الْعِلْمُ بِالْفَقْرِ إلَيْهِ ؛ حَتَّى تَعْلَمَ هَذِهِ الْعِلَّةَ ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ إلَّا هَذَا . وَحِينَئِذٍ : فَالْعِلْمُ بِنَفْسِ الذَّوَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ وَالْآنِيَاتِ الْمُضْطَرَّةِ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَاجَتِهَا إلَى بَارِئِهَا وَفَقْرِهَا إلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ آيَاتٍ . فَهَذَانِ مَقَامَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْمُؤَثِّرِ الْمُوجِبِ أَوْ الْمُحْدِثِ : لِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ . الثَّانِي : أَنَّ كُلَّ مُفْتَقِرٍ إلَى الْمُؤَثِّرِ : الْمُوجِبُ أَوْ الْمُحْدِثُ ؛ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ . وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ الطَّرِيقُ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ وَفِيهِ طُولٌ وَعَقَبَاتٌ تُبْعِدُ الْمَقْصُودَ . أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : فَالْعِلْمُ بِفَقْرِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إمْكَانٍ أَوْ حُدُوثٍ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَإِنَّ كَوْنَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِ كُلِّيٍّ : مِنْ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ لِأَنَّهَا آيَةٌ لَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ دُونَهُ أَوْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ آيَةٍ لَهُ . وَالْقَلْبُ بِفِطْرَتِهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِقَلْبِهِ وَصْفُ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ . وَالنُّكْتَةُ : أَنَّ وَصْفَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ لَا يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ الْقَلْبُ لَا فِي فَقْرِ ذَوَاتِهَا وَلَا فِي أَنَّهَا آيَةٌ لِبَارِيهَا ؛ وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ ثَابِتَيْنِ . وَهُمَا أَيْضًا دَلِيلٌ صَحِيحٌ ؛ لَكِنَّ أَعْيَانَ الْمُمْكِنَاتِ آيَةٌ لِعَيْنِ خَالِقِهَا الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ شَرِكَةٌ فِيهِ .

وَأَمَّا قَوْلُنَا كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُرَجِّحٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ مُحْدِثٌ : فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُحْدِثٍ وَمُرَجِّحٍ وَهُوَ وَصْفٌ كُلِّيٌّ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ ؛ وَلِهَذَا الْقِيَاسُ الْعَقْلِيُّ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْكُلِّيِّ الْمُطْلَقِ فَلَا بُدَّ إذًا مِنْ التَّعْيِينِ . فَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ عَلَى وَصْفِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ كُلِّيَّةٍ . وَأَيْضًا فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الصَّانِعِ بِوَصْفِ إمْكَانِهَا أَوْ حُدُوثِهَا أَوْ هُمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْتَقِرْ ذَلِكَ إلَى قِيَاسٍ كُلِّيٍّ ؛ بِأَنْ يُقَالَ : وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَوْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَضْلًا عَنْ تَقْرِيرِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ عِلْمُ الْقَلْبِ بِافْتِقَارِ هَذَا الْمُمْكِنِ وَهَذَا الْمُحْدَثِ كَعِلْمِهِ بِافْتِقَارِ هَذَا الْمُمْكِنِ وَهَذَا الْمُحْدَثِ . فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْمُعَيَّنَاتِ مُسْتَفَادًا مِنْ الْعِلْمِ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لَهَا ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ . كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَشَرَةَ ضِعْفُ الْخَمْسَةِ : لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفِيَّةٌ فَهُوَ ضِعْفُ نِصْفَيْهِ . وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } ؟ قَالَ جُبَيْرُ ابْنُ مُطْعِمٍ : لَمَّا سَمِعْتهَا أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ تَصَدَّعَ . وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ يَقُولُ أُوجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُبْدِعٍ ؟ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ غَيْرِ مُكَوِّنٍ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا نُفُوسَهُمْ وَعِلْمَهُمْ بِحُكْمِ أَنْفُسِهِمْ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ : بِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مُحْدَثٌ أَوْ كُلَّ مُمْكِنٍ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْعَامَّةُ النَّوْعِيَّةُ صَادِقَةً ؛ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِتِلْكَ الْمُعَيَّنَةِ الْخَاصَّةِ ؛ إنْ لَمْ يَكُنْ سَابِقًا لَهَا فَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا ؛ وَلَا دُونَهَا فِي الْجَلَاءِ .

وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَذَكَرْت دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ ؛ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ جَاءَ بِالطَّرِيقِ الْفِطْرِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ : { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ؟ وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ : { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا } بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الذَّوَاتِ آيَةٌ لِلَّهِ ؛ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَيْنِك الْمَقَامَيْنِ ؛ وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ بَيَّنَ حَاجَتَهُمْ إلَى الْخَالِقِ بِنُفُوسِهِمْ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ : هُمْ فِيهَا وَسَائِرُ أَفْرَادِهَا سَوَاءٌ ؛ بَلْ هُمْ أَوْضَحُ . وَهَذَا الْمَعْنَى قَرَّرْته مَبْسُوطًا فِي غَيْرِ هَذَا .
الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي مُفَارَقَةِ الطَّرِيقَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَغَايَتُهَا وَنِهَايَتُهَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ بِهِ كَمَا هُوَ غَايَةُ الطَّرِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ فَلَا وَافَقُوا لَا فِي الْوَسَائِلِ وَلَا فِي الْمَقَاصِدِ فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ الْقُرْآنِيَّةَ قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ قَرِيبَةٌ مُوَصِّلَةٌ إلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ قِيَاسِيَّةٌ بَعِيدَةٌ ؛ وَلَا تُوَصِّلُ إلَّا إلَى نَوْعِ الْمَقْصُودِ لَا إلَى عَيْنِهِ . وَأَمَّا الْمَقَاصِدُ فَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ بِالْعِلْمِ بِهِ وَالْعَمَلِ لَهُ فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّتَيْ الْإِنْسَانِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ : الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْإِدْرَاكِيَّةِ والاعتمادية : الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ حَيْثُ قَالَ : { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } فَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ ؛ وَالطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ ؛ إنَّمَا تُفِيدُ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ ؛ وَالِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهِ

وَهَذَا إذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ عِبَادَةٍ وَإِنَابَةٍ : كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ ؛ وَشَقَاءً لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ : عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ } كإبليس اللَّعِينِ ؛ فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِرَبِّهِ مُقِرٌّ بِوُجُودِهِ ؛ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْبُدْهُ كَانَ رَأْسَ الْأَشْقِيَاءِ وَكُلُّ مَنْ شَقِيَ فَبِاتِّبَاعِهِ لَهُ . كَمَا قَالَ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } . فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْهُ وَمِنْ أَتْبَاعِهِ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالرَّبِّ ؛ مُقِرٌّ بِوُجُودِهِ وَإِنَّمَا أَبَى وَاسْتَكْبَرَ عَنْ الطَّاعَةِ ؛ وَالْعِبَادَةِ ؛ وَالْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ الْعَمَلِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ وَالْغَايَةِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ الْعِلْمُ بِلَا عَمَلٍ كَالشَّجَرِ بِلَا ثَمَرٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ هُنَا عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَخَشْيَتُهُ لَهُ حَتَّى يَكُونَ عَابِدًا لَهُ . فَالرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ : أَمَرَتْ بِهَذَا وَأَوْجَبَتْهُ بَلْ هُوَ رَأْسُ الدَّعْوَةِ وَمَقْصُودُهَا وَأَصْلُهَا وَالطَّرِيقَةُ السَّمَاعِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الصَّوْتِيَّةُ الْمُنْحَرِفَةُ ؛ تُوَافِقُ عَلَى الْمَقْصُودِ الْعَمَلِيِّ ؛ لَكِنْ لَا بِعِلْمِ ؛ بَلْ بِصَوْتِ مُجَرَّدٍ أَوْ بِشِعْرِ مُهَيِّجٍ ؛ أَوْ بِوَصْفِ حُبٍّ مُجْمَلٍ . فَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْكَلَامِيَّةَ فِيهَا عِلْمٌ نَاقِصٌ بِلَا عَمَلٍ . فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِيهَا عَمَلٌ نَاقِصٌ بِلَا عِلْمٍ . وَالطَّرِيقَةُ النَّبَوِيَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ السُّنِّيَّةُ الْجَمَاعِيَّةُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ كَامِلَيْنِ .
فَفَاتِحَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ : الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ

النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ } وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا رَبَّ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ أَدَلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعِبَادَةِ لَهُ الَّتِي لَهَا خُلِقَ الْخَلْقُ وَبِهَا أُمِرُوا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُعَاذِ : { إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا . وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ لِلرُّسُلِ جَمِيعًا : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } { إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ } { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } وَقَالَ : { إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } وَقَالَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } وَقَالَ فِي الْفَاتِحَةِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ؟ وَقَالَ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ : فِي تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ
وَذَلِكَ بِبَيَانِ وَتَحْرِيرِ أَصْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ - كَمَا قَدْ كَتَبْته أَوَّلًا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَاَلَّذِي أَكْتُبُهُ هُنَا : - بَيَانُ الْفِرَقِ بَيْنَ الْمِنْهَاجِ النَّبَوِيِّ الْإِيمَانِيِّ الْعِلْمِيِّ الصلاحي وَالْمِنْهَاجِ الصَّابِئِ الْفَلْسَفِيِّ وَمَا تَشَعَّبَ عَنْهُ مِنْ الْمِنْهَاجِ الْكَلَامِيِّ وَالْعِبَادِيِّ الْمُخَالِفِ لِسَبِيلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوَّلًا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعِبَادَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ . فَأَصْلُ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ : هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَالْعَمَلُ لِلَّهِ ؛ وَذَلِكَ فِطْرِيٌّ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَبَيَّنْت أَنَّ أَصْلَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَأَنَّهُ أَشَدُّ رُسُوخًا فِي النُّفُوسِ مِنْ مَبْدَإِ الْعِلْمِ الرِّيَاضِيِّ كَقَوْلِنَا : إنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَمَبْدَأُ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ . كَقَوْلِنَا : إنَّ الْجِسْمَ

لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ أَسْمَاءٌ قَدْ تُعْرِضُ عَنْهَا أَكْثَرُ الْفِطَرِ وَأَمَّا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ : فَمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُ فِطْرَةٌ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمَّا كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ وَالْآخِرَ الَّذِي إلَيْهِ تَصِيرُ الْحَادِثَاتُ ؛ فَهُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَجَامِعُهُ وَذِكْرُهُ أَصْلُ كُلِّ كَلَامٍ وَجَامِعُهُ وَالْعَمَلُ لَهُ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَجَامِعُهُ . وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ صَلَاحٌ إلَّا فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ . وَإِذَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ : فَمَا سِوَاهُ إمَّا فَضْلٌ نَافِعٌ وَإِمَّا فُضُولٌ غَيْرُ نَافِعَةٍ ؛ وَإِمَّا أَمْرٌ مُضِرٌّ . ثُمَّ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ : تَتَشَعَّبُ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ : تَتَشَعَّبُ وُجُوهُ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ وَالْقَلْبُ بِعِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ : مُعْتَصِمٌ مُسْتَمْسِكٌ قَدْ لَجَأَ إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ وَاعْتَصَمَ بِالدَّلِيلِ الْهَادِي وَالْبُرْهَانِ الْوَثِيقِ فَلَا يَزَالُ إمَّا فِي زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَإِمَّا فِي السَّلَامَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ . وَبِهَذَا جَاءَتْ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ فِي أَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ؛ وَضَرَبَ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ - وَهُوَ الْمُقِرُّ بِرَبِّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا - بِالْحَيِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالنُّورِ وَالظِّلِّ . وَضَرَبَ مَثَلَ الْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالظُّلْمَةِ وَالْحَرُورِ . وَقَالُوا فِي الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ : هُوَ الَّذِي إذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غُفِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَسْوَسَ .

فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ : أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَصْلٌ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ كُلِّ كُفْرٍ وَجَهْلٍ وَفِسْقٍ وَظُلْمٍ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ . وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ . وَلِهَذَا : كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُسَمَّى دَلِيلًا وَمَنَعَ ابْنُ عَقِيلٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يُسَمَّى دَلِيلًا ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّالُّ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بِحَسَبِ مَا غَلَبَ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّالِّ وَالدَّلِيلِ . وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّلِيلَ مَعْدُولٌ عَنْ الدَّالِّ وَهُوَ مَا يُؤَكِّدُ فِيهِ صِفَةَ الدَّلَالَةِ فَكُلُّ دَلِيلٍ دَالٌّ وَلَيْسَ كُلُّ دَالٍّ دَلِيلًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا فَإِنَّ فَعِيلًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْآلَاتِ كمفعل ومفعال . وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَجْسَامِ أَدِلَّةً : بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَدُلُّ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهَا كَمَا يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَهْدِي وَتُرْشِدُ وَتَعْرِفُ وَتَعْلَمُ وَتَقُولُ وَتُجِيبُ وَتَحْكُمُ وَتُفْتِي وَتَقُصُّ وَتَشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ قَصْدٌ وَإِرَادَةٌ وَلَا حِسٌّ وَإِدْرَاكٌ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ . فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ وَالتَّخْصِيصِ : لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ .

الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ نَبِيُّهُ فِي عَبْدِهِ الْمَحْبُوبِ : { فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَعْقِلُ وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَسْعَى } وَالْمُسْلِمُ يَقُولُ : اسْتَعَنْت بِاَللَّهِ وَاعْتَصَمْت بِهِ . وَإِذَا كَانَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ : الْأَعْيَانُ وَالصِّفَاتُ يُسْتَدَلُّ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حَيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ بَلْ وَيُسْتَدَلُّ بِالْمَعْدُومِ ؛ فَلَأَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ أَوْلَى وَأَحْرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : " يَا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ " : يَقْتَضِي أَنَّ تَسْمِيَتَهُ دَلِيلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَالٌّ لِعِبَادِهِ لَا بِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ كَمَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا لَا يَقْصِدُ الدَّلَالَةَ وَالْهِدَايَةَ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْهَادِي وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا الْبُرْهَانُ ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : عَرَفْت الْأَشْيَاءَ بِرَبِّي وَلَمْ أَعْرِفْ رَبِّي بِالْأَشْيَاءِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الدَّلِيلُ لِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؛ وَإِنْ كَانَ كُلَّ شَيْءٍ - لِئَلَّا يُعَذِّبَنِي - عَلَيْهِ دَلِيلًا . وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك ؟ فَقَالَ : مَنْ طَلَبَ دِينَهُ بِالْقِيَاسِ : لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي الْتِبَاسٍ خَارِجًا عَنْ الْمِنْهَاجِ ظَاعِنًا فِي الِاعْوِجَاجِ : عَرَفْته بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفْته بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ حَصَلَتْ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ وَصْفَ اللِّسَانِ حَصَلَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ نُورُ الْقُرْآنِ .

وَقَالَ آخَرُ لِلشَّيْخِ :
قَالُوا ائْتِنَا بِبَرَاهِينَ فَقُلْت لَهُمْ * * * أَنَّى يَقُومُ عَلَى الْبُرْهَانِ بُرْهَانُ ؟
وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ لِلْمُتَكَلِّمِ : الْيَقِينُ عِنْدَنَا وَارِدَاتٌ تَرِدُ عَلَى النُّفُوسِ تَعْجِزُ النُّفُوسُ عَنْ رَدِّهَا فَأَجَابَهُ : بِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ . وَقَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ الكوراني لِلشَّيْخِ الْمُتَكَلِّمِ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ . وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ تَعَرَّفَ إلَيْنَا فَعَرَفْنَاهُ : يَعْنِي إنَّهُ تَعَرَّفَ بِنَفْسِهِ وَبِفَضْلِهِ . مَعَ أَنَّ كَلَامَ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الطَّرِيقَةِ الْعِبَادِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ . الْحَيُّ . الْقَيُّومُ الَّذِي هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُؤَصِّلُ كُلِّ أَصْلٍ وَمُسَبِّبُ كُلِّ سَبَبٍ وَعِلَّةٍ : هُوَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْأَوَّلُ وَالْأَصْلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَبْدُ وَيَفْزَعُ إلَيْهِ وَيَرُدُّ جَمِيعَ الْأَوَاخِرِ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ : كَانَ ذَلِكَ سَبِيلَ الْهُدَى وَطَرِيقَهُ كَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ وَالْحَرَكَاتِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَصْدَرَهَا وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهَا : كَانَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا . فَجِمَاعُ الْأَمْرِ : أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ النَّصِيرُ { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } . وَكُلُّ عِلْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَكُلُّ عَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قُوَّةٍ . فَالْوَاجِبُ

أَنْ يَكُونَ هُوَ أَصْلُ كُلِّ هِدَايَةٍ وَعِلْمٍ وَأَصْلَ كُلِّ نُصْرَةٍ وَقُوَّةٍ وَلَا يَسْتَهْدِي الْعَبْدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَنْصِرُ إلَّا إيَّاهُ . وَالْعَبْدُ لَمَّا كَانَ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا مَفْطُورًا مَصْنُوعًا : عَادَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ إلَى خَالِقِهِ وَفَاطِرِهِ وَرَبِّهِ وَصَانِعِهِ فَصَارَ ذَلِكَ تَرْتِيبًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ وَتَأْلِيفًا مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ ؛ إذْ بِنَاءُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ وَتَقْدِيمُ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ : هُوَ الْحَقُّ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُوَافِقَةُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ وَخِلْقَتِهِ وَلِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ (1) أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ إلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ؛ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْفَلْسَفِيَّةُ الْكَلَامِيَّةُ : فَإِنَّهُمْ ابْتَدَءُوا بِنُفُوسِهِمْ فَجَعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلَ الَّذِي يُفَرِّعُونَ عَلَيْهِ وَالْأَسَاسَ الَّذِي يَبْنُونَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمُوا فِي إدْرَاكِهِمْ لِلْعِلْمِ : أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ بِالْحِسِّ وَتَارَةً بِالْعَقْلِ وَتَارَةً بِهِمَا . وَجَعَلُوا الْعُلُومَ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ وَنَحْوَهَا : هِيَ الْأَصْلَ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عِلْمٌ إلَّا بِهَا . ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إنَّمَا يُدْرِكُونَ بِذَلِكَ الْأُمُورَ الْقَرِيبَةَ مِنْهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ فَجَعَلُوا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْأُصُولَ

الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا سَائِرَ الْعُلُومِ ؛ وَلِهَذَا يُمَثِّلُونَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ - كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ - لَا يَجْتَمِعَانِ . فَهَذَانِ الْفَنَّانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَأَمَّا الْأَخْلَاقُ مِثْلُ : اسْتِحْسَانُ الْعِلْمِ وَالْعَدْلُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ . فَجُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْأُصُولِ لَكِنَّهَا مِنْ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهَا مِنْ الْأُصُولِ ؛ بَلْ يَجْعَلُهَا مِنْ الْفُرُوعِ . الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ . وَهُوَ قَوْلُ غَالِبِ الْمُتَكَلِّمَةِ الْمُنْتَصِرِينَ لِلسُّنَّةِ فِي تَأْوِيلِ الْقَدَرِ فَكَانَ الَّذِي أَصَّلُوهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ : أَمْرًا قَلِيلَ الْفَائِدَةِ . نَزْرَ الْجَدْوَى وَهُوَ الْأُمُورُ السُّفْلِيَّةُ . ثُمَّ إذَا صَعِدُوا مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ وَالدَّلَائِلِ إلَى الْأُمُورِ الْعُلْوِيَّةِ فَلَهُمْ طَرِيقَانِ : أَمَّا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِلنُّبُوَّاتِ : فَغَرَضُهُمْ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ صَانِعِ الْعَالَمِ وَالصِّفَاتُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ عَلَى طَرِيقِهِمْ ثُمَّ إذَا أَثْبَتُوا النُّبُوَّةَ : تَلَقَّوْا مِنْهَا السَّمْعِيَّاتِ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَفُرُوعُ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُتَفَلْسِفَةُ : فَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَوَازِمِهَا ؛ ثُمَّ يَصْعَدُونَ إلَى الْأَفْلَاكِ وَأَحْوَالِهَا . ثُمَّ الْمُتَأَلِّهُونَ مِنْهُمْ يَصْعَدُونَ إلَى وَاجِبِ

الْوُجُودِ وَإِلَى الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ وَاجِبَ الْوُجُودِ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وَاجِبٍ . وَهَذِهِ الطُّرُقُ فِيهَا فَسَادٌ كَثِيرُ مِنْ جِهَةِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ : أَمَّا الْمَقَاصِدُ فَإِنَّ حَاصِلَهَا بَعْدَ التَّعَبِ - الْكَثِيرِ وَالسَّلَامَةِ - خَيْرٌ قَلِيلٌ فَهِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ . ثُمَّ إنَّهُ يَفُوتُ بِهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَحْمُودَةِ مَا لَا يَنْضَبِطُ هُنَا . وَأَمَّا الْوَسَائِلُ : فَإِنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ كَثِيرَةُ الْمُقَدِّمَاتِ يَنْقَطِعُ السَّالِكُونَ فِيهَا كَثِيرًا قَبْلَ الْوُصُولِ وَمُقَدِّمَاتُهَا فِي الْغَالِبِ إمَّا مُشْتَبِهَةٌ يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا وَإِمَّا خَفِيَّةٌ لَا يُدْرِكُهَا إلَّا الْأَذْكِيَاءُ . وَلِهَذَا لَا يَتَّفِقُ مِنْهُمْ اثْنَانِ رَئِيسَانِ عَلَى جَمِيعِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلٍ إلَّا نَادِرًا . فَكُلُّ رَئِيسٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين : لَهُ طَرِيقَةٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ تُخَالِفُ طَرِيقَةَ الرَّئِيسِ الْآخَرِ بِحَيْثُ يَقْدَحُ كُلٌّ مِنْ أَتْبَاعِ أَحَدِهِمَا فِي طَرِيقَةِ الْآخَرِ وَيَعْتَقِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِطَرِيقَتِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْمِلَّةِ بَلْ عَامَّةُ السَّلَفِ يُخَالِفُونَهُ فِيهَا . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ غَالِبَ الْمُتَكَلِّمِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالِمِ ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى مُحْدِثِهِ ؛ ثُمَّ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ حُدُوثِهِ طُرُقٌ : فَأَكْثَرُهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ ؛ وَهِيَ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ . ثُمَّ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ : لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ

أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِأَفْعَالِهِ وَإِلَّا انْتَقَضَ الدَّلِيلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُخَالِفُهُمْ فِيهَا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ . وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِحُدُوثِ الْحَرَكَاتِ : يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ السَّمْعِيَّاتِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ ؛ وَيَنْزِلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ؛ لَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ ؛ وَلَا عِزَّةَ ؛ وَلَا رَحْمَةَ ؛ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ أَعْرَاضٌ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ . وَأَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفَلْسَفَةِ - كَابْنِ سِينَا - يَبْتَدِئُ بِالْمَنْطِقِ ثُمَّ الطَّبِيعِيِّ وَالرِّيَاضِيِّ أَوْ لَا يَذْكُرُهُ . ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الْإِلَهِيِّ . وَتَجِدُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْكَلَامِ يَبْتَدِئُونَ بِمُقَدِّمَاتِهِ فِي الْكَلَامِ : فِي النَّظَرِ وَالْعِلْمِ . وَالدَّلِيلُ - وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَنْطِقِ - ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ . وَإِثْبَاتِ مُحْدِثِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَقِلُ إلَى تَقْسِيمِ الْمَعْلُومَاتِ إلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَيَنْظُرُ فِي الْوُجُودِ وَأَقْسَامُهُ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْفَيْلَسُوفُ فِي أَوَّلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ . فَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَأَوَّلُ دَعْوَتِهِمْ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .

وَقَدْ اعْتَرَفَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُطَهِّرُونَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَيَمْلَئُونَهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا مَبْدَأُ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ؛ لَكِنَّ الصُّوفِيَّ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ الْإِثَارَةُ النَّبَوِيَّةُ مُفَصَّلَةٌ يَسْتَفِيدُ بِهَا إيمَانًا مُجْمَلًا ؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْإِثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُ مُفَصَّلَةٌ . فَتَدَبَّرْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِيَتَمَيَّزَ لَك طَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَطَرِيقُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ مِنْ طَرِيقِ الْجَهْلِ وَالنُّكْرَانِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْن تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ تَكَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَصَوِّفَةِ ، فِي قِيَامِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ ؛ لَكِنْ يَسْتَشْهِدُونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } وَيَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ هُوَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ هَالِكٌ أَوْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ وَإِنَّمَا لَهُ الْوُجُودُ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ فَهُوَ هَالِكٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مَوْجُودٌ بِوَجْهِ رَبِّهِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ مَوْجُودٌ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى مَذْهَبِ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ ؛ فَيَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ هُوَ وُجُودُ الْكَائِنَاتِ وَوَجْهُ اللَّهِ هُوَ وُجُودُهُ فَيَكُونُ وَجُودُهُ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ وَالْوُجُودِ الْمُمْكِنِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَنَحْوِهِمَا - وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ جَعَلَ وُجُودَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَمَيَّزُ بِحَقِيقَةِ تَخُصُّهُ سَوَاءٌ جَعَلَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - كَمَا يَزْعُمُ ابْنُ سِينَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ - أَوْ جَعَلَهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا بِشَرْطِ - كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ .

وَهُمْ يُسَلِّمُونَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ - مِمَّا هُوَ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ - بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ - إنَّمَا وُجُودُهُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَالْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَالْإِنْسَانِ الْمُطْلَقِ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا بِشَرْطِ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ غَيْرُ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ لَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ وُجُودُ مُطْلَقٍ سِوَى أَعْيَانِهَا كَمَا لَيْسَ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ وَهَذَا الْإِنْسَانِ إنْسَانٌ مُطْلَقٌ وَرَاءَ هَذَا الْإِنْسَانِ ؛ فَيَكُونُ وُجُودُ الرَّبِّ عَلَى الْأَوَّلِ ذِهْنِيًّا وَعَلَى الثَّانِي نَفْسَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين ؛ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعْطِيلِ ؛ لَكِنْ هُمْ يُثْبِتُونَهُ أَيْضًا . فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . فَيَبْقَوْنَ فِي الْحَيْرَةِ ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْحَيْرَةَ مُنْتَهَى الْمَعْرِفَةِ وَيَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَكْذُوبًا عَلَيْهِ { أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ أَشَدُّكُمْ حَيْرَةً } وَأَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا } وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُلْتَزِمِينَ لِذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ والاتحادية وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ هَؤُلَاءِ بِالْتِزَامِهِ ؛ بِخِلَافِ الْبَاطِنِيَّةِ والاتحادية مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ . فَإِنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِالْتِزَامِهِ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ الْحَلَّاجِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يُقَالَ : أَمَّا كَوْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ ؛ فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ ؛ وَهُوَ مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ فِي بَدِيهَةِ عَقْلِ كُلِّ إنْسَانٍ وَإِنْ كَانَ مُنْتَحِلُوهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَأَمَّا كَوْنُ الْمَخْلُوقِ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ الْخَالِقِ - سُبْحَانَهُ - فَهَذَا حَقٌّ ثُمَّ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ هُوَ خَالِقُهَا وَرَبُّهَا وَمَلِيكُهَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَعَانِيَ : تَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ . فَالْبَاطِلُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ . وَالْحَقُّ : إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فُسِّرَ بِهِ وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْنًى صَحِيحٍ يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ لِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَةٍ كَالْمُنَاسِبَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالتَّعْبِيرِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ وُجُوهِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ إذْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى سَمْعِيَّةٌ : فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَيْثُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى بِهِ لَا يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَصْلُحَ وَضْعُ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى . إذْ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَصْلُحُ وَضْعُهَا لِلْمَعَانِي وَلَمْ تُوضَعْ لَهَا : لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إلَّا اللَّهُ . وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبَيَانِ وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الْمُنَاسَبَةَ : فَكُلُّ لَفْظٍ يَصْلُحُ وَضْعُهُ لِكُلِّ مَعْنًى ؛ لَا سِيَّمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ ؛ فَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ . ثُمَّ إنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلِمَ مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ دَأْبُ الْقَرَامِطَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ جُهَّالِ الْوُعَّاظِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِشَارَاتِ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ

عَلَيْهَا نَصًّا وَلَا قِيَاسًا وَأَمَّا أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ مَفْهُومًا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ فَحَالُهُمْ كَحَالِ الْفُقَهَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْقِيَاسِ ؛ وَالِاعْتِبَارِ وَهَذَا حَقٌّ إذَا كَانَ قِيَاسًا صَحِيحًا لَا فَاسِدًا وَاعْتِبَارًا مُسْتَقِيمًا لَا مُنْحَرِفًا . وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَنَقُولُ : تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا هُوَ مَأْثُورٌ وَمَنْقُولٌ عَنْ مَنْ قَالَهُ مِنْ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ ؛ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ . هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْمُحْدَثِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ التَّفْسِيرِ الْمُحْدَثِ وَهَذَا يُبَيَّنُ بِوُجُوهِ بَعْضُهَا يُشِيرُ إلَى الرُّجْحَانِ وَبَعْضُهَا يُشِيرُ إلَى الْبُطْلَانِ . الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ إلَّا مِنْ وَجْهِهِ وَلَكِنْ قَالَ إلَّا وَجْهَهُ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءُ تَهْلَكُ إلَّا وَجْهَهُ . فَإِنْ أُرِيدَ بِوَجْهِهِ وُجُودَهُ : اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى وُجُودِهِ هَالِكٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ هَالِكَةً . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الِاتِّحَادِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ إلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سِوَى وُجُودِهِ هَالِكٌ إذْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سِوَى وُجُودِهِ إذْ أَصْلُ مَذْهَبِهِمْ نَفْيُ السِّوَى وَالْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَهَذَا يَتِمُّ بِالْوَجْهِ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ الْمُرَادُ بِالْهَالِكِ الْمُمْكِنُ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ . فَيَكُونُ الْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا هُوَ . قِيلَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْهَالِكِ فِي الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ الْمَخْلُوقِ لِأَجْلِ أَنَّ وُجُودَهُ مِنْ رَبِّهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ : لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا .

وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ فِي اسْمِ الْهَلَاكِ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ . فَقَالَ تَعَالَى : { إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } وَقَالَ { وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } وَقَالَ : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { إنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } وَقَالَ : { أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ } { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ } . فَهَذِهِ الْآيَاتُ : تَقْتَضِي أَنَّ الْهَلَاكَ اسْتِحَالَةٌ وَفَسَادٌ فِي الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ لَا أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ إذْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ تَشْتَرِكُ فِي هَذَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ قَابِلٌ لِلْعَدَمِ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ مُمْكِنٌ قَابِلٌ الْعَدَمَ لَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ الْخَبَرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ اللَّهِ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ - إلَى اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْكَائِنَاتِ - كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ إيضَاحِ الْوَاضِحِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلّ ما سِوَى وَاجِبِ الْوُجُودِ : فَهُوَ مُمْكِنٌ وَأَنَّ كُلّ ما هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنْ يُقَالَ : اسْمُ الْوَجْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي سِيَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالْعَمَلِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي تَقْرِيرِ أُلُوهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ لَا فِي تَقْرِيرِ وَحْدَانِيَّةِ كَوْنِهِ خَالِقًا وَرَبًّا وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْعِلَّةُ الغائية وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ وَالْعِلَّةُ الغائية هِيَ الْمَقْصُودَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ بَلْ هِيَ عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ وَلِهَذَا : قَدَّمْت فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُ اسْمِ الْوَجْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْوَجْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَاكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الْكِتَابُ وَالْكِتَابُ قَدْ وَرَدَ بِغَيْرِهِ حَيْثُ ذُكِرَ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ اسْمَ الْهَلَاكِ يُرَادُ بِهِ الْفَسَادُ وَخُرُوجُهُ عَمَّا يُقْصَدُ بِهِ

وَيُرَادُ ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا لَا يَكُونُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَجِبُ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِنَهْيِهِمْ عَنْ الرَّسُولِ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ نَأَى عَنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَنَهَى غَيْرَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْكَافِرُ - فَإِنَّ هَلَاكَهُ بِكُفْرِهِ هُوَ حُصُولُ الْعَذَابِ الْمَكْرُوهِ لَهُ دُونَ النَّعِيمِ الْمَقْصُودِ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } .
وَقَالَ : (1)

وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - : (*)
فَصْلٌ :
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا : لَيْسَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا قَيُّومًا ؛ بَلْ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ فِي مَفْعُولَاتِهِ عَاجِزًا عَنْ الِانْفِرَادِ بِهَا إذْ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ (*) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ لَا يُمْكِنُ . وَالثَّانِي : مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِوَاحِدِ : لَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا مُمْكِنًا لِاثْنَيْنِ فَإِنَّ حَالَ الشَّيْءِ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا مُمْكِنًا . لَا يَخْتَلِفُ بِتَعَدُّدِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَتَوَحُّدِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِوَاحِدِ : امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا لِاثْنَيْنِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِاثْنَيْنِ وَهُوَ مُمْكِنٌ : جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا لِوَاحِدِ وَهَذَا بَيِّنٌ إذَا كَانَ الْإِمْكَانُ وَالِامْتِنَاعُ لِمَعْنَى فِي الْمُمْكِنِ - الْمَفْعُولِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ - إذْ صِفَاتُ ذَاتِهِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْحَالِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِمَعْنَى فِي الْقَادِرِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ لَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَقُومَ

بِوَاحِدِ بَلْ إمْكَانُ ذَلِكَ : مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ ؛ بَلْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا كُلَّمَا كَانَ مَحَلُّهَا مُتَّحِدًا مُجْتَمِعًا كَانَ أَكْمَلَ لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا . وَلِهَذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ يُوجِبَ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَانْفَرَدَتْ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهَا بَاقِيَةً بَلْ الْأَشْخَاصُ وَالْأَعْضَاءُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَدْ قَامَ بِكُلِّ مِنْهَا قُدْرَةٌ ؛ فَإِذَا قُدِّرَ اتِّحَادُهَا وَاجْتِمَاعُهَا : كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ أَقْوَى وَأَكْمَلَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا مِنْ الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ : بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يَكُنْ حِينَ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَائِمَةَ بِاثْنَيْنِ - إذَا قُدِّرَ أَنَّ ذَيْنَك الِاثْنَيْنِ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا - تَكُونُ الْقُدْرَةُ أَكْمَلَ فَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُسَاوِيَةً لِلْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِمَحَلَّيْنِ ؟ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَحَلَّيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَامَ بِهِمَا قُدْرَتَانِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا مَحَلٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ قَامَتَا بِهِ لَمْ تَنْقُصْ الْقُدْرَةُ بِذَلِكَ بَلْ تَزِيدُ : عُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُمْكِنَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لِقَادِرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ - إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا - قَادِرٌ وَاحِدٌ قَدْ قَامَ بِهِ مَا قَامَ بِهِمَا : لَمْ يَنْقُصْ بِذَلِكَ بَلْ يَزِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا : قَابِلًا لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي الْمُشْتَرِكَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَا شَيْئًا وَاحِدًا قَادِرًا عَلَيْهِ ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ أُخْرَى .

إذَا كَانَ يُمْكِنُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَتَغَيَّرَ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ وَيُغَيِّرَهَا إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْفِرَادِ بِمَفْعُولِ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَتَغْيِيرِهَا أَوْلَى ؟ . وَإِذَا كَانَ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَيُكْمِلَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ إمْكَانٌ وَافْتِقَارٌ إلَى غَيْرِهِ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا مُمْكِنًا . وَهَذَا تَنَاقُضٌ إذْ مَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ تَكُونُ نَفْسُهُ كَافِيَةً فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ ؛ إذْ ذَلِكَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى ذَاتِهِ بَلْ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمَفْعُولَاتِهِ . فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ وَافْتِقَارِهِ إلَى غَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْمَفْعُولَاتِ : يُوجِبُ افْتِقَارَهُ فِي فِعْلِهِ وَصِفَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ ؛ إذْ مَفْعُولُهُ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ كَامِلَةً غَنِيَّةً : لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى غَيْرِهِ فِي فِعْلِهَا ؛ فَافْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ : دَلِيلُ عَدَمِ غِنَاهُ وَعَلَى حَاجَتِهِ إلَى الْغَيْرِ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْوُجُودِ : مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : كَانَ الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ مِنْ خَصَائِصِ

رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شَرِيكٍ فِي الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مِنْ خَصَائِصِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ وَحْدَهُ عِلَّةً قَائِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الشَّرِيكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَفْعُولَاتِ بَلْ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ عَنْ بَعْضِ الْأَسْبَابِ إلَّا بِمُشَارَكَةِ سَبَبٍ آخَرَ لَهُ . فَيَكُونُ - وَإِنْ سُمِّيَ عِلَّةً - عِلَّةً مُقْتَضِيَةً سَبَبِيَّةً ؛ لَا عِلَّةً تَامَّةً وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْطًا لِلْآخَرِ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَبَبٌ إلَّا وَلَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْفِعْلِ فَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقِ - مِمَّا يُسَمَّى عِلَّةً أَوْ سَبَبًا أَوْ قَادِرًا أَوْ فَاعِلًا أَوْ مُدَبِّرًا - فَلَهُ شَرِيكٌ هُوَ لَهُ كَالشَّرْطِ وَلَهُ مُعَارِضٌ هُوَ لَهُ مَانِعٌ وَضِدٌّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } وَالزَّوْجُ يُرَادُ بِهِ النَّظِيرُ الْمُمَاثِلُ وَالضِّدُّ الْمُخَالِفُ وَهُوَ النِّدُّ . فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا لَهُ شَرِيكٌ وَنِدٌّ . وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُسَمَّى خَالِقًا وَلَا رَبًّا مُطْلَقًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ وَالِانْفِرَادَ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْنُوعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ؟ وَلِهَذَا - وَإِنْ نَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ : فِي كَوْنِ الْعِلَّةِ تَكُونُ ذَاتَ أَوْصَافٍ وَادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ - فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذَات أَوْصَافٍ بَلْ قِيلَ لَا تَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ

عِلَّةٌ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ أَوْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ مَا يَكُونُ وَحْدَهُ عِلَّةً وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ عِلَّةٌ إلَّا مَا كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ فَصَاعِدًا . فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقِ وَاحِدٌ يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ ؛ بَلْ لَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَخْلُوقِ شَيْءٌ : إلَّا عَنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَأَمَّا الْوَاحِدُ الَّذِي يَفْعَلُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ إلَّا اللَّهُ . فَكَمَا أَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ وَاجِبَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لَهُ : فَالْمُشَارَكَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمَخْلُوقِ لَازِمَةٌ لَهُ والوحدانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكَمَالِ وَالْكَمَالُ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا وَالِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنُّقْصَانِ وَالنُّقْصَانُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ . وَكَذَلِكَ الْوَحْدَانِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْغِنَى عَنْ الْغَيْرِ : وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَوُجُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ - مِنْ الْغِنَى وَالْوُجُوبِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ - مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ ؛ وَالْمُشَارَكَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفَقْرِ إلَى الْغَيْرِ وَالْإِمْكَانِ بِالنَّفْسِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ . وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ وَالْإِمْكَانُ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِلِاشْتِرَاكِ وَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِنْ دَلَائِلِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْلَامِهَا وَهِيَ مِنْ دَلَائِلِ إمْكَانِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَشْهُودَاتِ وَفَقْرِهَا وَأَنَّهَا مِنْ بَدْئِهِ فَهِيَ مِنْ أَدِلَّةِ إثْبَاتِ الصَّانِعِ ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الِافْتِرَاقِ وَالتَّعْدَادِ وَالِاشْتِرَاكِ : يُوجِبُ افْتِقَارَهَا وَإِمْكَانَهَا وَالْمُمْكِنُ الْمُفْتَقِرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ . وَلَوْ فُرِضَ تَسَلْسُلُ الْمُمْكِنَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ فَهِيَ بِمَجْمُوعِهَا مُمْكِنَةٌ . وَالْمُمْكِنُ قَدْ عُلِمَ

بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ فَقِيرٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَيْضًا فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَنِيٍّ بِنَفْسِهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ بِحَالِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْوَاجِبُ الْكَامِلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ ؛ لِوُجُوهِ : قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِثْلَ أَنَّ الْمُتَحَرِّكَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَرَكَةٍ إرَادِيَّةٍ وَلَا بُدَّ لِلْإِرَادَةِ مِنْ مُرَادٍ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ وَالْمَخْلُوقُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِنَفْسِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِنَفْسِهِ ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَانِ بِأَنْفُسِهِمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُرَادَانِ بِأَنْفُسِهِمَا . وَأَيْضًا فَالْإِلَهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ لِنَفْسِهِ - إنْ لَمْ يَكُنْ رَبًّا - امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَا يَكُونُ رَبًّا خَالِقًا لَا يَكُونُ مَدْعُوًّا مَطْلُوبًا مِنْهُ مُرَادًا لِغَيْرِهِ ؛ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مَعْبُودًا مُرَادًا لِنَفْسِهِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى فَإِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ إثْبَاتَ الرُّبُوبِيَّةِ وَنَفْيُ الرِّبَوِيَّةِ يُوجِبُ نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ ؛ إذْ الْإِلَهِيَّةُ هِيَ الْغَايَةُ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْبِدَايَةِ كَاسْتِلْزَامِ الْعِلَّةِ الغائية لِلْفَاعِلِيَّةِ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ - وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ وَبِالشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ - فَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالْأَمْثَالِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ . لَكِنْ الْمُتَكَلِّمُونَ إنَّمَا انْتَصَبُوا لِإِقَامَةِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ،

وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِي أَصْلِهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَإِنَّمَا نَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفَاصِيلِهِ كَنِزَاعِ الْمَجُوسِ والثنوية وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ فَهُوَ الشِّرْكُ الْعَامُّ الْغَالِبُ الَّذِي دَخَلَ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } كَمَا قَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ : قَاعِدَةٌ
قَدْ كَتَبْت مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْكُرَّاسِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا .
أَصْلُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ : هُوَ شُعُورُ النَّفْسِ بِالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ . فَإِذَا شَعَرَتْ بِثُبُوتِ ذَاتِ شَيْءٍ أَوْ صِفَاتِهِ : اعْتَقَدَتْ ثُبُوتَهُ وَصَدَّقَتْ بِذَلِكَ . ثُمَّ إنْ كَانَتْ صِفَاتِ كَمَالٍ اعْتَقَدَتْ إجْلَالَهُ وَإِكْرَامَهُ صَدَّقَتْ وَمَدَحَتْهُ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ . وَإِذَا شَعَرَتْ بِانْتِفَائِهِ أَوْ انْتِفَاءِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ : اعْتَقَدَتْ انْتِفَاءَ ذَلِكَ . وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ لَا بِثُبُوتِ وَلَا انْتِفَاءٍ : لَمْ تَعْتَقِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ تُصَدِّقْ وَلَمْ تُكَذِّبْ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَتْ الِانْتِفَاءَ إذَا لَمْ تَشْعُرْ بِالثُّبُوتِ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ أَيْضًا بِالْعَدَمِ . وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِالْعَدَمِ وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالْوُجُودِ فَرْقٌ بَيِّنٌ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْجَهْلِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَاَلَّذِي مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ .

ثُمَّ إذَا اعْتَقَدَتْ الِانْتِفَاءَ كَذَّبَتْ بِالثُّبُوتِ وَذَمَّتْهُ وَطَعَنَتْ فِيهِ ؛ هَذَا إذَا كَانَ مَا اسْتَشْعَرَتْ وُجُودَهُ أَوْ عَدَمَهُ مَحْمُودًا وَأَمَّا إنْ كَانَ مَذْمُومًا : كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . وَكَذَلِكَ إذَا شَعَرَتْ بِمَا يُلَائِمُهَا أَحَبَّتْهُ وَأَرَادَتْهُ وَإِنْ شَعَرَتْ بِمَا يُنَافِيهَا أَبْغَضَتْهُ وَكَرِهَتْهُ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا أَوْ شَعَرَتْ بِمَا لَيْسَ بِمُلَائِمِ وَلَا مُنَافٍ : فَلَا مَحَبَّةَ وَلَا بِغْضَةَ ؛ وَرُبَّمَا أَبْغَضْتَ . مَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا إذْ لَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا . وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِالْمُنَافِي وَعَدَمِ الشُّعُورِ بِالْمُلَائِمِ : فَرْقٌ بَيِّنٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا مَحْمُودٌ فَإِنَّ مَا لَمْ يُلَائِمْ الْإِنْسَانَ : فَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فَيَكُونُ الْمَيْلُ إلَيْهِ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ وَالْمَضَرَّةِ . فَيَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْمَيْلُ إلَيْهِ مَضَرَّةٌ ثُمَّ يَتْبَعُ الْحُبَّ لِلشَّخْصِ ؛ أَوْ الْعَمَلَ : الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ . كَمَا يَتْبَعُ الْبُغْضَ : اللَّعْنَةُ لَهُ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَحْبُوبًا . وَلَا مُبْغَضًا لَا يَتْبَعُهُ ثَنَاءٌ وَلَا دُعَاءٌ وَلَا طَعْنٌ وَلَا لَعْنٌ .
وَلَمَّا كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وُجُودُ مَحْبُوبٍ مَأْلُوهٍ : كَانَ أَصْلُ السَّعَادَةِ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ : قَوْلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَعَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَحَبَّةُ عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ إذْ لَا مُلَائِمَةَ لِأَرْوَاحِ الْعِبَادِ : أَتَمُّ مِنْ مُلَاءَمَةِ إلَهِهَا الَّذِي هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ جَامِعًا لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ تَعْبِيرُ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ

التَّصْدِيقِ نَاقِصًا قَاصِرًا : انْقَسَمَ الْأُمَّةُ إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ : - فَالْجَامِعُونَ حَقَّقُوا كِلَا مَعْنَيَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ التصديقي وَالْعَمَلِ الْإِرَادِيِّ . وَفَرِيقَانِ فَقَدُوا أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ : فالكلاميون : غَالِبُ نَظَرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْقَضَايَا التصديقية ؛ فَغَايَتُهُمْ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ . وَالصُّوفِيُّونَ : غَالِبُ طَلَبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَمَلِيَّةِ ؛ فَغَايَتُهُمْ الْمَحَبَّةُ وَالِانْقِيَادُ وَالْعَمَلُ وَالْإِرَادَةُ . وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ : فَجَامِعُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ؛ بَيْنَ التَّصْدِيقِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِ الحبي . ثُمَّ إنَّ تَصْدِيقَهُمْ عَنْ عِلْمٍ وَعَمَلَهُمْ وَحُبَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ فَسَلِمُوا مَنْ آفَتَيْ مُنْحَرِفَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَحَصَّلُوا مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ النَّقْصِ ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُنْحَرِفِينَ لَهُ مَفْسَدَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا - وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ - إنْ كَانَ مُتَصَوِّفًا - وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنْ الْبِدَعِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالثَّانِي : فَوَّتَ الْمُتَكَلِّمُ الْعَمَلَ وَفَوَّتَ الْمُتَصَوِّفُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ : كَانَ كَلَامُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِعِلْمِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَعَمَلِهِمْ مَقْرُونًا بِالْآخَرِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا

الْبَاقُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . فَإِنَّ مُنْحَرِفَةَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِمْ شَبَهُ الْيَهُودِ وَمُنْحَرِفَةَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ فِيهِمْ شَبَهُ النَّصَارَى ؛ وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ جَانِبُ الْحُرُوفِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ . وَعَلَى الْآخَرِينَ جَانِبُ الْأَصْوَاتِ وَمَا يُثِيرُهُ مِنْ الْوَجْدِ وَالْحَرَكَةِ . وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَيُجَادِلَهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ : هِيَ النَّافِعَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَتُشْبِهُ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ الْبُرْهَانِ وَالْخَطَابَةِ وَالْجَدَلِ . بَقِيَ الشِّعْرُ وَالسَّفْسَطَةُ - الَّتِي هِيَ الْكَذِبُ الْمُمَوَّهُ - فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَذَكَرَ الْأَفَّاكِينَ ؛ وَهُمْ الْمُسَفْسِطُونَ وَذَكَرَ الشُّعَرَاءَ . وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ تَأَلَّفْ النَّاسَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَجَبَّارًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارًا فِي الْإِسْلَامِ عَلَامَ أَتَأَلَّفُهُمْ ؟ أَعَلَى حَدِيثٍ مُفْتَرًى أَمْ عَلَى شِعْرٍ مُفْتَعَلٍ ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُفْتَرَى وَالشِّعْرَ الْمُفْتَعَلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ الْأَفَّاكِينَ وَالشُّعَرَاءَ وَكَانَ الْإِفْكُ فِي الْقُوَّةِ الْخَبَرِيَّةِ . وَالشِّعْرُ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الطَّلَبِيَّةِ فَتِلْكَ ضَلَالٌ وَهَذِهِ غَوَايَةٌ .

وَلِهَذَا : يَقْتَرِنُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَثِيرًا فِي مِثْلِ الْمِلِّيين مِنْ الرُّهْبَانِ وَفَاسِدِي الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشِّعْرُ مُسْتَفَادًا مِنْ الشُّعُورِ - فَهُوَ يُفِيدُ إشْعَارَ النَّفْسِ بِمَا يُحَرِّكُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا بَلْ يُورِثُ مَحَبَّةً أَوْ نَفْرَةً أَوْ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْيِيلِ وَهَذَا خَاصَّةُ الشِّعْرِ - فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ . وَالْغَيُّ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ النَّاسَ حَرَكَةَ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ بِلَا عِلْمٍ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ ؛ بِخِلَافِ الْإِفْكِ فَإِنَّ فِيهِ إضْلَالًا فِي الْعِلْمِ بِحَيْثُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ . وَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَتَحَرَّكُ تَارَةً عَنْ تَصْدِيقٍ وَإِيمَانٍ وَتَارَةً عَنْ شِعْرٍ . وَالثَّانِي مَذْمُومٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } فَالذِّكْرُ خِلَافُ الشِّعْرِ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَعِلْمٌ يَذْكُرُهُ الْقَلْبُ وَذَاكَ شِعْرٌ يُحَرِّكُ النَّفْسَ فَقَطْ . وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى مُنْحَرِفَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الِاعْتِيَاضُ بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالْأَشْعَارِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ حُبٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَابِعًا لِعِلْمِ وَتَصْدِيقٍ ؛ وَلِهَذَا يُؤْثِرُهُ مَنْ يُؤْثِرُهُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَعْتَلُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حُقٌّ نَزَلَ مَنْ حَقٍّ وَالنُّفُوسُ تُحِبُّ الْبَاطِلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الصِّدْقَ وَالْحَقَّ : يُعْطِي عِلْمًا وَاعْتِقَادًا بِجُمْلَةِ الْقَلْبِ وَالنُّفُوسُ الْمُبْطِلَةُ لَا تُحِبُّ الْحَقَّ . وَلِهَذَا أَثَرُهُ بَاطِلٌ يَتَفَشَّى مِنْ النَّفْسِ فَإِنَّهُ فَرْعٌ لَا أَصْلَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي النَّفْسِ مِنْ جِهَةِ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ وَالتَّأْثِيرِ . لَا مِنْ جِهَةِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ

وَالْمَعْرِفَةِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْقَوْلَ حَادِيًا لِأَنَّهُ يَحْدُو النُّفُوسَ أَيْ يَبْعَثُهَا وَيَسُوقُهَا كَمَا يَحْدُو حَادِي الْعِيسِ . وَأَمَّا الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ وَالْجَدَلُ الْأَحْسَنُ ؛ فَإِنَّهُ يُعْطِي التَّصْدِيقَ وَالْعَمَلَ فَهُوَ نَافِعٌ مَنْفَعَةً عَظِيمَةً . وَإِنَّمَا قُلْت : إنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْأَقْيِسَةَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي هِيَ : الْبُرْهَانِيَّةُ والخطابية وَالْجَدَلِيَّةُ وَلَيْسَتْ هِيَ ؛ بَلْ أَكْمَلُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِوُجُوهِ : - أَحَدُهَا : أَنَّ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ تَجْمَعُ نَوْعَيْ : الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ ؛ بِخِلَافِ الْأَقْيِسَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ الْمَنْطِقِيَّ : إنَّمَا فَائِدَتُهُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فِي الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةِ سَوَاءٌ تَبِعَ ذَلِكَ عَمَلٌ أَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مَوَادُّ الْقِيَاسِ يَقِينِيَّةً : كَانَ بُرْهَانًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ وَهُوَ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً ؛ أَوْ مَقْبُولَةً سُمِّيَ خَطَابَةً سَوَاءٌ كَانَتْ يَقِينِيَّةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَذَلِكَ يُفِيدُ الِاعْتِقَادَ وَالتَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ لَيْسَ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ دُونَ الْيَقِينِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا مَشْهُورَةً مَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ يَقِينِيَّةً مُفِيدَةً لِلْيَقِينِ . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يُفِيدَ الْيَقِينَ وَمَا يَمْنَعُ إفَادَةَ الْيَقِينِ . فَالْمَشْهُورَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْهُورَةٌ : تُفِيدُ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْنَاعَ وَالِاعْتِقَادَ . ثُمَّ إنْ عُرِفَ أَنَّهَا

يَقِينِيَّةٌ أَفَادَتْ الْيَقِينَ أَيْضًا . وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهَا غَيْرُ يَقِينِيَّةٍ لَمْ تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ ؛ وَإِنْ لَمْ تَشْعُرْ النَّفْسُ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا : بَقِيَ اعْتِقَادًا مُجَرَّدًا لَا يُثْبَتُ لَهُ الْيَقِينُ وَلَا يُنْفَى عَنْهُ . وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي الْقُرْآنِ : فَهِيَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا كَتَبْت تَفْسِيرَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ : تَجْمَعُ التَّصْدِيقَ بِالْخَبَرِ وَالطَّاعَةَ لِلْأَمْرِ ؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ الْوَعْظُ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِتَرْغِيبِ وَتَرْهِيبٍ . كَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } وَقَوْلُهُ : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ } وَقَوْلُهُ : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً } أَيْ يَتَّعِظُونَ بِهَا فَيَنْتَبِهُونَ وَيَنْزَجِرُونَ . وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ الْأَحْسَنُ : يَجْمَعُ الْجَدَلَ لِلتَّصْدِيقِ وَلِلطَّاعَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : - وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْسَمَ هَذَا إلَى وَجْهٍ آخَرَ - بِأَنْ يُقَالَ : - النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ وَيَتَّبِعَهُ فَهَذَا صَاحِبُ الْحِكْمَةِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ ؛ لَكِنْ لَا يَعْمَلُ بِهِ فَهَذَا يُوعَظُ حَتَّى يَعْمَلَ ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْتَرِفَ بِهِ فَهَذَا يُجَادَلُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْجِدَالَ فِي مَظِنَّةِ الْإِغْضَابِ فَإِذَا كَانَ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ : حَصَلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ كَدَفْعِ الصَّائِلِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى حَقِّ يَقِينٍ ؛ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَمْتَازُ بِهِ الْخَطَابَةُ وَالْجَدَلُ عَنْ الْبُرْهَانِ : بِكَوْنِ الْمُقَدِّمَةِ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً غَيْرَ

يَقِينِيَّةٍ بَلْ إذَا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا مُشْتَمِلًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ يَقِينِيَّةً . فَأَمَّا الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ تَسْلِيمِ الْمُنَازِعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَةُ صَادِقَةً أَوْ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا مَشْهُورَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَادِقَةً فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كُلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهُوَ أَصْدَقُ الْكَلَامِ وَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ . فَصَاحِبُ الْحِكْمَةِ : يَدَّعِي بِالْمُقْدِمَاتِ الصَّادِقَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَشْهُورَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْرَاكِ الدَّقِّ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ . وَصَاحِبُ الْمَوْعِظَةِ : يَدَّعِي مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ بِالْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْخَفِيَّةَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يُنَازِعُ فِي الْمَشْهُورَةِ . وَصَاحِبُ الْجَدَلِ : يَدَّعِي بِمَا يُسَلِّمُهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ مَشْهُورَةً كَانَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ إذْ قَدْ لَا يَنْقَادُ إلَى مَا لَا يُسَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَيَنْقَادُ لِمَا يُسَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا فَهَذَا هَذَا . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْجُهَّالُ الضُّلَّالُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمَةِ مَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ جَاءَ بِالطَّرِيقَةِ الخطابية وَعَرِيَ عَنْ الْبُرْهَانِيَّةِ أَوْ اشْتَمَلَ عَلَى قَلِيلٍ مِنْهَا بَلْ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّةُ وَتَكُونُ تَارَةً خطابية وَتَارَةً جَدَلِيَّةً مَعَ كَوْنِهَا بُرْهَانِيَّةً . وَالْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ - الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ - هِيَ الْغَايَةُ فِي دَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } فِي أَوَّلِ سُبْحَانَ وَآخِرِهَا وَسُورَةِ الْكَهْفِ وَالْمَثَلُ هُوَ الْقِيَاسُ ؛ وَلِهَذَا اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ

عَلَى خُلَاصَةِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ . وَنَزَّهَ اللَّهُ عَمَّا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ ؛ مِنْ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ وَيُوجَدُ فِيهِ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ بِحَالِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ هُنَا نُكْتَةً يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهَا وَصْفٌ ذَاتِيٌّ وَوَصْفٌ إضَافِيٌّ : فَالْوَصْفُ الذَّاتِيُّ لَهَا : أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً فَتَكُونَ صِدْقًا أَوْ لَا تَكُونَ مُطَابِقَةً فَتَكُونَ كَذِبًا وَجَمِيعُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَمْثَالِ الْقُرْآنِ هِيَ صِدْقٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَأَمَّا الْوَصْفُ الْإِضَافِيُّ : فَكَوْنُهَا مَعْلُومَةً عِنْدَ زَيْدٍ أَوْ مَظْنُونَةً أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ : فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ . فَرُبَّ مُقَدِّمَةٍ هِيَ يَقِينِيَّةٌ عِنْدَ شَخْصٍ قَدْ عَلِمَهَا وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَظْنُونَةً عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا فَكَوْنُ الْمُقَدِّمَةِ يَقِينِيَّةً أَوْ غَيْرَ يَقِينِيَّةٍ أَوْ مَشْهُورَةً أَوْ غَيْرَ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةً أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ لَهَا تَعْرِضُ بِحَسَبِ شُعُورِ الْإِنْسَانِ بِهَا . وَلِهَذَا تَنْقَلِبُ الْمَظْنُونَةُ ؛ بَلْ الْمَجْهُولَةُ فِي حَقِّهِ يَقِينِيَّةً مَعْلُومَةً وَالْمَمْنُوعَةُ مُسَلَّمَةً ؛ بَلْ وَالْمُسَلَّمَةُ مَمْنُوعَةً . وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ حَتَّى يُخَاطَبَ بِمَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينِيٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ مَشْهُورٌ أَوْ مُسَلَّمٌ . فَمُقَدِّمَاتُ الْأَمْثَالِ فِيهِ : اُعْتُبِرَ فِيهَا الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ وَهِيَ كَوْنُهَا صِدْقًا وَحَقًّا

يَجِبُ قَبُولُهُ وَأَمَّا جِهَةُ التَّصْدِيقِ : فَتَتَعَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ إذْ قَدْ يَكُونُ لِهَذَا مِنْ طُرُقِ التَّصْدِيقِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مَا لَيْسَ لِعَمْرٍو مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا يَعْلَمُهَا بِالْإِحْسَاسِ وَالرُّؤْيَةِ وَهَذَا يَعْلَمُهَا بِالسَّمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ كَآيَاتِ الرَّسُولِ وَقِصَّةِ أَهْلِ الْفِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَمَا كَانَ جِهَةُ تَصْدِيقِهِ عَامًّا لِلنَّاسِ : أَمْكَنَ ذِكْرُهُ جِهَةَ التَّصْدِيقِ بِهِ كَآيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ بِالْإِحْسَاسِ دَائِمًا . وَمَا كَانَ جِهَةُ تَصْدِيقِهِ مُتَنَوِّعًا : أُحِيلَ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي يُصَدِّقُونَ بِهَا . وَقَدْ يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . فَإِنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُعَيَّنِ : قَدْ يُعْلَمُ بِهَا مَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينِيٌّ أَوْ مَشْهُورٌ مِنْ الْيَقِينِ : أَوْ مُسَلَّمٌ مِنْهُ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ تَقْسِيمَ الْمَنْطِقِيِّينَ لِمُقَدِّمَاتِ الْقِيَاسِ : إلَى الْمُسْتَيْقَنِ وَالْمَشْهُورِ وَالْمُسَلَّمِ ؛ لَيْسَ ذَلِكَ وَصْفًا لَازِمًا لِلْقَضِيَّةِ بَلْ هُوَ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَ لِلْمُصَدِّقِ بِهَا وَرُبَّمَا انْقَلَبَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ وَيَظْهَرُ لَك مِنْ هَذَا أَنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينِيٍّ أَوْ لَيْسَ مَشْهُورًا وَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لَيْسَتْ الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً . إذْ سَلْبُ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ لَا فِي حَقِّ جَمِيعِ الْبَشَرِ . وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَقِينِيٌّ أَوْ مَشْهُورٌ أَوْ مُسَلَّمٌ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْوَصْفُ . وَأَيْضًا الْقِيَاسُ حَقٌّ ثَابِتٌ لَا يَتَبَدَّلُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ يَتَغَيَّرُ وَيَتَبَدَّلُ

وَلَا يَسْتَمِرُّ اللَّهُمَّ إلَّا فِي الْأُمُورِ الَّتِي قَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِيَّاتِ . وَالطَّبِيعِيَّاتِ . وَهَذَانِ الْفَنَّانِ لَيْسَا مَقْصُودَ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ . وَلَا مَعْرِفَتُهُمَا شَرْطًا فِي السَّعَادَةِ وَلَا مُحَصِّلًا لَهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْفَنُّ الْإِلَهِيُّ . وَمُقَدِّمَاتُ الْقِيَاسِ فِيهِ : هِيَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمُقَدِّمَاتِ بِالنَّسَبِ وَالْإِضَافَةِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ خَالِصٌ نَافِعٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ . يُوَضِّحُ هَذَا الْفَصْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ - وَإِنْ كَانَ كَلَامَ اللَّهِ - فَإِنَّ اللَّهَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ مِنْ الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ فَأَضَافَهُ إلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا جبرائيل . فَإِنَّ هَذِهِ صِفَاتُهُ لَا صِفَاتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَالَ : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } أَضَافَهُ إلَيْنَا امْتِنَانًا عَلَيْنَا بِأَنَّهُ صَاحِبُنَا كَمَا قَالَ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } فَهُوَ مُحَمَّدٌ . أَيْ بِمُتَّهَمِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى : بِبَخِيلِ . وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّهُ جبرائيل أَيْضًا وَهُوَ الْعَقْلُ الْفَاعِلُ الْفَائِضُ وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّ صِفَاتِ جبرائيل تَقَدَّمَتْ وَإِنَّمَا هَذَا وَصْفُ مُحَمَّدٍ . ثُمَّ قَالَ : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } لَمَّا أَثْبَتَ أَنَّهُ قَوْلُ

الْمَلَكِ : نَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الشَّيْطَانِ . كَمَا قَالَ فِي الشُّعَرَاءِ : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } { وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } . وَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } { وَمَا لَا تُبْصِرُونَ } { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَنَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ أَوْ كَاهِنٍ وَهُمَا مِنْ الْبَشَرِ . كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الشُّعَرَاءِ : أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . كَالْكَهَنَةِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إلَيْهِمْ السَّمْعَ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ . فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ قَدْ يَشْتَبِهَانِ بِالرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ لَمَّا نَفَاهُمَا : عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ : هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ كَمَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ : لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ يُشَبَّهُ بِالْمَلَكِ - فَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ - عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْمَلَائِكَةِ . وَفِي إضَافَتِهِ إلَى هَذَا الرَّسُولِ تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إضَافَةُ بَلَاغٍ وَأَدَاءٍ لَا إضَافَةُ إحْدَاثٍ لِشَيْءِ مِنْهُ أَوْ إنْشَاءٍ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَنَّ حُرُوفَهُ ابْتِدَاءً جبرائيل أَوْ مُحَمَّدٌ مُضَاهَاةً مِنْهُمْ فِي نِصْفِ قَوْلِهِمْ لِمَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ

بِفَضْلِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ تَأْلِيفُهُ ؛ لَكِنَّهَا فَاضَتْ عَلَيْهِ كَمَا يَفِيضُ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَالْكَاهِنُ مُسْتَمِدٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ . { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } وَكِلَاهُمَا فِي لَفْظِهِ وَزْنٌ . هَذَا سَجْعٌ وَهَذَا نَظْمٌ وَكِلَاهُمَا لَهُ مَعَانٍ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ } وَقَالَ : " هَمْزُهُ الموتة وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ " وقَوْله تَعَالَى { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } يَنْفِي الْأَمْرَيْنِ كَمَا أَنَّهُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى قَالَ : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الشُّعَرَاءِ : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } مُطْلَقًا . ثُمَّ ذَكَرَ عَلَامَةَ مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ : بِأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ . فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ : لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الشُّعَرَاءَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ كَذَّابًا أَثِيمًا فَالْكَذَّابُ : فِي قَوْلِهِ وَخَبَرِهِ . وَالْأَثِيمُ : فِي فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ . وَذَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : لِأَنَّ الشِّعْرَ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ تَارَةً وَيَكُونُ مِنْ النَّفْسِ أُخْرَى . كَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقًّا يَكُونُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ : اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وَقَالَ : { اُهْجُهُمْ - أو هاجهم - وجِبْرَائِيلُ مَعَك } فَلَمَّا نَفَى قِسْمَ الشَّيْطَانِ نَفَى قِسْمَ النَّفْسِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } وَأَلْغَى اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ هَوَى النُّفُوسِ .

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَيَّانٍ مَا كَانَ مِنْ نَفْسِك فَأَحَبَّتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ نَفْسِك فَانْهَهَا عَنْهُ وَمَا كَانَ مِنْ نَفْسِك فَكَرِهَتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك : فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سَبَبُ ذَلِكَ . وَأَمَّا التَّقْسِيمُ إلَى الْكَاهِنِ وَالشَّاعِرِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ . وَالْكَاهِنُ يُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ مُخَلِّطًا فِيهِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ لَا يَأْتُونَ بِالْحَقِّ مَحْضًا وَإِذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ أَحَدِهِمْ شَيْئًا فِي الْقَلْبِ : لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُهَّانِ لَمَّا قَالَ : { إنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِي الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ } بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدِّثِ كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } . وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ لَيْسَ فِيهَا الْمُحَدِّثُ ؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى بَعْضِ الْخَطَأِ وَيُدْخِلَ الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ بَعْضَ مَا يُلْقِيهِ فَلَا يُنْسَخُ بِخِلَافِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَأَنْ يُحْكِمَ اللَّهُ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْمُحَدِّثُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْرِضَ مَا يُحَدِّثُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَلِهَذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ لِعُمَرِ وَهُوَ مُحَدِّثٌ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَّةِ اخْتِلَافِهِ وَهِشَامَ بْنِ حَكِيمِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فَأَزَالَهُ عَنْهُ نُورُ النُّبُوَّةِ .

وَأَمَّا الشَّاعِرُ فَشَأْنُهُ التَّحْرِيكُ لِلنُّفُوسِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ الْخَاصِّ الْمُرَغِّبِ ؛ فَلِهَذَا قِيلَ فِيهِمْ : { يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } فَضَرَرُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ لَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَأُولَئِكَ ضَرَرُهُمْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَيَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } . وَمَعْنَى الْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ : مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ الْخَارِجِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْغُيُوبِ عَنْ كِهَانَةٍ وَيُحَرِّكُونَ النُّفُوسَ بِالشِّعْرِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُتَنَبِّئِينَ الْكَذَّابِينَ لَهُمْ مَادَّةٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ . كَمَا قَدْ رَأَيْنَاهُ كَثِيرًا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ وَغَيْرِهَا لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَقَذَفَ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
ثُمَّ إنَّ الْمُنْحَرِفِينَ الْمُشَابِهِينَ لِلصَّابِئَةِ : إمَّا مُجَرِّدَةٌ ؛ وَإِمَّا مُنْحَرِفَةٌ إلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ مَنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَالْقِيَاسِ الطَّالِبِينَ لِلْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَمِنْ أَهْلِ الْعَمَلِ وَالْوَجْدِ الطَّالِبِينَ لِلْمَعْرِفَةِ . وَالْحَالِ : أَهْلُ الْحُرُوفِ . وَأَهْلُ الْأَصْوَاتِ سَلَكُوا فِي أَصْلِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ طَرِيقَيْنِ : كُلٌّ مِنْهُمْ سَلَكَ طَرِيقًا . وَقَدْ يَسْلُكُ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ وَرُبَّمَا جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ . وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ إلَيْهِ طَرِيقٌ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ كَمَا يَذْكُرُهُ جَمَاعَاتٌ : مِثْلَ ابْنِ الْخَطِيبِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ بَلْ مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ لَمَّا حَصَرَ الطُّرُقَ فِي الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ ؛ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ ؛ وَالْقِيَاسُ ؛ أَوْ فِي التَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ ؛ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ وَالْوَجْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ . بَلْ أَبُو حَامِدٍ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُنْقِذِ مِنْ الضَّلَالِ وَالْمُفْصِحِ بِالْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَحْوَالِ الْعَالِمِ وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا عَرَضَ لَهُ مَا يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُمْ - وَهُوَ السَّفْسَطَةُ بِشُبَهِهَا الْمَعْرُوفَةِ - وَذَكَرَ أَنَّهُ أَعْضَلَ بِهِ هَذَا الدَّاءُ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ ؛ هُوَ فِيهِمَا عَلَى مَذْهَبِ السَّفْسَطَةِ بِحُكْمِ الْحَالِ لَا بِحُكْمِ الْمَنْطِقِ وَالْمَقَالِ حَتَّى شَفَى

اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضَ وَعَادَتْ النَّفْسُ إلَى الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ وَرَجَعَتْ الضَّرُورِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ مَقْبُولَةً مَوْثُوقًا بِهَا عَلَى أَمْنٍ وَتَبَيُّنٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِنَظْمِ دَلِيلٍ وَتَرْتِيبِ كَلَامٍ ؛ بَلْ بِنُورِ قَذَفَهُ اللَّهُ فِي الصَّدْرِ وَذَلِكَ النُّورُ هُوَ مِفْتَاحُ أَكْبَرِ الْمَعَارِفِ قَالَ : فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكَشْفَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فَقَدْ ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ . ثُمَّ قَالَ : انْحَصَرَتْ طُرُقُ الطَّالِبِينَ عِنْدِي فِي أَرْبَعِ فِرَقٍ : - الْمُتَكَلِّمُونَ : وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ . وَالْبَاطِنِيَّةُ : وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ التَّعَلُّمِ وَالْمُخَصِّصُونَ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ . وَالْفَلَاسِفَةُ : وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْطِقِ . وَالْبُرْهَانِ . وَالصُّوفِيَّةُ : وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ خَوَاصُّ الْحَضْرَةِ وَأَهْلُ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ . فَقُلْت فِي نَفْسِي : الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ فَهَؤُلَاءِ هُمْ السَّالِكُونَ سُبُلَ طَرِيقِ الْحَقِّ ؛ فَإِنْ سُدَّ الْحَقُّ عَنْهُمْ فَلَا يَبْقَى فِي دَرْكِ الْحَقِّ مَطْمَعٌ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَقْصُودَ الْكَلَامِ وَفَائِدَتَهُ : الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ بِالْجَدَلِ لَا تَحْقِيقُ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْفَلْسَفَةَ بَعْضُهَا حَقٌّ وَبَعْضُهَا كُفْرٌ وَالْحَقُّ مِنْهَا لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَقْبَلَ بِهِمَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعِلْمٍ

وَعَمَلٍ فَابْتَدَأَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِهِمْ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِهِمْ مِثْلَ قُوتِ الْقُلُوبِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكُتُبِ الْحَارِثِ المحاسبي والمتفرقات الْمَأْثُورَةِ عَنْ الْجُنَيْد وَالشِّبْلِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ ؛ حَتَّى طَلَعَ عَلَى كُنْهِ مَقَاصِدِهِمْ الْعِلْمِيَّةِ . ثُمَّ إنَّهُ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَحْوَالٍ لَا أَصْحَابُ أَقْوَالٍ وَأَنَّ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ . قَدْ حَصَّلَهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ بِالتَّعَلُّمِ وَالسَّمَاعِ ؛ بَلْ بِالذَّوْقِ وَالسُّلُوكِ . قَالَ : وَكَانَ قَدْ حَصَلَ مَعِي مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي مَارَسْتهَا وَالْمَسَالِكِ الَّتِي سَلَكْتهَا فِي التَّفْتِيشِ عَنْ صِنْفَيْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ إيمَانٌ يَقِينِيٌّ بِاَللَّهِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ - مِنْ الْإِيمَانِ - كَانَتْ قَدْ رَسَخَتْ فِي نَفْسِي بِاَللَّهِ لَا بِدَلِيلِ مُعَيَّنٍ مُجَرَّدٍ بَلْ بِأَسْبَابِ وَقَرَائِنَ وَتَجَارِبَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ تَفَاصِيلُهَا وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ عِنْدِي أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي سَعَادَةِ الْآخِرَةِ إلَّا بِالتَّقْوَى وَذَكَرَ أَنَّهُ تَخَلَّى عَشْرَ سِنِينَ . إلَى أَنْ قَالَ : انْكَشَفَ لِي فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا وَالْقَدْرُ الَّذِي أَذْكُرُهُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ . أَنِّي عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمْ السَّالِكُونَ لِطَرِيقِ اللَّهِ خَاصَّةً وَأَنَّ سِيرَتَهُمْ أَحْسَنُ السِّيَرِ ؛ وَطَرِيقَتَهُمْ أَصْوَبُ الطُّرُقِ ؛ وَأَخْلَاقُهُمْ أَزْكَى الْأَخْلَاقِ ؛ بَلْ لَوْ جُمِعَ عَقْلُ الْعُقَلَاءِ وَحِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ وَعِلْمُ الْوَاقِفِينَ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِيُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ سِيَرِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ ؛ وَيُبَدِّلُوهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ : لَمْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا .

فَإِنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ فِي ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ : مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَلَيْسَ وَرَاءَ نُورِ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ فِي طَرِيقِ طَهَارَتِهَا ؟ وَهِيَ أَوَّلُ شُرُوطِهَا تَطْهِيرُ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَمِفْتَاحُهَا اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ . قُلْت : يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ : هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَمَا قَرَّرْته غَيْرَ مَرَّةٍ . وَهَذَا أَوَّلُ الْإِسْلَامِ ؛ الَّذِي جَعَلَهُ هُوَ النِّهَايَةَ وَبَيَّنْت الْفَرْقَ بَيْنَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ . وَالْمُتَكَلِّمِين لَكِنْ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الْعَارِفِينَ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمَحْضَةُ الشَّاهِدَةُ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ . وَالسُّهْرَوَرْدِي الْحَلَبِيُّ الْمَقْتُولُ سَلَكَ النَّظَرَ وَالتَّأَلُّهَ جَمِيعًا ؛ لَكِنَّ هَذَا صابئي مَحْضٌ فَيْلَسُوفٌ لَا يَأْخُذُ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا مَا وَافَقَ فَلْسَفَتَهُ بِخِلَافِ ذَيْنِك وَأَمْثَالِهِمَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا طَرِيقَةَ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً كَجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنْبَلِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ ابْتِدَاءً : إلَّا طَرِيقَةَ الرِّيَاضَةِ وَالتَّجَرُّدِ وَالتَّصَوُّفِ كَكَثِيرِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ وَقَعُوا فِي الِاتِّحَادِ وَالتَّأَلُّهِ الْمُطْلَقِ . مِثْلُ : عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ وَالْعَفِيفِ التلمساني وَنَحْوِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَجْمَعُ كَالصَّدْرِ القونوي وَنَحْوِهِ .

وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عَالَمُ التَّوَهُّمِ فَتَارَةً يَتَوَهَّمُونَ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَتَارَةً يَتَوَهَّمُونَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَتَوَهُّمِ إلَهِيَّةِ الْبَشَرِ وَتَوَهُّمِ النَّصَارَى وَتَوَهُّمِ الْمُنْتَظَرِ وَتَوَهُّمِ الْغَوْثِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ : أَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ يُدَبَّرُ أَمْرُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ التلمساني ثَبَتَ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْكَشْفِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا أُصِيبَ صَاحِبُ الْخَلْوَةِ بِثَلَاثِ تَوَهُّمَاتٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ اسْتِعْدَادًا . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي شَيْخِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَصِلُ إلَى مَطْلُوبِهِ بِدُونِ سَبَبٍ وَأَكْثَرُ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ ؛ فَقَدْ تَعْمَلُ الْأَوْهَامُ أَعْمَالًا لَكِنَّهَا بَاطِلَةٌ كَالْمَشْيَخَةِ الَّذِينَ لَمْ يَسْلُكُوا الطُّرُقَ الشَّرْعِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ ؛ نَظَرًا أَوْ عَمَلًا ؛ بَلْ سَلَكُوا الصابئية . وَيُشْبِهُ هَؤُلَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ : أَكْثَرُ الْأَحْمَدِيَّةِ واليونسية وَالْحَرِيرِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ العدوية وَأَصْحَابِ الْأَوْحَدِ الكرماني وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ ؛ وَلِهَذَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْإِبَاحَةُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَمُحَرَّمَاتِهَا . وَهُمْ إذَا تَأَلَّهُوا فِي تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ : لَا يَعْرِفُونَ مَنْ هُوَ إلَهُهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ الْقَلْبِيَّةِ ؛ وَإِنْ حَقَّقَهُ عَارِفُوهُمْ الزَّنَادِقَةُ جَعَلُوهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَلَّهُ الصَّالِحِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَقُبُورِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَتَارَةً يُضَاهِئُونَ الْمُشْرِكِينَ وَتَارَةً يُضَاهِئُونَ

النَّصَارَى وَتَارَةً يضاهئون الصَّابِئِينَ وَتَارَةً يضاهئون الْمُعَطِّلَةَ الْفِرْعَوْنِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ وَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ ؛ لَكِنْ كُفَّارٌ فِي الْأَصْلِ . وَالْخَالِصُ مِنْهُمْ : يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يَعْبُدُهُ : بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَهُمْ مُنْحَرِفُونَ ؛ إمَّا عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ وَإِمَّا عَنْ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَدْ كَتَبْته فِي غَيْرِ هَذَا .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْ النَّظَرِ وَالتَّجَرُّدِ : طَرِيقٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ وَفَائِدَةٌ جَسِيمَةٌ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ إلَّا بِهِ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يَدْعُو إلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَإِلَى التَّزْكِيَةِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ صَلَاحَ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ : فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } فَالْهُدَى كَمَالُ الْعِلْمِ وَدِينُ الْحَقِّ كَمَالُ الْعَمَلِ . كَقَوْلِهِ : { أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } وَقَوْلِهِ : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَوْلِهِ : { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَقَوْلِهِ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } وَفِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ } لَكِنَّ النَّظَرَ النَّافِعَ أَنْ يَكُونَ فِي دَلِيلٍ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُرْشِدُ إلَى الْمَقْصُودِ وَالدَّلِيلُ التَّامُّ هُوَ الرِّسَالَةُ وَالصَّنَائِعُ . وَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ التَّامَّةُ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَدْ وَقَعَ

الْخَطَأُ فِي الطَّرِيقَيْنِ مِنْ حَيْثُ : أُخِذَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ مَجْمُوعُهُمَا مُجَرَّدًا فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِ . . . (1) . بَلْ اُقْتُصِرَ فِيهِمَا عَلَى مُجَرَّدِ مَا يُحَصِّلُهُ نَظَرُ الْقَلْبِ وَذَوْقُهُ الْمُوَافِقُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ تَارَةً وَالْمُخَالِفُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ أُخْرَى فِي مُجَرَّدِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَمُجَرَّدِ الْعِبَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الصُّعُودِ عَنْ ذَلِكَ إلَى النَّظَرِ الْمِلِّي وَالْعِبَادَاتِ الْمِلِّية وَالْوَاجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّظَرِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَقْلِيُّ والْمِلِّي وَالشَّرْعِيُّ فَلَمَّا قَصَّرُوا : وَقَعَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ؛ إمَّا فِي الضَّلَالِ ؛ وَإِمَّا فِي الْغَوَايَةِ وَإِمَّا فِيهِمَا . وَحَاصِلُهُمْ : إمَّا الْجَهْلُ الْبَسِيطُ ؛ أَوْ الْكُفْرُ الْبَسِيطُ أَوْ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ أَوْ الْكُفْرُ الْمُرَكَّبُ مَعَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ . وَذَلِكَ أَنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ : مَدَارُهَا عَلَى مُقَدِّمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ يَسْلُكُهُ الْآدَمِيُّونَ وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ كُلِّيَّةٌ جَامِعَةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ وَتَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الدُّخُولِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ لَا تَتَنَاوَلُ الْمَطْلُوبَ لِخَاصِّيَّتِهِ بَلْ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْمَطْلُوبِ بِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِ إلَّا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْقَضَايَا الْإِيجَابِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ . وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يُعْرَفُ بِخُصُوصِهِ أَصْلًا فَلَمْ يَعْرِفُوا اللَّهَ

بَلْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيهِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ صَارُوا مُشْرِكِينَ بِهِ وَحَكَمُوا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِأَحْكَامِ سَلْبِيَّةٍ أَوْ إيجَابِيَّةٍ ؛ فَإِنَّهَا تَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ مَا انْتَفَى عَنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ انْتَفَى عَنْ الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ وَلَيْسَ مَا انْتَفَى عَنْ الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ انْتَفَى عَنْ الْعَامِّ ؛ فَمَا نَفَيْته عَنْ الْحَيَوَانِ أَوْ عَنْ النَّبِيِّ : انْتَفَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَالرَّسُولِ . وَلَيْسَ مَا نَفَيْته عَنْ الْإِنْسَانِ أَوْ الرَّسُولِ انْتَفَى عَنْ الْحَيَوَانِ أَوْ النَّبِيِّ . وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ : { لَا نَبِيَّ بَعْدِي } يَنْفِي الرَّسُولَ ؛ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بِصِفَةِ الْعُمُومِ ثَبَتَ لِلْخَاصِّ وَمَا ثَبَتَ لَهُ بِصِفَةِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَثْبُتَ لِلْخَاصِّ فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَخَلَ فِيهِ الرَّسُولُ . وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ لِلنَّبِيِّ مُطْلَقًا : لَمْ يَجِبْ أَنْ يَثْبُتَ لِلرَّسُولِ وَقَدْ تَتَأَلَّفُ مِنْ مَجْمُوعِ الْقَضَايَا السَّلْبِيَّةِ وَالْإِيجَابِيَّةِ : أُمُورٌ لَا تَصْدُقُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا غَيْرُهُ ؛ كَمَا إذَا وُصِفَ نَبِيٌّ بِمَجْمُوعِ صِفَاتٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ . لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُعْرَفُ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ إيَّاهُ وَأَمَّا عَيْنُهُ فَلَا يُعْرَفُ بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنْ الْقِيَاسِ فِي الرَّبِّ إلَّا الْعِلْمُ بِالسَّلْبِ وَالْعَدَمِ ؛ إذَا كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا . وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ - وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ - دَالَّةً عَلَى النَّفْيِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } ؟ الْآيَةَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ } الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } الْآيَةَ ؛ وَقَوْلِهِ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ

مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْثَالِ - وَهِيَ الْقِيَاسَاتُ - الَّتِي مَضْمُونُهَا نَفْيُ الْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْقِيَاسِ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ : إنَّمَا هِيَ الْمَعَارِفُ السَّلْبِيَّةُ . ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مِقْدَارِ مَا يَعْلَمُهُ الْعَقْلُ مِنْ الْقِيَاسِ بَلْ تَعَدَّوْا ذَلِكَ ؛ فَنَفَوْا أَشْيَاءَ مُشْبِهَةَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ مِثْلَ نَفْيِ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ : بَلْ وَنَفْيِ الْفَلَاسِفَةِ ؛ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِلصِّفَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَيُسَمُّونَهَا الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ ؛ لِإِثْبَاتِهِمْ إيَّاهَا بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَنْفِي بِالْقِيَاسِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ ؛ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَ الْإِرَادَةَ أَوْ الرَّحْمَةَ أَوْ الْعِلْمَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ هَذَا الِاسْمِ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَخْلُوقِينَ تَلْحَقُهُ صِفَاتٌ لَا تَثْبُتُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَنْفُونَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ الْمُطْلَقَ عَلَى صِفَاتِ الْحَقِّ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ - تَبَعًا لِانْتِفَاءِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلْقُ - فَيُعَطِّلُونَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ التَّمْثِيلِ يُثْبِتُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَلْقُ - تَبَعًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ - وَكِلَاهُمَا قِيَاسٌ خَطَأٌ . فَفِي هَذِهِ الصِّفَاتِ بَلْ وَفِي الذَّوَاتِ ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ :
أَحَدُهَا : مَا تَخْتَصُّ بِهِ ذَاتُ الرَّبِّ وَصِفَاتُهُ .
وَالثَّانِي : مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَخْلُوقُ وَصِفَاتُهُ .

وَالثَّالِثُ : الْمَعْنَى الْمُطْلَقُ الْجَامِعُ .
فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ الْجَامِعِ فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي إثْبَاتِ الثَّانِي وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي إثْبَاتِ الثَّالِثِ فَيَحْتَاجُ إلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ لِثُبُوتِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ الْكُلِّيِّ وَهَذَا أَصْلُ الْقِيَاسِ وَالدَّلِيلُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ - أَوْ بِوَاسِطَةِ قِيَاسٍ آخَرَ - ثُبُوتَ هَذَا وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ الْقِيَاسُ . وَكَذَلِكَ فِي مَعَارِفِهِمْ الثُّبُوتِيَّةِ لَا يَأْتُونَ إلَّا بِمَعَانٍ مُطْلَقَةٍ مُجْمَلَةٍ . مِثْلَ ثُبُوتِ الْوُجُودِ وَوُجُوبِ الْوُجُودِ أَوْ كَوْنِهِ رَبًّا أَوْ صَانِعًا أَوْ أَوَّلًا أَوْ مَبْدَأً أَوْ قَدِيمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ بِهَا خُصُوصُ الرَّبِّ تَعَالَى إذْ الْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِبٍ وَبِأَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ : كَانَ مَدْلُولُ هَذَا الْقِيَاسِ أَمْرًا عَامًّا وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الرِّيَاضَةِ وَالتَّجَرُّدِ : فَإِنَّ صَفْوَتَهُمْ الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِذِكْرِ بَسِيطٍ مِثْلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنْ لَمْ يَغْلُوا فَيَقْتَصِرُوا عَلَى مُجَرَّدِ اللَّهُ اللَّهُ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ . كَمَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى هُوَ هُوَ . أَوْ عَلَى قَوْلِهِ : لَا هُوَ إلَّا هُوَ لِأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمُبْتَدَعَ الَّذِي هُوَ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُطْلَقًا لَيْسَ فِيهِ بِنَفْسِهِ ذِكْرٌ لِلَّهِ إلَّا بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ . فَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُ صَاحِبِهِ أَنَّهُ لَا وُجُودَ إلَّا هُوَ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيَقُولُ : لَا هُوَ إلَّا هُوَ أَوْ لَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ وَهَذَا عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ

أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ مُصَرِّحٌ بِحَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ الْفِرْعَوْنِيِّ القرمطي حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ . لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ذِكْرُ الْعَابِدِينَ وَاَللَّهُ اللَّهُ ذِكْرُ الْعَارِفِينَ وَهُوَ ذِكْرُ الْمُحَقِّقِينَ وَيَجْعَلُ ذِكْرَهُ يَا مَنْ لَا هُوَ إلَّا هُوَ وَإِذَا قَالَ اللَّهُ اللَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ ثُبُوتِهِ فَقَدْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ نَفْيُ غَيْرِهِ لَا نَفْيُ إلَهِيَّةِ غَيْرِهِ فَيَقَعُ صَاحِبُهُ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَرُبَّمَا انْتَفَى شُهُودُ الْقَلْبِ لِلسِّوَى إذَا كَانَ فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ فَهَذَا قَرِيبٌ أَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ هِيَ هُوَ فَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ . وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ نَوْعًا مِنْ التَّصْفِيَةِ مِثْلَ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْخَلْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّهَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ فَيَصِلُونَ أَيْضًا إلَى تَأَلُّهٍ مُطْلَقٍ وَمَعْرِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِثُبُوتِ الرَّبِّ وَوُجُودِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ أَرْبَابُ الْقِيَاسِ . ثُمَّ قَدْ تَتَوَارَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْعِلْمُ بِمُلَابَسَةِ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ الطَّعَامِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ فَإِنَّ سَبَبَهَا إنَّمَا هُوَ ذَلِكَ التَّجَرُّدُ فَإِذَا زَالَ زَالَ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ كُلُّ حَالٍ أَعْطَاكَهُ الْجُوعُ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِالشِّبَعِ كَمَا قَدْ تَتَوَارَى مَعْرِفَةُ الْأُولَى الْمُطْلَقَةِ بِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ النَّظَرِيَّةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَاهُ وَأَنَّ الرِّيَاضَةَ وَالتَّأَلُّهَ يُفْضِي إلَى مَعْرِفَةٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَاهُ لَكِنْ مَعْرِفَةٌ مُطْلَقَةٌ بِسَبَبِ قَدْ يَثْبُتُ وَقَدْ يَزُولُ وَكَثِيرًا مَا يُفْضِي إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَ التَّأَلُّهَ عَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ صَالِحِ الْبَشَرِ فَإِذَا احْتَاجُوا إلَيْهَا أَعْرَضُوا عَنْ التَّأَلُّهِ . فَهُمْ إمَّا آلِهَةٌ عِنْدَ نُفُوسِهِمْ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ أَوْ فُسَّاقٌ وَلِهَذَا حَدَّثَنِي الشَّيْخُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131