الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن قدامة المقدسي

( 1226 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ، وَلِأَنَّ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يَتَسَاوَى فِيهَا الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ هَذَا ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى التَّسْهِيلِ فِي التَّطَوُّعِ ، وَالصَّحِيحُ التَّسْوِيَةُ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : يَحْتَجُّونَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، فَإِنَّهُ فِي التَّطَوُّعِ ، وَمَا أَعْلَمُ بَيْنِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرِيضَةِ فَرْقًا إلَّا أَنَّ التَّطَوُّعَ يُصَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ .

( 1227 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، أَوْ نَائِمًا وَلَمْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَشْبَهَ الْمَارَّ ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : عَدَلْتُمُونَا بِالْكِلَابِ وَالْحُمُرِ وَذَكَرَتْ فِي مُعَارَضَةِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي ، كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ .
فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ ، وَالْحِمَارُ ، وَالْكَلْبُ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ مُرُورًا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ وَالنَّوْمَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْمُرُورِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكْرَهُهُ ، وَلَا يُنْكِرهُ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَارِّ : " لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ " .
وَكَانَ يُصَلِّي إلَى الْبَعِيرِ ، وَلَوْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ يَدَعْهُ ، وَلِهَذَا مَنَعَ الْبَهِيمَةَ مِنْ الْمُرُورِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِنَافِعِ : وَلِّنِي ظَهْرَكَ .
لِيَسْتَتِرَ بِهِ مِمَّنْ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَقَعَدَ عُمَرُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَسْتُرُهُ مِنْ الْمُرُورِ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمُرُورِ ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقْطَعُ الصَّلَاةَ " .
لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارِ الْمُرُورِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ

( 1228 ) فَصْلٌ : وَمَنْ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَمَرَّ مِنْ وَرَائِهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، لَمْ تَنْقَطِعْ .
وَإِنْ مَرَّ مِنْ وَرَائِهَا غَيْرُ مَا يَقْطَعُهَا ، لَمْ يُكْرَهْ ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ .
وَإِنْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، قَطَعَهَا إنْ كَانَ مِمَّا يَقْطَعُهَا ، كُرِهَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْطَعُهَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْهُ مَا يَقْطَعُهَا ، قَطَعَهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْطَعُهَا ، كُرِهَ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ .
وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدَّ الْبَعِيدَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْقَرِيبَ ، إلَّا أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ : إذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الَّذِي يَقْطَعُ الصَّلَاةَ قَذْفَةٌ بِحَجَرٍ ، لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَحْسَبُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْكَلْبُ ، وَالْحِمَارُ ، وَالْخِنْزِيرُ ، وَالْمَجُوسِيُّ ، وَالْيَهُودِيُّ ، وَالْمَرْأَةُ ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ إذَا مَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ قَذْفَةٌ بِحَجَرِ } هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد .
وَفِي " مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ " : " وَالنَّصْرَانِيُّ ، وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ " .
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ ثَبَتَ ، لَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ ، وَفِيهِ مَا هُوَ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ مَا عَدَا الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ ، قَطَعَ صَلَاتَهُ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ السُّتْرَةِ تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ بِمُرُورِ الْكَلْبِ فِيهِ ، وَالسُّتْرَةُ تَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ ، وَالصَّحِيحُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا إذَا مَشَى إلَيْهِ ،

وَدَفَعَ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَتَقَيَّدَ لِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ ، بِحَيْثُ إذَا مَشَى إلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ، وَاللَّفْظُ فِي الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ حَمْلُهُمَا عَلَى إطْلَاقِهِمَا ، وَقَدْ تَقَيَّدَ أَحَدُهُمَا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ بِقَيْدٍ ، فَتَقَيَّدَ الْآخَرُ بِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1229 ) فَصْلٌ : إذَا صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ مَغْصُوبَةٍ ، فَاجْتَازَ وَرَاءَهَا كَلْبٌ أَسْوَدُ ، فَهَلْ تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ : أَحَدُهُمَا ، تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ نَصْبِهَا ، وَالصَّلَاةِ إلَيْهَا ، فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا ، وَالثَّانِي ، لَا تَبْطُلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقِي ذَلِكَ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ " .
وَهَذَا قَدْ وُجِدَ .
وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ إذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

الْأَصْلُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
{ قَالَ - يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ - قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ؟ فَقَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
.
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي أَسْفَارِهِ ، حَاجًّا ، وَمُعْتَمِرًا ، وَغَازِيًا .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ - يَعْنِي فِي السَّفَرِ - وَكَانَ { لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَأَبَا بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ ، وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : { صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ .
وَوَدِدْت أَنَّ لِي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ ، وَأَقَمْنَا بِمَكَّةَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ حَتَّى رَجَعَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا تَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فِي حَجٍّ ، أَوْ عُمْرَةٍ ، أَوْ جِهَادٍ ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ الرَّبَاعِيَّةَ فَيُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ .

( 1230 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ مَسَافَةُ سَفَرِهِ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، أَوْ ثَمَانِيَةَ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ ، فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ ) .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ ؟ قَالَ : فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ .
قِيلَ لَهُ : مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ ؟ قَالَ : لَا .
أَرْبَعَةُ بُرُدٍ ، سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَمَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ .
فَمَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَالْفَرْسَخُ : ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ ، فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا ، قَالَ الْقَاضِي : وَالْمِيلُ : اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ .
وَقَدْ قَدَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : مِنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ الطَّائِفِ إلَى مَكَّةَ وَمِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَسَالِكِ ، أَنَّ مِنْ دِمَشْقَ إلَى الْقَطِيفَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا ، وَمِنْ دِمَشْقَ إلَى الْكُسْوَةِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا ، وَمِنْ الْكُسْوَةِ إلَى جَاسِمٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا .
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي مَسِيرَةِ عَشْرَةِ فَرَاسِخَ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ إلَى أَرْضٍ لَهُ ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ مِيلًا .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : يَقْصُرُ فِي الْيَوْمِ ، وَلَا يَقْصُرُ فِيمَا دُونَهُ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ : عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ .
وَبِهِ نَأْخُذُ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهنَّ } .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ لَهُ ذَلِكَ ،

وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ تَوْقِيفٌ وَلَا اتِّفَاقٌ .
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : كَانَ أَنَسٌ يَقْصُرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ .
وَكَانَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ ، وَهَانِئُ بْنُ كُلْثُومٍ ، وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ يَقْصُرُونَ فِيمَا بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَصْرِهِ بِالْكُوفَةِ حَتَّى أَتَى النُّخَيْلَةَ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ ، فَقَالَ : أَرَدْت أَنَّ أُعَلِّمَكُمْ سُنَّتَكُمْ .
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ ، قَالَ : { خَرَجْت مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ إلَى قَرْيَةٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، فَقُلْت لَهُ ، فَقَالَ : رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُصَلِّي بِالْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ، وَقَالَ : إنَّمَا فَعَلْت كَمَا رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرُوِيَ { أَنَّ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ خَرَجَ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ دِمَشْقَ مَرَّةً إلَى قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ فِي رَمَضَانَ ، ثُمَّ إنَّهُ أَفْطَرَ ، وَأَفْطَرَ مَعَهُ أُنَاسٌ ، وَكَرِهَ آخَرُونَ أَنْ يُفْطِرُوا ، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ ، قَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت الْيَوْمَ أَمْرًا مَا كُنْت أَظُنُّ أَنِّي أَرَاهُ ، إنَّ قَوْمًا رَغِبُوا عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَقُولُ ذَلِكَ لِلَّذِينَ صَامُوا قَبْلُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، ثنا هَاشِمٌ عَنْ أَبِي هَارُونُ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَافَرَ فَرْسَخًا قَصَرَ الصَّلَاةَ } .
وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ ، أَوْ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } .
شُعْبَةُ

الشَّاكُّ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَأَبُو دَاوُد .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بُقُولِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ ، لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مَنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تَجْمَعُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ ، مِنْ الْحَلِّ وَالشَّدِّ ، فَجَازَ الْقَصْرُ فِيهَا ، كَمَسَافَةِ الثَّلَاثِ ، وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا دُونَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْقَصْرَ فِيهِ .
وَقَوْلُ : أَنَسٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ ، أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ .
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا سَافَرَ سَفَرًا طَوِيلًا قَصَرَ إذَا بَلَغَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ .
كَمَا قَالَ فِي لَفْظِهِ الْآخَرِ { : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ } .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلَا أَرَى لِمَا صَارَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ حُجَّةً ، لِأَنَّ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ مُتَعَارِضَةٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا مَعَ الِاخْتِلَافِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، خِلَافُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا .
ثُمَّ لَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ حُجَّةٌ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ أَقْوَالُهُمْ امْتَنَعَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي رَوَيْنَاهَا ، وَلِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إبَاحَةُ الْقَصْرِ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } .
وَقَدْ سَقَطَ شَرْطُ الْخَوْفِ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ .
فَبَقِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُتَنَاوِلًا كُلَّ ضَرْبٍ فِي الْأَرْضِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } .
جَاءَ لِبَيَانِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ هَاهُنَا ، وَعَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْقَصِيرَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا ، فَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ } .
وَالثَّانِي : أَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ ، فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِرَأْيٍ مُجَرَّدٍ ، سِيَّمَا وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ ، وَلَا نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ ، إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ .
( 1231 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ ، فَهُوَ كَالْبَرِّ ، إنْ كَانَتْ مَسَافَةُ سَفَرِهِ تَبْلُغُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ ، أُبِيحَ لَهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ ، اعْتِبَارًا بِالْمَسَافَةِ وَإِنْ شَكَّ هَلْ السَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْقَصْرِ أَوْ لَا ؟ لَمْ يُبَحْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَإِنْ قَصَرَ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَهَا أَنَّهُ طَوِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى شَاكًّا فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ .

( 1232 ) فَصْلٌ : وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَنْوِيَ مَسَافَةً تُبِيحُ الْقَصْرَ ، فَلَوْ خَرَجَ يَقْصِدُ سَفَرًا بَعِيدًا ، فَقَصَرَ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ ، كَانَ مَا صَلَّاهُ مَاضِيًا صَحِيحًا ، وَلَا يَقْصُرُ فِي رُجُوعِهِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ الرُّجُوعِ مُبِيحَةٌ بِنَفْسِهَا .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا .
وَلَوْ خَرَجَ طَالِبًا لِعَبْدِ آبِقٍ ، لَا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ ، أَوْ مُنْتَجَعًا غَيْثًا أَوْ كَلَأً ، مَتَى وَجَدَهُ أَقَامَ أَوْ رَجَعَ ، أَوْ سَائِحًا فِي الْأَرْضِ لَا يَقْصِدُ مَكَانًا ، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ ، وَإِنْ سَارَ سَفَرًا أَيَّامًا .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ إذَا بَلَغَ مَسَافَةً مُبِيحَةً لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا طَوِيلًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ ، كَابْتِدَاءِ سَفَرِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُبِحْ الْقَصْرَ فِي ابْتِدَائِهِ فَلَمْ يُبِحْهُ فِي أَثْنَائِهِ ، إذَا لَمْ يُغَيِّرْ نِيَّتَهُ ، كَالسَّفَرِ الْقَصِيرِ ، وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ، وَمَتَى رَجَعَ هَذَا يَقْصِدُ بَلَدَهُ ، أَوْ نَوَى مَسَافَةَ الْقَصْرِ ، فَلَهُ الْقَصْرُ ؛ لِوُجُودِ نِيَّتِهِ الْمُبِيحَةِ ، وَلَوْ قَصَدَ بَلَدًا بَعِيدًا ، أَوْ فِي عَزْمِهِ أَنَّهُ مَتَى وَجَدَ طَلَبَتْهُ دُونَهُ رَجَعَ أَوْ أَقَامَ ، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِسَفَرٍ طَوِيلٍ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجِعُ وَلَا يُقِيمُ بِوُجُودِهِ ، فَلَهُ الْقَصْرُ .

( 1233 ) فَصْلٌ : وَمَتَى كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ ، يُبَاحُ الْقَصْرُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرَ ، فَسَلَكَ الْبَعِيدَ لِيَقْصُرَ الصَّلَاةَ فِيهِ ، أُبِيحَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا مُبَاحًا ، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ أَوْ كَانَ الْآخَرُ مَخُوفًا أَوْ شَاقًّا

( 1234 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَجَ الْإِنْسَانُ إلَى السَّفَرِ مُكْرَهًا ، كَالْأَسِيرِ ، فَلَهُ الْقَصْرُ إذَا كَانَ سَفَرُهُ بَعِيدًا ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَقْصُرُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاوٍ لِلسَّفَرِ وَلَا جَازِمٍ بِهِ ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ أَنَّهُ مَتَى أَفْلَتَ رَجَعَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا بَعِيدًا غَيْر مُحَرَّمٍ ، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ ، كَالْمَرْأَةِ مَعَ زَوْجِهَا ، وَالْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ ، إذَا كَانَ عَزْمُهُمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَوْ زَالَ مُلْكُهُمَا ، رَجَعَ .
وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِهَذَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ إذَا صَارَ فِي حُصُونِهِمْ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْقَضَى سَفَرُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّ فِي عَزْمِهِ أَنَّهُ مَتَى أَفْلَتَ رَجَعَ ، فَأَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ ظُلْمًا .

( 1235 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( إذَا جَاوَزَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ الْقَصْرُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ ، وَيَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ .
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى ، أَنَّهُمَا أَبَاحَا الْقَصْرَ فِي الْبَلَدِ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ .
.
وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، أَنَّهُ أَرَادَ سَفَرًا ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَنْزِلِهِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِيهِمْ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ .
وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ جَبْرٍ ، قَالَ : { كُنْت مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَدَفَعَ ، ثُمَّ قَرُبَ غِذَاؤُهُ ، فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ ، ثُمَّ قَالَ : اقْتَرِبْ .
فَقُلْت : أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ ؟ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ : أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَكَلَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } وَلَا يَكُونُ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَخْرُجَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ الْقَصْرَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ .
قَالَ أَنَسٌ : { صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا أَبُو بَصْرَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى دَفَعَ ، وَقَوْلُهُ : لَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ : مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَبْعُدْ مِنْهَا ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُبَيْدٍ لَهُ : أَلَسْت تَرَى الْبُيُوتَ ؟ إذَا ثَبَتَ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ،

أَنَّ لِلَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا خَرَجْت مُسَافِرًا فَلَا تَقْصُرْ الصَّلَاةَ يَوْمَك ذَلِكَ إلَى اللَّيْلِ ، وَإِذَا رَجَعْت لَيْلًا فَلَا تَقْصُرْ لَيْلَتَك حَتَّى تُصْبِحَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } .
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا .
وَحَدِيثُ أَبِي بَصْرَةَ ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْهَمَذَانِيُّ : خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَخْرَجَهُ إلَى صِفِّينَ ، فَرَأَيْته صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْجِسْرِ وَقَنْطَرَةِ الْكُوفَةِ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : خَرَجَ عَلِيٌّ فَقَصَرَ ، وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ : هَذِهِ الْكُوفَةُ .
قَالَ : لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا .
وَلِأَنَّهُ مُسَافِرٌ ، فَأُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ ، كَمَا لَوْ بَعُدَ .
( 1236 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ ، وَصَارَ بَيْنَ حِيطَانِ بَسَاتِينِهِ ، فَلَهُ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَوْلَ الْبَلَدِ خَرَابٌ قَدْ تَهَدَّمَ وَصَارَ فَضَاءً ، أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ كَذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ قَائِمَةً فَكَذَلِكَ .
قَالَهُ الْآمِدِيُّ ، وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُبَاحُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ السُّكْنَى فِيهِ مُمْكِنَةٌ ، أَشْبَهَ الْعَامِرَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلسُّكْنَى ، أَشْبَهَتْ حِيطَانَ الْبَسَاتِينِ .
وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ نَهْرٌ فَاجْتَازَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَلَدِ وَلَمْ يُفَارِقْ الْبُنْيَانَ ، فَأَشْبَهَ الرَّحْبَةَ وَالْمَيْدَانَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ .
وَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ مَحَالُّ ، كُلُّ مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْأُخْرَى ، كَبَغْدَادَ ، فَمَتَى خَرَجَ مِنْ مَحَلَّتِهِ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ إذَا فَارَقَ مَحَلَّتَهُ ، وَإِنْ كَانَ

بَعْضُهَا مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ ، لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ جَمِيعَهَا .
وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ مُتَدَانِيَتَيْنِ ، فَاتَّصَلَ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، فَهُمَا كَالْوَاحِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ ، فَلِكُلِّ قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا .
( 1237 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْبَدَوِيُّ فِي حِلَّةٍ ، لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ حِلَّتَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ حِلَلًا فَلِكُلِّ حِلَّةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا ، كَالْقُرَى .
وَإِنْ كَانَ بَيْتُهُ مُنْفَرِدًا فَحَتَّى يُفَارِقَ مَنْزِلَهُ وَرَحْلَهُ ، وَيَجْعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، كَالْحَضَرِيِّ .

( 1238 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( إذَا كَانَ سَفَرُهُ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرُّخَصَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسَّفَرِ ؛ مِنْ الْقَصْرِ ، وَالْجَمْعِ ، وَالْفِطْرِ ، وَالْمَسْحِ ثَلَاثًا ، وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَطَوُّعًا ، يُبَاحُ فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ ، كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يُتْرَكُ إلَّا لِوَاجِبٍ .
وَعَنْ عَطَاءٍ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
وَعَنْهُ : لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَصَرَ فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } وَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَانِ ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ ، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ ، وَالْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ ، وَالْعِيدِ رَكْعَتَانِ ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ ، عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ الْبَحْرَيْنِ فِي تِجَارَةٍ ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلِّ رَكْعَتَيْنِ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ ، عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ .
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } .
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ التَّرَخُّصِ فِي كُلِّ سَفَرٍ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَرَخَّصُ فِي عَوْدِهِ مِنْ سَفَرِهِ ، وَهُوَ مُبَاحٌ .

( 1239 ) فَصْلٌ : وَلَا تُبَاحُ هَذِهِ الرُّخَصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَالْإِبَاقِ ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ مَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِتَخْصِيصِهِ الْوَاجِبَ وَالْمُبَاحَ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ ذَلِكَ ؛ احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ ، وَلِأَنَّهُ مُسَافِرٌ ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّرَخُّصَ كَالْمُطِيعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } أَبَاحَ الْأَكْلَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَادِيًا وَلَا بَاغِيًا ، فَلَا يُبَاحُ لِبَاغٍ وَلَا عَادٍ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ ، يُخِيفُ السَّبِيلَ ، وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ .
وَلِأَنَّ التَّرَخُّصَ شُرِعَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الْمُبَاحِ ، تَوَصُّلًا إلَى الْمَصْلَحَةِ ، فَلَوْ شُرِعَ هَاهُنَا لَشُرِعَ إعَانَةٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ ، تَحْصِيلًا لِلْمَفْسَدَةِ ، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا ، وَالنُّصُوصُ وَرَدَتْ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ ، وَكَانَتْ أَسْفَارُهُمْ مُبَاحَةً ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَنْ سَفَرُهُ مُخَالِفٌ لِسَفَرِهِمْ ، وَيَتَعَيَّنْ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ النَّصَّيْنِ ، وَقِيَاسُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الطَّاعَةِ بَعِيدٌ ، لِتَضَادِّهِمَا .
( 1240 ) فَصْلٌ : فَإِنْ عَدِمَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ الْمَاءَ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ لَا تَسْقُطُ ، وَالطَّهَارَةُ لَهَا وَاجِبَةٌ أَيْضًا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَزِيمَةً ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِهِ ، وَالرُّخَصُ لَا تَجِبُ ، وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ ، أَشْبَهَ بَقِيَّةَ الرُّخَصِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهَا ، وَيُفَارِقُ بَقِيَّةَ الرُّخَصِ ، فَإِنَّهُ

يُمْنَعُ مِنْهَا ، وَهَذَا يَجِبُ فِعْلُهُ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ بَقِيَّةِ الرُّخَصِ الْمَنْعُ مِنْ فِعْلِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ هَذَا الْحُكْمِ إلَى التَّيَمُّمِ ، وَلَا إلَى الصَّلَاةِ ، لِوُجُوبِ فِعْلِهِمَا ، وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ لَيْسَ بِحُكْمٍ فِي بَقِيَّةِ الرُّخَصِ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهَا أَوْ تَعْدِيَتُهُ عَنْهَا .
وَيُبَاحُ لَهُ الْمَسْحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ السَّفَرَ ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِجْمَارَ ، وَالتَّيَمُّمَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ رُخَصِ الْحَضَرِ .
وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ ، فَلَمْ تُبَحْ لَهُ كَرُخْصِ السَّفَرِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِسَائِرِ رُخَصِ الْحَضَرِ .

( 1241 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا ، فَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، انْقَطَعَ التَّرَخُّصُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ .
وَلَوْ سَافَرَ لِمَعْصِيَةٍ فَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إلَى مُبَاحٍ ، صَارَ سَفَرًا مُبَاحًا ، وَأُبِيحَ لَهُ مَا يُبَاحُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ ، وَتُعْتَبَرُ مَسَافَةُ السَّفَرِ مِنْ حِينِ غَيَّرَ النِّيَّةَ .
وَلَوْ كَانَ سَفَرُهُ مُبَاحًا ، فَنَوَى الْمَعْصِيَةَ بِسَفَرِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نِيَّةِ الْمُبَاحِ ، اُعْتُبِرَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ مِنْ حِينَ رُجُوعِهِ إلَى نِيَّةِ الْمُبَاحِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ سَفَرِهِ انْقَطَعَ بِنِيَّةِ الْمَعْصِيَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ ، ثُمَّ عَادَ فَنَوَى السَّفَرَ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ السَّفَرُ مُبَاحًا ، لَكِنَّهُ يَعْصِي فِيهِ ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ التَّرَخُّصَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ ، وَقَدْ وُجِدَ ، فَثَبَتَ حُكْمُهُ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ وُجُودُ مَعْصِيَةٍ ، كَمَا أَنَّ مَعْصِيَتَهُ فِي الْحَضَرِ لَا تَمْنَعُ التَّرَخُّصَ فِيهِ .

( 1242 ) فَصْلٌ : وَفِي سَفَرِ التَّنَزُّهِ وَالتَّفَرُّجِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، تُبِيحُ التَّرَخُّصَ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ ، وَقِيَاسًا عَلَى سَفَرِ التِّجَارَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يَتَرَخَّصُ فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ تَنَزُّهًا وَتَلَذُّذًا ، وَلَيْسَ فِي طَلَبِ حَدِيثٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ إعَانَةً عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِي هَذَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .

( 1243 ) فَصْلٌ : فَإِنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ .
فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ إبَاحَتُهُ ، وَجَوَازُ الْقَصْرِ فِيهِ ؛ لَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا ، وَكَانَ يَزُورُ الْقُبُورَ ، وَقَالَ : { زُورُوهَا تُذَكِّرْكُمْ الْآخِرَةَ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ " فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ التَّفْضِيلِ ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَتْ الْفَضِيلَةُ شَرْطًا فِي إبَاحَةِ الْقَصْرِ ، فَلَا يَضُرُّ انْتِفَاؤُهَا .

( 1244 ) فَصْلٌ : وَالْمَلَّاحُ الَّذِي يَسِيرُ فِي سَفِينِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْتٌ سِوَى سَفِينَتِهِ ، فِيهَا أَهْلُهُ وَتَنُّورُهُ وَحَاجَتُهُ ، لَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمَلَّاحِ ، أَيَقْصُرُ ، وَيُفْطِرُ فِي السَّفِينَةِ ؟ قَالَ : أَمَّا إذَا كَانَتْ السَّفِينَةُ بَيْتَهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ وَيَصُومُ .
قِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ تَكُونُ بَيْتَهُ ؟ قَالَ : لَا يَكُونُ لَهُ بَيْتٌ غَيْرَهَا ، مَعَهُ فِيهَا أَهْلُهُ وَهُوَ فِيهَا مُقِيمٌ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ كَوْنَ أَهْلِهِ مَعَهُ لَا يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ ، كَالْجَمَّالِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ غَيْرُ ظَاعِنٍ عَنْ مَنْزِلِهِ ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ التَّرَخُّصُ ، كَالْمُقِيمِ فِي الْمُدُنِ ، فَأَمَّا النُّصُوصُ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الظَّاعِنُ عَنْ مَنْزِلِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ ، وَأَمَّا الْجَمَّالُ وَالْمُكَارِي فَلَهُمْ التَّرَخُّصُ وَإِنْ سَافَرُوا بِأَهْلِهِمْ .
قَالَ : أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ فِي الْمُكَارِي الَّذِي هُوَ دَهْرُهُ فِي السَّفَرِ : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْدَمَ فَيُقِيمَ الْيَوْمَ .
قِيلَ : فَيُقِيمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي تَهَيُّئِهِ لِلسَّفَرِ .
قَالَ : هَذَا يَقْصُرُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ كَالْمَلَّاحِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ مَشْفُوقٌ عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ الْقَصْرُ كَغَيْرِهِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَلَّاحِ ؛ فَإِنَّ الْمَلَّاحَ فِي مَنْزِلِهِ سَفَرًا وَحَضَرَا ، وَمَعَهُ مَصَالِحُهُ وَتَنُّورُهُ وَأَهْلُهُ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ .
وَإِنْ سَافَرَ هَذَا بِأَهْلِهِ كَانَ أَشَقَّ عَلَيْهِ ، وَأَبْلَغَ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّرَخُّصِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَالنُّصُوصُ مُتَنَاوِلَةٌ لِهَذَا بِعُمُومِهَا ، وَلَيْسَ هُوَ

فِي مَعْنَى الْمَخْصُوصِ ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حُكْمِ النَّصِّ فِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1245 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ إلَى الصَّلَاةِ لَمْ يَقْصُرْ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ نِيَّةَ الْقَصْرِ شَرْطٌ فِي جَوَازِهِ ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ ، كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا تُشْتَرَطُ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ خُيِّرَ فِي الْعِبَادَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا خُيِّرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا ، كَالصَّوْمِ ، وَلِأَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَصْلُ ؛ بِدَلِيلِ خَبَرِ عَائِشَةَ ، وَعُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ ، كَالْإِتْمَامِ فِي الْحَضَرِ ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِتْمَامَ هُوَ الْأَصْلُ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَسْأَلَةِ " وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ وَلَهُ أَنْ يُتِمَّ " ، وَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَصْلِ ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِتَعْيِينِ مَا يَصْرِفُهُ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَنْوِ إمَامًا وَلَا مَأْمُومًا ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الِانْفِرَادِ ، إذْ هُوَ الْأَصْلُ .
وَالتَّفْرِيعُ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَوْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ ، هَلْ نَوَى الْقَصْرَ فِي ابْتِدَائِهَا أَوْ لَا ، لَزِمَهُ إتْمَامُهَا احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا ، فَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، فَلَمْ يَزُلْ .
وَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ ، أَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ ، فَفَسَدَتْ الصَّلَاةُ ، وَأَرَادَ إعَادَتَهَا ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً بِتَلَبُّسِهِ بِهَا خَلْفَ الْمُقِيمِ ، وَنِيَّةِ الْإِتْمَامِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إذَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ عَادَ الْمُسَافِرُ إلَى حَالِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالشُّرُوعِ فِيهَا تَامَّةً ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ تَفْسُدْ .

( 1246 ) فَصْلٌ : وَمِنْ نَوَى الْقَصْرَ ، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ ، أَوْ نَوَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْإِتْمَامُ مِنْ الْإِقَامَةِ ، أَوْ قَلَبَ نِيَّتَهُ إلَى سَفَرِ مَعْصِيَةٍ ، أَوْ نَوَى الرُّجُوعَ عَنْ سَفَرِهِ ، وَمَسَافَةُ رُجُوعِهِ لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ ، وَنَحْوُ هَذَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، وَلَزِمَ مَنْ خَلْفَهُ مُتَابَعَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ : مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى عَدَدًا ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ ، حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ نِيَّةَ صَلَاةِ الْوَقْتِ قَدْ وُجِدَتْ ، وَهِيَ أَرْبَعٌ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُ رَكْعَتَيْنِ رُخْصَةً ، فَإِذَا أَسْقَطَ نِيَّةَ التَّرَخُّصِ ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ بِنِيَّتِهِمَا ، وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، وَلِأَنَّ الْإِتْمَامَ الْأَصْلُ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ تَرْكُهُ بِشَرْطٍ ، فَإِذَا زَالَ الشَّرْطُ عَادَ الْأَصْلُ إلَى حَالِهِ .

( 1247 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَصَرَ الْمُسَافِرُ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِ الْقَصْرِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، فَلَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا ، كَمَنْ صَلَّى يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُحْدِثٌ ، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ ، وَهَذَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَاصٍ ، فَلَمْ تَحْصُلُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ .

مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ لَا يُقْصَرَانِ ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ ) .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا يُقْصَرَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ ، وَأَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا هُوَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ ، فَلَوْ قُصِرَتْ صَارَتْ رَكْعَةً ، وَلَيْسَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ إلَّا الْوَتْرَ ، وَالْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ ، فَلَوْ قُصِرَ مِنْهَا رَكْعَةٌ لَمْ تَبْقَ وِتْرًا ، وَإِنْ قُصِرَتْ اثْنَتَانِ صَارَتْ رَكْعَةً ، فَيَكُونُ إجْحَافًا بِهَا ، وَإِسْقَاطًا لَأَكْثَرِهَا .
وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ عَامِرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَتْ : { افْتَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، إلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَقَامَ بِهَا ، وَاِتَّخَذَهَا دَارَ هِجْرَةٍ ، زَادَ إلَى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا صَلَاةَ الْغَدَاةِ ؛ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا ، وَإِلَّا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لِلْخُطْبَةِ ، وَإِلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ، فَافْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ إلَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ ، فَإِذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ .
}

( 1249 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ وَيَقْصُرَ ، كَمَا لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيُفْطِرَ ) .
الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْمُسَافِرَ إنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ ، وَقَالَ : أَنَا أُحِبُّ الْعَافِيَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ : عُثْمَانُ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : لَيْسَ لَهُ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَوْجَبَ حَمَّادٌ الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ أَتَمَّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ كَانَ جَلَسَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ، وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ حَتْمٌ ، لَا يَصْلُحُ غَيْرُهُمَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فَهُوَ كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَرُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ، فَقَالَ : رَكْعَتَانِ ، فَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ ، وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يَجُوزُ تَرْكُهُمَا إلَى غَيْرِ بَدَلٍ ، فَلَمْ تَجُزْ زِيَادَتُهُمَا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ الْمَفْرُوضَتَيْنِ ، كَمَا لَوْ زَادَهُمَا عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، كَسَائِرِ الرُّخَصِ .
وَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ : { قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ

تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، فَقَالَ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ ، وَلَيْسَ بِعَزِيمَةٍ ، وَأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ .
وَرَوَى الْأَسْوَدُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : { خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ ، فَأَفْطَرَ وَصُمْت ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَفْطَرْت وَصُمْت ، وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت .
فَقَالَ : أَحْسَنْت } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ صَلَّى أَرْبَعًا ، وَصَحَّتْ الصَّلَاةُ ، وَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ بِالِائْتِمَامِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَفِي إجْمَاعِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِينَ ، فَأَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْبَعٌ ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ ، إذْ لَوْ كَانَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَرْبَعٌ بِحَالٍ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ } .
وَعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كُنَّا - أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُسَافِرُ ، فَيُتِمُّ بَعْضُنَا ، وَيَقْصُرُ بَعْضُنَا ، وَيَصُومُ بَعْضُنَا ، وَيُفْطِرُ بَعْضُنَا ، فَلَا يَعِيبُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، بِدَلِيلِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ ، وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُتِمُّ الصَّلَاةَ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَأَتَمَّهَا عُثْمَانُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعْدٌ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : كَانَتْ عَائِشَةُ وَسَعْدٌ يُوفِيَانِ

الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ ، وَيَصُومَانِ ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ سَعْدٍ ، أَنَّهُ أَقَامَ بِعَمَّانَ شَهْرَيْنِ ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيُصَلِّي أَرْبَعًا .
وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، قَالَ : أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِبَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُهَا سَعْدٌ وَنُتِمُّهَا .
وَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجُلٌ ، فَقَالَ : كُنْت أُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ .
فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ .
فَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ .
فَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهَا كَانَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أُتِمَّتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، فَصَارَتْ أَرْبَعًا .
وَقَدْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ حِينَ شَرَحَتْ ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ ، وَلَوْ اعْتَقَدَتْ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ لَمْ تُتِمَّ .
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِهَا ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ فَرْضِ الصَّلَاةِ فِي سِنِّ مَنْ يَعْقِلُ الْأَحْكَامَ ، وَيَعْرِفُ حَقَائِقَهَا ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ، أَوْ كَانَ فَرْضُهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا ، فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَفِي حَدِيثِهِ مَا اُتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَالْخَوْفُ رَكْعَةٌ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَتْ عَائِشَةُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْفَرْضِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَتَمَّ بِالْإِعَادَةِ .
وَقَوْلُ عُمَرَ : تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ .
أَرَادَ بِهَا تَمَامٌ فِي فَضْلِهَا غَيْرُ نَاقِصَةِ الْفَضِيلَةِ .
وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُورَةِ الرَّكَعَاتِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْإِجْمَاعُ ، إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ ، قَالَ : جَاءَ

رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : إنِّي وَصَاحِبٌ لِي كُنَّا فِي سَفَرٍ ، وَكَانَ صَاحِبِي يَقْصُرُ وَأَنَا أُتِمُّ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنْتَ كُنْت تَقْصُرُ وَصَاحِبُك يُتِمُّ ؛ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، أَرَادَ أَنَّ فِعْلَهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِك .
ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ رَكْعَتَانِ لَمْ يَمْتَنِعْ جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ ، وَيُخَالِفُ زِيَادَةَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهُمَا بِحَالٍ .
( 1250 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْقَصْرُ وَالْفِطْرُ أَعْجَبُ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ) .
أَمَّا الْقَصْرُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْإِتْمَامَ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا يُعْجِبُنِي .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلَّذِي قَالَ لَهُ : كُنْت أُتِمُّ الصَّلَاةَ وَصَاحِبِي يَقْصُرُ : أَنْتَ الَّذِي كُنْت تَقْصُرُ وَصَاحِبُك يُتِمُّ .
وَشَدَّدَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ ، فَقَالَ : رَكْعَتَانِ ، فَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ حَرْبٍ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ : كَيْفَ صَلَاةُ السَّفَرِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ إمَّا أَنْتُمْ تَتَّبِعُونَ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُكُمْ ، وَإِمَّا لَا تَتَّبِعُونَ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ فَلَا أُخْبِرُكُمْ ؟ قُلْنَا : فَخَيْرُ مَا اُتُّبِعَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ .
قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ بِشْرٍ .
وَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى أَرْبَعًا اسْتَرْجَعَ ، وَقَالَ : { صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ ، وَوَدِدْت أَنَّ حَظِّي مِنْ

أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ } .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، قَالَ : الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَعَدَدًا ، وَهُوَ الْأَصْلُ ، فَكَانَ أَفْضَلَ ، كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الْقَصْرِ } ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { صَحِبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَصَحِبْت أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَصَحِبْت عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خِيَارُكُمْ مَنْ قَصَرَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِيمَا مَضَى ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَصَرَ أَدَّى الْفَرْضَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِذْ أَتَمَّ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَأَمَّا الْغَسْلُ فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْحِ ، وَالْفِطْرُ نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ .

( 1251 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْجَمْعِ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّفْرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَخْفِيفًا وَسُهُولَةً ، فَكَانَ أَفْضَلَ كَالْقَصْرِ .
وَعَنْهُ التَّفْرِيقُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ الْخِلَافِ ، فَكَانَ أَفْضَلَ كَالْقَصْرِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ لَأَدَامَهُ كَالْقَصْرِ .

( 1252 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى مُسَافِرٍ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَحِلَ ، صَلَّاهَا وَارْتَحَلَ ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّاهَا ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ الْآخِرَةُ ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا فَأَحَبَّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَجَائِزٌ ) .
جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ ، فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا ، جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، وَسَعْدٌ ، وَأُسَامَةُ ، وَمُعَاذُ بْن جَبَلٍ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ : طَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ أَخِي زُرَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ ، قَالَ : مَرَّ بِنَا نَائِلَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ ، وَأَشْيَاخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَأَتَيْنَاهُمْ فِي مَنْزِلِهِمْ ، وَقَدْ أَخَذُوا فِي الرَّحِيلِ ، فَصَلَّوْا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا زُرَيْقُ بْنُ حَكِيمٍ يُصَلِّي لِلنَّاسِ الظُّهْرَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ، وَلَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ بِهَا ، وَهَذَا رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِك وَاخْتِيَارُهُ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ تَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَيَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا .
} وَعَنْ أَنَسٌ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ

فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ ، صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلِمُسْلِمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا عَجِلَ عَلَيْهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ .
} وَرَوَى الْجَمْعَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَنَذْكُرُ أَحَادِيثَهُمَا فِيمَا بَعْدُ ، وَقَوْلُهُمْ : لَا نَتْرُكُ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ .
قُلْنَا : لَا نَتْرُكُهَا ، وَإِنَّمَا نُخَصِّصُهَا ، وَتَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا .
فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْأَخْبَارِ أَنْ يُصَلِّيَ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا ، وَالْأُخْرَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا .
قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْخَبَرُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُمَا فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلِقَوْلِ أَنَسٌ : أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِين يَغِيبَ الشَّفَقُ .
فَيَبْطُلُ التَّأْوِيلُ .
الثَّانِي ، أَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ ، فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ أَشَدِّ ضِيقًا ، وَأَعْظَمِ حَرَجًا مِنْ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَوْسَعُ مِنْ مُرَاعَاةِ طَرَفَيْ الْوَقْتَيْنِ ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى إلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا ، وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَهُ كَمَا وَصَفْنَا ، وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ هَكَذَا لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ ، وَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ ( أَوْلَى ) مِنْ

هَذَا ( التَّكَلُّفِ ) الَّذِي يُصَانُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَفْهُومُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الْأُولَى ، فَيُؤَخَّرُ إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ سَعْدٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَعِكْرِمَةَ ، أَخْذًا بِالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إلَى الْأُولَى ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ .
قَالَ الْقَاضِي : الْأَوَّلُ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا ، جَازَ ، نَازِلًا كَانَ ، أَوْ سَائِرًا ، أَوْ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ إقَامَةً لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ ، فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ ، صَلَّى الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ سَارَ ، وَإِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، عَجَّلَ الْعِشَاءَ ، فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَقِيلَ : إنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، أَنَّ مُعَاذًا أَخْبَرَهُ ، أَنَّهُمْ { خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
قَالَ : فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ دَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا .
} قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، ثَابِتُ الْإِسْنَادِ .
وَقَالَ أَهْلُ السِّيَرِ : إنَّ غَزْوَةَ ( تَبُوكَ ) كَانَتْ فِي رَجَبٍ ، سَنَةَ تِسْعٍ ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ ، وَأَقْوَى الْحُجَجِ ، فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ : لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ وَهُوَ نَازِلٌ غَيْرُ سَائِرٍ ، مَاكِثٌ فِي خِبَائِهِ ، يَخْرُجُ فَيُصَلِّي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلَى خِبَائِهِ .
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ : فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا .
وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ( مُتَعَيَّنٌ ) ؛ لِثُبُوتِهِ وَكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْحُكْمِ ، وَلَا مُعَارِضَ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِحَالَةِ السَّيْرِ ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ التَّأْخِيرُ ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَخُرُوجٌ مِنْ خِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْجَمْعِ ، وَعَمَلٌ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا .

( 1253 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا فِي سَفَرٍ يُبِيحُ الْقَصْرَ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ ، وَهُوَ سَفَرٌ قَصِيرٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ رُخْصَةٌ تَثْبُتُ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ ، فَاخْتَصَّتْ بِالطَّوِيلِ ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ ثَلَاثًا ؛ وَلِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا ، فَأَشْبَهَ الْفِطْرَ ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْجَمْعِ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا فِي مِثْلِهَا ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَمَعَ إلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ .

( 1254 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَفَعَلَهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَلَمْ ( يُجَوِّزْهُ ) أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
فَصْلٌ : وَلَنَا ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ .
قَالَ : إنَّ مِنْ السُّنَّةِ إذَا كَانَ يَوْمٌ مَطِيرٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ نَافِعٌ : إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَجْمَعُ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : رَأَيْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ ؛ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، فَيُصَلِّيَهُمَا مَعَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، لَا يُنْكِرُونَهُ .
وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ( 1255 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ .
قَالَ : الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْمَطَرِ ؟ قَالَ : لَا ، مَا سَمِعْت .
وَهَذَا ( اخْتِيَارُ ) أَبِي بَكْرٍ ، وَابْنِ حَامِدٍ ، وَقَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ : فِيهِ ( قَوْلَانِ ، ) أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ ، ( وَمَذْهَبُ ) الشَّافِعِيِّ ، لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ ، عَنْ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْمَطَرِ } .
وَلِأَنَّهُ ( مَعْنًى ) أَبَاحَ الْجَمْعَ ، فَأَبَاحَهُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، كَالسَّفَرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ

مُسْتَنَدَ الْجَمْعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ ( أَبِي سَلَمَةَ ) ، وَالْإِجْمَاعِ ، وَلَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَحَدِيثُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ : مَا سَمِعْتُ .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ الظُّلْمَةِ وَالْمَضَرَّةِ ، وَلَا الْقِيَاسُ عَلَى السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ لِأَجْلِ السَّيْرِ وَفَوَاتِ الرُّفْقَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا .

( 1256 ) فَصْلٌ : وَالْمَطَرُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا ( يَبُلُّ ) الثِّيَابَ ، وَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ بِالْخُرُوجِ فِيهِ .
وَأَمَّا الطَّلُّ ، وَالْمَطَرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَبُلُّ الثِّيَابَ ، فَلَا يُبِيحُ ، وَالثَّلْجُ كَالْمَطَرِ فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَكَذَلِكَ الْبَرَدُ .

( 1257 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَحْلُ بِمُجَرَّدِهِ .
فَقَالَ الْقَاضِي : قَالَ أَصْحَابُنَا : هُوَ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ تَلْحَقُ بِذَلِكَ فِي النِّعَالِ وَالثِّيَابِ ، كَمَا تَلْحَقُ بِالْمَطَرِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا ثَانِيًا ، أَنَّهُ لَا يُبِيحُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ دُونَ مَشَقَّةِ الْمَطَرِ ، فَإِنَّ الْمَطَرَ يَبُلُّ النِّعَالَ وَالثِّيَابَ ، وَالْوَحْلُ لَا يَبُلُّهَا ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَحْلَ يُلَوِّثُ الثِّيَابَ وَالنِّعَالَ ، وَيَتَعَرَّضُ الْإِنْسَانُ لِلزَّلَقِ ، فَيَتَأَذَّى نَفْسُهُ وَثِيَابُهُ ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ الْبَلَلِ ، وَقَدْ سَاوَى الْمَطَرَ فِي الْعُذْرِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَشَقَّةِ الْمَرْعِيَّةِ فِي الْحُكْمِ .

( 1258 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ ، فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْبَارِدَةِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يُبِيحُ الْجَمْعَ .
قَالَ الْآمِدِيُّ : وَهُوَ أَصَحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَر ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي مُنَادِيهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ ، أَوْ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ : صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ .
وَالثَّانِي ، لَا يُبِيحُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَطَرِ ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَشَقَّتَهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَشَقَّةِ الْمَطَرِ ، وَلَا ضَابِطَ لِذَلِكَ يَجْتَمِعَانِ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِهِ .

( 1259 ) فَصْلٌ : هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِمُنْفَرِدٍ ، أَوْ مَنْ كَانَ طَرِيقُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فِي ظِلَالٍ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَطَرِ إلَيْهِ ، أَوْ مَنْ كَانَ مُقَامُهُ فِي الْمَسْجِدِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ إذَا وُجِدَ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا ، كَالسَّفَرِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ إذَا وُجِدَتْ أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ ، كَالسَّلَمِ ، وَإِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي الْمَطَرِ ، وَلَيْسَ بَيْنَ حُجْرَتِهِ وَالْمَسْجِدِ شَيْءٌ .
وَالثَّانِي ، الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ ، دُونَ مَنْ لَا تَلْحَقُهُ ؛ كَالرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، يَخْتَصُّ بِمَنْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ ، دُونَ مِنْ لَا تَلْحَقُهُ ، كَمَنْ فِي الْجَامِعِ وَالْقَرِيبِ مِنْهُ .

( 1260 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْمَرَضِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، فَإِنَّ أَخْبَارَ التَّوْقِيتِ ثَابِتَةٌ ، فَلَا تُتْرَكُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ .
} وَفِي رِوَايَةٍ : { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ لِمَرَضٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هَذَا عِنْدِي رُخْصَةٌ لِلْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعِ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ ، وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ ، لَمَّا كَانَتَا مُسْتَحَاضَتَيْنِ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ وَتَعْجِيلِ الْعَصْرِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِغُسْلٍ وَاحِدٍ .
فَأَبَاحَ لَهُمَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الِاسْتِحَاضَةِ .
وَأَخْبَارُ الْمَوَاقِيتِ مَخْصُوصَةٌ بِالصُّوَرِ الَّتِي أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِيهَا ، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ بِمَا ذَكَرْنَا .

( 1261 ) فَصْلٌ : وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَلْحَقهُ بِهِ بِتَأْدِيَةِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ .
قَالَ الْأَثْرَمُ ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الْمَرِيضُ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ؟ فَقَالَ : إنِّي لِأَرْجُوَ لَهُ ذَلِكَ إذَا ضَعُفَ ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلِمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ : وَالْمَرِيضُ مُخَيَّرٌ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَالْمُسَافِرِ .
فَإِنْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَافِرِ ، فَأَمَّا الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ فَإِنَّمَا يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، لِأَنَّ السَّلَفَ إنَّمَا كَانُوا يَجْمَعُونَ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ يُفْضِي إلَى لُزُومِ الْمَشَقَّةِ ، وَالْخُرُوجِ فِي الظُّلْمَةِ ، أَوْ طُولِ الِانْتِظَارِ فِي الْمَسْجِدِ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ لِلْمَغْرِبِ ، فَإِذَا حَبَسَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، كَانَ أَشَقَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا ، وَرُبَّمَا يَزُولُ الْعُذْرُ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْأُولَى ، فَيَبْطُلُ الْجَمْعُ وَيَمْتَنِعُ .
وَإِنْ اخْتَارُوا تَأْخِيرَ الْجَمْعِ ، جَازَ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا شَيْئًا .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، إذَا اخْتَلَطَ الظَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ ، كَذَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : وَحَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، قَالَ : كَانَ أُمَرَاؤُنَا إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الْمَطِيرَةِ أَبْطَئُوا بِالْمَغْرِبِ ، وَعَجَّلُوا الْعِشَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مَعَهُمْ ، وَلَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا .
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : وَرَأَيْت الْقَاسِمَ وَسَالِمًا يُصَلِّيَانِ مَعَهُمْ ، فِي مِثْلِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَكَأَنَّ سُنَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ عِنْدَك أَنْ يُجْمَعَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ ، وَفِي السَّفَرِ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ .
قَالَ : نَعَمْ .

( 1263 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : يَجُوزُ إذَا كَانَتْ حَاجَةٌ أَوْ شَيْءٌ ، مَا لَمْ يَتَّخِذْهُ عَادَةً ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ .
} فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ .
وَلَنَا ، عُمُومُ أَخْبَارِ التَّوْقِيتِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَمَلْنَاهُ عَلَى حَالَةِ الْمَرَضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ ، كَالْمُرْضِعِ ، وَالشَّيْخِ الضَّعِيفِ ، وَأَشْبَاهِهِمَا مِمَّنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِي تَرْكِ الْجَمْعِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ، فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ عَمْرُو : قُلْت : لَجَابِرٍ أَبَا الشَّعْثَاءِ ، أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ ؟ قَالَ : وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ .

( 1264 ) فَصْلٌ : قَالَ وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْجَمْعِ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْآخَرُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ .
وَالتَّفْرِيعُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ .
وَمَوْضِعُ النِّيَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجَمْعِ ، فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَمَوْضِعُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّهَا نِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَيْهَا ، فَاعْتُبِرَتْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، كَنِيَّةِ الْقَصْرِ .
وَالثَّانِي مَوْضِعُهَا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ الْأُولَى إلَى سَلَامِهَا ، أَيَّ ذَلِكَ نَوَى فِيهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْجَمْعِ حِينَ الْفَرَاغِ مِنْ آخِرِ الْأُولَى إلَى الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَتَأَخَّرْ النِّيَّةُ عَنْهُ ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ .
وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، فَمَوْضِعُ النِّيَّةِ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِهِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ مَا يُصَلِّيهَا ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَخَّرَهَا عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ صَارَتْ قَضَاءً لَا جَمْعًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ النِّيَّةِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ مَا يُدْرِكُهَا بِهِ ، وَهُوَ رَكْعَةٌ ، أَوْ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَوْلَى ، فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا مِنْ الْقَدْرِ الَّذِي يَضِيقُ عَنْ فِعْلِهَا حَرَامٌ .

( 1265 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُعْتُبِرَتْ الْمُوَاصَلَةُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا تَفْرِيقًا يَسِيرًا .
فَإِنْ أَطَالَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بَطَلَ الْجَمْعُ .
لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُتَابَعَةُ أَوْ الْمُقَارَنَةُ ، وَلَمْ تَكُنْ الْمُتَابَعَةُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُقَارَنَةُ ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا كَثِيرًا ، بَطَلَ الْجَمْعُ ، سَوَاءٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِنَوْمٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ شُغْلٍ أَوْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ الْمَشْرُوطُ بِدُونِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَمْنَعْ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَالْمَرْجِعُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ، لَا حَدَّ لَهُ سِوَى ذَلِكَ ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ وَالْوُضُوءِ .
وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَقْدِيرِهِ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيرِهِ ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ، كَالْإِحْرَازِ وَالْقَبْضِ ، وَمَتَى احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ ، فَعَلَهُ إذَا لَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يَسِيرٍ ، لَمْ يَبْطُلْ الْجَمْعُ ، وَإِنْ صَلَّى بَيْنَهُمَا السُّنَّةَ ، بَطَلَ الْجَمْعُ ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِصَلَاةٍ فَبَطَلَ الْجَمْعُ ، كَمَا لَوْ صَلَّى بَيْنَهُمَا غَيْرَهَا .
وَعَنْهُ : لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ يَسِيرٌ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَضَّأَ .
وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، جَازَ التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى الْأُولَى فَالثَّانِيَةُ فِي وَقْتِهَا ، لَا تَخْرُجُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ كَوْنِهَا مُؤَدَّاةً .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّ الْمُتَابَعَةَ مُشْتَرَطَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ حَقِيقَتُهُ ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ التَّفْرِيقِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى بَعْدَ وُقُوعِهَا صَحِيحَةً لَا تَبْطُلُ بِشَيْءٍ يُوجَدُ بَعْدَهَا ، وَالثَّانِيَةُ لَا تَقَعُ إلَّا فِي وَقْتِهَا .

( 1266 ) فَصْلٌ : وَمَتَى جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُعْتُبِرَ وُجُودُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ حَالَ افْتِتَاحِ الْأُولَى وَالْفَرَاغِ مِنْهَا وَافْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ ، فَمَتَى زَالَ الْعُذْرُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُبَحْ الْجَمْعُ .
وَإِنْ زَالَ الْمَطَرُ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى ، ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، أَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالثَّانِيَةِ ، جَازَ الْجَمْعُ ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ انْقِطَاعُهُ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ وُجِدَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى ، وَفِي وَقْتِ الْجَمْعِ ، وَهُوَ آخِرُ الْأُولَى وَأَوَّلُ الثَّانِيَةِ ، فَلَمْ يَضُرَّ عَدَمُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ الْأُولَى ، انْقَطَعَ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ ، وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ .
وَلَوْ عَادَ فَنَوَى السَّفَرَ ، لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّرَخُّصُ حَتَّى يُفَارِقَ الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ فِيهِ .
وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالثَّانِيَةِ ، أَوْ دَخَلَتْ بِهِ السَّفِينَةُ بَلَدَهُ فِي أَثْنَائِهَا ، احْتَمَلَ أَنْ يُتِمَّهَا ، وَيَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى انْقِطَاعِ الْمَطَرِ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَلِبَ نَفْلًا ، وَيَبْطُلَ الْجَمْعُ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ رُخَصِ السَّفَرِ ، فَبَطَلَ بِذَلِكَ ، كَالْقَصْرِ وَالْمَسْحِ ، وَلِأَنَّهُ زَالَ شَرْطُهَا فِي أَثْنَائِهَا ، أَشْبَهَ بِسَائِرِ شُرُوطِهَا .
وَيُفَارِقُ انْقِطَاعَ الْمَطَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ انْقِطَاعُهُ ؛ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، وَالثَّانِي أَنْ يَخْلُفَهُ عُذْرٌ مُبِيحٌ ، وَهُوَ الْوَحْلُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَرِيضِ يَبْرَأُ وَيَزُولُ عُذْرُهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ .
فَأَمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ اُعْتُبِرَ بَقَاءُ الْعُذْرِ إلَى حِينِ دُخُولِ وَقْتِهَا ، فَإِنْ زَالَ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، كَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ ، وَالْمَطَرِ يَنْقَطِعُ ، لَمْ يُبَحْ

الْجَمْعُ ؛ لِزَوَالِ سَبَبِهِ .
وَإِنْ اسْتَمَرَّ إلَى حِينِ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، جَمَعَ ، وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا وَاجِبَتَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِمَا .

( 1267 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، أَجْزَأَتْهُ ، وَلَمْ تَلْزَمْهُ الثَّانِيَةُ فِي وَقْتِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً مُجْزِيَةً عَنْ مَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا ، فَلَمْ تَشْتَغِلْ الذِّمَّةُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ حَالَ الْعُذْرِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِزَوَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ .

( 1268 ) فَصْلٌ : وَإِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا ، وَيُوتِرُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهَا تَابِعَةٌ لَهَا ، فَيَتْبَعُهَا فِي فِعْلِهَا وَوَقْتِهَا ، وَالْوِتْرُ وَقْتُهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَدَخَلَ وَقْتُهُ .

( 1269 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى إحْدَى صَلَاتَيْ الْجَمْعِ مَعَ إمَامٍ ، وَصَلَّى الثَّانِيَةَ مَعَ إمَامٍ آخَرَ ، وَصَلَّى مَعَهُ مَأْمُومٌ فِي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ ، وَصَلَّى مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ مَأْمُومٌ ثَانٍ ، صَحَّ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَحَدُ مَنْ يَتِمُّ بِهِ الْجَمْعُ ، فَلَمْ يَجُزْ اخْتِلَافُهُ ، وَإِذَا اُشْتُرِطَ دَوَامُهُ كَالْعُذْرِ اُشْتُرِطَ دَوَامُهُ فِي الصَّلَاتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا ، وَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ بِنِيَّتِهَا ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ اتِّحَادُ الْإِمَامِ وَلَا الْمَأْمُومِ ، كَغَيْرِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : إنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ أَحَدُ مَنْ يَتِمُّ بِهِ الْجَمْعُ .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ الْجَمْعُ مُنْفَرِدًا وَفِي الْمَطَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْجَمْعَ فِي الْمَطَرِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْجَمَاعَةِ .
فَاَلَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْجَمْعُ الْجَمَاعَةُ ، لَا عَيْنُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، وَلَمْ تَخْتَلَّ الْجَمَاعَةُ ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، لَوْ ائْتَمَّ الْمَأْمُومُ بِإِمَامٍ لَا يَنْوِي الْجَمْعَ ، فَنَوَاهُ الْمَأْمُومُ ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى الْمَأْمُومُ الثَّانِيَةَ ، جَازَ .
لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ مُفَارَقَةَ إمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لِعُذْرِ ، فَفِي الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ نِيَّتَهُمَا لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى ، وَإِنَّمَا نَوَى أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي غَيْرِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى إتْمَامَ الثَّانِيَةِ ، وَهَكَذَا لَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِمُقِيمِينَ ، فَنَوَى الْجَمْعَ ، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْأُولَى قَامَ فَصَلَّى الثَّانِيَةَ ، جَازَ عَلَى هَذَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى أَحَدَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا ، ثُمَّ حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ يُصَلُّونَ الثَّانِيَةَ ، فَأَمَّهُمْ فِيهَا ، أَوْ صَلَّى مَعَهُمْ مَأْمُومًا ، جَازَ .
وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .

( 1270 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةَ حَضَرٍ ، فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ ، أَوْ صَلَاةَ سَفَرٍ ، فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ ، صَلَّى فِي الْحَالَتَيْنِ صَلَاةَ حَضَرٍ ) .
نَصَّ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْأَثْرَمِ .
قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : أَمَّا الْمُقِيمُ إذَا ذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ ، فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ يُصَلِّي أَرْبَعًا ، وَإِذَا نَسِيَهَا فِي السَّفَرِ ، فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ ، صَلَّى أَرْبَعًا بِالِاحْتِيَاطِ ، فَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ السَّاعَةَ ، فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ : " فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا " .
أَمَّا إذَا نَسِيَ صَلَاةَ الْحَضَرِ ، فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ ، فَعَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إجْمَاعًا ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا أَرْبَعًا ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ ، وَقَدْ فَاتَهُ أَرْبَعٌ .
وَأَمَّا إنْ نَسِيَ صَلَاةَ السَّفَرِ ، فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ احْتِيَاطًا .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَدَاوُد ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُصَلِّيهَا صَلَاةَ سَفَرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ ، وَلَمْ يَفُتْهُ إلَّا رَكْعَتَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ ، فَيَبْطُلُ بِزَوَالِهِ ، كَالْمَسْحِ ثَلَاثًا .
وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا " .
وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي الْحَضَرِ ، غَلَبَ فِيهَا حُكْمُهُ ، كَمَا لَوْ دَخَلَتْ بِهِ السَّفِينَةُ الْبَلَدَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَكَالْمَسْحِ .
وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْ ، وَبِالْمُتَيَمِّمِ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ ، فَقَضَاهَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ .

( 1271 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَسِيَهَا فِي سَفَرٍ ، فَذَكَرَهَا فِيهِ ، قَضَاهَا مَقْصُورَةً ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي السَّفَرِ ، وَفُعِلَتْ فِيهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا .
وَإِنْ ذَكَرَهَا فِي سَفَرٍ آخَرَ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَسَوَاءٌ ذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ لَزِمَتْهُ تَامَّةً ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا تَامَّةً بِذِكْرِهِ إيَّاهَا .
فَبَقِيَتْ فِي ذِمَّتِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا وَفِعْلَهَا فِي السَّفَرِ ، فَكَانَتْ صَلَاةَ سَفَرٍ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْحَضَرِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقَصْرِ كَوْنَ الصَّلَاةِ مُؤَدَّاةً ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَقْصُورَةٌ ، فَاشْتُرِطَ لَهَا الْوَقْتُ ، كَالْجُمُعَةِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا اشْتِرَاطٌ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا الْخُطْبَتَانِ وَالْعَدَدُ وَالِاسْتِيطَانُ ، فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْوَقْتِ لَهَا ، بِخِلَافِ صَلَاةِ السَّفَرِ .

( 1272 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، قَصْرُهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لَهُ قَصْرَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ سَافَرَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا .
أَشْبَهَ مَا لَوْ سَافَرَ قَبْلَ وُجُوبِهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَيْسَ لَهُ قَصْرُهَا ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ ، فَلَزِمَهُ إتْمَامُهَا ، كَمَا لَوْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا ، أَوْ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِهَا ، وَفَارَقَ مَا قَبْلَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ .

( 1273 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا دَخَلَ مَعَ مُقِيمٍ ، وَهُوَ مُسَافِرٌ ، ائْتَمَّ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ مَتَى ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ أَوْ رَكْعَةً ، أَوْ أَقَلَّ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمُسَافِرِ ، يَدْخُلُ فِي تَشَهُّدِ الْمُقِيمِينَ ؟ قَالَ : يُصَلِّي أَرْبَعًا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَقَالَ إِسْحَاقُ : لِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا رَكْعَتَيْنِ ، فَلَمْ تَزِدْ بِالِائْتِمَامِ ، كَالْفَجْرِ .
وَقَالَ طَاوُسٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَتَمِيمُ بْنُ حَذْلَمَ ، فِي الْمُسَافِرِ يُدْرِكُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ : يُجْزِيَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ : إنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ ، وَإِنْ أَدْرَكَ دُونَهَا قَصَرَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } .
وَلِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهَا .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : { مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ ، وَأَرْبَعًا إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ ؟ فَقَالَ : تِلْكَ السُّنَّةُ .
} رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَقَوْلُهُ : السُّنَّةُ .
يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّهُ فِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا .
قَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّاهَا أَرْبَعًا ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى رَكْعَتَيْنِ ، فَلَا يُصَلِّيهَا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي

الْأَرْبَعَ كَالْجُمُعَةِ وَمَا ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا ؛ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ ، وَإِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ يُخَالِفُ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ رَجَعَ إلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } .
وَمُفَارَقَةُ إمَامِهِ اخْتِلَافٌ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ إمْكَانِ مُتَابَعَتِهِ .
وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُسَافِرُونَ خَلْفَ مُسَافِرٍ فَأَحْدَثَ ، وَاسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا آخَرَ ، فَلَهُمْ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتَمُّوا بِمُقِيمٍ .
وَإِنْ اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا ، لَزِمَهُمْ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّهُمْ ائْتَمُّوا بِمُقِيمٍ ، وَلِلْإِمَامِ الَّذِي أَحْدَثَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ .
وَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُونَ خَلْفَ مُقِيمٍ ، فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا ، لَزِمَهُمْ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّهُمْ ائْتَمُّوا بِمُقِيمٍ ، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ .

( 1274 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُسَافِرُ خَلْفَ مُقِيمٍ ، أَوْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ ، أَوْ مَنْ يَشُكُّ هَلْ هُوَ مُقِيمٌ أَوْ مُسَافِرٌ ؟ لَزِمَ الْإِتْمَامُ ، وَإِنْ قَصَرَ إمَامُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ تَامَّةً ، فَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ قَصْرِهَا مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ إتْمَامِهَا ، وَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْإِمَامَ مُسَافِرٌ ؛ لِرُؤْيَةِ حِلْيَةِ الْمُسَافِرِينَ عَلَيْهِ وَآثَارِ السَّفَرِ ، فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ ، فَإِنْ قَصَرَ إمَامُهُ قَصَرَ مَعَهُ ، وَإِنْ أَتَمَّ لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ ، وَإِنْ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، سَوَاءٌ قَصَرَ إمَامُهُ ، أَوْ أَتَمَّ ، اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ .
وَإِنْ نَوَى الْقَصْرَ فَأَحْدَثَ إمَامُهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ ، فَلَهُ الْقَصْرُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ إمَامَهُ مُسَافِرٌ ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِهِ ، وَقَدْ أُبِيحَتْ لَهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ ، بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ احْتِيَاطًا .

( 1275 ) فَصْلٌ : إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِمُسَافِرِينَ ، فَفَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ ، فَأَحْدَثَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى ، وَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا ، لَزِمَ الطَّائِفَتَيْنِ الْإِتْمَامُ ، لِوُجُودِ الِائْتِمَامِ بِمُقِيمٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأُولَى ، أَتَمَّتْ الثَّانِيَةُ وَحْدَهَا ، لِاخْتِصَاصِهَا بِالِائْتِمَامِ بِالْمُقِيمِ .
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا ، فَاسْتَخْلَفَ مُسَافِرًا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ ، فَعَلَى الْجَمِيعِ الْإِتْمَامُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِاقْتِدَائِهِ بِالْمُقِيمِ ، فَصَارَ كَالْمُقِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَكَانَ اسْتِخْلَافُهُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْأُولَى ، فَعَلَيْهَا الْإِتْمَامُ ؛ لِائْتِمَامِهَا بِمُقِيمٍ ، وَيَقْصُرُ الْإِمَامُ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ .
وَإِنْ اسْتَخْلَفَ بَعْدَ دُخُولِ الثَّانِيَةِ مَعَهُ ، فَعَلَى الْجَمِيعِ الْإِتْمَامُ ، وَلِلْمُسْتَخْلَفِ الْقَصْرُ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ

( 1276 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا صَلَّى مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ خَلْفَ مُسَافِرٍ ، أَتَمَّ الْمُقِيمُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا ائْتَمَّ بِالْمُسَافِرِ ، وَسَلَّمَ الْمُسَافِرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، أَنَّ عَلَى الْمُقِيمِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { شَهِدْتُ الْفَتْحَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ : صَلُّوا أَرْبَعًا ، فَإِنَّا سَفَرٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ أَرْبَعًا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ رَكَعَاتِهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتَمَّ بِمُسَافِرٍ .

( 1277 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا صَلَّى بِمُقِيمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ عَقِيبَ تَسْلِيمِهِ : أَتِمُّوا ، فَإِنَّا سَفَرٌ .
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ عَلَى الْجَاهِلِ عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَيَظُنُّ أَنَّ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَانِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، أَنَّ عُثْمَانَ إنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ حَجُّوا ، فَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ .

( 1278 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَمَّ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمِينَ ، فَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ ، فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ صَحِيحَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْمُسَافِرِينَ مَعَهُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ ذَلِكَ .
قَالَ الْقَاضِي : لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ نَفْلٌ مِنْ الْإِمَامِ ، فَلَا يَؤُمُّ بِهَا مُفْتَرِضِينَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِنِيَّتِهِ ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ وَاجِبًا ، وَلَوْ كَانَتْ نَفْلًا فَائْتِمَامُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ جَائِزٌ ، عَلَى مَا مَضَى .

( 1279 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَمَّ الْمُسَافِرُ مُسَافِرِينَ ، فَنَسِيَ فَصَلَّاهَا تَامَّةً ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ ، وَلَا يَلْزَمُ لِذَلِكَ سُجُودُ سَهْوٍ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهَا ، فَلَا يَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهَا ، كَزِيَادَاتِ الْأَقْوَالِ ، مِثْلِ الْقِرَاءَةِ فِي السُّجُودِ وَالْقُعُودِ ، وَهَلْ يُشْرَعُ السُّجُودُ لَهَا ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الزِّيَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى سُجُودٍ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَصْلِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى جُبْرَانٍ .
وَوَجْهُ مَشْرُوعِيَّتِهِ أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ نَقَصَتْ الْفَضِيلَةَ ، وَأَخَلَّتْ بِالْكَمَالِ ، فَأَشْبَهَتْ الْقِرَاءَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا ، وَقِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ .
وَإِذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ بَعْدَ قِيَامِهِ إلَى الثَّالِثَةِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ ، وَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْإِتْمَامِ نِيَّتُهُ ، أَوْ الِائْتِمَامُ بِمُقِيمٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ قِيَامَهُ لِسَهْوٍ ، وَسَبَّحُوا بِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ مُتَابَعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَهْوٌ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ ، وَلَهُمْ مُفَارَقَتُهُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ ، كَمَا لَوْ قَامَ إلَى ثَالِثَةٍ فِي الْفَجْرِ ، وَإِنْ تَابَعُوهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْإِمَامِ ، فَلَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ بِمُتَابَعَتِهِ فِيهَا ، كَزِيَادَاتِ الْأَقْوَالِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ فَارَقُوا الْإِمَامَ ، وَأَتَمُّوا ، صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ ، فَمَعَ مُوَافَقَتِهِ أَوْلَى .
وَقَالَ الْقَاضِي : تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا رَكْعَتَيْنِ عَمْدًا .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا هَلْ قَامَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا ، لَزِمَهُمْ مُتَابَعَتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُفَارَقَتُهُ ، لِأَنَّ حُكْمَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ ثَابِتٌ ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .

( 1280 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، أَتَمَّ ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي تُلْزِمُ الْمُسَافِرَ الْإِتْمَامَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا ، هِيَ مَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَالْمَرُّوذِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَعَنْهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ ، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا قَصَرَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ حَدُّ الْقِلَّةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ مَنْسَكِهِ ثَلَاثًا } .
وَلَمَّا أَخْلَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ ، ضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا ثَلَاثًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حُكْمِ السَّفَرِ ، وَمَا زَادَ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ .
وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَعَ الْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ أَتَمَّ ، وَإِنْ نَوَى دُونَ ذَلِكَ قَصَرَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا قَدِمْتَ وَفِي نَفْسِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ .
وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ .
وَرَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ ، قَالَ : إذَا أَقَمْتَ أَرْبَعًا فَصَلِّ أَرْبَعًا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يُتِمُّ الصَّلَاةَ الَّذِي يُقِيمُ عَشْرًا ، وَيَقْصُرُ الصَّلَاةَ الَّذِي يَقُولُ : أَخْرُجُ الْيَوْمَ ، أَخْرُجُ غَدًا ، شَهْرًا .
وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِهِ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا قَدِمْتَ بَلْدَةً ، فَلَمْ تَدْرِ مَتَى تَخْرُجُ ، فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ ، وَإِنْ قُلْتَ : أَخْرُجُ الْيَوْمَ ،

أَخْرُجُ غَدًا .
فَأَقَمْتَ عَشْرًا ، فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ .
وَعَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَنَحْنُ إذَا أَقَمْنَا تِسْعَ عَشْرَةَ نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَإِذَا زِدْنَا عَلَى ذَلِكَ أَتْمَمْنَا .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ : صَلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، إلَى أَنْ تَقْدَمَ مِصْرًا ، فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ وَصُمْ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : إذَا وَضَعْتَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ .
وَكَانَ طَاوُسٌ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى أَرْبَعًا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَكَّةَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ ، وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالْأَبْطَحِ يَوْمَ الثَّامِنِ ، } فَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى إقَامَتِهَا .
قَالَ : فَإِذَا أَجْمَعَ أَنْ يُقِيمَ كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ ، وَإِذَا أَجْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَذْكُرُ حَدِيثَ أَنَسٌ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ .
فَقَالَ : هُوَ كَلَامٌ لَيْسَ يَفْقَهُهُ كُلُّ أَحَدٍ .
وَقَوْلُهُ : أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ وَخَامِسَةٍ وَسَادِسَةٍ وَسَابِعَةٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَثَامِنَةِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ، وَتَاسِعَةٍ وَعَاشِرَةٍ .
فَإِنَّمَا وَجْهُ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ حَسَبُ مُقَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى ، وَإِلَّا

فَلَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ بِهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ تَمَامُ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً يَقْصُرُ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَامَ إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً يَقْصُرُ ، وَهِيَ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي خِلَافِ قَوْلِ مَنْ حَدَّهُ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ .
وَقَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ : لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْهُمْ ، وَذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ خِلَافَ مَا حَكَوْهُ عَنْهُ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ، وَلَمْ أَجِدْ مَا حَكَوْهُ عَنْهُ فِيهِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إقَامَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ ، وَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجْمِعْ الْإِقَامَةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ زَمَنَ الْفَتْحِ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ حُنَيْنًا ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ إجْمَاعُ الْمُقَامِ .
وَهَذِهِ هِيَ إقَامَتُهُ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1281 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَصَدَ بَلَدًا بِعَيْنِهِ ، فَوَصَلَهُ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى الْإِقَامَةِ بِهِ مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا حُكْمُ سَفَرِهِ ، فَلَهُ الْقَصْرُ فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى إقَامَةٍ تَزِيدُ عَلَى إقَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا ، وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ : فَلَهُ الْقَصْرُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي أَسْفَارِهِ يَقْصُرُ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَحِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا مَا أَقَامَ كَانَ يَقْصُرُ فِيهَا ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يُرِيدَ بَلَدًا آخَرَ ، كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

( 1282 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى بَلَدٍ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَالٌ .
فَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَوْضِعٍ : يُتِمُّ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : يُتِمُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَارًّا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : إذَا مَرَّ بِمَزْرَعَةٍ لَهُ أَتَمَّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا مَرَّ بِقَرْيَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ أَتَمَّ ، إذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَقْصُرُ ، مَا لَمْ يُجْمِعْ عَلَى إقَامَةِ أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى أَرْبَعٍ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا قَدِمْتَ عَلَى أَهْلٍ لَكَ أَوْ مَالٍ ، فَصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ .
وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ بِبَلَدٍ فِيهِ أَهْلُهُ ، فَأَشْبَهَ الْبَلَدَ الَّذِي سَافَرَ مِنْهُ .

( 1283 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ ، فَلَا يُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَنْصَرِفَ ، فَهَذَا يُصَلِّي بِعَرَفَةَ رَكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ أَنْشَأَ السَّفَرَ ، فَهُوَ فِي سَفَرٍ مِنْ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مُقِيمًا بِبَغْدَادَ ، فَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْكُوفَةِ ، فَعَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِالنَّهْرَوَانِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَمَرَّ بِبَغْدَادَ ذَاهِبًا إلَى الْكُوفَةِ ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إذَا كَانَ يَمُرُّ بِبَغْدَادَ مُجْتَازًا ، لَا يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ إلَى عَرَفَةَ فِي نِيَّتِهِ الْإِقَامَةُ بِمَكَّةَ إذَا رَجَعَ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ بِعَرَفَةَ ، وَلِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ لَا يَقْصُرُونَ .
وَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ خَلْفَ مَكِّيٍّ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَأَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ يَقْصُرُ بِتَأْوِيلٍ ، فَصَحَّتْ صَلَاةُ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ .

( 1284 ) فَصْلٌ : وَإِذَا خَرَجَ الْمُسَافِرُ ، فَذَكَرَ حَاجَةً ، فَرَجَعَ إلَيْهَا ، فَلَهُ الْقَصْرُ فِي رُجُوعِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يُقِيمَ إذَا رَجَعَ مُدَّةً تَقْطَعُ الْقَصْرَ ، أَوْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
هَكَذَا حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ .
وَقَوْلُهُ ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : أَتَمَّ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَارًّا .
يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَصَدَ أَخْذَ حَاجَتِهِ ، وَالرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ إقَامَةٍ ، أَنَّهُ يَقْصُرُ ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَى لَهُ الْقَصْرَ ، مَا لَمْ يَنْوِ فِي رُجُوعِهِ الْإِقَامَةَ فِي الْبَلَدِ أَرْبَعًا ، قَالَ : وَلَوْ كَانَ أَتَمَّ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُتِمُّ حَتَّى يَخْرُجَ فَاصِلًا لِلثَّانِيَةِ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِخُرُوجِهِ ، وَلَمْ تُوجَدْ إقَامَةٌ تَقْطَعُ حُكْمَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتَى قَرْيَةً غَيْرَ مَخْرَجِهِ .

( 1285 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ قَالَ الْيَوْمَ أَخْرُجُ ، وَغَدًا أَخْرُجُ .
قَصَرَ ، وَإِنْ أَقَامَ شَهْرًا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الْإِقَامَةَ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، فَلَهُ الْقَصْرُ ، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ ، مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا ، أَوْ لِجِهَادِ عَدُوٍّ ، أَوْ حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ مَرَضٌ ، وَسَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْقِضَاءُ الْحَاجَةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ ، أَوْ كَثِيرَةٍ ، بَعْدَ أَنْ يَحْتَمِلَ انْقِضَاؤُهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً ، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سِنُونَ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ { : أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ جَابِرٌ : { أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " .
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِعَمَّانَ أَوْ سَلْمَانَ ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيُصَلِّي أَرْبَعًا ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ .
فَقَالَ : نَحْنُ أَعْلَمُ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، قَالَ : أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِبَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُهَا سَعْدٌ ، وَنُتِمُّهَا .
وَقَالَ نَافِعٌ : أَقَامَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ .
وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَقَامَ بِالشَّامِ سَنَتَيْنِ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ .
وَقَالَ

أَنَسٌ : أَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَامَهُرْمُزَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : أَقَمْتُ مَعَهُ سَنَتَيْنِ بِكَابُلَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُجْمِعُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانُوا يُقِيمُونَ بِالرَّيِّ السَّنَةَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِسِجِسْتَانَ السَّنَتَيْنِ ، يُجْمِعُونَ وَلَا يَصُومُونَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَيَقْصُرُ إذَا قَالَ : الْيَوْمَ أَخْرُجُ ، غَدًا أَخْرُجُ - شَهْرًا .
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ نِهَايَةَ الْقَصْرِ إلَى شَهْرٍ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِلْقَصْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( 1286 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَزَمَ عَلَى إقَامَةٍ طَوِيلَةٍ فِي رُسْتَاقٍ ، يَتَنَقَّلُ فِيهِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ ، لَا يُجْمِعُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا مُدَّةً تُبْطِلُ حُكْمَ السَّفَرِ ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ سَفَرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ عَشْرًا بِمَكَّةَ وَعَرَفَةَ وَمِنًى ، فَكَانَ يَقْصُرُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوَرِّقٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ ، قُلْتُ : إنِّي رَجُلٌ تَاجِرٌ ، آتِي الْأَهْوَازَ ، فَأَنْتَقِلُ فِي قُرَاهَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ ، فَأُقِيمُ الشَّهْرَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ : تَنْوِي الْإِقَامَةَ ؟ .
قُلْتُ : لَا .
قَالَ : لَا أَرَاك إلَّا مُسَافِرًا ، صَلِّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ ، فَأَشْبَهَ الْمُتَنَقِّلَ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَنْزِلٍ إلَى مَنْزِلٍ .

( 1287 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ بَلَدًا ، فَقَالَ : إنْ لَقِيتُ فُلَانًا أَقَمْتُ ، وَإِنْ لَمْ أَلْقِهِ لَمْ أُقِمْ .
لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ سَفَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْإِقَامَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِحُكْمِ السَّفَرِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْإِقَامَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى شَرْطٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ .

( 1288 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ نَازِلًا وَسَائِرًا عَلَى الرَّاحِلَةِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ .
} وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ ، وَأَنَسٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
وَرَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا ، فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي السَّفَرِ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوَتْرَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ وَلَمَّا نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَهَا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
فَأَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا ، فَقَالَ أَحْمَدُ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِالتَّطَوُّعِ فِي السَّفَرِ بَأْسٌ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَافِرُونَ ، فَيَتَطَوَّعُونَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَجَابِرٍ ، وَأَنَسٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي ذَرٍّ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَثِيرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَتَطَوَّعُ مَعَ الْفَرِيضَةِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ، إلَّا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَوْمًا يُسَبِّحُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ صَلَاتِي ، يَا ابْنَ أَخِي : {

صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ .
وَذَكَرَ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَقَالَ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْحَضَرِ ، فَكُنَّا نُصَلِّي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا ، وَكُنَّا نُصَلِّي فِي السَّفَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : { صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا ، فَمَا رَأَيْتُهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِفِعْلِهَا ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِهَا ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ الْأَصْلُ فِي فَرْضِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .
فَأَمَرَ بِالسَّعْيِ ، وَيَقْتَضِي الْأَمْرُ الْوُجُوبَ ، وَلَا يَجِبُ السَّعْيُ إلَّا إلَى الْوَاجِبِ .
وَنَهَى عَنْ الْبَيْعِ ؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِ عَنْهَا ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ مِنْ أَجْلِهَا ، وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ هَاهُنَا الذَّهَابُ إلَيْهَا ، لَا الْإِسْرَاعُ ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْعَدْوُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى } .
وَقَالَ : { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } وَقَالَ : { سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } .
وَقَالَ : { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } .
وَأَشْبَاهُ هَذَا لَمْ يُرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَدْوِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا : فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، إلَّا أَرْبَعَةً : عَبْدٌ مَمْلُوكٌ ، أَوْ امْرَأَةٌ ، أَوْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَرِيضٌ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا ، فِي يَوْمِي هَذَا ، فِي شَهْرِي هَذَا ، مِنْ عَامِي هَذَا ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي ، وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ ، اسْتِخْفَافًا بِهَا ، أَوْ جُحُودًا

لَهَا ، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ ، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ ، أَلَا وَلَا زَكَاةَ لَهُ ، أَلَا وَلَا حَجَّ لَهُ ، أَلَا وَلَا صَوْمَ لَهُ ، وَلَا بِرَّ لَهُ ، حَتَّى يَتُوبَ ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ .

( 1289 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ) الْمُسْتَحَبُّ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ .
قَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ : { كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقْتٌ لِلْجُمُعَةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا قَبْلَهُ .
وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِ إقَامَتِهَا عَقِيبَ الزَّوَالِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَرِّ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ ، فَلَوْ انْتَظَرُوا الْإِبْرَادَ شَقَّ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِلْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرٍ لِيُسْمِعَ النَّاسَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ .
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ : { أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى فُلَانَةَ - امْرَأَةٍ سَمَّاهَا سَهْلٌ - أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ : { مَا أَخَذْتُ ق إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ } .
وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا ، فَلَوْ خَطَبَ عَلَى الْأَرْضِ ، أَوْ عَلَى رَبْوَةٍ ، أَوْ وِسَادَةٍ ، أَوْ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، جَازَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ قَبْلَ

أَنْ يُصْنَعَ الْمِنْبَرُ يَقُومُ عَلَى الْأَرْضِ ا هـ .
( 1290 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا صَنَعَ .

( 1291 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا اسْتَقْبَلَ النَّاسَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ ، وَجَلَسَ ) يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ ، ثُمَّ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَقْبَلَ الْحَاضِرِينَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، وَجَلَسَ إلَى أَنْ يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ أَذَانِهِمْ .
كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إذَا عَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ سَلَّمَ ، وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسَنُّ السَّلَامُ عَقِيبَ الِاسْتِقْبَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ حَالَ خُرُوجِهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَلَّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ جَالِسًا ، فَإِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ تَوَجَّهَ النَّاسَ ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ } .
رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ ، بِإِسْنَادِهِ .
عَنْ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيَقْرَأُ سُورَةً ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلَانِهِ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَمَتَى سَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ النَّاسُ ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ آكَدُ مِنْ ابْتِدَائِهِ .
ثُمَّ يَجْلِسُ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ لِيَسْتَرِيحَ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ ، يَجْلِسُ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَلَا يَتَكَلَّمُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .

( 1292 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ ، وَهَذَا الْأَذَانُ الَّذِي يَمْنَعُ الْبَيْعَ ، وَيُلْزِمُ السَّعْيَ ، إلَّا لِمَنْ مَنْزِلُهُ فِي بُعْدٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ ) أَمَّا مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ عَقِيبَ صُعُودِ الْإِمَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، فَقَدْ كَانَ يُؤَذَّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ : { كَانَ النِّدَاءُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ كَثُرَ النَّاسُ ، فَزَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " هَذَا الْأَذَانُ الَّذِي يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَيُلْزِمُ السَّعْيَ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ ، وَنَهَى عَنْ الْبَيْعِ بَعْدَ النِّدَاءِ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَالنِّدَاءُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النِّدَاءُ عَقِيبَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْبَيْعَ يَحْرُمُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَهُ عَلَى النِّدَاءِ ، لَا عَلَى الْوَقْتِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا إدْرَاكُ الْجُمُعَةِ ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا دُونَ مَا ذَكَرَهُ ، وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ لَمَا اخْتَصَّ بِالزَّوَالِ ، فَإِنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتٌ أَيْضًا .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا لَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ بِالسَّعْيِ وَقْتَ النِّدَاءِ ، فَعَلَيْهِ السَّعْيُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ ، وَالسَّعْيُ قَبْلَ

النِّدَاءِ مِنْ ضَرُورَةِ إدْرَاكِهَا ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ ، كَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ لِلْوُضُوءِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ ، وَنَحْوِهِمَا .

( 1293 ) فَصْلٌ : وَتَحْرِيمُ الْبَيْعِ ، وَوُجُوبُ السَّعْيِ ، يَخْتَصُّ بِالْمُخَاطَبِينَ بِالْجُمُعَةِ ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمُسَافِرِينَ ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ رِوَايَتَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ مَنْ أَمَرَهُ بِالسَّعْيِ ، فَغَيْرُ الْمُخَاطَبِ بِالسَّعْيِ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُعَلَّلٌ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِمْ .
فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ ، أَوْ كَانَ إنْسَانًا مُقِيمًا بِقَرْيَةٍ لَا جُمُعَةَ عَلَى أَهْلِهَا ، لَمْ يَحْرُمْ الْبَيْعُ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يُكْرَهْ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مُخَاطَبًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُخَاطَبٍ ، حَرُمَ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ ، وَكُرِهَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْرُمَ أَيْضًا : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .
}

( 1294 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحْرُمُ غَيْرُ الْبَيْعِ مِنْ الْعُقُودِ ، كَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ .
وَقِيلَ : يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْبَيْعِ ، وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي الشَّغْلِ عَنْ السَّعْيِ ؛ لِقِلَّةِ وُجُودِهِ ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ .

( 1295 ) فَصْلٌ : وَلِلسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَقْتَانِ : وَقْتُ وُجُوبٍ ، وَوَقْتُ فَضِيلَةٍ .
فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَمِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ، فَكُلَّمَا كَانَ أَبْكَرَ كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ " .
وَالرَّوَاحُ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَالْغُدُوُّ قَبْلَهُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } .
وَيُقَالُ : تَرَوَّحْتُ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ .
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : تَرُوحُ مِنْ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ، ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ ، وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عَلْقَمَةُ : خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى الْجُمُعَةِ ، فَوَجَدْتُ ثَلَاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ ، فَقَالَ : رَابِعُ أَرْبَعَةٍ ، وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ ، إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ

عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ ، صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَزَادَ : { وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ، وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ .
} قَوْلُهُ " بَكَّرَ " أَيْ خَرَجَ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ ، وَهِيَ أَوَّلُهُ " وَابْتَكَرَ " بَالَغَ فِي التَّبْكِيرِ ، أَيْ جَاءَ فِي أَوَّلِ الْبُكْرَةِ ، عَلَى مَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : تَرُوحُ مِنْ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ ابْتَكَرَ الْعِبَادَةَ مَعَ بُكُورَةٍ .
وَقِيلَ : ابْتَكَرَ الْخُطْبَةَ .
أَيْ : حَضَرَ الْخُطْبَةَ ، مَأْخُوذٌ مِنْ بَاكُورَةِ الثَّمَرَةِ ، وَهِيَ أَوَّلُهَا .
وَغَيْرُ هَذَا أَجْوَدُ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَاءَ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ ، لَزِمَ أَنْ يَحْضُرَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ وَقَوْلُهُ : " غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ " أَيْ : جَامَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ .
وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ } .
قَالَ أَحْمَدُ : تَفْسِيرُ قَوْلِهِ : " مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ " مُشَدَّدَةً ، يُرِيدُ يُغَسِّلُ أَهْلَهُ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ ، يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يَطَأَ وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِنَفْسِهِ ، وَأَغَضَّ لِطَرْفِهِ فِي طَرِيقِهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَكِيعٍ أَيْضًا .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ غَسَّلَ رَأْسَهُ ، وَاغْتَسَلَ فِي بَدَنِهِ .
حُكِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ .
وَقَوْلُهُ : " غُسْلَ الْجَنَابَةِ " عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَيْ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا عِنْدَ الزَّوَالِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَكِّرُ بِهَا ، وَمَتَى خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ ، فَلَمْ يُكْتَبْ مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَيُّ فَضِيلَةٍ لِهَذَا ؟ وَإِنْ أَخَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا دَخَلَ فِي النَّهْيِ وَالذَّمِّ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي جَاءَ يَتَخَطَّى النَّاسَ : { رَأَيْتُكَ آنَيْتَ وَآذَيْتَ } .
أَيْ أَخَّرْتَ الْمَجِيءَ .
وَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ حِينَ جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ : أَيُّ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَخَّرَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ بَدَنَةٌ ، أَوْ بَقَرَةٌ ، أَوْ فَضْلٌ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ .
وَقَوْلُهُ : " رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ " أَيْ : ذَهَبَ إلَيْهَا .
لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَا .

( 1296 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ وَلَا يَرْكَبَ فِي طَرِيقِهَا ؛ لِقَوْلِهِ : " وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ " .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ .
} وَالْجُمُعَةُ فِي مَعْنَاهُمَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَابُ حُجْرَتِهِ شَارِعًا فِي الْمَسْجِدِ ، يَخْرُجُ مِنْهُ إلَيْهِ ، فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّكُوبَ ، وَلِأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْخُطُوَاتِ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي حَالِ مَشْيِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، وَلَا تُسْرِعُوا } .
وَلِأَنَّ الْمَاشِيَ إلَى الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ ، وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَيُقَارِبُ بَيْنَ خُطَاهُ ، لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ .
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى الصَّلَاةِ ، فَقَارَبَ بَيْنَ خُطَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا فَعَلْتُ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، أَنَّهُ كَانَ يُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ ، وَيَخْلَعُ نَعْلَيْهِ ، وَيَمْشِي حَافِيًا ، وَيَقْصُرُ فِي مَشْيِهِ ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَيُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ فِي طَرِيقِهِ ، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ ، وَيَقُولُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ .
وَيَقُولُ أَيْضًا : " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْكَ ، وَأَقْرَبِ مَنْ تَوَسَّلَ إلَيْكَ ، وَأَفْضَلِ مَنْ سَأَلَكَ وَرَغِبَ إلَيْكَ " .
وَرَوَيْنَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، أَنَّهُ مَشَى إلَى الْجُمُعَةِ حَافِيًا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ .
}

( 1297 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ وَالسَّعْيُ إلَيْهَا ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ يُقِيمُهَا سُنِّيًّا ، أَوْ مُبْتَدِعًا ، أَوْ عَدْلًا ، أَوْ فَاسِقًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَرُوِيَ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ - يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، قَالَ : أَمَّا الْجُمُعَةُ فَيَنْبَغِي شُهُودُهَا ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَلِّي مِنْهُمْ ، أَعَادَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مِنْهُمْ ، فَلَا يُعِيدُ .
قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ يُقَالُ : إنَّهُ قَدْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ قَالَ : حَتَّى يَسْتَيْقِنَ .
وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ ، اسْتِخْفَافًا بِهَا ، أَوْ جُحُودًا بِهَا ، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ } .
وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَشْهَدُونَهَا مَعَ الْحَجَّاجِ وَنُظَرَائِهِ ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ التَّخَلُّفُ عَنْهَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ : تَذَاكَرْنَا الْجُمُعَةَ أَيَّامَ الْمُخْتَارِ ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوهُ ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَذِبُهُ .
وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ ، وَيَتَوَلَّاهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ وَلَّوْهُ ، فَتَرْكُهَا خَلْفَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهَا .
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ ، فَقَالَ : إنَّ لِي جِيرَانًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ، فَكُنْتُ أَعِيبُهُمْ وَأَنْقُصُهُمْ ، فَجَاءُونِي فَقَالُوا : مَا تَخْرُجُ تُذَكِّرُنَا ؟ قَالَ : وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُونَ ؟ قَالَ : أَوَّلُ مَا أَقُولُ لَكَ ، أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْجُمُعَةَ .
قَالَ :

حَسْبُكَ ، مَا قَوْلُكَ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؟ قَالَ : قُلْتُ رَجُلُ سُوءٍ .
قَالَ : فَمَا قَوْلُكَ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : قُلْتُ كَافِرٌ .
ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : مَا قَوْلُكَ فِي مَنْ رَدَّ عَلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى ؟ ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَمَكَثَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : رَدُّوا عَلَيْهِ وَاَللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } قَالَهَا وَاَللَّهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِي الْعَبَّاسِ يَسْأَلُونَهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهَا لَا تُعَادُ خَلْفَ مَنْ يُعَادُ خَلْفَهُ بَقِيَّةُ الصَّلَوَاتِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهَا لَا تُعَادُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى .
وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَهَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ .

( 1298 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْأَذَانِ خَطَبَهُمْ قَائِمًا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ فِي الْجُمُعَةِ ، لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا كَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، إلَّا الْحَسَنَ ، قَالَ : تُجْزِئُهُمْ جَمِيعَهُمْ ، خَطَبَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَخْطُبْ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ عِيدٍ ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لَهَا الْخُطْبَةُ ، كَصَلَاةِ الْأَضْحَى .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالذِّكْرُ هُوَ الْخُطْبَةُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَرَكَ الْخُطْبَةَ لِلْجُمُعَةِ فِي حَالٍ ؛ وَقَدْ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَصُرَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ .
وَقَوْلُ عَائِشَةَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كَانَتْ الْجُمُعَةُ أَرْبَعًا فَجُعِلَتْ الْخُطْبَةُ مَكَانَ الرَّكْعَتَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : " خَطَبَهُمْ قَائِمًا " .
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ اشْتِرَاطَ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ ، وَأَنَّهُ مَتَى خَطَبَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ، لَمْ تَصِحَّ .
وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْخُطْبَةِ قَاعِدًا ، أَوْ يَقْعُدُ فِي إحْدَى الْخُطْبَتَيْنِ ؟ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ، وَقَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا .
فَقَالَ لَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْلِسُ فِي خُطْبَتِهِ فَظَهَرَ مِنْهُ إنْكَارٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُجْزِئُهُ الْخُطْبَةُ قَاعِدًا .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الِاسْتِقْبَالُ ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا ، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ ، فَقَدْ وَاَللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ .
} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
فَأَمَّا إنْ قَعَدَ لِعُذْرٍ ، مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ الْقِيَامِ ، فَلَا بَأْسَ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْخُطْبَةِ عِنْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ أَذَانِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ .

( 1299 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّاسُ الْخَطِيبَ إذَا خَطَبَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَكُونُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِي مُتَبَاعِدًا ، فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَرِفَ إلَيْهِ حَوَّلْتُ وَجْهِي عَنْ الْقِبْلَةِ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، تَنْحَرِفُ إلَيْهِ وَمِمَّنْ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ .
وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَابْنِ جَابِرٍ ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا كَالْإِجْمَاعِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَلَمْ يَنْحَرِفْ إلَى الْإِمَامِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَقْبِلُ هِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ إذَا خَطَبَ ، فَوَكَلَ بِهِ هِشَامٌ شُرْطِيًّا يَعْطِفُهُ إلَيْهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ } ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ مُطِيعِ بْنِ يَحْيَى الْمَدَنِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَقْبَلْنَا بِوُجُوهِنَا إلَيْهِ } .
أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي سَمَاعِهِمْ ، فَاسْتُحِبَّ ، كَاسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ .

( 1300 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ وَقَامَ ، فَأَتَى أَيْضًا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَرَأَ وَوَعَظَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِإِنْسَانٍ دَعَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ خُطْبَتَانِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُجْزِيهِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا تَكُونُ الْخُطْبَةُ إلَّا كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُطْبَةً تَامَّةً .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ ، كَمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَقَدْ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ .
فَكُلُّ خُطْبَةٍ مَكَانَ رَكْعَةٍ ، فَالْإِخْلَالُ بِإِحْدَاهُمَا كَالْإِخْلَالِ بِإِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ .
وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ } .
وَإِذَا وَجَبَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَجَبَ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قَالَ : لَا أُذْكَرُ إلَّا ذُكِرْتَ مَعِي ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ وَجَبَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ فِي خُطَبِهِ ذَلِكَ .
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ ، فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ شَرْطًا فِيهِمَا كَالرَّكْعَتَيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُشْتَرَطَ فِي إحْدَاهُمَا ؛ لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ .
وَيَحْمَدُ اللَّهَ ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيَقْرَأُ سُورَةً ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ثُمَّ يَنْزِلُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلَانِهِ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إنَّمَا قَرَأَ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى ، وَوَعَظَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِهَذَا الْخَبَرِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : تَجِبُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا بَيَانُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْخُطْبَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ أَتَى بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَلَمْ يُعَيِّنْ ذِكْرًا ، فَأَجْزَأَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ ، وَيَقَعُ اسْمُ الْخُطْبَةِ عَلَى دُونِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : عَلِّمْنِي عَمَلًا أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ .
فَقَالَ : " لَئِنْ أَقْصَرْتَ فِي الْخُطْبَةِ لَقَدْ أَعْرَضْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ " .
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الذِّكْرَ بِفِعْلِهِ ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ ، قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ : { كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا ، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا ، يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ } .
وَقَالَ

جَابِرٌ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ ، يَحْمَدُ اللَّهَ ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، ثُمَّ يَقُولُ : مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ } .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ .
كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ } .
فَأَمَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ فَلَا يُسَمَّى خُطْبَةً .
وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْخُطْبَةُ ، وَمَا رَوَوْهُ مَجَازٌ ؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ لَا يُسَمَّى خُطْبَةً ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَلْقَى مَسْأَلَةً عَلَى الْحَاضِرِينَ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَا يَكْفِي فِي الْقِرَاءَةِ أَقَلُّ مِنْ آيَةٍ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهَا ، بِدَلِيلِ مَنْعِ الْجُنُبِ مِنْ قِرَاءَتِهَا ، دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ ، مَا شَاءَ قَرَأَ .
وَقَالَ : إنْ خَطَبَ بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ .
وَالْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنْ قِرَاءَةِ آيَةٍ .
وَالْخِرَقِيُّ قَالَ : قَرَأَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْمَقْرُوءَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ سِوَى حَمْدِ اللَّهِ وَالْمَوْعِظَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى خُطْبَةً ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ ، فَأَجْزَأَ ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ دَلِيلٌ .
وَلَا يَجِبُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى صِفَةِ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ آيَاتٍ وَلَا يَجِبُ قِرَاءَةُ آيَاتٍ ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ آيَاتٍ كَذَلِكَ ، وَلِمَا رَوَتْ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ ، قَالَتْ : { مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ } .
وَعَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْهَا مِثْلُ هَذَا ، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ ، وَفِي حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةً .

( 1301 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُهَا وَلَنَا ، أَنَّهَا جَلْسَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً كَالْأُولَى ، وَقَدْ سَرَدَ الْخُطْبَةَ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ .
قَالَهُ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : رَأَيْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى فَرَغَ .
وَجُلُوسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً ، كَالْأُولَى ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ ، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا لِعُذْرٍ فَصَلَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ خَطَبَ قَائِمًا فَلَمْ يَجْلِسْ .
قَالَ : ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : ذَهَبَ مَالِكٌ ، وَالْعِرَاقِيُّونَ ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا الشَّافِعِيَّ ، أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ .

( 1302 ) فَصْلٌ : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ مُتَطَهِّرًا .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِهَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهِمْ : يُجْزِئُهُ .
وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَطَبَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، أَوْ خَطَبَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا : يُشْتَرَطُ قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا .
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ ، وَلِأَنَّ الْخِرَقِيِّ اشْتَرَطَ لِلْأَذَانِ الطَّهَارَةَ مِنْ الْجَنَابَةِ ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى .
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى فَلَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ ، فَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ فِيهِ شَرْطًا كَالْأَذَانِ ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَقِيبَ الْخُطْبَةِ ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ .
وَلِأَنَّنَا اسْتَحْبَبْنَا ذَلِكَ لِلْأَذَانِ ، فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ، فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ، وَرُبَّمَا طَوَّلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ .

( 1303 ) فَصْلٌ : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ .
وَإِنْ خَطَبَ رَجُلٌ ، وَصَلَّى آخَرُ لِعُذْرٍ ، جَازَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَلَوْ خَطَبَ أَمِيرٌ ، فَعُزِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ ، فَصَلَّى بِهِمْ ، فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لِلْعُذْرِ ، فَفِي الْخُطْبَةِ مَعَ الصَّلَاةِ أَوْلَى .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ ، فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُعْجِبُنِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ .
فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَلَّاهُمَا ، وَقَدْ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ .
وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَتَا صَلَاتَيْنِ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مِمَّنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُشْتَرَطُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إمَامٌ فِي الْجُمُعَةِ ، فَاشْتُرِطَ حُضُورُهُ الْخُطْبَةَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يُشْتَرَطُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ ، فَجَازَ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا .
كَمَا لَوْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ لِعُذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ .
قَالَ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، فِي الْإِمَامِ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ مَا خَطَبَ ، فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِهِمْ : لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ إلَّا أَرْبَعًا ، إلَّا أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ ، ثُمَّ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ .

( 1304 ) فَصْلٌ : وَمِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ أَنْ يَقْصِدَ الْخَطِيبُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي سَمَاعِ النَّاسِ ، وَأَعْدَلُ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّهُ لَوْ الْتَفَتَ إلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ لَأَعْرَضَ عَنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَلَوْ خَالَفَ هَذَا ، وَاسْتَدْبَرَ النَّاسَ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، صَحَّتْ الْخُطْبَةُ ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَذَّنَ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ ؛ لِيُسْمِعَ النَّاسَ .
قَالَ جَابِرٌ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ ، وَعَلَا صَوْتُهُ ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ : صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ، وَيَقُولُ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } .
وَيُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ الْخُطْبَةِ ؛ لِمَا رَوَى عَمَّارٌ ، قَالَ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ } .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ : { كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا ، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا } ، رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا مُسْلِمٌ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إنَّمَا هِيَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ ، أَوْ سَيْفٍ ، أَوْ عَصًا ؛ لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَالَ : { وَفَدْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ طَيِّبَاتٍ خَفِيفَاتٍ مُبَارَكَاتٍ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَكِّنَ أَطْرَافَهُ ، إمَّا أَنْ يَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ ، أَوْ يُرْسِلَهُمَا سَاكِنَتَيْنِ مَعَ جَنْبَيْهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ قَبْلَ الْمَوْعِظَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ ، ثُمَّ يُثْنِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَعِظُ .
فَإِنْ عَكَسَ ذَلِكَ صَحَّ ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ مُتَرَسِّلًا ، مُبِينًا ، مُعْرِبًا ، لَا يُعَجِّلْ فِيهَا ، وَلَا يَمْطُطْهَا ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا ، مُتَّعِظًا بِمَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عُرِضَ عَلَيَّ قَوْمٌ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، فَقِيلَ لِي : هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ .
}

( 1305 ) فَصْلٌ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْحَجِّ عَلَى الْمِنْبَرِ ، أَيُجْزِئُهُ ؟ قَالَ : لَا .
لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَخْطُبُونَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ : لَا تَكُونُ الْخُطْبَةُ إلَّا كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُطْبَةً تَامَّةً ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى خُطْبَةً ، وَلَا يَجْمَعُ شُرُوطَهَا .
وَإِنْ قَرَأَ آيَاتٍ فِيهَا حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمَوْعِظَةُ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحَّ ؛ لِاجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ .

( 1306 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ ، فَإِنْ شَاءَ نَزَلَ فَسَجَدَ ، وَإِنْ أَمْكَنَ السُّجُودُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، سَجَدَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ ، فَلَا حَرَجَ ، فَعَلَهُ عُمَرُ وَتَرَكَ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَتَرَكَ عُثْمَانُ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَعَمَّارٌ ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ .
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَنْزِلُ ؛ لِأَنَّهُ صَلَاةُ تَطَوُّعٍ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ ، كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ .
وَلَنَا ، فِعْلُ عُمَرَ وَتَرْكُهُ ، وَفِعْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَلِأَنَّهُ سُنَّةٌ وُجِدَ سَبَبُهَا ، لَا يَطُولُ الْفَصْلُ بِهَا ، فَاسْتُحِبَّ فِعْلُهَا ، كَحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا عَطَسَ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ .
وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَيُفَارِقُ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ ، لِأَنَّ سَبَبَهَا لَمْ يُوجَدْ ، وَيَطُولُ الْفَصْلُ بِهَا .

( 1307 ) فَصْلٌ : وَالْمُوَالَاةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخُطْبَةِ فَإِنْ فَصَلَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ ، بِكَلَامٍ طَوِيلٍ ، أَوْ سُكُوتٍ طَوِيلٍ ، أَوْ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ ، اسْتَأْنَفَهَا .
وَالْمَرْجِعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ .
وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّهَارَةِ تَطَهَّرَ ، وَبَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ ، مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ .

( 1308 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَلِنَفْسِهِ ، وَالْحَاضِرِينَ ، وَإِنْ دَعَا لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاحِ فَحَسَنٌ .
وَقَدْ رَوَى ضَبَّةُ بْنُ مُحَصِّنٍ ، أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ إذَا خَطَبَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لِعُمَرَ ، وَأَبِي بَكْرٍ .
وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ضَبَّةُ الْبِدَايَةَ بِعُمَرَ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ ، فَقَالَ لِضَبَّةَ : أَنْتَ أَوْثَقُ مِنْهُ وَأَرْشَدُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَطَاءً قَالَ : هُوَ مُحَدِّثٌ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِعْلَ الصَّحَابَةِ لَهُ ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ ؛ وَلِأَنَّ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ إذَا صَلَحَ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ ، فَفِي الدُّعَاءِ لَهُ دُعَاءٌ لَهُمْ ، وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ .

( 1309 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَسُورَةً ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ عَقِيبَ الْخُطْبَةِ ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وَسُورَةً ، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا .
لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ ، وَالثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ، قَالَ : { صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَفِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ : إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ .
فَلَمَّا قَضَى أَبُو هُرَيْرَةَ الصَّلَاةَ أَدْرَكْتُهُ ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، إنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيٌّ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ .
قَالَ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمُعَةِ .
} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَإِنْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ ، فَحَسَنٌ ؛ فَإِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ : { مَاذَا كَانَ يَقْرَؤُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، عَلَى إثْرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ : كَانَ يَقْرَأُ بِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِ ( سَبِّحْ ) وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ ، فَحَسَنٌ ؛ فَإِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَفِي الْجُمُعَةِ ، بِ " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " ، وَ " هَلْ أَتَاكَ

حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، قَرَأَ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَ { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } مَعًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ : أَمَّا الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ ، وَاَلَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ بِ ( سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الثَّانِيَةِ ( سَبِّحْ ) ، وَلَعَلَّهُ صَارَ إلَى مَا حَكَاهُ مَالِكٌ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّاسَ عَلَيْهِ ، وَاتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ .
وَمَهْمَا قَرَأَ فَهُوَ جَائِزٌ حَسَنٌ ، إلَّا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ ، وَلِأَنَّ سُورَةَ الْجُمُعَةِ تَلِيقُ بِالْجُمُعَةِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِهَا ، وَالْأَمْرِ بِهَا ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا .

( 1310 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا ، أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى ، وَكَانَتْ لَهُ جُمُعَةً ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ ، فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا ، يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى ، وَيُجْزِئُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَنَسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَعَلْقَمَةَ ، وَالْأَسْوَدِ ، وَعُرْوَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَمَكْحُولٌ : مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ صَلَّى أَرْبَعًا ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ لِلْجُمُعَةِ ، فَلَا تَكُونُ جُمُعَةً فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ شَرْطُهَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلَفْظُهُ : " فَلْيَصِلْ إلَيْهَا أُخْرَى " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ .

( 1311 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، بَنَى عَلَيْهَا ظُهْرًا ، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ ) .
أَمَّا مَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ ، وَيُصَلِّي ظُهْرًا أَرْبَعًا .
وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذِهِ .
وَقَالَ الْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِأَيِّ قَدْرٍ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً ، لَزِمَهُ إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْهَا ، كَالْمُسَافِرِ يُدْرِكُ الْمُقِيمَ ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ ، فَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا ، كَالظُّهْرِ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } .
فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لَهَا .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَقَدْ رَوَى بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الزَّيَّاتُ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى ، وَمَنْ أَدْرَكَ دُونَهَا صَلَّاهَا أَرْبَعًا } وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً ، فَلَمْ تَصِحَّ لَهُ الْجُمُعَةُ ، كَالْإِمَامِ إذَا انْفَضُّوا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ .
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَإِدْرَاكُهُ إدْرَاكُ إلْزَامٍ ، وَهَذَا إدْرَاكُ إسْقَاطٍ لِلْعَدَدِ ، فَافْتَرَقَا ، وَكَذَلِكَ يُتِمُّ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ ، وَلَا يَقْصُرُ الْمُقِيمُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ ، وَأَمَّا الظُّهْرُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .

( 1312 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ " بِسَجْدَتَيْهَا " فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الَّذِي أَدْرَكَ الرُّكُوعَ ، ثُمَّ فَاتَتْهُ السَّجْدَتَانِ ، أَوْ إحْدَاهُمَا ، حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ ، لِزِحَامٍ ، أَوْ نِسْيَانٍ ، أَوْ نَوْمٍ ، أَوْ غَفْلَةٍ ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ ، ثُمَّ زُحِمَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ ، وَالْمَيْمُونِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا ، أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ ، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ .
اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ رَكَعَ وَسَجَدَ مَعَهُ .
وَنَقَلَ صَالِحٌ ، وَابْنُ مَنْصُورٍ ، وَغَيْرُهُمَا ، أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً ، فَلَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .

( 1313 ) فَصْلٌ : وَمَتَى قَدَرَ الْمَزْحُومُ عَلَى السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ ، أَوْ قَدَمِهِ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَأَجْزَأَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ هَاشِمٍ يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ الرَّجُلِ وَالْقَدَمِ ، وَيُمَكِّنُ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ ، فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ : لَا يَفْعَلُ .
قَالَ مَالِكٌ : وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ إنْ فَعَلَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنْ الْأَرْضِ } .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " .
وَهَذَا قَالَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُمْكِنُهُ حَالَ الْعَجْزِ ، فَصَحَّ ، كَالْمَرِيضِ يَسْجُدُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ ، وَالْخَبَرُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَاجِزَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ، وَلَا يَأْمُرُ الْعَاجِزَ عَنْ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ .

( 1314 ) فَصْلٌ : وَإِذَا زُحِمَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يُزْحَمَ فِي الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ ، فَإِنْ زُحِمَ فِي الْأُولَى ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرٍ وَلَا قَدَمٍ ، انْتَظَرَ حَتَّى يَزُولَ الزِّحَامُ ، ثُمَّ يَسْجُدُ ، وَيَتْبَعُ إمَامَهُ ، مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ ، سَجَدَ مَعَهُ صَفٌّ ، وَبَقِيَ صَفٌّ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ ، فَلَمَّا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ سَجَدُوا ، وَجَازَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ ، كَذَا هَاهُنَا .
فَإِذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ ، وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْقِيَامِ ، أَوْ فِي الرُّكُوعِ ، أَتْبَعَهُ فِيهِ ، وَصَحَّتْ لَهُ الرَّكْعَةُ ، وَكَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ السُّجُودُ مَعَ إمَامِهِ ، لِمَرَضٍ ، أَوْ نَوْمٍ ، أَوْ نِسْيَانٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ الْمَزْحُومَ .
فَإِنْ خَافَ أَنَّهُ إنْ تَشَاغَلَ بِالسُّجُودِ فَاتَهُ الرُّكُوعُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّانِيَةِ ، لَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ ، وَتَصِيرُ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ بَعْدَهُ ، كَمَا لَوْ زَالَ الزِّحَامُ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ وَلِلشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : " فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا " .
قُلْنَا : قَدْ سَقَطَ الْأَمْرُ بِالْمُتَابَعَةِ فِي السُّجُودِ عَنْ هَذَا لِعُذْرِهِ ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ بِالْمُتَابَعَةِ فِي الرُّكُوعِ مُتَوَجِّهًا لِإِمْكَانِهِ ، وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ فَوَاتَ الرُّكُوعِ ، فَلَزِمَهُ مُتَابَعَةُ إمَامِهِ فِيهِ ، كَالْمَسْبُوقِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَائِمًا فَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، وَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ بِعُسْفَانَ .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ ، لَمْ تَصِحَّ

صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا عَمْدًا ، وَفَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ .
وَإِنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ ذَلِكَ فَسَجَدَ ، لَمْ يُعْتَدَّ بِسُجُودِهِ ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ جَهْلًا ، فَأَشْبَهَ السَّاهِيَ ، ثُمَّ إنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ ، رَكَعَ مَعَهُ ، وَصَحَّتْ لَهُ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى ، وَتَصِيرُ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ ، وَإِنْ فَاتَهُ الرُّكُوعُ سَجَدَ مَعَهُ ، فَإِنْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ مَعَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يُتِمُّ بِهِمَا الرَّكْعَةَ الْأُولَى .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَتَى قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ ، وَشَرَعَ فِي رُكُوعِهَا ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهَا الْمَقْصُودَةِ ، أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى تَبْطُلُ ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ، وَلَكِنْ إنْ لَمْ يَقُمْ ، وَلَكِنْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ ، تَمَّتْ رَكْعَتُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إذَا سَجَدَ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ ، اُعْتُدَّ لَهُ بِهِ ، وَتَصِحُّ لَهُ الرَّكْعَةُ ، كَمَا لَوْ سَجَدَ وَإِمَامُهُ قَائِمٌ ، ثُمَّ إنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ ، صَحَّتْ لَهُ الرَّكْعَتَانِ ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ وَيَتْبَعَهُ ، لِأَنَّ هَذَا سَبْقٌ يَسِيرٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَفُوتَهُ الثَّانِيَةُ بِفَوَاتِ الرُّكُوعِ .
وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ ، تَابَعَهُ ، وَقَضَى رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِهِ كَالْمَسْبُوقِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ .
وَلَا وَجْهَ لِلسُّجُودِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِسَهْوٍ ، وَلِأَنَّ هَذَا فَعَلَهُ عَمْدًا ، وَلَا يُشْرَعُ السُّجُودُ لِلْعَمْدِ .
وَإِنْ زُحِمَ عَنْ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ عَنْ الِاعْتِدَالِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، أَوْ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الزِّحَامِ عَنْ السُّجُودِ .
فَأَمَّا إنْ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ فِي الثَّانِيَةِ ، فَزَالَ الزِّحَامُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، سَجَدَ ، وَاتَّبَعَهُ ، وَصَحَّتْ الرَّكْعَةُ .
وَإِنْ

لَمْ يَزُلْ حَتَّى سَلَّمَ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى ، أَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا ، فَإِنْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ بِإِدْرَاكِهَا ، وَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ، وَقَدْ تَمَّتْ جُمُعَتُهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ ، وَتَصِحُّ لَهُ الرَّكْعَةُ .
وَهَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِذَلِكَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .

( 1315 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ، فَلَمَّا قَامَ لِيَقْضِيَ الْأُخْرَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ إمَامِهِ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً ، أَوْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ ؟ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ، رَجَعَ فَسَجَدَ لِلْأُولَى ، فَأَتَمَّهَا ، وَقَضَى الثَّانِيَةَ ، وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَإِنْ كَانَ شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ، بَطَلَتْ الْأُولَى ، وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ أُولَاهُ .
وَعَلَى كِلَا الْحَالَتَيْنِ يُتِمُّهَا جُمُعَةً ، عَلَى مَا نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ .
وَقِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الْمَزْحُومِ أَنَّهُ يُتِمُّهَا هَاهُنَا ظُهْرًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً كَامِلَةً .
وَلَوْ قَضَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَاهُمَا ، لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الرَّكْعَتَيْنِ تَرَكَهَا ، أَوْ شَكَّ فِي تَرْكِهَا ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ ، وَيَجْعَلُهَا مِنْ الْأُولَى ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ مَكَانَهَا .
وَفِي كَوْنِهِ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ شَكَّ فِي إدْرَاكِ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ ، مِثْلُ أَنْ كَبَّرَ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ ، فَرَفَعَ إمَامُهُ رَأْسَهُ ، فَشَكَّ هَلْ أَدْرَكَ الْمُجْزِئَ مِنْ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ لَا ؟ لَمْ يُعْتَدَّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ ، وَيُصَلِّي ظُهْرًا ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مَا أَتَى بِهَا مَعَهُ .

( 1316 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مَا لَا يَتِمُّ بِهِ جُمُعَةٌ ، فَإِنَّهُ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يَنْوِي ظُهْرًا ، فَإِنْ نَوَى جُمُعَةً لَمْ تَصِحَّ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ لِلْبِنَاءِ عَلَى مَا أَدْرَكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ ، يَحْتَمِلُ هَذَا ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ أَحْرَمَ ، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ إمَامُهُ ، قَالَ : يَسْتَقْبِلُ ظُهْرًا أَرْبَعًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ ابْتِدَاءً ، فَكَذَلِكَ دَوَامًا ، كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا يَنْوِي جُمُعَةً ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ نِيَّةَ إمَامِهِ ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهَا ظُهْرًا .
أَرْبَعًا .
وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ قَتَادَةَ ، وَأَيُّوبَ ، وَيُونُسَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الَّذِي أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِالْجُمُعَةِ ، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ السُّجُودِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ : أَتَمَّهَا أَرْبَعًا .
فَجَوَّزُوا لَهُ إتْمَامَهَا ظُهْرًا ، مَعَ كَوْنِهِ إنَّمَا أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مِنْهَا سَجْدَةً ، قَالَ : يَسْجُدُ سَجْدَةً ، وَيَأْتِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِمَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ، فَجَازَ أَنْ يَبْنِيَ صَلَاتَهُ عَلَى نِيَّتِهَا ، كَصَلَاةِ الْمُقِيمِ مَعَ الْمُسَافِرِ ، وَكَمَا يَنْوِي أَنَّهُ مَأْمُومٌ ، وَيُتِمُّ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ مُنْفَرِدًا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي ابْتِدَائِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي أَثْنَائِهَا .

( 1317 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، فَأَدْرَكَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ دُونَ الرَّكْعَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الدُّخُولُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ ظُهْرٌ ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، كَعُذْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ كَانَتْ نَفْلًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ تُجْزِئْهُ عَنْ الظُّهْرِ .
وَلَوْ أَدْرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً ، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ سُجُودِهَا ، وَقُلْنَا تَصِيرُ ظُهْرًا ، فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ نَفْلًا ؛ لِئَلَّا تَكُونَ ظُهْرًا قَبْلَ وَقْتِهَا .

( 1318 ) فَصْلٌ : وَلَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ، ثُمَّ زُحِمَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَأُخْرِجَ مِنْ الصَّفِّ ، فَصَارَ فَذًّا ، فَنَوَى الِانْفِرَادَ عَنْ الْإِمَامِ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِرَكْعَةٍ مِنْهَا مَعَ الْإِمَامِ ، فَيَبْنِي عَلَيْهَا جُمُعَةً ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ .
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الِانْفِرَادَ ، وَأَتَمَّهَا مَعَ الْإِمَامِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ فَذٌّ فِي رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا .
وَالثَّانِيَةُ ، تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْفَى فِي الْبِنَاءِ عَنْ تَكْمِيلِ الشُّرُوطِ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً ، وَكَالْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ ، يَقْضِي رَكْعَةً وَحْدَهُ .

( 1319 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً ، أَتَمُّوا بِرَكْعَةٍ أُخْرَى ، وَأَجْزَأَتْهُمْ جُمُعَةً ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ فِي وَقْتِهَا ، وَمَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ رَكْعَةٍ لَمْ تَكُنْ جُمُعَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِهَا أَتَمَّهَا جُمُعَةً .
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا فِي وَقْتِهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَتَمَّهَا فِيهِ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ ، سَلَّمَ وَأَجْزَأَتْهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ الْوَقْتُ قَبْلَ ذَلِكَ ، بَطَلَتْ أَوْ انْقَلَبَتْ ظُهْرًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا خَرَجَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا ، بَطَلَتْ ، وَلَا يَبْنِي عَلَيْهَا ظُهْرًا ، لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ ، فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عِنْدَهُ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً ، وَيَبْنِي عَلَيْهَا ظُهْرًا ؛ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَا وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَجَازَ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ، كَصَلَاةِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ .
وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً ، بِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي بَعْضِهَا كَانَ شَرْطًا فِي جَمِيعِهَا ، كَالطَّهَارَةِ ، وَسَائِرِ الشُّرُوطِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَقْد أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } .
وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ ، فَكَانَ مُدْرِكًا لَهَا ، كَالْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ ، وَلِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ يَخْتَصُّ الْجُمُعَةَ ، فَاكْتُفِيَ بِهِ فِي رَكْعَةٍ ، كَالْجَمَاعَةِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِإِدْرَاكِهَا فِي رَكْعَةٍ ، فَعَلَى هَذَا إنْ دَخَلَ

وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ رَكْعَةٍ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، تَفْسُدُ وَيَسْتَأْنِفُهَا ظُهْرًا ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا ، يُتِمُّهَا ظُهْرًا .
كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ .

( 1320 ) فَصْلٌ : إذَا أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَخْطُبَ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً ، فَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ لَهُ التَّلَبُّسَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُدْرِكُهَا فِيهِ فَإِنْ شَكَّ هَلْ أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُدْرِكُهَا بِهِ أَوْ لَا ؟ صَحَّتْ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَقْتِ وَصِحَّتُهَا .

( 1321 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَمَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، يُوجِزُ فِيهِمَا ) وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَقَالَ شُرَيْحٌ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، يَجْلِسُ ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لِلَّذِي جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ : اجْلِسْ ، فَقَدْ آذَيْتَ وَأَنَيْتَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ يَشْغَلُهُ عَنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ ، فَكُرِهَ ، كَرُكُوعِ غَيْرِ الدَّاخِلِ .
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ ، فَقَالَ : صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : قُمْ ، فَارْكَعْ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِمُسْلِمٍ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } وَهَذَا نَصٌّ .
وَلِأَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَسُنَّ لَهُ الرُّكُوعُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُهُمْ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ يَضِيقُ عَنْ الصَّلَاةِ ، أَوْ يَكُونَ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ ، بِحَيْثُ لَوْ تَشَاغَلَ بِالصَّلَاةِ فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ ، لِيَكُفَّ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ ، لِتَخَطِّيهِ إيَّاهُمْ فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ ، بِحَيْثُ إذَا تَشَاغَلَ بِالرُّكُوعِ فَاتَهُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ التَّشَاغُلُ بِالرُّكُوعِ .

( 1322 ) فَصْلٌ : وَيَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرَ الدَّاخِلِ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ، وَيَتَجَوَّزُ فِيهَا ؛ لِمَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ حَتَّى يَخْرُجَ عُمَرُ ، فَإِذَا خَرَجَ عُمَرُ ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ ، جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ ، حَتَّى إذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ وَقَامَ عُمَرُ سَكَتُوا ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ .

( 1323 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ الْإِنْصَاتُ مِنْ حِينِ يَأْخُذُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ ، فَلَا يَجُوزُ الْكَلَامُ لِأَحَدٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إذَا رَأَيْتَهُ يَتَكَلَّمُ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَاقْرَعْ رَأْسَهُ بِالْعَصَا .
وَكَرِهَ ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ : مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ؛ لَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ ، وَأَبُو بُرْدَةَ يَتَكَلَّمُونَ وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِمَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إذْ قَامَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاءُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا .
.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ يَرْفَعْهَا عَنَّا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَامَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْمَأَ النَّاسُ إلَيْهِ بِالسُّكُوتِ ، فَلَمْ يَقْبَلْ ، وَأَعَادَ الْكَلَامَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيْحَكَ ، مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، قَالَ : إنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ } وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُمْ ، وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ لَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ .

وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ - وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَقَدْ لَغَوْتَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " تَبَارَكَ " فَذَكَّرَنَا بِأَيَّامِ اللَّهِ ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَوْ أَبُو ذَرٍّ يَغْمِزُنِي فَقَالَ : مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ، فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْهَا إلَّا الْآنَ ؟ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا ، قَالَ : سَأَلْتُكَ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ فَلَمْ تُخْبِرْنِي .
قَالَ أُبَيٌّ : لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ الْيَوْمَ إلَّا مَا لَغَوْتَ فَذَهَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أُبَيٌّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَدَقَ أُبَيٌّ " رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ، فِي " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ مَاجَهْ ، وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ .
وَمَا احْتَجُّوا بِهِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَلَّمَ الْإِمَامَ ، أَوْ كَلَّمَهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ سَمَاعِ خُطْبَتِهِ ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ صَلَّى ؟ فَأَجَابَهُ .
وَسَأَلَ عُمَرُ عُثْمَانَ حِينَ دَخَلَ وَهُوَ يَخْطُبُ ، فَأَجَابَهُ ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ أَخْبَارِهِمْ عَلَى هَذَا ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَهَا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ فَالْأَخْذُ بِحَدِيثِنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ وَنَصُّهُ ، وَذَلِكَ سُكُوتُهُ ، وَالنَّصُّ أَقْوَى مِنْ السُّكُوتِ ( 1324 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَانَ قَرِيبًا يَسْمَعُ وَيُنْصِتُ وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا يُنْصِتُ ؛ فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِنْ الْحَظِّ مَا لِلسَّامِعِ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ، رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو ، وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو ، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُونٍ ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا ، فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 1325 ) فَصْلٌ : وَلِلْبَعِيدِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ ، قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ .
وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ عَطَاءٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ ، وَلَا يُذَاكِرَ فِي الْفِقْهِ ، وَلَا يُصَلِّيَ ، وَلَا يَجْلِسَ فِي حَلْقَةٍ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ لَهُ الْمُذَاكَرَةَ فِي الْفِقْهِ ، وَصَلَاةَ النَّافِلَةِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَلْقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ مَنَعَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ مِنْ السَّمَاعِ ، فَيَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ إثْمُ مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ ، وَصَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ

تَعَالَى .
وَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْمِعَ أَحَدًا ، فَلَا بَأْسَ .
وَهَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَوْ الْإِنْصَاتُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، الْإِنْصَاتُ أَفْضَلُ ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَوْلِ عُثْمَانَ .
وَالثَّانِي ، الذِّكْرُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَكَانَ أَفْضَلَ ، كَمَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ .

( 1326 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَى الْخَطِيبِ ، وَلَا عَلَى مَنْ سَأَلَهُ الْخَطِيبُ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ سُلَيْكًا الدَّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ : أَصَلَّيْتَ ؟ قَالَ : لَا } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ عُمَرَ بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ : أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ قَالَ : إنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ .
قَالَ عُمَرُ : الْوُضُوءَ أَيْضًا ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ عِلَّتُهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ الْإِنْصَاتِ الْوَاجِبِ ، وَسَمَاعِ الْخُطْبَةِ .
وَلَا يَحْصُلُ هَاهُنَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَلَّمَ الْإِمَامَ لِحَاجَةٍ ، أَوْ سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

( 1327 ) فَصْلٌ : وَإِذَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ مُتَكَلِّمًا لَمْ يَنْهَهُ بِالْكَلَامِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَقَدْ لَغَوْتَ } وَلَكِنْ يُشِيرُ إلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَيَضَعُ أُصْبُعَهُ عَلَى فِيهِ .
وَمِمَّنْ رَأَى أَنْ يُشِيرَ وَلَا يَتَكَلَّمَ ، زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَكَرِهَ الْإِشَارَةَ طَاوُسٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ ؟ أَوْمَأَ النَّاسُ إلَيْهِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّكُوتِ ، وَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يُبْطِلُهَا الْكَلَامُ ، فَفِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى .

( 1328 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ الْوَاجِبُ ، كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ مِنْ الْبِئْرِ ، أَوْ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ نَارًا ، أَوْ حَيَّةً أَوْ حَرِيقًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَلَهُ فِعْلُهُ ، لِأَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مَعَ إفْسَادِهَا ، فَهَاهُنَا أَوْلَى فَأَمَّا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ ، وَرَدُّ السَّلَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ : يَرُدُّ الرَّجُلُ السَّلَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِد قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ ، فَوَجَبَ ، الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْخُطْبَةِ ، كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ رَدَّ السَّلَامَ وَشَمَّتَ الْعَاطِسَ ، وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ لَمْ يَفْعَلْ .
قَالَ أَبُو طَالِبٍ ، قَالَ أَحْمَدُ : إذَا سَمِعْتَ الْخُطْبَةَ فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ ، وَلَا تَقْرَأْ ، وَلَا تُشَمِّتْ ، وَإِذَا لَمْ تَسْمَعْ الْخُطْبَةَ فَاقْرَأْ وَشَمِّتْ وَرُدَّ السَّلَامَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد ، قُلْتُ لِأَحْمَدَ : يَرُدُّ السَّلَامَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ ؟ فَقَالَ : إذَا كَانَ لَيْسَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَيَرُدُّ ، وَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ فَلَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَسْمَعُ نَغْمَةَ الْإِمَامِ بِالْخُطْبَةِ ، وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ ، يَرُدُّ السَّلَامَ ؟ قَالَ : لَا ، إذَا سَمِعَ شَيْئًا وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ ، فَلَمْ يَجُزْ الْكَلَامُ الْمَانِعُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، كَالْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَرُدُّ وَلَا يُشَمِّتُ .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَاخْتَلَفَ

فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِمَنْ يَسْمَعُ دُونَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ ، فَيَكُونُ مِثْلَ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي كُلِّ حَاضِرٍ يَسْمَعُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ شَامِلٌ لَهُمْ ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ ، كَالسَّامِعِينَ .

( 1329 ) فَصْلٌ : لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْخُطْبَةِ ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَبَكْرٌ الْمُزَنِيّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَيَعْقُوبُ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَكَرِهَهُ ، الْحَكَمُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَرُمَ الْكَلَامُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَكْرَهَانِ الْكَلَامَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ .
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ ، فَقَدْ لَغَوْتَ } فَخَصَّهُ بِوَقْتِ الْخُطْبَةِ .
وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ : إنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ إذَا خَرَجَ عُمَرُ ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ ، جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ ، حَتَّى إذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ ، وَقَامَ عُمَرُ سَكَتُوا ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا حَرُمَ لِأَجْلِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ ، فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ مَعَ عَدَمِهَا .
وَقَوْلُهُمْ : لَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ .
قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ عُمُومِهِمْ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ .

( 1330 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ غَيْرُ خَاطِبٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّهُ سُكُوتٌ يَسِيرٌ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ ، أَشْبَهَ السُّكُوتَ لِلتَّنَفُّسِ .

( 1331 ) فَصْلٌ : إذَا بَلَغَ الْخَطِيبُ إلَى الدُّعَاءِ ، فَهَلْ يُسَوَّغُ الْكَلَامُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، الْجَوَازُ ، لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ ، وَشَرَعَ فِي غَيْرِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَزَلَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْخُطْبَةِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا ثَبَتَ لَهَا ، كَالتَّطْوِيلِ فِي الْمَوْعِظَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ دُعَاءً مَشْرُوعًا ، كَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلِلْإِمَامِ الْعَادِلِ ، أَنْصَتَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِنْصَاتُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ .

( 1332 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَاللَّغْوُ : الْإِثْمُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } وَلِأَنَّ الْعَبَثَ يَمْنَعُ الْخُشُوعَ وَالْفَهْمَ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، إنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْمَعُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَرَخَّصَ فِيهِ مُجَاهِدٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُ عَنْ السَّمَاعِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فِعْلٌ يَشْتَغِلُ بِهِ ، أَشْبَهَ مَسَّ الْحَصَى .
فَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ ، فَلَا يُكْرَهُ ، نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِعُ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ .

( 1333 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : لَا تَتَصَدَّقْ عَلَى السُّؤَالِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا لَا يَجُوزُ ، فَلَا يُعِينُهُمْ عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَإِنْ حَصَبَهُ كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى سَائِلًا يَسْأَلُ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَحَصَبَهُ وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ ، فَنَاوَلَهُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ؟ قَالَ : لَا يَأْخُذُ مِنْهُ قِيلَ : فَإِنْ سَأَلَ قَبْلَ خُطْبَةِ الْإِمَامِ ، ثُمَّ جَلَسَ ، فَأَعْطَانِي رَجُلٌ صَدَقَةً أُنَاوِلُهَا إيَّاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ ، هَذَا لَمْ يَسْأَلْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ .

( 1334 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِبَاءِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَعَطَاءٌ ، وَشُرَيْحٌ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ ، وَسَالِمٌ ، وَنَافِعٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا كَرِهَهُ إلَّا عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ ، لِأَنَّ سَهْلَ بْنَ مُعَاذٍ رَوَى ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، مَا رَوَى يَعْلَى بْنُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، قَالَ : شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَجَمَّعَ بِنَا ، فَنَظَرْتُ ، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُمْ مُحْتَبِينَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا ، فَصَارَ إجْمَاعًا وَالْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ لِأَجْلِ الْخَبَرِ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَهَيِّئًا لِلنَّوْمِ وَالْوُقُوعِ وَانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيُحْمَلُ النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَيُحْمَلُ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْخَبَرُ .

( 1335 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا عُقَلَاءُ ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِسَبْعَةِ شَرَائِطَ : إحْدَاهَا ، أَنْ تَكُونَ فِي قَرْيَةٍ .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ .
وَالثَّالِثُ ، الذُّكُورِيَّةُ .
وَالرَّابِعُ ، الْبُلُوغُ .
وَالْخَامِسُ ، الْعَقْلُ .
وَالسَّادِسُ ، الْإِسْلَامُ .
وَالسَّابِعُ ، الِاسْتِيطَانُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَأَمَّا الْقَرْيَةُ فَيُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِبِنَائِهَا بِهِ ، مِنْ حَجَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ ، فَأَمَّا أَهْلُ الْخِيَامِ وَبُيُوتِ الشَّعْرِ وَالْحَرَكَاتِ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْصَبُ لِلِاسْتِيطَانِ غَالِبًا ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ، فَلَمْ يُقِيمُوا جُمُعَةً ، وَلَا أَمَرَهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ ، وَلَمْ يُتْرَكْ نَقْلُهُ ، مَعَ كَثْرَتِهِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ ، لَكِنْ إنْ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا ، كَأَهْلِ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ إلَى جَانِبِ الْمِصْرِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَرْيَةِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةَ الْمَنَازِلِ تَفَرُّقًا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ ، إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهَا مَا يَسْكُنُهُ أَرْبَعُونَ ، فَتَجِبُ الْجُمُعَةُ بِهِمْ ، وَيَتْبَعُهُمْ الْبَاقُونَ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْبُنْيَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ ، وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ ، وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ الْمُتَقَارِبَةَ الْبُنْيَانِ قَرْيَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْقُرَى ، فَأَشْبَهَتْ الْمُتَّصِلَةَ ، وَمَتَى كَانَتْ الْقَرْيَةُ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْلِهَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَكَانُوا بِحَيْثُ

يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ مِنْ مِصْرٍ ، أَوْ مِنْ قَرْيَةٍ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ ، لَزِمَهُمْ السَّعْيُ إلَيْهَا ، لِعُمُومِ الْآيَةِ .
( 1336 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالذُّكُورِيَّةُ ، فَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهَا لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَقْلَ شَرْطَانِ لِلتَّكْلِيفِ وَصِحَّةِ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ ، وَالذُّكُورِيَّةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ يَجْتَمِعُ لَهَا الرِّجَالُ ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحُضُورِ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ ، وَلَكِنَّهَا تَصِحُّ مِنْهَا لِصِحَّةِ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا ، فَإِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَمَاعَةِ .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ ، فَهُوَ شَرْطٌ أَيْضًا لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَانْعِقَادِهَا ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، بِنَاءً عَلَى تَكْلِيفِهِ ، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ .
( 1337 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَصِحَّتِهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِخَمْسِينَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الرَّقَاشِيِّ ، حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى خَمْسِينَ رَجُلًا ، وَلَا تَجِبُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ } وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ

{ : قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : عَلَى كَمْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ مِنْ رَجُلٍ ؟ قَالَ : لَمَّا بَلَغَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ جَمَّعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَمْعِ ، فَانْعَقَدَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ كَالْأَرْبَعِينَ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَهَذِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الثَّلَاثَةُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، أَشْبَهَ الْأَرْبَعِينَ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ : تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، { أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْمَدِينَةِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ عِنْدَ الزَّوَالِ رَكْعَتَيْنِ ، وَأَنْ يَخْطُبَ فِيهِمَا فَجَمَّعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا } .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَدِمَتْ سُوَيْقَةٌ ، فَخَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، أَنَا فِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } .
إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَمَا يُشْتَرَطُ لِلِابْتِدَاءِ يُشْتَرَطُ لِلِاسْتِدَامَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، فِي هَزْمِ النَّبِيتِ ، مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ : نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ قُلْتُ لَهُ : كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَرَوَى خُصَيْفٌ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ

فَمَا فَوْقَهَا جُمُعَةً .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ .
وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ : مَضَتْ السُّنَّةُ .
يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَلَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَصَحُّ مِنْهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ .
وَالْخَبَرُ الْآخَرُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَادُوا فَحَضَرُوا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ .
فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ فَتَحَكُّمٌ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَاتِ بَابُهَا التَّوْقِيفُ ، فَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهَا ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ جَمْعًا ، وَلَا لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْجَمْعِ ، إذْ لَا نَصَّ فِي هَذَا وَلَا مَعْنَى نَصٍّ ، وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ كَافِيًا فِيهِ ، لَاكْتُفِيَ بِالِاثْنَيْنِ ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تَنْعَقِدُ بِهِمَا .
( 1338 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الِاسْتِيطَانُ ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي قَرْيَةٍ ، عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً ، وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَلَى مُقِيمٍ فِي قَرْيَةٍ يَظْعَنُ أَهْلُهَا عَنْهَا فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ ، أَوْ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَإِنْ خَرِبَتْ الْقَرْيَةُ أَوْ بَعْضُهَا ، وَأَهْلُهَا مُقِيمُونَ بِهَا ، عَازِمُونَ عَلَى إصْلَاحِهَا ، فَحُكْمُهَا بَاقٍ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِهَا .
وَإِنْ عَزَمُوا عَلَى النُّقْلَةِ عَنْهَا ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ ؛ لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، الْحُرِّيَّةُ .
وَنَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالثَّانِي ، إذْنُ الْإِمَامِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَالثَّانِيَةُ : هُوَ شَرْطٌ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُهَا إلَّا الْأَئِمَّةُ فِي كُلِّ

عَصْرٍ ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا .
وَلَنَا ، أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ، وَصَوَّبَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ ، فَرَوَى حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ ، فَقَالَ : إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَرَى ، وَأَنْتَ إمَامُ الْعَامَّةِ ، وَهُوَ يُصَلِّي بِنَا إمَامُ فِتْنَةٍ ، وَأَنَا أَتَحَرَّجُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَهُ .
فَقَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَالْأَثْرَمُ ، وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ تِسْعَ سِنِينَ ، فَكَانُوا يُجَمِّعُونَ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ رَأَى صَاحِبَ الْمَقْصُورَةِ فِي الْفِتْنَةِ حِينَ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ النَّاسَ ، يَقُولُ : مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ .
حَتَّى انْتَهَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَلِأَنَّهَا مِنْ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا إذْنُ الْإِمَامِ ، كَالظُّهْرِ ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ أَشْبَهَتْ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ إجْمَاعًا لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ الْجُمُعَاتِ فِي الْقُرَى مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا ذَلِكَ لَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ مَا وَقَعَ ، لَا عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِهِ ، كَالْحَجِّ يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ .
فَإِنْ قُلْنَا : هُوَ شَرْطٌ فَلَمْ يَأْذَنْ الْإِمَامُ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلُّوا جُمُعَةً وَصَلَّوْا ظُهْرًا .
وَإِنْ أَذِنَ فِي إقَامَتِهَا ثُمَّ مَاتَ ، بَطَلَ إذْنُهُ بِمَوْتِهِ ، فَإِنْ صَلَّوْا ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَهَلْ تُجْزِئُهُمْ صَلَاتُهُمْ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : أَصَحُّهُمَا ،

أَنَّهَا تُجْزِئُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْصَارِ النَّائِيَةِ عَنْ بَلَدِ الْإِمَامِ لَا يُعِيدُونَ مَا صَلَّوْا مِنْ الْجُمُعَاتِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ يَشُقُّ ؛ لِعُمُومِهِ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ إذْنُ الْإِمَامِ لِفِتْنَةٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِهِ صِحَّتُهَا بِغَيْرِ إذْنٍ ، عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا مَعَ إمْكَانِهِ ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِتَعَذُّرِهِ .

( 1340 ) فَصْلٌ : وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ الْمِصْرُ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَمَكْحُولٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ .
وَبِهِ قَالَ : الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ .
} وَلَنَا ، مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ : نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْتُ لِعَطَاءٍ : تَعْنِي إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ .
نَعَمْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : حَرَّةُ بَنِي بَيَاضَةَ قَرْيَةٌ عَلَى مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ لَجُمُعَةٌ جُمِّعَتْ بِجُوَاثَا مِنْ الْبَحْرَيْنِ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِالْبَحْرَيْنِ ، وَكَانَ عَامَلَهُ عَلَيْهَا فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : جَمِّعُوا حَيْثُ كُنْتُمْ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ قَالَ أَحْمَدُ : إسْنَادٌ جَيِّدٌ فَأَمَّا خَبَرُهُمْ فَلَمْ يَصِحَّ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ هَذَا بِحَدِيثٍ ، وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ ، عَنْ أَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ ، وَلَمْ يَلْقَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْأَعْمَشُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ ، إنَّمَا هُوَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ ( 1341 ) فَصْلٌ : وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إقَامَتُهَا فِي الْبُنْيَانِ ، وَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنْ الصَّحْرَاءِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ الْبُنْيَانِ ؛

لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْمِصْرِ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْبَعِيدَ .
وَلَنَا ، أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ جَمَّعَ بِالْأَنْصَارِ فِي هَزْمِ النَّبِيتِ فِي نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ ، وَالنَّقِيعُ : بَطْنٌ مِنْ الْأَرْضِ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ مُدَّةً ، فَإِذَا نَضَبَ الْمَاءُ نَبَتَ الْكَلَأُ .
وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِصَلَاةِ الْعِيدِ ، فَجَازَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ ، كَالْجَامِعِ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةُ عِيدٍ ، فَجَازَتْ فِي الْمُصَلَّى كَصَلَاةِ الْأَضْحَى ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ ، وَلَا نَصَّ فِي اشْتِرَاطِهِ ، وَلَا مَعْنَى نَصٍّ ، فَلَا يُشْتَرَطُ .

( 1342 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ صَلَّوْا أَعَادُوهَا ظُهْرًا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ ، فَهُوَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِهَا ، فَمَتَى صَلَّوْا جُمُعَةً مَعَ اخْتِلَالِ بَعْضِ شُرُوطِهَا ، لَمْ يَصِحَّ ، وَلَزِمَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا ، وَلَا يُعَدُّ فِي الْأَرْبَعِينَ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ اجْتِمَاعُ الشُّرُوطِ لِلصِّحَّةِ ، بَلْ تَصِحُّ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، تَبَعًا لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا كَوْنُهُ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِ ، فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْمَعُ النِّدَاءَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِصْرِ ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ .
( 1343 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الشُّرُوطِ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْعَدَدُ ، كَالْأَذَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْعَدَدُ ، كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَيُفَارِقُ الْأَذَانَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْإِعْلَامُ ، وَالْإِعْلَامُ لِلْغَائِبِينَ ، وَالْخُطْبَةُ مَقْصُودُهَا التَّذْكِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاضِرِينَ ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْخِطَابِ ، وَالْخِطَابُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاضِرِينَ فَعَلَى هَذَا إنْ انْفَضُّوا فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ ، ثُمَّ عَادُوا فَحَضَرُوا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، أَجْزَأَهُمْ ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُمْ ، إلَّا أَنْ يَحْضُرُوا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، ثُمَّ يَنْفَضُّوا وَيَعُودُوا قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ ، مِنْ غَيْرِ طُولِ الْفَصْلِ ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الْخُطْبَةِ ، إنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ ، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ لَهَا ، لِتَصِحَّ لَهُمْ الْجُمُعَةُ ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّوْا ظُهْرًا ، وَالْمَرْجِعُ فِي طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ إلَى الْعَادَةِ ( 1344 ) فَصْلٌ : وَيُعْتَبَرُ

اسْتِدَامَةُ الشُّرُوطِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ نَقَصَ الْعَدَدُ قَبْلَ كَمَالِهَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ فَقَدَ بَعْضَ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ فَقْدَ الطَّهَارَةِ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ إنْ انْفَضُّوا بَعْدَ رَكْعَةٍ ، أَنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ : هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى .
} وَلِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا رَكْعَةً ، فَصَحَّتْ لَهُمْ جُمُعَةً ، كَالْمَسْبُوقِينَ بِرَكْعَةٍ ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ يَخْتَصُّ الْجُمُعَةَ ، فَلَمْ يَفُتْ بِفَوَاتِهِ فِي رَكْعَةٍ ، كَمَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ انْفَضُّوا بَعْدَمَا صَلَّى رَكْعَةً بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكُوهَا بِسَجْدَتَيْهَا .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : إنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْفَضُّوا عَنْهُ ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَأَتَمَّهَا جُمُعَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ : إنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ ، أَتَمَّهَا جُمُعَةً وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ : إنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ أَتَمَّهَا جُمُعَةً ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا رَكْعَةً كَامِلَةً بِشُرُوطِ الْجُمُعَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْفَضَّ الْجَمِيعُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فِي الْأُولَى .
وَقَوْلُهُمْ : أَدْرَكَ مُعْظَمَ الرَّكْعَةِ ، يَبْطُلُ بِمَنْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْ الرَّكْعَةِ إلَّا السَّجْدَتَانِ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مُعْظَمَهَا .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : بَقِيَ مَعَهُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ قُلْنَا : لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ ، فَلَا

يَكْفِي فِي الدَّوَامِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا لَا يُتِمُّهَا جُمُعَةً ، فَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا تَبْطُلُ ، وَيَسْتَأْنِفُ ظُهْرًا ، إلَّا أَنْ يُمْكِنَهُمْ فِعْلُ الْجُمُعَةِ مَرَّةً أُخْرَى ، فَيُعِيدُونَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا أَعْلَمُ خِلَافًا عَنْ أَحْمَدَ ، إنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ، أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا ظُهْرًا وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَقَالَ : قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي الَّذِي زُحِمَ عَنْ أَفْعَالِ الْجُمُعَةِ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ ، يُتِمُّهَا ظُهْرًا ، وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ .

( 1345 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا يَحْتَاجُ إلَى جَوَامِعَ ، فَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي جَمِيعِهَا جَائِزَةٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْبَلَدَ مَتَى كَانَ كَبِيرًا ، يَشُقُّ عَلَى أَهْلِهِ الِاجْتِمَاعُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِهِ ، أَوْ ضِيقِ مَسْجِدِهِ عَنْ أَهْلِهِ ، كَبَغْدَادَ وَأَصْبَهَانَ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَمْصَارِ الْكِبَارِ ، جَازَتْ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي بَغْدَادَ دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ ، وَالْجُمُعَةُ حَيْثُ تُقَامُ الْحُدُودُ ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ : إنَّهُ لَوْ وُجِدَ بَلَدٌ آخَرُ تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي مَوْضِعَيْنِ ، جَازَتْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ حَيْثُ تُقَامُ الْحُدُودُ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُجَمِّعُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، } وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ، وَلَوْ جَازَ لَمْ يُعَطِّلُوا الْمَسَاجِدَ ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا تُقَامُ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ ، الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْإِمَامُ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ وَالْخُطْبَةُ ، فَجَازَتْ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ ، كَصَلَاةِ الْعِيدِ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْعِيدِ إلَى الْمُصَلَّى ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ ، فَيُصَلِّي بِهِمْ .
فَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقَامَةَ جُمُعَتَيْنِ ، فَلِغِنَاهُمْ عَنْ إحْدَاهُمَا ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يَرَوْنَ سَمَاعَ خُطْبَتِهِ ، وَشُهُودَ جُمُعَتِهِ ، وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ ، لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَشَارِعُ الْأَحْكَامِ ، وَلَمَّا

دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ صُلِّيَتْ فِي أَمَاكِنَ ، وَلَمْ يُنْكَرْ ، فَصَارَ إجْمَاعًا .
وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، يَعْنِي أَنَّهَا لَا تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ الصِّغَارِ وَيُتْرَكُ الْكَبِيرُ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ ، فَلَا وَجْهَ لَهُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ : أَيُّ حَدٍّ كَانَ يُقَامُ بِالْمَدِينَةِ ، قَدِمَهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُمْ مُخْتَبِئُونَ فِي دَارٍ ، فَجَمَّعَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ .
( 1346 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ، وَإِنْ حَصَلَ الْغِنَى بِاثْنَتَيْنِ لَمْ تَجُزْ الثَّالِثَةُ ، وَكَذَلِكَ مَا زَادَ ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا ، إلَّا أَنَّ عَطَاءً قِيلَ لَهُ : إنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لَا يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ الْأَكْبَرُ .
قَالَ : لِكُلِّ قَوْمٍ مَسْجِدٌ يُجَمِّعُونَ فِيهِ ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ مِنْ التَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ .
وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ أَنَّهُمْ جَمَّعُوا أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ ، إذْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِالتَّحَكُّمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، فَإِنْ صَلَّوْا جُمُعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَإِحْدَاهُمَا جُمُعَةُ الْإِمَامِ ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ ، وَالْأُخْرَى بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ جُمُعَةِ الْإِمَامِ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ ، وَتَفْوِيتًا لَهُ الْجُمُعَةَ وَلِمَنْ يُصَلِّي مَعَهُ ، وَيُفْضِي إلَى أَنَّهُ مَتَى شَاءَ أَرْبَعُونَ أَنْ يُفْسِدُوا صَلَاةَ أَهْلِ الْبَلَدِ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ ، بِأَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَوْضِعٍ ، وَيَسْبِقُوا أَهْلَ الْبَلَدِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ : السَّابِقَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ ، لِأَنَّهَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا مَا يُفْسِدُهَا ، وَلَا تَفْسُدُ بَعْدَ صِحَّتِهَا بِمَا بَعْدَهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَالْأُخْرَى فِي مَكَان صَغِيرٍ لَا يَسَعُ الْمُصَلِّينً

، أَوْ لَا يُمْكِنُهُمْ الصَّلَاةُ فِيهِ ؛ لِاخْتِصَاصِ السُّلْطَانِ وَجُنْدِهِ بِهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي قَصَبَةِ الْبَلَدِ ، وَالْآخَرُ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ ، كَانَ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْمَعَانِي صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ دُونَ الْأُخْرَى .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا أَرَى الْجُمُعَةَ إلَّا لِأَهْلِ الْقَصَبَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِهَذِهِ الْمَعَانِي مَزِيَّةً تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ ، فَقُدِّمَ بِهَا ، كَجُمُعَةِ الْإِمَامِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَصِحَّ السَّابِقَةُ مِنْهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ آكَدُ ، وَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ ، لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا مَأْذُونًا فِيهِمَا ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَتَسَاوَى الْمَكَانَانِ فِي إمْكَانِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَالسَّابِقَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِشُرُوطِهَا ، وَلَمْ يُزَاحِمْهَا مَا يُبْطِلُهَا ، وَلَا سَبَقَهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا ، وَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي مِصْرٍ أُقِيمَتْ فِيهِ جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ ، تُغْنِي عَمَّا سِوَاهَا وَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ بِالْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَحْرَمَ بِإِحْدَاهُمَا حَرُمَ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِهَا ؛ لِلْغِنَى عَنْهَا ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِحْرَامُ بِهِمَا مَعًا فَهُمَا بَاطِلَتَانِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صِحَّتُهُمَا مَعًا ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِالْفَسَادِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، فَبَطَلَتَا كَالْمُتَزَوِّجِ أُخْتَيْنِ ، أَوْ إذَا زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ رَجُلَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ تُعْلَم الْأَوْلَى مِنْهُمَا ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ كَيْفِيَّةُ وُقُوعِهِمَا ، بَطَلَتَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا بَاطِلَةٌ ، وَلَمْ تُعْلَمْ بِعَيْنِهَا ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِالْإِبْطَالِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، فَبَطَلَتَا كَالْمَسْأَلَتَيْنِ .
ثُمَّ إنْ عَلِمْنَا فَسَادَ الْجُمُعَتَيْنِ لِوُقُوعِهِمَا مَعًا ، وَجَبَ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، لِبَقَاءِ الْوَقْتِ ، لِأَنَّهُ مِصْرٌ مَا أُقِيمَتْ فِيهِ جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ

، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ لِإِقَامَتِهَا فَلَزِمَتْهُمْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُصَلُّوا شَيْئًا .
وَإِنْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا إلَّا ظُهْرًا ، لِأَنَّهُ مِصْرٌ تَيَقَّنَّا سُقُوطَ فَرْضِ الْجُمُعَةِ فِيهِ بِالْأَوْلَى مِنْهُمَا ، فَلَمْ تَجُزْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ عَلِمْنَاهَا وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمْ إقَامَةَ جُمُعَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِفَسَادِهِمَا مَعًا ، فَكَأَنَّ الْمِصْرَ مَا صُلِّيَتْ فِيهِ جُمُعَةٌ صَحِيحَةٌ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَةَ لَمْ تَفْسُدْ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ حُكْمِ الصِّحَّةِ لَهَا بِعَيْنِهَا ؛ لِجَهْلِهَا ، فَيَصِيرُ هَذَا كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ ، وَجَهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الصِّحَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، وَثَبَتَ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، بِحَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ فَأَمَّا إنْ جَهِلْنَا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِمَا ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ أَيْضًا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ إحْدَاهُمَا ، لِأَنَّ وُقُوعَهُمَا مَعًا - بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُ إحْرَامُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى - بَعِيدٌ جِدًّا ، وَمَا كَانَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ ، وَلِأَنَّنَا شَكَكْنَا فِي شَرْطِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ إقَامَتُهَا مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمْ إقَامَتَهَا ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّتِهَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ( 1347 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ فَتَبَيَّنَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ أُقِيمَتْ فِي الْمِصْرِ ، بَطَلَتْ الْجُمُعَةُ ، وَلَزِمَهُمْ اسْتِئْنَافُ الظُّهْرِ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْجُمُعَةِ ، فَلَا تَصِحُّ ، فَأَشْبَهَ ، مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ ظُهْرًا ، وَهَذَا مِنْ

قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ إتْمَامَهَا ظُهْرًا قِيَاسًا عَلَى الْمَسْبُوقِ الَّذِي أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ ، وَكَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْجُمُعَةِ فَانْفَضَّ الْعَدَدُ قَبْلَ إتْمَامِهَا .
وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَحْرَمَ بِهَا فِي وَقْتٍ لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِهَا ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ هَذَا .
( 1348 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ إلَى جَانِبِ مِصْرٍ ، يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ مِنْهُ ، فَأَقَامُوا جُمُعَةً فِيهَا ، لَمْ تَبْطُلْ جُمُعَةُ أَهْلِ الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ ، وَلِأَنَّ لِجُمُعَةِ الْمِصْرِ مَزِيَّةً بِكَوْنِهَا فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ مِصْرَانِ مُتَقَارِبَانِ ، يَسْمَعُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ نِدَاءَ الْمِصْرِ الْآخَرِ ، كَأَهْلِ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ ، لَمْ تَبْطُلْ جُمُعَةُ أَحَدِهِمَا بِجُمُعَةِ الْآخَرِ .
وَكَذَلِكَ الْقَرْيَتَانِ الْمُتَقَارِبَتَانِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْهُمْ حُكْمَ أَنْفُسِهِمْ ، بِدَلِيلِ أَنَّ جُمُعَةَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لَا يَتِمُّ عَدَدُهَا بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ ، وَلَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ بِكَمَالِ الْعِدَّةِ بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ السَّعْيُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جُمُعَةٌ ، فَهُمْ كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ .

( 1349 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ ، وَلَا عَبْدٍ ، وَلَا امْرَأَةٍ ) وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي الْعَبْدِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، أَنَّ الْجُمُعَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَيْسَتْ عَلَيْهِ بِوَاجِبَةٍ .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا جُمُعَةَ عَلَيْهَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ .
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحُضُورِ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ ، وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ .
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ .
قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالثَّوْرِيُّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَجِبُ عَلَيْهِ ، فَالْجُمُعَةُ أَوْلَى وَلَنَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَافِرُ فَلَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فِي سَفَرِهِ وَكَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُصَلِّ جُمُعَةً ، } وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ ، فَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْجُمُعَةَ فِي سَفَرِهِ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ : كَانُوا يُقِيمُونَ بِالرَّيِّ السَّنَةَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِسِجِسْتَانَ السِّنِينَ .
لَا يُجَمِّعُونَ وَلَا يُشَرِّقُونَ وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : أَقَمْتُ مَعَهُ سَنَتَيْنِ بِكَابُلَ ، يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُجَمِّعُ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
وَأَقَامَ أَنَسٌ بِنَيْسَابُورَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ ، فَكَانَ لَا يُجَمِّعُ ، ذَكَرَهُ

ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَهَذَا إجْمَاعٌ مَعَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِيهِ ، فَلَا يُسَوَّغُ مُخَالَفَتُهُ .
( 1350 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ .
وَالثَّانِيَةُ ، تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَذْهَبُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ .
نَقَلَهَا الْمَرُّوذِيُّ ، وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ ، وَبِذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ ، إلَّا أَنَّ لَهُ تَرْكَهَا إذَا مَنَعَهُ السَّيِّدُ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَالْجُمُعَةُ آكَدُ مِنْهَا ، فَتَكُونُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي يُؤَدِّي الضَّرِيبَةَ ، لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ قَدْ تَحَوَّلَ إلَى الْمَالِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، إلَّا أَرْبَعَةً : عَبْدٌ مَمْلُوكٌ ، أَوْ امْرَأَةٌ ، أَوْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَرِيضٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : طَارِقٌ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إلَّا مَرِيضًا ، أَوْ مُسَافِرًا ، أَوْ امْرَأَةً ، أَوْ صَبِيًّا ، أَوْ مَمْلُوكًا } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى خَمْسَةٍ : امْرَأَةٍ ، أَوْ صَبِيٍّ ، أَوْ مَرِيضٍ ، أَوْ مُسَافِرٍ ، أَوْ عَبْدٍ } .
رَوَاهُ رَجَاءُ بْنُ مُرَجًّى الْغِفَارِيُّ ، فِي " سُنَنِهِ " وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ يَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهَا مِنْ مَكَان بَعِيدٍ ، فَلَمْ تَجِبْ

عَلَيْهِ ، كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكُ الْمَنْفَعَةِ ، مَحْبُوسٌ عَلَى السَّيِّدِ أَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ بِالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَجَازَ لَهُ الْمُضِيُّ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهَا ، كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ ، وَهَذَا مِنْهُمْ .
( 1351 ) فَصْلٌ : وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ حُكْمُهُمَا فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْقِنِّ ، لِبَقَاءِ الرِّقِّ فِيهِمَا .
وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ ، فَإِنَّ حَقَّ سَيِّدِهِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ .
( 1352 ) فَصْلٌ : إذَا أَجْمَعَ الْمُسَافِرُ إقَامَةً تَمْنَعُ الْقَصْرَ ، وَلَمْ يُرِدْ اسْتِيطَانَ الْبَلَدِ كَطَلَبِ الْعِلْمِ ، أَوْ الرِّبَاطِ ، أَوْ التَّاجِرِ الَّذِي يُقِيمُ لِبَيْعِ مَتَاعِهِ ، أَوْ مُشْتَرِي شَيْءٍ لَا يُنْجَزُ إلَّا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَهَا إلَّا عَلَى الْخَمْسَةِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُمْ .
وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَوْطِنٍ ، وَالِاسْتِيطَانُ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي هَذَا الْبَلَدِ عَلَى الدَّوَامِ ، فَأَشْبَهَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَهَا صَيْفًا وَيَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ لَا يُجَمِّعُونَ وَلَا يُشَرِّقُونَ ، أَيْ لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا عِيدًا .
فَإِنْ قُلْنَا : تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِهِ ، لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ شَرْطِ الِانْعِقَادِ .
( 1353 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ فِي طَرِيقِهِ إلَيْهَا مَطَرٌ يَبُلُّ الثِّيَابَ ، أَوْ وَحَلٌ يَشُقُّ الْمَشْيُ إلَيْهَا فِيهِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ الْمَطَرَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا .

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ أَمَرَ مُؤَذِّنَهُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إذَا قُلْتَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قُلْ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَقَالَ : فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ .
فَقَالَ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا ؟ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ إلَيْهَا فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّهُ عُذْرٌ فِي الْجَمَاعَةِ ، فَكَانَ عُذْرًا فِي الْجُمُعَةِ ، كَالْمَرَضِ ، وَتَسْقُطُ الْجُمُعَةُ بِكُلِّ عُذْرٍ يُسْقِطُ الْجَمَاعَةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَعْذَارَ فِي آخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الْمَطَرَ هَاهُنَا لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ .
( 1354 ) فَصْلٌ : تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْأَعْمَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ .
وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ ، وَالْأَخْبَارِ ، وَقَوْلُهُ : { الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ } وَمَا ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ .
( 1355 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْهُمْ ) يَعْنِي تُجْزِئُهُمْ الْجُمُعَةُ عَنْ الظُّهْرِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُنَّ إذَا حَضَرْنَ فَصَلَّيْنَ الْجُمُعَةَ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُنَّ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْجُمُعَةِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُنَّ ، فَإِذَا تَحَمَّلُوا الْمَشَقَّةَ وَصَلَّوْا ، أَجْزَأَهُمْ ، كَالْمَرِيضِ .
( 1356 ) فَصْلٌ : وَالْأَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ ، ؛ لِأَنَّهَا أَكْمَلُ .
فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي حُضُورِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِيَنَالَ فَضْلَ الْجُمُعَةِ وَثَوَابَهَا ، وَيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ .
وَإِنْ مَنَعَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُضُورُهَا ، إلَّا أَنْ نَقُولَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ كَانَتْ مُسِنَّةً فَلَا بَأْسَ بِحُضُورِهَا وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً ، جَازَ حُضُورُهَا ،

وَصَلَاتُهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا خَيْرٌ لَهُمَا ، كَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ : { وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } .
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ : رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يُخْرِجُ النِّسَاءَ مِنْ الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، يَقُولُ : اُخْرُجْنَ إلَى بُيُوتِكُنَّ خَيْرٌ لَكُنَّ .
( 1357 ) فَصْلٌ : وَلَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ إمَامًا فِيهَا ، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُسَافِرِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ رِجَالٌ تَصِحُّ مِنْهُمْ الْجُمُعَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ بِهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمُّوا فِيهَا ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ تَبَعًا لِمَنْ انْعَقَدَتْ بِهِ ، فَلَوْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ أَوْ كَانُوا أَئِمَّةً فِيهَا صَارَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ الْحُرُّ الْمُقِيمُ ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَوْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ لَانْعَقَدَتْ بِهِمْ مُنْفَرِدِينَ ، كَالْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقِضٌ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .
( 1358 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرِيضُ ، وَمَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ مِنْ الْمَطَرِ وَالْخَوْفِ ، فَإِذَا تَكَلَّفَ حُضُورَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِيهَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهَا عَنْهُمْ إنَّمَا كَانَ لِمَشَقَّةِ السَّعْيِ ، فَإِذَا تَكَلَّفُوا وَحَصَلُوا فِي الْجَامِعِ ، زَالَتْ الْمَشَقَّةُ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ ، كَغَيْرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ .

مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَعَادَهَا بَعْدَ صَلَاتِهِ ظُهْرًا ) يَعْنِي مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ ، لَمْ يَصِحَّ ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ إنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا ؛ لِأَنَّهَا الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَدْرَكَهَا مَعَهُ صَلَّاهَا ، وَإِنْ فَاتَتْهُ فَعَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهَا انْتَظَرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ صَلَّى ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : تَصِحُّ ظُهْرُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الْوَقْتِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَإِنَّمَا الْجُمُعَةُ بَدَلٌ عَنْهَا ، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا ، وَلِهَذَا إذَا تَعَذَّرَتْ الْجُمُعَةُ صَلَّى ظُهْرًا ، فَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فَقَدْ أَتَى بِالْأَصْلِ ، فَأَجْزَأَهُ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ سَعَى بَطَلَتْ ظُهْرُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ ، أَجْزَأَتْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ صَلَّى مَا لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ ، وَتَرَكَ مَا خُوطِبَ بِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْعَصْرَ مَكَانَ الظُّهْرِ ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْجُمُعَةِ ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الظُّهْرُ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعِيدًا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ السَّعْيِ إلَيْهَا ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَاطَبَ بِالظُّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ فِي الْوَقْتِ بِصَلَاتَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ ، وَلَا يَأْثَمُ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الظُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْوَاجِبُ مَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ دُونَ مَا لَمْ يَأْثَمْ بِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الْأَصْلَ

لَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا ، وَأَثِمَ بِتَرْكِهَا ، وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَعَ إمْكَانِهَا ، فَإِنَّ الْبَدَلَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَبْدَالِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا ، وَلِأَنَّ الظُّهْرَ لَوْ صَحَّتْ لَمْ تَبْطُلْ بِالسَّعْيِ إلَى غَيْرِهَا ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الصَّحِيحَةِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا صَحَّتْ بَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْهَا ، وَأَسْقَطَتْ الْفَرْضَ عَمَّنْ صَلَّاهَا ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِغَالُهَا بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا فُرِغَ مِنْهَا لَمْ تَبْطُلْ بِشَيْءٍ مِنْ مُبْطِلَاتِهَا ، فَكَيْفَ تَبْطُلُ بِمَا لَيْسَ مِنْ مُبْطِلَاتِهَا ، وَلَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى الظُّهْرِ ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطِهَا ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَضَائِهَا ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَى الظُّهْرِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، وَهَذَا حَالُ الْبَدَلِ ( 1360 ) فَصْلٌ : فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرِ ، ثُمَّ شَكَّ : هَلْ صَلَّى قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهَا ؟ لَزِمَهُ إعَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الصَّلَاةِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهَا إلَّا بِيَقِينٍ ، وَلِأَنَّهُ ، صَلَّاهَا مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهَا ، فَلَمْ تَصِحَّ ، كَمَا لَوْ صَلَّاهَا مَعَ الشَّكِّ فِي طَهَارَتِهَا .
وَإِنْ صَلَّاهَا مَعَ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّاهَا قَبْلَهُ فِي وَقْتٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهَا .
( 1361 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ ، كَالْمُسَافِرِ ، وَالْعَبْدِ ، وَالْمَرْأَةِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَسَائِرِ الْمَعْذُورِينَ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بَقَاءَ الْعُذْرِ ، فَلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يُخَاطَبْ بِالْجُمُعَةِ ، فَصَحَّتْ

مِنْهُ الظُّهْرُ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ .
وَقَوْلُهُ : لَا يَتَيَقَّنُ بَقَاءُ الْعُذْرِ .
قُلْنَا : أَمَّا الْمَرْأَةُ فَمَعْلُومٌ بَقَاءُ عُذْرِهَا ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَالظَّاهِرُ بَقَاءُ عُذْرِهِ ، وَالْأَصْلُ اسْتِمْرَارُهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُتَيَمِّمَ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَالْمَرِيضَ إذَا صَلَّى جَالِسًا ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ صَلَّاهَا ، ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ ، لَمْ تَبْطُلْ ظُهْرُهُ ، وَكَانَتْ الْجُمُعَةُ نَفْلًا فِي حَقِّهِ ، سَوَاءٌ زَالَ عُذْرُهُ أَوْ لَمْ يَزُلْ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّامِتِ ، فَقُلْتُ : نُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ أُمَرَاءَ فَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ : سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : { صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً .
} وَفِي لَفْظٍ : { فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ } .
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ أَسْقَطَتْ فَرْضَهُ ، وَأَبْرَأَتْ ذِمَّتَهُ ، فَأَشْبَهَتْ مَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا ، ثُمَّ سَعَى إلَى الْجَمَاعَةِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُصَلُّوا إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ؛ لِيَخْرُجُوا مِنْ الْخِلَافِ ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ ، فَيُدْرِكُونَ الْجُمُعَةَ .
( 1362 ) فَصْلٌ : وَلَا يُكْرَهُ لِمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا ، أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ فِي جَمَاعَةٍ إذَا أَمِنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ ، وَالرَّغْبَةِ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَهُ ، أَوْ أَنَّهُ يَرَى الْإِعَادَةَ إذَا صَلَّى مَعَهُ .
فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو ذَرٍّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَعْمَشِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ ، وَأَبُو قِلَابَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ،

لِأَنَّ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْلُ مِنْ مَعْذُورِينَ ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا جَمَاعَةً .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ ، فَصَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ ، وَفَعَلَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَمُطَرِّفٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَا أَعْجَبَ النَّاسَ يُنْكِرُونَ هَذَا ، فَأَمَّا زَمَنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مَعْذُورُونَ يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إعَادَتُهَا جَمَاعَةً فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي مَسْجِدٍ تُكْرَهُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ .
وَتُكْرَهُ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُقِيمَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى النِّسْبَةِ إلَى الرَّغْبَةِ عَنْ الْجُمُعَةِ ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ ، أَوْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُ فِيهِ ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى فِتْنَةٍ ، أَوْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ بِهِ وَبِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يُصَلِّيهَا فِي مَنْزِلِهِ ، أَوْ مَوْضِعٍ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ بِصَلَاتِهَا فِيهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71