كتاب : الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف : علي بن أحمد بن حزم الأندلسي

فقالوا نعم فنهاه عن ذلك
قال أبو محمد فأول هذا إن هذا خبر لا يصح لأن زيدا أبا عياش مجهول فارتفع الكلام فيه وأيضا فلو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن جميع أصحاب القياس أولهم عن آخرهم لا يرون هذا قياسا ولا يمنعون من البيضاء بالسلت فمحال أن يحتج قوم بما لا يقولون به
وأيضا فإن هذا ليس قياسا عند القائلين به لأنه تنظير للأفضل بما ينقص إذا يبس وهذا ليس شبها البتة عند من يقول بالقياس فسقط تعلقهم بهذا الأثر والحمد لله رب العالمين
وأما أخاف أن يضارع فحدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم حدثني أبو الطاهر أخبرني ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فلما جاء معمرا أخبره بذلك
فقال له معمر لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذ إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير فقيل إنه ليس بمثله قال إني أخاف أن يضارع
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أصلا وإنما هو تورع من معمر بن عبد الله لا إيجاب ولا أنه قطع بذلك
وبيان ذلك إخبار معمر بأنه يخاف أن يضارع ولم يقطع بأنه يضارع وأيضا فإن الحنفيين والشافعيين لا يقولون بهذا وهم يجيزون القمح بالشعير متفاضلا فلا وجه لاحتجاج المرء بما لا يراه صحيحا ولا ممن يخطىء ويصيب ممن لا يلزم اتباعه
ولعل من جهل يظن أن احتجاجنا بمن دون النبي صلى الله عليه و سلم هو أننا نرى من دونه صلى الله عليه و سلم حجة لازمة فليعلم من ظن ذلك أن ظنه كذب وأننا لا نورد قولا عمن دون النبي صلى الله عليه و سلم إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما إما خوف جاهل يدعي علينا خلاف الإجماع فنريه كذبه وفساد ظنونه وأنه لا إجماع فيما ظن فيه إجماعا وإما لنرى من يحتج بمن دون النبي صلى الله عليه و سلم أن الذي يحتج به مخالف له فنوقفه علي تناقضا في أنه يخالف من يراه حجة

حاشا موضعا واحدا وهو حكم الحكمين بجزاء الصيد فإننا نورده احتجاجا به لقول الله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام } فألزمنا الله عز و جل قبول العدلين ههنا فنحن نورد قول العدلين من السلف رضي الله عنهم احتجاجا بقولهما لأن الله تعالى أوجب ذلك
وأما حديث أيما أولى فحدثناهابن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الأعلى أنا داود عن أبي نضر قال سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم ير بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري إذ جاءه رجل فسأله عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا
فأنكرت ذلك لقولهما
فقال لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر جنيب وكان تمر النبي صلى الله عليه و سلم غير هذا اللون فقال النبي صلى الله عليه و سلم أنى لك هذا قال انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويلك أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرا بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت قال أبو سعيد فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أما الفضة بالفضة
قال أبو محمد وهذا ليس قياسا لأن النهي عن التفاضل في الفضة بالفضة عند أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم كما روينا وبالسند المذكور إلى مسلم حدثنا محمد بن رمح ثنا الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر قال ذهب ابن عمر وأنا معه حتى دخل على أبي سعيد الخدري فذكر سؤال ابن عمر لأبي سعيد عن الصرف فقال أبو سعيد وأشار بأصبعه إلى عينيه وأذنيه فقال أبصرت عيناني وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تفشوا بعضه على بعض وذكر الحديث
وبه إلى مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا إسماعيل بن مسلم العبدي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء

قال أبو محمد فمن المحال البين أن يكون نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل عند أبي سعيد سماعا من لفظ النبي صلى الله عليه و سلم ويعول في تحريمه على القياس
فصح أن هذا الأثر لا مدخل للقياس فيه أصلا لأن القياس عند القائلين به إنما هو حكم في شيء ولا نص فيه على نحو الحكم في نظيره مما جاء فيه النص والنص عند أبي سعيد مسموع في الفضة بالفضة كما هو في التمر بالتمر فبطل ضرورة إقرار أصحاب القياس أن يكون أحد الأمرين عنده قياسا على الآخر
فإن قيل فما وجه قول أبي سعيد إذن هو القول فنقول وبالله تعالى التوفيق إننا لا نشك أن أبا نضرة مسخ لفظ أبي سعيد وحذف منه ما لا يقوم المعنى إلا به
كما فعل في صدر هذا الحديث نفسه من قوله سألت ابن عباس وابن عمر عن الصرف فلم يريا به بأسا وهذا كلام مطموس لأن الصرف لا بأس به عند كل أحد من الأمة إذا كان على ما جاء به النص من التماثل والتعاقد في الفضة بالفضة وفي الذهب بالذهب ومن التفاضل والتناقد في الذهب بالفضة فطمس أبو نضرة كل هذا
وكذلك فعل بلا شك في كلام أبي سعيد ولا يجوز غير هذا أصلا إذ من الباطل أن يروي من هو أوثق من أبي نضرة عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يوجب أن التفاضل في الفضة بالفضة ربا ثم لا يعول أبو سعيد في تحريم ذلك إلا على تحريم التمر بالتمر متفاضلا هذا ما لا يدخل في عقل أحد
وجميع أصحاب القياس لا يجوزون هذا القياس ولا يدخلون الصفر بالصفر قياسا على الربا في التمر بالتمر فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى نعتصم
وأما سكر هذى فحدثناه حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة أن عمر بن الخطاب شاور الناس في حد الخمر وقال إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها فقال له علي إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجعله حد الفرية فجعله عمر حد الفرية ثمانين
وحدثناه أيضا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى ثنا أبي ثنا مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب

استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن نجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين
حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا ابن أبي خالد عن عامر الشعبي قال استشارهم عمر في الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف هذا رجل افترى على القرآن رأى أن تجلده ثمانين
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد نا عبد الله بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شربوا الخمر بالشام وإن يزيد بن أبي سفيان كتب فيهم إلى عمر فذكر الحديث وفيه إنهم احتجوا على عمر بقول الله تعالى { ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين }
فشاور فيهم الناس فقال لعلي ماذا ترى فقال أرى قد شرعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله تعالى فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم فإنهم قد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله الكذب وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض
حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ثنا سعيد بن عفير ثنا يحيى بن فليح بن سليمان المدني عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر فجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد فقال لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وفي أي كتاب الله

تجد ألا أجلدك قال له إن الله تعالى يقول في كتابه { ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين } فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد
فقال عمر ألا تردون عليه ما يقول فقال ابن عباس إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن يحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله تعالى يقول { يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون } ثم قرأ الأخرى فإن كان من الذين { ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين } فإن الله نهاه أن يشرب الخمر
فقال عمر صدقت فما ترون فقالعلي إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر به عمر فجلد ثمانين
قال محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي وحدثنا سعيد بن أبي مريم أنا يحيى بن فليح بن سليمان حدثني ثور بن زيد الديلمي عن عكرمة عن ابن عباس فذكر هذا الحديث وفي آخر ثم سأل من عنده عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين فجلده عمر ثمانين
حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا يوسف بن سليمان نا حاتم بن إسماعيل نا أسامة بن زيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتي بسكران فأمر من كان في أيديهم وحثا رسول الله صلى الله عليه و سلم التراب عليه ثم إن أبا بكر أتي بسكران فتوخى الذي كان يومئذ من ضربهم فضرب أربعين ثم ضرب عمر أربعين
قال ابن شهاب ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الكلبي قال بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف

متكئون معه في المسجد فقلت له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انتهكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى فقال عمر هم هؤلاء عندك قال فقال علي أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فأجمعوا على ذلك
فقال عمر بلغ صاحبك ما قالوا فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين
قال وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب ضربه ثمانين وإذا أتي بالرجل الذي كان منه زلة الضعيف ضربه أربعين وفعل ذلك عثمان أربعين وثمانين
قال أبو محمد فهذا كل ما ورد في ذلك قد تقصيناه وكله ساقط لا حجة فيه مضطرب ينقض بعضه بعضا
أما الآثار التي صدرنا بها من طريق الثقات أيوب ومالك والشعبي ومحارب بن دثار فمرسلات كلها لا يدري عمن هي في أصلها فسقط الاحتجاج بها
وأما المتصلان فمن طريق يحيى بن فليح بن سليمان وهو مجهول البتة والحجة لا تقوم بمجهول وأبو فليج متكلم فيه مضعف والثاني عن أسامة بن زيد وهو ضعيف بالجملة فسقط كل ما في هذا الباب مع أنه لو صح هذان الأثران المتصلان لكان حجة عليهم قاطعة لأن في رواية يحيى بن فليح أن أبا بكر فرض الحد في الخمر أربعين فلو جاز لعمر أن يزيد على ما فرض أبو بكر لمن بعد عمر أن يزيد ويحيل الحد الذي فرض عمر أو يسقط منه ولا فرق فإن لم يكن فرض أبي بكر بحضرة جميع الصحابة حجة وعمر وغيره بالحضرة وفي أقل من هذا يزعمون أنه إجماع ففرض عمر وقد مات كثير من الصحابة قبل ذلك الفرض أحرى ألا يكون حجة وهذا على أقوالهم إجازة لمخالفة
وفي هذا ما فيه وأن من يرى ما في هذا الخبر من فعل أبي بكر بحضرة الصحابة إجماعا ثم يرى رسالة مكذوبة من عمر إلى الأشعري إجماع لمنحرف عن الحق
وأما الذي من طريق أسامة بن زيد ففيه بيان جلي على أن عمر لم يجعل ذلك فرضا واجبا وأنه إنما كان منه تعزيرا وذلك أنه ذكر فيه إذا أتي بالمنهمك في الشراب جلده ثمانين جلدة وإذا أتي بالذي كانت منه في ذلك زلة الضعيف جلده أربعين وأن عثمان أيضا جلد أربعين وثمانين فباليقين يعلم كل ذي عقل أنه لو كانت الثمانون فرضا لما جاز أن يحال في بعض الأوقات فسقط احتجاجهم بالجملة وعاد عليهم مسقطا لقولهم

فكيف ولا يصح من ذلك كله شيء
وقد نزه الله عز و جل عليا رضي الله عنه عن هذا الكلام الساقط الغث ثم سأل عمر عن من عنده عن الحد فيهما فقال علي بن أبي طالب الذي ليس وراءه مرمى في السقوط والهجنة لوجوه أحدها أنه لا يحل لمسلم أن يظن أن عمر وعليا يضعان شريعة في الإسلام لم يأت بها النبي صلى الله عليه و سلم ولكانا في ذلك كالذين أنكرا عليهم في الحديث نفسه أنهم شرعوا ما لم يأذن به الله تعالى فمن المحال أن ينكر على علي من شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ويشرع هو في الحين نفسه شريعة لم يأذن بها الله تعالى وهذا ما لا يظنه بعلي ذو عقل ودين ولا فرق بين وضع حد في الخمر وبين إسقاط حد الزنى أو الزيادة فيه أو إسقاط ركعة من الظهر أو زيادة فيها أو فرض صلاة غير الصلوات المعهودة أو وضع حد مفترض في أكل الربا وكل هذا كفر ممن أجازه
ثم المشهور عن علي رضي الله عنه بالسند الصحيح أنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين في أيام عثمان رضي الله عنه فبطل يقينا أن يكون يرى الحد ثمانين ويجلد هو أربعين فقط وهذا الحديث يكذب كل ما عن علي بخلافه
وأيضا فليس كل من يشرب الخمر يسكر وشارب الجرعة لا يسكر والحد عليه ولا كل من يسكر يهذي ففي الناس كثير يغلب عليهم السكون حينئذ نعم وذكر الله تعالى الآخرة والبكاء والدعاء والتأدب الزائد ولا كل من يهذي يفتري فالمبرسم يهذي ولا يفتري ولا كل من يفتري يلزمه الحد فقد يفتري المجنون والنائم فلا يحدان فوضح أن هذا الكلام المنسوب إلى علي وقد نزهه الله تعالى عنه من الكذب في منزله ينزه عنها كل ذي عقل فكيف مثله رحمة الله عليه
وأيضا فإن كان يجلد لفرية لم يفترها بعد فهذا ظلم بإجماع الأمة ولا خلاف بين اثنين أنه لا يحل لأحد أن يؤاخذ مسلما أو ذميا بما لم يفعل ولا أن يقدم إليه عقوبة معجلة لذنب لم يفعله عسى أن يفعله أو عسى ألا يفعله وإنما عندنا هذا من فعل ظلمة الملوك ذوي الأعياث المشتهرين بأتباعهم من السخفاء المتطايبين بمثل هذا وشبه من السخف ومثل هذا الجنون لا يضيفه إلى عمر وعلي إلا جاهل بهما وبمحلهما من الفضل والعلم رضي الله عنهما
وعهدنا بهؤلاء القوم يقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات فصاروا ههنا يقيمون الحدود

وينسبون إلى عمر وعلى إقامتها بأضعف الشبهات لأن لا شبهة أحمق من شبهة من يقيم حد القذف على شارب الخمر
خوف أن يفتري وهو لم يفتر بعد
وأيضا فإن كان حد الشارب إنما هو للفرية فأين حد الخمر وإن كان للخمر فأين حد الفرية ولا يحل سقوط حد لإقامة آخر
وأيضا فإنه إذا سكر هذى وإذا هذى كفر فينبغي لهم أن يضربوا عنقه وإذا شرب سكر
وإذا سكر زنى فينبغي لهم أن يرجموه ويجلدوه وإذا شرب سكر وإذا سكر سرق فينبغي لهم أن يقطعوا يده وإذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى خرج فأفسد أموال الناس وأقر في ماله لغيره فينبغي لهم أن يلزموه كل هذه الأحكام فإن لم يفعلوا فقد أبطلوا حدهم إياه ثمانين لأنه إذا هذى افترى وهذا كله جنون نبرأ إلى الله تعالى منه ونقطع يقينا بلا شك أنه كذب موضوع مفترى على علي رضي الله عنه لم يقله قط
وكذلك الرواية التي ذكرنا أيضا عن عبد الرحمن بن عوف فهالكة جدا مبعد عن مثله أن يقول افترى على القرآن اجلده ثمانين
وهذا محال ظاهرا وكيف يمكن أن يفتري أحد على الله تعالى أو على القرآن فرية توجب ثمانين جلدة والفرية الموجبة لذلك إنما هي في القذف بالزنى فقط وهذا ما لا سبيل إلى إضافته إلى القرآن لأنه ليس إنسانا
فإن صحح أهل القياس هذه القضية فليوجبوا ثمانين جلدة حدا واجبا لا يتعد على كل من افترى على أحد بكذبة مثل أن يرميه بكفر أو بتهمة أو بسرقة أو كذب على القرآن أو على الله تعالى وهذا ما لا يقولونه فقد أقروا بضعف هذا القياس الذي جعلوه أصلهم وبنوا عليه أو أنهم تركوا القياس في سائر ما ذكرنا
ولا بد لهم من أحد الوجهين ضرورة وأول من كان يلزمهم هذا فهم لأنهم مفترون فيما يدعونه من القياس وبالله تعالى التوفيق
والصحيح في هذا الباب هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر
فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر

قال أبو محمد فصح أنه تعزير لا حد نعني الأربعين الزائدة
وقد حدثنا حمام ثنا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج ثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبيد بن عمير يقول كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر حتى خشي أن يغتال الرجال فجعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين ثم قال هذا أدنى الحدود
حدثنا أحمد بن عمر العذري نا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا ابن الجهم نا موسى بن إسحاق نا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو خالد عن حجاج عن الأسود بن هلال عن عبد الله هو ابن مسعود أنه أتي برجل قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين وعزره عشرين
وقد فعل ذلك أيضا علي بالنجاشي
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب أنا خالد بن الحارث ثنا سفيان الثوري ثنا أبو حصين قال سمعت عمير بن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسنه هكذا رويناه من طريق الهمداني وغيره عمير بن سعد والصواب سعيد كما رويناه من طريق يزيد بن زريع
حدثنا عبد الله بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا إسحاق بن راهويه ثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن فيروز الديباج مولى ابن عامر نا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتي بالوليد صلى الصبح ركعتين فقال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها
فقال عثمان يا علي فاجلده
فقال علي للحسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد

عليه علي فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد النبي صلى الله عليه و سلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة
قال أبو محمد فهذه الأحاديث مبينة ما قلنا من أن زيادة عمر على الأربعين التي هي حد الخمر إنما هي تعزير فمرة زاد عشرين فقط ومرة زاد أربعين ومرة زاد علي وابن مسعود ستين وأخبر علي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسن ذلك يعني الزيادة على الأربعين فقط ومن ظن غير هذا فإنه يكذب النقل الصحيح ويصدق الواهي الضعيف الساقط
وهذا علي يجلد في أيام عثمان بحضرة الحسن وعبد الله بن جعفر وسائر من هنالك من الصحابة وغيرهم أربعين فقط
وقال عمر وعبد الرحمن بأخف الحدود فصح يقينا أن تلك الزيادة على الأربعين لم يوجبوها فرضا ولا حدا البتة ونعيذهم بالله تعالى من ذلك
ولو أخبار مرسلة وردت بأن النبي صلى الله عليه و سلم جلد في الخمر ثمانين لكفر من يقول إن حد الخمر ثمانون ولكن من تعلق بخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم فقد اجتهد فإن وفق لخبر صحيح فله أجران وإن يسر لخبر غير صحيح وهو لا يدري وهيه فهو معذور وله أجر واحد وهو مخطىء وإنما الشأن والبلية في اثنين هالكين وهو من قامت عليه حجة صحيحة فتمادى فهو ضال فاسق أو مقلد بغير علم متجاسر في دين الله عز و جل فهو أيضا ضال فاسق ونعوذ بالله من الخذلان
وأما القياس في الجد فحدثنا حمام بن أحمد القاضي بالغرب ثنا ابن مفرج القاضي برية نا عبد الأعلى بن محمد بن الحسن البوسي قاضي صنعاء نا أبو يعقوب الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن عيسى هو ابن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا فقال إنه كان من أبي بكر أن الجد أولى من الأخ وذكر الحديث وفيه فسأل عنه زيد بن ثابت فضرب له مثلا شجرة خرجت لها أغصان قال فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث
قال الثوري وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج

الغصنان من الغصن الأول قال ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني عنه أن عليا حين سأله عمر جعله سيلا
قال فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان فقال أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يبس أما كان يرجع إلى الشعبتين جميعا قال الشعبي فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة وهو ثالثهم فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث وكان علي يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم
وحدثنا أيضا أحمد بن عمر العذري عن عبد الرحمن بن الحسن العباسي عن أحمد بن محمد الكرجي أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاف النصيبي ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والإخوة قال زيد وكان رأيي يومئذ الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته
فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضرب له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغدوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل
قال زيد فأنا أعبر له وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الأخوة ويقول والله لولا إني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله
ولكن لعلي لا أخيب سهم أحد ولعلهم أن يكونوا كلهم ذي حق وضرب علي وابن عباس يومئذ لعمر مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج من خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين أحدهما أن كلا من هذين الإسنادين ضعيف في الأول عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو ضعيف ومع ذلك منقطع لأن الشعبي لم يدرك عمر
والثاني فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف البتة فهذا وجه
والثاني أنهما صحا لما كان فيهما للقياس مدخل بوجه من الوجوه ولا بمعنى من

المعاني لأن السيل لا يستحق ميراثا أصلا لا سدسا ولا ثلثا وكذلك الغصن ولا فرق ومن أنوك النوك أن يظن أحد بمثل علي وزيد رضي الله عنهما
إن أحدهما قاسم الجد مع الإخوة إلى خمسة وهو سادسهم ثم له السدس وإن كثروا وإن الثاني قاسم بالجد الإخوة إلى اثنين هو ثالثهما
لا ينقضه من الثلث ما بقي أو السدس من رأس المال قياسا على غصنين تفرعا من غصن شجرة وأن إدخال أصحاب القياس لهذا في القياس في القحة الظاهرة والاستخفاف البادي
فإن قال قائل فما وجه هذين الصاحبين لهذين المثلين في هذه المسألة فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا باطل بلا شك ونحن نبت أنهم رضي الله عنهم ما قالوا قط شيئا من هذا
ولقد كانوا أرجح عقولا وأثقب نظرا وأضبط لكلامهم في الدين من أن يقولوا شيئا من هذا الاختلاط ولكن عيسى الخياط وعبد الرحمن بن أبي الزناد غير موثوق بهما ولعل الشعبي سمعه ممن لا خير فيه كالحارث الأعور وأمثاله
ثم لو قال قائل إن وجه ذلك لو صح بين ظاهر لا خفاء به وهو أن زيدا وعليا رضي الله عنهما يذهبان من رأيهما الذي لم يوجباه حتما على أحد إلى أن الميراث يستحق بالدنو في القرابة فإذا كان ذلك والإخوة عندهما أقرب من الجد فإذ هم أقرب من الجد فلا يجوز أن يمنعوا من الميراث معه وللجد فرض بإجماع فلم يجز أن يمنع أيضا من أجلهم وخالفهما غيرهما في قولهما إن الأخ أقرب من الجد
فههنا ضربا هذين المثلين ليريا أن قربى الأخ من الأخ المتولدين من الأب كقربى الغصن والغصن المتفرعين من غصن واحد ومن شجرة أو كقربى جدول من جدول تفرعا جميعا من خليج من واد لكان قولا وهذا تشبيه حسي عياني ضروري لا شك فيه إلا أنه ليس من قبل التشبيه بقرب الولادة تستحق الميراث فالعم وابن الأخ أقرب من الجد ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أنهما لا يرثان معه شيئا وابن البنت أقرب ابن العم الذي يلتقي مع المرء إلى الجد العاشر وأكثر ولا يرث معه شيئا بإجماع الأمة
ونحن لم ننكر الاشتباه وإنما أنكرنا أن نوجب أحكاما لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم من أجل الاشتباه في الصفات فبطل أن يكون لهذا الخبر مدخل في القياس أو تعلق به بوجه من الوجوه ولكن تمويه أصحاب القياس في قياسهم وفيما يحتجون به لقياسهم متقارب كله في الضعف والسقوط والتمويه على الضعفاء المغترين بهم
نسأل الله أن يفيء بهم إلى الهدى والتوفيق بمنه

وأما قول علي إذ بلغه أن معاوية قال إذ قتل عمار فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه و سلم تقتل عمارا الفئة الباغية فقال معاوية إنما قتله من أخرجه فبلغ ذلك عليا فقال فرسول الله صلى الله عليه و سلم إذن هو قتل حمزة فلا أعجب من تجليح من أدخل هذا القياس وهل هذا إلا الائتساء بالنبي صلى الله عليه و سلم في قتل الصالحين بين يديه ناصرين له ومن استجاز أن يقول إن هذا قياس فليقل إن قول لا إله إلا الله قياس لأنه إذا قيل لنا لم تقولون ذلك قلنا لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالها
وأن الاشتغال بمثل هذا لعناء لولا الرجاء في الأجر الجزيل في بيان تمويه هؤلاء القوم الذين اختدعوا الأغمار بمثل هذه الدعاوى وإنما هذا من علي رضي الله عنه ليري معاوية تناقض قوله إنه إنما قتل عمارا من أخرجه
وهذا مثل قول المالكي والحنفي إن نكاح من اعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها نكاح فاسد فيقول لهم أصحابنا والشافعيون فنكاح رسول الله صلى الله عليه و سلم إذن صفية فاسد فإن أقدموا على ذلك كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا وكقول الحنفي إن الحكم باليمين مع الشاهد مخالف للقرآن فنقول لهم نحن والشافعيون والمالكيون فحكم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك إذن مخالف للقرآن فإن قالوا بذلك كفروا وإن كعوا تناقضوا
وكقول المالكيين إن صلاة الصحيح المؤتم بإمام مريض قاعدة فاسدة فنقول لهم نحن والشافعيون والحنفيون فصلاة الناس خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه كذلك وأمره صلى الله عليه و سلم الناس إذا صلى إمامهم قاعدا أن يصلوا قعودا فاسد كل ذلك باطل فإن قالوه كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا وإن من ظن أن هذا قياس لمخذول أعمى القلب
ومن هذا الباب هو قول علي فرسول الله صلى الله عليه و سلم إذن هو قتل حمزة إذ أخرجه وأي قياس ههنا لو عقل هؤلاء القوم وحسبنا الله ونعم الوكيل
وكذلك قصة علي رضي الله عنه يوم القضية بينه وبين أهل الشام إذ أراد أن يكتب علي أمير المؤمنين فأنكر ذلك عمرو ومن حضر من أهل الشام وقالوا اكتب اسمك واسم أبيك ففعل
فقالت الخوارج لما محا أمير المؤمنين قد خلعت نفسك فاحتج عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل ذلك إذ أنكر سهيل بن عمرو حين القضية يوم الحديبية

أن يكتب في الكتاب محمد رسول الله فمحا رسول الله صلى الله عليه و سلم وكتب محمد بن عبد الله فقال علي أترون رسول الله صلى الله عليه و سلم محا نفسه من النبوة إذ محا رسول الله من الصحيفة
قال أبو محمد وهذا كالذي في قصة عمار سواء بسواء ولا مدخل للقياس ههنا وإنما هو إئتساء بالنبي صلى الله عليه و سلم وكلا الأمرين محو من رق ليس أحدهما مقيسا على الآخر وهكذا الأمر حديثا وقديما وإلى يوم القيامة وليس إذا كتبت نار ثم محى امحت النار من الدنيا
وهذا من جنون الخوارج وضعف عقولهم إذ كانوا أعرابا جهالا بل قولهم في هذا هو القياس المحقق لأنهم قاسوا محو الخلافة عن علي على محو اسمه من الصحيفة وهذا قياس يشبه عقولهم وقد علم كل ذي مسكة عقل أنه إذا محيت سورة من لوح فإنها لا تمحى بذلك من الصدور
ومن ظن أن بين القياس وبين قول علي نسبة فإنما هو مكابر للعيان لأن القياس إنما هو تحريم أو إيجاب أو إباحة في شيء غير منصوص تشبيها له بشيء منصوص وليس في هذه القضية تحريم ولا إيجاب ولا تحليل وبالله تعالى التوفيق
وأما قول ابن عباس للخوارج إذ أنكروا تحكيم الحكمين يوم صفين إن الله تعالى أمر بالتحكيم بين الزوجين وفي أرنب قيمتها ربع درهم فإن هذا الخبر حدثناه أحمد بن محمد الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا محمد بن وضاح ثنا عبد السلام بن سعيد التنوخي ثنا سحنون ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله قد حكم في رجل وامرأته وحكم في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أو الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماؤها ولم شعثها
قال أبو محمد وهذا لا يصح البتة لأنه عمن لم يسم ولا يدري من هو ثم هبك أنه أصح من كل صحيح وأننا شهدنا ابن عباس يقول ذلك فإنه ليس من القياس من ورد ولا صدر بل هو نص جلي
ومعاذ الله أن يظن ذو عقل بأن عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة حكموا في النظر للمسلمين قياسا على التحكيم في الأرنب وبين الزوجين فما يظن هذا إلا مجنون البتة

وهل تحكيم الحكمين إلا نص قول الله عز و جل { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فنص تعالى على أن كل تنازع في شيء من الدين فإن الواجب فيه تحكيم كتاب الله عز و جل وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم والتنازع بين علي ومعاوية لا يجهله من له أقل معرفة في الأخبار ففرض عليهما تحكيم القرآن كما فعلا فأي قياس ههنا لو أنصف هؤلاء القوم عقولهم
فإن كان هذا عندهم قياسا فقد ضيعوه وتركوه ويلزمهم إن تحاكم إليهم اثنان في بيع أو دين أو غير ذلك فليبعثوا من أهل كل واحد منهما حكما وإلا فقد تركوا القياس بزعمهم
فإن قالوا فهلا كفاهم حكم واحد حتى احتجوا إلى اثنين قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن أهل العراق لم يرضوا حكما من أهل الشام ولا رضي أهل الشام حكما من أهل العراق فلذلك اضطروا إلى حكم من كلتا الطائفتين
وأما الرواية عن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد فكما حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عمرو قال قال أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يعلى يقول وذكر قصة الذي قتله امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب كتب إلي اقتلهما فلو اشترك في دمه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وأخذ هذا عضوا كنت قاطعهم قال نعم قال فذلك حين ليس أحدهما أصلا للآخر لأن النص قد ورد بقتل من قتل وكما ورد بقطع من سرق ليس أحد النصين في القرآن بأقوى من الآخر قال تعالى { ولكم في لقصاص حياة يأولي لألباب لعلكم تتقون } وقال تعالى { وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على لله إنه لا يحب لظالمين } وقال تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } ولم يخص تعالى من كلا الأمرين منفرد من مشارك فلو صح لكان علي إنما أنكر على عمر اختلاف حكمه فقط وتركه أحد النصين وأخذه بالآخر

وهذا هو الذي ننكره نحن سواء بسواء فخرج هذا الخبر لو صح من أن يكون له في القياس مدخل أو أثر أو معنى والحمد لله رب العالمين
ثم قد روينا عن علي أنه كان لا يرى قتل اثنين بواحد فلو قاله لكان قد تركه ورجع عنه ورآه باطلا من الحكم
فهذا كل ما ذكروه مما روي عن الصحابة قد بيناه بأوضح بيان بحول الله تعالى وقوته أنه ليس لهم في شيء منه متعلق وهو أنه إما شيء بين الكذب لم يصح وإما شيء لا مدخل للقياس فيه البتة
فإذا الأمر كما ترون ولم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس وأيقنا أنهم لم يعرفوا قط العلل التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به فقد صح الإجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس وبأنه بدعة حدثت في القرن الثاني ثم فشا وظهر في القرن الثالث كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع وفشا وظهر في القرن الخامس
فليتق الله امرؤ على نفسه وليتداركها بالتوبة والنزوع عمن هذه صفته فحجة الله تعالى قد قامت باتباع القرآن والسنة وترك ما عدا ذلك من القياس والرأي والتقليد
ولقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس أبطلها رسول الله صلى الله عليه و سلم نذكرها إن شاء الله تعالى في الدلائل على إبطال القياس إذا استوعبنا بحول الله تعالى وقوته كل ما اعترضوا به
وبقيت أشياء من طريق النظر موهوا بها ونوردها إن شاء الله تعالى ونبين بعونه عز و جل بطلان تعلقهم وأنه لا حجة لهم في شيء منها كما بينا بتأييد الله تبارك وتعالى ما شغبوا به من القرآن وما موهوا به من كلام النبي صلى الله عليه و سلم وما لبسوا به من الإجماع وما أوهموا به من آثار الصحابة وبالله تعالى التوفيق
فمن ذلك أنهم قالوا إن القياس هو من باب الاستشهاد على الغائب بالحاضر فإن لم يستشهد بالحاضر على الغائب فلعل فيما غاب عنا نارا باردة
قال أبو محمد هذه شغبية فاسدة فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في باب الشرائع وقد علم كل مسلم أنه ليس في شيء من الديانة شيء غائب عن المسلمين وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ليبين للناس دينهم اللازم لهم قال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }

فلا يخلو رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون لم يبلغ ولا بين للناس فهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة بلا خلاف
وإما أن يكون صلى الله عليه و سلم بلغ كما أمر به وبين للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم إلا أن يكون هؤلاء القوم وفقنا الله وإياهم يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم فهي غائبة عنا فهذا كفر ممن أطلقه واعتقده وتكذيب لقول الله عز و جل { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد
وأما تمويههم بذكر النار ولعل في الغائب نارا باردة فكلام غث في غاية الغثاثة لأن لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل حار مضيء صعاد فإن كنتم تريدون أن شيئا حارا يكون باردا فهذا تخليط وعين المحال
وأما لفظة نار فقد وقعت أيضا في اللغة على ما لا يحرق فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الإبل فيقولون ما نارها بمعنى ما وسمها فليس الاسم مضطرا إلى وجوده كما هو ولا بد ولكنه اتفاق أهل اللغة وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة وجب ضرورة أن تسمى نارا ولا بد بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئا
وليس أيضا من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضا بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضيء المحرق الصعاد
فإن قلتم فلعل في الغائب جسما مضيئا باردا صعادا قلنا لكم هذا ما لا دليل عليه والقول بما لا دليل عليه غير مباح وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة فالله تعالى قادر على ذلك ولكنه تعالى لم يخلق في هذا العالم مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل غير ما شاهدنا بذلك ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا إلا أن هذا أمر

لا نحققه ولا نبطله ولكنه ممكن والله أعلم ولا علم لنا إلا ما علمنا الله وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا أيضا فقالوا إن في النصوص جليا وخفيا فلو كانت كلها جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها ولو كانت كلها خفية لم يكن لأحد سبيل إلى فهمها ولا إلى علم شيء منها قالوا فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي
قال أبو محمد وهذه مقدمة فاسدة والأحكام كلها جلية في ذاتها لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه و سلم بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بين وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله فإذ لا شك في هذا ونوقن أنه صلى الله عليه و سلم قد بين الدين كله
فالدين كله بين وجميع أحكام الشريعة الإسلامية كلها جلية واضحة وقد قال عمر رضي الله عنه تركتم على الواضحة ليلها كنهارها أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وقال أيضا رضي الله عنه سننت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض إلا أن يضل رجل عن عمد
قال أبو محمد إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الألفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه و سلم لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك وليس عدم هذا الإنسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس وهذا أمر مشاهد يقينا وهكذا عرض لعمر رضي الله عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره وقال عمر رضي الله عنه اللهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر
وقال ما راجعت رسول الله صلى الله عليه و سلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي بشيء ما أغلظ لي فيها إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة ما أراه يفهمها أبدا أو كما قال صلى الله عليه و سلم فصح ما قلناه يقينا وأخبر صلى الله عليه و سلم أن آية الصيف كافية الفهم وأن عمر لم يفهمها ليس لأنها غير كافية بل هي كافية بينة ولكن لم ييسر لفهمها
وكذلك أخبر صلى الله عليه و سلم أن الحلال بين وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلم يقل صلى الله عليه و سلم إنها مشتبهات على جميع الناس وإنما هي

مشتبهة على من لا يعلمها وإذ هذا كذلك فحكم من لا يعلم أن يسأل من يعلم
كما قال تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون } ولم يقل فارجعوا إلى القياس فوضع دعوى هؤلاء القوم وصح أن الدين كله بين واضح وسواء كله في أنه جلي مفهوم إلا أن من الناس من يخفى عليه الشيء منه بعد الشيء لإعراضه عنه وتركه النظر فيه فقط
وقد يخفى على العالم الفهم أيضا إذا نظر في مقدماته وقضاياه بفهم كليل إما لشغل بال وإما لطلبه في اللفظ ما لا يقتضيه فقط حتى يعلمه إياه العلماء الذين هو عندهم بين جلي ولو لم يكن الأمر هكذا لما عرف الجاهل صحة قول مدعي الفهم أبدا
فصح أنه لما أمكن العالم إقامة البرهان حتى يفهم الجاهل من القضايا كالذي فهم العالم فإن العلم كله جلي ممكن فهمه لكل أحد ولولا ذلك ما فهم الجاهل شيئا ولا لزم من لا يفهم العمل بما لا يفهم
وأيضا فيلزم فيما كان منه خفيا ما ألزموه لو كان كله خفيا وفي الجلي منه ما يلزم لو كان كله جليا ولا فرق وليس للقياس ههنا طريق البتة وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا فقالوا لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر قالوا وهذا قياس
قال أبو محمد وهذا خطأ ولم نعلم ذلك قياسا ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس فإنه إذا صدمه ما هو أشد منه اكتنازا أثر فيه إما بتفريق أجزائه وإما بتبديل شكله ولم نقل قط إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرما صليبا بل هذا خطأ فاحش
وفي هذا القول إبطال القياس حقا فبيضة الحنش وبيضة الوزعة وبيضة صغار العصافير لا تشبه بيضة النعام البتة في أغلب صفاتها إلا أنهما جميعا واقعان تحت نوع البيض وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسما صليبا مكتنزا
ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها الحجر لما انكسرت

فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الأحكام البتة وبطل قولهم إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض لشبهها بما شاهدنا انكساره منها وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك
وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو وسواء اشتبها أو لم يشتبها
فقد علمنا أن العنب الأسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الأسود منه بالعنب الأبيض الصغير لكن ليس شبهه به موجبا لتساويهما في الطبيعة ولا بعده عن مشابهة العنب بموجب لاختلافهما في الطبيعة فبطل حكم التشابه جملة وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته
وهكذا قلنا نحن إن حكمه صلى الله عليه و سلم في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع وأما القياس الذي ننكر فهو أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في نوع آخر قد نص فيه كالحكم في الزيت تقع فيه النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر وما أشبه هذا فهذا هو الباطل الذي ننكره وبالله التوفيق
ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون فنحن نجد الصغير يفر عن الموت وعن كل شيء ينكره وعن النار وإن كان لم يحترق قط ولا رأى محترقا وعن الإشراف على المهواة ونجده يضرب بيده إذا غضب وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض
نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه والصغير من الخنازير يشتر بفمه قبل كبر ضرسه والصغير من الدواب يرمح قبل اشتداد حافره وهذا كثير جدا
فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسمة فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسما صليبا وبه علمنا أن كل نار في الأرض وفيما تحت الفلك فهي محرقة لا بالقياس البارد الفاسد وليس هذا في شيء من الشرائع البتة بوجه من الوجوه لأنه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة حاشا نار إبراهيم لإبراهيم عليه السلام وحده لا لغيره بالنص الوارد فيها ولم يجز أن يقاس عليها غيرها ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئا صلبا وقد كان البر بالبر حلالا متفاضلا برهة من

الدهر وكذلك كل شيء من الشريعة واجب فقد كان غير واجب حتى أوجبه النص وغير حرام حتى حرمه النص فليست ههنا شيء أن يجب أن يقاس عليه ما لم يأت بإيجابه نص ولا تحريم أصلا وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا بأن قالوا إن علمنا بما في داخل هذه الجوزة والرمانة على صفة ما إنما هو قياس على ما شاهدنا من ذلك وإلا فلعل داخلهما جوهر أو شيء مخالف لما عهدناه وكذلك أن في رؤوسنا أدمغة وفي أجوافنا مصرانا وأن هذا الصبي لم تلده حمارة وأن الأحياء يموتون إنما علمنا ذلك قياسا على ما شاهدنا
قال أبو محمد وهذا من أبرد ما موهوا به وما علم قط ذو عقل أن من أجل علمنا بأن ما في داخل هذه الرمانة كالذي في داخل هذه وأن في أجوافنا مصرانا وفي رؤوسنا أدمغة وأن الناس لم تلدهم الأتن وأن الأحياء يموتون علمنا أن الزيت ينجس إذا مات فيه عصفور ولا ينجس إذا مات فيه مائة عقرب وأن التمرة بالتمرة حرام والتفاحة بالتفاحة حلال
وأن البئر إذا مات فيها سنور نزح منها أربعون دلوا فإن سقط فيها نقطة بول نزحت كلها
وأن من مس دبره انتقض وضوءه وأن من مس أنثييه لم ينتقض وضوءه وهل بين هذه الوجوه والتي قبلها تشبيه
وإن المشبه بين هاتين الطريقتين لضعيف التمييز وتلك أمور طبيعية ضرورية تولى الله عز و جل إيقاعها في القلوب
لا يدري أحد كيف وقع له علمها
وهذه الأخر إما دعاوى لا دليل عليها وإما سمعية لم تكن لازمة ثم ألزم الله منها بالنص لا بالكهانة ولا بالدعوى
ونحن نجد الصغير الذي لم يحب بعد وإنما هو حين هم أن يجلس إذا رأى رمانة قلق وشره إلى استخراج ما فيها وأكلها
وكذلك الجوز وسائر ما يأكله الناس فليت شعري متى تعلم هذا الصبي القياس بأن ما في هذه الرمانة كالتي أطعمناه عام أول أو قبل هذا بشهر
ولقد كان ينبغي لهم أن يعرفوا على هذا أحكام القياس بطبائعهم دون أن يأخذوها تقليدا عن أسلافهم
ولو أنهم تدبروا العالم وتفكروا في طبائعه وأجناسه وأنواعه وفصوله وخواصه

وأعراضه لما نطقوا بهذا الهذيان فإن كانوا يريدون أن يسموا جري الطبائع على ما هي عليه قياسا فهذه لغة جديدة ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى لكن قصدوا الشغب والتخليط كمن سمى الخنزير أيلا ليستحله والأيل خنزيرا ليحرمه
وكل هذه حيل ضعيفة لا يتخلصون بها مما نشبوا فيه من الباطل وإنما تكلمهم عن المعنى لا على ما بدلوه برأيهم من الأسماء فإذ حققوا معنا المعنى الذي يرمون إثباته ونحن نبطله فحينئذ يكلف البرهان من ادعى أمرا منا ومنهم فمن أتى به ظفر ومن لم يأت به سقط وليسموه حينئذ بما شاؤوا
ويكفي من سخف هذا الاحتجاج منهم أن يقال لكل ذي حس هل نسبة التين من البر كنسبة الجوزة من الجوزة وكنسبة الرمانة من الرمانة وكنسبة الإنسان من الإنسان فإن وجد في العالم أحمق يقول نعم لزمه إخراج البلوط والتين عن زكاة البر كيلا بكيل وهذا ما لا يقوله مسلم ولزمه أن يقول فيمن حلف لا يأكل برا فأكل تينا أن يحنث ولزمه أكثر من هذا كله وهو الكذب إن التين بر وإن قالوا لا تركوا قولهم في تشبيه القياس في الشرائع لمعرفتنا بأن ما في هذه الرمانة كهذه
والذي لا نشك فيه فهذا الاحتجاج منهم مبطل لقولهم ومثبت لقولنا لأن الرمانة من الرمانة والجوزة من الجوزة والإنسان من الإنسان كالسمن من السمن والفأر من الفأر وكل نوع من نوعه والجوز مخالف للرمان كخلاف السنور من الفأر وخلاف الزيت للسمن
وهذا هو الذي ينكره ذو عقل وأنه إذا حكم النبي صلى الله عليه و سلم بتحريم البر بالبر متفاضلا لزم ذلك في كل بر ولم يجب فيما ليس ببر إلا بنص آخر وإذا أمر بهرق السمن المائع الذي مات فيه الفأر وجب ذلك في كل سمن مات فيه فأر ولم يجب ذلك في غير السمن الذي مات فيه الفأر وهذا هو الذي لا تعرف العقول غيره وبالله تعالى التوفيق
وأما تحريم البلوط قياسا على البر وهرقهم الزيت قياسا على السمن فهو كمن قال الذي داخل اللوز كالذي داخل الرمان ولا فرق فبطل قولهم بالبرهان الضروري
وصح أن القياس إنما هو قياس نوع على نوع آخر وهذا باطل بنفس احتجاجهم وبالله تعالى التوفيق
ويقال لهم أمعرفتكم بأنكم تموتون وهو شيء يستوي في الإقرار به كل ذي

حس هو مثل معرفتكم بالشرائع كالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك مما يحرم في البيوع والنكاح وما يحل فإن قالوا لا كفونا أنفسهم وأبطلوا ما استدلوا به ههنا وإن قالوا نعم كابروا ولزمهم أن يكونوا مستغنين عن النبي صلى الله عليه و سلم وأنهم كانوا يدرون الشريعة بطبائعهم قبل أن يعلموها وهذا ما لا يقوله ذو عقل
ويقال لهم هل كان على قشر الرمان قط على لوز فإن قالوا نعم لحقوا بسكان المارستان وإن قالوا لا سألناهم أكانت الخمر قط حلالا وكان بيع البر بالبر متفاضلا غير محرم في صدر الإسلام أو لم يزل ذلك والخمر حلالا مذ خلق الله الخمر وللبر بينة الطبع فإن قالوا كانت الخمر وبيع البر متفاضلا غير حرام برهة من الإسلام ثم حرم ذلك أقروا بأن ذلك ليس من باب ما في قشر اللوز والرمان في ورد ولا صدر لأن الطبائع قد استقرت مذ خلق الله تعالى العالم على رتبة واحدة هذا معلوم بأول العقل والحس اللذين يدرك بهما علم الحقائق وأما الشرائع فغير مستقرة ولم يزل تعالى مذ خلق الخلق ينسخ شريعة بعد شريعة فيحرم في هذه ما أحل في تلك ويسقط في هذه ما أوجب في تلك ويوجب في هذه ويحل فيها ما أسقط في تلك وما حرم إلى أن نص الله تعالى أنه لا تبدل هذه الملة أبدا
فصح أن من شبه الطبائع التي تعلم بالحس والعقل بالشرائع التي لا تعلم إلا بالنص لا مدخل للعقل ولا للحس في تحريم شيء منها ولا في إيجاب فرض منها إلا بعد ورود النص بذلك فهو غافل جاهل ولو احتج بهذا يهودي لا يرى النسخ لكان هذا الاحتجاج أشبه بقوله منه بقول أصحاب القياس
وأما الموت فهو حكم كل جسم مركب من العناصر إلى نفس حية فقد رتب الله تعالى في العالم هذا اصطحابهما مدة ثم افتراقهما ورجوع كل عنصر إلى عنصره وليس هذا قياسا يوجب موت أهل الجنة والنار فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق
وقالوا القياس فائدة زائدة على النص
قال أبو محمد لا فائدة في الزيادة على ما أمر الله تعالى به ولا في النقص منه بل كل ذلك بلية ومهلكة وتعد لحدود الله تعالى وظلم وافتراء وبالله تعالى نعوذ من ذلك ولا أعظم جرما ممن يقر على نفسه أنه يزيد على النص الذي أذن الله به ولم يأذن في تعديه
وبالله تعالى نعوذ من الخذلان

واحتج بعضهم فقال لمن سلف من أصحابنا فقهكم في اتباع الظاهر يشبه فعل الغلام الذي قال له سيده هات الطست والإبريق فأتاه بهما ولا ماء في الإبريق فقال له وأين الماء لم تأمرني وإنما أمرتني بطست وإبريق فهاهما وأنا لا أفعل إلا ما أمرتني
قال أبو محمد فقال لهم وبالله تعالى التوفيق بل فقهكم أنتم يشبه فعل المذكور على الحقيقة إذ قال له سيده إذا أمرتك بأمر فافعله وما يشبهه فعلمه سيده القياس حقا على وجهه وحفظ الغلام ذلك وقبله قبولا حسنا فوجد سيده حرارة فقال سق إلي الطبيب فإني أجد التياثا فلم ينشب أن أتاه بعض إخوانه فزعا فقال له يا فلان من مات لك فقال ما مات لي أحد فقال له فإن الغاسل والمغتسل والنعش وحفار القبور عند الباب فدعا غلامه فقال له ما هذا الباب فقال له ألم تأمرني إذا أمرتني بأمر أن أفعله وما يشبهه قال نعم قال فإنك أمرتني بسوق الطبيب لالتياثك وليس يشبه العلة وإحضار الطبيب إلا الموت والموت يوجب حضور الغاسل والنعش والحفار لحفر القبر فأحضرت كل ذلك وفعلت ما أمرتني وما يشبهه
فنحن نقول إن هذا الغلام أعذر في الائتمار لأمر مولاه في الإبريق الفارغ إذ لعله يريد أن يعرضه على جليسه أو يبيعه أو يقبله لمذهب له فيه منه في جلب الحفار والغاسل والنعش قياسا على العلة والطبيب ولقد كان الغلام قوي الفهم في القياس إذ لا قياس بأيديكم إلا مثل هذا
وهو أن تشبهوا حالا بحال في الأغلب فتحكمون لهما بحكم واحد وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة والتخرص في علم الغيب والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم فيما لم يأذن به عز و جل وبالله تعالى نعوذ من ذلك
واحتجوا فقالوا أنتم تقولون إذا حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في عين ما فهو حكم واحد في جميع نوع تلك العين التي يقع عليها اسم نوعها
وهذا قياس
قال أبو محمد هذا تمويه زائف وقد بينا وجه هذه المسألة وهو أنه صلى الله عليه و سلم بعث إلى كل من يخلق إلى يوم القيامة من الإنس والجن وليحكم كل نوع من أنواع العالم بحكم ما أمره به ربه تعالى ولا سبيل إلى أن يخاطب صلى الله عليه و سلم من لم يخلق بعد بأكثر من أن يأمر بالأمر فيلزم النوع كله إلا أن يخص صلى الله عليه و سلم كما خص أبا بردة بن نيار بقوله يجزيك ولا تجزىء جذعة عن أحد بعدك

قالوا فهلا قلتم في أمره صلى الله عليه و سلم فاطمة بنت حبيش بما أمرها به إذا استحيضت إنه لازم لكل امرأة تسمى فاطمة
فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق لم ينص عليه السلام على أن ذلك حكم كل امرأة تسمى فاطمة وإنما نص صلى الله عليه و سلم على أن دم الحيض أسود يعرف فإذا أقبل فافعلي كذا
وإذا أدبر فافعلي كذا فنص صلى الله عليه و سلم على صفة الحيض والطهر والاستحاضة وعلى حكم كل ذلك متى ظهر فوجب التزام ذلك متى وجد الحيض أو الطهر أو الاستحاضة
ثم ينعكس هذا السؤال عليهم بعد أن أريناه أنه حجة لنا فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أنتم أهل القياس وتفتيش العلل في الديانة وتعدي القضايا عما نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم إلى ما لم ينصا عليه وأنتم أهل الكهانة والاستدراك في الديانة ما لم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم فاستعملوا مذهبكم في هذا الحديث
فقد قال عليه السلام في دم الاستحاضة عندكم إنما هو عرق وبين أن دم الحيض أسود يعرف فكما قستم الحمرة والصفرة والكدرة على الدم الأسود فجعلتموه كله حيضا فكذلك قيسوا كل عرق يسيل من المرأة من رعاف أو جرح على عرق الاستحاضة وأحكموا لها حينئذ بحكم الاستحاضة وإلا كنتم متناقضين وتاركين للقياس
ولا شك عند كل ذي حسن إن كان القياس حقا إن قياس عرق يدمي عن عرق يدمي أشبه وأولى من قياس الدلاع أو الشاهبلوط على البر والتمر على أن بعضهم قد فعل ذلك وهم الحنفيون وأوجبوا أن الوضوء ينتقض بكل عرق دمي قياسا على عرق المستحاضة عندهم فيلزمهم أن يوجبوا من ذلك الغسل كما جاء النص على المستحاضة وهذا ما لا انفكاك لهم منه وبالله تعالى التوفيق
وقالوا لم نعلم أن أجسام أهل الصين كأجسامنا إلا قياسا منا بالشاهد على الغائب
قال أبو محمد وهذا من الجنون المكرر
وقد بينا آنفا أن علمنا بهذا علم ضروري أولي يعرف ببديهة العقل ولم يكن المميز قط من الناس إلا وهو عالم بطبعه أن كل من مضى أو يأتي أو غاب عنه من الناس فعلى هيئتنا بلا شك ولا يتشكل في عقل أحد سوى هذا

وبالضرورة يعلم كل ذي عقل أن علمنا أن المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها إلا بعد زواج يطؤها ليس من علمنا بأن أهل الصين من الناس هم على هيئاتنا بل كان جائزا أن تحل له بعد ألف طلقة دون زوج ولولا النص
وهكذا القول في البئر وسائر ما وردت به النصوص لأنه قد كانت هذه الأعيان موجودة آلافا من السنين ليس فيها شيء من هذا التحريم ولا هذا الإيجاب ولم تكن الأجسام قط خالية من حركة أو سكون ولا كانت أجسام الناس على خلاف هذا الشكل الذي هم عليه والمشبه للشرائع بالطبائع مجنون أو في أسوأ حالا من الجنون لأن من سلك سبيل المجانين وهو مميز فالمجنون أعذر منه
ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن الذي قالوا حجة عليهم لأن علمنا بأن أجسام الناس في الصين وفيما يأتي إلى يوم القيامة على هيئة أجسامنا هو كعلمنا بعد ورود النص بأن كل بر في الصين والهند وكل بر يحدثه الله تعالى إلى يوم القيامة فحرام بيع بعضه ببعض متفاضلا
وأما هم فإنه يلزمهم إذ نقلوا حكم البر المذكور إلى التين والأرز أن ينقلوا حكم أجسام الناس إلى أجسام البغال فيقولوا إن بغال الصين على هيئة أجسام الناس لأن نسبة الأرز إلى البر كنسبة البغال إلى الناس ولا فرق وكل ذلك أنواع مختلفة
ويلزمهم أيضا إذا قاسوا الغائب على غير نوعه من الشاهد أن يقولوا إن الملائكة والحور العين لحم ودم قياسا على الناس وأنهم يمرضون ويفيقون ويموتون وأن فيهم حاكة وملاحين وفلاحين وحجامين وكرباسيين قياسا على الشاهد وإلا فقد نقضوا وبطلوا قياسهم للغائب على الشاهد
والحق من هذا أن لا غائب عن العقل من قسمة العالم التي تدرك بالعقل ولا غائب عن السمع من الشريعة وبالله تعالى نعتصم وكل ذلك ثابت حاضر معلوم والحمد لله رب العالمين
وقالوا إن كل مشتبهين فوجب أن يحكم لهما بحكم واحد من حيث اشتبها
قال أبو محمد وهذا تحكم بلا دليل ودعوى موضوعة وضعها غير مستقيم والحقيقة في هذا أن الشيئين إذا اشتبها في صفة ما فهما جميعا فيها مستويان استواء واحدا ليس أحدهما أولى بتلك الصفة من الآخر ولا أحدهما أصل والثاني فرع ولا أحدهما مردود إلى الآخر ولا أحدهما أولى بأن يكون قياسا على الآخر من أن يكون الآخر قياسا

كزيد ليس أولى بالآدمية من عمرو ولا حمار خالد أولى بالحمارية من حمار محمد والغراب الأسود والسح ليس أحدهما أولى بالسواد من الآخر وهذا كله باب واحد في جميع ما في العالم
وكذلك الشرائع ليس بر بغداد بأولى بالتحريم في بيع بعضه ببعض متفاضلا من بر الأندلس ولا سمن المدينة إذا مات فيه الفأر وهو مائع بأولى أن يهراق من سمن مصر فهذا هو الذي لا شك فيه
وأما ما يريدون من دس الباطل وما لا يحل جملة الواجب فلا يجوز لهم بعون الله تعالى إلا على جاهل مغتر بهم أهلكوه إذ أحسن الظن بهم وذلك أنهم يريدون أن يأتوا إلى ما ساوى نوعا آخر في بعض صفاته فيلحقونه به فيما لم يستو معه وهذا هو الباطل المحض الذي لا يجوز البتة
أول ذلك أنه تحكم بلا دليل وما كان هكذا فقط سقط وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن المؤمن كقتله وكل مسلم يعلم أنه لا تشابه أقوى من تشابه أخبر به صلى الله عليه و سلم فإذا لا شك في هذا وصح يقينا أن لعن المؤمن كقتله وأجمعت الأمة بلا خلاف أن لعن المؤمن لا يبيح دم اللاعن كما يبيح القتل دم القاتل ولا يوجب دية كما يوجب القتل دية فبطل قول من قال إن الاشتباه بين الشيئين يوجب لهما في الشريعة حكما واحدا فيما لم على اشتباههما فيه
وبعد فإن البرهان يبطل قولهم من نفس هذه المقدمة التي رتبوا وذلك أنه ليس في العالم شيئان أصلا بوجه من الوجوه إلا وهما مشتبهان من بعض الوجوه وفي بعض الصفات وفي بعض الحدود لا بد من ذلك لأنهما في محدثان أو مؤلفات أو جسمان أو عرضان ثم يكثر وجود التشابه على قدر استواء الشيئين تحت جنس أعلى ثم تحت نوع فنوع إلى أن تبلغ نوع الأنواع الذي يلي الأشخاص كقولنا الناس أو الجن أو الخيل أو البر أو التمر وما أشبه ذلك فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا إذا كانت عين ما مما في العالم حراما إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراما قياسا عليه لأنه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها

ثم نلزمهم إلزاما آخر وهو أننا نجد أيضا شيئا آخر حلالا فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالا قياسا على هذا لأنه أيضا يشبهه من بعض الوجوه وهذا إن قالوه حمقوا وخرجوا عن الإسلام وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها
ثم تجمع عليهم هذين الإلزامين معا فيلزمهم أن يجعلوا الأشياء كلها حراما حلالا معا قياسا على ما حرم وما حلل وهذا تخليط ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل وأن يحكم بالإيجاب فيما جاء فيه النص بالإيجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى فلم يبق لهم إلا أن يقولوا إن النص لا تستوعب كل شيء
قال أبو محمد وهذا قول يؤول إلى الكفر لأنه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا وأنه أهم أشياء من الشريعة تعالى الله عن هذا والله تعالى أصدق منهم حيث يقول { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } و { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } و { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فبطل قولهم بالقياس والحمد لله رب العالمين
وما نعلم في الأرض بدع السوفسطائية أشد إبطالا لأحكام العقول من أصحاب القياس فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل من أن الشيء إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شيء آخر ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم على تحريمه وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شيء ولا إيجابه إلا بعد ورود النص ولا خلاف في شيء من العقول أنه لا فرق بين الكبش والخنزير
ولولا أن الله حرم هذا وأحل هذا فهم يبطلون حجج العقول جهارا ويضادون حكم العقل صراحا ثم لا يستحبون أن يصفوا بذلك خصومهم فهم كما قال الشاعر ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب

وأيضا فإنه يقال لهم إذا قلتم إن كل شيئين اشتبها في صفة ما فإنه يجب التسوية بين أحكامهما في الإيجاب والتحليل وبالتحريم في الدين فما الفرق بينكم وبين عكس من عليكم هذا القول بعينه فقال بل كل شيئين في العالم إذا افترقا في صفة ما فإنه يجب أن يفرق أحكامهما في الإيجاب والتحليل والتحريم في الدين
فأجاب بعضهم بأن قال هذا لا يجب دون أن يأتي بفرق
فقال أبو محمد وهذا تحكم عاجز عن الفرق ويقال له بل قولك هو الذي لا يجب فما الفرق
وقال بعضهم هذا قياس منكم فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل
قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق لم نحتج عليكم بهذا تصويبا منا له ولا للقياس لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس ويبطل بعضه بعضا وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضا فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به ونحجكم به لأنكم مصوبون له مصدقون لشهادته وهو قولكم بالفساد وعلى مذاهبكم بالتناقض أقررتم به أو أنكرتموه وأما نحن فلم نصوبه قط ولا قلنا به فهو يلزمكم ولا يلزمنا وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم ولا يلزم خصمه كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة ولا نلزم من أنكرها فمن ناظرنا بها لم ندفعه عما يلزمنا بها وهذا هو فعلنا بكم في القياس
وأما تشبيهكم إيانا في ذلك بمن جنح في إبطال حجة العقل بحجة العقل فتشبيه فاسد لأن المحتج علينا في إبطال حجة العقل لا يخلو من أحد وجهين إما أن يصوب ما يحتج به ويحققه فقد تناقض أو يبطل ما يأتي به فقد كفانا مؤنته ولسنا نحن كذلك في احتجاجنا عليكم بالقياس لكنا نقول لكم إن كان القياس حقا عندكم فإنه يلزمكم منه كذا وكذا وليس يقول لنا المبطلون لحجج العقول هكذا لكنهم محققون لما يحتجون به فيتناقضون إذا حققوا ما أبطلوا كما تناقضتم أنتم في إبطالكم ما حققتموه من نتائج القياس فطريقكم هي طريقهم
ونحن نقول إن هذا الذي نعارضكم به من القياس أنتم التزمتم حكمه وهو عندنا باطل كقولكم سواء بسواء فإن التزمتموه أفسد قولكم وإن أبيتموه فكذلك لأنكم

تقرون حينئذ بإبطال ما قد صوبتموه ولا فساد أشد من فساد قول أدى إلى التزام الباطل وليس من يبطل قضايا العقل كذلك لأنه لا يصح شيء أصلا إلا بالعقل أو بالحواس مع العقل أو ما أنتج من ذلك فمن أبطل حجة العقل ثم ناظر في ذلك بحجة العقل فإن صححها رجع إلى الحق ودخل معنا وإن أبطلها سقط القول معه لأنه يقر أنه يتكلم بلا عقل وليس القياس هكذا بإقراركم
ويكفي من هذا أن من رام إبطال حجة العقل بحجة فقد رام ما لا يجده أبدا وحجة العقل لا تبطل حجة العقل أصلا بل توجبها وتصححها وكذلك من رام إبطال خبر الواحد بخبر الواحد فإنه لا يجد أبدا خبرا صحيحا يبطل خبر الواحد
وهكذا كل شيء صحيح فإنه لا يوجد شيء صحيح يعارضه أبدا هذا يعلم ضرورة ولو كان ذلك لكان الحق يبطل الحق وهذا محال في البنية وليس كذلك القياس لأنه يبطل بالقياس جهارا وبأسهل عمل فصح أنه باطل وهكذا كل باطل في العالم فإنه يبطل بعضه بعضا بلا شك
وقال بعضهم من الدليل على أن حكم المماثلين حكم واحد أن الله عز و جل قد تحدى العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وأعلم أنهم لو أتوا بمثله لكان باطلا لأن مثل الباطل لا يكون إلا باطلا ومثل الحق لا يكون إلا حقا
قال أبو محمد هذا قول صحيح وهو حجة عليهم لأن المشبه للباطل في أنه باطل هو بلا شك باطل وبهذا أبطلنا القياس بالقياس ورأينا أنه كله باطل وليس ما أشبه الباطل في أنه مخلوق مثله وأنه كلام مثله يكون باطلا بل هذا حكم يؤدي إلى الكفر لأن الكفر كلام والكذب كلام والقرآن كلام والحق كلام
وليس ذلك بموجب اشتباه كل ذلك في غير ما اشتبه فيه يرومون
وأيضا فهذا من ذلك التمويه الذي إذا كشف عاد مبطلا لقولهم بعون الله عز و جل وذلك أننا لم ننكر قط أن ما وقع عليه مع غيره اسم يجمع تلك الأشخاص فإنها كلها مستحقة لذلك الاسم بل نحن أهل هذا القول
ونقول إن كل ما يوضع من الكلام في غير مواضعه التي وضعها الله تعالى فيها في الشرائع أو في غير المواضع التي وضعه فيها أهل اللغات للتفاهم فهو باطل وتحريف للكلم عن مواضعه وتبديل له وهذا محرم بالنص وتدليس بضرورة العقل وكل ما كان من الكلام موضوعا في مواضعه التي ذكرنا فهو حق

فإذ لا شك في هذا فلم نحكم لشيء من الباطل بأنه باطل من أجل شبهه بباطل آخر بل ليس أحد الباطلين أولى أن يكون باطلا من سائر الأباطيل بل كل الأباطيل في وقوعها تحت الباطل سواء ولا أحد الحقين أولى أن يكون حقا من حق آخر بل كل حق فهو في أنه حق سواء مع سائر الحقوق كلها وليس شيء من ذلك مقيسا على غيره
والقول مطرد هكذا بضرورة العقل في كل ما في العالم من الشرائع وغيرها فكذلك كل بر فهو بر وكل تمر فهو تمر وكل ما أشبه البر مما ليس برا فليس برا وكل ما أشبه الذهب مما ليس ذهبا فليس ذهبا وكل ما أشبه الحرام مما لم ينه النص عنه فليس حراما وهكذا جميع الأشياء أولها عن آخرها فهذا الذي أتوا به مبطل للقياس لو عقلوا وأنصفوا أنفسهم وبالله تعالى التوفيق
وإنما عول القوم على التمويه والكذب والتلبيس على من اغتر بهم فقالوا إن أصحاب الظاهر ينكرون تماثل الأشياء ثم جعلوا يأتون بآيات وأحاديث ومشاهدات فيها تماثل أشياء
وهذا خداع منهم لعقولهم وما أنكرنا قط تماثل الأشياء بل نحن أعرف بوجوه التماثل منهم لأننا حققنا النظر فيها فأبانها الله تعالى لنا وهم خلطوا وجه نظرهم فاختلط الأمر عليهم وإنما أنكرنا أن نحكم للمتماثلات في صفاتهما من أجل ذلك في الديانة بتحريم أو إيجاب أو تحليل دون نص من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أو إجماع من الأمة فهذا الذي أبطلنا وهو الباطل المحض والتحكم في دين الله تعالى بغير هدى من الله نعوذ بالله من ذلك وقالوا أيضا إن أصحاب الظاهر يبطلون حجج العقول
قال أبو محمد وكذبوا بل نحن المثبتون لحجج العقول على الحقيقة وهم المبطلون لها حقا لأن العقل يشهد أنه يحرم دون الله تعالى ولا يوجب دون الله تعالى شريعة وأنه إنما يفهم ما خطب الله تعالى به حامله ويعرف الأشياء على ما خلقها الله تعالى عليه فقط وهم يحرمون بعقولهم ويشرعون الشرائع بعقولهم بغير نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه و سلم ولا إجماع من الأمة فهذا هو إبطال حجج العقول على الحقيقة وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا بالموازنة يوم القيامة
قال أبو محمد وهذا من أغرب ما أبدوا فيه عن جهلهم وهل هذا إلا نص جلي

وأي شيء من موازنة أعمال العباد وجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته والعفو عن التائب بعد أن أجرم والعفو عن الصغائر باجتناب الكبائر والمؤاخذة بها لمن فعل كبيرة وأصر عليها مما يحتج به في إيجاب تحريم الأرز بالأرز متفاضلا وهل يعقل وجوب هذا من موازنة الأعمال يوم القيامة وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة وجزاء السيئة بمثلها إلا مجنون مصاب
وقالوا أخبرونا عن قولكم بالدليل أبنص قلتموه أم بغير نص فإن قلتم قلناه بنص فأروناه وإن قلتم بغير نص دخلتم فيما عبتم من القياس
قال أبو محمد وقد أفردنا فيما خلا من كتابنا هذا بابا لبيان الدليل الذي نقول به فأغني عن ترداده إلا أننا نقول ههنا جوابا لهم وبالله تعالى التوفيق ما لا يستغني هذا المكان عن إيراده وهو أن الدليل نقول هو المقصود بالنص نفسه وإن كان بغير لفظه كقول الله تعالى { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } فبالضرورة نعلم أنه ليس بسفيه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فصح ضرورة من هذا اللفظ أن كل مسكر حرام
فدليلنا هو النص والإجماع نفسه لا ما سواهما وبالله تعالى التوفيق
وقالوا لا نص في ميراث من بعض حر وبعضه عبد ولا في حده ولا في ديته فما تقولون في ذلك وكذلك نكاحه وطلاقه والجناية عليه ومنه
قال أبو محمد وصاحب هذا الكلام كان أولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم وذلك أن النص ورد بعموم ميراث الأبناء والبنات والآباء والأمهات والإخوة والأخوات والعصبة والأزواج فواجب ألا يخرج عن النص أحد فيمنع الميراث إلا بنص والنص قد صح من حديث علي وابن عباس إن المكاتب إذا أصاب حدا أو دية أو ميراثا ورث وورث منه وأقيم عليه الحد وودي بمقدار ما أدى دية وميراث حر وبمقدار ما لم يؤده دية عبد وميراث عبد فحص أن العبد لا يرث
وقد قال قوم من العلماء إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية وقال آخرون لا شيء لهما من الميراث فكان قول هؤلاء مساقطا لمخالفته النص ولأنه دعوى بلا دليل فلم يبق قول من قال إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية فقلنا به

فهكذا القول في حده وديته إذ قد بطل قول من قال إن حده كحد الحر بحديث ابن عباس في المكاتب إذا في نص ذلك الحديث الفرق بين حد الحر وحد العبد
وأما نكاحه فإن النص جاء بأن كل عبد نكح بغير إذن مواليه فنكاحه عهر والمعتق بعضه ليس عبدا كله ولا حرا كله ولا ينتقل عن حكمه المجمع عليه والثابت عليه بالنص إلا بنص آخر أو إجماع فهو غير خارج عن هذا النص فليس له أن ينكح كسائر المسلمين إلا بإذن من له فيه ملك وطلاقه جائز على عموم النص في المطلقين
وأما جنايته والجناية عليه وشهادته فكالأحرار ولا فرق إذ لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع هذا مع صحة حديث ابن عباس في ميراث المكاتب وديته وحدوده وإن ذلك بمقدار ما فيه من الحرية والرق
وقسموا أنواع القياس فقال بعضهم من القياس قياس المفهوم مثل قياس رقبة الظهار على رقبة القتل قالوا ومنه قياس العلة كالعلة الجامعة بين النبيذ والخمر وهي الإسكار والشدة ومنه قياس الشبه ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس فقالوا هو على الصفات الموجودة في العلة وذلك مثل أن يكون في الشيء خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف وقال آخرون منهم وهو على الصور كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة ويشبه الأحرار في الصور الآدمية وأنه مأمور منهي بالشريعة
قال أبو محمد وكل هذا فاسد باطل متناقض لأنه كله دعاوى باردة بلا دليل على صحة شيء منها ثم تسميتهم قياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل أنه مفهوم وليت شعري بماذا فهموه حتى علموا أنها لا تجزىء إلا مؤمنة هذا وقد خالفهم إخوانهم من القائسين في ذلك من أصحاب أبي حنيفة فلم يفهموا من هذا القياس العجيب ما فهم الشافعي والمالكي وكل ما فهم من كلام فأهل اللغة متساوون في فهمه بلا شك فصار دعواهم للفهم كذبا ثم هلا إذا فهموا أن كلتا الرقبتين سواء مشوا في قياسهم ففهموا أنه يجب التعويض من الصيام في القتل إطعام ستين مسكينا كالتعويض لذلك من صيام الظهار كما تساوى التعويض من رقبتي الظهار والقتل صيام شهرين متتابعين فما هذا التباين في فهم ما لا تقضيه الآية ولا اللغة
وأما قولهم قياس العلة وأن النبيذ مقيس على الخمر فكذب مجرد بارد سمج وجرأة على الله تعالى وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مسكر خمر وكل مسكر حرام

فساوى صلى الله عليه و سلم بين كل مسكر ولم يخص من عنب ولا تمر ولا تين ولا عسل ولا غير ذلك ثم أخبر أن كل مسكر حرام فليست خمر العنب في ذلك بأولى من خمر التين ولا خمر العنب أصلا وغيرها فرعا بل كل ذلك سواء بالنص فظهر برد قولهم وفساده
فإن قالوا فهلا كفرتم من استحل نبيذ التين المسكر كما تكفرون مستحل عصير العنب المسكر
قيل له وبالله تعالى التوفيق إنما كفرنا من استحل عصير العنب المسكر لقيام الحجة بالإجماع ولو استحله جاهل لم يعرف الإجماع في ذلك ما كفرناه حتى يعرفه بالإجماع وكذلك لم نكفر مستحل نبيذ التين لجهله بالحجة في ذلك ولو أنه يصح عنه قول النبي صلى الله عليه و سلم في تحريم كل مسكر على عمومه ثم يستجيز مخالفة النبي صلى الله عليه و سلم لكان كافرا بلا شك وقد أفردنا بعد هذا بابا ضخما في إبطال قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق
وأما قولهم في موازنة صفات التحليل وصفات التحريم فإنا نقول لهم هبكم لو سامحناكم في هذا الهذيان المفترى وماذا تصنعون إذا تساوت عندكم صفات التحريم وصفات التحليل فإن قالوا نغلب التحريم احتياطا
قلنا لهم ولم لا تغلبوا التحليل تيسيرا لقول الله تعالى { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } وإن قالوا نغلب التحليل قيل لهم وهلا غلبتم التحريم
ولقول الله تعالى { كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } فظهر بطلان قولهم وفساده وبالجملة فليس تغليب أحد الوجهين أولى من الآخر وقد قال تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون } فنص تعالى على أن كل محرم ومحلل بغير نص من الله تعالى فهو كاذب ومفتر وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فلو كانت صفة شبه التحريم توجب التحريم وصفة شبه التحليل توجب التحليل لما وجد كلا الأمرين في شيء واحد البتة لأنه كان يجب من ذلك أن يكون الشيء حراما حلالا معا وهذا حمق محال
فصح أن الشبه لا يوجب تحريما ولا تحليلا كثرت الأوصاف بذلك أو قلت

وقد أقدم بعضهم فقال إن الله تعالى قال { يسألونك عن لخمر ولميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل لعفو كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تتفكرون } قالوا غلب تعالى الإثم فحرمها
قال أبو محمد هذا من الجرأة على القول على الله تعالى بغير علم وهذا يوجب إن الله تعالى اعترضه في الخمر والميسر أصلان أحدهما المنافع والثاني الإثم فغلب الإثم هذا هو نص كلامهم وظاهره ومقتضاه وليت شعري من رتب هذا الإثم في الخمر والميسر وقد كانا برهة قبل التحريم حلالين لا إثم فيهما وقد شربها أفاضل الصحابة رضي الله عنهم وأهديت إلى النبي صلى الله عليه و سلم وتنادم الصالحون عليها أزيد من ستة عشر عاما في الأصل صح ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وأبي بن كعب وأبي دجانة وأبي طلحة وأبي أيوب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو بن حرام وغيرهم كلهم شربوا الخمر بعد الهجرة واصطحبها جماعة يوم أحد ممن أكرمهم الله تعالى في ذلك اليوم بالشهادة فهل أحدث الإثم فيها بعد أن لم يكن إلا الله تعالى فأين قول هؤلاء النوكى إن الله تعالى حرمها لأجل الإثم الذي فيها أو لأجل الشدة والإسكار وهل هذا إلا كذب بحت وهل حدث الإثم إلا بعد حدوث التحريم بلا فصل وهل خلط قط عن الشدة والإسكار مذ خلقها الله تعالى فبطل قولهم بتجاذب الأوصاف والحمد لله كثيرا
وأما قولهم في تغليب الصورة الآدمية في العبيد على شبهة البهائم إنه سلعة مملوكة فقول بارد وهلا إذ فعلوا ذلك قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الأحرار على شبهة البهائم وهل هذا كله إلا لهو ولعب وشبيه بالخرافات نعوذ بالله من الخذلان ومن تعدي حدوده ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله وحسبنا الله ونعم الوكيل
وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان

وشنع بعضهم بأن قال إن إبطال القياس مذهب النظام ومحمد بن عبد الله الإسكافي وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر وعيسى المراد وأبي عفار وبعض الخوارج وإن من هؤلاء من يقول إن بنات البنين حلال وكذلك الجدات وكذلك دماغ الخنزير
قال أبو محمد ولسنا ننكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ونقولها أيضا نحن ولكن إذا ذكروا هؤلاء فلا تنسوا القائلين بقولهم القياس أبا الهذيل العلاف وأبا بكر بن كيسان الأصم وجهم بن صفوان وبشر بن المعتمر ومعمرا وبشرا المريسي والأزارقة وأحمد بن حائط ومن هؤلاء من يقول بقياس الأطفال على الكبار وأنهم نسخت أرواحهم في الأطفال وبالقياس على قوم نوح فأباحوا قتل الأطفال وقاسوا فناء الجنة والنار على فناء الدنيا وغير ذلك من شنيع الأقوال
فهذا كل ما موهوا به في نص القياس قد تقصيناه والحمد لله ولم ندع منه بقية وبينا بعون الله أنه لا حجة لهم بوجه من الوجوه ولا متعلق في شيء منه البتة وأنه كله عائد عليهم ومبطل لقولهم في إثبات القياس وقد كان هذا يكفي من تكلف إبطال القياس لأن كل قول لا يقوم بصحته برهان فهو دعوى ساقطة ولكنا لا نقطع بذلك حتى نورد بحول الله البراهين القاطعة على إبطال القياس والقول به

فصل في إبطال القياس
وهذا حين نأخذ في إبطال القياس بالبراهين الضرورية إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد ويقال للقائلين بالقياس أليس قد بعث الله عز و جل محمدا صلى الله عليه و سلم رسولا إلى الإنس والجن فأول ما دعاهم إليه فقول لا إله إلا الله ورفض كل معبود دون الله تعالى ومن وثن وغيره وأنه رسول الله فقط لم يكن في الدين شريعة غير هذا أصلا لا إيجاب حكم ولا تحريم شيء
فمن قولهم وقول كل مسلم وكافر نعم هذا أمر لا شك فيه عند أحد فإذ هذا لا خلاف فيه ولا شك فيه ولا ينكره أحد فقد كان الدين والإسلام لا تحريم فيه ولا إيجاب ثم أنزل الله تعالى الشرائع فما أمر به فهو واجب وما نهى عنه فهو حرام ومالم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي
أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه أو حرم ما لا نص بالنهي عنه قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال ما لا يحل القول به وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض فيه
ثم يقال لهم أيضا وبالله تعالى التوفيق فماذا يحتاج إلى القياس أفيما نص عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم أم فيما لم ينص عليه فإن قالوا فيما نص عليه فارقوا الإجماع وقاربوا الخروج عن الإسلام لأنه لم يقل بهذا أحد وهو مع ذلك قول لا يمكن أحد أن يقوله لأنه لا قياس إلا على أصل يرد ذلك الفرع إليه ولا أصل إلا نص أو إجماع فصح على قولهم أن القياس إنما هو مردود إلى النص

وإن قالوا فيما لم ينص عليه فقلنا وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وقال تعالى { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } وقال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقال صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع اللهم هل بلغت قالوا نعم
قال اللهم اشهد
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن مرة الهمداني قال قال عبد الله بن مسعود من أراد العلم فليثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين هكذا رويناه عن مسروق والزهري أنه ليس شيء اختلف فيه إلا وهو في القرآن فصح بنص القرآن أنه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه فلا حاجة بأحد إلى القياس
فإن قالوا إنما نقيس النوازل من الفروع على الأصول
قال أبو محمد وهذا لأنه ليس في الدين إلا واجب أو حرام أو مباح ولا سبيل إلى قسم رابع البتة فأي هذه أصل وأي هذه فرع فبطل قولهم وصح أن أحكام الدين كلها أصول لا فرع فيها وكلها منصوص عليه فلما اختلف الناس قط إلا في الأصول كالوضوء والصلاة والزكاة والحج والحرام من البيوع والحلال منها وعقود النكاح والطلاق وما أشبه ذلك
فإن قالوا لسنا ننكر أن الله تعالى لم يفرط في الكتاب من شيء ولا أن النبي صلى الله عليه و سلم بين ولكن النص والبيان ينقسم قسمين أحدهما نص على الشيء باسمه والثاني نص عليها بالدلالة وهذا هو الذي نسميه قياسا وهو التنبيه على علة الحكم فحيثما وجدت تلك العلة حكم بها
قالوا وهذا هو الاختصار وجوامع الكلم التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه و سلم
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا هو الباطل لأن الذي تذكرون دعوى بلا دليل وتلك الدلالة تخلو من أن تكون موضوعة في اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن لذلك المعنى بعينه

فهذا غير قولكم وهذا هو القسم الأول من النص على الشيء باسمه فلا تموهوا فتجعلوا النص قسمين أو تكون تلك الدلالة غير موضوعة في اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن لذلك المعنى فإن كانت كذلك فهذا هو التلبيس والتخليط الذي تنزه الله تعالى ونزه رسوله صلى الله عليه و سلم عنه ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه و سلم
وهذا برهان ضروري ولا محيد عنه بين لا إشكال فيه على من له أقل فهم وليس هذا طريق اختصار ولا تنبيه ولا بيان ولكنه خبط وإشكال وإفساد وتدليس
ولا تنبيه ولا بيان فيمن يريد أن يعلمنا حكم الصداق فلا يذكر صداقا ويدلنا على ذلك بما نقطع فيه اليد أو يريد الأكل فيذكر الوطء أو يريد الجوز فيذكر الملح أو يريد المخطىء فيذكر المتعمد وهذا تكليف ما لا يطاق وإلزام لعلم الغيب والكهانة وإيجاب للحكم بالظن الكاذب تعالى الله عن ذلك وتنزه رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه
وإنما الاختصار وجوامع الكلم والتنبيه أن يأتي إلى المعنى الذي يعبر عنه بألفاظ كثيرة فيبينه بألفاظ مختصرة جامعة يسيرة لا يشذ عنها شيء من المراد بها البتة ولا تقتضي من غير المراد بها شيئا أصلا فهذا هو حقيقة الاختصار والبيان والتنبيه
وذلك مثل قول الله تعالى { لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين } فدخل تحت هذا اللفظ مالو تقصى لملئت منه أسفار عظيمة من ذكر قطع الأعضاء عضوا عضوا وكسرها عضوا عضوا والجراحات جرحا جرحا والضرب هيئة هيئة وذكر أحد الأموال وسائر ما يقتضيه هذا المعنى من تولي المجني عليه للاقتصاص ونفاذ أمره في ذلك
ومثل قوله صلى الله عليه و سلم جرح العجماء جبار وسائر كلامه صلى الله عليه و سلم
وأما من إسقاط معاني أرادها فلم يذكرها بالاسم الموضوع لها في اللغة التي بها خوطبنا وطمع أن يدل عليها باسم غير موضوع لها في اللغة فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين والتخليط على المسلمين لا فعل رب العالمين وخاتم النبيين
وبالله تعالى نستعين
فإن قالوا لسنا نقول إنه تنزل نازلة لا توجد في القرآن والسنة لكنا نقول إنه يوجد حكم بعض النوازل نصا وبعضها بالدليل

قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذا حق ولكن إذا كان هذا الدليل الذي تذكرون لا يحتمل إلا وجها واحدا
فهذا قولنا لا قولكم وأما إن كان ذلك الدليل يحتمل وجهين فصاعدا فهذا ينقسم على قسمين إما أن يكون هنالك نص آخر بين مراد الله تعالى من ذينك الوجهين فصاعدا بيانا جليا أو إجماع كذلك فهذا هو قولنا والنص بعينه لم نزل عنه وإما ألا يكون هنالك نص آخر ولا إجماع يبين بأحدهما مراد الله عز و جل من ذلك فهذا إشكال وتلبيس تعالى الله عن ذلك ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى شيء من دين الله تعالى الذي قد بينه غاية البيان رسوله صلى الله عليه و سلم
فإن قالوا إن التشابه بين الأدلة هو أحد الأدلة على مراد الله تعالى
قيل لهم هذه دعوى تحتاج إلى دليل يصححها وما كان هكذا فهو باطل بإجماع ولا سبيل إلى وجود نص ولا إجماع يصحح هذه الدعوى ولا فرق بينها وبين من جعل قول إنسان من العلماء بعينه دليلا على مراد الله تعالى في تلك المسألة وكل هذا باطل وافتراء على الله تعالى
وأيضا فإنهم في التشابه الموجب للحكم مختلفون فبعضهم يجعل صفة ما علة لذلك الحكم وبعضهم يمنع من ذلك ويأتي بعلة أخرى وهذا كله تحكم بلا دليل
وقد صحح بعضهم العلة بطردها في معلولاتها وهذا تخليط تام لأن الطرد إنما يصحح بعد صحة العلة لأن الطرد إنما هو فرع يوجبه صحة العلة وإلا فهو باطل ومن المحال ألا يصح الأصل إلا بصحة الفروع
وأيضا فإنهم إذا اختلفوا في طرد تلك العلة فليس من طردها ليصححها بأولى ممن لم يطردها ليبطلها وطرد غيرها وهذا كله تحكم في الدين لا يجوز وذلك نحو طرد الشافعي علة الأكل في الربا ومنع أبي حنيفة ومالك من ذلك وطرد أبي حنيفة علة الوزن والكيل ومنع مالك والشافعي من ذلك وطرد مالك علة الادخار والأكل ومنع أبي حنيفة والشافعي من ذلك
فإن قالوا فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها
قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه و سلم إذ لم ندع لكم الواحد فالواحد منه الإحاطة بجميع الفتن لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة فكيف ونحن نأتيكم

بنص واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة وهو الخبر الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله صلى الله عليه و سلم دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فصح نصا أن ما لم يقل فيه النبي صلى الله عليه و سلم فليس واجبا لأنه لم يأمر به وليس حراما لأنه لم ينه عنه فبقي ضرورة أنه مباح فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي فيه بنهي من النبي صلى الله عليه و سلم فإن جاء سمعنا وأطعنا وإلا فقوله باطل ومن ادعى فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي صلى الله عليه و سلم فإن جاء به سمعنا وأطعنا وإن لم يأت به فقوله باطل وصح بهذا النص أن كل ما أمر به صلى الله عليه و سلم فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك وأن كل ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه صلى الله عليه و سلم أنه مكروه أو ندب فقط فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة
ثم نعكس عليهم هذا السؤال وهذا القول فنقول لهم أنتم تقولون لا نازلة إلا ولها نظير في القرآن أو السنة فنحن نعكس السؤال عن تلك النوازل التي تريدون سؤالنا عنها من دينار وقع في محبرة وسائر تلك الحماقات فأرونا نظائرها في القرآن والسنة وأنتم تقرون أنه لا نصوص فيها فخبرونا كيف تصنعون فيها أتحكمون فيها بقولكم فهذا دينكم لا دين الله ففي هذا ما فيه فظهر فساد كل سؤال لهم والحمد لله رب العالمين كثيرا
وقال من سلف من أصحابنا رحمهم الله يقال لمن قال بالقياس قد أجمعتم أنتم وجميع المسلمين بلا خلاف من أحد منهم على أن الأحكام كلها في الديانة جائز أن تؤخذ نصا واتفقوا كلهم بلا خلاف من واحد منهم لا من القائلين بالقياس ولا من غيرهم على أن أحكام الديانة كلها لا يجوز أن تؤخذ قياسا ولا بد عندهم من نص يقاس عليه فيقال لأصحاب القياس عندكم حقا فمن ههنا ابدؤوا به فقيسوا ما اختلفنا فيه من المسائل التي جوزتم القياس فيها ومنعنا نحن منها على ما اتفقنا عليه من المسائل التي أقررتم أنها لا يجوز أن تؤخذ قياسا فإن لم تفعلوا فقد تركتم القياس وإن فعلتم تركتم القياس ولسنا نقول إن هذا العمل صحيح عندنا ولكن صحيح على أصولكم ولا أبطل من قول نقض بعضه بعضا
ويقال لهم وجدنا مسائل كثيرة قد أجمعتم وأنتم وجميع الأمة على ترك القياس فيها

كقاتل تاب قبل أن يقدر عليه وندم فلا يسقط عنه القصاص عند أحد ولم تقيسوا ذلك على محارب تاب قبل أن يقدر عليه فالحد في الحرابة عنه ساقط وكذلك اتفقوا على ألا يقاس الغاصب على السارق وكلاهما أخذ مالا محرما عمدا أو كترك قياس تعويض الإطعام من الصيام في قتل الخطأ على تعويضه من الصيام في الظهار ومثل هذا كثير جدا بل هو أكثر مما قاسوا فيه فلو كان القياس حقا ما جاز الإجماع على تركه كما لا يجوز الإجماع على ترك الحق الذي هو القرآن أو كلام الرسول صلى الله عليه و سلم مما صح عنه فإنه لم يجمع قط على ترك شيء منه إلا لنص آخر ناسخ له فقط وهذا يوجب بطلان القياس ضرورة
ويقال لهم أخبرونا عن القياس أيخلو عندكم أن يحكم للشيء الذي لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الذي فيه نص أو إجماع إما لعلة فيهما معا هي في المحكوم فيه علامة الحكم وإما لنوع من الشبه بينهما وإما مطارفة لا لعلة ولا لشبه ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا فإن قالوا مطارفة لا لعلة ولا لشبه كفونا مؤنتهم وصار قائل هذا ضحكة ومهزأة ولم يكن أيضا أولى بما يحكم به من غيره يحكم في ذلك الأمر بحكم آخر وهذا ما لا يقوله أحد منهم
فإن قالوا بل لنوع من الشبه قيل لهم وما دليلكم على أن ذلك النوع من الشبه يجب به ذلك الحكم ولا سبيل إلى وجود ذلك الدليل وتعارضون أيضا بشبه آخر يوجب حكما آخر وهذا أبدا
فإن قالوا بل لعلة جامعة بين الحكمين سألناهم ما الدليل على أن الذي تجعلونه علة الحكم هي علة الحقيقة فإن ادعوا نصا فالحكم حينئذ للنص ونحن لا ننكر هذا إذا وجدناه
فإن قالوا غير النص قلنا هذا الباطل والدعوى التي لا برهان على صحتها وما كان هكذا فهو ساقط بنص القرآن وبحكم الإجماع والعقول وإن قالوا طرد حكم العلة دليل على صحتها قيل لهم طردكم أنتم أو طرد أهل الإسلام
فإن قالوا طرد أهل الإسلام قيل هذا إجماع لا خلاف فيه ولسنا نخالفكم في صحة الإجماع إذا وجد يقينا وإن قالوا بل طردنا نحن قيل لهم ما طردكم أنتم حجة على أحد فهاتوا برهانكم على صحة دعواكم إن كنتم صادقين وهذا ما لا مخلص منه أصلا
والحمد الله رب العالمين

قال أبو محمد وقال جاءت نصوص بإبطال القياس
فمن ذلك قول الله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تقدموا بين يدي لله ورسوله وتقوا لله إن لله سميع عليم } وقال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقال تعالى { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } وقال تعالى { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } وهذه نصوص مبطلة للقياس وللقول في الدين بغير نص لأن القياس على ما بينا قفو لما لا علم لهم به وتقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم واستدراك على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ما لم يذكراه
فإن قال أهل القياس فلعل إنكاركم للقياس قول بغير علم وقفو لما لا علم لكم به وتقدم بين يدي الله ورسوله
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق نحن نريكم إنكارنا للقياس أنه قول بعلم وبنص وبيقين وذلك أن الله عز و جل قال { ولله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة لعلكم تشكرون } فصح يقينا لا شك فيه أن الناس خرجوا إلى الدنيا لا يعلمون شيئا أصلا بنص كلام الله عز و جل
وقال تعالى { كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } فصح يقينا أن الله أرسل محمدا رسوله صلى الله عليه و سلم إلينا ليعلمنا ما لم نعلم
فصح ضرورة أن ما علمنا الرسول صلى الله عليه و سلم من أمور الدين فهو الحق وما لم يعلمنا منها فهو الباطل وحرام القول به وقال تعالى يعني به إبليس اللعين { إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } وقال تعالى { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون }

فصح بنص القرآن أننا خرجنا إلى الدنيا لا نعلم شيئا ثم حرم علينا القول على الله تعالى بما لا نعلم وأخبرنا تعالى أن إبليس يأمرنا بأن نقول على الله ما لا نعلم فقد صح بهذه النصوص ضرورة أن القول بقياس وبغير القياس كمن أثبت العنقاء والغول والكيميا وكقول الروافض في الإمام وكقول من قال بالإلهام وكل هذا فالقول به على الله تعالى في الدين حرام
مقرون بالشرك أمر من أمر إبليس
إلا ما علمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم
فهو الحق الذي نقوله على الله تعالى
ولا يحل لنا أن نقول عليه غيره فإذ لم يأمرنا عليه السلام بالقياس فهو حرام من أمر الشيطان بلا شك وقد بينا فيما خلا كل ما شغبوا مما أرادوا التمويه به فيه بالحديث فحرم القول بالقياس البتة
وبهذا بطل كل قول بلا برهان على صحته حتى لو لم يقيم برهان بإبطاله فلو لم يكن لنا برهان على إبطال القياس لكان عدم البرهان على إثباته برهانا في إبطاله لأن الفرض علينا ألا نوجب في الدين شيئا إلا ببرهان وإذ ذلك كذلك فالفرض علينا أن نبطل كل قول قيل في الدين حتى يقوم برهان بصحته وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق
وقد اعترض بعضهم في قول الله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } بما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الخميس قبل موته صلى الله عليه و سلم بأربعة أيام ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي وبما روي عن عائشة رضي الله عنها قولها لم يكن الوحي قط أكثر منه قبيل موت النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا هذه أشياء زائدة على ما كان حين قوله تعالى في حجة الوداع { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم }
واعترض آخرون من أهل الجهل على الحديث المذكور بالآية المذكورة وصوبوا فعل عمر وقوله في ذلك اليوم
قال أبو محمد وهذان الاعتراضان من هاتين الطائفتين لا يشبهان اعتراض المسلمين وإنما يشبهان اعتراض أهل الكفر والإلحاد وبعيد عندنا أن يعترض بها مسلم صحيح الباطن لأن الطائفة الأولى مكذبة لله عز و جل في قوله إنه أكمل ديننا مدعية أنه

كانت هنالك أشياء لم تكمل والطائفة الثانية مجهلة لرسول الله صلى الله عليه و سلم مدعية عليه الكذب في أمر الكتاب الذي أراد أن يكتبه أو التخطيط في كلامه وأن قول عمر أصوب من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلا هذين القولين كفر مجرد
وكل هذه النصوص حق لا تعارض بين شيء منها بوجه من الوجوه لأن الآية المذكورة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع قبل موته صلى الله عليه و سلم بثلاثة أشهر وحتى لو نزلت بعد ذلك شرائع لما كان نزولها معارضا للآية المذكورة لأن الدين في كل وقت تام كامل ولله تعالى أن يمحو من الدين ما يشاء وأن يزيد فيه وأن يثبت وليس ذلك لغيره بل قد صح أمر النبي صلى الله عليه و سلم قبيل موته بساعة بإخراج الكفار من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان ولمن يكن هذا الشرع ورد قبل ذلك
ولو ورد لما أقرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما غرضنا في هذه الآية أن الله تعالى تولى إكمال الدين وما أكمله الله تعالى فليس لأحد أن يزيد فيه رأيا ولا قياسا لم يزدهما الله تعالى في الدين وهذا بين
وبالله تعالى التوفيق
وأما أمر الكتاب الذي أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكتبه يوم الخميس قبل وفاته صلى الله عليه و سلم بأربعة أيام فإنما كان في النص على أبي بكر رضي الله عنه ولقد وهل عمر وكل من ساعده على ذلك وكان ذلك القول منهم خطأ عظيما ولكنهم الخير أرادوا فهم معذورون مأجورون وإن كانوا قد عوقبوا على ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم بالخروج عنه وإنكاره عليهم التنازع بحضرته
ولقد ولد الامتناع من ذلك الكتاب من فرقة الأنصار يوم السقيفة ما كاد يكون فيه بوار الإسلام لولا أن الله تداركنا بمنه وولد من اختلاف الشيعة وخروج طوائف منهم عن الإسلام أمرا يشجي نفوس أهل الإسلام فلو كتب ذلك الكتاب لانقطع الاختلاف في الإمامة ولما ضل أحد فيها لكن يقضي الله أمرا كان مفعولا
وقد أبى ربك إلا ما ترى
وهذه زلة عالم نعني قول عمر رضي الله عنه يومئذ قد حذرنا من مثلها وعلى كل حال فنحن نثبت ونقطع ونوقن ونشهد بشهادة الله تعالى ونبرأ من كل من لم يشهد بأن الذي أراد صلى الله عليه و سلم أن يمله في ذلك اليوم في الكتاب الذي أراد أن يكتبه لو كان شرعا زائدا من تحريم شيء لم يتقدم تحريمه أو تحليل شيء تقدم تحريمه أو إيجاب

شيء لم يتقدم إيجابه إو إسقاط إيجاب شيء تقدم إيجابه لما ترك صلى الله عليه و سلم بيانه ولا كتابه لقول عمر ولا لقول أحد من الناس
فصح ضرورة أنه فيما قد علم بوحي الله تعالى إليه أنه سيتم من ولاية أبي بكر وذلك بين قوله صلى الله عليه و سلم في حديث عائشة الذي قد ذكرنا قبل ويأبى الله والمؤمنون وروي أيضا والنبيون إلا أبا بكر فوضح البرهان بصحة قولنا يقينا
والحمد لله كثيرا
وأما تتابع الوحي فإنما كان بلا شك تأكيدا في التزام ما نزل من القرآن قبل ذلك
ومثل ما روي من { إذا جآء نصر لله ولفتح ورأيت لناس يدخلون في دين لله أفواجا } ونزول { وتقوا يوما ترجعون فيه إلى لله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وآية الكلالة التي قد تقدم حكمها
فصح أنه لا تعارض بين شيء من هذه النصوص
والحمد لله رب العالمين
فإن قالوا فأرونا كل نازلة تنزل على ما تقولون في نص القرآن والسنة
قلنا لهم نعم وبالله تعالى التوفيق وهذا واجب علينا وأول ذلك أن نقرر ما الديانة وهي أن نقول إن أحكام الشريعة كلها أولها عن آخرها تنقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها وهي فرض لا بد من اعتقاده والعمل به مع ذلك وحرام لا بد من اجتنابه قولا وعقدا وعملا وحلال مباح فعله ومباح تركه
وأما المكروه والمندب إليه فداخلان تحت المباح على ما بينا قبل لأن المكروه لا يأثم فاعله ولو أثم لكان حراما ولكن يؤجر فاعله
والمندوب إليه لا يأثم تاركه ولو أثم لكان فرضا ولكن يؤجر فاعله
فهذه أقسام الشريعة بإجماع من كل مسلم وبضرورة وجود العقل في القسمة الصحيحة إلى ورود السمع بها فإذ لا شك في هذا فقد قال الله عز و جل { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } وقال تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين } فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكمل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه اسمه نصا عليه في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه و سلم المبلغ عن ربه عز و جل والمبين لما أنزل عليه

وفي إجماع الأمة كلها المنصوص على اتباعه في القرآن وهو راجع إلى النص على ما بينا قبل فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي عنه أو الإجماع باسمه حرمناه وإن لم نجد شيئا منصوصا على النهي عنه باسمه ولا مجمعا عليه فهو حلال بنص الآية الأولى
وقد أكد الله تعالى هذا في غير ما موضع من كتابه فقال عز و جل { يأيها لذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل لله لكم ولا تعتدوا إن لله لا يحب لمعتدين } فبين الله تعالى أن كل شيء حلال لنا إلا ما نص على تحريمه ونهانا عن اعتداء ما أمرنا تعالى به فمن حرم شيئا لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم على تحريمه والنهي عنه ولا أجمع على تحريمه فقد اعتدى وعصى الله تعالى ثم زادنا تعالى بيانا فقال { قل هلم شهدآءكم لذين يشهدون أن لله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء لذين كذبوا بآياتنا ولذين لا يؤمنون بلآخرة وهم بربهم يعدلون } فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم فهو حلال لا يحل لأحد أن يشهد بتحريمه
وقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } فبين الله تعالى أن ما أمرنا به في القرآن أو على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم فهو واجب طاعته وضد الطاعة المعصية فمن لم يطع فقد عصى ومن لم يفعل ما أمر به فلم يطع ونهانا عن أن نسأل عن شيء جملة البتة ولم يدعنا في لبس أن يقول قائل إن هذه الآية نزلت في السؤال عن مثل ما سأل عنه عبد الله بن حذافة من أبى فأكذب الله ظنونهم لكن قال الله تعالى { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } فصح أن ذلك في الشرائع التي يكفر في جحدها ويضل من تركها فصح أن ما لم يأت به نص أو إجماع فليس واجبا علينا

فأي شيء بقي بعد هذا وهل في العالم نازلة تخرج من أن يقول قائل هذا واجب فنقول له إن أتيت على إيجابه بنص من القرآن أو بكلام صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو إجماع فسمعا وطاعة وهو واجب ومن أبى عن إيجابه حينئذ فهو كافر وإن لم يأت على إيجابه بنص ولا إجماع فإنه كاذب وذلك القول ليس بواجب أو يقول قال هذا حرام فنقول له إن أتيت على النهي عنه بنص أو إجماع فهو حرام وسمعا وطاعة ومن أراد استباحته حينئذ فهو آثم كاذب عاص وإن تأت على النهي عنه بنص ولا إجماع فأنت كاذب وذلك الشيء ليس حراما
فهل في العالم حكم يخرج عن هذا فصح أن النص مستوعب لكل حكم يقع أو وقع إلى يوم القيامة ولا سبيل إلى نازلة تخرج عن هذه الأحكام الثلاثة وبالله تعالى التوفيق
ثم قد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل ما جاءت به هذه الآيات كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
قال أبو محمد فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا بين فيه صلى الله عليه و سلم أنه إذا نهى عن شيء فواجب أن يجتنب وأنه إذا أمر بأمر فواجب أن يؤتى منه حيث بلغت الاستطاعة وأن ما لم ينه عنه ولا أمر به فواجب ألا يبحث عنه في حياته صلى الله عليه و سلم وإذ هذه صفته ففرض على كل مسلم ألا يحرمه ولا يوجبه وإذا لم يكن حراما ولا واجبا فهو مباح ضرورة إذ لا قسم إلا هذه الأقسام الثلاثة فإذا بطل منها اثنان وجب الثالث ولا بد ضرورة وهذه قضية النص وقضية السمع وقضية العقل التي لا يفهم العقل غيرها إلا الضلال والكهانة والسخافة التي يدعيها أصحاب القياس أنهم يفهمون من الوطء الأكل ومن الثمر الجلوز ومن قطع السرقة مقدار الصداق وحسبنا الله ونعم الوكيل
ثم نعكس عليهم سؤالهم فنقول لهم إذا جوزتم وجود نوازل لا حكم لها في قرآن ولا سنة فقولوا لنا ماذا تصنعون فيها فهذا لازم لكم وليس يلزمنا لأن هذا عندنا باطل معدوم لا سبيل إلى وجوده أبدا فأخبرونا إذا وجدتم تلك النوازل أتتركون الحكم

فيها فليس هذا قولكم أم تحكمون فيها ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن حكمتم فيها فأخبرونا عن حكمكم فيها أبحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه و سلم حكمتم فيها فإن قلتم نعم قلنا قد تناقضتم لأنكم قلتم ليس فيها نص بحكم الله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه و سلم وقد كذب آخر قولكم أوله وإن قلتم بغير حكم الله تعالى أو بغير حكم رسوله صلى الله عليه و سلم نحن برآء إلى الله تعالى من كل حكم في الدين لم يحكم به الله عز و جل وفي هذا كفاية لمن عقل فوضح لنا وبطل ما سواه والحمد لله رب العالمين
وبهذا جاءت الأحاديث كلها مؤكدة متناصرة كما ثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن زيد المقرىء ثنا سعيد ثنا عقل عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته فنص صلى الله عليه و سلم كما تسمع أن كل ما لم يأت به تحريم من الله تعالى فهو غير محرم
وهكذا أخبر صلى الله عليه و سلم في الواجب أيضا كم ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون ثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا
فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه
قال أبو محمد فنص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن ما لم يوجبه فهو غير واجب وما أوجبه بأمره فواجب ما أستطيع منه وأن ما لم يحرمه فهو حلال وأن ما نهى عنه فهو حرام فأين للقياس مدخل والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها وبالله تعالى التوفيق
وقال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم }

قال أبو محمد فصح بالنص أن كل ما لم ينص عليه فهو شيء لم يأذن به الله تعالى وهذه صفة القياس وهذا حرام
وقال تعالى { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بلكتاب لتحسبوه من لكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند لله ويقولون على لله لكذب وهم يعلمون }
قال أبو محمد فكل ما ليس في القرآن والسنة منصوصا باسمه واجبا مأمورا به أو منهيا عنه فمن أوجبه أو جرمه أو خالف لما جاء به النص فهو من عند غير الله تعالى والقياس غير منصوص على الأمر به فيهما فهو من عند غير الله تعالى وما كان من عند غير الله تعالى فهو باطل
وقال تعالى { يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا } وقد علمنا ضرورة أن الله تعالى إذا حرم بالنص شيئا فحرم إنسان شيئا غير ذلك قياسا على ما حرم الله تعالى أو أحل بعض ما حرم الله قياسا أو أوجب غير ما أوجب الله تعالى قياسا أو أسقط بعض ما أوجب الله تعالى قياسا فقد تعدى حدود الله تعالى فهو ظالم بشهادة الله تعالى عليه بذلك
وقد قال تعالى { فبدل لذين ظلموا قولا غير لذي قيل لهم فأنزلنا على لذين ظلموا رجزا من لسمآء بما كانوا يفسقون }
قال أبو محمد وهذه كالتي قبلها سواء بسواء
وقال تعالى { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم لله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من لله وما لله بغافل عما تعملون }
قال أبو محمد ومن استدرك برأيه وقياسه على ربه تعالى شيئا من الحرام والواجب لم يأت بتحريمها ولا إيجابها نص فقد دخل تحت هذه العظيمة المذكورة في هذه الآية ونحمد الله تعالى على توفيقه لا إله إلا هو

وقال تعالى يصف كلامه { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وقال تعالى { فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } وقال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
قال أبو محمد فنص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس ولا إلى رأي ولا إلى قياس لكن إلى نص القرآن وإلى رسوله صلى الله عليه و سلم فقط وما عداهما فضلال وباطل ومحال
وقال تعالى { ومن لإبل ثنين ومن لبقر ثنين قل ءآلذكرين حرم أم لأنثيين أما شتملت عليه أرحام لأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم لله بهذا فمن أظلم ممن فترى على لله كذبا ليضل لناس بغير علم إن لله لا يهدي لقوم لظالمين }
قال أبو محمد فصح أن كل ما لم يأتنا به وصية من عند الله عز و جل فهو افتراء على الله كذب وناسبه إلى الله تعالى ظالم ولم تأتنا وصية قط من قبله تعالى بالحكم بالقياس فهو افتراء وباطل وكذب بل جاءتنا وصاياه عز و جل بألا نتعدى كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم وألا نحرم ولا نوجب إلا ما أوجبا وحرما ونهيا فقط فبطل كل ما عدا ذلك والقياس مما عدا ذلك فهو باطل
وقال تعالى { أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك لكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } فأوجب تعالى أن يكتفى بتلاوة الكتاب وهذا هو الأخذ بظاهره وإبطال كل تأويل لم يأت به نص أو إجماع وألا نطلب غير ما يقتضيه لفظ القرآن فقط
وقال تعالى { وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } وقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فلم يبح الله تعالى عند التنازع والاختلاف أن يتحاكم أو يرد إلا إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه و سلم فقط لا إلى أحد دون النبي صلى الله عليه و سلم ولا إلى رأي ولا قياس فبطل كل هذا بطلانا متيقنا والحمد لله رب العالمين على توفيقه هذا مع شدة شرط

الله تعالى بقوله { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فلقد يجب على كل مسلم قامت عليه الحجة أن يهاب لحقوق هذه الصفة به وفرض عليه ألا يقتدي بمن سلف ممن تأول فخطأ فليس من قامت عليه الحجة كمن لا ندري أقامت عليه الحجة أم لم تقم إلا أننا نحسن الظن بهم كما نحسنه بسائر المؤمنين والله أعلم بحقيقة أمر كل أحد
وقال تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون } فحرم تعالى الحكم في الشيء من الدين بتحريم أو تحليل وسمى من فعل ذلك كاذبا وفعله كذبا إلا أن يحرمه الله أو يحلله الله في النص أو الإجماع وقال تعالى { قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون } فسمى تعالى من حرم بغير إذن من الله تعالى في تحريم ذلك الشيء أو حلل بغير إذن من الله في تحليله مفتريا وهذه صفة القائسين المحرمين المحللين الموجبين بالقياس بغير إذن من الله تعالى
وقال تعالى { فلا تضربوا لله لأمثال إن لله يعلم وأنتم لا تعلمون } فنص تعالى على ألا تضرب له الأمثال وهذا نص جلي على إبطال القياس وتحريمه لأن القياس ضرب أمثال للقرآن وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه النص ومن مثل ما لم ينص الله تعالى على تحريمه أو إيجابه بما حرمه الله تعالى وأوجبه فقد ضرب له الأمثال وواقع المعصية نعوذ بالله من ذلك ونص تعالى على أنه يعلم ونحن لا نعلم فلو علم تعالى أن الذي لم ينص عليه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك وما أغفله وما ضيعه قال تعالى { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } وقال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم } فصح أن العربية بها أرسل الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم فبهذا بين لنا وقال تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم فعن الله تعالى بينه وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن البر لا يسمى تبنا

وأن الملح لا يسمى زبيبا وأن التمر لا يسمى أرزا وأن الشعير لا يسمى بلوطا ولا الواطىء آكلا ولا الآكل واطئا ولا القاتل مظاهرا ولا المظاهر قاتلا ولا المعرض قاذفا
فإذ قد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره ولم يبعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالعربية التي ندريها
فقد علمنا يقينا أنه صلى الله عليه و سلم إذا نص في القرآن أو كلامه على اسم ما بحكم ما فواجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم فقط ولا نتعدى به الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه وألا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم ويقع عليه فالزيادة على ذلك في الدين وهو القياس والنقص منه نقص من الدين وهو التخصيص وكل ذلك حرام بالنصوص التي ذكرنا فسبحان من خص أصحاب القياس بكلا الأمرين فمرة يزيدون إلى النص ما ليس فيه ويقولون هذا قياس ومرة يخرجون من النص بعض ما يقتضيه ويقولون هذا خصوص ومرة يتركونه كله ويقولون ليس عليه العمل والعبرة معترضة عليه كما فعل الحنفيون في حديث المصراة والإقراع بين الأعبد وكما فعل المالكيون في حديث تمام الصوم لمن أكل ناسيا وحديث الحج على المريض البائس والميت وغير ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال الله تعالى { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى }
قال أبو محمد والقياس اسم في الدين لم يأذن به الله تعالى ولا أنزل به سلطانا وهو ظن منهم بلا شك لتجاذبهم علل القياسات بينهم كتعليلهم الربا بالأكل وقال آخرون منهم بالكيل والوزن وقال آخرون بالادخار وهذه كلها ظنون فاسدة وتخاليط وأسماء لم يأذن تعالى بها ولا أنزل بها سلطانا
وقال تعالى { فخلف من بعدهم خلف ورثوا لكتاب يأخذون عرض هذا لأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق لكتاب أن لا يقولوا على لله إلا لحق ودرسوا ما فيه ولدار لآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } وقال تعالى { ويحق لله لحق بكلماته ولو كره لمجرمون } فنص تعالى على ألا يقال عليه إلا الحق وأخبر تعالى أنه يحق الحق بكلماته فما لم يأتنا كلام الله تعالى بأنه حق من الدين فهو باطل لا حق

وقال تعالى حكاية عن رسله صلى الله عليهم وسلم { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن لله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن لله وعلى لله فليتوكل لمؤمنون }
قال أبو محمد فنص الله تعالى عن الأنبياء الصادقين أنه ليس لهم أن يأتوا بسلطان إلا بإذن الله تعالى والسلطان الحجة بلا شك فكل حجة لم يأذن الله تعالى بها في كلامه فهو باطل ولم يأذن قط تعالى في القياس فهو باطل
وقال تعالى { ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } وقال تعالى { لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور }
فأنكر تعالى غاية الإنكار أن يجعل أحد أمه غير التي ولدته ولا أن يجعل ابنه إلا ولده وهو تعالى قد جعل أمهاتنا من لم تلدنا كنساء النبي صلى الله عليه و سلم واللواتي أرضعتنا وجعل أبناءنا من لم تلده كنحن لنساء النبي صلى الله عليه و سلم وكمن أرضعه نساءنا بألباننا
فصح بالنص أن الشيء إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال منكرا من القول وزورا وأنه ليس لأحد أن يقول بغير ما لم يقل الله تعالى به
وفي هذا كفاية لمن جعلنا نحن وهم نساء النبي صلى الله عليه و سلم أمهاتنا في التحريم كما جاء النص فقط
ثم لم نقس على ذلك رؤيتهن كما نرى أمهاتنا بل حرم ذلك علينا ولا قسنا إخوتهم وبنيهم على أخوال الولادة وإخوة الولادة
بل حل لهم نكاح نساء المسلمين وحل لرجال المسلمين نكاح إخواتهن وبناتهن فبطل حكم القياس يقينا وصح لزوم النص فقط وألا يتعدى أصلا
وفي آية واحدة مما ذكرنا كفاية لمن اتقى الله عز و جل ونصح نفسه فكيف وقد تظاهرت الآيات بإبطال ما يدعونه من القياس في دين الله تعالى
وكذلك أيضا جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بإبطال القياس كما

حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا ابن نمير ثنا روح بن عبادة ثنا شعبة مسلم وحدثني زهير بن حرب ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال أخبرني أبو بكر بن حفص عن سالم بن عمر قال إن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم لو اشتريته فقال إنما يلبس هذا من لا خلاق له فأهدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم حلة سيراء فأرسل بها إلي فقلت أرسلت بها إلي وقد سمعتك قلت فيها ما قلت قال إنما بعثت إليك لتستمتع بها
وقال ابن نمير في حديثه إنما بعثتها إليك لتنتفع بها ولم أبعث بها إليك لتلبسها
والسند المذكور إلى مسلم قال حدثنا شيبان بن فروخ ثنا جرير بن حازم ثنا نافع عن ابن عمر قال رأى عمر عطاردا اليمني يقيم بالسوق حلة سيراء فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذ قد مرا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وإلى ابن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال اشققها خمرا بين نسائك فذكر أمر عمر قال وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم نظرا عرف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أنكر ما صنع فقال يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت بها إلي فقال إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها لتشققها خمرا بين نسائك
فأنكر رسول الله صلى الله عليه و سلم على عمر تسويته بين الملك والبيع والانتفاع وبين اللباس المنهي وأنكر على أسامة تسويته بين الملك واللباس أيضا وكل واحد منهما قياس فأحدهما حرم قياسا والآخر أحلى قياسا فأنكر صلى الله عليه و سلم القياسين معا وهذا هو إبطال القياس نفسه
ولا بد في هذين الحديثين من أحد مذهبين إما أن يقول قائل إن النبي صلى الله عليه و سلم إذ نهى عن لباس الحرير ثم وهبهما حلل الحرير أن يكون لبس عليهما وهذا كفر من قائله أو أنه صلى الله عليه و سلم بين عليهم المحرم من الحرير وهو اللباس المنصوص عليه فقط وبقي ما لم يذكر على أصل الإباحة فأخطآ رضي الله عنهما إذا قاسا وهذا هو الحق الذي

لا يحل لأحد أن يعتقد غيره
وبالله تعالى التوفيق
حدثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ نا بكر بن حماد نا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم فلا تبحثوا عنها
كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن محمد علي الباجي نا الحسين بن إسماعيل نا عبد الملك بن يحيى نا محمد بن إسماعيل ثنا سنيد بن داود نا محمد بن فضيل عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها
وعفا عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها
حدثنا أحمد بن قاسم قال نا أبي القاسم بن محمد بن قاسم قال نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا نعيم بن حماد نا عبد الله بن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن جرير هو ابن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال
قال أبو محمد حريز بن عثمان ثقة وقد روينا عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف عن علي رضي الله عنه ونعيم بن حماد قد روى عن البخاري في الصحيح وفي الأحاديث التي ذكرنا في هذا الفصل وفيما قبل هذا من أمره صلى الله عليه و سلم بأن يتركوا ما تركهم وأن ينتهوا عما نهاهم وأن يفعلوا ما أمرهم به ما استطاعوا كفاية في إبطال القياس لمن نصح نفسه
وقد قال بعض أصحاب القياس إنما أنكر في هذه الأحاديث من يقيس برأيه وأما من يقيس على تشابه المنصوص فلم يذم
قال أبو محمد فقلنا لهم من أين فرقتم هذا الفرق وهل رددتموها على الدعوة المفتراة

الكاذبة شيئا وقولكم هذا من أشد المجاهرة بالباطل
وقد وجدنا للصحابة فتاوى كثيرة بالرأي يتبرؤون فيها من خطأ إن كان إلى الله تعالى ولا يوجدون شيئا منها دينا ولا يقولون إنه الحق بل يذمون القول بالرأي في خلال ذلك خوف أن يظن ظان أنه منهم على سبيل الإيجاب والقطع بأنه حق فمن تعلق بالرأي هكذا فله متعلق
وأما القياس الذي ذكر هذا القائل على التعديل واستخراج علة الشبه فما نطق بذلك قط أحد من الصحابة ولا قال به فالذي فر إليه أشد مما فر عنه
وبالله تعالى التوفيق
وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم وعمن بعدهم إبطال القياس نصا
كالذي ذكرنا عن أبي هريرة من قوله لابن عباس إذ أتاك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تضرب له الأمثال
وهذا نص من أبي هريرة على إبطال القياس
حدثنا عبد الله بن يوسف نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا زهير ثنا منصور عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب الكلام إلى الله عز و جل أربع فذكر الحديث وفي آخره لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدوا علي
قال أبو محمد فهذا سمرة بن جندب لم يستجز القياس وأخبر أنه زيادة في السنة ولم يستجز أن يقول ومثل هذا يلزم في خيرة وسعد وفرج فتقول أثم سعد أثم فرج أثم خيرة فيقول لا
هذا وقد نص على السبب المانع من التسمية بالأسماء المذكورة التي يسمون مثلها التي يكذبون في استخراجها علة يقيسون عليها فقد كان ينبغي لو اتقوا الله عز و جل أن يقولوا إن التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى أن يقاس عليها ما يشبهها لكن لم يفعلوا ذلك ولا فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ خص هذه الأسماء ولا سمرة بعده وهذا إبطال صحيح للقياس
فإن قالوا لعل هذا الكلام إنما هن أربع فلا تزيدون علي هو من لفظ النبي صلى الله عليه و سلم قيل لهم فذلك أشد عليهم وأبطل لقولكم أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن القياس والتعليل وأمر بالاقتصار على ما نص عليه فقط

حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر وأبو داود الطيالسي وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأبو الوليد الطيالسي ومحمد بن أبي عدي قالوا ثنا شعبة قال سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال سمعت عبيد بن فيروز قال قلت للبراء بن عازب حدثني ما كره أن نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأضاحي فقال هكذا بيده ويده أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع لا تجزىء في الأضاحي وذكر الحديث قال فإني أكره أن يكون نقص في القرن والأذن قال فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد
وروينا نحو ذلك عن عتبة بن عبد السلمي ألا يتعدى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا عبد الله بن حسين بن عقال الفريسي نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أحمد بن الهيثم نا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وذكر الحديث
وقال محمد بن أحمد بن الجهم ثنا أحمد بن الهيثم ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد ابن زيد نا المعلى بن زياد عن الحسن قال بينا عمر بن الخطاب يمشي في بعض طرق المدينة إذ وطىء رجل من القوم عقبه فقطع نعله فأهوى له ضربة
فقال يا أمير المؤمنين لطمتني وظلمتني لا والله ما هذا أردت فألقى إليه الدرة
فقال دونك فاقتص فقال بعضهم اغفرها لأمير المؤمنين فقال لا والله ما أريد مغفرتها لقد كتبت وحفظت ولكن إن شئت دللتك على خير من ذلك { وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون } قال فإني قد تصدقت فجاء عمر رقيق فأعطاه خادما وذكر الحديث
قال أبو محمد فهذا عمر لم يستجز قياس المغفرة على الصدقة والعلة عند القائسين واحدة ولا أرى أن يفارق ظاهر النص
حدثنا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الوارث بن جبرون نا قاسم بن أصبغ ثنا

أبو بكر بن أبي خيثمة نا أبي هو زهير بن حرب نا جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد أن عمر بن الخطاب نهى عن المكايلة قال مجاهد يعني المقايسة
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري نا عيسى بن حبيب نا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرىء نا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد نا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب عن سلمة بن كهيل قال قال عمر بن الخطاب وقد وضحت الأمور وسنت السنن ولم يترك لأحد متكلم إلا أن يضل عبد عن عبد
حدثنا ابن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن رجلا وامرأته أتيا ابن مسعود في تحريم فقال إن الله تعالى بين فمن أتى الأمر من قبل وجهه فقد بين له ومن خالف فوالله ما نطيق خلافه وربما قال خلافكم
قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يجعل كل ما ليس في النص خلافا لله تعالى ويخبر أن البيان قد تم وهذا إبطال القياس
أخبرنا المهلب التميمي نا بن مناس نا محمد بن مسرور القيرواني أنا يونس بن عبد الأعلى نا عبد الله بن وهب قال سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن المجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم
وكتب إلي النمري أحمد بن فتح الرسان نا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري نا الزبير بن بكار حدثني سعيد بن داود بن أبي زبر عن مالك بن أنس عن داود بن الحصين عن طاوس عن عبد الله بن عمر قال العلم ثلاثة أشياء كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري
حدثنا أحمد بن عمر حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي حدثنا أحمد بن عبدان بن محمد الحافظ النيسابوري بالأهواز نا محمد بن سهل بن عبد الله المقرىء نزيل فسا ثنا

محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف الصحيح قال قال لي صدقة عن الفضل بن موسى عن ابن عقبة عن الضحاك عن جابر بن زيد قال لقيني ابن عمر قال يا جابر إنك من فقهاء البصرة وستستفتى فلا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية
قال أبو محمد وهذا نص المنع من القياس والرأي والتقليد
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة الكتاني نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعيد نا طاهر بن عبد العزيز نا أبو القاسم مسعدة العطار بمكة وكان طاهر وأحمد بن خالد يحسنان الثناء عليه قال أنا الخزامي يعني إبراهيم بن المنذر وحدثنا طاهر بن عصام كان طاهرا وكان ثقة عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أنه قال العلم ثلاثة كتاب الله الناطق وسنة ماضية ولا أدري
حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن سليمان الشيباني هو أبو إسحاق سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نبيذ الجر الأخضر قلت فالأبيض قال لا أدري
قال أبو محمد فلو جاز القياس عند ابن أبي أوفى لقال ما الفرق بين الأخضر والأبيض كما يقول هؤلاء الفرق بين الزيت والسمن وبين الفأر الميت والسنور الميت وبين الأرز والبر وسائر ما قاسوا فيه لكنه وقف عند النص وهذا الذي لا يجوز غيره
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفريري نا البخاري نا أبو اليمان الحكم بن نافع أنا شعيب هو ابن حمرة عن الزهري قال كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله تعالى ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأولئك جهالكم وذكر باقي الكلام والخبر
حدثنا عبد الله بن ربيع بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن زيد بن عميرة عن معاذ بن جبل قال تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى

يقرؤه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمؤمن والمنافق فيقرؤه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرؤه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه و سلم فإياكم وإياه فإنها بدعة ضلالة قالها ثلاث مرات
فهؤلاء عمر وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة ومعاذ بن جبل وسمرة بن جندب وابن عباس والبراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى ومعاوية كلهم يبطل القياس وما ليس موجودا في القرآن ولا في السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذه صفة الرأي والقياس والتعليل وقد قدمنا أنه لا يصح خلاف هذا عن أحد من الصحابة بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق
وأما التابعون ومن بعدهم فحدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا يحيى بن مالك بن عائذ نا هشام بن محمد بن قرة المعروف بابن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي نا ابن غليب حدثني عمران بن أبي عمران ثنا يحيى بن سليمان الطائفي حدثني داود بن أبي هند قال سمعت محمد ين سيرين يقول القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك وإنما عبدت الشمس والقمر بالقياس
حدثنا المهلب نا ابن مناس نا محمد بن مسرور القيرواني نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب قال أخبرني مسلمة بن علي أن شريحا الكندي هو القاضي قال إن السنة سبقت قياسكم
كتب إلي النمري قال قال أبو ذر الهروي نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني بالري نا عبد الرحمن بن أبي حاتم نا محمد بن إسماعيل الأحمسي نا وهب بن إسماعيل عن داود الأودي قال قال لي الشعبي احفظ عني ثلاثا لهما شأن إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله تعالى قال في كتابه { أرأيت من تخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } حتى فرغ من الآية
والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما
والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك
كتب إلي يوسف بن عبد الله نا خلف بن قاسم نا ابن شعبان نا محمد بن محمد نا أبو همام نا الأشجعي عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال لا أقيس شيئا بشيء
قلت لم قال أخاف أن تزل رجلي

كتب إلي النمري نا عبد الرحمن بن يحيى بن محمد العطار نا علي بن محمد بن مسرور حدثنا أحمد نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحفظوه
حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا يحيى بن مالك بن عائذ نا أبو عبد الله ابن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال السنة لم توضع بالمقاييس
وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن يحيى نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس العبقسي نا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور نا جرير هو عبد الحميد عن المغيرة عن الشعبي قال السنة لم توضع بالمقاييس
حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن العنان ثقة نا أحمد بن خالد نا أحمد بن عبد السلام الخشني محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا صالح بن مسلم قال قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس لقد بغض إلي هذا المسجد فلهو أبغض إلي من كناسة داري هؤلاء الصفافقة
كتب إلي النمري نا محمد بن خليفة شيخ فاضل جدا واسع الرواية ثنا محمد بن الحسين الآجري ثنا أحمد بن سهل الأشناني نا الحسين بن علي بن الأسود نا يحيى بن آدم نا المبارك عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قال كتاب الله تعالى وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
كتب إلي النمري أخبرنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران

في قول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قال إلى الله إلى كتاب الله تعالى وإلى الرسول ما دام حيا فإذا قبض قال سنته
حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث نا محمد بن الحسن الزبيدي نا أحمد هو ابن سعيد بن حزم الصدفي نا أحمد هو ابن خالد نا مروان هو ابن عبد الملك النجار نا العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي أنه قيل له إن الخليل بن أحمد يبطل القياس فقال الأصمعي أخذ هذا عن إياس بن معاوية
حدثني أبو العباس العذري نا الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا علي بن عبد العزيز نا أبو الوليد القرضي نا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي نا سليمان بن جعفر نا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن قال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس فإنا نقف غدا نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى فنقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله تبارك وتعالى وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن هارون بن إبراهيم البربري قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبي الله لا يدع شيئا أن يبينه أن يكون نسبه فما قال الله عز و جل فهو كما قال الله وما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وما لم يقل الله ورسوله فبعفو الله ورحمته فلا تبحثوا عنه
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا علي بن الحسن بن فهر ثنا محمد بن علي نا محمد بن عبد الله الحفاظ إجازة نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنا وهب سمعت مالك بن أنس يقول ألزم ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم

حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسن بن فهر أنا الحسن بن علي بن شعبان وأبو حفص عمر بن محمد بن عراك نا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي نا علي بن عبد العزيز نا الزبير بن بكار قال سمعت سفيان بن عيينة يقول سألت مالك بن أنس عن رجل أحرم من المدينة أو من وراء الميقات فقال مالك هذا رجل مخالف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى { لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ثم ذكر حديث المواقيت
حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد نا أحمد بن خالد نا يحيى بن عمر نا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب قال قال لي مالك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إمام المرسلين وسيد المرسلين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء
قال أبو محمد فإذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب في الدين برأي أو قياس أو استحسان أو احتياط أو تقليد إلا بالوحي وحده وبالله تعالى التوفيق
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا أحمد بن عيسى غندر نا خلف القاسم نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر نا يزيد بن عبد ربه قال سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي يا أبا زكريا احذر الرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم
حدثنا القاضي حمام بن أحمد نا عبد الله بن علي الباجي اللخمي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا عبيد بن محمد الكشوري ثنا محمد بن يوسف الحذافي ثنا عبد الرزاق قال قال لي حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه
قال أبو محمد فهذا أبو حنيفة يقول إنه لا يفقه من لم يترك القياس في مواضع الحاجة إلى تصريف الفقه وهو مجلس القضاء فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه وقد ذكرنا أيضا قول مالك آنفا في إبطال القياس فإن وجد لهذين الرجلين بعد هذا القول

منهما قياس فهو اختلاف من قولهما وواجب عرض القولين على القرآن والسنة فلأيهما شهد النص أخذ به والنص شاهد لقول من أبطل القياس على ما قدمنا لا سيما وهذان الرجلان لم يعرفا قط القياس الذي ينصره أصحاب القياس ومن استخراج العلل ولكن قياسهما كان بمعنى الرأي الذي لم يقطعا على صحته وكذا صدر الطحاوي في اختلاف العلماء بأن أبا حنيفة قال علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه أخذناه أو نحو هذا القول
والمتحققون بالقياس لا يقرون بهذا ولا يرضوه ولا يقولون به وهكذا جميع أهل عصرها وبالله تعالى التوفيق
ولا معنى لفشو القول بالقياس وغلبته على أكثر الناس فهذا برهان بطلانه وفساده وقد أنذر رسول الله صلى الله عليه و سلم بغلبة الباطل وظهوره وخفاء الحق ودثوره
كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عياد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري عن يزيد يعني بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء
وقال مسلم ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهيل الأعرج قال ثنا شبابة بن سوار ثنا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأزر بين المسجدين تأرز الحية إلى حجرها
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ووهب بن مسرة حدثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص عن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال نزاع القبائل
قال أبو محمد وأما الإجماع فقد بيناه على ترك القياس من وجوه كثيرة وهي إجماع الأمة كلها على وجوب الأخذ بالقرآن وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وبما أجمعت الأمة كلها على وجوبه أو تحريمه من الشرائع وأجمعت على أنه ليس لأحد أن يحدث شريعة من

غير نص أو إجماع وأجمعت على تصديق قول الله تعالى { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } وعلى قوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وهذا إجماع على ترك القياس وأن لا حجة لأحد إليه حتى نقص من نقص بالغفلة المركبة في البشرية في التفصيل والخطأ لم يعصم منه أحد بعد النبيين صلى الله عليهم وسلم فإنما يوجد القياس ممن وجد منه على سبيل الخطأ والغفلة عن الواجب عليه هي زلات علماء كمن قال بالتقليد وما أشبه ذلك
وأيضا فقد قلنا وبينا أنه لم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس يعني باسمه وباليقين فإنه يتكلم قط أحد منهم بلا شك ولا من التابعين بلا شك باستخراج علة يكون القياس عليها ولا بأن القياس لا يصح إلا على جامعة بين الحكمين فهذا أمر مجمع عليه ولا شك فيه البتة إلا عند من أراد أن يطمس عين الشمس وهذا أمر إنما ظهر في القرن الرابع فقط مع ظهور التقليد وإنما ظهر القياس في التابعين على سبيل الرأي والاحتياط والظن لا على إيجاب حكم به ولا أنه حق مقطوع به ولا كانوا يبيحون كتابه عنهم
وأيضا فقد وجدنا مسائل كثيرة جدا اتفقوا هم فيها ونحن وجميع المسلمين على خلاف جميع وجوه القياس وعلى ترك القياس كله فيها ومسائل كثيرة جاء النص بخلاف القياس كله فيها ولم نجد قط مسألة جاء النص بالأمر بالقياس فيها ولا مسألة اتفق الناس على الحكم فيها قياسا فلو كان القياس حقا لما جاز الإجماع على تركه في شيء من المسائل ولا جاء النص بخلافه البتة فالإجماع لا يجوز على ترك الحق ولا يأتي النص بخلاف الحق وهذا إجماع صحيح على ترك القياس وسنبين طرفا من المسائل التي ذكرنا
ولعل قياس الورع يعارض هذا القول بأن يقول قد جاء الإجماع على ترك بعض النصوص
فليعلم الناس أن من قال ذلك كاذب آفك وما جاء قط نص صحيح بخلاف نص

صحيح السند متصل وهو الحق عندنا لا ما عداه وما جاء قط نص صحيح بخلاف الإجماع فإن قال سوفسطائي فقد جاء نص بخلاف نص قلنا نعم ينسخ له وهو نص على كل حال ولم نذكر لكم قياسا خلاف قياسا وإنما قلنا بأنه قد وجد إجماع على ترك جميع وجوه القياس وورود نص مخالف لجميع وجوه القياس وهكذا هي جميع الشرائع ككون الظهر أربعا والصبح ركعتين والمغرب ثلاثا وكصوم رمضان دون شعبان وكالحدث من أسفل فيغسل له الأنواع وكأنواع الزكاة وسائر الشرائع كلها وليس أحد من القائلين بالقياس إلا وقد تركه في أكثر مسائله وسنبين من هذا إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب طرفا يدل على المراد
وأما من براهين العقول فإنه يقال لهم أخبرونا أو شيء هو القياس الذي تحكمون به في دين الله تعالى
فإن قالوا لا ندري أو تلجلجوا فلم يأتوا فيه بحد حاصر أقروا بأنهم قائلون بما لا يدرون ومن قال بما لا يدري فهو قائل بالباطل وعاص لله عز و جل إذ يقول { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } مع الرضا لنفسه بهذه الصفة الخسيسة التي لا تكون إلا في النوكي وإن قالوا حكم جامع بين شيئين بعلة يستخرجه أو قالوا بكثرة التشابه كانوا قائلين بما لا دليل على صحته وبما لم يقل به قط صاحب ولا تابع وإن قالوا بما يقع في النفس كانوا شارعين بالظن وفي هذا ما فيه
وقد أقروا كلهم بلا خلاف منهم أنه جائز أن توجد الشريعة كلها أولها عن آخرها نصا وأقروا كلهم بلا خلاف من أحد منهم أنه لا يجوز أن توجد الشريعة كلها قياسا البتة ومن البراهين الضرورية عند كل ذي حس وعقل أن ما لزم الكل لزم البعض فالشرائع كلها لا يمكن البتة ولا يجوز أن توجد قياسا من أحد فبعضها لا يجوز أن يوجد قياسا وليس هذا قياسا ولكنه برهان ضروري كقول القائل إن كان الناس كلهم أحياء ناطقين فكل واحد منهم حي ناطق ولا يموه مموه فيقول بعض الناس أعور وليس كلهم أعور فليس هذا مما ألزمناهم في صفة لكن كل الناس ممكن أن يوجدوا عورا وليس ذلك بممتنع في البقية

وأما أخذ الشرائع كلها قياسا فممتنع في البتة إذ لا بد عندهم من نص يقاس عليه ولا هذا أيضا من قول القائل لا يجوز أن يكذب الناس كلهم وجائز أن يكذب بعضهم بل كل أحد على حدته فالكذب عليه ممكن وليس كل شريعة على حدتها جائز أن توجد قياسا وهذا بيان يوضح كل ما أرادوا أن يموهوا به في هذا المكان وبرهان آخر وهو أنه يقال لأصحاب القياس إذا قلتم لما حرم الله تعالى القطع في أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم حرم أن يكون الصداق أقل من ثلاثة دراهم
ولما وجبت الكفارة على الوطء عمدا في نهار رمضان وجبت على الأكل عمدا في نهار رمضان ولما حرم حلق الشعر في الرأس بغير ضرورة في الإحرام حرم حلق العانة في الإحرام كما حرم مد بر بمدي بر نقدا حرم مد شعير بمد سلت نقدا وقال آخرون منكم لا ولكن حرم رطل حديد برطل حديد نقدا
وقال آخرون لا ولكن حرم أصل كرنب بأصل كرنب نقدا ولما أبيح اتخاذ كلب الصيد والغنم بعد تحريمه أبيح ثمنه بعد تحريمه
ولما أبيح الثلث في الوصية للموصي أبيح بيع الثمر قبل صلاحه إذا كان أقل من ثلث كرام الدار وسائر ما أوجبتموه قياسا وحرمتموه قياسا وأبحتموه من هذا الموجب لهذا كله ومن هو المحرم لهذا كله إذ لا بد لكل فعل من فاعل ولكل تحريم من محرم ولكل إيجاب من موجب ولكل إباحة من مبيح
فإن قالوا الله تعالى ورسوله أباحا ذلك وحرماه وأوجباه كذبوا على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم وجاهروا بالفرية عليهما وهم لا يقدمون على أن ينسبوا ما حكموا فيه بقياسهم إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم مع أنه إن أقدم منهم قليل الدين على أكذبه سائرهم لأنه إنما سألناهم عن مسائل يخالف فيها بعضهم بعضا ووقع حينئذ بأسهم بينهم وكفونا مؤنتهم فلم يبق بالضرورة إلا أن يحيلوا في التحريم والإيجاب والإباحة على أنفسهم أو على أحد دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا كما تراه بلا مؤنة ولا تكلف تأويل إقرار بإحداث دين وشريعة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه و سلم ولا أذن بها الله تعالى
فإن سألونا عن مثل هذا فيما أوجبناه أو حرمناه أو أبحناه بخبر الواحد العدل المسند فلسنا نقنع بأن نقول لهم إن هذا السؤال لازم لكم كلزومه لنا لأننا لا نتكثر بهم ولا نبالي وافقونا في ذلك أو خالفونا لكن نقول وبالله تعالى التوفيق

إن الله تعالى حرم وأوجب وأباح كل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا شك في ذلك كما نقول فيما أمر الله تعالى به من قبول شهادة العدول في الأحكام وبالله تعالى التوفيق
ويقال لهم أيضا أخبرونا أكل قياس قاسه قائس من أصحاب القياس حق وصواب أم من القياس خطأ وصواب ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا كل قياس في الأرض فهو صواب تركوا مذهبهم وأوجبوا المحال وكون الشيء حراما حلالا فرضا مباحا على إنسان واحد في وقت واحد وإن قالوا من القياس خطأ ومنه صواب قلنا لهم بأي شيء تعرفون الحق من الباطل في القياس فإن تلجلجوا وقالوا لا نأتي بذلك إلا في كل مسألة
قلنا هذا لو إذ عما لزمكم مما لا سبيل لكم إلى وجوده كمن قاس أن يقبل امرأتان حيث تجوز عنده شهادة النساء مفردات على قبول رجلين حيث يقبل الرجال وكمن قاس وجود أربع في ذلك على تعويش امرأتين بدل رجل حيث يقبل النساء مع الرجل وقلما تخلو لهم مسألة من مثل هذا
فإذا بطل وجود برهان يصحح الصحيح من القياس ويبطل الباطل منه فقد صح أن ما لا سبيل إلى الفرق بين باطله وبين ما يدعي قوم أنه منه حق فهو باطل كله
فإن قالوا لنا فكل الأخبار عندكم حق أو فيها باطل وحق
قلنا بل كل ما اتصل برواية الثقات إلى النبي صلى الله عليه و سلم حق لا يحل تركه إلا بيقين نسخ أو بيقين تخصيص
ولا نسخ في القياس أصلا

فصل في وضوح الطريقة على فساد القياس
قال أبو محمد ونحن نرتب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به طريقة لا يتعدى بها على أحد من أهل الحق إفساد كل قياس يعارض به أحد من أصحاب القياس أو يحتج منهم وذلك أنه إذا احتج محتج ممن يقول بالقياس بأن هذه المسألة تشبه مسألة كذا فواجب أن نحكم لها بمثل حكمها فليطلب من يعارضه من أصحابنا صفة في المسألة التي شبهها خصمه بالمسألة الأخرى مما يشبه فيه مسألة ثالثة ثم يلزمه أن يحكم لها أيضا بمثل ذلك الحكم وهذا أمر موجود في جميع مسائلهم

أولها عن آخرها وهذا وجه يفسد مسائلهم في القياس وسنذكر من هذا طرفا كافيا في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ونذكر ههنا مسألة واحدة تدل على المراد إن شاء الله تعالى وبالله تعالى التوفيق قالوا لا يكون صداق إلا ما تقطع فيه اليد لأنه عضو يستباح كعضو يستباح فيقال لهم وهلا قسمتموه على استباحة الظهر في جرعة خمر لا تساوي فلسا فهو أيضا عضو يستباح فما الذي جعل قياس الفرج على اليد أولى من قياسه على الظهر وهو إلى الظهر أقرب منه إلى اليد وليس يقطع الفرج كما لا يقطع الظهر
وأما تعليلهم في الربا فكل طائفة منهم قد كفتنا الأخرى إذ كل واحد منهم يبطل علة صاحبه التي قاس عليها وهكذا في كل ما قاسوا فيه وبالله تعالى التوفيق
وقال بعضهم إنما نقيس في النصين المتعارضين فننظر أشبههما بما اتفق عليه في النصوص فنأخذ به
قال أبو محمد وهذا أمر قد تقدم إفسادنا له في باب الكلام في الأخبار وأحكمناه وبالله تعالى التوفيق
ولكننا نذكر ههنا من بعض قولهم ما لا غنى بهذا المكان عنه وهو أنا نقول هذا عمل فاسد ولا مدخل للقياس ههنا لأن كل حديثين تعارضا أو آيتين تعارضتا أو كل حديث عارض آية فليس أحد هذين النصين أولى بالطاعة من الآخر ولا الذي يردون إليه حكم هذين النصين أولى بالطاعة له من كل واحد من هذين وكل من عند الله تعالى ولا يقوي النص إجماع الناس عليه ولا يضعفه اختلاف الناس فيه فقد أجمع على بعض الأخبار واختلف في آيات كثيرة
والنص إذا صح فالأخذ به واجب ولا يضره من خالفه فسقط ما أرادوا في ذلك من رد النصين المتعارضين إلى نص ثالث ووجب استعمال كل ذلك ما دام يمكن فإن لم يمكن أخذ بالزائد لأنه شرح متيقن رافع لما قبله ولم نتيقن أنه رفعه غيره
مع أنهم لم يفعلوا ما ذكروا بل جاء لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وجاء لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده فلم يردوهما إلى الآية المتفق على ورودها من الله تعالى وهي { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } بل غلبوا لا قطع إلا في ربع دينار وهو نص مختلف في الأخذ

به على الآية وعلى الحديث الآخر ثم تناقضوا في حديث لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان فتركوه وأخذوا بظاهر الآية وهذا خلاف ما فعلوا في آية القطع وكلا الحديثين صحيح وكلاهما مختلف فيه مع صحته فإن عللوا أحدهما بأنه اختلف فيه الرواة فالآخر كذلك ولا فرق وأما حديث الحنفيين فيما تقطع فيه اليد فساقط جدا
وقد قال بعضهم إذا سألناهم عن معارضة قياسهم بقياس آخر وتعليلهم بتعليل آخر فما الذي جعل أحد القياسين أولى من الآخر أو أحد التعليلين أولى من الآخر ولا سبيل إلى وجود قياس لهم أو تعليل لهم تتعذر معارضتهما بقياس آخر أو تعليل آخر كما وصفنا فقال هذا القائل العمل حينئذ في هذا كالعمل في الحديثين المتعارضين
قال أبو محمد فقلنا هذا باطل لأن النصين أو الحديثين المتعارضين لا بد من جمعهما واستعمالهما معا لأن كليهما حق وواجب الطاعة إذا صحا من طريق السند ولا يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه فإن تعذر هذا في الحديثين أو الآيتين أو الآية والحديث فالواجب الأخذ بالناسخ أو بالزائد إن لم يأت تاريخ يبين الناسخ منهما لأن الوارد بالزيادة شريعة من الله تعالى لا يحل تركها وليس يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه لأنه ليس فيهما نسخ أصلا
ولا يوجد في القياسين زيادة من أحدهما على الآخر في أكثر الأمر لأن التعارض فيهما إنما هو يتعلق أحد القياسين بصفة ويتعلق آخر إلا بأخرى فبطل تمويه هذا القائل وبقي الإلزام يحسبه لا مخلص منه البتة
وبالله تعالى التوفيق
وقد زاد بعض مقدميهم ممن لم يتق الله عز و جل ولا أبالي الفضيحة في كلامه فقال إن القياس أقوى من خبر الواحد ورأيت هذا لأبي الفرج المالكي والمعروف بالأبهري واحتجا في ذلك بأن الخبر الواحد يدخله السهو وتعمد الكذب وأما القياس فلا يدخله إلا خوف الخطأ في التشبيه فقط قالا فما يدخله عيب واحد أولى مما يدخله عيبان
قال أبو محمد وما يعلم في البدع أشنع من هذا القول ثم هو مع شناعته بارد سخيف متناقض
ويقال لهذا الجاهل المقدم أخبرنا عنك أتقيس على خبر الواحد أم لا فإن قال

لا كذب وأفصح وأريناهم خزيهم في قياسهم صداق النكاح على القطع في عشرة دراهم وهو خبر واهي ساقط والآخرون منهم قاسوا على خبر في ذلك وإن كان صحيح السند فهو خبر واحد وأريناهم قولهم في تقويم الملتفات بالقيمة لا بالمثل على الخبر في عتق الشقص ومدة الخيار في البيع على حديث المصراة والاستطهار في المستحاضة على حديث المصراة وهذا أكثر قياساتهم
وإن قال أقيس على خبر الواحد فضح نفسه وأبان عن جهله وقلة ورعه في إقراره بأنه يقيس على ما هو أضعف من القياس وفي هذا غاية الجنون والتناقض وهم يقولون إن الأصل أقوى من الفرع والمقيس عندهم فرع والمقيس عليه أصل هذا ما لا يختلفون فيه فإذا كان خبر الواحد هو المقيس عليه عندهم فهو الأصل والقياس هو الفرع فعلى قول هذين المذكورين إذا كان القياس أقوى من خبر الواحد فالفرع أقوى من الأصل وقد قالوا إن الأصل أقوى من الفرع وهذا تناقض فاحش وبناء وهدم ونعوذ بالله من الخذلان
وأيضا فإنهم يتركون في أكثر أقوالهم ظاهر القرآن بخبر الواحد ثم يتركون خبر الواحد للقياس فقد حصل من كلامهم وعملهم أنهم غلبوا القياس على الحديث وغلبوا الحديث على القرآن فقد صار القياس على هذا أقوى من القرآن ولا قياس البتة إلا على قرآن أو حديث وهذا كله تخليط وسخنة عين وغباوة جهل وإقدام واستحلال لما لا يحل ولا يخفى على ذي بصر وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فهم كثيرا ما يقولون فيما يرد عليهم من أقوال موقوفة على بعض الصحابة مما يوافق ما قلدوا فيه مالكا وأبا حنيفة مثل هذا لا يقال بالقياس فيغلبونه على ما يوجبه القياس عندهم كقولهم فيمن باع شيئا إلى أجل ثم ابتاعه بأقل إلى أقل من ذلك الأجل وفي البناء في الصلاة على الرعاف والحدث وفي مواضع كثيرة جمة وهذا ترك منهم للقياس وتغليب للظن أنه خبر واحد على القياس لأنهم لا يقطعون على أن هذه الأقوال توقيف وإنما يظنون ذلك ظنا فقد صار الظن أنه خبر واحد عندهم أقوى من القياس الذي هو عندهم أقوى من يقين أنه خبر واحد فقد صار الظن أقوى من اليقين وفي هذا عجب عجيب ونعوذ بالله من الخذلان
وأما الحقيقة فإن الظن باطل
بنص حكم النبي صلى الله عليه و سلم بأنه أكذب الحديث وبنص

قول الله تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } فالظن بنص القرآن ليس حقا فإذ ليس حقا فهو باطل فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من القياس فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل
وبالله تعالى التوفيق
وجملة القول أن قولهم إن خبر الواحد يدخله السهو والغلط والكذب إنما هو من اعتراضات من لا يقول بخبر الواحد من المعتزلة
والخوارج وقد مضى الكلام في إيجاب خبر الواحد العدل وقد وجب قبوله بالبرهان فاعترض المعترض بأنه قد يدخله السهو وتعمد الكذب اعتراض بالظن وبعض الظن إثم والظن أكذب الحديث
وقولهم إن القياس يدخله خوف خطأ التشبيه إقرار منهم بأنهم لا يثقون بجملته وهذا هو الحكم بالظن وهو محرم بنص القرآن ويسألون عن إنسان مشهور بالباطل معروف بادعائه قد كثر ذلك منه وفشا فتقدم إلى قاضي يخاصم عنده
فإن الأمة كلها مجمعة عن ألا يقاس أمره الآن على ما عهد منه فإذا خرم أن يقاس حكم المرء اليوم على حكمه بنفس أمس فهو أبعد من أن تقاس على غيره وهذا هدم من القياس للقياس وتفاسد منه بعضه لبعض وما كان هكذا فهو فاسد كله وبالله تعالى التوفيق
وقال قائل منهم هل يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس
قال أبو محمد فالجواب إن كان جائزا قبل نزول قول الله تعالى { قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وقوله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وكان يكون ذلك لو كان حمل إصر كما حمله على الذين من قبلنا وتحميلا لما لا طاقة لنا به وكما قال تعالى { في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم } وأما بعد نزول الآيتين اللتين ذكرنا وبعد أن أمننا الله تعالى من أن يكلفنا الحكم بالتكهن وبالظنون وبعد أن نهانا عن أن نقول عليه تعالى ما لم نعلم فلا يجوز البتة أن يتعبدنا بالقياس لأن وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة وقوله الحق
وبالله تعالى التوفيق

فصل في ذكر طرق يسير من تناقض أصحاب القياس في القياس
يدل على فساد مذهبهم في ذلك إن شاء الله تعالى قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه أكثرهم لم يقس الماء الوارد على النجاسة على الماء الذي ترد عليه النجاسة وفرقوا بينهما بغير دليل
وبعضهم لم يقس وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيما ولغ فيه ولم يقيسوا الماء في ذلك على غير الماء
وأكثرهم فرق بين الماء الذي تقع فيه النجاسة وبين المائعات التي تقع فيها النجاسات فيجدوا مقدارا إذا بلغه الماء لم ينجس ولم يجدوا في سائر المائعات شيئا البتة وإن كثرا
وبعضهم قاس سائر المائعات في ذلك على الماء في حد المقدار وهو أبو ثور
وبعضهم فرق بين حكم الماء في البئر وبين الماء في غير البئر ولم يقس أحدهما على الآخر اتباعا زعم لقول بعض العلماء في ذلك
وهو قد عصى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وجماعة من الفقهاء في المصراة والمسح على العمامة وفي أزيد من ألف قضية نعم وحكم القرآن وفرق أيضا بين أحكام الجيف الواقعة في التيار وبين أحكامها وأحكام سائر النجاسات ولم يقس بعضها على بعض
وبعضهم قاس الخنزير على الكلب في حكم الغسل مما ولغ فيه كلاهما في الواحد أو السبع وبعضهم لم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس الماء بحكم الوالغ فيه مما يحرم أكله أو يحل أو يكره وبعضهم لم يقس ذلك وبعضهم قاسم ما لا دم له من الميتات على ماله دم
فرأى كل ذلك ينجس ما مات فيه وبعضهم لم ير ذلك وبعضهم قاس العقارب والخنافس والدود المتولد في القول على الذباب ولم يقسها على الوزغ وشحمة الأرض والعظماء وصغار الفيران
وبعضهم قاس عذر ما يؤكل لحمه من الدواب وأبوالها على لحومها ولم يقسها على دمائها ولم يقسها على لحومها

وبعضهم قاس ذنب الكلب ورجله على لسانه وبعضهم لم يقس ذلك
وأكثرهم قاس إباحة المسح على الجبائر على المسح على الخفين ولم يقيسوا إباحة مسح العمامة على الرأس وعلى المسح على الخفين وبعضهم قاس ذلك وكلهم فيما نعلم لم يقس نزع الخفين بعد المسح على حلق الشعر وقطع الأظفار بعد المسح والغسل وبعضهم لم يقس إباحة الصلاة الفريضة بتيمم النافلة على إباحة الصلاة النافلة بتيمم الفريضة وبعضهم قاس ذلك وتناقض الأولون فقاسوا جواز صلاة المتوضئين خلف المتيمم على جواز صلاة المتيممين خلف المتوضىء على أن الخلاف في تسوية كلا الأمرين مشهور
ومن طرائف قياس بعضهم إيجابه أن تستطهر الحائض بثلاث قياسا على انتظار ثمود صيحة العذاب ثلاثا على المصراة أفلا يراجع بصيرته من يقيس هذا القياس السخيف
فيمنع به خمس عشرة صلاة فريضة ويوجب به إفطار ثلاثة أيام من رمضان من أن يقيس مسح العمامة على مسح الخفين
وبعضهم قاس بول ما يأكل لحمه بعضه على بعض وبعضهم قاس البول المذكور على ما يتولد منه فإن تولد من ماء نجس فهو نجس وإن تولد من ماء طاهر فهو طاهر وكذلك فعل بنحوه ولم يقس اللحم المتولد فيه على ما تولد منه بل رأى ذلك حلالا أكله وإن تولد من ميتة ولحم خنزير وعذرة
وبعضهم لم يقس نبيذ التين على نبيذ التمر في جواز الوضوء به عند عدم الماء في السفر وبعضهم قاس الحظر عليه في الإباحة وهو الحسن بن حي وقد روى أيضا قياس نبيذ التين على نبيذ التمر عن أبي حنيفة
ومنع أكثرهم من الكلام في الأذان قياسا على الصلاة ولم يقيسوه عليها إذ أجازوه بلا وضوء وأجاز بعضهم تنكيس الوضوء ولم يجز تنكيس الأذان ولا تنكيس الطواف ولم يقس أحدهما على الآخرين وقاس ذلك كله بعضهم في المنع في الكل أو في الإباحة في الكل
وفرق بعضهم بين صلاة الفريضة والنافلة فأجاز أن يؤم النافلة من يجوز أن يؤم في الفريضة ثم لم يجز أن تؤم المرأة النساء في شيء منهما وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض
وبعضهم لم يقس جواز صلاة النفل خلف من يصلي الفرض على جواز صلاة من يصلي

الفرض خلف المتنفل وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وكلهم فيما أعلم لم يقس المنع من إتمام المسافر خلف المقيم على المنع من قصر المقيم على المسافر
وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس إتمام أهل مكة بمنى على إتمام أهل منى بمكة وهذا عجيب ما شئت ولم يقيسوا جواز الحج على العبد إذا حضره على جواز الجمعة عنه إذا حضرها
وبعضهم لم يقس جواز صلاة الفرض خلف الفاسق من الأمراء على جواز صلاة الجمعة خلفه وبعضهم قاس كل ذلك وجعله سواء
وبعضهم لم يقس حكم ابتداء التكبير للقائم من الركعتين على حكم ابتداء التكبير في الركوع والسجود والرفع من السجود وبعضهم ساوى بين ذلك كله وقاس بعضه على بعض
وبعضهم لم يقس إيجاب البناء على المحدث على إيجاب البناء على الراعف وبعضهم ساوى بينهما
وبعضهم لم يقس وجوب البناء قبل تمام السجدتين على وجوب البناء بعد تمام السجدتين وبعضهم قاس كلا الأمرين على السواء
وبعضهم لم يقس وقوع الجبهة والرجلين على نجاسة الصلاة على وقوع اليدين والركبتين على نجاسة في الصلاة وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وهؤلاء الذين قاسوا بعض ذلك على بعض تناقضوا فلم يقيسوا جواز وقوع الرجلين والركبتين على غير الأرض أو ما تنبت على جواز وقوع الجبهة واليدين على ذلك وفرقوا بين الأمرين
وبعضهم لم يقس الثبات على يقين الحدث لمن شك في الوضوء على الثبات على يقين الوضوء لمن شك في الحدث وبعضهم ساوى بين الأمرين
وبعضهم لم يقس كثير السهو على قليله فرأى من قليله السجود فقط ومن كثيره الإعادة ومنهم من رأى من السلام ساهيا السجود فقط ورأى من الكلام ساهيا الإعادة ورأى بعضهم على من تكلم في صلاته ساهيا أنها قد بطلت فإن أحدث بغلبة لم تبطل صلاته فإن أكل ساهيا وهو صائم لم يبطل صيامه وقلب غيره منهم الأمر فرأى إن تكلم ساهيا في صلاته لم تبطل فإن أحدث بغلبة بطلت وإن أكل ناسيا وهو صائم بطل صومه وفرقوا بين من نسي صلاة يوم وليل وبين من نسي أكثر ولم يقيسوا أحدهما

على الآخر وبعضهم قاس كل ذلك على السواء
وقاس بعضهم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة على الجمع بين المعز والضأن في الزكاة ولم يقسه على التفريق بين التمر والزبيب في الزكاة وبعضهم قاسه على التفريق المذكور لا على الجمع وأعجب من ذلك أن من ذكرنا رأى إخراج ذهب عن فضة وفضة عن ذهب ولم ير إخراج عنز عن ضانية ولا ضانية عن عنز ولا برا عن شعير ولا شعيرا عن بر ولم يقس بعض ذلك على بعض أو بعضهم أجاز كل ذلك بالقيمة قياسا
وفرق بعضهم بين غلة ما ابتيع للتجارة وبين الربح المتولد في ذلك فرأى في الغلة الاستئناف ورأى في الربح ضمه إلى أصل الحول في رأس المال ولم يقس أحدهما على الآخر وقاس غيره منهم بعض ذلك ببعض في الاستئناف أو في الضم وأوجبوا ديون الناس من رأس المال ولم يوجبوا ديون الله تعالى إلا من الثلث ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وساوى بعضهم بين الأمرين
ولم يقس بعضهم الحلي وإن كان لكراء أو لباس على العوامل المعلوفة من الإبل والبقر والغنم فبعضهم أوجب الزكاة في الحلي وأسقطها عن العوامل وبعضهم أوجب الزكاة في العوامل وأسقطها عن الحلي وبعضهم قاس أحدهما على الآخر في إسقاط الزكاة عن كل ذلك والعجب أن الذي أسقط الزكاة عن الحلي الكراء لم يقس عليه الحلي المبتاع للتجارة ورأى فيه الزكاة
وبعضهم فرق بين عبيد العبيد فلم يرهم كسادتهم ولا كسادات ساداتهم في وجوب زكاة الفطر المأخوذة ورأى على عبيد أهل الذمة أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من ساداتهم إذا اتجروا إلى غير أفقهم
وبعضهم رأى الزكاة في زيت الفجلة ولم يرها في الترمس ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم الزكاة في جب الآس ولم يرها في البلوط ولم يقس أحدهما على الآخر
وبعضهم لم يقس الدين على الرهن في الكفن فرأى الكفن فيه أولى من الدين ولم يره أولى من الرهن إذا كان رهنا وبعضهم ساوى بين الأمرين
وبعضهم لم يقس المدبر على المحتكر وبعضهم قاسه عليه
وبعضهم لم يقس الخليطين في الثمار والزرع والعين على الخليطين في المواشي وبعضهم ساوى بين كل ذلك قياسا

وفرق بعضهم بين من أعطى آخر مالا ليأكل ربحه والأصل لصاحب المال وأعطاه غنما ليأكل نسلها ورسلها والأصل لصاحب المال فرأى في الغنم الزكاة ولم ير في ربحه زكاة وهو مال تجارة لا على التاجر ولا على الذي له أصل ولم يقس أحدهما بالآخر وقاس غيره أحدهما على الآخر
ولم يقس بعضهم فائدة العين على فائدة الماشية فرأى في فائدة الماشية الزكاة إذا كان عنده نصاب منها ولم ير في فائدة العين الزكاة وإن كان عنده نصاب منه وقاس غيره منهم بعض على بعض في إيجاب الزكاة في الكل وفي إسقاطها عن الكل
ولم يقس بعضهم فائدة الكسب على فائدة الولادة في إيجاب الزكاة في كل ذلك وقاس كل ذلك بعضهم فرأى في الكل الزكاة ولم يقس بعضهم فائدة المعدل على سائر الفوائد وقاسه بعضهم عليها
وقال بعضهم لا يجزىء في زكاة الغنم إلا الجذع من الضأن فصاعدا
والثني فصاعدا من الماعز قياسا على ما يجيز منها الأضحية وأجازوا في البقر والإبل الجذع ودون الجذع ولم يقيسوا ذلك على ما يجوز منهما في الأضحية ولا قاسوا حكم الغنم في ذلك على الإبل والبقر ولا حكم الإبل والبقر على حكم الغنم
وقال بعضهم من بادل ذهبا بفضة زكى الآخر بحول الأول ولم يقس ذلك على ما بادل بقرا بإبل وقاسه على ما بادل غنما بماعز
وقال بعضهم تؤخذ الزكاة من الزيتون قياسا على التمر والعنب ولم يقسه عليها في الخرص في الزكاة
وقال بعضهم يخرج الأرز والذرة في زكاة الفطر قياسا على الشعير والبر ولم يجز أن يخرج فيها الزيتون قياسا على التمر والزبيب ولم يجز أن يخرج فيها الدقيق قياسا على البر وقد قاسه على البر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلا وأجاز بيعه بالبر متماثلا
وأسقط بعضهم زكاة التجارة على الماشية المشتراة للتجارة لزكاة الأصل ولم يقس على ذلك سقوط زكاة التجارة عن الدقيق المشترى للتجارة من أجل زكاة الفطر فيهم
وأوجب بعضهم الزكاة في العسل وفي الحبوب وفي الثمار إذا كانت في أرض غير خراجية وأسقط الزكاة عن كل ذلك في الأرض الخراجية ولم يسقط الزكاة عن الماشية وإن رعت في أرض خراجية فلم يقس رعي النحل على رعي الماشية ولا رعي الماشية على رعي النحل

وسقط بعضهم الزكاة في العين والماشية عن الصغير والمجنون قياسا على سقوط الصلاة عنهما ولم يسقط الزكاة عن ثمارهما وزرعهما قياسا على سقوط الصلاة عنهما
وقال آخرون منهم في هذا إن حق الزكاة ثابت مع الزرع والثمر
قال أبو محمد وهذا كذب لأن قائل هذا لا يرى فيما دون خمسة أوسق صدقة فلم ير الزكاة ثابتة مع هذه الثمرة ولم يقيسوا وجوب الزكاة في ذلك عليهما على وجوب زكاة الفطر عليهما وقياس زكاة على زكاة أولى من قياس زكاة على صلاة ولا قاسوا وجوب الزكاة وهي حق المال على وجوب سائر الحقوق في الأموال على الصغار والمجانين من النفقات والأروش وقياس مال على مال أولى من قياس زكاة على صلاة ولم يقس سقوط الصلاة عن الفقراء على سقوط الزكاة عنهم
وفرق بعضهم بين حكم من رأى هلال شوال وحده وبين حكم من رأى هلال رمضان وحده ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس كل واحد منهما على الآخر ولم يقس بعضهم حكم الحائض تطهر والكافر يسلم والمسافر يقدم في نهار رمضان على حكم من بلغه بعد الفجر إن هلال رمضان رئي البارحة فأوجبوا على هذا ألا يأكل باقي النهار ولم يوجبوا ذلك على الآخرين ثم قاسوا بعضهم على بعض في وجوب القضاء عليهم حاشا الكافر يسلم فلم يقيسوه عليهم في وجوب القضاء
وقاسه بعضهم عليهم فأوجبوا عليه القضاء
وأطرف من هذا قياس بعضهم من غلبته ذبابة فدخلت حلقه على الأكل عمدا في إيجاب القضاء فقط عليه ولم يقس على ذلك من أخرج بلسانه من بين أسنانه الجريدة ولعلها من مقدار الذبابة فيبلغها عمدا في نهار رمضان
فقالوا صومه تام ولا قضاء عليه
وقاس بعضهم المجنون على الحائض في إيجاب قضاء رمضان عليهما ولم يقيسوه عليها في وجوب الحدود عليها
وقاس بعضهم من لمس عمدا فأمنى على المجامع عمدا في القضاء والكفارة ولم يقس من استعط عمدا فوجد طعم ذلك في حلقه على الأكل عمدا لم يوجب فيه كفارة
وقاس بعضهم المغمى عليه في رمضان على المريض في إيجاب القضاء عليه ولم يقسه عليه في إيجاب قضاء ما ترك من الصلوات عليه وقاسه بعضهم في إيجاب الصلوات

وأوجب بعضهم على من أكره امرأته على الجماع في نهار رمضان أن يكفر عنها فيصوم عنها ولم يقس على ذلك إيجاب الصوم على من مات وعليه صوم
وقاس بعضهم الأكل عمدا في نهار رمضان على الواطىء عمدا في نهار رمضان وأوجب عليهما الكفارة ولم يقيسوه على المتقيىء عمدا في نهار رمضان في إسقاط الكفارة عنه وقياس الأكل على القيء أولى من قياسه على الوطء وقاسه بعضهم على المتقيء فيما ذكرنا
وفرقوا بين الواطىء والآكل بأن قالوا الوطء يوجب أحكام لا يوجبها الأكل فالوطء يوجب الغسل والحد والصداق ولا يوجب شيئا من ذلك الأكل ولا الشرب والأكل يوجب الغرامة ولا يوجبها الوطء والأكل من مال الصديق مباح ولا يجوز وطء ملكه فقاسوا ترك الكفارة في الأكل على هذه الفروق
وقال بعضهم إنما القياس على التشابه لا على عدم التشابه
قال أبو محمد وكل هذا تحكم كما ترى ولا دليل
ولم يقس بعضهم من أفطر عمدا في قضاء رمضان وهو فرض في وجوب الكفارة عليه على إفطاره عمدا في رمضان وكلاهما فرض وقد أوجب ذلك عليهما بعض السلف
وأوجب الكفارة على المظاهر من زوجته وعلى المرأة الموطوءة في رمضان طائعة وقد سمع النبي صلى الله عليه و سلم أمرها فلم يوجب عليها شيئا ولم يقيسوا المرأة المظاهرة من زوجها في إيجاب الكفارة عليها على المظاهر ولا على المرأة الموطوءة وقد أوجب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها جمهور من السلف ومن بعدهم وقاسوا الأكل عمدا في رمضان في إيجاب الكفارة عليه على الواطىء في رمضان عمدا ولم يقيسوا على ذلك مفسد صلاته عمدا والصلاة أعظم حرمة من الصوم
ومن طرائف بعضهم إيجابه قياس من أفطر ناسيا في رمضان على من أفطر عمدا في إيجاب القضاء عليهما ولم يقسه عليه في إيجاب الكفارة عليهما نعم ولم يقس الأكل ناسيا على المتقيىء ناسيا أو مغلوبا فأسقط على هذا ولم يسقطه عن الآخر
وفرق بعضهم بين أحكام النيات ولم يقس بعضها على بعض فأجاز بعضهم الطهارات بلا نية ولم يجز الصلاة إلا بالنية وبعضهم لم يجز الطهارات إلا بنية وأجاز الصوم في

الواجبات بلا نية محدثة لكل يوم منه وبعضهم أوجب النية في كل ذلك ولم يوجبها في أعمال الحج
وأما تناقضهم في أعمال الحج فأكثر من أن يجمع في سفر وذلك فيما أوجبوا فيه الفدية وما أسقطوها فيه ولم يقيسوا بعض ذلك على بعض
وأيضا فإن بعضهم قال من طرح القراد عن نفسه لم يطعم فإن طرحه عن بعيره أطعم ولم يقس أحدهما على الآخر
ولم يقس بعضهم إباحة قتل الفأرة وإن لم تؤذه على نهيه عن قتل الغراب والحدأة إن لم تؤذياه
ورأى بعضهم الجزاء على قاتل السنور ولم يره على قاتل الفهد ولم يقس أحدهما على الآخر ورأى قتل الفهد قياسا على قتل السبع ولم ير قتل الصقر البري قياسا على الغراب والحدأة بل رأى في الصقر البري الجزاء
ولم يقس بعضهم استظلال المحرم في المحمل على استظلاله في الخباء في الأرض ورأى على المستظل في المحمل الفدية وكذلك في السفينة ولم يقس على ذلك من مشى في ظل المحمل فلم ير عليه الفدية
ولم يقس بعضهم على دهن باطن يديه وباطن قدميه بسمن أو زيت فلم ير عليه فدية على من دهن بذلك ظاهرهما فرأى عليه الفدية
ولم يقس بعضهم تحريمه ما ذبح المحرم من الصيد على ما ذبحه السارق أو الغاصب فأباحه وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأباح الكل
ولم يقس بعضم من دل من الحرمين حلالا على صيد أو أعطاه سيفا يقتله به فلم يوجب عليه الفدية على محرم آكل من صيد صيد من أجله فأوجب عليه الجزاء وقاس بعضهم عليه فأوجب الجزاء في كل ذلك
ولم يقس بعضهم حكمه بأن جناية العبد في رقبته على قوله أن أقتله الصيد ليس في رقبته
وقاس بعضهم بيض الصيد على جنين المرأة ولم يقسه بعضهم عليه ولم يقس بعضهم تحريمه على المحرم ذبح صيد صاده حلال على إباحته ذبح الصيد في الحرام إذا دخل من الحل

وقاس بعضهم قاتل الأسد على قاتل الذئب فلم ير فيه جزاء ولم يقس قاتل النسر والعقاب على قاتل الحدأة والغراب فرأى أن في النسر والعقاب الجزاء ولم يقس بعضهم قاتل الأسد والخنزير على قاتل الذئب فرأى في الأسد والخنزير الجزاء
وقاس بعضهم إن أصاب القارن صيدا فجزاء واحد ولم يقسه على القارن يفسد حجه فرأى عليه هديين وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأوجب في كل ذلك هديين وبعض أوجب في كل ذلك هديا واحدا
وأظرف من هذا أن بعضهم قال على العبد الفار إذا دخل مكة أن يحرم وليس ذلك على الأعجمي المسلم ولا على الجارية المصونة للبيع وله مثل ذلك في الفرق بين الشريعة والدنية في النكاح بغير الولي وهذا أشنع مما أنكروه من ترك القياس لأن هذا فرق بين الناس فأين هذا مما استعملوه من التسوية بين الزاني والقتل في جلد مائة وتغريب عام وبين الصداق والقطع في السرقة وبين المستحاضة والمصراة وهل في التخليط أكثر من هذا
وفرقوا أو أكثرهم بين صوم المرء عن غيره وحجه عنه فلم يروا ذلك ولم يقيسوه على الصدقة عنه واحتجوا في ذلك ب { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وهذا إن منعت من الصيام منعت من الصدقة ولا فرق ثم لم يقيسوا وصيته بالحج على وصيته بالصوم
ولم يقس بعضهم من وقف بعرفة قبل غروب الشمس ثم دفع منها ولم يعد إليها تلك الليلة فقالوا بطل حجه على من يقف بمزدلفة حتى طلعت الشمس من يوم النحر
ولم يقس بعضهم من لم يدفع عن عرفة مع الإمام في إباحة الجمع له بمزدلفة على من لم يدرك الصلاة بعرفة مع الإمام في إباحتهم له الجمع بين الصلاتين بعرفة وقاس بعضهم قصر أهل منى بعرفة وأهل عرفة بمنى على قصر أهل مكة بمنى وعرفة ولم يقيسوا على ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم كل ذلك في سائر البلاد
وقاس بعضهم الهدي على الأضحية فيما يجزي منها ولم يقسه عليها في الذبح والنحر قبل الإمام فأي ذلك يجزىء قبل الإمام في الهدي ولا يجزئه في الأضحية وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في الإباحة

ولم يقس بعضهم الأعمى في وجوب الحج عليه على المقعد في سقوط الحج عنه وقاسه بعضهم عليه
وقال بعضهم سكان ذي الحليفة وهم على نحو مائتي ميل وخمسين ميلا من مكة على سكان يلملم وهو على نحو ثلاثين ميلا من مكة إنها لا هدي عليهما إن تمتعا ولم يقسم على ما بينهم وبين مكة كالذي بينهم وبينها ولم يقس أهل يلملم على أهل ذي الحليفة في قصر الصلاة والإفطار في الصوم وساوى غيرهم منهم بين كل ذلك في إيجاب الهدي عليهم كلهم التمتع ولم يسو بينهم في قصر الصلاة ولم يقس بعضهم لابس المخيط في الإحرام يوما من غير ضرورة على لابسه أقل من يوم لغير ضرورة
ولم يقس بعضهم قوله في تحريم قتل المحرم للسبع الذي لا يؤذيه وإيجاب الجزاء في ذلك على قوله في إباحة قتله للذئب ومن لم يؤذه ولم يجعل في ذلك جزاء وهم مع ذلك قليلا منهم يقيسون قاتل الصيد خطأ على قاتله عمدا وعلى قاتل حيوان وغيره خطأ فأوجبوا الجزاء في ذلك ولم يقيسوا إلا قليلا منهم قاتل النفس عمدا على قاتلها خطأ فلم يروا في قاتلها عمدا كفارة
وقاس بعضهم سقوط الجزاء على قاتل السبع العادي عليه على سقوط الضمان عنه في البعير العادي فيقتله ولم يقس بعضهم ذلك فرأى الضمان على قاتل البعير العادي عليه ولم ير الجزاء على قاتل السبع العادي عليه وقد قاسوا بعض ذلك على بعض في إيجاب الجزاء في قتل الخطأ
ولم يقس بعضهم الحلال بقتل الصيد في الحرام في حكم الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الحل فرأى الصيام على المحرم ولم يجزه للحلال إلا بالمثل والإطعام فقط وساوى الأمرين
ولم يقيسوا قاتل الصيد في حرم المدينة في إيجاب الجزاء عليه على قاتله في حرم مكة وقد أوجب ذلك بعض السلف والخلف
ولم يقس بعضهم من اشترى أحد أربعة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا فلم يجز هذا العقد على إجازته إذا اشترى أحد ثلاثة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا وسوى بعضهم بين كل ذلك من المنع أو الجواز
ولم يقس بعضهم قوله في تحريم بيع لبن النساء محلوبا في قدح على إباحته بيع سائر الألبان محلوبة في قدح

ولم يقس بعضهم تحريم البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في الذهب بعينه بالذهب بغير عينه وفي الفضة بالفضة كذلك على إباحة تمام البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في البر بالبر كذلك والشعير بالشعير كذلك والتمر بالتمر كذلك والملح بالملح كذلك فأبطل البيع في الذهب بالذهب والفضة بالفضة على كل حال وأجازه في هذه الأربعة إذا قبض الذي بغير عينه ولم يقبض الذي بعينه وقاس بعضهم كل ذلك في المنع من جوازه
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من جواز بيع شحم البطن باللحم متفاضلا على إباحته جواز بيع شحم الظهر باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك
ولم يقس بعضهم قوله إن الألية يجوز أن تباع باللحم متفاضلا على منعه من بيع سائر الأعضاء باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك
وقاس بعضهم جواز بيع الرطب بالتمر على جواز بيع التمر الحديث بالتمر القديم
وقاس بعضهم جواز بيع الدقيق بالبر متماثلا على المنع من انتباذ الرطب والتمر وقال هما صنفان
وقاس بعضهم منعه من بيع الدقيق بالبر البتة على النهي عن بيع الرطب بالتمر وقال هما صنف واحد مجهول تماثله
ولم يقس بعضهم رجوع من أعتق مملوكا اشتراه ثم اطلع على عيب بأرش العيب على منعه من ابتاع طعاما فأكله ثم اطلع على عيب كان به من الرجوع بأرش العيب
ولم يقس بعضهم من باع مال غيره بغير إذن على من اشترى له شيئا بغير إذنه وساوى بعضهم بين كلا الأمرين
ولم يقس بعضهم بيع من طرأ عليه الخرس على بيع من ولد أخرس فأجازه ههنا وأبطله هنالك
ولم يقس بعضهم بيع السكران على طلاقة فأجاز طلاقه وأبطل بيعه وقاسه بعضهم فأبطل كل ذلك وقد أجاز كل ذلك بعضهم
ولم يقس بعضهم جواز السلم في الشحم على جوازه في اللحم وقاس ذلك بعضهم فأجاز كل ذلك

ولم يقس بعضهم جواز السلم في السمك المالح على قوله في المنع من السلم في السمك الطري وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض في المنع من الكل أو جواز الكل
ولم يقس بعضهم على جواز سلم الذهب والفضة في سائر الموزونات جواز سلم الموزونات بعضها على بعض وقاس ذلك بعضهم فأجازه فيما عدا ما يؤكل
ولم يقس بعضهم جواز السلم في قوله بتأخير النقد لرأس المال اليوم واليومين بشرط وبغير شرط على منعه من ذلك في الأيام الكثيرة بشرط وبغير شرط وقاس غيره بعض ذلك على بعض في المنع من الكل
ولم يقس بعضهم جواز السلم في القمح والفاكهة والكناش واللبن على أن يأخذ منه كل يوم مقدارا معلوما واشترطا تأخير نقد الثمن إلى الأجل البعيد على سائر قوله في المنع من تأخير النقد في السلم ومن منعه الدين بالدين
ولم يقس بعضهم قوله في إباحة دقيق البر بالبر متماثلا والمنع منه متفاضلا على قوله إن من سلم في قمح موصوف فحل الأجل فجائز عنده أن يأخذ مكان القمح شعيرا أو سلتا مثل كيل قمحه ولا يأخذ دقيق قمح ولا علسا مثل مكيلة قمحه وكل ذلك عنده صنف واحد
ولم يقس بيع البر بالشعير والتمر والملح جزافا على بيع الذهب والفضة جزافا وأطرف من ذلك أنه لم يقس جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المسكوك منهما جزافا
ولم يقس بعضهم من سلم في طعام إلى أجل مسمى فأتاه به الذي هو عليه قبل الأجل فقال لا يجيز على قبوله قبل أجله على قوله فيمن أقرض آخر طعاما إلى أجل فأتاه به قبل الأجل قال يجيز على قبضه وقاس غيره منهم أحدهما على الآخر أن يجيز على القبض قبل الأجل
ولم يقس بعضهم تعين الدنانير والدراهم في المغصوب والبيوع على تعين سائر العروض وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في تعيين كل ذلك
ولم يقس بعضهم قوله فيمن ابتاع طعاما فعاب عليه فأباح الإقامة فيه من جميعه ولم يبح من بعضه على قوله فيه إذا لم يعب عليه فأجاز الإقالة من كله ومن بعضه
ولم يقس بعضهم قوله في بطلان الصرف التفرق قبل تمام القبض من قوله في جواز

الإقالة مع التفرق قبل القبض التفرق اليسير ولا قاس إباحة ذلك في الإقالة بالتفرق اليسير على التفرق الكثير
ولم يقس بعضهم منعه من التفاضل في الدقيق بالبر على إباحة التفاضل في السويق بالبر وكلاهما بر مطحون لم يسق الدقيق السويق ولا السويق الدقيق وأطرف من هذا أنه لم يقس جواز بيع البلح الصغار بالتمر عنده متفاضلا على المنع البلح الكبار بالتمر
ولم يقس بعضهم ما يبس من الزفيرف وعيون البقر والخوخ والكمثرى في حكم جواز بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا على منعه من بيع الزبيب والبر والتين والبلوط بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا ثم قاس الأصناف الأول على الأصناف الأخر في المنع من بيع كل ذلك قبل أن يقبض وقاس غيره منهم كل ذلك بعضه ببعض حتى السقمونيا والهليلج
وقاس بعضهم المأكول على المأكول في الربا ولم يقس المعادن بالمعادن في الربا فأباحوا رطل حديد برطلي حديد والحديد بالنحاس والذهب والفضة والرصاص والقصدير والزئبق معدنيات كلها
ولم يقس بعضهم قوله إن القطنية كلها جنس واحد في الزكاة على أنها أصناف متفرقة في البيوع
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع الزبد باللبن أو الجبن باللبن أو السمن باللبن جملة ولا الزيت بالزيتون جملة على قوله في جواز بيع البر بالدقيق من البر متماثلا ولا على قوله في جواز بيع السويق في البر بالبر متفاضلا
ولم يقس بعضهم قوله إن سمن البقر وسمن الغنم صنف وقولهم إن لحم الخروف من الضأن ولحم الحمار الوحشي صنف واحد وكذلك لحم الأرنب على قوله إن زيت الزيتون وزيت الجلجلان وزيت الفجل أصناف متفرقة يجوز بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد ولا يجوز ذلك في نبيذ التمر بنبيذ الزبيب ولا يجوز ذلك في لحم الجمل بلحم الأرنب ولا في لحم حمار الوحش بلحم الخروف ولا فرق بين تعليله بأن كل ذلك ذو أربع وبين تعليل غيره أن كل ذلك من الطير ومن غيره لحم ومن تعليل غيره بالتأنس في الطير وذي الأربع والتوحش أيضا فيهما لأن الله تعالى جزى الصيد بالأنعام
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع العنب بالعصير البتة على قوله في إجازة بيع العنب بخل العنب متفاضلا وقد يخرج الخل من العنب دون توسط كونه عصيرا

ولم يقس بعضهم قوله لا يباع اللبن بالسمن أصلا لأنهما صنف واحد مجهول نماثله ولا الشاة اللبون باللبن أصلا على إجازته مع الشاة اللبون بالسمن ولا اللبن بالقمح إلى أجل على إجازته الشاة اللبون بالقمح إلى أجل
ولم يقيسوا قولهم في المنع من بيع القمح بالقمح بالتحري دون كيل ولا وزن على جواز ذلك عندهم في اللحم باللحم من صنفه نعم ولم يجيزوا الذهب بالفضة بالتحري وأجازوه في القمح بالتمر بالتحري
ولم يقس بعضهم جواز القمح بالقمح عنده وزنا على منعه من سحالة الذهب بالذهب كيلا
وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس منعه من اللحم المشوي باللحم النيء جملة على قول في إباحة اللحم المطبوخ باللحم النيء متماثلا ومتفاضلا وكلاهما يدخله ملح وصنعة وأغرب حكم من ذكرنا بأن اللحم والشحم صنف واحد وأن لحم النعامة والكركي ولحم الزرزور صنف واحد وأن لحم النعامة المطبوخ ولحمها النيء صنفان يجوز فيهما التفاضل
ولم يقس بعضهم جواز دجاجة بدجاجتين على قوله في لحم دجاجة بلحم دجاجتين
ولم يقس بعضهم منعه من ابتياع شاة واستثناء جلدها في الحضر على قوله في إباحة ذلك في السفر
وأغرب من هذا أن بعضهم لم يقس قوله في إباحة ابتياع شاة واستثناء أرطال خفيفة منها أو استثناء رأسها على قوله في التحريم أن يستثني يدها أو رجلها أو فخذها ولم يقس بعضهم منه من ابتياع لحم هذه الشاة الحية على إباحته ابتياعها واستثناء البائع جلده والعجب أن هذا الذي منع هو الذي أباح بعينه ليس هو شيئا آخر لأنه في كلتا المسألتين إنما اشترى مسلوخها فقط ولا مزيد
ولم يقس بعضهم قوله في جواز بيع صغار الحيتان جزافا على منعه من بيع كباره جزافا وقد يكون تكلف عد الكبار لكثرتها أصعب من عد الصغار لقلتها
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من ابتياع رطل لحم من هذه الشاة وإن شرع في ذبحها على قوله في إباحه ابتياع رطل من لبنها إذا شرع في حلبه
ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع لبن هذه الشاة شهرا على إباحة بيع لبنها كيلا وعلى إباحة بيع لبن هذه الغنم شهرا

ولم يقس بعضهم قوله في منع اقتسام الزرع والقمح بالتحري على قوله في إجازة قسمة اللحم بالتحري
ولم يقس بعضهم بيع بطن بعد بطن جملة شجر تحمل بطنين في السنة على قوله في إجازة بيع المقاثي بطنا بعد بطن والفصيل كذلك
وقاس بعضهم جواز السلم في المعدود والمزروع وغير ذلك على جواز السلم في المكيل والموزون ولم يقيسوا جواز السلم حالا على جوازه إلى أجل وقاس بعضهم كل ذلك بالجواز
ولم يقس بعضهم جواز إنكاح اليتيمة بنت عشر سنين للفاقة على منعه في إباحة الفروج للضرورة
وقاس بعضهم فاعل فعل قوم لوط على الزاني ولم يقس واطىء البهيمة على الزاني وكلاهما واطىء في مكان محرم
ولم يقيسوا الغاصب على السارق ولا على المحارب وكلاهما أخذ مالا بغير حق والغاصب بالمحارب مستويان في الإخافة وأخذ المال ولا سيما بعضهم يقول بقياس الشارب على القاذف فقد بان تناقضهم
فإن قالوا إن الصحابة قاسوا الشارب على القاذف فقد تقدم تكذيب هذه الدعوى لا سيما وقد كفانا بعضهم المؤنة في هذا فنسوا أنفسهم وقالوا الحدود لا تؤخذ قياسا وقد علمنا أن كل ما جاز للصحابة فهو جائز لمن بعدهم وما حدث دين جديد بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وأين الائتساء بالصحابة رضوان الله عليهم حتى يتركوا النصوص لقول بعضهم إذا وافق تقليدهم فيلزمهم أن يوجبوا حدا على شارب الدم وأكل الميتة ولحم الخنزير
وقد قاس بعض الفقهاء هؤلاء على شارب الخمر فرأى على كل واحد منهما ثمانين جلدة وهو الأوزاعي مع أن قياس شرب الدم على شرب الخمر لو جاز القياس أولى من قياس شرب الخمر على قذف محصنة
ووجدنا بعضهم قد قاس من سرق أو شرب أو زنى ثم تاب واعترض على المحارب في سقوط الحد عنه
حدثنا يحيى بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن دحيم حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا

إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا محمد بن بكر هو البرساني عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا سرق اللص ثم جاء تائبا فلا قطع عليه
وبعضهم لم يقس هؤلاء على المحارب وقاسهم على القاتل والقاتل أبعد شبها من الحدود الواجبة من المحارب
وقد قاس بعضهم القاتل إذا عفي عنه على الزاني غير المحصن ولم يقس المرتد إذا راجع الإسلام ولا المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه أو إذا عفا الإمام عن قتله أو اقتصر على ما دون ذلك وكل هذا تناقض
وقد ساوى الله تعالى بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فهلا قاسوا وأوجبوا على لاعب القمار والميسر وعلى المستقسم بالأزلام حدا كحد الخمر ثانيا
وبعضهم لم يقس قوله في جواز بيع جزء مشاع على قوله في المنع من جواز رهنه وهبته والصداق به
وأكثرهم قاس البيع حين النداء للجمعة على النكاح حينئذ والإجازة في جواز ذلك أو في إبطال كل ذلك
وقد قاس بعضهم دخول حمل الجارية من غير سيدها وابن الشاة وحمل الشجر في الرهن على كون الحوامل لكل ذلك في الرهن ولم يقس سقوط ما قابل الحوامل إذا تلفت من الشيء المرتهن فيه على قوله إنه لا يسقط من الحق شيء يتلف الولد والحمل واللبن
وبعضهم لم يقس قوله في بيع القاضي دنانير الغرم في ديونه التي هي دراهم أو دراهمه في ديونه التي هي دنانير على قوله في المنع من بيع ما هذا ما عدا ذلك في ديونه
وبعضهم لم يقس قوله في المنع من بيع مال الحي على قوله في إباحة بيع مال الميت في ديونهما
وبعضهم لم يقس قوله في جواز النكاح بشهادة حرين فاسقين على قوله في إبطال النكاح بشهادة عبدين عدلين
وأكثرهم لم يقس الكافر الوثني يسلم فيعرض على امرأته الإسلام فتأبى فيفسخ النكاح عنده على قوله في امرأة الكافر تسلم فيستأني عنده بفسخ نكاحه ما لم تنقض عدتها ولم يسلم هو وبعضهم ساوى بين الأمرين
وبعضهم لم يقس قوله في كل كافر تزوج كافرة على خمر بعينها أو خنزير بعينه ثم أسلما

فلا شيء لها غير ذلك على قوله إن أصدقها خمرا بغير عينها أو خنزيرا بغير عينه ثم أسلما فقال لها في الخمر قيمتها ولها في الخنزير مهر مثلها
وبعضهم لم يقس الحر يتزوج المرأة على خدمته لها شهرا فقال لها مهر مثلها على العبد يتزوجها على ذلك وقال ليس لها إلا خدمته لها
ولم يقس بعضهم إيجابه الطلاق على الذمي على قوله في إسقاط العدة عن الذمية يطلقها الذمي
ولم يقس بعضهم قوله إن أجل العبد في العنة ستة أشهر وأجله في الإيلاء شهران وأجل الأمة في المفقود سنتان وطلاق العبد تطليقتان وعدة الأمة حيضتان على قوله إن للعبد أن يتزوج أربعا وعلى قوله إن صيامه في الظهار شهران وفي الوطء في نهار رمضان كذلك وفي قتل الخطأ كذلك وشهادة العبد والأمة أربع شهادات في اللعان كالحر والحرة وعدة المستحاضة الأمة سنة كالحرة
وقاس كل ذلك بعضهم فجعل حكم العبد كل ذلك على نصف حكم الحر
وقال آخرون منهم أجل العبد في الإيلاء أربعة أشهر ولا يتزوج إلا امرأتين فأبو حنيفة يقول عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الأمة على زوجها الحر أو العبد بتطليقتين إلا بعد زوج ولا يتزوج العبد إلا امرأتين فقط وأجل العبد يولي من زوجته الأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل الحر في إيلائه من الأمة نصف أجل إيلائه من الحرة
قال أبو حنيفة صيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر في ظهاره من الزوجة الحرة والأمة ولا تحرم الحرة على زوجها العبد إلا بثلاث طلقات وأجل العبد على زوجته الحرة أو الأمة كأجل الحر في ذلك وأجل العبد يولي من الزوجة الحرة كأجل الحر
وقال مالك عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وتحرم الزوجة الحرة والأمة على العبد بتطليقتين وأجل العبد يولي من زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل العبد يعن عن زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر
وقال مالك يتزوج العبد أربعا من الحرائر والإماء وصيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر وعدة الأمة في الطلاق بالشهور ثلاثة أشهر كالحرة
وقال الشافعي عدة الأمة حيضتان وفي الوفاة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الحرة والأمة على العبد بتطليقتين ولا يتزوج العبد إلا اثنتين وأجل العبد

يعن أيولي من الحرة أو الأمة كأجل الحر في كل ذلك وصيامه في الظهار كصيام الحر
فاعجبوا لتناقض قياساتهم وهكذا في سائر الأحكام ولا فرق
فاتفقوا في صوم الظهار على ألا يقيسوه على سائر أحكام العبد و لا إجماع في ذلك لأن قتادة وغيره يقول هو على نصف صيام الحر ولم يتفقوا على نصف حكم العبد من حكم الحر إلا في عدة الوفاة وعدة الحيض وطلاق العبد والأمة ولا إجماع في ذلك لأن ابن سيرين يرى عدة الأمة كعدة الحرة في الوفاة وفي الإقراء وصح عن ابن عباس أنه أمر عبده بمراجعة زوجته وهي أمة بعد طلقتين ولم يقس بعضهم قوله من نظر إلى فرج امرأة طلقها طلاقا رجعيا في العدة بشهوة فهي رجعة على قوله فإن نظر إلى شيء من بدنها غير الفرج بشهوة فليست رجعة ولا على قوله إنه إن لمسها في بدنها بشهوة فهي رجعة
ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته لست لي بامرأة ونوى الطلاق ولم يره طلاقا على قوله لها قومي ونوى الطلاق فهو طلاق
ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري فقالت أنا أختار نفسي قال فهي بذلك طالق على قوله لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي أو قالت قد اخترت نفسي فلم ير ذلك كله طلاقا ولا على قوله لو قال لها لا ملك لي عليك قال هو طلاق
ولا قاس بعضهم قوله لمن قال لامرأته أنت طالق مثل الجبل فجعلها واحدة رجعية على قوله إن قال لها أنت طالق مثل عظيم الجبل فجعلها واحدة بائنة
ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالأولى أو قالت بالوسطى أو قالت بالآخرة فهي طلقة واحدة على قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالواحدة أو قالت واحدة قال فهي طالق ثلاثا
وقاس بعضهم قوله في التخيير على قوله في التمليك
ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها أنت علي حرام مثل الخنزير والميتة والدم فقال هي ثلاث ولا بد على قوله ذلك في غير المدخول بها وقال بعد ذلك لم أنو إلا واحدة فإنه يحلف وتكون واحدة ويراجعها إن أحبا ولم يقس ذلك كله على

قوله قال لمدخول بها أو لغير مدخول بها أنت بتة أو أنت البتة فقال هي ثلاث على حال فيهما معا
ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها وغير المدخول بها قد خليت سبيلك إنه ينوي ويحلف على ما نوى على قوله لمن قال لامرأته حبلك على غاربك إنها في المدخول بها ثلاث ولا بد وفي غير المدخول بها ينوي وتكون واحدة ولا قاس أكثرهم في قوله في التحريم في الزوجة على قوله في التحريم في الأمة وقد سوى بعضهم بين كل ذلك
ولا قاس بعضهم قوله فيمن شك أطلق زوجته أم لم يطلق وهي تقول له لم تطلق أنه تطلق عليه ولا بد
على قوله فيمن قال لامرأته إن كتمتني أمرا كذا فأنت طالق أو قال لها إن أبغضتني فأنت طالق فأخبرته بخبر لا يدري أكتمه ما خاف عليه أم لا وقالت له لست أبغضك وهو لا يدري أصدقت أم كذبت أنه طلاق عليه
ولا قاس بعضهم قوله في إباحة جميع كفارات الإيمان قبل الحنث على قوله إن كفارة يمين الإيلاء لا تكون إلا بعد الحنث
ولا قاس بعضهم جواز تسري العبد عبده على منعه من التفكير بالعتق فيما لا يجزي فيه إلا العتق لواجد الرقبة وهو واجد رقابا يطؤهن
ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته كل امرأة أتزوجها عليك فهي كظهر أمي قال ليتزوج عليها واحدة أو اثنتين معا أو ثلاثا معا وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة على قوله لها ومتى تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك كظهر أمي فرأى عليه لكل امرأة يتزوجها كفارة
ولم يقس بعضهم سقوط اللعان على الأعمى والمحدودة لسقوط شهادتها على قوله إن اللعان لا يسقط عن الفاسق المعلن لسقوط شهادته
ولم يقس بعضهم قوله من أعسر النفقة أجل شهرين أو نحوهما وإلا فرق بينهما على قوله فإن أعسر بالصداق أجل عامين أو نحوهما ثم فرق بينهما
ولم يقس بعضهم عدة المستحاضة من الطلاق سنة ميزت الدم أم لم تميز كانت لها أيام معهودة أو لم تكن على قوله عدتها من الوفاة أربعة أشهر وعشر
ولم يقس بعضهم قوله من قتل أمة أو عبدا قيمة كل واحد منهما مائة ألف درهم لم يغرم

في العبد إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم وفي الأمة خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم فإن كانت القيمة أقل من عشرة آلاف في العبد وخمسة آلاف في الأمة غرم القيمة كلها على قوله إن غصب عبدا أو أمة فماتا عنده غرم قيمتهما ولو بلغت ألف درهم ولم يقس هذا الهذيان على سائر أقواله إن أحكام العبد على نصف أحكام الحر في النكاح والطلاق وغير ذلك
ولم يقس قوله إنه يقص بين الحر والعبد والكافر والمؤمن في النفس على قوله إن ما دون النفس يقص فيه بين المؤمن والكافر ولا يقص فيه بين العبد والحر
ولم يقس بعضهم قوله يقتل عشرة بواحد على قوله لا تقطع يدان بيد ولا عينان بعين
ولم يقس بعضهم قوله لا يستقاد من أحد بحجارة ولا بطعنة رمح على قوله يقتل الزاني المحصن بالحجارة والمحارب بالطعن بالرمح
ولم يقس بعضهم إباحته قتل المرأة في الزنى وفي القود على قوله في منع قتلها إذا ارتدت
قال أبو محمد فيما ذكرنا كفاية على أننا لم نكتب من تناقضهم في القياس وتركهم في القياس وتركهم له إلا جزءا يسيرا جدا من أجزاء عظيمة جدا ولو تقصينا ذلك لقام منه ديوان أعظم من جميع ديواننا هذا كله
وكل ما ذكرنا فإنهم إن احتجوا فيه بإجماع على تركه لم ينفكوا من أحد وجهين إما أن يدعوه بغير علم فيكذبوا وإما أن يصدقوا في ذلك فإن كانوا قد صدقوا أقروا أن الإجماع جاء بترك القياس ولو كان حقا ما جاء الإجماع بتركه وإن ادعوا أنهم تركوا القياس حيث تركوه لنص وارد في ذلك فاعلموا أن كل قياس خالفناهم فيه فإن النص قد ورد بخلاف ذلك القياس لا بد من ذلك وإن قالوا بتركنا القياس حيث تركناه لدليل غير النص قلنا لهم هذا ما لا نعرفه ولا قدرته وأي دليل يكون أقوى من النص هذا عدم لا سبيل إلى وجوده أبدا
وبالجملة فكل واحد منهم إنما استعمل القياس في يسير من مسائله جدا وتركه في أكثرها فإن كان القياس حقا فقد اخطؤوا بتركه وهم يعلمونه وإن كان باطلا فقد اخطؤوا باستعماله فهم في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم
وقال بعضهم لا نقيس على شاذ

قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد لأنه ليس شيء في الشريعة شاذا تعالى الله أن يلزمنا الشواذ بل كل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه و سلم فهو حق والحق لا يكون شاذا وإنما الشاذ الباطل
وقال بعضهم لا نقيس على فرع
قال أبو محمد وهذا كالأول ولا فرع في الشريعة وكل ما جاء نصا أو إجماعا فهو أصل فأين ههنا فرع لو أنصف القوم أنفسهم
وقال بعضهم الحدود والكفارات لا تؤخذ قياسا
قال أبو محمد وما الفرق بينهم وبين من قال بل العبادات وأحكام الفروج لا تؤخذ قياسا وكل من فرق بين شيء من أحكام الله تعالى فهو مخطىء بل الدين كله لا يحل أن يحكم في شيء منه بقياس على أنهم قد تناقضوا وقاسوا في البابين وأوجبوا حد اللوطي قياسا وأوجبوا كفارات كثيرة قياسا والقوم متناقضون تناقضا يشبه اللعب والهزل أعوذ بالله مما امتحنوا به
فإن قال قائل وأنتم قد تركتم حديثا كثيرا
قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق كذبتم وأفكتم ولا يوجد ذلك من أحد منا أبدا إلا أربعة أوجه لا خامس لها إما لقيام البرهان على نسخه أو تخصيصه بنص آخر وهذا لا يحل لأحد
وإما أنه لم يبلغ إلى الذي لم يقل به منا وهذا عذر ظاهر و { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين }
وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان والبرهان لا يتعارض والحق لا يعارضه حق آخر
وإما أن بعضنا يرى ترك الحديثين المتعارضين لأنه لم يصح عنده الناسخ وإذ لم يصح عنده الناسخ منهما فهو منهي أن يقفو ما لا علم له به وهذا خطأ وبعضنا يرى ههنا الأخذ بالزائد وبه نقول

فليس منا أحد ولله الحمد ترك حديثا صحيحا بلغه بوجه من الوجوه لقول أحد دون رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا لرأي ولا لقياس ونعوذ بالله من ذلك
وأما هم فإنهم يتركون نصوص القرآن لآرائهم وأهوائهم وتقليدهم ويتركون الصحيح من الحديث عندهم كذلك ويتركون القياس وهم يعرفونه ويعلمونه وهو ظاهر إليهم كذلك فالقوم لم يتمسكوا إلا باتباع الهوى والتقليد فقط ونعوذ بالله من الخذلان
وقد انتهينا من إيضاح البراهين على إبطال الحكم بالقياس في دين الله تعالى إلى حيث أعاننا الله تعالى عليه راجين الأجر الجزيل على ذلك ولاح لكل من ينصف نفسه أن القياس ضلال ومعصية وبدعة لا يحل لأحد الحكم به في شيء من الدين كله فليتق كل امرىء ربه
ولا يحمله اللجاج على الإعراض عن الحق ولا يقتحم به حب استدامة رياسة قليلة على تحمل ندامة طويلة فعن قريب يقف في مواقف الحكم بين يدي عالم الخفيات فليفكر من حكم في دين الله تعالى بغير ما عهد به إليه في كلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلينا ماذا تكون حجته إذا سئل عن ذلك
وليوقن أن من سئل يوم القيامة بماذا حكمت
فقال بكلامك يا رب وكلام رسوله إلي فقد برىء من التبعة من هذا الوجه جملة ومن زاد على ذلك أو تعداه فلينظر في المخلص وليعد المسألة في حكمه بتقليد الآباء ورأيه وقياسه جوابا و { فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمري إلى لله إن لله بصير بلعباد } وحسبي الله ونعم الوكيل

الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل
في جميع أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى القول بالعلل واختلف المبطلون للقياس فقالت طائفة منهم إذا نص الله تعالى على أنه جعل شيئا ما سببا لحكم ما فحيث ما وجد ذلك السبب وجد ذلك الحكم وقالوا مثال ذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نهى عن الذبح بالسن وأما السن فإنه عظم
قالوا فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلا قالوا ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في السمن تقع فيه الفأرة فإن كان مائعا فلا تقربوه قالوا فالميعان سبب ألا يقرب فحيث ما وجد مائع حلت فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب
قال أبو محمد وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله ولا أحد من أصحابنا وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه
وقال هؤلاء وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه إن هذا لسبب كذا
وقال أبو سليمان وجميع أصحابه رضي الله عنهم لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه فإذا نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا ولأن كان كذا أو لكذا فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها
ولا توجب تلك الأسباب شيئا من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة قال أبو محمد وهذا هو ديننا الذي ندين به وندعو عباد الله تعالى إليه ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى
فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم فكل عظم ما عدا السن فالتذكية به جائزة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن عاجزا عما قدر عليه هؤلاء المتخرضون ولو كانت الذكاة بالعظام حراما لما اقتصر صلى الله عليه و سلم على ذكر السن وحده ولما رضي بهذا العي من ذكر شيء

وهو يريد غيره ولقال ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكلوا ما لم يكن عظما أو ظفرا وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة مانعة من الذبح لما هي فيه لما كان لذكر السن معنى ولكان تلبيسا لا بيانا فوضح يقينا أن العظمة ليست مانعة من الذبح بالجرم الذي هي فيه إلا أن يكون في سن فقط وكذلك القول في الحديث الآخر ولا فرق
والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه ولم يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد لكن أتوا إلى قوله صلى الله عليه و سلم في ذلك الحديث نفسه وأما الظفر فإنه مدى الحبشة فكان يلزمهم إذا جعلوا قوله صلى الله عليه و سلم فإنه عظم سببا مانعا من الذبح بكل عظم أن يجعلوا قوله صلى الله عليه و سلم وأما الظفر فإنه مدى الحبشة مانعا من التذكية بكل مدية ك أنت لحبشي وهذا ما لا يقولونه بل اقتصروا على المنع من الذبح بالظفر فقط
فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى سائر العظام لكان اهدى لهم ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ
وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة وهم المغلبون للقياس على نصوص القرآن والحديث في كثير من أقوالهم فإنهم تركوا القياس ههنا جملة فأجازوا الذبح بكل عظيم لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك إلى تخصيص النص بلا دليل فأجازوا الذبح بكل سن نزعت واقتصروا على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع وأجازوا الذكاة بكل ظفر قلع وهذا خطأ منهم
والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق
{ يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا } فلو كان التعليل صوابا لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله صلى الله عليه و سلم بأن جعله سببا للحكم أولى عند كل من له مسكة عقل ودين من علة يتكهنون في استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى
قال أبو محمد وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر منزوعين كانا أو غير منزوعين فأما ما عداهما من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك مما يفري فحلال الذبح به والنحر والتذكية
فإن قالوا إن الإجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في الحديث المذكور قيل لهم وبالله تعالى التوفيق قد ثبت الإجماع على صحة قولنا وعلى إبطال التعليل وإلا نتعدى السبب

المنصوص عليه إلى ما لم ينص عليه ولو كان التعليل حقا ما جاز وجود الإجماع بخلافه
قال أبو محمد وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن الصباح ثنا أبو علي الحنفي ثنا قرة بن خالد قال انتظرنا الحسن فجاء فقال دعانا جيراننا هؤلاء ثم قال قال أنس بن مالك نظرنا النبي صلى الله عليه و سلم ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال ألا إن الناس قد صلوا رقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة
قال أبو محمد فقد جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأسباب التي يختار لها تأخير العتمة انتظار الصلاة فيكون المنتظر لها في صلاة ما انتظرها ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير العصر والمغرب فإذا كان ما نص النبي صلى الله عليه و سلم عندهم ليس علة يبنى عليها فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى من ألا يبنى عليها
وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عز و جل إلى أطم من هذا
فقال إن النبي صلى الله عليه و سلم يأمر بالأمر ويقول بالقول مما لا يجوز لكن لعلة شيء آخر أراده
قال وذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم ذكر أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلوات في الجماعات فقالوا هذا لا يجوز وإنما قاله صلى الله عليه و سلم تغليظا لا أنه أراد ذلك
وقالوا إن أمره صلى الله عليه و سلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ليس على إيجاب ذلك وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها لأنها كانت تؤذي المهاجرين
قالوا ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم للذي دخل المسجد بهيئة بذة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب يوم الجمعة فقال قم فاركع ركعتين قالوا والركوع حينئذ لا يجوز وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه
وقالوا من ذلك أيضا أمره صلى الله عليه و سلم بفسح الحج إنما أمر به وهو لا يجوز ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط المهلك كثير
قال أبو محمد وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل وضعف العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه وبضرب العنق وباستيفاء المال لأنهم ينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يأمر بالباطل وبما لا يجوز ويصفونه بالكذب
وليت شعري أعجز النبي صلى الله عليه و سلم عن أن يأمر بقتل الكلاب كما فعل إذ أمره الله

تعالى حتى يحلق هذا التحليق السخيف الذي يشبه عقول المعللين بغسل الإناء من ولوغها سبعا
أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ الكلاب وأن من اتخذ كلبا لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم قيراطان فهو لأمره بغسل الإناء سبعا أعصى وأترك تعالى الله عن هذا وتنزه نبيه صلى الله عليه و سلم عن هذا الوصف الساقط والصحابة رضي الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم من أن تكون هذه صفتهم أو تراه صلى الله عليه و سلم عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز
أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة وقد اعتمد بهم النبي صلى الله عليه و سلم قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد ثالثة لم تتم عمرة الحديبية وعمرة القضاء بعدها وعمرته من الجعرانة بعد فتح مكة كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع أما اكتفوا بهذا وبأمره صلى الله عليه و سلم لهم في حجة الوداع فمن شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة حتى يحتاج إلى أمرهم بما لا يحل بزعم من لا زعم له من فسخ الحج
أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن هذا السخف والجنون
إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم أو في غاية الشبه بالأنعام بل هو أضل سبيلا
وتراه صلى الله عليه و سلم لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة حقا أما كان يكتفي بأن يأمر بهجرهم كما فعل بالمتخلفين عن تبوك أو بطردهم كما طرد الحكم وهيثا المخنث أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالأربعين حتى يتعد إلى الكذب والأخبار بما لا يحل اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك
حدثنا حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر قال قلت لعبيد الله بن عمر أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أفاد بالقسامة قال لا
قلت فأبو بكر قال لا
قلت فعمر قال لا
قلت فيم تجترئون

على ذلك فسكت قال فقلت ذلك لمالك فقال لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحيل ثم ذكر باقي الكلام
قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه وهذا مذهب الأئمة وكل من في قلبه إسلام ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر فأتى هؤلاء الأوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن لا يحمل أمر النبي صلى الله عليه و سلم على الحيل
قال أبو محمد فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي صلى الله عليه و سلم بهم وقد نهاهم عن الوصال فليعلموا
أن ذلك كان منه عليه السلام صياما مقبولا لأن الوصال له مباح بالنص من قوله صلى الله عليه و سلم لست كأحد منكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وكان منهم عقوبة لهم لا صياما وهكذا في نص الحديث أنه كان كالتنكيل بهم وجائز للإمام أن يمنع المرء الطعام اليوم والليلة ومقدارا يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال كما فعل صلى الله عليه و سلم
وبالله تعالى التوفيق
ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل على حسب ما التزمنا لجميع خصومنا ومبينون بحول الله واهب القوة لا إله إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى تمويههم بها وحل شغبهم الفاسد ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل جملة إن شاء الله تعالى وبه نعتصم
احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال فمن ذلك قول الله عز و جل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام لأخيه { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في لأرض فكأنما قتل لناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بلبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في لأرض لمسرفون }
قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق
هذا أعظم حجة عليكم لأن الله تعالى لم يلزم هذا الإصر غير بني إسرائيل فقط ولو أن ذلك علة مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس
فإن قالوا هو لازم لجميع الناس سألناهم ما تقولون في جميع الكبائر أهي فساد في الأرض أم ليست فسادا في الأرض إلا ما سمي فسادا في الأرض وليس هذا واقعا إلا على

المحاربة فقط ولا بد من أحد الجوابين
فإن قالوا الكبائر كلها فساد في الأرض أريناهم شارب الخمر والسارق والمرابي وآكل أموال اليتامى والزاني غير المحصن وآكل لحم الخنزير والدم والميتة والغاصب والقاذف مفسدين في الأرض ولا يحل قتلهم بل من قتلهم قتل بهم قودا فقد نقضوا قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا لأن في نص تلك الآية إباحة قتل كل مفسد في الأرض
فإن قالوا ليس شيء من الكبائر فسادا في الأرض حاشا المحاربة
أريناهم الزاني المحصن يقتل وليس مفسدا في الأرض فانتفضت العلة التي ادعوها علة لأن في الآية المذكورة ألا تقتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض الزاني المحصن لم يقتل نفسا ولا أفسد في الأرض وهو يقتل ولا بد ولا يكون قاتله كأنه قتل الناس جميعا
فإن قالوا إن زنى المحصن وحده ووطء امرأة الأب وردة المرتد وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة فساد في الأرض وما عدا هذا فليس فسادا في الأرض كابروا وتحكموا بلا دليل وقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل الله أعظم جرما من سائر الزناة وسواء كانوا محصنين أو غير محصنين إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم جرما من المحصن في بعض الأحوال التي ذكرنا والمحصن على كل حال يقتل وإن كان غير المحصن أعظم جرما منه في بعض الأحوال التي ذكرنا
وأيضا فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لأصولهم في العلل وموجب ألا يكون الشيء علة إلا حيث نص الله عز و جل على أنه علة لأنهم يقولون إن الكبيرة لا تكون فسادا إلا حيث نص على أنها فساد وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها وبطل إجراؤهم العلة حيث وجدت وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب فإنا لا نطلقه لأن النص لم يأت به وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله ولا معنى للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس وتسمية الباطل باسم الحق فهذا توقف على فساد عمله ونبين له قبح مغبته وبالله تعالى التوفيق
واحتج بعضهم بقول الله عز و جل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا { فرح لمخلفون بمقعدهم خلاف رسول لله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل لله وقالوا لا تنفروا في لحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون }

قال أبو محمد وهذه الآية كافية في إبطال العلل لأن الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه وأمرهم الفرار عن حر جهنم وألا يصبروا عليها أصلا نعوذ بالله منها
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم لله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وتق لله وتخفي في نفسك ما لله مبديه وتخشى لناس ولله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على لمؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر لله مفعولا }
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه نص على أن النبي صلى الله عليه و سلم إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه و سلم في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم فنكاحه صلى الله عليه و سلم إياها موجب علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق الولادة لكن الاستلحاق المنسوخ فقط وهذا الذي قلنا هو نص الآية ولو كان علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه ولا بد فلما لم يكن ذلك بلا خلاف سقط ظنهم أن إنكاحه عز و جل لرسوله صلى الله عليه و سلم زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك
وصح قولنا أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا بقوله تعالى { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب }
قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية كالقول في الآية التي ذكرنا آنفا ولا فرق لأننا قد وجدنا أموالا كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم إنما هي ألا يكون دولة بين الأغنياء لكان ذلك أيضا علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب خاصة ألا يكون دولة بين الأغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم هذا الموضع وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضا في قسمة خمس الغنائم ولا مزيد وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله تعالى نتأيد واحتجوا بقوله تعالى

{ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على لله حجة بعد لرسل وكان لله عزيزا حكيما }
وقال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن لأحد على الله تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم بل لله الحجة البالغة { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عز و جل ولكن الله تعالى أراد الإحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل وأراد الإعذار إلى من لم يؤمن منهم فهذا غرض الله عز و جل فيهم ومراده وليس هذا علة وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض ببيان جلي لا يحيل على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { وعلى لذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن لبقر ولغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو لحوايآ أو ما ختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون }
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك
فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجبا أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة كأولئك وفينا نحن أيضا أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف الميزان
وفينا فعل قوم لوط وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز ولا جوزوا بشيء بما جوزي به أولئك علمنا أن البغي ليس علة للجزاء بما جوزي به أولئك لأن العلة مطردة في معلوماتها أبدا لا تجوز أصلا وصح أن البغي من أولئك كان سببا لجزائهم بما جوزوا به وليس سببا في غيرهم لأن يجازوا بمثل ذلك فصح قولنا إن الأسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم عليها ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من أجلها في بعض الأمكنة وسقط قولهم سقوطا لا إشكال فيه
والحمد لله رب العالمين
وهذا قد ظهر كما ترى في الأسباب الصحيحة فما الظن بالأسباب الكاذبة التي يدعونها في الأحكام ويضعونها وضعا مختلفا متخاذلا بلا برهان إلا المجاهرة بالقربة

وما لا يصح بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا أيضا بقول الله تعالى { هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار } الآيات إلى قوله { ههههه إلى قوله { ذلك بأنهم شآقوا لله ورسوله ومن يشآق لله فإن لله شديد لعقاب }
قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأن المحاربين فيما بيننا وأهل الإلحاد منا فهم مشاقون لله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم وأهل الكتاب منا كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقينا أن المشاقة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ليست علة لخراب البيت وأصلا ولا سببا في خراب بيوت المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم وهذا هو نفس قولنا إن الشيء إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم أصلا
وبالله تعالى التوفيق
واحتجوا بقوله تعالى { إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون } قالوا فكانت هذه علل في وجوب تحريمها أو الانتهاء عنها قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم من وجوه أحدها أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرما إذا بغى على وجهه وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال صلى الله عليه و سلم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكت من كان من قبلكم أو كما قال صلى الله عليه و سلم مما هذا حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئا من عند أنفسنا أو برأينا أو بغير ما أتى به النبي صلى الله عليه و سلم
وأيضا فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والإشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم

فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الإسلام وقد كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي حلال يشربها الصالحون بعلم النبي صلى الله عليه و سلم ولا ينكر ذلك
فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم لما وجدت قط إلا محرمة لأنها لم تكن قط إلا مسكرة ولم يكن الشيطان قط إلا مريدا لإلقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها أو سبب لا في الوقت الذي نص الله عز و جل على تحريمها فيه ولا قبله البتة لأن قوله عز و جل { إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون } إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها ولا أنه سبب تحريمها ولا يحل لأحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عز و جل عن نفسه ولا أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا هو قولنا إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا
وبالله تعالى التوفيق
وقد قال بعض أصحابنا إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر إنما كان بعد تحريمها لأن شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة مبغض من الصالحين ومعاد لهم
قال أبو محمد وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد وقد أدى تعليلهم هذا الفاسد المفترى جماعة من الجهال إلى الضلال المبين فإذا رأوا سكرانا معربدا متلوثا في أقذاره وأهذاره جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت الخمر نعوذ بالله من هذا القول ومما سببه من التعليل الملعون
واحتجوا بقوله تعالى { فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا }
قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأننا نحن نظلم من بكرة إلى المساء ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات ولا سببا له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سببا له فقط لا فيما عدا ذلك المكان البتة

واحتجوا بقوله تعالى { وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر }
قال أبو محمد وهذا عليهم لأن الحكم المذكور لم يوجب استيقان جميع أهل الكتاب بل فيهم غير مستيقن وفيهم من تمادى على شكه وإفكه وشركه ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير مستيقن فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين
واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام { إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى }
قال أبو محمد وهذا حجة عليهم لأن الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سببا له لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح قولنا إن الشيء إذا جعله الله سببا لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا إلا فيه وحده لا في غيره فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن وقد أريناهم بعون الله تعالى أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل الموجب عندهم للقياس والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في نهيه عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث إنما فعلت ذلك من أجل الدابة
قال أبو محمد أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لأنهم يبطلون هذا السبب الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه ولا يقيسون عليه شيئا أصلا نعم ولا يأخذون بذلك الحكم بعينه بل يعصونه ويجيزونه ادخار لحوم الأضاحي ما شاء المرء من الدهور وإن دفت الدواف أفلا يستحي من يبطل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك من أن يحتج بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز باللوز إلى أجل لا يحل إن هذا لخلق فاسد منتج من رذائل جمة منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية وقلة المبالاة بالصدق وشدة الجور وقلة النصيحة والضعف والعقل ونعوذ بالله من كل ذلك
وأما نحن فنقول إن النبي صلى الله عليه و سلم جعل السبب في النهي عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الأضحى فإذا كان ذلك أبد الأبد حرم إدخار لحومها

أكثر من ثلاث ليال فإن لم تدف دافة بحضرة الأضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا وانقيادا لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لم يأت ما ينسخه وهذا الذي قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر واحتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم إنما جعل الأذان من أجل البصر
قال أبو محمد وهذا موافق لقولنا لا لقولهم لأننا لم ننكر وجود النص حاكما بأحكام ما لأسباب منصوصة لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى غيرها ووضع تلك الأحكام في غير ما نصت فيه واخترع أسباب لم يأذن بها الله تعالى
وأيضا فهذا الحديث حجة عليهم لأنهم أول عاص له أكثر أهل القياس مخالفون لما في هذا الحديث من أن من اطلع على آخر ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شيء عليه
وقالوا إن قول المظاهر لامرأته أنت علي كظهر أمي لما كان منكرا من القول وزورا كان ذلك علة لوجوب الكفارة
قال أبو محمد وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم فأقروا أن قول المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي منكر من القول وزورا ولم يوجب ذلك عليها الكفارة وقال تعالى { ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل } فسوى الله تعالى بين قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وبين ادعائه ولد غيره ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة وجعل في الآخرة الكفارة فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة في الحكم وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين كفارة ولم يجب في الآخر
وقد قال غيره من الفقهاء إيجاب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها ككفارة المظاهر ولا فرق
فهذا كل ما موهوا به من الحديث لاح أنه حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق
وجملة القول إن كل شيء نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فهو حق وكل ما أوردوه

بآرائهم مما ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه و سلم فهو باطل وإفك وهم كمن قال لما حرم الله تعالى وفرض ما شاء حرمت أنا أيضا وفرضت ما شئت لأنه تعالى حرم وفرض ولا فرق
وقد صح على رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق عمر بن عنبسة في نهيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إن تلك ساعة تطلع ومعها قرن الشيطان ويسجد لها الكفار حينئذ وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس و إن تلك الساعة تسجر فيها النار لو كان هذا على بادىء الرأي وظاهر الاحتياط لكانت الصلاة حينئذ أحرى وأولى معارضة الكفار فإذا سجدوا للشمس صلينا نحن لله تعالى وإذا سجرت النار صلينا ونعوذ بالله منها
هذه صفة عللهم المفتراة الكاذبة وهذا ما جاء به النص فصح أنه لا يحل لأحد تعليل في الدين ولا القول بأن هذا سبب هذا الحكم إلا أن يأتي به نص فقط

فصل في الاشتقاق
قال أبو محمد واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل وأن الأحكام إنما وقعت العلل بأن الأسماء مشتقة في اللغة
وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة إذ لا سبب في الاشتقاق يتوصل به إلى إثبات العلل في الأحكام فكيف وهو باطل
الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشيء ما مأخوذ من صفة فيه كتسمية الأبيض من البياض والمصلي من الصلاة والفاسق من الفسق وما أشبه ذلك
وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه ولا مصليا من لا يصلي ولا فاسقا من لا فسق فيه فأي شيء في هذا مما يتوصل به إلى إيجاب القياس والقول بأن البر إنما حرم أن يباع البر متفاضلا لأنه مأكول أو لأنه مكيل أو لأنه مدخر وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل وبالله تعالى التوفيق
وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل اسم جنس أو نوع

أو صفة فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان ضروري وهو أننا نقول لمن قال إنما سميت الخيل خيلا لأجل الخيلاء التي فيها وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه والقارورة قارورة لاستقرار الشيء فيها والخابية خابية لأنها تخبىء ما فيها إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما البتة
أحدهما أن تسمي رأسك خابية لأن دماغك مخبوء فيها وأن تسمي الأرض خابية لأنها تخبىء كل ما فيها وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما وكذلك القصر والجبل وأن تسمي بطنك قارورة لأن مصيرك مستقر به وأن تسمي البئر قارورة لأن الماء مستقر فيها وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلا للخيلاء التي فيهم ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتخذين لإضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب وصار ملهى وملعبا وضحكة يتطايب بخبره وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد
والوجه الثاني أن يقال إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبء فمن أي شيء اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبء وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه وهذا جنون أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم ومع أنه كفر فهو محال ممتنع
وأيضا فإذا بطل الاشتقاق في بعض الأسماء كلف من قال به في بعضها أن يأتي ببرهان وإلا فهو مبطل
وأيضا فليس قول من قال إن الخيل مشتقة من الخيلاء أولى بالقبول من قول من قال إن الخيلاء مشتقة من الخيل وكلا القولين دعوى فاسدة زائفة لا دليل على صحتها في البرهان الضروري قد قام على بطلانها لأنه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة ولا وجدت الخيل إلا والخيلاء موجودة ولم يوجد قط أحدهما قبل الآخر فبطل قولهم وبالله تعالى نتأيد
ولو كان ما قالوا لكانت الأسد أولى أن تسمى خيلا لأنهم أكثر خيلاء من الخيل ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور لأنها أشد ارتفاعا منها وإلا فما الذي جعل القوارير أولى بهذا الاسم من الرمان والعتائد والإدراج والقلال

وقالوا لما وجدنا العصير حلو لا يسمى خمرا وهو حلال ثم حدثت فيه الشدة فسمي خمرا فحرم ثم ارتفعت الشدة فلم يسم خمرا لكن سمي خلا علمنا أن العلة المحرمة والتي حرم من أجلها والتي من أجلها سمي خمرا هي الشدة
قال أبو محمد هذا كلام فاسد في غاية الفساد
فأول ذلك أن يقال لهم في أي عقل وجدتم أن كون الشدة فيه أوجبت أن يسمى بالخاء والميم والراء ولكن لا بد لكل عين فيها صفات مخالفة لصفات عين أخرى أن يوقع على كل واحد منها اسم غير اسم العين الأخرى ليقع التفاهم فيها بين المخاطبين فعلق على ما فيه الشدة اسم ما وعلى ما لا شدة فيه اسم آخر لا لشيء إلا ليفهم الناس مراد من كلمهم وخاطبهم وكذلك موجود في العالم وإلا ما ضاقت اللغة عن تسميته أو عجز أهلها عن ذلك أو لم يرد الله تعالى أن يكون له في هذه اللغة اسم
وأيضا فإن اللغة العربية أول من نطق بها إسماعيل والخمر أقدم من كون إسماعيل في الأرض لأنهما من الأشياء التي علم آدم أسماءها قال تعالى { وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين } فعم تعالى ولم يخص فقد كانت الخمر على حالها من الإسكار والشدة وهي حلال وهي لا تسمى خمرا فقد كذب هذا القائل وأثم
وأيضا فإن الخمر تسمى في كل لغة بغير اسم الخمر عندنا فما وجدنا ألسنتهم تلتوي لذلك ولا أحكامهم تنطوي ولا الخمر حلت لهم لأجل أن اسمها عندهم في اللغة العربية ولم نجد قط تلك العين المسماة خمرا إلا وهي مسكرة في كل وقت وفي كل أمة وفي كل مكان حاشا خمر الجنة فقط فبطل قولهم في العلل
وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإن العرب تسمي الخمر بخمسة وستين اسما ما وجدناها تضطر إلى ترك شيء منها ولا اضطرت إلى وضعه وقد بينا الكلام في كيفية أصل اللغات في باب مفرد من كتابنا هذا ولله الحمد
وكذلك قالوا إن كون البر مطعوما محرما متفاضلا هو علة تسمية ذلك ربا والقول عليهم في ذلك كالقول في الخمر ولا فرق وبالله تعالى لا إله إلا هو التوفيق
وقالوا العلة في وجوب كون الرقبة في الظهار مؤمنة هي وجوب كونها سليمة الأعضاء كرقبة القتل

قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد واحتجاج للخطأ بالخطأ وللدعوى بالدعوى ومثلهم في هذا القول كإنسان قال لي على زيد درهم فقيل له هل لك بينة فقال نعم فقيل وما هي قال إن لي على عمر درهما فقيل له وما بينتك على أن لك على عمر درهما قال بينتي على ذلك أن لي على زيد درهما فهو يريد أن يجعل دعواه صحة لدعوى أخرى وكلتاهما ساقطة إذ لا دليل عليهما وليس هذا الفعل من أفعال أهل العقول ودعواهم أن الرقبة في كلا الموضعين لا تجزىء إلا أن تكون سليمة دعوى زائفة لا تصح فكيف أن يقاس عليها ألا تكون إلا مؤمنة
وقال بعضهم العلة في ذلك أنها كفارة عن ذنب
قال أبو محمد وليس على قاتل الخطأ ذنب أصلا فبطل تعليلهم الفاسد وأيضا فهذه دعوى كالأولى لا دليل عليها
وما الفرق بينهم وبين من قال إنما وجبت في القتل أن تكون الرقبة مؤمنة لأنها كفارة عن قتل
فما عدا القتل فلا تجب فيه مؤمنة وهذا لا انفكاك منه فكل هذه دعوى لا دليل عليها ولا ينفكون ممن بطل ما أثبتوه ويثبت ما أبطلوا
واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعي علة في شيء من الأحكام إلا أمكن لخصمه أن يأتي بعلة أخرى يدعي أن ذلك الحكم إنما وجب لها وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى نعتصم

فصل في إبطال القول بالعلل
قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به قد بينا عواره ولاح اضمحلاله والحمد لله رب العالمين
ونحن الآن بعون الله تعالى وقوته لا إله إلا هو شارعون في إبطال القول بالعلل في شيء من الشرائع وبالله تعالى التوفيق
فيقال لمن قال إن أحكام الشريعة إنما هي العلل

أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون أهي من فعل الله تعالى وحكمه أم من فعل غيره وحكم غيره أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا
فإن قالوا من فعل غير الله من غير حكمه جعلوا ههنا خالقا غيره وفاعلا للحكم غيره وجعلوا فعل ذلك الفاعل موجبا على الله تعالى أن يفعل ما فعل وأن يحكم بما حكم به وهذا شرك مجرد وكفر صريح وهم لا يقولون ذلك
فإن قالوا ليست من فعله ولا من فعل غيره أوجبوا أن في العالم أشياء لا فاعل لها أو أنهم في هذا الحاكمون على الله تعالى بها وهم الذين يحللون ويحرمون ويقضون على الباري عز و جل وهذا كفر مجرد ومذهب أهل الدهر وهم لا يقولون ذلك
فإن قالوا بل هي من فعل الله عز و جل وحكمه
قلنا لهم أخبرونا عنكم أفعلها الله تعالى لعلة أو فعلها لغير علة فإن قالوا فعلها تعالى لغير علة تركوا أصلهم وأقروا أنه تعالى يفعل الأشياء لا لعلة وقيل لهم أيضا ما الذي أوجب أن تكون الأحكام الثواني لعلل وتكون الأفعال الأول التي هي علل هذه الأحكام لا لعلل وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا برهان عليها وإن قالوا بل فعلها تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل أيضا كما سئلوا في التي قبلها وهكذا أبدا فلا بد لهم ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقفوا في أفعال ما فيقولون إنه فعلها لغير علة فيكونون بذلك تاركين لقولهم الفاسد إنه تعالى لا يفعل شيئا إلا لعلة أو يقولون بمفعولات لا نهاية لها وأشياء موجودة لا أوائل لها وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة
وقبح الله قولا يضطر قائله إلى مثل هذه المواقف فبطل قولهم في العلل وصح قولنا إن الله تعالى يفعل ما يشاء إلا لعلة أصلا بوجه من الوجوه بهذا البرهان الضروري الذي لا انفكاك عنه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ويكفي من هذا كله أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي التابعين أولهم عن آخرهم ليس منهم أحد قال إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلة وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس
وأيضا فدعواهم إن هذا الحكم حكم به الله تعالى لعلة كذا فرية ودعوى لا دليل عليها ولو كان هذا الكذب عن أحد من الناس لسقط قائله فكيف على الله عز و جل

ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسبابا له وقد بينا كثيرا من ذلك في أول هذا الباب
قال أبو محمد ومن عجائب هؤلاء القوم أنهم لو قيل لهم تعمدوا الباطل ما قدروا على أكثر مما فعلوا ومن ذلك أنهم أتوا إلى حكم لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم على أن له سببا وهو تحريم البر بالبر متفاضلا فجعلوا له سببا وعلة وحرموا من أجله الحديد بالحديد متفاضلا وبيع الأرز بالأرز متفاضلا وبيع السقيمونيا بالسقمونيا متفاضلا ثم أتوا إلى حكم جعل له رسول الله صلى الله عليه و سلم نسبا وأخبر أنه حكم بذلك من أجله فعصوه وأطرحوه وهو قوله صلى الله عليه و سلم إنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث لأجل الدافة فقالوا ليست الدافة سببا ولا يجب من أجلها ترك ادخار لحوم الأضاحي وهكذا يكون عكس الحقائق وبالله تعالى نعوذ من الخذلان
قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالأسباب فما الفرق بين الأمرين
فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الفرق بين العلة وبين السبب وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في بابه وكلها لا يوجب تعليلا في الشريعة ولا حكما بالقياس أصلا فنقول وبالله تعالى التوفيق
إن العلة هي اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا والعلة لا تفارق المعلول البتة ككون النار علة الإحراق والثلج علة التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلا وليس أحدهما قبل الثاني أصلا ولا بعده
وأما السبب فهو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله لو شاء لم يفعله كغضب أدى إلى انتصار فالغضب سبب الانتصار ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر وليس السبب موجبا للشيء المسبب منه ضرورة وهو قيل الفعل المتسبب منه ولا بد وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه مفاعل ويقصده ويفعله وهو بعد الفعل ضرورة فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشيء هي شيء غير وجوده وإزالة الغضب غير الغضب والغضب هو السبب في الانتصار وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار فصح أن كل معنى مما ذكرنا غير المعنى الآخر فالانتصار بين الغضب وبين

إزالته وهو مسبب للغضب وإذهاب الغضب هو الغرض منه
وأما العلامة فهي صفة يتفق عليها الإنسانان فإذا رآها أحدهما علم الأمر الذي اتفقا عليه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لابن مسعود إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك فكان رفع الحجاب واستماع حركة الني صلى الله عليه و سلم علامة الإذن لابن مسعود وكقوله صلى الله عليه و سلم إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار فكانت أصوات الأشعريين بالقرآن علامة لموضع نزولهم ومن هذا أخذت الأعلام الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق والأعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس
وقال أبو محمد وهذا معنى رابع
وقد سمي أيضا العلل معاني وهذا من عظيم شغبهم وفاسد متعلقهم وإنما المعنى تفسير اللفظ مثل أن يقول قائل معنى الحرام فتقول له هو كل ما لا يحل فعله أو يقول معنى الفرض فنقول هو كل ما لا يحل تركه أو يقول ما الميزان
فنقول له آلة يعرف بها تباين مقادير الأجرام فهذا وما أشبه هو المعاني وهذا أيضا شيء خامس
وكل هذا لا يثبت علة الشرائع ولا يوجب قياسا لأن العلامة إذا كانت موضوعة لأن يعرف بها شيء ما فلا سبيل إلى أن يعرف بها شيء آخر بوجه من الوجوه لأنه لو كان ذلك لما كانت علامة لما جعلت له علامة ولوقع الإشكال
قال أبو محمد فلما كانت هذه المعاني المسماة الخمسة التي ذكرنا مختلفة متغايرة كل واحد منها غير الآخر وكانت كلها مختلفة الحدود والمراتب وجب أن يطلق على كل واحد منها اسم غير الاسم الذي لغيره منها
ليقع الفهم واضحا ولئلا تختلط فيسمى بعضها باسم آخر منها فيوجب ذلك وضع معنى في غير موضعه فتبطل الحقائق
والأصل في كل بلاء وزعماء تخليط وفساد اختلاط أسماء ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة فيخبر المخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي تحته فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر فيقع البلاء والإشكال وهذا في الشريعة أضر شيء وأشده هلاكا لمن اعتقد الباطل إلا من وفقه الله تعالى

وإذ قد بينا هذه الأسماء الأربعة وهي العلة والغرض والسبب والعلامة وبينا أن معانيها مختلفة وأن مسمياتها شتى وحسمنا داء من أراد إيقاع اسم العلة في الشريعة على معنى السبب فيخرج بذلك إلا ما لا يحل اعتقاده من أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليها أن يشرعها أو إلى الفرية على الله تعالى في الإدعاء أنه شرع عللا لم ينص عليها هو تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم و لا أذنا بها ولا بد لأهل العلل من أحد هذين السبيلين
وكلاهما مهلك
ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سببا لبعض ما شرع من الشرائع بل نقر بذلك ونثبته حيث جاء به في النص كقوله صلى الله عليه و سلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وكما جعل تعالى كفر الكافر وموته كافرا سببا إلى خلوده في نار جهنم والموت على الإيمان سببا لدخول الجنة وكما جعل السرقة بصفة ما سببا للقطع والقذف بصفة ما سببا للجلد والوطء بصفة ما للجلد والرجم وكما نقر بهذه الأسباب المنصوص عليها فكذلك ننكر أن يدعي أحد سببا حيث لم ينص عليه
ولسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب بل نقول ليس منها شيء لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء ولا نحرم ولا نحلل ولا نزيد ولا ننقص ولا نقول إلا ما قال ربنا عز و جل ونبينا صلى الله عليه و سلم ولا نتعد ما قالا ولا نترك شيئا منه وهذا هو الدين المحض الذي لا يحل لأحد خلافه ولا اعتقاده سواء
وبالله تعالى التوفيق
وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه وأن أفعاله لا يجزىء فيها لم
وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله لم كان هذا فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمرا كذا لأجل كذا
وهذا أيضا مما يسأل عنه فلا يحل لأحد أن يقول لم كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره ولا أن يقول لم جعل هذا الشيء سببا دون أن يكون غيره سببا أيضا لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز و جل وألحد في الدين وخالف قوله تعالى

{ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فمن سأل عما يفعل فهو فاسق وجب أن تكون العلة كلها منفية عن الله تعالى ضرورة وفي قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } بيان جلي أنه لا يجوز لأحد منا أن يقول قولا لا يسأل عنه ولزمنا فرضا سؤال كل قائل من أين قلت كذا فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحة من ربه تعالى وعن نبيه صلى الله عليه و سلم لزمنا طاعته وحرم عليه التمادي في سؤاله وإن لم يأت به مصححا عن ربه تعالى ولا عن نبيه صلى الله عليه و سلم ضرب برأيه عرض الحائط ورد عليه أمره متروكا غير مقبول معه ولا مرضي عنه
فهذا حكم السبب وفعله والعلامة والغرض والمعنى قد بينا كل ذلك غاية البيان ولم نقل إلا ما قاله الله ربنا عز و جل وليست العبارة بالألفاظ المخالفة خلافا إذا حقق المعنى فلم يبعث محمد صلى الله عليه و سلم إلى العرب فقط بل إلى أهل كل لغة من الإنس والجن فلا بد ضرورة لكل أحد من عبارة يفهم بها كلام ربه تعالى ومعنى مراده في الدين اللازم له وإنما أوردنا هذا لئلا يتعلق جاهل فيقول إن كلامك هذا ليس منصوصا في القرآن فأرينا أن حقيقة مفهومه كلها ومعناه الذي لا يتحمل كلامنا معنى غيره منصوص في القرآن نصا جليا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق
فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر
واعلم أن الأسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها وعن أحكامه
حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله صلى الله عليه و سلم
وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط والغرض في بعضها أيضا أن يعتبر بها المعتبرون وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها
وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار ومن إدخاله الجنة من شاء ومن إدخاله النار من شاء وتسبيبه ما شاء لما شاء فكل ذلك أفعال من أفعاله وأحكام من أحكامه لا سبب لها أصلا ولا غرض له فيها البتة غير ظهورها وتكوينها فقط { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ولولا أنه تعالى نص على أنه أراد منا الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء ما قلنا به ولكنا صدقنا ما قال ربنا تعالى وقلنا ما علمنا ولم نقل ما لم نعلم
فهذه حقيقة الإيمان الذي تعضده البراهين الحسية والعقلية

ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من أنهما مخلوقان لله تعالى أو أنهما غير مخلوقين أصلا أو أنهما مخلوقان لغيره فمن جعلهما غير مخلوقين أصلا كفر لأنه يجعل في العالم شيئا لم يزل ومن قال إنهما مخلوقان لغير كفر لأنه يجعل خالقا غير الله تعالى فثبت أنهما مخلوقان له تعالى وقد قام البرهان على أن كل ما دون الله تعالى فهو خلق الله فإذا قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالى فلا يخلو من أن يكون خلقهما لسبب أيضا ولغرض أو لا لسبب ولا لغرض فإن كان فعلها لسبب آخر وغرض آخر لزم أيضا فيهما مثل ذلك حتى تنتهي بقائل هذا إلى إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها
وهذا كفر من قائله وإن كان تعالى فعلهما لا لسبب ولا لغرض فهذا هو قولنا إنه تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه لا لسبب ولا لغرض حاشا ما نص تعالى عليه فقط أنه فعله للغرض أراده أو لسبب وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب ولولا النصوص الواردة بذلك في بعض المواضع ما حل لمسلم أن يقول إن الله تعالى فعل كذا لسبب كذا ولا إن له عز و جل في فعل كذا إرادة كذا { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون }
قال أبو محمد ويقال لمن قال بالعلل وجعلها صفات في أشياء توجد فتشتبه بها فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد إنك لا تعدم معارضا بصفات أخر توجب غير الأحكام التي أوجبتم فإن أنتم أبطلتم حكم التشابه الذي يعارضكم به خصومكم فقد أقررتم أن الأتباع لا معنى له ولا يوجب حكما وليس قول خصومكم فيما أتى به من ذلك بأولى بالسقوط من قولكم
ومثال ذلك أن تقولوا لما أشبه النبيذ الخمر في أنه شديد ملذ مسكر وجب له التحريم من أجل ذلك فيعارضكم خصومكم فيقولون لما أشبه النبيذ المسكر العصير في أنه لا يفكر مستحله وجب له التخليل من أجل ذلك فإن أبطلتم التشبيه الذي أتى به خصومنا فقد أقررتم أن التشبيه لا يوجب حكما وهذا عائدا على تشبهكم الذي شبهتم ولا فرق
وقال بعضهم علة تحريم البر بالبر متفاضلا أنه مطعوم
وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مكيل

وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مدخر
قال أبو محمد وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به الأخرى فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم فليس ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الأخرى ولا بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها بل كلها دعوى زائفة ساقطة لا برهان عليها وهكذا جميع عللهم
وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه و سلم فيثبتها في الدين فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه أو إلى رسوله صلى الله عليه و سلم فيقوله ما لم يقل أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه و سلم فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه ولا بد من إحداهما وهما خطتا خسف نعوذ بالله منهما وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل ثم يجعلون علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا
فيقرون أن النص أبطل علتهم ولو كانت حقا ما أبطلها لأن الحق لا يبطل الحق وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا إلا على سبيل النسخ فقط وأما على معنى ألا يقبل فلا سبيل إلى ذلك البتة
والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا
قال أبو محمد وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا لو كانت العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو تحريم لكانت غير مختلفة أبدا كما أن العلل العقلية لا تختلف أبدا
مثال ذلك أن الشدة والإسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراما مذ خلقها الله تعالى فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة وقد كانت حلال في الإسلام سنين وهي على الصفة هي الآن لم تبدل ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الإحراق وتصعيد الرطوبات فلا تزال كذلك أبدا حاشا ما خص عز و جل منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم أعاذنا الله تعالى منها قال الله تعالى { إن لذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا لعذاب إن لله كان عزيزا حكيما }

قال أبو محمد فتفسخوا تحت هذا السؤال وتضوروا منه لأنه صحيح لا مخرج منه البتة
فقال بعضهم إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة
قال أبو محمد وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة وترك منهم للقياس ورجوع إلى النص وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم إلا تسميتهم الحكم علة فقط فلو قالوا لا يجب الحكم إلا إذا نصه الله عز و جل لوافقونا البتة ولكنهم تعلقوا باسم العلة لأنه مشترك ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم وليتعدوا النص إلى ما لا نص فيه وهذا ما لا يسوغونه
وبالله تعالى التوفيق
وقال بعضهم هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل وليس حجة في إيجاب العلم فلا تنكروا علينا كون الشيء علة في مكان وغير علة في مكان آخر
فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه منكم لا تتخلصون به مما ألزمناكم إياه لأننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشيء حجة في مكانه وبابه وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه وإنما أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض مكانها وبابها بغير نص وغير حجة في سائر بابها وبعض أماكنها من غير نص أيضا فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه
وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل أبدا إذا كان عن النبي صلى الله عليه و سلم عند جميعنا ثم اختلفنا فقالت طائفة منهم ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم أبدا وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب للعلم أبدا
وقالت طائفة هو موجب للعلم أبدا إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فبطل تشبيههم للعلة بالخبر
قال أبو محمد واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته أعتقوا عبدي ميمونا لأنه أسود وله عبيد سود كثير أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم والتي جعلها علة في عتق ميمون قياسا على ميمون أم لا تعتقون منهم أحدا حاشا ميمون وحده فإن قلتم نعتقهم نقضتم فتاويكم وخالفتم الإجماع وإن قلتم
لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا

قال أبو محمد وهذا إلزام صحيح ونحن نزيده بيانا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأمراء سراياه إذا نزلتم بأهل حصن أو مدينة أرادوا أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تفعلوا فإنكم لا تدرون أتوافقون حكم الله تعالى فيهم أم لا ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم ما شئتم فإذا سألوكم أن تعطوهم ذمة الله عز و جل وذمة رسوله صلى الله عليه و سلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله صلى الله عليه و سلم ولكن أعطوهم ذمتكم فإن تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله أو كلاما هذا معناه فهذا نص جلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن الإقدام على نسبة شيء إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل وأن نسبة ذلك إلى الإنسان أهون وإن كان كل ذلك باطلا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كان كذبا علي ليس ككذب على أحد فلو جاز أن يقال بالقياس وبالفعل لكان الإقدام به على كلام الناس وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم فلما اتفقوا على أن من قال اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه اتقاء أن يعتقه وخوفا من تبديل أمر الموصي وكلامه فإن الأولى بهم أن يتقوا الله عز و جل في قوله صلى الله عليه و سلم في النهي عن الذبح بالسن فإنه عظم
وفي أمره صلى الله عليه و سلم بهرق السمن إذا مات فيه الفأر فلا يتعدوا ذلك إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور
وفي أمره صلى الله عليه و سلم البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي ألا يتوضأ منه ولا يغتسل فلا يتعدوه إلى المحدث في الماء ولا إلى ما لم يبل فيه أصلا فإن الأوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه و سلم تعليلا لم ينصا عليه وأحكاما لم يأذنا بها ولا ذكراها أصلا ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ما لم يقولا وحسبك بهذا عظيمة نعوذ بالله منها
وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود واعتبروا فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود
قال أبو محمد وهذا جواب فاسد من وجهين

أحدهما أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود لأنه ليس قوله اعتبروا أولى بأن يكون معناه قيسوا منه بأن يكون معناه واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي
وأيضا فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شيء من الأحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم واعتبروا واعتبروا وهذا غير موجود في شيء من الأحكام ولا في الحديث ولا في صلة شيء من الآيات فبطل القياس جملة بنص قوله هذا المجيب والله تعالى الحمد
قال أبو محمد والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول حتى لو قال فاعتبروا ثم لما كان نهارا آخر قال اذبحوا كبشي الفلاني لأنه أعرج وله كباش عرج أيذبحون كل كبش له أعرج من أجل قوله بالأمس في أمر عتق عبد واعتبروا
أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به واعتبروا
فإن قالوا نكتفي بقوله واعتبروا مرة واحدة خرقوا الإجماع وهذا أمر لا يقولونه ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل ومدعين بلا برهان وإن لم يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبدا
قال أبو محمد وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال إذ تتبعنا عليهم إدخالهم في أحكام الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه و سلم ما لم يأت به نص لكن تعليلا منهم وقياسا ثم يتحرون تجنب مثل هذا في أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي فلا يتعدون نصوص أقوالهم فقالوا خطاب الآدميين وقد يكون فاسدا ولا حكمة فيه وخطاب الله تعالى حكمة
قال أبو محمد وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور ويقال له أي فساد في خطاب امرىء موص في ماله بما أباحه له الله تعالى والرسول صلى الله عليه و سلم وإجماع الأمة ولم يتعد إلى مكروه فلو جاز ألا يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده لما جاز تنفيذ تلك الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية وحملها على ظاهرها صح أنها حق وبطل تمويه من رام الفرق بين ما سألناهم عنه من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوى والظنون وما ليس فيه

ولا مفهوما منه وقلنا لهم فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا حكمة فيه من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة وأقوال مالك المتناقضة وأقوال الشافعي المتعارضة على المضمون فيه الحكمة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم حتى صرتم لا تأخذون من النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين ولا تزالون تتحيلون في إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة الغثة والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق
ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي صلى الله عليه و سلم وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازما ليتبينوا ويتعلموا فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط
فأجاب بعض أصحاب القياس فقال إنما نهوا عن سؤال من سأل عن أبيه
قال أبو محمد وهذا الكذب بعينه لأن نص الآية يكذب هذا القائل في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } وبين ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله كنا نهينا أن نسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع وقال النواس بن سمعان أقمت بالمدينة سنة لا أهاجر يريد لا أبايع على الهجرة لأننا كنا إذا هاجر أحدنا لم يجز له أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء أو كلاما هذا معناه
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقد قال صلى الله عليه و سلم اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ولكن إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فبطل اعتراض هذا المعترض

فصل فيما ورد في القرآن من النهي عن القول بالعلل
قال أبو محمد ونحن موردون إن شاء الله تعالى ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عز و جل وشرائعه فكتاب الله تعالى هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ومن أبى ذلك ختمنا له الآية وهو قوله تعالى { بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون }
قال أبو محمد قال الله تعالى { وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا لأنه لا بد من هذا أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى المراد وهذا خطأ لا يقوله مسلم بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم وعلى كل مسلم فيما يخصه فصح القول الثاني ضرورة ولا بد
وقال الله تعالى { خالدين فيها ما دامت لسماوات ولأرض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد } وقال تعالى { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ودعوا شهدآءكم من دون لله إن كنتم صادقين }
قال أبو محمد وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة فالمعلل بعد هذا عاص لله عز و جل وبالله نعوذ من الخذلان
وقال تعالى { ويا آدم سكن أنت وزوجك لجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين فوسوس لهما لشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه لشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من لخالدين وقاسمهمآ إني لكما لمن لناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا لشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق لجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما لشجرة وأقل لكمآ إن لشيطآن لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من لخاسرين }

قال أبو محمد وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين }
فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين أحدهما تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب
والثاني قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا
فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه لأنه خير منه إذ إبليس من نار وآدم من طين ثم بالتعليل للأوامر كما ذكرنا وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس
فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس وأنه مخالف لدين الله تعالى نعم ولرضاه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين ومن إثبات علة لشيء من الشريعة وبالله تعالى التوفيق
وقال الله عز و جل حاكيا عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أمروا بالصدقة { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم لله قال لذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء لله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين }
قال أبو محمد فهذا إنكار منه تعالى للتعليل لأنهم قالوا لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم
وهذا نص لا خفاء به على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها
وقال تعالى { فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا } فهم ظلموا فحرمت عليهم ونحن نظلم فلم تحرم علينا الطيبات التي أحلت

لنا وقال صلى الله عليه و سلم إننا سنركب سنن أهل الكتاب لو دخلوا جحر ضب لدخلناه فصح أننا ظلمنا كظلمهم ولم يحرم علينا ما حرم عليهم فبطل التعليل جملة إذ لو كان ظلمهم علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك فلما لم يكن هذا كذلك علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سببا لأن حرم عليهم ما حرم ولم يجعل ظلمنا سببا لأن يحرم علينا مثل ذلك فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شيء ما ولا يفعل ذلك في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشيء بعينه وهذا بطلان ما ادعاه خصومنا من العلل القياس نصا وقال تعالى لموسى عليه السلام { إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى }
فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سببا لخلع نعليه ونحن نكون بذلك الوادي وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت المقدس ولا يلزمنا خلع نعالنا ولو كان دخول الوادي المقدس علة للخلع للزمنا ذلك
وقال تعالى { إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين }
قال أبو محمد هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شيء من الدين ولا أن يقول قائل لم حرم هذا وأحل هذا فقد صح قولنا إن قول القائل حرم البر بالبر لأنه مكيل أو أنه مدخل أو أنه مأكول بدعة نعوذ بالله منها

فصل في تناقض قولهم في التعليل والقياس
قال أبو محمد ونحن نورد إن شاء الله تعالى طرفا يسيرا من تناقضهم في التعليل لندل بذلك عن إفساد مذهبهم وإلا فتناقضهم لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة ولعل الله تعالى يعيننا على تقصي ذلك في كتاب الإعراب إن شاء الله تعالى
فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها فكان يلزمهم أن يجعلوا ما حرم أكله محرما بيعه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل

كثير منهم يبيحون بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حيا كما هو محرم ولا خلاف في جواز بيع أكثره
وكذلك فعلوا في قوله صلى الله عليه و سلم في الاستحاضة فإنه عرق فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة كما جعلوا الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياسا على السمن لكنهم تناقضوا في ذلك
وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس وهكذا يكون الباطل مرة مصحوبا ومرة متروكا وصح قولنا إن ما كان سببا في مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سببا في مكان آخر لم ينص عليه لمثل ذلك الحكم
فقالوا معنى التعليل هو إجراء صفة الأصل في فروعه
قال أبو محمد وهذا قول فاسد لأن جميع أحكام الشريعة كلها أصول فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة أصل جامع ثم النوازل فيها فروع إنما هي أجزاء من الصلاة ولا تسمى أجزاء الشيء فروعا له لأن الفرع غير الأصل والأجزاء ليست غير الكل
فبطل ما موهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول وصح أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول ولا يوجد شيء منها إلا عن قرآن أو عن الرسول صلى الله عليه و سلم أو عن إجماع
ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام فقال بعضهم إن علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم فأجروا ذلك في كل مسجد فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة أن يلزم إلى المدينة لأن مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد مكة ومن مكة وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا فإذا ادعوا الإجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء الصيد بالمدينة وحرمه فقد قال بذلك بعض التابعين من الأئمة
وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم صيده من صيد الحرم فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء العمل وتركوا القياس وتركوا أن يتعدوا النص ولو فعلوا هذا في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته
وقالوا إن علة الحدود الزجر والردع

قال أبو محمد كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في الزنى بالأمة وفي السرقة ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا ولا كان الزنى أولى بذلك من القذف بالكفر أو بترك الصلاة ولا كان الزنى بذلك أولى من ترك الصلاة فظهر كذب دعواهم في ذلك والحمد لله رب العالمين
وقالوا إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام على اختلافهم في ذلك
قال أبو محمد وهذا أمر كان ينبغي لأهل التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا ويتركوا له قول ربهم تعالى فأول ذلك الكذب البحث أن أصل القصر المشقة
ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون والذي به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها أولى بالقصر العظيم مشقة الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والإيماءة والتشهد صرف ذهنه إليها من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر ومن نهر إلى صيد ومن صيد إلى نزهة ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل إذا شاء إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من وطنه
وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم فكيف على من يتعاطى التحريم والتحليل ويستدرك على ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم إن هذا لهو الضلال المبين
هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عز و جل بينهما في الفطر في رمضان وفي إباحة متيمم فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر لأنه أكثر مشقة منه وأحوج إلى الراحة فأين قياسهم وعللهم ثم هلك لو صح ما قالوه إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر وأعوذ بالله من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلا في سهل وأمن وظلال أشجار وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان ولفارس مريح قوي على سبعة وأربعين ميلا في أوعار وشعار وفي حمارة القيظ في تموز وفي خوف شديد لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم

فأباحوا للفارس الذي ذكرنا أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة ومنعوا الرجل المكدود في الوعر والحر من ذلك
وقالوا لا بد له من الصيام والإتمام أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم
هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وأما نحن فنسأل أو من رسوله صلى الله عليه و سلم المبين مراد ربه تعالى ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان لأنهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم
وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم
قال أبو محمد إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور فليت شعري أي شيء في منع المرأة من السفر يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة ومشي يوم وليلة يختلف ففي أيام كانون الأول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلا إلى الليل
وفي أيام صدر حزيران في طيب الهواء وطول الأيام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك والسير يختلف فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد
وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج وبين مشي العساكر وبين مشي الرفاق وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة وبين مشي البريد في اختلاف الأزمان أشد الاختلاف وأعظم التباين فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام اتو اليوم التام ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف وهذا معروف بالمشاهدة
وأيضا فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر على الإطلاق دون تحديد شيء أصلا فبطل احتجاجهم به

فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة نعم وابن عمر نفسه فقد صح عنه القصر في الأميال اليسيرة جدا
وفي الميل وفي سفر ساعة
وعللوا الشفعة في الأرضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في العبد والأمة يعتق الباقي بأن ذلك الضرر بالشريك
وتناقضوا في ذلك في قولهم لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف وقد علم كل ذي عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع أعظم من الضرر في الأرضين
فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على الشفعة في الأرضين خوف الضرر الداخل على الشريك
وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه فيقولوا شريكه أولى بالهبة لئلا يدخل عليه ضرر
فإن قالوا لم يرد أن يهبه قيل لهم وكذلك لم يرد أن يبيع منه
فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا ولزمهم ألا يقيسوا أصلا ولا يتعدوا حدود الله في النصوص ولا يقيسوا الشفعة في التين والثمار دون سائر العروض على وجوبها في الأرضين والأشجار عندهم
وهلا قاسوا من حبس شقصا له في أرض مشارعه على من أعتق شقصا له في عبد لاجتماعهما في الضرر ولكن هكذا يفضح الباطل أهله
وكذلك يكون تناقض أهله
وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه لأن الضرر في ذلك واحد وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئا فيوجبون عليه فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل قالوا نفعل ذلك قياسا على تقويم الشقص على المعتق فهلا قوموا على المعسر إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به دينا
قال أبو محمد وفيما ذكرنا كفاية وقلما تخلو لهم مسألة من مثل ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق
وقال بعض حذاقهم قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال قوله
مثال ذلك أن يقول الحنفي والمالكي لما كان الوقوف بعرفة لا يصح إلا بمعنى آخر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10