كتاب : الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف : علي بن محمد الآمدي

نفسه بدليل اشتراك الصوم والصلاة في حكم الوجوب والقتل والزنى في التحريم
وإن سلمنا تصور الاختلاف في نفس الحكم الشرعي ولكن ما المانع أن يكون إفضاء حكم الفرع إلى المقصود أتم من إفضاء حكم الأصل إليه
قولكم لو كان كذلك لكان التنصيص عليه في الأصل أولى إنما يلزم أن لو لم تكن فائدة التنصيص على حكم الأصل لقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى وبتقدير أن لا يكون ذلك مقصودا للشارع فإنما لم ينص عليه لاحتمال أن يكون ذلك لمانع مختص به لا وجود له في حكم الأصل
والجواب عن السؤل الأول أنه ليس حكم الشارع عبارة عن مطلق كلامه وخطابه ليصح ما قيل بل الخطاب المقيد بتعلق خاص كما بيناه في حد الحكم
وإذا كان التعلق داخلا في مفهوم الحكم فالتعلقات مختلفة ويلزم من اختلافها اختلاف الأحكام

وعن الثاني أنه لو كانت فائدة تخصيص حكم الأصل بالتنصيص عليه التنبيه به على حكم الفرع لكان حكم الفرع ثابتا بمفهوم الموافقة لا بالقياس ولجاز إثباته في الأصل وهو ممتنع
قولهم إنما لم ينص عليه لاحتمال اختصاصه بمانع
قلنا المانع إما أن يكون من لوازم صورة الأصل أو من لوازم مثل حكم الفرع أو من لوازم اجتماع الأمرين فإن كان الأول فيلزم منه امتناع إثبات حكم الأصل في الأصل بطريق الأولى ضرورة كون مقصوده أدنى من مقصود حكم الفرع على ما وقع به الفرض
وإن كان الثاني فيلزم منه امتناع ثبوته في الفرع أيضا ضرورة أن ما هو المانع من إثباته في الأصل من لوازم نفس ذلك الحكم
وإن كان الثالث فالأصل عدمه
الشرط الرابع أن لا يكون حكم الفرع منصوصا عليه وإلا ففيه قياس المنصوص على المنصوص وليس أحدهما بالقياس على الآخر أولى من العكس
وهذا مما لا نعرف خلافا بين الأصوليين في اشتراطه
الشرط الخامس أن لا يكون حكم الفرع متقدما على حكم الأصل وذلك كما لو قاس الشافعي الوضوء على التيمم في الافتقار إلى النية لأنه يلزم منه أن يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل كون العلة الجامعة في قياسه علة ضرورة كونها مستنبطة من حكم متأخر عنه اللهم إلا أن يذكر ذلك بطريق الإلزام للخصم لا بطريق مأخذ القياس
وقد شرط قوم أن يكون الحكم في الفرع ثابتا بالنص جملة لا تفصيلا وهو باطل
فإن الصحابة قاسوا قوله أنت علي حرام على الطلاق واليمين والظهار ولم يوجد في الفرع نص لا جملة ولا تفصيلا

الباب الثاني في مسالك إثبات العلة الجامعة في القياس
المسلك الأول الإجماع وهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من الأعصار على كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل إما قطعا أو ظنا فإنه كاف في المقصود
وذلك
كإجماعهم على كون الصغر علة لثبوت الولاية على الصغير في قياس ولاية النكاح على ولاية المال
فإن قيل فإذا كانت العلة مجمعا عليها قطعا فكيف يسوغ الخلاف معها في مسائل الاجتهاد قلنا بأن يكون وجودها ظنيا في الأصل أو الفرع
وأما إن كان وجودها فيهما مع كونها مقطوعا بعليتهما فلا
المسلك الثاني النص الصريح وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال
وهو قسمان

الأول ما صرح فيه بكون الوصف علة أو سببا للحكم الفلاني وذلك كما لو قال العلة كذا أو السبب كذا

القسم الثاني ما ورد فيه حرف من حروف التعليل
كاللام والكاف ومن وإن والباء
أما ( اللام ) فكقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } ( الإسراء 78 ) أي زوال الشمس
وكقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات 56 ) وكقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة أي القوافل السيارة
وذلك يدل على التعليل بالوصف الذي دخلت عليه ( اللام ) لتصريح أهل اللغة بأنها للتعليل
وأما ( الكاف ) فكقوله تعالى { كيلا يكون دولة بين الأغنياء } ( الحشر 7 ) أي كي لا تبقى الدولة بين الأغنياء بل تنتقل إلى غيرهم
وأما ( من ) فكقوله تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } ( المائدة 32 )
وأما ( إن ) فكقوله عليه السلام في قتلى أحد زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك وكقوله عليه السلام في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا
وأما ( الباء ) فكقوله تعالى { جزاء بما كانوا يعملون } ( الأحقاف 14 )
فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنها لم يقصد بها التعليل فتكون مجازا فيما قصد بها وذلك في ( اللام ) كما لو قيل لم فعلت كذا فقال لأني

قصدت أن أفعل وكما في قول القائل أصلي لله وقول الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب فقصد الفعل لا يصلح أن تكون علة للفعل وغرضا له وكذلك ذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علة للصلاة ولا الموت علة للولادة ولا الخراب علة للبناء بل علة الفعل ما يكون باعثا على الفعل وهي الأشياء التي تصلح أن تكون بواعث
وكما في قوله تعالى { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ( الحشر 2 ) { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } ( الحشر 4 ) وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته فليست المشاقة علة لخراب البيت اللهم إلا أن يحمل لفظ الخراب على استحقاق الخراب أو على استحقاق العذاب فإنه يكون معللا بالمشاقة
المسلك الثالث ما يدل على العلية بالتنبيه والإيماء
وذلك بأن يكون التعليل لازما من مدلول اللفظ وضعا لا أن يكون اللفظ دالا بوضعه على التعليل وهو ستة أقسام

القسم الأول ترتيب الحكم على الموصف بفاء التعقيب والتسبيب
في كلام الله أو رسوله أو الراوي عن الرسول
أما في كلام الله تعالى فكما في قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ( المائدة 38 ) { واذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ( المائدة 6 )
وأما في كلام رسوله فكقوله عليه السلام من أحيا أرضا ميتة فهي له وقوله ملكت نفسك فاختاري
وأما في كلام الراوي فكما في قوله سها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الصلاة فسجد وزنى ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم

وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم ( بالفاء ) يكون علة للحكم لكون ( الفاء ) في اللغة ظاهرة في التعقيب
ولهذا فإنه لو قيل جاء زيد فعمرو فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب مجيء زيد من غير مهلة ويلزم من ذلك السببية لأنه لا معنى لكون الوصف سببا إلا ما ثبت الحكم عقيبه وليس ذلك قطعا بل ظاهرا لأن ( الفاء ) في اللغة قد ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق وقد ترد بمعنى ( ثم ) في إرادة التأخير مع المهلة كما سبق تعريفه
غير أنها ظاهرة في التعقيب بعيدة فيما سواه
وهذه الرتب متفاوتة فأعلاها ما ورد في كلام الله تعالى ثم ما ورد في كلام رسوله ثم ما ورد في كلام الراوي وسواء كان فقهيا أو لم يكن لكنه إن كان فقيها كان الظن بقوله أظهر وإذا لم يكن فقيها وإن كان في أدنى الرتب غير أنه مغلب على الظن لأنه إذا قال سها رسول الله صلى الله عليه و سلم فسجد فالظاهر من حاله مع كونه متدينا عالما بكون ( الفاء ) موضوعة للتعقيب أنه لو لم يفهم أن السهو سبب للسجود وإلا لما رتب السجود على السهو بالفاء لما فيه من التلبيس بنقل ما يفهم منه السببية ولا يكون سببا بل ولما كان تعليقه للسجود بالسهو أولى من غيره

القسم الثاني ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي عليه السلام فحكم عقيبها
بحكم
فإنه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم
وذلك كما روي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له هلكت وأهلكت
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ماذا صنعت فقال واقعت أهلي في نهار رمضان عامدا
فقال له عليه السلام اعتق رقبة
فإنه يدل على كون الوقاع علة للعتق
وذلك لأنا نعلم أن الأعرابي إنما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن واقعته لبيان حكمها شرعا وأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب له لا أنه ذكره ابتداء منه لما فيه من إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة وكل ذلك وإن كان ممكنا إلا أنه على خلاف الظاهر وإذا

كان ذلك جوابا عن سؤاله فالسؤال الذي عنه الجواب يكون ذكره مقدرا في الجواب في كلام المجيب فيصير كأنه قال واقعت فكفر
وقد عرف أن الوصف إذا رتب الحكم عليه في كلام الشارع بفاء التعقيب تحقيقا فإنه يكون علة فكذلك إذا كان الحكم مرتبا عليه بفاء التعقيب تقديرا
ولهذا كان هذا القسم ملحقا بالقسم الذي قبله وإن كان دونه في الظهور والدلالة لكون ( الفاء ) فيه مقدرة وفي الأول محققة ولاحتمال أن يكون قد بدأ به لا عن قصد الجواب وذلك كما لو قال العبد لسيده قد طلعت الشمس أو غربت
فقال له اسقني ماء فإنه لا يفهم منه الجواب لسؤاله ولا التعليل بل هو أمر له ابتداء بسقي الماء وعدول عن السؤال بالكلية إما لذهوله عن السؤال أو لعدم الالتفات اليه لعدم تعلق الغرض به غير أن هذا الاحتمال وإن كان منقدحا ها هنا فهو بعيد في حق النبي عليه السلام فيما فرض السؤال عنه إذ الغالب عدم الذهول وأنه إنما قصد الجواب حتى لا يكون مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة مع كونه خلاف الظاهر

القسم الثالث أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يقدر التعليل به لما
كان لذكره فائدة
ومنصب الشارع مما ينزه عنه وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكورا مع الحكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله
فإن كان في كلام الله تعالى وقدرنا أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيدا ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعا نفيا لما لا يليق بكلامه عنه
وإن كان ذلك في كلام رسوله فلا يخفى أن الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه لكونه عارفا بوجوه المصالح والمفاسد فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه
واذا كان ذلك هو الظاهر من آحاد العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى

وإذا عرف ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة له
وهذا القسم على أصناف
وذلك لأن الشارع إما أن يذكر ذلك ابتداء من غير سؤال أو بعد السؤال
فإن كان من غير سؤال فهو الصنف الأول وذلك كما في حديث ابن مسعود ليلة الجن حيث توضأ عليه السلام بماء كان قد نبذ فيه تميرات لاجتناب ملوحته فقال ثمرة طيبة وماء طهور فإنه يدل على جواز الوضوء به
وإلا كان ذكره ضائعا
لكون ما ذكر ظاهرا غير محتاج إلى بيان
وان كان مع السؤال فلا يخلو إما أن يذكر ذلك الوصف في محل السؤال أو في غيره فإن كان في محل السؤال فهو الصنف الثاني وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال النبي صلى الله عليه و سلم أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم
فقال فلا إذا فهذا وإن فهم منه أن النقصان علة امتناع بيع الرطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف ( إذا ) وهي من صيغ التعليل غير أنا لو قدرنا انتفاء هذين لبقي فهم التعليل بالنقصان بحاله نظرا إلى أنه لو لم يقدر التعليل به لكان ذكره والاستفسار عنه غير مفيد
وإن كان في غير محل السؤال وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال فهو الصنف الثالث
وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك فقال عليه السلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك فقالت نعم
قال فدين الله أحق بالقضاء
فالخثعمية إنما سألت عن الحج والنبي عليه السلام ذكر

دين الآدمي والحج من حيث هو دين نظير لدين الآدمي فذكره لنظير المسؤول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلا كان ذكره عبثا
ويلزم من كون نظير الواقعة علة للحكم المرتب عليها أن يكون المسؤول عنه أيضا علة لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة
وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس
فكأنه نبه على الأصل وعلى علة حكمه وعلى صحة إلحاق المسؤول عنه بواسطة العلة المومي إليها
وليس من هذا القبيل ما مثل به بعض الأصوليين وذلك كما روي عن عمر أنه سأل النبي عليه السلام عن قبلة الصائم هل تفسد الصوم فقال عليه السلام أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك يفسد الصوم فقال لا وذلك لأن النبي عليه السلام إنما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه عمر من كون القبلة مفسدة للصوم لكونها مقدمة للوقاع المفسد للصوم فنقض النبي عليه السلام ذلك بالمضمضة فإنها مقدمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدة للصوم أما أن يكون ذلك تنبيها على تعليل عدم الإفساد بكون المضمضة مقدمة للفساد فلا
وذلك لأن كون القبلة والمضمضة مقدمة لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعا من الإفطار بل غايته أن لا يكون مفطرا فكان الأشبه بما ذكره النبي عليه السلام أن يكون نقضا لا تعليلا
وأيضا فإن الأصل أن يكون الجواب مطابقا للسؤال لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه أما الزيادة فلعدم تعلق الغرض بها

وأما النقصان فلما فيه من الإخلال بمقصود السائل
وعمر إنما سأل عن كون القبلة مفسدة للصوم أم لا فالجواب المطابق إنما يكون بما يدل على الإفساد أو عدمه
وكون القبلة علة لنفي الفساد غير مسؤول عنه فلا يكون اللفظ الدال على ذلك جوابا مطابقا للسؤال بخلاف النقض فإنه يتحقق به أن القبلة غير مفسدة فكان جوابا مطابقا للسؤال

القسم الرابع أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر صفة
فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة هي علة التفرقة في الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها فلو لم تكن علة لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان منصب الشارع عنه
وذلك منقسم إلى ما يكون حكم أحد الأمرين مذكورا في ذلك الخطاب دون ذكر الآخر وإلى ما لا يكون مذكورا فيه الأول كما في قوله عليه السلام القاتل لا يرث فإنه خصص القاتل بعدم الميراث بعد سابقة إرث من يرث
والثاني فمنه ما تكون التفرقة فيه بلفظ الشرط والجزاء كقوله لا تبيعوا البر بالبر إلى قوله فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ومنه ما يكون بالغاية كقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } ( البقرة 222 ) ومنه ما يكون بالاستثناء كقوله تعالى { فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون } ( البقرة 237 ) ومنه ما يكون بلفظ الاستدراك كقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في

أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ( المائدة 89 ) ومنه أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر كقوله عليه السلام للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم

القسم الخامس أن يكون الشارع قد أنشأ الكلام لبيان مقصود وتحقيق مطلوب
ثم يذكر في أثنائه شيئا آخر لو لم يقدر كونه علة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق بالكلام لا بأوله ولا بآخره فإنه يعد خبطا في اللغة واضطرابا في الكلام وذلك مما تبعد نسبته إلى الشارع وذلك كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فالآية إنما سيقت لبيان أحكام الجمعة لا لبيان أحكام البيع
فلو لم يعتقد كون النهي عن البيع علة للمنع عن السعي الواجب إلى الجمعة لما كان مرتبطا بأحكام الجمعة وما سيق له الكلام ولا تعلق به وذلك ممتنع لما سبق
وقوله تعالى { وذروا البيع } وإن كانت صيغته صيغة أمر إلا أنه في معنى النهي إذا النهي طلب ترك الفعل
وقوله تعالى { وذروا البيع } طلب لترك البيع فكان نهيا
القسم السادس أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا
كقوله عليه السلام لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه يشعر بكون الغضب علة مانعة من القضاء لما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال وكذلك اذا قال أكرم العالم وأهن الجاهل فإنه يسبق إلى الفهم منه أن العلم علة للإكرام والجهل علة للإهانة وذلك لوجهين
الأول ما ألف من عادة الشارع من اعتبار المناسبات دون إلغائها فإذا قرن بالحكم في لفظه وصفا مناسبا غلب على الظن اعتباره له

الثاني ما علمنا من حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خليا عن الحكمة إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام فإذا ذكر مع الحكم وصفا مناسبا غلب على الظن أنه علة له إلا أن يدل الدليل على أنه لم يرد به ما هو الظاهر منه فيجوز تركه
وذلك كما في قوله لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه وإن دل بظاهره على أن مطلق الغضب علة فجواز القضاء مع الغضب اليسير يدل على أن مطلق الغضب ليس بعلة بل الغضب المانع من استيفاء النظر
وإذا عرفت أقسام الوصف المومي إليه ترتب عليه النظر في مسألتين

المسألة الاولى اختلف الأصوليون في اشتراط مناسبة الوصف المومي إليه
فأثبته قوم ونفاه آخرون كالغزالي وأتباعه
حجة من قال باشتراط المناسبة أن الغالب من تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء وأهل العرف
ولو قال الواحد من أهل العرف لغيره أكرم الجاهل وأهن العالم قضى كل عاقل أنه لم يأمر بإكرام الجاهل لجهلة ولا أن أمره بإهانة العلم لعلمه وإن ذلك لا يصلح للتعليل نظرا إلى أن تصرفات العقلاء لا تتعدى مسالك الحكمة وقضايا العقل
وأيضا فإن الاتفاق من الفقهاء واقع على امتناع خلو الاحكام الشرعية عن الحكم إما بطريق الوجوب على رأي المعتزلة وإما بحكم الاتفاق على رأي أصحابنا وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر

وما يعلم قطعا أنه لا مناسبة فيه ولا وهم المناسبة يعلم امتناع التعليل به
والمختار أن تقول أما ما كان من القسم السادس الذي فهم التعليل فيه مستندا إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب فلا يتصور فهم التعليل فيه دون فهم المناسبة لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه يكون تناقضا
وأما ما سواه من الأقسام فلا يمتنع التعليل فيها بما لا مناسبة فيه إلا أن تكون العلة بمعنى الباعث وأما بمعنى الأمارة والعلامة فلا
وعلى هذا فما ذكروه من الحجة على امتناع التعليل بالوصف الطردي إنما يصح إن لو قيل إن التعليل بالوصف الطردي بمعنى الباعث ولا اتجاه لها في التعليل بمعنى الأمارة والعلامة
وعلى هذا فلا امتناع في جعل الجهل علامة على الإكرام والعلم علامة على الإهانة إذا لم يكن هو الباعث بل الباعث غيره

المسألة الثانية اتفقوا على صحة الإيماء
فيما إذا كان حكم الوصف المومي إليه مدلولا عليه بصريح اللفظ كالأمثلة السابق ذكرها
وأما إذا كان اللفظ يدل على الوصف بصريحه والحكم مستنبط منه غير مصرح به كما في قوله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } فإن اللفظ بصريحة يدل على الحل والصحة مستنبطة منه
ووجه استنباط الصحة منه أنه لو لم يكن البيع صحيحا لم يكن مثمرا إذ هو معنى نفي الصحة وإذا لم يكن مثمرا مفيدا كان تعاطيه عبثا والعبث مكروه والمكروه لا يحل
وعند ذلك فيلزم من الحل الصحة لتعذر الحل مع انتفاء الصحة

فهذا مما اختلف في كونه مومى إليه فذهب قوم إلى امتناع الإيماء تمسكا منهم بأن الإيماء إنما يتحقق إذا دل اللفظ بوضعه على الوصف والحكم كما سبق من الأمثلة
وأما اذا دل على الوصف بالوضع وكان الحكم مستنبطا منه فلا يدل ذلك على كونه مومي إليه كما إذا دل اللفظ على الحكم بوضعه وكان الوصف مستنبطا منه فإنه لا يدل على الإيماء إلى الوصف وذلك كما في قوله عليه السلام حرمت الخمرة لعينها فإنه يدل على الحكم وهو التحريم وضعا والشدة المطربة علة مستنبطة منه وليست مومي إليها
وذهب المحققون إلى كونه مومي إليه وهو الحق
وذلك لأنه إذا كان اللفظ بصريحه يدل على الوصف وهو الحل والصحة لازمة له لما تقرر فإثبات الحل وضعا يدل على إرادة ثبوت الصحة ضرورة كونها لازمة للحل فيكون ثابتا بإثبات الشارع له مع وصف الحل وإثبات الشارع للحكم مقترنا بذكر وصف مناسب دليل الإيماء إلى الوصف كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعا ضرورة تساويهما في الثبوت وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن كان أحدهما ثابتا بدلالة اللفظ وضعا والآخر مستنبطا من مدلول اللفظ وضعا لأن الإيماء إنما كان مستفادا عند ذكر الحكم والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف لا من جهة كون الحكم ثابتا بطريق الوضع
وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم مدلولا عليه وضعا والوصف مستنبط منه
وذلك لأن الوصف المستنبط من الحكم المصرح به كما في المثال المذكور لم يكن وجوده لازما من الحكم المصرح به ولا مناسبته لتحققه قبل شرع الحكم بخلاف الصحة مع الحل كما تقدم تحقيقه
والمعتبر في الإيماء أن يكون الوصف المومي إليه مذكورا في كلام

الشارع مع الحكم أو لازما من مدلول كلامه
والأمران مفقودان في الوصف المستبط بخلاف الحل مع الصحة
المسلك الرابع في إثبات العلة بالسير والتقسيم وذلك أن يقال الحكم الثابت في الأصل إما أن يكون ثابتا لعلة أو لا لعلة لا جائز أن يقال بالثاني إذا هو خلاف إجماع الفقهاء
على أن الحكم لا يخلو عن علة إما بجهة الوجوب كما قالت المعتزلة أو لا بجهة الوجوب كقول أصحابنا
وبتقدير جواز خلوه عن العلة فالخلو عنها على خلاف الغالب المألوف من شرع الأحكام وذلك يدل ظاهرا على استلزام الحكم فيما نحن فيه للعلة وإذا كان لا بد له من علة فإما بأن تكون ظاهرة أو غير ظاهرة لا جائز أن تكون غير ظاهرة وإلا كان الحكم تعبدا وهو خلاف الأصل لوجوه ثلاثة الأول أن إثبات الحكم بجهة التعقل أغلب من إثباته بجهة التعبد وإدراج ما نحن فيه تحت الغالب أغلب على الظن
الثاني أنه إذا كان الحكم معقول المعنى كان على وفق المألوف من تصرفات العقلاء وأهل العرف والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وزان التصرفات العرفية
الثالث أنه إذا كان معقول المعنى كان أقرب إلى الانقياد وأسرع في القبول فكان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم فكان أولى وإذا كان لا بد من علة ظاهرة
فإذا قال المناظر الموجود في محل الحكم لا يخرج عن وصفين أو ثلاثة مثلا لأني بحثت وسبرت فلم أطلع

على ما سواه وكان أهلا للنظر بأن كانت مدارك المعرفة بذلك لديه متحققة من الحس والعقل وكان عدلا ثقة فيما يقول
والغالب من حاله الصدق غلب على الظن انتفاء ما سوى المذكور من الأوصاف أو قال الأصل عدم كل موجود سوى ما وجد من الأوصاف المذكورة
إلا أن يدل الدليل عليه
والأصل عدم ذلك الدليل فإنه يغلب على الظن الحصر فيما عينه
وإذا ثبت حصر الأوصاف فيما عينه فإذا بين بعد ذلك حذف البعض عن درجة الاعتبار في التعليل بدليل صالح مساعد له عليه بحيث يغلب على الظن ذلك فيلزم من مجموع الأمرين انحصار التعليل فيما استبقاه ضرورة امتناع خلو محل الحكم عن علة ظاهرة وامتناع وجود ما وراء الأوصاف المذكورة وامتناع إدراج المحذوف في التعليل لما دل عليه الدليل
فإن قيل لعله لم يبحث ولم يسبر وإن بحث وسبر فلعله وجد وصفا وراء ما أدعى الحصر فيه ولم يذكره ترويجا لكلامه وإن لم يجد شيئا وراء المذكور فلا يدل ذلك على عدمه فإن عدم العلم بالوصف جهل به والجهل بوجود الوصف لا يدل على عدمه وإن دل على عدمه بالنسبة إلى الباحث فلا يدل على عدمه بالنسبة إلى الخصم فإنه ربما كان عالما بوجود وصف آخر وراء المذكور
وعند ذلك فلا ينتهض بحث المستدل دليلا في نظر خصمه على العدم لعلمه بمناقضته
ثم وإن دل ذلك على حصر الأوصاف فيما ذكره فحذف بعض الأوصاف عن درجة الاعتبار في التعليل إنما يلزم منه انحصار التعليل في المستبقي أن لو كان الحكم في محل التعليل معقول المعنى
وإما على تقدير كونه غير معقول المعنى فلا لأنه جاز أن يشترك المحذوف والمستبقي في انتفاء الاعتبار وإن كان الحكم معقول المعنى فغاية ما في حذف الوصف المحذوف إبطال معارض العلة
ولا يلزم من ذلك صحة كون المستبقي علة لأن صحة العلة إنما تكون بالنظر إلى وجود مصححها لا بالنظر إلى انتفاء معارضها
قلنا إذا كان الباحث مسلما عدلا فالظاهر أنه صادق فيما أخبر به من البحث وعدم الاطلاع على وصف آخر
وعند ذلك فالقضاء بنفي الوصف لا

يكون مستندا إلى عدم العلم به بل بناء على الظن بعدمه فإن الظن بعدم الشيء ملازم للبحث عن ذلك الشيء ممن هو أهله مع عدم الاطلاع عليه
وعند ذلك فالظاهر أنه لو كان الخصم يعلم وجود وصف آخر لأبرزه وأظهره إفحاما لخصمه وإظهارا لعلم مست الحاجة إلى اظهاره فدعوى العلم منه بوجود وصف آخر من غير بيان مع إمكان البيان لا يكون مقبولا لظهور العناد فيه ولو بين الخصم وجود وصف آخر فإنا وإن تبينا انخرام حصر المستدل به
غير أنه إذا أدرجه في الإبطال معما أبطل فإنه لا يعد منقطعا فيما يقصده من التعليل بالوصف المستبقي
واذا ثبت انحصار الأوصاف في القدر المذكور فلا يخفى أنه إذا أخرج البعض عن درجة الاعتبار تعين انحصار التعليل في المستبقي فإنه وإن جاز أن يكون الحكم تعبدا غير أنه بعيد لما سبق تقريره
وليس القضاء بكون المستبقي علة بناء على إبطال المعارض بل على أن الحكم في محل التعليل لا بد له من علة ظاهرا
وعند ذلك يغلب على الظن انحصارها في الأوصاف المذكورة
فإذا قام الدليل على إبطال البعض غلب على الظن التعليل بالمستبقي ويكون ذلك الظن مستفادا من جملة القواعد الممهدة لا من نفس إبطال المعارض
هذا كله في حق المناظر
وأما الناظر المجتهد فإنه مهما غلب على ظنه شيء من ذلك فلا يكابر نفسه وكان مؤاخذا بما أوجبه ظنه وعند ذلك فلا بد من بيان طرق الحذف
الأول منها أن يبين المستدل أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف وهو ملقب بالإلغاء وهو شديد الشبه بالعكس الذي ليس بمقبول وسيأتي الفرق بينهما
ولا بد من بيان ثبوت الحكم مع الوصف المستبقي فإنه لو ثبت دونه كما ثبت المحذوف كان ذلك إلغاء للمستبقي أيضا وعند ذلك فيتبين استقلال المستبقي بالتعليل ومع ظهور ذلك فيمتنع إدخال الوصف المحذوف في التعليل في محل التعليل

لأنه يلزم منه إلغاء وصف المستدل في الفرع مع استقلاله ضرورة تخلف ما لم يثبت كونه مستقلا وهو ممتنع
ويمتنع أيضا إضافة الحكم في محل التعليل إلى الوصف المحذوف لا غير لما فيه من إثبات الحكم بما لم يثبت استقلاله وإلغاء ما ثبت استقلاله وهو ممتنع
لكن لقائل أن يقول دعوى استقلال الوصف المستبقي في صورة الإلغاء بالتعليل من مجرد إثبات الحكم مع وجوده وانتفاء الوصف المحذوف غير صحيحة فإنه لو كان مجرد ثبوت الحكم مع الوصف في صورة الإلغاء كافيا في التعليل بدون ضميمة ما يدل على استقلالة بطريق من طرق إثبات العلة لكان ذلك كافيا في أصل القياس ولم يكن إلى البحث والسبر حاجة
وكذا غيره من الطرق فإذا لا بد من بيان الاستقلال بالاستدلال ببعض طرق إثبات العلة وعند ذلك إن شرع المستدل في بيان الاستقلال ببعض طرق إثبات العلة فإن بين الاستقلال في صورة الإلغاء بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في الأصل الأول فقد استقلت صورة الإلغاء بالاعتبار وأمكن أن تكون أصلا لعلته وتبينا أن الأصل الأول لا حاجة إليه فإن المصير إلى أصل لا يمكن التمسك به في الاعتبار إلا بذكر صورة أخرى مستقلة بالاعتبار يكون تطويلا بلا فائدة وإن بين الاستقلال بطريق آخر فيلزمه مع هذا المحذور محذور آخر وهو الانتقال في إثبات كون الوصف
علة من طريق إلى طريق آخر وهو شنيع في مقام النظر
الطريق الثاني أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوه
الطريق الثالث أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألفنا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل فيجب إلغاؤه وإن كان مناسبا
وذلك كما في قوله عليه السلام من أعتق شركا له من عبد قوم عليه نصيب شريكه فإنه وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من

الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام
الطريق الرابع إذا قال بحثت في الوصف المحذوف فلم أجد فيه مناسبة ولا ما يوهم المناسبة وكان أهلا للنظر والبحث عدلا فالظاهر صدقه وأن الوصف غير مناسب ويلزم من ذلك حذفه ضرورة كون العلة في الأصل بمعنى الباعث على ما تقرر قبل وامتناع اعتبار ما لا يكون مناسبا
فإن قيل البحث والسبر وإن دل على عدم المناسبة في الوصف المحذوف فللمعترض أن يقول بحثت في الوصف المستبقي فلم أجد فيه مناسبة
وعند ذلك فإن بين المستدل المناسبة فيه فقد انتقل في إثبات العلة من طريقة السبر إلى المناسبة
وإن لم يبين ذلك لم يكن وصف المعترض بالحذف أولى من وصف المستدل
قلنا إن كان قد سبق من المعترض تسليم مناسبة كل واحد من الوصفين فلا يسمع منه بعد بيان المستدل نفي المناسبة في الوصف المحذوف منع المناسبة في المستبقي لكون مانعا لما سلمه ولا يجب على المستدل بيان المناسبة في الوصف المستبقي
وإن لم يسبق من المعترض تسليم ذلك فللمستدل طريق صالح في دفع السؤال من غير حاجة إلى بيان المناسبة في الوصف المستبقي وهو ترجيح سبره على سبر المعترض بموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور والتعدية أولى من القصور على ما يأتي تقريره في الترجيحات
المسلك الخامس في إثبات العلة المناسبة والإحالة
ويشتمل على ثمانية فصول

الفصل الأول في تحقيق معنى المناسب قال أبو زيد المناسب عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول
وما ذكره وإن كان موافقا للوضع اللغوي حيث يقال هذا الشيء مناسب لهذا الشيء أي ملائم له غير أن تفسير المناسب بهذا المعنى وإن أمكن أن يتحققه الناظر مع نفسه فلا طريق للمناظر إلى إثباته على خصمه في مقام النظر لإمكان أن يقول الخصم هذا مما لم يتلقه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة الي وإن تلقاه عقل غيري بالقبول
فإنه ليس الاحتجاج علي بتلقي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقي عقلي له بالقبول وعلى هذا بني أبو زيد امتناع التمسك في إثبات العلة في مقام النظر بالمناسبة وقران الحكم بها وإن لم يمتنع التمسك بذلك في حق الناظر لأنه لا يكابر نفسه فيما يقضي به عقله
والحق في ذلك أن يقال المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم
وسواء كان ذلك الحكم نفيا أو إثباتا
وسواء كان ذلك المقصود جلب

مصلحة أو دفع مفسدة
وهو أيضا غير خارج عن وضع اللغة لما بينه وبين الحكم من التعلق والارتباط
وكل ما له تعلق بغيره وارتباط فإنه يصح لغة أن يقال إنه مناسب له
ولا يخفى إمكان إثبات مثل ذلك في مقام النظر على الخصم بما لو أعرض عنه الخصم وأصر معه على المنع كان معاندا

الفصل الثاني في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالى الرب تعالى عن الضرر والانتفاع
وربما كان ذلك مقصودا للعبد لأنه ملائم له وموافق لنفسه
ولذلك إذا خير العاقل بين وجود ذلك وعدمه اختار وجوده على عدمه
وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة فذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة فإن كان في الدنيا فشرع الحكم إما أن يكون مفضيا إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دواما أو تكميلا
فالأول مثل القضاء بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلا لأصل المقصود المتعلق به من الملك أو المنفعة كما في البيع والإجارة ونحوهما
وأما الثاني فكالقضاء بتحريم القتل وإيجاب القصاص على من قتل الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز و جل

عمدا عدوانا لإفضائه إلى دوام المصلحة المعلقة بالنفس الإنسانية المعصومة
وأما الثالث فكالحكم باشتراط الشهادة ومهر المثل في النكاح فإن مكمل لمصلحة النكاح لا أنه محصل لأصلها لحصولها بنفس اعتبار التصرف وصحته
وأما في الاخرى فالمقصود العائد إليها من شرع الحكم لا يخرج عن جلب الثواب ودفع العقاب
فالأول كالحكم بإيجاب الطاعات وأفعال العبادات لإفضائه إلى نيل الثواب ورفع الدرجات
والثاني فكالحكم بتحريم أفعال المعاصي وشرع الزواجر عليها دفعا لمحذور العقاب المرتب عليها

الفصل الثالث في بيان مراتب إفضاء الحكم إلى المقصودمن شرع الحكم واختلافها المقصود إما أن يكون حاصلا من شرع الحكم يقينا أو ظنا أو أن الحصول وعدمه متساويان أو أن عدم الحصول راجح على الحصول
أما الأول فمثاله إفضاء الحكم بصحة التصرف بالبيع إلى إثبات الملك
وأما الثاني فكشرع القصاص المرتب على القتل العمد العدوان صيانة للنفس المعصومة عن الفوات فإنه مظنون الحصول راجح الوقوع إذ الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أنه لا يقدم على القتل فتبقى نفس المجني عليه إلى نظائره من الزواجر وليس ذلك مقطوعا به لتحقق الإقدام على القتل مع شرع القصاص كثيرا
وأما القسم الثالث فقلما يتفق له في الشرع مثال على التحقيق بل على طريق التقريب وذلك كشرع الحد على شرب الخمر لحفظ العقل فإن إفضاءه إلى ذلك متردد حيث إنا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومة لكثرة المقدمين عليه لا على وجه الترجيح والغلبة لأحد الفريقين على الآخر في العادة
ومثال القسم الرابع إفضاء الحكم بصحة نكاح الآيسة إلى مقصود التوالد والتناسل فإنه وإن كان ممكنا عقلا غير أنه بعيد عادة فكان الإفضاء إليه مرجوحا

فهذه الأقسام الأربعة وإن كانت مناسبة نظرا إلى أنها موافقة للنفس غير أن أعلاها القسم الأول لتيقنه ويليه الثاني لكونه مظنونا راجحا
ويليه الثالث لتردده ويليه الرابع لكونه مرجوحا
والقسمان الأولان متفق على صحة التعليل بهما عند القائلين بالمناسبة
وأما القسم الثالث والرابع فلكون المقصود فيهما غير ظاهر للمساواة في الثالث والمرجوحية في الرابع
فالاتفاق واقع على صحة التعليل بهما إذا كان ذلك في آحاد الصور الشاذة وكان المقصود ظاهرا من الوصف في غالب صور الجنس وإلا فلا
وذلك كما ذكرناه من مثال صحة نكاح الآيسة لمقصود التوالد فإنه وإن كان غير ظاهر بالنسبة إلى الآيسة إلا انه ظاهر فيما عداها
وعلى هذا فلو خلا الوصف الذي رتب عليه الحكم عن المقصود الموافق للنفس قطعا وإن كان ظاهرا في غالب صور الجنس كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية وشرع الاستبراء في شراء الجارية لمعرفة فراغ الرحم فيما إذا اشترى الجارية ممن باعها منه في مجلس البيع الأول لعلمنا بفراغ رحمها من غيره قطعا وإن كان ذلك ظاهرا في غالب صور الجنس فيما عدا هذه الصور فلا يكون مناسبا ولا يصح التعليل به لأن المقصود من شرع الأحكام الحكم فشرع الأحكام مع انتفاء الحكمة يقينا لا يكون مفيدا فلا يرد به الشرع خلافا لأصحاب أبي حنيفة

الفصل الرابع في أقسام المقصود من شرع الحكم واختلاف مراتبه في نفسه وذاته وهو لا يخلو إما أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية أو لا يكون من قبيل المقاصد الضرورية
فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلا أو لا يكون أصلا
فإن كان أصلا فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات
والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الواقع العلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة
أما حفظ الدين فبشرع قتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع
وأما حفظ النفوس فبشرع القصاص
وأما حفظ العقول فبشرع الحد على شرب المسكر

وأما حفظ الأموال التي بها معاش الخلق فبشرع الزواجر للغصاب والسراق
وأما إن لم يكن أصلا فهو التابع المكمل للمقصود الضروري
وذلك كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير وإن لم يكن مسكرا
فإن أصل المقصود من حفظ العقل حاصل بتحريم شرب المسكر لا بتحريم قليله وإنما يحرم القليل للتكميل والتتميم
وأما إن لم يكن المقصود من المقاصد الضرورية فإما أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه أو لا تدعو إليه الحاجة
فإن كان من قبيل ما تدعو إليه الحاجة فإما أن يكون أصلا أو لا يكون أصلا
فإن كان أصلا فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدة
وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لا لضرورة ألجأت إليه بل لحاجة تقييد الكفوء الراغب خيفة فواته عند دعو الحاجة إليه بعد البلوغ لا إلى خلف
وأما تسليط الولي على تربية الصغير وإرضاعه وشرآء المطعوم والملبوس له فليس من هذا القبيل بل من قبيل الضروريات الأصلية التي لا تخلو شريعة عن رعايتها
وهذا القسم في الرتبة دون القسم الأول ولهذا جاز اختلاف الشرائع فيه دون القسم الأول وهو في محل المعارضة مع ما كان من قبيل التكملة والتتمة للقسم الأول
ولهذا اشتركا في جواز اختلاف الشرائع فيهما
وإن لم يكن أصلا فهو التابع الجاري مجرى التتمة والتكملة للقسم الثاني وذلك كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإن كان أصل المقصود حاصلا دون ذلك

وهذا النوع في الرتبة دون ما تقدم أما بالنظر إلى المقصود الذي هو من باب الضرورات والحاجات فظاهر وأما بالنظر إلى ما هو من قبيل التكملة للمقصود الضروري فلكونه مكملا لما ليس بضروري
وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثالث وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات وذلك كسلب العبيد أهلية الشهادة من حيث إن العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخرا للمالك مشغولا بخدمته فلا يليق به منصب الشهادة لشرفها وعظم خطرها جريا للناس على ما ألفوه وعدوه من محاسن العادات وإن كان لا تتعلق به حاجة ضرورية ولا زائدة ولا هو من قبيل التكملة لأحدهما وليس هذا من قبيل سلب ولايته على الطفل فإن سلب ولايته من قبيل الحاجات لأن الولاية على الطفل تستدعي الخلو والفراغ والنظر في أحواله واستغراق العبد بما هو الواجب عليه من خدمة مالكه مانع له من ذلك
ولا كذلك في الشهادة لاتفاقهما في بعض الأحيان

الفصل الخامس اختلفوا في الحكم إذا ثبت لوصف مصلحي على وجه يلزم منه وجود مفسدة مساوية له أو راجحة عليه هل تنخرم مناسبته أو لا فأثبته قوم ونفاه آخرون
وقد احتج من قال ببقاء المناسبة من وجوه أربعة
الأول أن مناسبة الوصف تنبني على ما فيه من المصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا تختل بمعارضة المفسدة
ودليله أن المصلحة والمفسدة المتعارضتان إما أن يتساويا أو تترجح إحداهما على الأخرى
فإن كان الأول فإما أن تبطل كل إحداة منهما بالأخرى أو أن تبطل إحداهما بالأخرى من غير عكس أو لا تبطل واحدة منها بالأخرى الأول محال لأن عدم كل واحدة منهما إنما هو بوجود الأخرى وذلك يجر إلى وجودهما مع عدمهما ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون متحققة مع المعلول والثاني محال لعدم الأولوية

والثالث هو المطلوب وإن كانت إحداهما أرجح من الأخرى فلا يلزم منه إبطال المرجوحة إلا أن تكون بينهما منافاة ولا منافاة لما بيناه من جواز اجتماعهما في القسم الأول ولأن الراجحة منهما إذا كانت معارضة بالمرجوحة فإما أن ينتفي شيء من الراجحة لأجل المرجوحة أو لا ينتفي منها شيء فإن كان الأول فهو محال أن تتساويا لما سبق في القسم الأول ولأنه ليس انتفاء بعض الراحج وبقاء بعضه أولى من العكس ضرورة التساوي في الحقيقة وإن تفاوتا فالكلام في الراجح كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع
وإذا كانت المصلحة لا تختل بمعارضة المفسدة فالعقل يقضي بمناسبتها للحكم وبالنظر إلى المعارض يقضي بانتفاء الحكم لأجل المعارض
ولهذا يحسن من العاقل أن يقول الداعي إلى إثبات الحكم موجود غير أنه يمنعني منه مانع ولو اختلت مناسبة الوصف لما حسن من العاقل هذه المقالة
الوجه الثاني أنه قد يتعارض في نظر الملك عند الظفر بجاسوس عدوه المنازع له في ملكه قتله وعقوبته زجرا له ولأمثاله عن الحبس المضر به والإحسان إليه وإكرامه إما للاستهانة بعدوه أو لقصد كشف أسراره
وأي الأمرين سلك فإنه لا يعد خارجا عن مذاق الحكمة ومقتضى المناسبة وإن لزم منه فوات المقصود الحاصل من سلوك مقابله وسواء تساويا أو كان أحدهما راجحا
الثالث أنه إذا اجتمع الأخ من الأبوين مع الأخ من الأب في الميراث فإنه قد يتعارض في نظر الناظر تقديم الأخ من الأبوين لاختصاصه بقرابة الأمومة والتسوية بينهما لاشتراكهما في جهة العصوبة وإلغاء قرابة الأمومة وتفضيل الأخ من الأبوين لاختصاصه بمزيد القرابة
ومع ذلك فالعقل يقضي بتأدي النظر من غير احتياج إلى ترجيح بأن ورود الشرع بالاحتمال الأول مناسب غير خارج عن مذاق العقول ولو كان ترجيح الوصف المصلحي معتبرا في مناسبته لما كان كذلك

الرابع أن الشرع قد ورد بصحة الصلاة في الدار المغصوبة نظرا إلى ما فيها من المصلحة وبتحريمها نظرا إلى ما فيها من مفسدة الغصب
فلو اشترط الترجيح في المناسبة لما ثبت الصحة ولا التحريم بتقدير التساوي بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم ولا حكم الصحة بتقدير رجحان مفسدة الغصب ولا التحريم بتقدير رجحان مصلحة الصحة لعدم المناسبة
وهذه الحجج ضعيفة أما الحجة الأولى فلقائل أن يقول إن أردت أن مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة فمسلم
ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لا بد منه في المناسبة تحقق المناسبة
وإن أردت أنها مستقلة بتحقيق المناسبة فممنوع
وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها فالمناسبة أمر عرفي وأهل العرف لا يعدون المصلحة العارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة
ولهذا إن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيها خارجا في تصرفه عن تصرفات العقلاء
ولو كان ذلك مناسبا لما كان كذلك وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة
وقول القائل إن الداعي موجود فالمراد به المصلحة دون المناسبة
وقوله غير أنه يمنعني منه مانع
وإن كان صحيحا في العرف فليس ذلك إلا لإخلال المانع المفسدي بمناسبة المصلحة لا بمعنى أن الانتفاء محال على المفسدة مع وجود المناسب للحكم
وعلى هذا نقول بأن مناسبة كل واحدة من المصلحة والمفسدة تختل بتقدير التساوي وبتقدير مرجوحية إحداهما فالمختل مناسبتها دون مناسبة الراجحة ضرورة فوات شرط المناسبة لا لأن كل واحدة علة للإخلال بمناسبة الأخرى أو إحداهما ليلزم في ذلك ما قيل
وأما الحجة الثانية فلقائل أن يقول أيضا مهما لم يترجح في نظر الملك وأهل العرف مصلحة ما عينه من أحد الطريقين من الإحسان أو الإساءة بمقتضى الحالة الراهنة فإن فعله لا يكون مناسبا ويكون بتصرفه خارجا عن تصرفات العقلاء

وأما الحجة الثالثة فلقائل أن يقول لا نسلم جواز الجزم بمناسبة ما عين دون ظهور الترجيح في نظر الناظر وبعد ظهور الترجيح فليس الجزم بمناسبة الوصف في نفس الأمر قطعا لجواز أن يكون في نفسه مرجوحا وإن لم يطلع عليه
وأما الحجة الرابعة فبعيدة عن التحقيق وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته تحصيلا للمصلحة مفسدة مساوية أو راجحة وما ذكر من مفسدة تحريم الغصب وهي شغل ملك الغير غير لازمة من ترتيب حكم المصلحة عليها وهو صحة الصلاة فإنا وإن لم نقض بصحة الصلاة فالمفسدة اللازمة من الغضب لا تختل بل هي باقية بحالها ولو كانت لازمة من حكم المصلحة لا غير لانتفت المفسدة المفروضة بانتفاء حكم المصلحة وليس كذلك
وحيث لم تكن مفسدة تحريم الغضب لازمة عن حكم المصلحة كان من المناسب اعتبار كل واحدة منهما في حكمها وهي المصلحة والمفسدة إذ لا معارضة بينهما على ما تقرر
وإذا تقرر توقف المناسبة على الترجيح فللمعلل ترجيح وصفه بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل وله الترجيح بطريق إجمالي يطرد في جميع المسائل وحاصله أن يقول المعلل لو لم يقدر ترجيح المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث وعدم الاطلاع على ما يمكن إضافة الحكم إليه في محل التعليل سوى ما ذكرته لزم أن يكون الحكم قد ثبت تعبدا وهو خلاف الأصل لوجهين
الأول أن الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد فإدراج ما نحن فيه تحته أولى
الثاني أنه إذا كان معقول المعنى كان الحكم أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول فإن الانقياد إلى المعقول المألوف أقرب مما ليس كذلك فكان أفضى إلى المقصود من شرع الحكم

لكن لقائل أن يقول ما ذكرتموه من البحث عن وصف آخر تمكن إضافة الحكم إليه مع عدم الظفر به وإن دل على ترجيح جهة المصلحة فهو معارض بما يدل على عدم ترجيحها وهو عدم الاطلاع على ما به تكون راجحة على معارضها مع البحث عنه وعدم الظفر به وليس أحد البحثين أولى من الآخر
فإن قلتم بل ما ذكرناه أولى من جهة أن بحثنا عن وصف صالح للتعليل وذلك لا يتعدى محل الحكم فمحله متحد وبحثكم إنما هو عما به الترجيح وهو منحصر في محل الحكم فإن ما به الترجيح قد يكون بما يعود إلى ذات العلة وقد يكون بأمر خارج عنها كما يأتي تقريره
فكان ما ذكرناه أولى
قلنا ما به الترجيح إن كان خارجا عن محل الحكم فلا يتحقق به الترجيح في محل الحكم وإن كان في محل الحكم فقد استوى البحثان في اتحاد محلهما ولا ترجيح بهذه الجهة وبتقدير تسليم اتحاد محل بحث المستدل والتعدد في محل بحث المعترض
غير أن الظن الحاصل من البحثين إما أن يكون متساويا أو متفاوتا وبتقدير المساواة ورجحان ظن المعترض فلا ترجيح في جانب المستدل
وإنما يترجح بتقدير أن يكون ظنه راجحا
ولا يخفى أن ما يقع على تقدير من تقديرين يكون أغلب مما لا يقع إلا على تقدير واحد
وينبغي أن يعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة إنما يتحقق على رأي من لا يرى تخصيص العلة
وأما من يرى جواز تخصيصها وجواز إحالة انتفاء الحكم على تحقق المعارض مع وجود المقتضي فلا بد له من الاعتراف بالمناسبة وإن كانت

المصلحة مرجوحة أو مساوية
فإن انتفاء الحكم بالمانع مع وجود المقتضي إما أن يكون لمقصود راجح على مقصود المقتضي للإثبات أو مساو له أو مرجوح بالنسبة إليه فإن كان راجحا فقد قيل بمناسبة المقتضي للإثبات مع كون مقصوده مرجوحا وإلا فلو لم يكن مناسبا كان الحكم منتفيا لانتفاء المناسب لا لوجود المانع وإن كان مساويا
فكذلك أيضا وإن كانت مفسدة المانع مرجوحة فقد قيل بانتفاء الحكم له ولولا مناسبته للانتفاء لما انتفى الحكم به فإنه لو جاز أن ينتفي الحكم بما ليس بمناسب لجاز أن يثبت بما ليس بمناسب

الفصل السادس في كيفية ملازمة الحكمة لضابطها وبيان أقسامها فنقول الحكمة اللازمة لضابطها إما أن تكون ناشئة عنه وإما أن لا تكون ناشئة عنه
والتي لا تكون ناشئة عنه إما أن تكون للوصف دلالة على الحاجة إليها أو لا تكون كذلك
فالأول كشرع الرخصة في السفر لدفع المشقة الناشئة من السفر
والثاني كالحكم بصحة البيع بإفضائه إلى الانتفاع بالعوض
فإن الانتفاع لازم لصحة البيع ظاهرا وليس ناشئا عن البيع ولكن للبيع وهو التصرف الصادر من الأهل في المحل وهو الإيجاب والقبول دلالة على الجاحة إليه
والثالث كما في ملك نصاب الزكاة فإنه يناسب إيجاب الزكاة من حيث إنه نعمة والنعمة تناسب الشكر لإفضاء الشكر إلى زيادة النعمة على ما قال تعالى { ولئن شكرتم لأزيدنكم }
والزكاة صالحة لأن تكون شكرا لما فيها من إظهار النعمة وإظهار النعمة في العرف يعد شكرا

ولا يخفى أن ما مثل هذا المقصود وهو زيادة النعمة ملازم لترتيب إيجاب الزكاة على ذلك النصاب وليس زيادة النعمة ناشئة عن نفس ملك النصاب كما كانت المشقة ناشئة عن السفر ولا لملك النصاب دلالة على الحاجة إلى زيادة النعمة كدلالة البيع على الحاجة إلى الانتفاع

الفصل السابع في أقسام المناسب بالنظر إلى اعتباره وعدم اعتباره فنقول الوصف المناسب إما أن يكون معتبرا في نظر الشارع أو لا يكون معتبرا فإن كان معتبرا فاعتباره إما أن يكون بنص أو إجماع أو بترتيب الحكم على وفقه في صورة بنص أو إجماع
فإن كان معتبرا بنص أو إجماع فيسمى المؤثر على ما سبق تحقيقه في المسائل المتقدمة وإذا كان معتبرا بترتيب الحكم على وفقه في صورة فالذي تقتضيه القسمة العقلية تسعة أقسام وذلك لأنه إما أن يكون معتبرا بخصوص وصفه أو بعموم وصفه أو بخصوصه وعمومه وإن كان معتبرا بخصوص وصفه دون عموم وصفه فإما أن يكون معتبرا في عين الحكم المعلل أو في جنسه أو في عينه وجنسه

وإن كان معتبرا بعموم وصفه فإما أن يكون معتبرا في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه وإن كان معتبرا بعموم وصفه وخصوصه فإما أن يكون معتبرا في عين الحكم أو جنسه أو في عينه وجنسه
وأما إن لم يكن الوصف معتبرا فلا يخلو إما أن يظهر مع ذلك إلغاؤه أو لم يظهر منه ذلك
فهذه جملة الأقسام المذكورة غير أن الواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة

القسم الأول أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم
وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر وذلك كما في إلحاق القتل بالمثقل بالمحدد لجامع القتل العمد العدوان فإنه قد ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدد وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية على المحل المعصوم بالقود في جنس القتل من حيث هو قصاص في الأيدي وهذا القسم هو المعبر عنه بالملائم وهو متفق عليه بين القياسين ومختلف فيما عداه
القسم الثاني أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم
من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في أصل آخر متفق عليه ولا جنسه في عين ذلك الحكم ولا جنسه في جنسه ولا دل على كونه علة نص ولا إجماع لا بصريحه ولا إيمائه وذلك كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول النبيذ وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر ولم يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم ولا جنسه في عينه ولا جنسه في جنسه ولا إجماع عليه فلو قدرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الإسكار علة فلا يكون معتبرا بنص أيضا وهذا هو المناسب الغريب وهو مختلف فيه بين القياسين وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل
ولهذا فإنا إذا رأينا شخصا قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة

مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها غلب على الظن ما رتب الحكم عليه
والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أو لا لعلة
فإن كان لا لعلة فهو بعيد لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام عن العلل
وإن كان لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر أو لما ظهر الأول ويلزم منه التعبد وهو بعيد على ما عرف والثاني هو المطلوب
فإن قيل الفرق بين ما نحن فيه وبين صورة الاستشهاد إنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة فكان ذلك من قبيل القسم الأول وهو الملائم المتفق عليه لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه
قلنا نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغى
ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل نظرا إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام والإحسان في حق العاقل كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها
وليس هذا من القسم الأول في شيء لأن القسم الأول مفروض فيما علم من الشارع اعتبار العين في العين فيه والجنس في الجنس والفرق بين الأمرين ظاهر

القسم الثالث أن يكون الشارع قد اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم
لا غير أي أنه لم يعتبر مع ذلك عينه في عينه ولا عينه في جنسه ولا جنسه في عينه ولا دل عليه نص ولا إجماع
وهذا أيضا من جنس المناسب الغريب المختلف فيه بين القياسين إلا أنه دون القسم الثاني وذلك لأن الظن الحاصل باعتبار الخصوص لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف

فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين الزائدتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط أصل الصلاة بل من جنسها
واعلم أن الوصف المعلل به وكذلك الحكم المعلل له أجناس منها ما هو عال ليس فوقه ما هو أعلى منه ومنها ما هو قريب إليه ليس بينه وبينه واسطة ومنها ما هو متوسط بين الطرفين إما على السواء أو أنه إلى أحد الطرفين أقرب من الآخر
فأما الجنس العالي للحكم الخاص فكونه حكما وأخص منه كونه وجوبا أو تحريما أو غير ذلك من الأحكام
وأخص من الوجوب العبادة وغير العبادة
وأخص من العبادة الصلاة وغير الصلاة وأخص من الصلاة الفرض والنفل
وأما الجنس العالي للوصف الخاص فكونه وصفا تناط الأحكام به وأخص منه كونه مناسبا بحيث يخرج منه الشبهي وأخص منه المصلحة الضرورية وأخص منه حفظ النفس والعقل وعلى هذا النحو فالظن في هذا القسم مما يزيد وينقص بسبب التفاوت فيما به الاشتراك من الجنس العالي والسافل والمتوسط فيما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن وما كان الاشتراك فيه بالأعم فهو أبعد وما كان بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول

القسم الرابع المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة
بالاعتبار بطريق من الطرق المذكورة ولا ظهر إلغاؤه في صورة ويعبر عنه بالمناسب المرسل وسيأتي الكلام عنه فيما بعد
القسم الخامس المناسب الذي لم يشهد له أصل بالاعتبار
بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في صوره فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به
وذلك كقول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان وهو صائم يجب عليك صوم شهرين متتابعين
فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوة فرجه فكانت المصلحة في إيجاب الصوم مبالغة في زجره
فهذا وإن كان مناسبا غير أنه لم يشهد له شاهد في الشرع بالاعتبار مع ثبوت الغاية بنص الكتاب

الفصل الثامن في إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتباردليل كون الوصف علة وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد
أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول
أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان واجبا فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجبا ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود فكان المقصود لازما من فعله ظنا
وإذا كان المقصود لازما في صنعه فالأحكام من صنعه فكانت لغرض ومقصود
والغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد
ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع ولأنه على خلاف الإجماع فلم يبق سوى الثاني
وأيضا فإن الأحكام مما جاء بها الرسول فكانت رحمة للعالمين

لقوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ( الأنبياء 107 )
فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب
وأيضا قوله تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء } ( الأعراف 156 ) فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة لكانت نقمة لا رحمة لما سبق وأيضا قوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام
فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لكان شرعها ضررا محضا وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص
وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد فإذا رأينا حكما مشروعا مستلزما لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا لا يمكن أن يكون الغرض ما لم يظهر لنا وإلا كان شرع الحكم تعبدا وهو خلاف الأصل لما سبق تقريره
فلم يبق إلا أن يكون مشروعا لما ظهر وإذا كان ذلك مظنونا فيجب العمل به لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية
فمن ذلك ما اشتهر عنهم في زمن عمر من تقدير حد شارب الخمر بثمانين جلدة بسبب ظن وقع لهم من قول علي رضي الله عنه أرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين إقامة للشرب الذي هو مظنة الافتراء مقام الافتراء في حكمه
ومن ذلك حكمهم في إمامة أبي بكر بالرأي والظن وقياسهم العهد على العقد في الإمامة ورجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر في قتال بني حنيفة حيث امتنعوا من أداء الزكاة واتفاقهم على كتبة المصحف وجمع القرآن بين الدفتين بالرأي والظن واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والإخوة على وجوه مختلفة

ومن ذلك ما اشتهر عن آحاد الصحابة من العمل بالظن والرأي من غير نكير عليه
فمن ذلك قول أبي بكر أقول في الكلالة برأيي وحكمه
بالرأي في التسوية في العطاء
ومن ذلك قول عمر أقول في الجد برأيي وأقضي فيه برأيي وقضى فيه بآراء مختلفة
وقوله في حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا
وتشريكه في المسألة الحمارية لما قيل له هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة ومن ذلك ما نقل عن عثمان إنه قال لعمر في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أشد وإن تتبع من قبلك فنعم ذلك الرأي
إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى
فإن قيل لا نسلم استلزام شرع الأحكام للحكم والمقاصد وذلك لأن شرع الأحكام من صنع الله تعالى وصنعه إما أن يستلزم الحكمة والمقصود أو لا يستلزم
والأول ممتنع لسبعة عشر وجها الأول أن القائل قائلان قائل يقول بأن أفعال العبيد مخلوقة لله تعالى وقائل إنها مخلوقة للعبيد
فمن قال إنها مخلوقة لله تعالى فيلزمه من ذلك أن يكون خالقا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور مع أنه لا حكمة ولا مقصود في خلق هذه الأشياء ومن قال إنها مخلوقة للعبيد فإنما كانت مخلوقة لهم

بواسطة خلق الله تعالى القدرة لهم على ذلك فخلقه للقدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون أيضا لحكمة
الثاني أنه لو استلزم فعله للحكمة ما أمات الأنبياء وأنظر إبليس وما أوجب تخليد أهل النار في النار لعدم الحكمة في ذلك
الثالث أنه لو كان لحكمة ومقصود فعند تحقق الحكمة لا يخلو إما أن يجب الفعل بحيث لا يمكن عدمه أو لا يجب فإن كان الأول فيلزم منه أن يصير الباري تعالى مضطرا غير مختار وإن لم يجب الفعل فقد أمكن وجوده تارة وعدمه تارة وعند ذلك إما أن يترجح أحد الممكنين على الآخر لمقصود أو لا لمقصود فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع
وإن كان الثاني فهو المطلوب
الرابع أنه لو كان صنع الرب تعالى يستلزم الغرض والمقصود فذلك المقصود إما أن يكون حادثا أو قديما فإن كان قديما فيلزم منه قدم الصنع والمصنوع وهو محال
وإن كان حادثا فإما أن يتوقف حدوثه على مقصود آخر أو لا يتوقف فالأول يلزم منه التسلسل والثاني هو المطلوب
الخامس أنه تعالى قد كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن كأبي جهل وغيره وذلك مما يستحيل معه الإيمان وإلا كان علمه جهلا
والتكليف بما لا يمكن وقوعه على وجه يعاقب المكلف على عدم فعله مجرد عن الغرض والحكمة
السادس أن حكم الله هو كلامه وخطابه
وكلامه وخطابه قديم والمقصود لا جائز أن يكون قديما وإلا لزم منه موجود قديم غير الباري تعالى وصفاته وهو محال
وإن كان حادثا فيلزم منه تعليل القديم بالحادث وهو ممتنع
السابع أن خلق الباري تعالى للعالم في وقته المعلوم المحدود من

جواز خلقه قبله أو بعده وتقديره بشكله المقدر مع جواز أن يكون أصغر أو أكبر مما لا يوقف منه على غرض ومقصود
الثامن أنه لو كان له في فعله غرض ومقصود لم يخل إما أن يكون فعله لذلك الغرض أولى من تركه أو لا يكون أولى فإن كان الأول فيلزمه منه أن يكون الرب تعالى مستكملا بذلك الصنع وناقصا قبله وهو محال وإن لم يكن فعله أولى من الترك امتنع الفعل لعدم الأولوية
التاسع أن الحكم والمقاصد خفية وفي ربط الأحكام الشرعية بها ما يوجب الحرج في حق المكلف باطلاعه عليها بالبحث عنها
والحرج منفي بقوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
العاشر أن وجود الحكمة مما يجب تأخره عن وجود شرع الحكم وما يكون متأخرا في الوجود يمتنع أن يكون علة لما هو متقدم عليه
الحادي عشر أنه لو كان شرع الأحكام للحكم لكانت مفيدة لها قطعا وذلك لأن الله تعالى قادر على تحصيل تلك الحكمة قطعا
فلو فعل ما فعله قصدا لتحصيل تلك الحكمة لكان الظاهر منه أنه فعله على وجه تحصل الحكمة به قطعا وأكثر الأحكام من الزواجر وغيرها غير مفيدة لما ظن أنها حكم لها قطعا
الثاني عشر أنه لا يخلو إما أن يكون الرب تعالى قادرا على تحصيل تلك الحكمة الحاصلة من شرع الحكم دون شرع الحكم أو لا يكون قادرا عليه لا جائز أن لا يكون قادرا إذ هو صفة نقص والنقص على الله محال وإن كان قادرا على ذلك فشرع الحكم وتوسطه في البين لا يكون مفيدا بل هو محض عناء وتعب
الثالث عشر أن خلق الكافر شقيا في الدنيا مخلدا في العذاب أخرى مما لا حكمة فيه ولا مقصود

الرابع عشر أن الله تعالى قد أوجب على المكلف معرفته وذلك إما أن يكون على العارف به أو على غير العارف الأول فيه تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه المحال حيث أوجب معرفته على من لا يعرفه مع توقف معرفة إيجابه على معرفة ذاته وهو دور ولا مصلحة في شيء من ذلك
الخامس عشر أن الله تعالى قد أقدر العباد على المعاصي وتركهم يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم من ذلك ولم يفعل شيئا من ذلك وذلك مما لا حكمة فيه
السادس عشر أن الحكمة إنما تطلب في حق من تميل نفسه في صنعه إلى جلب نفع أو دفع ضرر والرب تعالى منزه عن ذلك
السابع عشر أن الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثا والرب يتعالى عن ذلك لكونه متصرفا في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل على ما قال تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ( الأنبياء 23 ) وإن لم يكن فعله مستلزما للحكمة فهو المطلوب
سلمنا استلزام شرع الحكم للحكمة ولكن لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علة ولو كان يدل المناسب على كونه علة لكانت أجزاء العلة المناسبة عللا بل غايته أن تكون جزء علة
ولا يلزم من وجود جزء العلة في الفرع وجود الحكم
سلمنا غلبة الظن بكون ما ظهر من المناسب علة ولكن لا نسلم وجوب العمل بالظن مطلقا لما سنبينه في مسألة كون القياس حجة وما ذكرتموه من الدلائل فسيأتي الكلام عليها أيضا في مسألة كون القياس حجة
والجواب عما ذكروه من المنع ما سبق تقريره وعن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه

الأول أن القدرة إنما تتعلق بالحدوث والوجود لا غير والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع وليس ذلك من متعلق القدرة في شيء
الثاني وإن سلمنا أن جميع ذلك مخلوق لله تعالى فنحن لا ندعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقا حتى يطرد ذلك في كل مخلوق بل إنما ندعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه وذلك ممكن فيما عدا أنواع الشرور والمعاصي ولا ندعي ذلك قطعا بل ظاهرا
الثالث وإن سلمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقا ولكن لا نسلم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعا لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى
وبهذين الجوابين الأخيرين يكون جواب الشبهة الثانية
وعن الثالثة أن وجود الفعل وإن قدر تحقق الحكمة غير واجب بل هو تبع لتعلق القدرة والإرادة به ومع ذلك فالباري لا يكون مضطرا بل مختارا
وعن الرابعة أن المقصود حادث ولكن لا يفتقر إلى مقصود آخر فإنا إنما ندعي ذلك فيما هو ممكن وافتقار المقصود إلى مقصود آخر غير ممكن لإفضائه إلى التسلسل الممتنع وإن كان مفتقرا إلى مقصود فذلك المقصود هو نفسه لا غيره فلا تسلسل
وعن الخامسة أنا لا ندعي لزوم المقصود في كل فعل ليلزمنا ما قيل وإن كان ذلك لازما فلا يمتنع أن يكون ذلك لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها كما بيناه في التكليف بما لا يطاق
وعن السادسة أن الحكم ليس هو نفس الكلام القديم كما سبق تقريره بل الكلام بصفة التعلق فكان حادثا وإن كان الحكم قديما
والمقصود حادثا فإنما يمتنع تعليله به أن لو كان موجبا للحكم وليس كذلك بل إما بمعنى الأمارة والعلامة عند من يقول بذلك والحادث لا يمتنع أن يكون أمارة على

القديم وإما بمعنى الباعث فلا يمتنع أيضا أن يكون متأخرا ويكون حكم الله القديم بما حكم به لأجل ما سيوجد من المقصود الحادث
وعن السابعة بمنع انتفاء الحكمة فيما قيل وإن لم تكن معلومة لنا
وعن الثامنة أن فعله لذلك الغرض أولى من تركه لكن بالنظر إلى المخلوق دون الخالق
وعن التاسعة أنه لا حرج في ربط الأحكام بالحكم إذا كانت منضبطة بأنفسها أو بأوصاف ظاهرة ضابطة لها لعدم العسر في معرفتها وإن كان في ذلك نوع عسر وحرج يكد العقل في الاجتهاد فيها فلا نسلم خلو ذلك عن المقصود وهو زيادة الثواب على ما قال عليه السلام ثوابك على قدر نصبك
وعن العاشرة أن الحكمة وإن كانت متأخرة في الوجود عن شرع الحكم فإنما يمتنع أن تكون علة بمعنى المؤثر لا بمعنى الباعث
وعن الحادية عشرة أنه لا يمتنع أن تكون الحكمة المقصودة من شرع الحكم إنما هو حصول الحكمة ظاهرا لا قطعا
وعن الثانية عشرة أنه لا يمتنع على بعض آراء المعتزلة أن يقال بأن الرب تعالى غير قادر على تحصيل ذلك الغرض الخاص من شرع ذلك الحكم دون شرعه ولا يلزم منه العجز ضرورة كونه غير ممكن وإن قدر أنه قادر على ذلك وهو الحق فلا يلزم أن يكون شرع الحكم غير مفيد مع حصول الفائدة به وإن قدر إمكان حصول الفائدة بطريق آخر
وعن الثالثة عشرة أن الحكمة فيما ذكروه إما أن تكون ممتنعة أو جائزة
فإن كان الأول فلا يلزم امتناعها فيما هي ممكنة فيه وإن كان الثاني فلا مانع من وجودها وإن لم نطلع نحن عليها
وهو الجواب عن الرابعة عشرة

كيف وأنه إنما يلزم الدور الممتنع أن لو قيل بتوقف الوجوب على معرفة المكلف للوجوب وليس كذلك على ما سبق تقريره في شكر المنعم
وعن الخامسة عشرة ما هو جواب الشبهتين قبلها
وعن السادسة عشرة بمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة بل الحكمة إنما تطلب في فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لما كان ممتنعا بل واقعا في الغالب
وعن السابعة عشرة أن ما ذكروه إنما يلزم في حق من تجب مراعاة الحكمة في فعله والباري تعالى ليس كذلك على ما حققناه في كتبنا الكلامية
قولهم لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علة قلنا لا يلزم أن يكون علة قطعا وإنما يلزم أن يكون علة ظاهرا ضرورة أنه لا بد للحكم من علة ظاهرة على ما سبق تقريره ولا ظاهر سواه
وأما أجزاء العلة وإن كانت مناسبة فإنما يمتنع التعليل بكل واحد منها لما سبق من امتناع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلل بخلاف ما إذا اتحد الوصف أو تعدد وكانت العلة مجموع الأوصاف
قولهم لا نسلم وجوب العمل بذلك وإن كان مظنونا قلنا دليله ما ذكرناه وما سيأتي في مسألة إثبات القياس على منكريه
وما يذكرونه على ذلك فسيأتي جوابه ثم أيضا

المسلك السادس إثبات العلة بالشبه ويشتمل على ثلاثة فصول الفصل الأول في حقيقة الشبه واختلاف الناس فيه وما هو المختار فيه نقول اعلم أن اسم الشبه وإن أطلق على كل قياس ألحق الفرع فيه بالأصل لجامع يشبهه فيه غير أن آراء الأصوليين مختلفة فيه فمنهم من فسره بما تردد فيه الفرع بين أصلين ووجد فيه المناط الموجود في كل واحد من الأصلين إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر فإلحاقه بما هو أكثر مشابهة هو الشبه
وذلك كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحر فإنه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان أحدهما النفسية وهو مشابه للحر فيها ومقتضى ذلك أن لا يزاد فيه على الدية والثاني المالية وهو مشابه للفرس فيها ومقتضى ذلك الزيادة
إلا أن مشابهته للحر في كونه آدميا مثابا معاقبا ومشابهته للفرس في كونه مملوكا مقوما في الأسواق فكان إلحاقه بالحر أولى لكثرة مشابهته له وليس هذا من الشبه في شيء
فإن كل واحد من المناطين مناسب وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرة فليست إلا من باب الترجيح لأحد المناطين على الآخر وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن كان يفتقر إلى نوع ترجيح

ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه قطعا غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه وذلك كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب بقوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } ( المائدة 95 ) وليس هذا أيضا من الشبه إذ الكلام إنما هو مفروض في العلة الشبهية والنظر ها هنا إنما هو في تحقيق الحكم الواجب وهو الأشبه لا في تحقيق المناط وهو معلوم بدلالة النص
ودليل أن الواجب هو الأشبه أنه أوجب المثل ونعلم أن الصيد لا يماثله شيء من النعم فكان ذلك محمولا على الأشبه كيف وهو مجزوم مقطوع به والشبه مختلف فيه وكيف يكون المتفق عليه هو نفس المختلف فيه
ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان لا على سبيل الكمال إلا أن أحدهما أغلب من الآخر فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه وذلك كاللعان فإنه قد وجد فيه لفظ الشهادة واليمين وليسا بمتمحضين لأن الملاعن مدع والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه وهذا وإن كان أقرب من المذاهب المتقدمة إلا أنه مهما غلبت إحدى الشائبتين فقد ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا فيجب الحكم بها ولكنه غير خارج عن التعليل بالمناسب
وقد ذهب القاضي أبو بكر إلى تفسيره بقياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ولكن يستلزم ما يناسب الحكم وسيأتي تحقيقه في موضعه بعد
ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها وذلك أن الوصف المعلل به لا يخلو إما أن تظهر فيه المناسبة أو لا تظهر فيه المناسبة بوقوف من هو أهل معرفة المناسبة عليها وذلك بأن يكون ترتيب الحكم على وفقه مما يفضي إلى تحصيل مقصود من المقاصد المبينة من قبل فهو المناسب

وإن لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ممن هو أهله فإما أن يكون مع ذلك مما لم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام أو هو مما ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام
فإن كان من الأول فهو الطردي الذي لا التفات إليه
ومثاله ما لو قال الشافعي مثلا في إزالة النجاسة بمائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن وكما لو علل في مسألة من المسائل بالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما وإن كان الثاني فهو الشبهي وذلك لأنه بالنظر إلى عدم الوقوف على المناسبة فيه بعد البحث يجزم المجتهد بانتفاء مناسبته وبالنظر إلى اعتباره في بعض الأحكام يوجب إيقاف المجتهد عن الجزم بانتفاء المناسبة فيه فهو مشابه للمناسب في أنه غير مجزوم به في ظهور المناسبة فيه ومشابه للطردي في أنه غير مجزوم بظهور المناسبة فيه
فهو دون المناسب وفوق الطردي
ولعل المستند في تسميته شبهيا إنما هو هذا المعنى ومثاله قول الشافعي في مسألة إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة
وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف يوهم اشتمالها على المناسبة كما تقرر
واعلم أن إطلاق اسم الشبه وإن كان حاصله في هذه الصور راجعا إلى الاصطلاحات اللفظية غير أن أقربها إلى قواعد الأصول الاصطلاح الأخير وهو الذي ذهب إليه أكثر المحققين ويليه في القرب مذهب القاضي أبي بكر

الفصل الثاني في أن الشبه مع قران الحكم به دليل على كون الوصف علة وبيانه أنا إذا رأينا حكما ثابتا عقيب وصفين وأحد الوصفين شبهي بالتفسير الأخير والآخر طردي فلا يخلو إما أن يكون الحكم ثابتا لمصلحة أو لا لمصلحة لا جائز أن يقال بالثاني إذ الحكم الشرعي لا يخلو عن مصلحة وإن لم يكن ذلك بطريق الوجوب كما تقرر قبل فلم يبق غير الأول وهو أنه ثابت لمصلحة وتلك المصلحة لا تخلو إما أن تكون في ضمن الوصف الشبهي أو الطردي لعدم ما سواهما ولا يخفى أن اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب على الظن من اشتمال الطردي عليها لأن الطردي مجزوم بنفي مناسبته والشبهي متردد فيه على ما تقرر
وإذا كان ذلك هو الغالب على الظن فالظن معمول به في الشرعيات على ما تقدم تقريره

الفصل الثالث زعم بعض أصحابنا أن الشبهي إذا اعتبر جنسه في جنس الحكم دون اعتبار عينه في عينه لا يكون حجة بخلاف الوصف المناسب مصيرا منه إلى أن الشبهي إذا ظهر تأثير عينه في عين الحكم فالظن المستفاد منه في أدنى درجات الظن فإذا انحط عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس فقد اضمحل الظن بالكلية لأنه ليس تحت أدنى درجات الظن درجة سوى ما ليس بظن وما ليس بمظنون لا يكون حجة وهذا بخلاف المناسب فإن الظن المستفاد منه باعتبار العين في العين قوي جدا فنزوله عن هذه الرتبة إلى رتبة اعتبار الجنس في الجنس وإن فات معه ذلك الظن الغالب فقد بقي له أصل الظن فكان حجة
وأيضا فإن الوصف الشبهي إنما صار شبهيا باعتبار الشارع له في جنس الحكم المعلل وذلك في إفادة الظن دون المناسب المرسل والمناسب المرسل ليس بحجة لما سيأتي تقريره فما هو دونه أولى أن لا يكون حجة وهذا بخلاف المناسب المتأيد بشهادة الجنس في الجنس فإنه فوق المناسب المرسل
فلا يلزم من كون المرسل ليس بحجة أن يكون ذلك ليس بحجة
ولقائل أن يقول أما الأول فهو مبني على أن الشبهي المتأيد بشهادة العين في العين في أدنى درجات الظنون وهو غير مسلم بل للخصم أن

يقول ما هو في أدنى درجات الظنون إنما هو الشبهي المتأيد بشهادة الجنس في الجنس والنزول عن تلك الدرجة إلى ما دونها لا يوجب انمحاق الظن بالكلية كما قيل
وأما الثاني فهو وإن سلم أن الشبهي إنما صار شبهيا بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام وأنه أدنى من المناسب المرسل من حيث إن مناسبة المرسل ظاهرة ومناسبة الشبهي غير ظاهرة بل موهومة متردد فيها
غير أن الشبهي بعد أن ثبت كونه شبيها بالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام إذا رأينا الشارع قد اعتبر جنسه في جنس الحكم المعلل فقد صار معتبرا ولا كذلك المرسل فإنه غير معتبر ولا يلزم من عدم الاحتجاج بما ليس معتبرا عدم الاحتجاج بالمعتبر
المسلك السابع إثبات العلة بالطرد والعكس
وقد اختلف فيه فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علة
لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال إنه يدل على العلية قطعا كبعض المعتزلة ومنهم من قال يدل عليها ظنا كالقاضي أبي بكر وبعض الأصوليين وهو مذهب أكثر أبناء زماننا
والذي عليه المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه لا يفيد العلية لا قطعا ولا ظنا وهو المختار وصورته ما إذا قيل في مسألة النبيذ مثلا ( مسكر ) فكان حراما كالخمر وأثبت كون المسكر علة للتحريم بدورانه مع التحريم وجودا وعدما في الخمر فإنه إذا صار مسكرا حرم وإن زال الإسكار عنه بأن صار خلا فإنه لا يحرم

وقد احتج القائلون إنه ليس بحجة بأمرين الأول ما ذكره الغزالي وهو أن قال حاصل الاطراد يرجع إلى سلامة العلة عن النقض وسلامة العلة عن مفسد واحد لا يوجب سلامتها عن كل مفسد وعلى تقدير السلامة عن كل مفسد فصحة الشيء لا تكون بسلامته عن المفسدات بل لوجود المصحح والعكس ليس شرطا في العلل فلا يؤثر
وهذه الحجة ضعيفة فإنه وإن سلم أن كل واحد من الأمرين على انفراده لا دلالة له على العلية فلا يلزم منه عدم التأثير بتقدير الإجتماع ودليله إجزاء العلة فإن كل واحد منها لا يستقل بإثبات الحكم ولم يلزم من ذلك عدم استقلال المجموع
الحجة الثانية لبعض أصحابنا قال إن الصور التي دار الحكم فيها مع الوصف وجودا وعدما لا بد أن تكون متمايزة بصفات خاصة بها وإلا كانت متحدة لا متعددة
وعند ذلك فللخصم أن يأخذ الوصف الخاص بكل صورة من صور الطرد والعكس في العلة في تلك الصورة ويجعل العلة في كل صورة مجموع الوصفين وهما الوصف المشترك والوصف الخاص بها وهي من النمط الأول إذ لقائل أن يقول الترجيح للتعليل بالوصف المشترك لكونه مطردا في جميع مجاري الحكم فيكون أغلب على الظن بخلاف التعليل بالمركب من الوصف الخاص والمشترك
فإن قيل بل التعليل بالمركب أولى لما فيه من تعدد مدارك الحكم فإنه أولى من اتحاده لكونه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم فهو مقابل بأن التعليل بالوصف المشترك يكون منعكسا بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة ولا يخفى أن التعليل بالمطرد المنعكس أولى من التعليل بالمطرد الذي لا ينعكس للاتفاق عليه ولأن التعليل بالوصف المشترك يكون متعديا بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة فإنه يكون قاصرا والتعليل

بالمتعدية أولى للاتفاق عليها والاختلاف في القاصرة
والحق في ذلك أن يقال مجرد الدوران لا يدل على التعليل بالوصف لوجهين الأول أنه يجوز أن يكون الوصف وصفا ملازما للعلة وليس هو العلة وذلك كالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بدلالة البحث والسبر أو بأن الأصل عدمه
ويلزم من ذلك الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهو كاف في الاستدلال على العلية
الثاني أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين كالمتضايفين وليس أحدهما علة للآخر وكذلك فإن الدوران كما وجد في جانب الحكم مع الوصف فقد وجد في جانب الوصف مع الحكم وليس الحكم علة للوصف
فإن قيل نحن لا ندعي أن مطلق الدوران دليل على علية الوصف ليلزم ما قيل بل بقيود ثلاثة وهي أن يكون حدوث ذلك الأثر مرتبا على وجود ذلك الوصف ترتبا عقليا بحيث يصدق قول القائل وجد هذا الشيء فحدث ذلك الأثر
وأن لا يقطع بخروج هذا الوصف عن أن يكون علة وموجبا لحدوث ذلك الأثر
وأن لا يقطع بوجود علة أخرى لهذا الحكم سوى هذا الوصف
ومهما وجد الدوران على هذه القيود كان دليلا على العلية
وذلك كما إذا دعي الإنسان باسم فغضب منه وإذا لم يدع به لم يغضب ورأينا ذلك منه مرارا مرة بعد مرة وجودا وعدما فإنه يغلب على الظن أن ذلك الاسم هو سبب الغضب حتى إن الصبيان يعلمون ذلك منه ويتبعونه في الدروب داعين له بذلك الاسم المغضب له والدوران بهذه القيود متحقق في السكر مع التحريم فكان دليلا على كونه علة وخرج عليه ما ذكر من الرائحة الفائحة حيث قطعنا أنها ليست علة وكذلك الحكم في كل واحد من المتضايفين بالنسبة إلى الآخر ولأنه يمتنع

ترتيب كل واحد على الآخر في الوجود بالتفسير المذكور وكذلك الكلام في نسبة الحكم إلى الوصف
وخرج عليه أيضا ما إذا ظهر ثم علة مغايرة للمدار
قلنا إذا كان من جملة قيود صحة دلالة الدوران أن يكون حدوث ذلك الأمر مرتبا على وجود ذلك الوصف بالتفسير المذكور فإما أن يراد به أن وجود الحكم يتعقب وجود الوصف أو أنه أمارة عليه أو باعث عليه أو معنى آخر الأول ممتنع إذ الكلام إنما هو في شرعية الحكم ولا يخفي أن شرعية الحكم ولا يخفي أن شرعيته تكون سابقة في الوجود على وجود سببها والثاني أيضا ممتنع إذ الكلام إنما هو في شرعية الحكم ولا يخفي أن شرعيته تكون سابقة في الوجود على وجود سببها والثاني أيضا ممتنع إذ الكلام إنما هو في العلة المستنبطة من حكم الأصل وهي فلا تكون إلا بمعنى الباعث على ما سبق تقريره وعند ذلك فإما أن يظهر فيه معنى يقتضي كونه باعثا على الحكم من مناسبة أو شبه أو لا يظهر ذلك فإن كان الأول فلا يكون باعثا وإن الثاني فالمناسبة مع قرآن الحكم بها كاف في التعليل ولا حاجة إلى الدوران وإن كان بمعنى آخر فلا بد من تصويره والدلالة عليه وقد ترد عليه أسئلة
قلنا ما ذكروه من دوران غضب الانسان مع دعائه ببعض الأسماء بالقيود المذكورة
لا نسلم غلبة الظن بكون ذلك الاسم علة بل به أو بملازمه وإنما يظهر كونه علة مع ظهور انتفاء الملازم والطريق في ذلك إنما هو التمسك بالعدم الأصلي أو بعدم الاطلاع عليه بعد البحث والسبر والتقسيم ويلزم منه الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم وهي كافية في التعليل
وقد ترد عليه أسئلة أخرى مشهورة الجواب آثرنا الإعراض عن ذكرها اكتفاء في إبطال الدوران بما ذكرناه فإنه في غاية القوة والدقة
وإذا عرف أن الطرد والعكس لا يصلح دليلا على العلية فالاطراد بانفراده أولى أن لا يكون دليلا نظرا إلى أن الاطراد عبارة عن السلامة عن النقض المفسد والسلامة عن مفسد واحد غير موجبة للتصحيح

خاتمة في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحكم وهو العلة ولما كانت العلة متعلق الحكم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه إما في تحقيق المناط أو تنقيحه أو تخريجه أما تحقيق المناط فهو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها وسواء كانت معروفة بنص أو إجماع أو استنباط أما إذا كانت معروفة بالنص فكما في جهة القبلة فإنها مناط وجوب استقبالها وهي معروفة بإيماء النص وهو قوله تعالى { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ( البقرة 144 )
وكون هذه الجهة هي جهة القبلة في حالة الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنظر في الأمارات
وأما إذا كانت معلومة بالإجماع فكالعدالة فإنها مناط وجوب قبول الشهادة وهي معلومة بالإجماع وأما كون هذا الشخص عدلا فمظنون بالاجتهاد
وأما إذا كانت مظنونة بالاستنباط فكالشدة المطربة فإنها مناط تحريم

الشرب في الخمر فالنظر في معرفتها في النبيذ هو تحقيق المناط ولا نعرف خلافا في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العلة فيه معلومة بنص أو إجماع وإنما الخلاف فيه فيما إذا كان مدرك معرفتها الاستنباط
وأما تنقيح المناط فهو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف كل واحد بطريقة كما علم فيما تقدم مما ذكرناه من التعليل بالوقاع في قصة الأعرابي فإنه وإن كان مومى إليه بالنص غير أنه يفتقر في معرفته عينا إلى حذف كل ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرأي والاجتهاد وذلك بأن يبين أن كونه أعرابيا وكونه شخصا معينا وأن كون ذلك الزمان وذلك الشهر بخصوصه وذلك اليوم بعينه وكون الموطوءة زوجة وامرأة معينة لا مدخل له في التأثير بما يساعد من الأدلة في ذلك حتى يتعدى إلى كل من وطىء في نهار رمضان عامدا وهو مكلف صائم
وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول
وأما تخريج المناط فهو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم الذي دل النص أو الإجماع عليه دون عليته
وذلك كالاجتهاد في إثبات كون الشدة المطربة علة لتحريم شرب الخمر وكون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص في المحدد وكون الطعم علة ربا الفضل في البر ونحوه حتى يقاس عليه كل ما ساواه في علته وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولذلك أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من المعتزلة البغداديين

الباب الثالث في أقسام القياس وأنواعه
وهي خمس قسم القسمة الأولى القياس ينقسم إلى ما المعنى الجامع فيه باقتضاء الحكم في الفرع أولى منه في الأصل وإلى ما هو مساو وإلى ما هو أدنى فالأول كتحريم ضرب الوالدين بالنسبة إلى تحريم التأفيف لهما وما في معناه وسواء كان قطعيا أو ظنيا كما سبق تقريره في مسائل المفهوم
وإن كان الثاني فكما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق وكما في إلحاق نجاسة الماء بصب البول فيه من كوز بنجاسته بالبول فيه ونحوه
وإن كان الثالث فكما في إلحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب وإيجاب

الحد ونحوه
غير أن هذا النوع الثالث متفق على كونه قياسا ومختلف في النوعين الأولين كما سبق
القسمة الثانية القياس ينقسم إلى جلي وخفي فالجلي ما كانت العلة فيه منصوصة أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره
فالأول كإلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما بعلة كف الأذى عنهما
والثاني كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب حيث عرفنا أنه لا فارق بينهما سوى الذكورة في الأصل والأنوثة في الفرع وعلمنا عدم التفات الشارع إلى ذلك في أحكام العتق خاصة
وأما الخفي فما كانت العلة فيه مستنبطة من حكم الأصل كقياس القتل بالمثقل على المحدد ونحوه
القسمة الثالثة القياس ينقسم إلى مؤثر وملائم
أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين الأول ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعا عليها
والثاني ما أثر عين الوصف الجامع في عين الحكم أو عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم
وأما الملائم فما أثر جنسه في جنس الحكم كما سبق تحقيقه
ومن

الناس من جعل المؤثر من هذه الأقسام ما أثر عينه في عين الحكم لا غير والملائم ما بعده من الأقسام
القسمة الرابعة القياس ينقسم إلى قياس علة ودلالة والقياس في معنى الأصل وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون الوصف الجامع بين الأصل والفرع قد صرح به أو لم يصرح به فإن صرح به فلا يخلو إما أن يكون هو العلة الباعثة على الحكم في الأصل أو لا يكون هو العلة بل هو دليل عليها
فإن كان الأول فيسمى قياس العلة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بواسطة الشدة المطربة ونحوه
وإنما سمي قياس العلة للتصريح فيه بالعلة
وإن كان الثاني فيسمى قياس الدلالة وذلك كالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة أو الجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلة في الأصل استدلالا به على الموجب الآخر كما في الجمع بين قطع الجماعة ليد الواحد وقتل الجماعة للواحد في وجوب القصاص بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم بتقدير إيجابها
وأما إن كان الوصف الجامع لم يصرح به في القياس كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق بواسطة نفي الفارق بينهما فيسمى القياس في معنى الأصل
القسمة الخامسة القياس لا يخلو إما أن يكون طريق إثبات العلة المستنبطة فيه المناسبة أو الشبه أو السبر والتقسيم أو الطرد والعكس كما سبق تحقيقه

فإن كان الأول فيسمى قياس الإحالة
وإن كان الثاني فيسمى قياس الشبه
وإن كان الثالث فيسمى قياس السبر
وإن كان الرابع فيسمى قياس الاطراد

الباب الرابع في مواقع الخلاف في القياس
وإثباته على منكريه وفيه ست مسائل
المسألة الأولى يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا
وبه قال السلف من الصحابة والتابعين والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين وقالت الشيعة والنظام وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الإسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب بإحالة ورود التعبد به عقلا وإن اختلفوا في مأخذ الإحالة العقلية كما سنبينه
وقال القفال من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري بأن العقل موجب لورود التعبد بالقياس
والمختار إنما هو الجواز ويدل على ذلك الإجمال والتفصيل أما الإجمال فهو أنه لا خلاف بين العقلاء أنه يحسن من الشارع أن ينص ويقول لا يقضي القاضي وهو غضبان لأن الغضب مم يوجب اضطراب رأيه

وفهمه فقيسوا على الغضب ما كان في معناه كالجوع والعطش والإعياء المفرط وأن يقول حرمت عليكم شرب الخمر ومهما غلب على ظنونكم أن علة التحريم الشدة المطربة الصادة عن ذكر الله المفضية إلى وقوع الفتن والعدواة والبغضاء لتغطيتها على العقل فقيسوا عليها كل ما في معناه من النبيذ وغيره ولو كان ذلك ممتنعا عقلا لما حسن ورود الشرع بذلك
وأما من جهة التفصيل فمن وجهين الأول هو أن العاقل إذا صح نظره واستدلاله أدرك بالأمارات الحاضرة المدلولات الغائبة وذلك كمن رأى جدارا مائلا منشقا فإنه يحكم بهبوطه أو رأى غيما رطبا وهواء باردا حكم بنزول المطر أو رأى إنسانا خارجا من بيت فيه قتيل وبيده سكين مخضبة بالدم حكم بكونه قاتلا فإذا رأى الشارع قد أثبت حكما في صورة من الصور ورأى ثم معنى يصلح أن يكون داعيا إلى إثبات ذلك الحكم ولم يظهر له ما يبطله بعد البحث التام والسبر الكامل فإنه يغلب على ظنه أن الحكم ثبت له وإذا وجد ذلك الوصف في صورة أخرى غير الصورة المنصوص عليها ولم يظهر له أيضا ما يعارضه فإنه يغلب على ظنه ثبوت الحكم به في حقنا وقد علمنا أن مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب فالعقل يرجح فعل ما ظن فيه المصلحة ودفع المضرة على تركه ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك
الثاني أن التعبد بالقياس فيه مصلحة لا تحصل دونه وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره وبحثه في استخراج علة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محل آخر على ما قال عليه السلام ثوابك على قدر نصبك وما كان طريقا إلى تحصيل مصلحة المكلف فالعقل لا يحيله بل يجوزه
فإن قيل ما ذكرتموه من جواز التعبد بالقياس بناء على ظن حصول

المصلحة ودفع المضرة إنما يحسن إذا لم يكن الوصول إلى ذلك بطريق يقيني وأما إذا أمكن فلا وذلك لأنه مهما أمكن الوصول إلى المطلوب بطريق يؤمن فيه الخطأ فالعقل يمنع من سلوك طريق لا يؤمن فيه الخطأ فما لم تثبتوا أنه لم يوجد دليل شرعي قاطع يدل على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع أمة فاتباع الظن يكون ممتنعا عقلا
سلمنا أنه لم يوجد دليل قطعي على ذلك لكن إنما يسوغ العقل التمسك بالظن إذا لم يوجد دليل ظني راجع على ظن القياس مفض إلى حكم القياس وإلا كان العمل بما الخطأ فيه أقرب مما ترك وهو ممتنع عقلا
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تجويز العقل لذلك غير أنه منقوض ومعارض
أما النقض فبصور منها أن قول الشاهد الواحد بل العبيد والنساء المتمحضات في الحقوق المالية والدماء والفروج بل الفساق مغلب على ظن القاضي الصدق ومع ذلك لا يجوز له العمل به ومنها أن مدعى النبوة إذا غلب على الظن صدقه من غير دلالة المعجزة عليه لا يجوز اتباعه والعمل بقوله ومنها أن المصالح المرسلة وإن غلبت على الظن لا يجوز العمل بها ومنها أنه لو اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة منها وإن وجدت علامات مغلبة على الظن
وأما المعارضة فمن خمسة وعشرين وجها الأول قال النظام إن العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها والشارع قد رأيناه فرق بين

المتماثلات وجمع بين المختلفات وهو على خلاف قضية العقل وذلك يدل على أن القياس الشرعي غير وارد على مذاق العقل فلا يكون العقل مجوزا له
أما تفرقته بين المتماثلات فإنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمدا دون البول والمذي وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والرش عليه من بول الغلام ونقص من عدد الرباعية في حق المسافر الشطر دون الثنائية وأوجب الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز القبيحة المنظر وأباحه في حق الأمة الحسناء وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير وأوجب الجلد بالقذف بالزنى دون القذف بالكفر وقبل في القتل شاهدين دون الزنى وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل استبراء الرحم بحيضة واحدة في حق الأمة والحرة المطلقة بثلاث حيضات وأوجب تطهير غير الموضع الذي خرجت منه الريح مع أن القياس كان مقتضيا للتسوية في جميع هذه الصور بل ربما كان بعض الصور التي لم يثبت فيها الحكم أولى به مما ثبت فيها
وأما تسويته بين المختلفات فإنه سوى بين قتل الصيد عمدا وخطأ في إيجاب الضمان وسوى في إيجاب القتل بين الردة والزنى وسوى في إيجاب الكفارة بين قتل النفس والوطء في رمضان والظهار مع الاختلاف وذلك مما يبطل الاعتبار بالأمثال ويوجب امتناع العمل بالقياس
الثاني قالت الشيعة إن القول بالتعبد بالقياس يفضي إلى الاختلاف وذلك عند ما إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر والاختلاف ليس من الدين لقوله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }

وقوله تعالى { وأن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ( الشورى 13 ) وقوله { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ( الأنفال 46 ) وقوله { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } ( الأنعام 159 ) وقوله تعالى { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ( آل عمران 105 ) ذكر ذلك في معرض الذم ولا ذم على ما يكون من الدين وقد ذم الصحابة الاختلاف حتى قال عمر لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا وأنه لما سمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت وقال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعليا يأمر بها فقلت إن بينكما لشرا
وكتب علي إلى قضاته أيام خلافته أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي
الثالث أنه إذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه أن يكون الشيء ونقيضه حقا وهو محال وإما أن يقال بأن المصيب واحد وهو أيضا محال فإنه ليس تصويب أحد الظنين مع استوائهما دون الآخر أولى من العكس
الرابع قال النبي صلى الله عليه و سلم أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة

اختصارا فلو كان التنصيص منه على الأشياء الستة الربوية قصدا لقياس ما عداها من المطعومات عليها مع أنه كان قادرا على ما هو أصرح منه وللخلاف والجهل أدفع وهو أن يقول حرمت الربا في كل مطعوم لكان عدولا منه عن الظاهر المفهوم إلى الخفي الموهوم وهو غير لائق بفصاحته وحكمته وهو خلاف نصه
الخامس أن الحكم في أصل القياس إن كان ثابتا بالنص امتنع إثباته في الفرع لعدم وجود النص في الفرع وامتناع ثبوته فيه بغير طريق حكم الأصل وإلا لما كان تابعا للأصل ولا فرعا له وإن كان ثابتا بالعلة فهو ممتنع لوجهين الأول أن الحكم في الأصل مقطوع والعلة مظنونة والمقطوع به لا يثبت بالمظنون
الثاني أن العلة في الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عليه والمتفرع على الشيء لا يكون مثبتا لذلك الشيء وإلا كان دورا ممتنعا
السادس أنه لو كانت العلة منصوصة كما لو قال حرمت الربا في البر لكونه مطعوما فإنه لا يقتضي التحريم في غير البر فالمستنبطة أولى بعدم التعدية وبيان أن المنصوصة لا تقتضي التحريم في غير محل النص قصور دلالة اللفظ عن ذلك

ولهذا فإنه لو قال أعتقت كل عبد لي أسود عتق كل السودان من عبيده ولو قال أعتقت عبدي سالما لسواده أو لسوء خلقه فإنه لا يعتق غانم وإن كان أشد سوادا من سالم وأسوأ خلقا
السابع أن حكم القياس إما أن يكون موافقا للبراءة الأصلية أو مخالفا لها فإن كان الأول لم يكن القياس مفيدا لأنه لو قدر عدمه كان مقتضاه متحققا بالبراءة الأصلية وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن البراءة الأصلية متيقنة والقياس مظنون واليقين تمتنع مخالفته بالظن
الثامن أنه لو جاز التعبد بالقياس عقلا في الفروع لظن المصلحة لجاز مثل ذلك في أصول الأقيسة وهو محال لما فيه من التسلسل
التاسع أن الشرعيات مصالح فلو جاز إثباتها بالقياس لجاز أن يتعبد بالإخبار عن كون زيد في الدار عند غلبة الظن بكونه فيها بالأمارات وهو ممتنع
العاشر أن الرجم بالظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما يجوز أن يكون مخالفا لحكم الله تعالى
الحادي عشر أنه لا يستقيم قياس إلا بعلة والعلة ما توجب الحكم بذاتها وعلل الشرع ليس كذلك فلا قياس

الثاني عشر أن حكم الله تعالى خبره وذلك إنما يعرف بالتوقيف لا بالقياس لأن القياس من فعلنا لا من توقيف الشارع
الثالث عشر أن جلي الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص فكذلك خفيها كالمدركات فإن جليها وخفيها لا يدرك بغير الحس
الرابع عشر أنه لو كان للشرعيات علل لاستحال انفكاكها عن أحكامها كما في العلل العقلية فإنه يستحيل انفكاك الحركة القائمة بالجسم عن كون متحركا لما كانت الحركة علة لكونه متحركا وذلك يوجب ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدم العلل عليها وهو محال
الخامس عشر أنه لو كان القياس صحيحا لكان حجة مع النص وذلك ممتنع بالإجماع
السادس عشر أن نظر القائس لا بد وأن يقع في منظور فيه والمنظور فيه ليس سوى النص والحكم وهو الواجب والحرام مثلا وليس المنظور فيه هو النص إذ هوغير متناول للفرع والحكم فهو فعل المكلف
ويلزم من ذلك أنه إذا لم يوجد فعل المكلف أن لا يصح القياس ويلزم من فساد الأمرين فساد القياس الشرعي
السابع عشر أنه لو جاز التعبد بتحريم شيء أو وجوبه عند ظننا أنه مشابه لأصل محرم أو واجب بناء على أمارة لجاز أن يتعبد بذلك عند ظننا المشابهة من غير أمارة وهو محال
الثامن عشر أنه لو جاز التعبد بالقياس الشرعي لكان على عليته دلالة والدلالة عليها إما النص والعلة المستنبطة التي فيها الخلاف غير منصوصة

وإما العادات والعادات تكون مثبتة للأحكام الشرعية فلا تكون مثبتة لأماراتها
التاسع عشر لو كانت المعاني المشروعة من الأصول أدلة على ثبوب الأحكام في الفروع لم يقف كونها أدلة على شيء سواها كما في النصوص والاتفاق واقع على احتياج المستنبطة إلى دليل والمحتاج إلى الدليل لا يكون دليلا كما في الأحكام
العشرون أنه إذا غلب على الظن تحريم ربا الفضل في البر إما لكونه مطعوم جنس أو مكيل جنس أو قوتا أو مالا فلا بد من رعاية المصلحة في ذلك وأي مصلحة في تحريم بيع ما هذه صفته
الحادي والعشرون أنه لو صح معرفة الحكم الشرعي مع كونه غيبيا بالقياس لصح معرفة الأمور الغيبية بالقياس وهو محال
الثاني والعشرون أن القياس فعل القائس وذلك مما لا يجوز أن يتوصل به إلى معرفة المصالح
الثالث والعشرون أن القياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل جاز أن يكون معللا وجاز أن لا يكون معللا وبتقدير كونه معللا يحتمل أن يكون الحكم ثابتا بغير ما استنبط وبتقدير أن يكون ثابتا بما استنبط يحتمل أن لا يكون متحققا في الفرع إذا كان وجوده فيه ظنيا
وما هذا شأنه لا يصلح للدلالة
الرابع والعشرون أنه لو جاز التعبد بالقياس لأفضى ذلك إلى تقابل الأدلة وتكافئها وأن يكون الرب تعالى موجبا للشيء ومحرما له وهو محال على الله تعالى
وبيان ذلك أنه قد يتردد الفرع بين أصلين حكم أحدهما الحل والآخر الحرمة
فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وذلك محال

الخامس والعشرون أن القياس لا بد فيه من علة جامعة والعلل الشرعية لا بد وأن تكون على وزان العلل العقلية والعلة الشرعية يجوز عند القائلين بالقياس أن تكون ذات أوصاف والعلة العقلية ليست كذلك فإنها تستقل بحكمها كاستقلال الحركة بكون المحل الذي قامت به متحركا واستقلال السواد بكون محله أسود ونحوه
وأما من زعم أن العقل موجب للتعبد بالقياس الشرعي فقد احتج بثلاث شبه الأولى أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها فلا تمكن إحاطة النصوص بها فاقتضى العقل وجوب التعبد بالقياس
الثانية أنه إذا غلب على الظن أن المصلحة في إثبات الحكم بالقياس وأنه أنفى للضرر فيجب اتباعه عقلا تحصيلا للمصلحة ودفعا للمضرة كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط ميله وإن جاز أن تكون السلامة في القعود والهلاك في النهوض
الثالثة أن العلل الشرعية ومناسبتها للأحكام مدركة بالعقل فكان العقل موجبا لورود التعبد بها كما توجب أحكام العلل العقلية
والجواب عن السؤال الأول أنه إذا سلم أن القياس مغلب على الظن وجود المصلحة فهو بيان وهو وإن كان البيان فيه مرجوحا بالنسبة إلى البيان القاطع فليس ذلك مما يمنع من التعبد به مع عدم الظفر بالبيان القاطع وإن كان ممكن الوجود وإلا لما جاز التعبد بالنصوص الظنية وأخبار الآحاد مع إمكان أن يخلق الله تعالى لنا العلم الضروري بالأحكام وإمكان وجود النصوص القاطعة الجلية
وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الثاني أيضا
وعن النقض بما ذكروه من الصور أن العقل يجوز ورود التعبد بكل ما هو

مغلب عن الظن غير أنه لما ورد التعبد من الشارع بامتناع العمل به كان ذلك لمانع الشرع لا لعدم الجواز العقلي
وعن المعارضة الأولى أن كل ما ظن فيه الجامع بين الأصل والفرع وظهرت صلاحيته للتعليل فالعقل لا يمنع من ورود التعبد من الشارع فيه بالإلحاق وحيث فرق الشارع في الصور المذكورة فلم يكن ذلك لاستحالة ورود التعبد بالقياس بل إنما كان ذلك إما لعدم صلاحية ما وقع جامعا أو لمعارض له في الأصل أو في الفرع وحيث جمع بين مختلفات الصفات فإنما كان لاشتراكها في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصورة وإن اتحد نوع الحكم أن تعلل بعلل مختلفة لا أن الحكم ثبت في الكل بالقياس
وعلى هذا نقول ما لم يظهر تعليله وصحة القياس عليه إما لعدم صلاحية الجامع أو لتحقق الفارق أو لظهور دليل التعبد فلا قياس فيه أصلا وإنما القياس فيما ظهر كون الحكم في الأصل معللا فيه وظهر الاشتراك في العلة وانتفى الفارق
وعن الثانية أن ذلك وإن أفضى إلى الاختلاف بين المجتهدين فإن ذلك غير محذور مطلقا فإن جميع الشرائع والملل كلها من عند الله وهي مختلفة ولا محذور فيها وإلا لما كانت مشروعة من عند الله كيف وإن الأمة الإسلامية معصومة عن الخطإ على ما عرف
فلو كان الاختلاف مذموما ومحذورا على الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم وتباين أقوالهم في المسائل الفقهية مخطئة بل الأمة قاطبة وذلك ممتنع
وعلى هذا فيجب حمل ما ورد من ذم الاختلاف والنهي عنه على الاختلاف في التوحيد والإيمان بالله ورسوله والقيام بنصرته وفيما المطلوب فيه

القطع دون الظن والاختلاف بعد الوفاق واختلاف العامة ومن ليس له أهلية النظر والاجتهاد وبالجملة كل ما لا يجوز فيه الاختلاف جمعا بين الأدلة بأقصى الإمكان وقوله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ( النساء 82 ) إنما المراد به نفي التناقض والاضطراب والاختلاف المناقض للبلاغة عن القرآن لا نفي الاختلاف في الأحكام الشرعية
وأما إنكار عمر على ابن مسعود وأبي بن كعب فيجب أيضا حمله على اختلافهما فيما سبق فيه الإجماع أو على اختلافهما بالنظر إلى مستفت واحد حذرا من تحيره
وأما قول جرير لعلي وعمر عند اختلافهما في مسألة المتعة فيجب حمله على ما ظنه من إفضاء ذلك إلى فتنة وثوران أمر
وأما ما كتبه علي إلى قضاته فيجب حمله أيضا على خوفه من انفتاق فتق بسبب نسبته إلى تعصب لمخالفة من سبق
وعن الثالثة باختيار تصويب كل مجتهد بناء على أن الحكم عند الله تعالى في حق كل واحد ما أدى إليه اجتهاده وذلك مما لا يمنع من كون الشيء ونقيضه حقا بالنسبة إلى شخصين مختلفين كما في الصلاة وتركها بالنسبة إلى الحائض والطاهر وكالجهات المختلفة في القبلة حال اشتباهها بالنسبة إلى شخصين وبالنسبة إلى شخص واحد في حالتين مختلفتين وكجواز ركوب البحر في حق من غلب على ظنه السلامة وتحريمه في حق من غلب على ظن الهلاك
وهذا بخلاف القضايا العقلية وما الحق فيه في نفس الأمر لا يكون إلا واحدا معينا كحدوث العالم وقدمه ووجود الصانع وعدمه
وعن الرابعة من وجهين الأول أنه لو كان العدول من أصرح الطريقين وأبينهما إلى أدناهما مما يمتنع ويخل بالبلاغة لما ساغ ورود الكتاب بالألفاظ

المجملة وإرادة المعين والعامة وإرادة الخاص والمطلقة وإرادة المقيد والألفاظ المحتملة ولما ساغ أيضا مثل ذلك من الرسول مع إمكان الإتيان بألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب وهو ممتنع خلاف الواقع
الوجه الثاني أنه غير بعيد أن يكون الله تعالى ورسوله قد علم أن في التعبد بالقياس والاجتهاد مصلحة للمكلفين لا تحصل من التنصيص
وذلك بسبب بعث دواعيهم على الاجتهاد طلبا لزيادة الثواب الحاصل به على ما نطق به النص في حق عائشة حتى تبقى الشريعة مستمرة غضة طرية
وعن الخامسة أن الحكم في الأصل وإن كان ثابتا بالنص أو الإجماع لا بالعلة وأن ذلك غير متحقق في الفرع فلا نسلم وجوب ثبوت الحكم في الفرع بمثل طريق إثبات حكم الأصل بل يمكن أن يكون إثبات الحكم في الأصل مع كونه مقطوعا به بدليل مقطوع به وفي الفرع بوجود ما كان قد ظهر كونه باعثا على الحكم في الأصل ولا يلزم من كون الفرع تابعا في حكمه للأصل اتحاد الطريق المثبت للحكم فيهما وإلا لما كان أحدهما تابعا للآخر بل التبعية متحققة بمجرد إثبات الحكم في الفرع بما عرف كونه باعثا على الحكم في الأصل
وعن السادسة من وجهين الأول قال بعضهم إن علم قطعا قصده للسواد عتق كل عبد أسود له
وقال بعضهم لا يكفي مجرد القصد بل لا بد مع ذلك من أن ينوي بهذا اللفظ عتق جميع السودان فإنه كاف في عتق كل عبد له أسود وغايته إطلاق اللفظ الخاص وإرادة العام وهو سائغ لغة كما حمل قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالهم } على النهي عن الإتلاف العام وكما حمل قول القائل والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائه

جرعة إذا قصد به دفع المنة على أخذ الدراهم وغيرها من العروض حتى إنه يحنث بكل ذلك
وقال بعضهم لا يكفي ذلك لأن مجرد النية والإرادة لذلك غير كافية في العتق بل إن قال مع ذلك وقيسوا عليه كل أسود عتق كل عبد له أسود
وهذا هو اختيار الصيرفي من أصحاب الشافعي وهو أقرب من الذي قبله
الثاني أنه لا يلزم من امتناع التعدية هاهنا امتناع التعدية في العلل المستنبطة الشرعية وذلك لأن العتق من باب التصرف في أملاك العبيد بالزوال ولا كذلك في الأحكام الشرعية وعند ذلك فلا يلزم من امتناع التعدية هاهنا مبالغة في صيانة ملك العبيد مثله في الأحكام الشرعية
ولهذا فإنه لو اجتمع في المحل الواحد حقان لله وللآدمي وتضايق المحل عن استيفائهما كما لو وجب القتل على شخص بالردة وبالقتل الموجب للقصاص فإنه يقدم حق الآدمي على حق الله تعالى ويقتل قصاصا لا بالردة
ولهذا طرد أهل اللغة مثل ذلك وعدوه فيما لا يقتضي زوال ملك الآدمي فإنه لو قال القائل لغيره لا تأكل هذا الطعام فأنه مسموم ولا تشرب هذا الشراب فأنه مسهل ولا تجالس فلانا لسواده فإن أهل اللغة يعدونه إلى كل ما هو من جنسه مشارك له في العلة
وعلى هذا نقول إنه لو قال لوكيله بع هذا العبد لسواده أو لسوء خلقه وكان قد قال له مهما ظهر لك رضائي بشيء من التصرفات بقرائن الأحوال دون صريح الأقوال فافعله
وعلم أن العلة في إطلاق البيع السواد وسوء الخلق خاصة فله بيع كل ما شاركه في تلك العلة على وزان ذلك في الشرع
وعن السابعة أنها منقوضة بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية وبالإقرار والشهادة والفتوى وغير ذلك
وعن الثامنة أنه لو لم يرد النص بالحكم في أصول الأقيسة وإلا كان

التعبد بإثبات أحكامها بالقياس على أصل آخر جائزا وإن امتنع ذلك لما فيه من التسلسل فلا يرد به التعبد لاستحالته في نفسه
وعن التاسعة أنه لا يمتنع في العقل أيضا ورود التعبد بإخبارنا عن كون زيد في الدار عن ظن إذا ظهرت أمارة كونه في الدار
وعن العاشرة أنها مبينة على فاسد أصول الخصوم في وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو باطل على ما عرف من أصلنا
وإن سلمنا وجوب رعاية المصلحة فلا يمتنع أن يكون في التعبد بالقياس مصلحة وقد استأثر الرب تعالى بالعلم بها كيف وإن ما ذكروه منقوض بورود التعبد بالنصوص الظنية وقبول الشهادة والاجتهاد في القبلة حالة الاشتباه وبقبول قول العدول في قيم المتلفات وأرش الجنايات وتقدير النفقات
وعن الحادية عشرة أن العلة في القياس إنما هي بمعنى الأمارة والعلامة على الحكم في الفرع وذلك مما لا يمتنع التعبد باتباعه
ولهذا فإنه لو قال الشارع مهما رأيتم وصف الشدة المطربة فاعلموا أني قضيت بتحريم ذلك المشتد المطرب كان واجب الاتباع
وعن الثانية عشرة أنه مهما لم يقم دليل يدل على وجوب التعبد بالقياس من نص أو إجماع فإنا لا نثبت به الحكم ولا ننفيه
وإن كان يجوز ورود التعبد به عقلا
فإذا قال الشارع قد تعبدتكم بالقياس فمهما رأيتم الحكم قد ثبت في صورة وغلب على ظنونكم أنه ثبت لعلة وأنها وأنها متحققة في صورة أخرى
فقيسوها كان ذلك إخبارا عن إثبات الحكم في الفرع
وإن لم يرد مثل هذا النص فانعقاد الإجماع على ذلك يكون كافيا
وعن الثالثة عشرة أنها قياس تمثيلي من غير جامع فلا يصح وقد أجاب بعضهم بأن كثير الزعفران الواقع في الماء يعلم بالإدراك

وخفيه إنما يعلم بإخبار من شاهده لا بنفس الإدراك وليس بحق فإن الخبر مستند إلى المشاهدة
فإن قيل الحكم في الفرع أيضا مستند إلى الحكم الثابت بالنص فكان جلي الأحكام وخفيها مستندا إلى النص
قيل النص الوارد في الأصل لم يكن واردا في الفرع ولو ورد في الفرع لما احتيج إلى القياس
وعن الرابعة عشرة أنا لا نسلم أن كون المتحرك متحركا يزيد على قيام الحركة بالمحل فلا علة ولا معلول وإن سلمنا أن المتحركية معللة بالحركة ولكن ما ذكروه تمثيل من غير جامع وذلك لأن اسم العلة مشترك بين العلة العقلية والعلة الشرعية لأن العلة العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع بخلاف العلة الشرعية فإنها بمعنى الأمارة والعلامة أو بمعنى الباعث ولا يمتنع أن يكون الوصف علامة على الحكم في بعض الأزمان دون البعض اتباعا لوضع الشارع ولا يمتنع أن يكون الوصف باعثا لما يختص به من المصلحة في بعض الأزمان دون البعض كما أبيحت الخمرة في زمان وحرمت في زمان وجوز الصوم في زمان وحرم في زمان
ويكون مناط معرفة ذلك اعتبار الشارع للوصف في وقت وإلغاءه في وقت آخر
وعن الخامسة عشرة أن القياس عندنا حجة مع النص الموافق ولا يلزم أن يكون حجة مع النص المخالف الراجح بدليل خبر الواحد فإنه حجة وإن لم يكن حجة مع النص المخالف الراجح
وعن السادسة عشرة أن نظر القائس في الفرع وإن لم يكن في دلالة النص فهو ناظر في المعنى الجامع والدلالة على عليته وفي الحكم في الفرع وليس الحكم هو فعل المكلف بل الحكم إنما هو الوجوب أو التحريم المتعلق بفعله
وعن السابعة عشرة أنه إن غلب على الظن مشابهة شيء لشيء محرم

وأمكن ذلك من غير أمارة فالعقل يجوز ورود الشرع بالتعبد بتحريمه وإن لم يرد الشرع به
وعن الثامنة عشرة بمنع الحصر فيما ذكروه وما المانع من طريق آخر يعرف كون الوصف الجامع علة من الإيماء أو غيره من طرق التخريج كما عرف
وعن التاسعة عشرة أن العلل المستنبطة من الأصول وإن كانت أدلة على الأحكام في الفروع فليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها الذاتية كما في العلل العقلية بل إنما كانت أدلة بالوضع والتوقيف وجعل الشارع لها أدلة فلذلك افتقرت في جعلها أدلة إلى غيرها
وعن العشرين أن الكلام في هذه المسألة غير مختص بتصحيح القياس في آحاد الصور بل إنما هو في جواز ورود التعبد بالقياس في الجملة كيف وإن الوجه في ظهور المصلحة في التعليل بمطعوم جنس أو مكيل جنس أو غير ذلك مما قد تكلف بيانه في مسائل الفروع فعلى الناظر في ذلك بالاعتبار حتى إن كل ما لم يظهر فيه وجه المصلحة ولا دفع المفسدة من الأوصاف المستنبطة بدليله فالقياس فيه غير جائز
وعن الحادية والعشرين أن كل ما هو غيب عنا لو جعل الله عليه أمارة تدل عليه كما جعل ذلك في الأحكام الشرعية كان الحكم في معرفته كما في الأحكام وحيث لم يجعل له أمارة تدل عليه لم يكن معلوما
وعن الثانية والعشرين لا نسلم أن التوصل إلى معرفة المصالح بفعل القائس وإنما فعل القائس وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع تبع لمعرفة المصلحة المأخوذة من حكم الأصل
وعن الثالثة والعشرين أنه متى غلب على ظن القائس كون الحكم معللا وظهرت له علة في نظره مجردة عن المعارض وتحقق وجودها في الفرع كان له القياس وإلا فلا

وعن الرابعة والعشرين أنه مهما تقابل في نظر القائس قياسان على التحليل والتحريم مثلا فكل واحدة من العلتين غير موجبة لحكمها لذاتها فلا يلزم من ذلك اجتماع الحكمين وعلى هذا إن ترجحت إحداهما على الأخرى كان العمل بها وإن تعارضا من كل وجه أمكن أن يقال بالوقف إلى حين ظهور الترجيح وأمكن أن يقال بتخيير المجتهد في العمل بأي القياسين شاء على ما عرف من مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل
وعن الخامسة والعشرين لا نسلم أن العلل الشرعية على وزان العلل العقلية وإنما هي بمعنى الأمارات والعلامات وما كان بمعنى الأمارة والعلامة لا يمتنع أن يكون الظن الحاصل منه من مجموع أوصاف لا يستقل البعض بها وذلك كالظن الحاصل بنزول المطر عند طلوع الغيم وتكاثفه ودنوه من الأرض وهبوب الهواء البارد
وكذلك ظن سقوط الجدار بميله وانشقاقه وتخلخل أجزائه إلى غير ذلك
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بكون العقل موجبا لورود التعبد بالقياس أن الذي لا يتناهى إنما هو الجزئيات الداخلة تحت الأجناس الكلية
أما الأجناس الكلية فلا نسلم أنها غير متناهية
وعلى هذا فقد أمكن التنصيص على كل واحد من الأجناس بأن يقول الشارع كل مطعوم ربوي وكل مسكر حرام وكل قاتل عمدا عداونا مقتول وكل سارق من حرز مثله لا شبهة له فيه مقطوع إلى نظائره والحكم في كل صورة من جزئيات ذلك الجنس يكون ثابتا بالنص
وإن افتقرنا فيه إلى الاجتهاد في إدراج كل واحد تحت جنسه ليتم إثبات الحكم فيه بالنص فذلك إنما هو من باب تحقيق متعلق الحكم لا أنه قياس
وعلى هذا فلا حاجة إلى القياس
وإن سلمنا امتناع التعميم بغير القياس فإنما يجب التعبد به أن لو كان النبي عليه السلام مكلفا بالتعميم وهو غير مسلم بل يمكن أن يقال بأنه إنما كلف بما يقدر على تبليغه بطريق المخاطبة

وما ذكروه مبني على وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات
وعن الثانية أنها مبنية على كون العقل موجبا وعلى وجوب رعاية المصلحة وهو باطل على ما عرفناه
وإن سلمنا أن العقل موجب عند ظهور المصلحة في نظر العاقل لكن متى إذا كان علم الله تعالى متعلقا بما ظنه العبد على وفق ما ظنه العبد أو على خلافه الأول مسلم والثاني ممنوع
وعند ذلك فمن الجائز أن يكون الرب تعالى قد علم أنه لا مصلحة للمكلفين في القياس وأنه مضر في حقهم على خلاف مظنون العبد
ومع ذلك فلا يكون العقل موجبا للقياس
وإن سلمنا إيجاب ذلك مطلقا لكن إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بطريق غير القياس أو إذا لم يمكن الأول ممنوع والثاني مسلم
وقد بينا إمكان ذلك في دفع الشبهة التي قبلها
وعن الثالثة أنها مبينة على كون العقل موجبا وعلى وجوب رعاية المصلحة وعلى أنه لا طريق إلى معرفة الحكم في الفرع سوى القياس وعلى أن الله تعالى عالم بأن المصلحة في القياس كما ظنه العبد وكل ذلك ممنوع وأيضا فإن العلة الجامعة قد لا يكون طريق إثباتها المناسبة كما سبق تعريفه
وبتقدير أن يكون لا طريق سوى المناسبة وأنه لا طريق إلى معرفتها إلا بالعقل فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجوب التعبد بها عقلا
وما ذكروه من العلل العقلية مبني على العلة والمعلول العقليين وهو غير مسلم
وبتقدير تحقق ذلك فالعقل إنما يقضي بملازمة معلول العلة العقلية لها لكونها مقتضية لمعلولها بذاتها ولا كذلك العلل الشرعية فإنها إنما كانت عللا بمعنى الأمارات والعلامات فلا يصح القياس

المسألة الثانية الذين اتفقوا على جواز التعبد بالقياس عقلا
اختلفوا فمنهم من قال لم يرد التعبد الشرعي به بل ورد بحظره كداود بن علي الأصفهاني وابنه القاشاني والنهرواني ولم يقضوا بوقوع ذلك إلا فيما كانت علته منصوصة أو مومى إليها
وذهب الباقون إلى أن التعبد الشرعي به واقع بدليل السمع واختلفوا في وقوعه بدليل العقل كما بيناه في المسألة المتقدمة وأومأنا إلى إبطاله
ثم الدليل السمعي هل هو قاطع أو ظني اختلفوا فيه فقال الكل إنه قطعي سوى أبي الحسين البصري فإنه قال إنه ظني وهو المختار
وقد احتج على ذلك بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار
فمنها كتابية وإجماعية ومعنوية أما الكتابية فقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ( النساء 59 ) ووجه الاحتجاج به أنه أمر بطاعة الله والرسول
والمراد من ذلك إنما هو امتثال أمرهما ونهيهما فقوله ثانيا { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ( النساء 59 ) والظاهر من الرد هو القياس ولأنه لو أراد به اتباع أوامرهما ونواهيهما لكان ذلك تكرارا فلم يبق إلا أن يكون المراد به الرد إلى ما استنبط من الأمر والنهي
ولقائل أن يقول لا نسلم أن المراد من قوله تعالى { فردوه } القياس

على ما أمر الله ورسوله بل يمكن أن يكون المراد البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا حتى يدخل تحت قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فالأمر الأول بالطاعة للأمر والنهي والثاني بالبحث عن المتنازع فيه هل هو مأمور أو منهي أو لا فلا تكرار
وإنما يمكن حمل الرد على القياس مع كونه مختلفا في الاحتجاج به أن لو تعذر حمل لفظ الرد على غيره وليس بمتعذر
وإن سلمنا امتناع حمله على البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا أمكن أن يكون المراد بقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه والمراد من قوله فإن تنازعتم في شيء أي فيما لم يسبق فيه أمر ولا نهي فردوه إلى الله والرسول بالسؤال للرسول لينبئكم عن مقتضى ذلك في كتاب الله وسنة رسوله
فإن قيل هذا يوجب اختصاص الآية بمن وجد في زمن النبي عليه السلام لتعذر ذلك بالنسبة إلى من بعدهم والإجماع منعقد على تعميم وجوب الطاعة والرد إلى الله والرسول في كل زمان
فلو كان معنى الرد السؤال للرسول لما تصور ذلك في حق من وجد بعد النبي عليه السلام
قلنا وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ولكن لا نسلم أن وجوب الرد ثابت في كل زمان لأنه إن حمل الرد على القياس فهو محل النزاع وإن حمل على السؤال للنبي عليه السلام فظاهر أنه غير واجب على من لم يره
فإن قيل الضمير في المخاطب بالرد عائد إلى المخاطب بالطاعة فإذا كان الخطاب بالطاعة عاما فكذلك الخطاب بالرد وإذا تعذر حمل الرد على السؤال في حق الكل تعين أن يكون المراد به القياس
قلنا وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ولكن لا نسلم أنها واجبة بقوله أطيعوا الله وأطيعو الرسول لأنها خطاب مشافهة على ما

سبق تقريره في الأوامر
وإن سلمنا عموم خطاب الأمر بالطاعة فغايته أن يكون الضمير في قوله فردوه إلى الله والرسول ظاهرا في العود إلى كل من أمر بالطاعة فعوده إلى البعض وهو من كان في زمن النبي عليه السلام لضرورة حمل الرد على السؤال للنبي عليه السلام غايته أن يكون تخصيصا للعموم وهو مقابل بمثله في حمل الرد على القياس وذلك لأن الآية عامة في حق كل مجتهد وعامي ويلزم من حمل لفظ الرد على القياس تخصيص الآية بالمجتهدين دون غيرهم وليس مخالفة أحد العمومين والتمسك بالآخر أولى من العكس وأيضا قوله تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ( النساء 83 ) والاستنباط هو القياس وهو ضعيف أيضا
ولك لأنه إنما يجب حمل الاستنباط في الآية على القياس أن لو تعذر حمله على غيره وليس كذلك إذ أمكن أن يراد به استخراج الحكم من دليله وهو أعم من القياس
ولهذا يصح أن يقال لمستخرج الحكم من دلالة النص إنه مستنبط كيف وإن المذكور في صدر الآية إنما هو الأمن والخوف بقوله تعالى { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف } فيجب أن يكون الضمير في قوله أذاعوا به وفي قوله ولو ردوه وفي قوله لعلمه وفي قوله يستنبطونه عائدا إليه لأنه المذكور لا إلى غيره لكونه غير مذكور
وليس ذلك من القياس في شيء
وأيضا قوله تعالى { إن أنتم إلا بشر مثلنا } ( إبراهيم 10 ) ووجه الاحتجاج به أنهم أوردوا ذلك في معرض صدهم عما كان يعبد أباؤهم لما بينهم من المشابهة في البشرية ولم ينكر عليهم ذلك وهو عين القياس فكان حجة وهو ضعيف أيضا لوجهين

الأول لا نسلم عدم النكير عليهم فإن الآية إنما خرجت مخرج الإنكار لقولهم ذلك ولذلك قال تعالى { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } ( إبراهيم 11 )
الثاني أنه وإن كان قياسا وتشبيها في الأمور الحقيقية فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلا بطريق القياس أيضا وهو محل النزاع
وأما الإجماعية فمنها أنهم قالوا الأمة قد علقت من قوله تعالى { ولا تقل لهما أف } ( الإسراء 23 ) تحريم الشتم والضرب بطريق القياس وهو غير صحيح لإمكان قول الخصم إن ذلك إنما عقل من دلالة اللفظ وفحوى الخطاب على ما سبق وإن كان ذلك بطريق القياس غير أن العلة فيه معلومة بدلالة النص وهي كف الأذى عن الوالدين ولا يلزم مثله فيما كانت العلة فيه مستنبطة مظنونة كما قاله النظام
ومنها أن الأمة مجمعة على رجم الزاني المحصن قياسا على رجم النبي صلى الله عليه و سلم ( لماعز ) وهو ضعيف وأيضا لإمكان أن يقال بل إنما حكموا بذلك بناء على قوله صلى الله عليه و سلم حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ومنها أن الأمة مجمعة على أن الله تعالى تعبدنا بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة عند اشتباهها وذلك أيضا مما لا يمكن التمسك به لأن الخصم لا يمنع من التمسك بالأمارات مطلقا بل يجوز ذلك في القبلة وفي تقويم أروش الجنايات وقيم المتلفات وتقدير النفقات وفيما كانت الأمارات فيه خفية ولا يلزم مثله في الأمارات الشرعية والأقيسة كيف وإن من الخصوم من يمنع من صحة الاجتهاد عند اشتباه القبلة ويوجب التوجه إلى الجهات الأربع حتى يخرج عن العهدة بيقين

وأما الحجة المعنوية فهي أن النص والإجماع مما يقل في الحوادث ويندر
فلو لم يكن القياس حجة أفضى ذلك إلى خلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وهو خلاف المقصود من بعثة الرسل وذلك ممتنع وهي ضعيفة أيضا وذلك لأن الوقائع التي خلت عن النصوص والإجماع إنما يلزم خلوها عن الأحكام الشرعية أن لو لم يكن نفي الحكم الشرعي بعد ورود الشرع حكما شرعيا وأما إذا كان حكما شرعيا وكان مدركه شرعيا وهو استصحاب الحال وانتفاء المدارك الشرعية المقتضية للأحكام الإثباتية فلا
وإن سلمنا أن انتفاء الحكم عند انتفاء النص والإجماع ليس حكما شرعيا ولكن إنما يمتنع ذلك أن لو كنا مكلفين بإثبات الأحكام الشرعية في كل قضية وهو غير مسلم وذلك لأن الشارع كما يورد إثبات الأحكام في بعض الوقائع قد يورد نفيها في بعض آخر على حسب اختلاف المصالح ثم يلزم على ما ذكروه أن تكون المصالح المرسلة الخلية عن الاعتبار حججا في الشريعة وهو محال وذلك لأنه ليس كل واقعة يمكن وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها
فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضا إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها والعذر إذ ذاك يكون مشتركا والمعتمد في المسألة الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ( الحشر 2 ) أمر بالاعتبار والاعتبار هو الانتقال من الشيء إلى غيره وذلك متحقق في القياس

حيث إن فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع
ولهذا قال ابن عباس في الأسنان اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية أطلق الاعتبار وأراد به نقل حكم الأصابع إلى الأسنان والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذا ثبت أن القياس مأمور به فالأمر إما أن يكون للوجوب أو للندب على ما سبق في الأوامر
وعلى كلا التقديرين فالعمل بالقياس يكون مشروعا
فإن قيل لا نسلم أنه أمر بالاعتبار وصيغة افعلوا مترددة بين الأمر وغيره كما سبق في الأوامر وليس جعلها ظاهرة في البعض أولى من البعض سلمنا أنها للأمر ولكن لا نسلم أن الاعتبار ما ذكرتموه بل هو عبارة عن الاتعاظ ويدل عليه أمران الأول قوله تعالى { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } ( آل عمران 13 ) وقوله { وإن لكم في الأنعام لعبرة } ( النحل 66 ) والمراد به الاتعاظ إذ هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ
الثاني أن القائس في الفروع إذا أقدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال إنه غير معتبر ولو كان القياس هو الاعتبار لما صح سلب ذلك عنه
سلمنا أن الاعتبار ظاهر في القياس لكنه قد وجد في الآية ما يمنع من الحمل عليه ويصرفه إلى الاعتبار بمعنى الاتعاظ وذلك قوله تعالى { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ( الحشر 2 ) ولو كان الاعتبار بمعنى القياس لما حسن ترتيبه على ذلك وإنما يحسن ذلك عند إرادة الاتعاظ
سلمنا أن المراد به القياس غير أنه ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس فكانت الآية مطلقة والمطلق إذا عمل به في صورة أو

صور لا يبقى حجة فيما عداها ضرورة الوفاء بالعمل بدلالته وقد عملنا بذلك في القياس العقلي والقياس الذي علته منصوصة أو مومى إليها وبقياس الفروع على الأصول في امتناع إثباتها بالقياس
سلمنا العموم لكنه قد خص بما كلفنا فيه باليقين وبما كان منصوصا عليه وبما لم نعلم له أصلا ولا وصفا جامعا فإن القياس غير مأمور به في ذلك كله
وكذلك إذا قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يجوز تعدية ذلك إلى سالم وإن كان مسودا
والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة وإن بقي حجة ففي أقل ما يتناوله الاسم العام على ما سبق في العموم
وإن سلمنا أنه يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص غير أن الآية خطاب مع الموجودين فيختص ذلك بمن كان موجودا في وقت نزول الوحي بالآية وإن عم جميع الأزمان ولكنه أمر مطلق فلا يكون مفيدا للفور ولا للتكرار وإن كان مفيدا لذلك لكن بطريق ظني لا قطعي والمسألة قطعية لا ظنية
والجواب عن السؤال الأول أنا قد بينا أن صيغة ( افعل ) ظاهرة في الطلب وأن الطلب لا يخرج عن اقتضاء الوجوب أو الندب في الأوامر وأي الأمرين قدر كان دليلا على شرع القياس
قولهم لا نسلم أن الاعتبار عبارة عما ذكرتموه
قلنا دليله ما ذكرناه
قولهم يطلق بمعنى الاتعاظ
قلنا عنه جوابان الأول المنع ويدل عليه قولهم اعتبر فلان فاتعظ ولو كان الاعتبار هو الاتعاظ لما حسن هذا الكلام والترتيب ولأن ترتيب الشيء على نفسه ممتنع
الثاني أن الاعتبار بمعنى الانتقال من الشيء إلى غيره هو القياس وهو متحقق في الاتعاظ وذلك لأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير

إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال وذلك هو القياس
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآيتين
قولهم القائس إذا كان معرضا عن أمر آخرته يقال إنه غير معتبر
قلنا لا يصح ذلك بالنظر إلى كونه قائسا وإنما صح ذلك بالنظر إلى أمر الآخرة وإنما أطلق النفي بطريق المجاز نظرا إلى إخلاله بأعظم المقاصد وهو أمر المعاد
وعن الثالث أنه إذا كان الانتقال متحققا في الاتعاظ على ما قدمناه وذلك هو القياس فلا نسلم امتناع ترتيب القياس على ما ذكروه
وعن الرابع أن اللفظ إن كان عاما فهو المطلوب وإن كان مطلقا فيجب حمله على القياس الشرعي نظرا إلى أن الغالب من الشارع أنه إنما يخاطبنا بالأمور الشرعية دون غيرها وهو إما أن تكون العلة فيه منصوصة أو مستنبطة والأول ليس بقياس على ما حققناه قبل
وإن كانت مستنبطة فقد سلم صحة الاحتجاج ببعض الأقيسة المختلف فيها ويلزم من ذلك تسليم الباقي ضرورة أن لا قائل بالفرق
وعن الخامس أن العام بعد التخصيص يكون حجة فيما وراء صور التخصيص على ما سبق في العموم

وعن قولهم إنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يعم
قلنا لا نسلم أنه لا يعم بتقدير الوجود والفهم
وإن سلمنا أنه لا يعم بلفظه فهو عام بمعناه نظرا إلى انعقاد الإجماع عل أن أحكام الخطاب الثابث في زمن النبي عليه السلام عامة في حق من بعد النبي صلى الله عليه و سلم
فإذا لم يكن الخطاب عاما بلفظه وجب أن يكون عاما بمعناه ضرورة انعقاد الإجماع على ذلك
وبتقدير أن لا يكون عاما لا بلفظه ولا بمعناه فهو حجة على الخصوم في بعض صور النزاع ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أن لا قائل بالتفصيل
وبهذا الجواب يكون الجواب عن قولهم إن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التكرار
وعن السؤال الأخير أن المسألة ظنية غير قطعية
وأما من جهة السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيا بم تحكم قال بكتاب الله
قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله
قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي والنبي صلى الله عليه و سلم أقره على ذلك
وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله واجتهاد الرأي لا بد وأن يكون مردودا إلى أصل وإلا كان مرسلا والرأي المرسل غير معتبر وذلك هو القياس
وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد انفذهما إلى اليمن بم تقضيان فقالا أن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به صرحوا بالعمل بالقياس والنبي صلى الله عليه و سلم أقرهما عليه فكان حجة

وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن بم تقضيان فقالا إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به صرحوا بالعمل بالقياس والنبي صلى الله عليه و سلم أقرهما عليه فكان حجة
وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك ووجه الاحتجاج به كما تقدم في الخبر الأول
وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج
إن حججت عنه أينفعه ذلك فقال لها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك قالت نعم
قال فدين الله أحق بالقضاء ووجه الاحتجاج به أنه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه وهو عين القياس
وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس كما سبق تحقيقه
وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم هل أخبرته أني أقبل وأنا صائم وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه
وأيضا ما روي عنه أنه أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه وأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم فقال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله
وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها حكم بتحريم ثمنها باعتبار تحريم أكلها
وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه علل كثيرا من الأحكام والتعليل موجب لاتباع العلة أين كانت وذلك هو نفس القياس
فمن ذلك قوله عليه السلام كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فادخروها

وقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة
ومنا قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم
فقال فلا إذا
ومنها قوله في حق محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا
ومنها قوله في حق شهداء أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك
ومنها قوله في الهرة إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات
وقوله إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده
وقوله في الصيد فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله
وأيضا قوله أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء وذلك هو القياس إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها النازل جملتها منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحادا
فإن قيل أما حيث معاذ فإنه مرسل وخبر واحد ورد في إثبات كون القياس حجة وهو مما تعم به البلوى والمرسل ليس بحجة عند الشافعي

وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة عند أبي حنيفة فالإجماع من الفريقين على أنه ليس بحجة
والذي يدل على ضعفه أن النبي عليه السلام كان قد ولاه القضاء وذلك لا يكون إلا بعد معرفة اشتمال معاذ على معرفه ما به يقضي
فالسؤال عما علم لا معنى له
وأيضا فإنه وقف العمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة ووقف العمل بالسنة على عدم وجدان الكتاب
والأول على خلاف قوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ( الأنعام 38 )
وعلى خلاف قوله { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ( الأنعام 59 ) والثاني على خلاف الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة
سلمنا صحته وأنه حجة غير أن اجتهاد الرأي أعم من القياس وذلك لأن اجتهاد الرأي كما يكون بالقياس قد يكون بالاجتهاد في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة وطلب الحكم فيهما على التمسك بالبراءة الأصلية ولفظه غير عام في كل رأي فلا يكون حمله على اجتهاد الرأي بالقياس أولى من غيره
سلمنا أن المراد به اجتهاد الرأي بالقياس غير أن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة أو مومى إليها وإلى ما علته مستنبطة بالرأي واللفظ أيضا مطلق وقد عملنا به في القياس الذي علته منصوصة على ما قاله النظام
سلمنا أنه حجة مطلقا في كل قياس ولكن قبل إكمال الدين أو بعده على ما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } ( المائدة 3 ) الأول مسلم والثاني ممنوع
وذلك أن إكمال الدين إنما يكون باشتمال الكتاب والسنة على تعريف كل ما لا بد من معرفته
وعلى هذا فالقياس لا حاجة إليه بعد ذلك
وبتقدير كونه حجة مطلقا لكن فيما تعبد في إثباته بالظن لا باليقين
والقياس ليس من هذا الباب

وبهذا يكون الاعتراض على حديث ابن مسعود أيضا
وأما حديث الجارية الخثعمية فالورود عليه من جملة الأسئلة الواردة على حديث معاذ أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى وأنه ظني فلا يتمسك به في مسائل الأصول وهما عامان في جميع ما ذكر من الأخبار ويخصه أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما ذكر دين الآدمي بطريق التقريب إلى فهم الجارية في حصول نفع القضاء
أما أن يكون ذلك بطريق القياس فلا
وأما حديث أم سلمة فيدل على أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم حجة متبعة أما أن يكون ذلك بطريق القياس على فعل النبي صلى الله عليه و سلم فلا
وأما حديث سعد بن معاذ فليس فيه أيضا ما يدل على صحة القياس فإن أمره له بأن يحكم في بني قريظة برأيه لا يخص القياس لما تقدم من أن اجتهاد الرأي أعم من القياس فلعله أمره أن يحكم باجتهاد رأيه في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة ولذلك قال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله
وأما خبر تحريم الشحوم على اليهود فليس فيه ما يدل على تحريم البيع بالقياس على تحريم الأكل فإن تحريم الشيء أعم من تحريم أكله فإن تحريم الشيء تحريم للتصرف فيه مطلقا
وبتقدير أن يكون تحريم الأكل مصرحا به فالمراد به تحريم التصرف مطلقا بدليل قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ( البقرة 188 ) وقوله { ولا تأكلوا مال اليتيم }
وقوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ( النساء 2 ) والمراد به المنع من التصرف في ذلك بغير حق
وأما الأخبار الدالة على تعليل الأحكام فليس يلزم من تعليل الحكم المنصوص عليه بعلة إلحاق غير المنصوص به لاشتراكهما في تلك العلة إذ هو محل النزاع
وليس في الأخبار ما يدل على الإلحاق بل التعليل إنما كان

لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول
ولهذا أمكن التنصيص على العلة القاصرة ولا قياس عنها
وبتقدير دلالتها على الإلحاق
فالعلل فيها منصوصة ومومى إليها
ونحن نقول بهذا النوع من القياس كما قاله النظام وقوله عليه السلام إني أحكم بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي فهو على خلاف قوله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ( النجم 3 ) وبتقدير أن يكون حكمه بالرأي فلا يلزم أن يكون ذلك بالقياس لما تقدم
وبتقدير أن يكون بالقياس فلا يلزم من جواز التمسك بالقياس للنبي عليه السلام مع كونه معصوما عن الخطإ مسددا في أحكامه جواز ذلك لغيره
والجواب عن السؤال الأول على خبر معاذ أنا قد بينا أن المرسل وخبر الواحد فيما تعم به البلوى حجة
وأما سؤال معاذ عما به يقضي فإنما كان قبل توليه القضاء ليعلم صلاحيته لذلك وإن كان ذلك بعد توليه القضاء فإنما كان ذلك بطريق التأكيد أو بأعلام الغير بأهليته للقضاء وأما توقيفه للعمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة فغير مخالف لقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ( الأنعام 38 ) إذ المراد منه إنما هو عدم التفريط فيما ورد من الكتاب لا أن المراد به بيان كل شيء فإنا نعلم عدم اشتماله على بيان العلوم العقلية من الهندسية والحسابية وكثير من الأحكام الشرعية وبتقدير أن يكون المراد به بيان كل شيء لكن لا بطريق الصريح بل بمعنى أنه أصل لبيان كل شيء
فإنه أصل لبيان صدق الرسول في قوله وقوله بيان للقياس وغيره وبه يخرج الجواب عن الآية الأخرى

وأما توقيفه العمل بالسنة على عدم الكتاب فالمراد به الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ ويجب تنزيله على ذلك ضرورة الجمع بين تقرير النبي عليه السلام له على ذلك وبين الدليل الدال على نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة
وعن السؤال الثاني أنه يمتنع حمل اجتهاد الرأي على الاجتهاد في الاستدلال بخفي نصوص الكتاب والسنة لأن قوله فإن لم تجد عام في الجلي والخفي بدليل صحة الاستثناء وورود الاستفهام
فتخصيص ذلك بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع والتمسك بالبراءة الأصلية في نفي الأحكام الشرعية ليس بحجة على ما يأتي
فلا يكون اجتهاد الرأي فيه مستندا للحكم
وبتقدير أن يكون حجة فذلك معلوم لكل عاقل فلا يكون مفتقرا إلى اجتهاد الرأي
وعن السؤال الثالث أنا لا نسلم أن ما كانت علته منصوصة يكون قياس على ما سيأتي
وإن سلمنا أنه قياس فما ذكرناه وإن لم يكن حجة على النظام فهو حجة على غيره
وعن الرابع أن إكمال الدين إنما يكون ببيان كل شيء إما بلا واسطة أو بواسطة على ما بيناه
وعلى هذا فلا يمتنع العمل بالقياس بعد إكمال الدين لكونه من جملة الوسائط
وعن الخامس ما سبق من أن المسألة ظنية غير قطعية
وعلى هذا فلا يخفى الجواب عما يعترض به على خبر ابن مسعود
وكذلك جواب كل ما يعترض به من هذه الأسئلة على باقي الأخبار
وما ذكروه على خبر الجارية الخثعمية فبعيد أيضا فإنه لو لم يكن مدرك

الحكم فيما سألت عنه القياس على دين الآدمي لما كان التعرض لذكره مفيدا بل كان يجب الاقتصار على قوله نعم
وما ذكروه على حديث أم سلمة فغير صحيح
وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسي به لما كان حكم فعله ثابتا في حقنا ولا معنى للقياس سوى ذلك
وما ذكروه على حديث سعد بن معاذ باطل أيضا لأن حكمه لو كان مستندا إلى الكتاب أو السنة لما كان ذلك برأيه وقد قال أحكم فيهم برأيك وقوله عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله لا منافاة بينه وبين الحكم بالقياس فإنه إذا كان القياس من طرق الشرع فالحكم المستند إليه يكون حكما لله ولرسوله
وما ذكروه على خبر الشحوم مندفع من حيث إن الظاهر من إضافة التحريم إلى المأكول إنما هو تحريم الأكل
وكذلك التحريم المضاف إلى النساء إنما هو تحريم الوطء وإلى الدابة تحريم الركوب وإلى الدار تحريم السكنى
وكذلك في كل شيء على حسبه وهو المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه
فتحريم البيع لا يكون مأخوذا من مطلق التحريم المضاف إلى أكل الشحوم فلم يبق إلا أن يكون بطريق الإلحاق به وهو معنى القياس
وما ذكروه على الأخبار الدالة على التعليل بالعلل المذكورة من أن ذلك لا يدل على التعدية فحق
غير أن ما ذكروه بتقدير تسليم التعدية على مذهب النظام فقد سبق جوابه
وأما الإجماع وهو أقوى الحجج في هذه المسألة فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم

فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف
ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان الكلالة ما عدا الوالد والولد
ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى التشريك بينهما في السدس
ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرها فقال أبو بكر إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرق بينهم
ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة
ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك
ومن ذلك قول عمر أقضي في الجد برائي وأقول فيه برائي وقضى فيه بآراء مختلفة
ومن ذلك قوله لما سمع حديث الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا

ومن ذلك أنه لما قيل له في مسألة المشركة هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم
ومن ذلك أنه لما قيل لعمر إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها قال قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها قاس الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها
ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة حيث لم يكمل نصاب الشهادة بالقياس على القاذف وإن كان شاهدا لا قاذفا
ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة إن تتبع رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي كان ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما
ومن ذلك أنه ورث المبتوتة بالرأي
ومن ذلك قول علي عليه السلام في حد شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترين قاس حد الشارب على القاذف
ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة فقال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم قال نعم
قال فكذلك وهو قياس للقتل على السرقة
ومن ذلك ما روي عن علي أنه قال في أمهات الأولاد اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن وقد رأيت الآن بيعهن حتى قال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها

أما المأثم فأرجو أن يكون منحطا عنك ورأى عليك الدية فقال له عزمت عليك أن لا تبرح حتى تضربها على بني عدي يعني قومه وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب وقالا إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك
ومن ذلك قول ابن عباس لما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي فقال له زيد أقول برأيي وتقول برأيك
ومن ذلك قوله في مسألة الجد ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا
ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا وأنه كان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم تجد شيئا من ذلك فاجتهد رأيك
ومن ذلك اختلاف الصحابة في الجد حتى ألحقه بعضهم بالأب في إسقاط الأخوة وألحقه بعضهم بالأخوة
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته أنت علي حرام حتى قال أبو بكر وعمر هو يمين
وقال علي وزيد هو طلاق ثلاث
وقال ابن مسعود هو طلقة واحدة
وقال ابن عباس هو ظهار إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس
ومن لم يوجد منه الحكم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار فكان إجماعا سكوتيا وهو حجة مغلبة على الظن لما سبق تقريره في مسائل الإجماع
وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور وذلك

لا بد لهم فيها من مستند وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل وهو ممتنع وذلك المستند يمتنع أن يكون نصا وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص إقامة لعذره وردا لغيره عن الخطإ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف
وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم ولو أظهروا تلك النصوص واحتجوا بها لكانت العادة تحيل عدم نقلها فحيث لم تنقل دل على عدمها وإذا لم يكن نصا تعين أن يكون قياسا واستنباطا
فإن قيل لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص وترجيح أحد النصين على الآخر والنظر في تقرير النفي الأصلي ودلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وأدلة الخطاب وتحقيق المناط وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية
قولكم لو كان ثم نص لظهر قلنا ولو كانوا قائسين لتلك الصور على غيرها لأظهروا العلل الجامعة فيها وصرحوا بها كما في النصوص ولو أظهروها واحتجوا بها لنقلت أيضا فعدم نقلها يدل على عدمها
وإذا لم يكن قياس واستنباط تعين أن يكون المستند إنما هو النص وليس أحد الأمرين أولى من الآخر
وما نقل عن الصحابة من التصريح بالعمل بالرأي في الوقائع المذكورة لا يلزم أن يكون قياسا فإن اجتهاد الرأي أعم من اجتهاد الرأي بالقياس على ما تقرر ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص
سلمنا أنهم عملوا بالقياس غير أنا لا نسلم عمل الكل به فإنه لم ينقل ذلك إلا عن جماعة يسيرة لا تقوم الحجة بقولهم

قولكم إنه لم يوجد من غيرهم نكير عليهم لا نسلم ذلك
وبيان وجود الإنكار ما روي عن أبي بكر أنه لما سئل عن الكلالة قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وأيضا ما روي عن عمر أنه قال إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال إياكم والمكايلة فسئل عن ذلك فقال المقايسة وروي عن شريح أنه قال كتب إلي عمر اقض بما في كتاب الله فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي وأيضا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر في مسألة الجنين إن اجتهدوا فقد أخطؤوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوك وروي عن عثمان وعلي أنهما قالا لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وروي عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ( المائدة 49 ) ولم يقل بما رأيت ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله وقال إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه وروي عن ابن عمر أنه قال السنة ما سنة رسول الله لا تجعلوا الرأي سنة وقال أيضا إن قوما يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون

وقال أيضا اتهموا الرأي على الدين فإنه منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وروي عن ابن مسعود أنه قال إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما حلل الله وقال أيضا قراؤكم صلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان وقالت عائشة أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة وقد أنكر التابعون ذلك أيضا حتى قال الشعبي ما أخبروك عن أصحاب محمد فاقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش وقال مسروق لا أقيس شيئا بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم المقاييس ويقول أول من قاس إبليس
ومع هذه الإنكارات من الصحابة والتابعين فلا إجماع
سلمنا أنه لم يظهر النكير في ذلك لكن لا يلزم منه أن يكون سكوت الباقين عن موافقة لما ذكر في الإجماع
سلمنا أنه عن موافقة لكنه لا حجة في إجماع الصحابة
وكيف يقال بذلك وقد عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم الفاسدة
حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب وتألبوا على أهل البيت وكتموا النص على علي رضي الله عنه غصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة إرثها من أبيها المنصوص عليه في كتاب الله برواية انفرد بها أبو بكر وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص الدالة على جميع الأحكام الشرعية إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز معها الاحتجاج بأقوالهم
وهذا السؤال مما أورده الرافضة

سلمنا أن قول البعض بالقياس وسكوت الباقين حجة لكنها حجة ظنية على ما سبق في الإجماع
وكون القياس حجة أمر قد تعبدنا فيه بالعلم فلا يكون مستفادا من الدليل الظني
سلمنا صحة الاحتجاج به ولكن ما المانع أن يكون عملهم بالقياس المنصوص على علته ونحن نقول به كما قاله النظام والقاشاني والنهرواني
سلمنا عملهم بكل قياس لكن لم قلتم إنه إذا جاز العمل بالقياس للصحابة جاز ذلك لمن بعدهم وذلك لأن الصحابة لما كانوا عليه من شدة اليقين والصلابة في الدين ومشاهدة الوحي والتنزيل وكثرة التحفظ في أمور دينهم حتى نقل عنهم قتل الأباء والأبناء وبذل الأنفس والأموال ومهاجرة الأهل والأوطان في نصرة الدين حتى ورد في حقهم من التفضيل والتعظيم في الكتاب والسنة ما لم يرد مثله في حق غيرهم على ما ذكر في الإجماع
وعند ذلك فلا يلزم من جواز عملهم بالقياس جوازه لغيرهم
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة القياس وأنا متعبدون به لكنه معارض بالكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ( الحجرات 1 ) والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله لأنه حكم بغير قوليهما
وقوله تعالى { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( البقرة 169 ) وقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } ( الإسراء 36 ) والحكم بالقياس قول بما لا يعلم
وقوله تعالى { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } ( النجم 28 ) وقوله تعالى ( إن بعض

الظن إثم } ( الحجرات 12 ) وقوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ( المائدة 49 ) والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله
وقوله تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } ( الشورى 10 ) وقوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ( النساء 59 ) والحكم بالقياس لا يكون حكما لله ولا مردودا إليه
وقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ( الأنعام 38 ) وقوله تعالى { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ( الأنعام 59 ) وذلك يدل على أنه لا حاجة إلى القياس
وأما من جهة السنة فما روى عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ستفترق أمتي فرقا أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور بالرأي وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا وذلك يدل على أن القياس والعمل بالرأي غير صحيح
والجواب قولهم لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس قلنا دليله ما ذكرناه
قولهم يحتمل أن يكون عملهم بدلالات النصوص الخفية قلنا لو كان كذلك لظهر المستند واشتهر على ما قررناه
قولهم ولو كان ذلك لمحض القياس لأظهروا العلل الجامعة وصرحوا بها كما في النصوص قلنا منهم من صرح كتصريح أبي بكر في التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم وهو قوله إنما الدنيا بلاغ وتصريح علي في قياسه حد شارب الخمر على حد القاذف بواسطة الاشتراك في الافتراء وتصريح

عثمان وعبد الرحمن بن عوف في إلحاقهم عمر في صورة المرأة التي أجهضت الجنين بالمؤدب بواسطة التأديب
ومنهم من اعتمد في التنبيه عليها بفتواه وجري العادة بفهم المستمع وجه المأخذ والشبه بين محل النزاع ومحل الإجماع
ولهذا فإن العادة جارية من بعض الملوك بقتل الجاسوس إذا ظفر به زجرا له ولغيره عن التجسس عليه وعادة البعض الإحسان إليه لاستمالته له حتى يدله على أحوال عدوه فإذا رأينا ملكا قد قتل جاسوسا أو أحسن إليه ولم نعهد من عادته قبل ذلك شيئا كان ذلك كافيا في التنبيه على رعاية العلة الموجبة للقتل أو الإحسان في محل الوفاق ولا كذلك النصوص فإن الأذهان غير مستقلة بمعرفتها فدعت الحاجة إلى التصريح بها
وعلى هذا فمن قال منهم في قوله أنت علي حرام إنه طلاق ثلاث نبه على أن مطلق التحريم يقتضي نهاية التحريم وذلك مشترك بينه وبين الطلاق الثلاث فلذلك عدى الطلاق الثلاث إليه
ومن جعله طلقة واحدة نبه على أنه اعتبر فيه أقل ما يثبت معه التحريم فلذلك ألحقه بالطلقة الواحدة ومن جعله ظهارا ألحقه بالظهار من حيث إنه يفيد التحريم بلفظ ليس هو لفظ الطلاق ولا لفظ الإيلاء
ومن شرك بين الجد وابن الابن نبه على أن العلة في ذلك استواؤهما في الإدلاء إلى الميت في طرفي العلو والسفل ولهذا شبههما بغصني شجرة وجدولي نهر ومن ذلك تنبيه عمر في قياسه الخمور على الشحوم على أن العلة في تحريم أثمانها تحريمها
ومن ذلك التنبيه في التشريك بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم على أن العلة الاشتراك في جهة الأمومة إلى غير ذلك من التنبيهات

ويدل على ما ذكرناه تصريح أكثر الصحابة فيما عملوا به بالرأي
قولهم اجتهاد الرأي أعم من القياس قلنا وإن كان الأمر على ما قيل غير أنا قد بينا أنه لم يكن ذلك مستندا إلى النصوص فتعين استناده إلى القياس والاستنباط
قولهم لا نسلم عمل الكل بالقياس قلنا وإن عمل به البعض فقد بينا أنه لم يوجد من الباقين في ذلك نكير فكان إجماعا
قولهم قد وجد الإنكار لا نسلم ذلك
وما ذكروه من صور الإنكار فهي منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس فلا بد من التوفيق بين النقلين لاستحالة الجمع بينهما والعمل بأحدهما من غير أولوية وعند ذلك فيجب حمل ما نقل عنهم من إنكار العمل بالرأي والقياس على ما كان من ذلك صادرا عن الجهال ومن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفا للنص وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار وما كان على خلاف القواعد الشرعية وما استعمل من ذلك فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين
هذا من جهة الإجمال وأما من جهة التفصيل أما قول أبي بكر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ولا شك أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي صلى الله عليه و سلم وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية
وأما قول عمر إياكم وأصحاب الرأي الخبر إلى آخره فإنما قصد به ذم من ترك الأحاديث وحفظ ما وجد منها وعدل إلى الرأي مع أن العمل مشروط بعدم النصوص
وقوله إياكم والمكايلة أي المقايسة فالمراد به المقايسة الباطلة لما ذكرناه

وأما قوله لأبي موسى الأشعري فإنما يفيد أن لو لم يكن القياس مما أجمع عليه أهل العلم وإلا فبتقدير أن يكون واجدا له فلا
وقول علي لعمر في مسألة الجنين لا يدل على أن كل اجتهاد خطأ ونحن لا ننكر الخطأ في بعض الاجتهادات كما سبق تعريفه
وأما قول عثمان وعلي لو كان الدين بالقياس
الخبر
فيجب حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ويكون المقصود منه أنه ليس كل ما أتت به السنن على ما يقتضيه القياس
وأما قول ابن عباس إن الله قال لنبيه الخبر ليس فيه ما يدل على عدم الحكم بالقياس إلا بمفهومه وليس بحجة على ما سبق بيانه
وقوله إياكم والمقاييس يجب حمله على المقاييس الفاسدة كالمقاييس التي عبدت بها الشمس والقمر وغير ذلك مما بيناه لما سلف من الجمع بين النقلين
وقوله إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه يجب حمله على الرأي المجرد عن اعتبار الشارع له لما سبق
وأما قول ابن عمر السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنما ينفع أن لو كان القياس ليس مما سنه الرسول
وقوله لا تجعلوا الرأي سنة أراد به الرأي الذي لا اعتبار له وإلا فالرأي المعتبر من السنة لا يكون خارجا عن السنة
وقوله إن قوما يفتون بآرائهم
الخبر
ليس فيه ما يدل على أن كل من أفتى برأيه يكون كذلك
ونحن لا ننكر أن بعض الآراء باطل

وقوله اتهموا الرأي على الدين غايته الدلالة على احتمال الخطإ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله
وقوله وإن الظن لا يغني من الحق شيئا المراد به استعمال الظن في مواضع اليقين لا أن المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة
وأما قول ابن مسعود إذا قلتم في دينكم بالقياس
الخبر يجب حمله على القياس الفاسد لما سبق
وقوله ويتخذ الناس رؤوسا جهالا
إلى آخره فالمراد به أيضا القياس الباطل ولهذا وصفهم بكونهم جهالا
وعلى ذلك يجب حمل قول عائشة في حق زيد بن أرقم وكذلك قول الشعبي ومسروق وابن سيرين جميعا بين النقلين كما سبق تقريره
قولهم لا نسلم أن السكوت يدل على الموافقة قلنا دليله ما سبق في مسائل الإجماع
قولهم لا نسلم أن إجماع الصحابة حجة قد دللنا عليه في مسائل الإجماع أيضا
وما ذكروه من القوادح في الصحابة فمن أقوال المبتدعة الزائغين كالنظام ومن تابعه من الرافضة
الضلال وقد أبطلنا ذلك كله في كتاب أبكار الأفكار في المواضع اللائقة بذلك
قولهم إنه حجة ظنية قلنا والمسألة أيضا عندنا ظنية
قولهم ما المانع أن يكون عملهم بالأقيسة المنصوص على عللها عنه أجوبة ثلاثة الأول أنه لو كان ثم نص لنقل كما ذكرناه في النصوص الدالة على الأحكام
الثاني أنه إذا كانت العلة منصوصة فإن لم يرد التعبد بإثبات الحكم

بها في غير محل النص فيمتنع إثباته لما يأتي في المسألة التي بعدها وإن ورد الشرع بذلك فالحكم يكون في الفرع ثابتا بالاستدلال أي بعلة منصوصة لا بالقياس على ما يأتي تقريره
وعلى هذا فلا يكونون عاملين بالقياس
الثالث أن ذلك يكون حجة على من أنكر القياس مطلقا وإن لم يكن حجة على النظام والقائلين بقوله
قولهم لا يلزم أن يكون القياس حجة بالنسبة إلى غير الصحابة قلنا القائل قائلان قائل يقول بالقياس مطلقا بالنسبة إلى الكل وقائل بنفيه مطلقا بالنسبة إلى الكل
وقد اتفق الفريقان على نفي التفصيل كيف وإنه حجة على من قال بنفيه مطلقا
وما ذكروه من المعارضة أما الآية الأولى فإنما تفيد أن لو لم يكن القياس مما عرف التعبد به من الله تعالى ورسوله وعند ذلك فيتوقف كون العمل بالقياس تقدما بين يدي الله ورسوله على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله وذلك متوقف على كون الحكم به تقدما بين يدي الله ورسوله فلا يكون حجة
وأما الآية الثانية والثالثة فجوابهما من ثلاثة أوجه الأول أنا نقول بموجب الآيتين وذلك لأنا إذا حكمنا بمقتضى القياس عند ظننا به فحكمنا به يكون معلوم الوجوب لنا بالإجماع لا أنه غير معلوم
الثاني أنه يجب حمل الآيتين على النهي عن القول بما ليس بمعلوم على ما تعبدنا فيه بالعلم جمعا بينهما وبين ما ذكرناه من الأدلة
الثالث أن الآيتين حجة على الخصوم في القول بإبطال القياس إذا هو غير معلوم لهم لكون المسألة غير علمية فكانت مشتركة الدلالة
وبمثل هذه الأجوبة يكون الجواب عن قوله تعالى { وإن الظن لا يغني

من الحق شيئا } ( يونس 36 ) وقوله { إن بعض الظن إثم } ( الحجرات 12 )
وأما قوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ( المائدة 49 ) فنحن نقول بموجبه فإن من حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل كيف وأن ذلك خطاب مع الرسول ولا يلزم من امتناع ذلك في حق الرسول لإمكان تعرفه أحكام الوقائع بالوحي امتناع ذلك في حق غيره
وقوله تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } ( الشورى 10 ) وقوله { فردوه إلى الله والرسول } ( النساء 59 ) غير مانع من القياس لأن العمل بالمستنبط من قول الله وقول الرسول حكم من الله ورد إليه وإلى الرسول
وأما من قال بإبطال القياس فلم يعمل بقول الله وقول الرسول ولا بما استنبط منهما فكان ذلك حجة عليه لا له
وقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ( الأنعام 38 ) وقوله { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ( الأنعام 38 ) فالمراد به أن الكتاب بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة وإما بواسطة الاستنباط منه أو دلالته على السنة والإجماع الدالين على اعتبار القياس فالعمل بالقياس يكون عملا بما بينه الكتاب لا أنه خارج عنه كيف وإنه مخصوص بالإجماع فإنا نعلم عدم اشتماله على تعريف العلوم الرياضية من الهندسية والحسابية بل وكثير من الأحكام الشرعية كمسائل الجد والإخوة وأنت علي حرام والمفوضة ومسائل العول ونحوه

وعند ذلك فيجب حمله على أن ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام المبينة به لا تفريط فيها حذرا من مخالفة عموم اللفظ
وأما ما ذكروه من السنة في ذم الرأي فيجب حمله على الرأي الباطل كما ذكرناه جمعا بين الأدلة

المسألة الثالثة إذا نص الشارع على علة الحكم
هل يكفي ذلك في تعدية الحكم بها إلى غير محل الحكم المنصوص دون ورود التعبد بالقياس بها اختلفوا فيه فقال أبو إسحاق الاسفرايني وأكثر أصحاب الشافعي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر لا يكفي ذلك
وقال أحمد بن حنبل والنظام والقاشاني والنهرواني وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة والكرخي يكفي ذلك في إثبات الحكم بها أين وجدت وإن لم يتعبد بالقياس بها
وقال أبو عبد الله البصري إن كانت العلة المنصوص عليها علة للتحريم وترك الفعل كان التنصيص عليها كافيا في تحريم الفعل بها أين وجدت وإن كانت علة لوجوب الفعل أو ندبه لم يكن ذلك كافيا في إيجاب الفعل بها ولا في ندبه أين وجدت دون ورود التعبد بالقياس لأن من تصدق على فقير لفقره بدرهم لا يجب أن يتصدق على كل فقير ومن أكل شيئا من السكر لأنه حلو لا يجب عليه أن يأكل كل سكر وهذا بخلاف من ترك أكل رمانة لحموضتها فإنه يجب عليه أن يترك كل رمانة حامضة
والمختار هو القول الأول لأنه إذا قال الشارع حرمت الخمر لأنه مسكر ولم يرد التعبد بإثبات التحريم بالمسكر في غير الخمر فالقضاء بالتحريم في غير الخمر كالنبيذ إما أن يكون ذلك لأن اللفظ اقتضى بعمومه تحريم كل مسكر وأن قوله حرمت الخمر لأنه مسكر نازل منزلة قوله

حرمت كل مسكر كما قاله النظام ومن قال بمقالته وإما لوجود العلة في غير الخمر لعدم إمكان قسم ثالث
فإن كان الأول فهوممتنع من حيث إن قوله حرمت الخمر لإسكاره لا دلالة له من جهة اللغة على تحريم كل مسكر كدلالة قوله حرمت كل مسكر ولهذا فإنه لو قال أعتقت عبيدي السودان عتق كل عبد أسود له ولو قال أعتقت سالما لسواده فإنه لا يعتق كل عبد له أسود وإن كان أشد سوادا من سالم وكذلك إذا قال لوكيله بع سالما لسوء خلقه لم يكن له التصرف في غيره من العبيد بالبيع وإن كان أسوأ خلقا من سالم
وإن كان الثاني فهو ممتنع لوجهين الأول أنه لو كان وجود ما نص على عليته كافيا في إثبات الحكم أينما وجدت العلة دون التعبد بالقياس للزم من قوله أعتقت سالما لسواده عتق غانم إذا كان مشاركا له في السواد وهو ممتنع
الثاني أنه من الجائز أن يكون ما وقع التنصيص عليه هو عموم الإسكار ومن الجائز أن يكون خصوص إسكار الخمر لما علم الله فيه من المفسدة الخاصة به التي لا وجود لها في غير الخمر
وإذا احتمل واحتمل فالتعدية به تكون ممتنعة إلا أن يرد التعبد بالتعدية
فإن قيل لم قلتم إن اللفظ لا يقتضي بعمومه تحريم كل مسكر وقوله أعتقت عبدي سالما لسواده دال على عتق غانم أيضا إذا كان أسود ولهذا فإن أهل اللسان وكل عاقل يناقضه في ذلك عند عدم إعتاقه ويقول له فغانم أيضا أسود فلم خصصت سالما بالعتق وكذلك القول في قوله لوكيله بع سالما لسواده
هذا بالنظر إلى المفهوم من اللفظة لغة وحيث لم يقع العتق بغير سالم ولا جاز بيعه شرعا فإنما كان لأن اللفظ وإن كان له على ذلك دلالة لكنها غير صريحة فالشارع قيد التصرف في أملاك العبيد بصريح القول نظرا لهم في

عاقبة الأمر لجواز طرو الندم والبداء عليهم بخلاف تصرف الشارع في الأحكام الشرعية
ولهذا فإنه لو قال الشارع حرمت الخمر لإسكاره وقيسوا عليه كل مسكر لزم منه تحريم كل مسكر
ولو قال لوكيله بع سالما لسواده وقس عليه كل أسود فإنه لا ينفذ تصرفه بذلك
وإن سلمنا أنه لا عموم في اللفظ ولكن لم قلتم إنه يمتنع إثبات الحكم لوجود العلة وما ذكرتموه من الوجه الأول فالعذر عنه ما ذكرناه من تقييد الشارع التصرف في أملاك العبيد بصريح القول دون غيره وما ذكرتموه من الوجه الثاني فغير صحيح لستة أوجه الأول أن العرف شاهد بأن الأب إذا قال لولده لا تأكل هذا فإنه مسموم وكل هذا لأنه غذاء نافع فإنه يفهم منه المنع من أكل كل طعام مسموم وجواز أكل كل غذاء نافع ولو أمكن أن يكون لخصوص الإضافة تأثير أو احتمل أن تكون داخلة في التعليل لما تبادر إلى الفهم التعميم من ذلك والأصل تنزيل التصرفات الشرعية على وفق التصرفات العرفية
الثاني أن الغالب من العلة المنصوص عليها أن تكون مناسبة للحكم حتى تخرج عن التعبد ولا مناسبة في خصوص إضافة الإسكار إلى الخمر بل المناسبة في كونه مسكرا لا غير
الثالث أنه لو لم يكن الوصف المنصوص عليه علة بعمومه بحيث يثبت به الحكم في موضع آخر بل العلة خصوص إضافة ذلك الوصف إلى محله لم يكن للتنصيص عليه فائدة وذلك لأن اختصاص الخمر بوصف الإسكار ملازم له غير مفارق فكان يكفيه أن يقول حرمت الخمر لا غير
الرابع أن أخذ خصوص إضافة الوصف المنصوص على عليته في التعليل على خلاف الظاهر في جميع التعاليل ولهذا فإن عقلاء العرب ما

نطقوا بعلة إلا وطردوها في غير المحل الذي أضافوها إليه ولهذا فإنهم إذا قالوا اضرب هذا الأسود لكونه سارقا فإنهم يلغون خصوص إضافة السرقة إلى الأسود حتى إن السرقة لو وجدت من أبيض كانت مقتضية لضربه
الخامس أنه لو أمكن أخذ خصوص إضافة الصفة إلى محلها في التعليل لما صح قياس أصلا
وذلك ممتنع
السادس أنه إذا قال الشارع حرمت التأفيف للوالدين فإنه يفهم منه كل عاقل تحريم ضربهما لما كان الشارع موميا إلى العلة وهي كف الأذى عنهما فإذا صرح بالعلة ونص عليها كان ذلك أولى بالتعدية ولو كان لخصوص الأذى بالتأفيف مدخل في التعليل لما فهم تحريم الضرب
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع التعدية فيما إذا قال حرمت الخمر لكونها مسكرة لكنه غير مطرد فيما إذا قال علة تحريم الخمر الإسكار حيث إنه لا إضافة
والجواب قولهم لم قلتم إن اللفظ بعمومه لا يقتضي ذلك قلنا لما ذكرناه
قولهم إن قوله أعتقت سالما لسواده مقتض بلفظه عتق غيره من العبيد السودان غير صحيح فإن اللفظ الدال على العتق إنما هو قوله أعتقت سالما وذلك لا دلالة له على غيره
وإن قيل إنه يدل عليه من جهة التعليل فهو عود إلى الوجه الثاني
قولهم إن العقلاء يناقضونه في ذلك بغانم
قلنا ليس ذلك بناء على عموم لفظ العتق لهما وإنما ذلك منهم طلبا لفائدة التخصيص لسالم بالعتق مع ظنهم عموم العلة التي علل بها
وإذا بطل القول بتعميم اللفظ فالعتق يكون منتفيا في غانم لعدم دلالة اللفظ على عتقه لا لما ذكروه كيف وإنه يجب اعتقاد ذلك حتى لا يلزم منه نفي العتق مع وجود دليله في

حق غانم لأنه لو دل اللفظ عليه لكان الأصل اعتبار لفظه في مدلوله نظرا إلى تحصيل مصلحة العاقل التي دل لفظه عليها
قولهم إنه لو قال لوكيله بع سالما لسواده وقس عليه كل أسود من عبيدي لا ينفذ تصرفه في غير سالم
لا نسلم ذلك فإنه لو قال له مهما ظهر لك من إرادتي ورضائي بشيء بالاستدلال دون صريح المقال فافعله فله فعله
فإذا قال أعتق سالما لسواده وقس عليه غيره فإذا ظهر أن العلة السواد الجامع بين سالم وغانم وأنه لا فارق بينهما فقد ظهر له إرادته لعتق غانم فكان له عتقه
قولهم لم قلتم بامتناع الحكم لوجود العلة قلنا لما ذكرناه من الوجهين وما ذكروه على الوجه الأول فإنما يصح أن لو كان ما ذكروه من العلة موجبا للحكم في غير محل النص ويجب اعتقاد انتفاء الحكم لانتفاء العلة حذرا من التعارض فإنه على خلاف الأصل
والجواب عما ذكروه على الوجه الثاني من الإشكال الأول أنا إنما قضينا فيما ذكروه بالتعميم نظرا إلى قرينة حال الآباء مع الأبناء وأنهم لا يفرقون في حقهم بين سم وسم وغذاء نافع وما في معناه من الأغذية النافعة وهذا بخلاف ما إذا حرم الله شيئا أو أوجبه فإن العادة الشرعية مطردة بإباحة مثل ما حرم وتحريم مثل ما أوجب حتى أنه يوجب الصوم في نهار رمضان ويحرمه في يوم العيد ويبيح شرب الخمر في زمان ويحرمه في زمان ويوجب الغسل من بول الصبية والرش من بول الغلام ويوجب الغسل من المني دون البول والمذي مع اتحاد مخرجهما ويوجب الحائض قضاء الصوم دون الصلاة ويبيح النظر إلى وجه الرقيقة الحسناء دون الحرة العجوز الشوهاء إلى غير ذلك مما ذكرناه فيما تقدم من التفرقة بين المتماثلات وعلى عكسه الجمع بين المختلفات وذلك لما علمه الله تعالى من اختصاص أحد المثلين بمصلحة مقارنة لزمانه لا وجود لها في مثله إذ ليست المصالح والمفاسد من الأمور التابعة

لذوات الأوصاف وطباعها حتى تكون لازمة لها بل ذلك مختلف باختلاف الأوقات
هذا كله إن قلنا بوجوب رعاية المصالح وإلا فلله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
وعن الإشكال الثاني أن النظر في التعليل إلى مناسبة القدر المشترك وإلغاء ما به الافتراق من الخصوصية إما أن يكون دالا على وجوب الاشتراك بين الأصل والفرع أو لا يكون موجبا له فإن كان موجبا فهو دليل التعبد بالقياس والتنصيص على العلة دونه لا يكون كافيا في تعدية الحكم وهو المطلوب وإن لم يكن موجبا للتعدية فلا أثر لإيراده
وعن الإشكال الثالث بأن فائدة التنصيص على العلة أن تعلم حتى يكون الحكم معقول المعنى إن كان الوصف مناسبا للحكم فإنه يكون أسرع في الانقياد وأدعى إلى القبول وأن ينتفي الحكم في محل التنصيص عند انتفائها ولمثل هذه الفائدة يكون التنصيص على الوصف وإن لم يكن مناسبا للحكم
وعن الإشكال الرابع ما ذكرناه في حل الإشكال الأول
وعن الإشكال الخامس أنه لا يلزم من إمكان أخذ خصوص المحل في التعليل إبطال القياس لجواز أن يقوم الدليل على إبطال أخذه في التعليل في آحاد الصور ومهما لم يقم الدليل على ذلك فالقياس يكون متعذرا
وعن السادس أنه إنما فهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم التأفيف لهما نظرا إلى القرينة الدالة على ذلك من إنشاء الكلام وسياقه لقصد إكرام الوالدين ودفع الأذى عنهما
ولا يخفى أن اقتضاء ذلك لتحريم الضرب أشد منه لتحريم التأفيف ولذلك كان سابقا إلى الفهم من تحريم التأفيف والتنبيه بالأدنى على الأعلى
أما أن يكون ذلك مستفادا من نفس اللفظ والتنصيص على العلة بمجرده فلا

وعن الإشكال الأخير أنه مهما قال جعلت شرب المسكر علة للتحريم فالحكم يكون ثابتا في كل صورة وجد فيها شرب المسكر بالعلة المنصوص عليها بجهة العموم حتى في الخمر وذلك من باب الاستدلال لا من باب القياس فإنه ليس قياس بعض المسكر هاهنا على البعض أولى من العكس لتساوي نسبة العلة المنصوصة إلى الكل ولا كذلك فيما نحن فيه
وعلى هذا فلا معنى لما ذكره أبو عبد الله البصري من التفصيل بين الفعل والترك وذلك لأنه لا مانع ولا بعد في تحريم الخمر لشدة الخمر خاصة دون غيره من المسكرات ولعلم الله باختصاصه بالحكمة الداعية إلى التحريم وأن يشرك بين المتماثلات في إيجاب الفعل أو تركه أو ندبه لعلمه باشتراكها في الحكمة الداعية إلى الإيجاب والندب
وأما من أكل سكرا فلم يأكله لمجرد حلاوته بل لحلاوته وصدق شهوته عند فراغ معدته فإذا زالت الشهوة بالأكل وامتلأت المعدة وتبدلت الحالة الأولى إلى مقابلها امتنع لزوم الأكل لكل سكر مرة بعد مرة حتى إنه لو لم تتبدل الحال لعم ذلك كل سكر وحلو

المسألة الرابعة مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الناس جواز إثبات
الحدود والكفارات بالقياس
خلافا لأصحاب أبي حنيفة
ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول
أما النص فتقرير النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ في قوله اجتهد رأيي مطلقا من غير تفصيل وهو دليل الجواز وإلا لوجب التفصيل لأنه في مظنة الحاجة إليه وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع
وأما الإجماع فهو أن الصحابة لما اشتوروا في حد شارب الخمر قال علي رضي الله عنه ( إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه

حد المفتري )
قاسه على حد المفتري ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك نكير فكان إجماعا
وأما المعقول فهو أنه مغلب على الظن فجاز إثبات الحد والكفارة به لقوله عليه السلام نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر وقياسا على خبر الواحد
فإن قيل ما ذكرتموه من الدلائل ظنية والمسألة أصولية قطعية فلا يسوغ التمسك بالظن فيها سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ولكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك من ثلاثة أوجه الأول أن الحدود والكفارات من الأمور المقدرة التي لا يمكن تعقل المعنى الموجب لتقديرها والقياس فرع تعقل علة حكم الأصل فما لا تعقل له من الأحكام علة فالقياس فيه متعذر كما في أعداد الركعات وأنصبة الزكاة ونحوها
الثاني أن الحدود عقوبات وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة والقياس مما يدخله احتمال الخطإ وذلك شبهة والعقوبات مما تدرأ بالشبهات لقوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات
الثالث أن الشارع قد أوجب حد القطع بالسرقة ولم يوجبه بمكاتبة الكفار مع أنه أولى بالقطع وأوجب الكفارة بالظهار لكونه منكرا وزورا ولم يوجبها في الردة مع أنها أشد في المنكر وقول الزور فحيث لم يوجب ذلك فيما هو أولى دل على امتناع جريان القياس فيه
والجواب عن الأول لا نسلم أن المسألة قطعية

وعن المعارضة الأولى أن الحكم المعدى من الأصل إلى الفرع إنما هو وجوب الحد والكفارة من حيث هو وجوب وذلك معقول بما علم في مسائل الخلاف لا أنه مجهول
وعن الثانية لا نسلم احتمال الخطإ في القياس على قولنا إن كل مجتهد مصيب وإن سلمنا احتمال الخطإ فيه لكن لا نسلم أن ذلك يكون شبهة مع ظهور الظن الغالب بدليل جواز إثبات الحدود والكفارات بخبر الواحد مع احتمال الخطإ فيه لما كان الظن فيه غالبا
وعن الثالثة من وجهين الأول أن غاية ما يقدر أن الشارع قد منع من إجراء القياس في بعض صور وجوب الحد والكفارة وذلك لا يدل على المنع مطلقا بل يجب اعتقاد اختصاص تلك الصور بمعنى لا وجود له في غيرها تقليلا لمخالفة ما ذكرناه من الأدلة
الثاني الفرق
وذلك أما بين السرقة ومكاتبة الكفار فلأن داعية الأراذل وهم الأكثرون متحققة بالنسبة إليها فلولا شرع القطع لكانت مفسدة السرقة مما تقع غالبا ولا كذلك في مكاتبة الكفار
وأما بين الظهار والردة فهو أن الحاجة إلى شرع الكفارة في الردة دون الحاجة إلى شرعها في الظهار وذلك لما ترتب على الردة من شرع القتل الوازع عنها بخلاف الظهار وربما أورد الأصحاب مناقضة على أصحاب أبي حنيفة في منعهم من إيجاب الكفارة بالقياس بإيجاب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان بالقياس على المجامع وهو غير لازم على من قال منهم بذلك وذلك لأن العلة عندهم في حق المجامع لإيجاب الكفارة مومى إليها في قصة الأعرابي وهي عموم الأفساد فالحكم في الأكل والشرب يكون ثابتا بالاستدلال أي بعلة مومى إليها لا بالقياس وذلك لأن القياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل إذ هو أحد أركان القياس لضرورة اعتبار العلة الجامعة والعلة إذا كانت

منصوصة أو مومى إليها فقد ثبت اعتبارها بالنص لا بحكم الأصل ومهما كان الحكم في الأصل غير ملتفت إليه في اعتبار العلة لاستقلال النص باعتبارها فلا يكون الحكم في الفرع ثابتا بالقياس لأن العمل بالقياس لا بد فيه من النظر إلى حكم الأصل
وقد قيل إنه لا نظر إليه بل غايته أن النص قد دل في الوقاع على الحكم وعلى العلة فالحكم في الفرع إذا كان ثابتا بالعلة المنصوصة لا يكون حكما بالقياس ولا بالنص لعدم دلالة النص عليه وإن دل على العلة ولا إجماع لوقوع الخلاف فيه وما كان ثابتا لا بنص ولا إجماع ولا قياس فالذي ثبت به هو المعبر عنه بالاستدلال

المسألة الخامسة ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى جواز إجراء القياس في
الأسباب
ومنع من ذلك أبو زيد الدبوسي وأصحاب أبي حنيفة وهو المختار
وصورته إثبات كون اللواط سببا للحد بالقياس على الزنى
ودليل ذلك أن الحكمة وهي كونه إيلاج فرج في فرج محرم مشتهى طبعا التي يكون الوصف سببا بها وهي الحكمة التي لأجلها يكون الحكم المرتب على الوصف ثابتا وعند ذلك فقياس أحد الوصفين على الآخر في حكم السببية لا بد وأن يكون لاشتراكهما في حكمة الحكم بالسببية
وتلك الحكمة إما أن تكون منضبطة بنفسها ظاهرة جلية غير مضطربة وإما أن تكون خفية مضطربة
فإن كان الأول فلا يخلو إما أن يقال بأن الحكمة إذا كانت منضبطة بنفسها يصح تعليل الحكم بها أو لا يصح إذ الاختلاف في ذلك واقع فإن قيل بالأول كانت مستقلة بإثبات الحكم ( وهو الحد ) المرتب على الوصف ولا

حاجة إلى الوصف المحكوم عليه بكونه سببا للاستغناء عنه وإن كان الثاني فقد امتنع التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها
وأما إن كانت خفية مضطربة فإما أن تكون مضبوطة بضابط أو لا فإن كانت مضبوطة بضابط فذلك الضابط لها هو السبب وهو القدر المشترك بين الأصل والفرع ولا حاجة إلى النظر إلى خصوص كل واحد من الوصفين المختلفين وهما الزنى واللواط هنا المقتضي على أحدهما بالأصالة والآخر بالفرعية
وإن لم تكن مضبوطة بضابط فالجمع بها يكون ممتنعا إجماعا لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع فإن الحكم مما يختلف باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال
فإن قيل ما المانع أن يكون الوصف الجامع بينهما هو الحكمة وما ذكرتموه من كون الحكمة إذا كانت خفية مضطربة يمتنع الجمع بها لاحتمال التفاوت فيها
قلنا احتمال التفاوت وإن كان قائما غير أن احتمال التساوي راجح وذلك لأنه يحتمل أن تكون الحكمة التي في الفرع مساوية لما في الأصل ويحتمل أن تكون راجحة ويحتمل أن تكون مرجوحة وعلى التقديرين الأولين فالمساواة حاصلة وزيادة على التقدير الثاني منهما وإنما تكون مرجوحة على التقدير الثالث وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب وقوعا من احتمال واحد بعينه فكان الجمع أولى ثم كيف وقد جعلتم القتل بالمثقل سببا لوجوب القصاص بالقياس على القتل بالمحدد وجعلتم اللواط سببا للحد بالقياس

على الزنا وجعلتم النية في الوضوء شرطا لصحة الصلاة بالقياس على نية التيمم
والجواب أما ما ذكروه من دليل ظهور التساوي في الحكمة فلا يخلو إما أن يكون ذلك كافيا في الجمع أو لا يكون كافيا فإن كان كافيا فليجمع بين الأصل والفرع في الحكم المرتب على السبب ولا حاجة إلى الجمع بالسبب وإن لم يكن ذلك كافيا فهو المطلوب
وما ذكروه من الإلزامات فلا وجه لها
أما قياس القتل بالثقل على المحدد فلم يكن ذلك في السببية وإنما ذلك في إيجاب القصاص بجامع القتل العمد العدوان وهو السبب لا غير
وأما قياس اللواط على الزنى فإنما كان ذلك في وجوب الحد بجامع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا وذلك هو السبب مع قطع النظر عن خصوصية الزنى واللواط
وأما قياس الضوء على التيمم فإنما هو في اعتبار النية بجامع الطهارة المقصودة للصلاة وذلك هو السبب لا أن القياس في الاشتراط
وعلى هذا النحو كل ما يرد من هذا القبيل

المسألة السادسة اختلفوا في جواز إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية
فأثبته بعض الشذوذ مصيرا منه إلى أن جميع الأحكام الشرعية من جنس واحد ولهذا تدخل جميعها تحت حد واحد وهو حد الحكم الشرعي وتشترك فيه وقد جاز على بعضها أن يكون ثابتا بالقياس وما جاز على بعض المتماثلات كان جائزا على الباقي وهو غير صحيح
وذلك أنه وإن دخلت جميع الأحكام الشرعية تحت حد الحكم الشرعي وكان الحكم الشرعي من

حيث هو حكم شرعي جنسا لها غير أنها متنوعة ومتمايزة بأمور موجبة لتنوعها
وعلى هذا فلا مانع أن يكون ما جاز على بعضها وثبت له أن يكون ذلك له باعتبار خصوصيته وتعينه لا باعتبار ما به الاشتراك وهو عام لها
كيف وإن ذلك مما يمتنع لثلاثة أوجه
الأول أنا قد بينا امتناع إجراء القياس في الأسباب والشروط وبينا أن حكم الشارع على الوصف بكونه سببا وشرطا حكم شرعي
الثاني أن ذلك مما يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعا وبيان لزوم ذلك أن كل قياس لا بد له من أصل يستند إليه على ما علم فلو كان كل حكم يثبت بالقياس لكان حكم أصل القياس ثابتا بالقياس وكذلك حكم أصل أصله فإن تسلسل الأمر إلى غير النهاية امتنع وجود قياس ما لتوقفه على أصول لا نهاية لها وإن انتهى إلى أصل لا يتوقف على القياس على أصل آخر فهو خلاف الفرض
الثالث أن من الأحكام ما ثبت غير معقول المعنى كضرب الدية على العاقلة ونحوه وما كان كذلك فإجراء القياس فيه متعذر وذلك لأن القياس فرع تعقل علة حكم الأصل وتعديتها إلى الفرع فما لا يعقل له علة فإثباته بالقياس يكون ممتنعا
خاتمة لهذا الباب القياس مأمور به لقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ( الحشر 2 ) كما سبق تقريره وهو منقسم إلى واجب ومندوب
والواجب منه منقسم إلى ما هو واجب على بعض الأعيان وذلك في حق كل من نزلت به نازلة من القضاة والمجتهدين ولا يقوم غيره فيها مقامه مع ضيق الوقت

وإلى ما هو واجب على الكفاية وذلك بأن يكون كل واحد من المجتهدين يقوم مقام غيره في تعريف حكم ما حدث من الواقعة بالقياس
وأما المندوب وهو القياس فيما يجوز حدوثه من الوقائع ولم يحدث بعد فإن المكلف قد يندب إليه ليكون حكمه معدا لوقت الحاجة وهل يوصف القياس بكونه دينا لله تعالى فذلك مما وصفه به القاضي عبد الجبار مطلقا ومنع منه أبو الهذيل وفصل الجبائي بين الواجب والمندوب منه فوصف الواجب بذلك دون المندوب
والمختار أن يقال إن عني بالدين ما كان من الأحكام المقصودة بحكم الأصالة كوجوب الفعل وحرمته ونحوه فالقياس واعتباره ليس بدين فإنه غير مقصود لنفسه بل لغيره
وإن عني بالدين ما تعبدنا به كان مقصودا أصليا أو تابعا فالقياس من الدين لأنا متعبدون به على ما سبق
وبالجملة فالمسألة لفظية

الباب الخامس في الاعتراضات الواردة على القياس
وجهات الانفصال عنها
أما الاعتراضات الواردة على قياس العلة فخمسة وعشرون اعتراضا
الاعتراض الأول الاستفسار وهو طلب شرح دلالة اللفظ المذكور وإنما يحسن ذلك إذا كان اللفظ مجملا مترددا بين محامل على السوية أو غريبا لا يعرفه السامع المخاطب فعلى السائل بيان كونه مجملا أو غريبا لأن الاستفسار عن الواضح عناد أو جهل
ولهذا قال القاضي أبو بكر ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام ولذلك وجب أن يكون سؤال الاستفسار أولا وما سواه متأخرا عنه لكونه فرعا على فهم معنى اللفظ وصيغه متعددة فمنها ( الهمزة ) كقوله أعندك زيد وهي الأصل في الاستفسار إذ لا ترد لغيره بخلاف غيرها من الأسئلة فإنها قد ترد لغير الاستفهام
فمن ذلك ( هل ) وهي تلي الهمزة في الرتبة إذ هي أصل في الاستفهام كقولك هل زيد موجود ولكنها قد ترد نادرا للتأكيد كقوله تعالى

{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر } ( الإنسان 1 ) والمراد به قد أتى
ومن ذلك ( ما ) فإنها قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك ما عندك ولكنها قد ترد للنفي كقولك ما رأيت أحدا وللتعجب كقولك ما أحسن زيدا إلى معان أخر ولذلك كانت متأخرة في الرتبة عن ( هل )
ومن ذلك ( من ) وهي قد ترد بمعنى الاستفهام كقولك من عندك وقد ترد بمعنى الشرط والجزاء كقوله عليه السلام من دخل دار أبي سفيان فهو آمن وقد ترد بمعنى الخبر كقولك جاءني من أحبه وهي مختصة بمن يعقل دون ما لا يعقل وهي متأخرة في الرتبة عن ( ما ) لأن ( ما ) قد ترد لما لا يعقل ولمن يعقل كقوله تعالى { والسماء وما بناها } أي ومن بناها
ومن ذلك ( أين ) وهي سؤال عن المكان
و ( متى ) عن الزمان
و ( كيف ) عن الكيفية
و ( كم ) عن الكمية
و ( أي ) عن التمييز
والهمزة تقوم مقام الكل في السؤال
وإذا ثبت أن شرط قبول الاستفسار كون اللفظ مجملا أو غريبا فيجب على السائل بيان ذلك لصحة سؤاله
فإن قيل لا خفاء بأن ظهور الدليل شرط في صحة الدليل كما سبق وإنما يتم الظهور أن لو لم يكن اللفظ مجملا فنفي الإجمال إذا شرط في الدليل وبيان شرط الدليل على المستدل لا على المعترض

قلنا ظهور الدليل وإن كان متوقفا على نفي الإجمال غير أن الأصل عدم الإجمال
وسؤال الاستفسار يستدعي الإجمال المخالف للأصل فكان بيانه على المستفهم ولا تقبل منه دعوى الإجمال بجهة الاشتراك أو الغرابة بناء على أنه لم يفهم منه شيئا فيما كان ظاهرا مشهورا في ألسنة أهل اللغة والشرع لانتسابه إلى العناد لعدم خفائه عليه في الغالب لكن إن بين الإجمال بجهة الغرابة بطريقة أو بجهة الاشتراك بسبب تردده بين احتمالين كفاه ذلك من غير احتياج إلى بيان التسوية بينهما لأن الأصل عدم الترجيح ولعدم قدرته على بيان التسوية وقدرة المستدل على الترجيح وطريق المستدل في جواب دفع الإجمال بجهة الغرابة التفسير إن عجز عن إبطال غرابته وفي جواب دفع الإجمال بجهة الاشتراك منع تعدد محامل اللفظ إن أمكن أو بيان الظهور في أحد الاحتمالين وله فيه طريق تفصيلي بالنقل عن أهل الوضع أو الشرع أو ببيان أنه مشهور فيه والشهرة دليل الظهور والحقيقة غالبا وطريق إجمالي وهو أن يقول الإجمال على خلاف الأصل لإخلاله بالتفاهم فيجب اعتقاد ظهوره في أحد الاحتمالين نفيا للإجمال عن الكلام وهو وإن لزم منه التجوز في أحدهما وهو خلاف الأصل أيضا غير أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز كما سبق تقريره
وإن تعذر عليه بيان ذلك فقد يقدر على دفع الإجمال أيضا بدعوى كون اللفظ متواطئا فيهما لموافقته لنفي الإجمال والتجوز أو أن يفسر لفظه بما أراد منهما

الاعتراض الثاني فساد الاعتبار ومعناه أن ما ذكرته من القياس لا يمكن اعتباره في بناء الحكم عليه لا لفساد في وضع القياس وتركيبه وذلك كما إذا كان القياس مخالفا للنص فهو فاسد الاعتبار لعدم صحة الاحتجاج به مع النص المخالف له
وقد مثل ذلك أيضا بقياس الكافر على المسلم في صحة الطهارة وبقياس الصبي على البالغ في إيجاب الزكاة من جهة الظهور الفرق بين الأصل والفرع
وعلى هذا النحو كل قياس ظهر الفارق في بين الأصل والفرع
وأقرب هذه الأمثلة إنما هو المثال الأول لأنه مهما ثبت أن القياس مخالف للنص كان باطلا لما سبق تقريره
وأما باقي الأمثلة فحاصلها يرجع إلى إبداء الفرق بين الأصل والفرع وهو سؤال آخر غير سؤال فساد الاعتبار وسيأتي الكلام عليه
وجوابه إما بالطعن في سند النص إن أمكن أو بمنع الظهور أو التأويل أو القول بالموجب أو المعارضة بنص آخر ليسلم له القياس أو أن يبين أن القياس من قبيل ما يجب ترجيحه على النص المعارض له بوجه من وجوه الترجيحات المساعدة له
الاعتراض الثالث فساد الوضع واعلم أن صحة وضع القياس أن يكون على هيئة صالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه وفساد الوضع لا يكون على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه
وقد مثله الفقهاء بما تلقي الحكم فيه من مقابله كتلقي التضييق من

التوسيع والتخفيف من التغليظ والإثبات من النفي وبالعكس وأن يكون ما جعله علة للحكم مشعرا بنقيض الحكم المرتب عليه وذلك كقولهم في النكاح بلفظ الهبة لفظ ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كلفظ الإجارة فإنه من حيث إنه ينعقد به غير النكاح يقتضي انعقاد النكاح به لا عدم الانعقاد لأن الاعتبار يقتضي الاعتبار لا عدم الاعتبار
وعلى هذا فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار وليس كل فاسد الاعتبار يكون فاسد الوضع لأن القياس قد يكون صحيح الوضع وإن كان اعتباره فاسدا بالنظر إلى أمر خارج كما سبق تقريره
ولهذا وجب تقديم سؤال فساد الاعتبار على سؤال فساد الوضع لأن النظر في الأعم يجب أن يتقدم على النظر في الأخص لكون الأخص مشتملا على ما اشتمل عليه الأعم وزيادة
وإذا عرف ما قررناه في سؤال فساد الوضع فلقائل أن يقول اقتضاء الوصف لنقيض الحكم المرتب عليه أما أن يدعي أنه يراد به اقتضاؤه له أنه مناسب نقيض الحكم على ما هو إشعار اللفظ وأما اعتبار الوصف في نقيض الحكم في صوره كما قاله بعض المتأخرين

فإن كان ذلك من الجهة التي تمسك بها المستدل فيلزم منه أن يكون وصف المستدل غير مناسب لحكمه ضرورة أن الوصف الواحد لا يناسب حكمين متقابلين من جهة واحدة ولكن يرجع حاصله إلى القدح في المناسبة وعدم التأثير لا إنه سؤال آخر
وإن كان ذلك من جهة أخرى فلا يمتنع مناسبة وصف المستدل لحكمه من الجهة التي تمسك بها ( ويرجع حاصله إلى سؤال الاشتراك في الدلالة وهو حقيقة المعارضة لأنه سؤال آخر وإن أريد باقتضائه لنقيض الحكم اعتباره في نقيض الحكم
فلا يخلو إما أن يكون معتبرا في نقيض الحكم من الجهة التي تمسك بها المستدل أو من جهة أخرى فإن كان من جهة أخرى فلا يقدح في اعتباره في حكم المستدل أو من جهة أخرى فإن كان من جهة أخرى فلا يقدح في اعتباره في حكم المستدل من جهته فإنه جاز أن يعتبر الوصف الواحد في حكمين متقابلين يكون من جهتين كالصلاة في الدار المعضوبة وإن كان معتبرا في نقيض الحكم من الجهة التي تمسك بها المستدل أو من جهة أخرى فإن كان من جهة أخرى فلا يقدح في اعتباره في حكم المستدل من جهته فإنه جاز أن يعتبر الوصف الواحد في حكمين متقابلين يكون من جهتين كالصلاة في الدار المعضوبة وإن كان معتبرا في نقيض الحكم من الجهة التي تمسك بها المستدل فإنه وإن منع من اعتباره في حكم المستدل ضرورة امتناع اعتباره من جهة واحدة في حكمين متقابلين غير أن حاصله يرجع إلى سؤال القلب كما يأتي تحقيقه وسواء كان اعتباره في نقيض الحكم متفقا عليه أو ثابتا بالدليل لأنه سؤال آخر وقد يشبه بسؤال النقض من وجه آخر من حيث أنا وجدنا العلة في صورة مع انتفاء الحكم لكن مع مزيد وهو كون العلة في صورة النقيض هو علة النقيض وجوابه من وجهين الأول مع اقتضاء الوصف لنقيض الحكم والقدح فيما أبداه المعترض الثاني أن نسلم ذلك ونبين أنه يقتضي الحكم الذي قصده من جهة أخرى

ثم لا يخلو إما أن تكون جهة المناسبة لنقيض الحكم معتبرة في صوره أو غير معتبرة فإن لم تكن معتبرة كان ما يبديه المستدل من جهة المناسبة كافيا في دفع السؤال ضرورة كونها معتبرة ومناسبة المعترض غير معتبرة
وإن كانت مناسبة المعترض معتبرة فإن أورد المعترض ما ذكره في معرض المعارضة فقد انتقل عن سؤاله الأول إلى سؤال المعارضة ووجب على المستدل الترجيح لما ذكره ضرورة التساوي في المناسبة والاعتبار وإن لم يورد ذلك في معرض المعارضة وبقي مصرا على السؤال الأول فلا يحتاج المستدل إلى الترجيح لكونه خاصا بالمعارضة
وهذا من مستحسنات صناعة الجدل فليتأمل
الاعتراض الرابع منع حكم الأصل ولما كان منع حكم الأصل من قبيل النظر في تفصيل القياس كان متأخرا عما قبله لكون ما قبله نظرا في القياس من جهة الجملة لا من جهة التفصيل
والنظر في الجملة يتقدم على النظر في التفصيل
ومثاله ما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة مثلا مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن
فقال الحنفي لا أسلم الحكم في الأصل فإن الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة
وقد اختلف الفقهاء في انقطاع المستدل بتوجيه منع حكم الأصل عليه فمنهم من قال بانقطاعه لأنه أنشأ الكلام للدلالة على حكم الفرع لا على حكم الأصل فإذا منع حكم الأصل فإما أن يشرع في الدلالة عليه أو لا يشرع فإن لم يشرع في الدلالة عليه لم يتم دليله على مقصوده وهو انقطاع وإن شرع في الدلالة عليه فقد ترك ما كان بصدد الدلالة عليه أولا

وعدم عما أنشأه من الدليل على حكم الفرع إلى الدلالة على حكم الأصل ولا معنى للانقطاع سوى هذا
ومنهم من قال لا يكون منقطعا لأنه إنما أنشأ الدليل على حكم الفرع إنشآء من يحاول تمشيته وتقريره وبالدلالة على حكم الأصل يحصل هذا المقصود لا أنه تارك لما شرع فيه أولا ولا منع من ذلك فإن الحكم في الفرع كما يتوقف على وجود علة الأصل في الأصل وكونها علة فيه وعلى وجودها في الفرع يتوقف علي ثبوت حكم الأصل وكل ذلك من أركان القياس ولم يمنع أحد من محاولة تقرير القياس عند منع وجود علة الأصل ومنع كونها علة فيه ومنع وجودها في الفرع من الدلالة على محل المنع فكذلك حكم الأصل ضرورة التساوي بين الكل في افتقار صحة القياس إليه
ومنهم من فصل بين أن يكون المنع خفيا وبين أن يكون ظاهرا فحكم بانقطاعه عند ظهور المنع وبعدم انقطاعه عند خفائه لظهور عذره
وهذا هو اختيار الاستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني
ومنهم من قال يجب اتباع عرف المكان الذي هو فيه ومصطلح أهله في ذلك
وهذا هو اختيار الغزالي
والمختار أنه لا يعد منقطعا إذا دل على موقع المنع لما قررناه فيما تقدم
وقد بينا شرط الدلالة على حكم الأصل في أركان القياس
وقد قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي لا يفتقر إلى الدلالة على محل المنع بل له أن يقول إنما قست على أصلي ولا وجه لذلك فإنه إن قصد إثبات الحكم على أصل نفسه فالخصم غير منازع له في ثبوت حكم الفرع على أصله ولا وجه للمناظرة بينهما في ذلك
وإن قصد إثبات الحكم في الفرع بالنسبة إلى الخصم بحيث يوجب الانقياد إليه فذلك متعذر مع منع حكم الأصل وعدم ثبوته بالدلالة
وإنما يتصور الاستغناء عن الدلالة على حكم الأصل إذا كان

اللفظ الدال على حكم الأصل عاما وهو منقسم إلى ممنوع وغير ممنوع كالدهن فإنه وإن منع الحكم في الطاهر منه فهو غير ممنوع في الدهن النجس وعند ذلك فله أن يقول إنما قست على الدهن النجس دون الطاهر وإن كان قياسي عليهما فغايته القياس على أصلين وقد بطل التمسك بأحدهما فيبقى التمسك بالآخر
وإذا ذكر الدليل على موقع المنع فمنهم من حكم بانقطاع المعترض لتبين فساد المنع وتعذر الاعتراض منه على دليل المستدل لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي في أول النظر
ومنهم من قال لا يعد منقطعا ولا يمنع من الاعتراض على دليل المنع ولا يكتفي من المستدل بما يدعيه دليلا وإلا لما كان لقبول المنع معنى بل الانقطاع إنما يتحقق في حق كل واحد بعجزه عما يحاوله نفيا وإثباتا وهذا هو المختار
الاعتراض الخامس التقسيم وهو في عرف الفقهاء عبارة عن ترديد اللفظ بين احتمالين أحدهما ممنوع والآخر مسلم غير أن المطالبة متوجهة ببناء الغرض عليه إما أنه لا بد من ترديده بين احتمالين لأنه لو لم يكن محتملا لأمرين لم يكن للترديد والتقسيم معنى بل كان يجب حمل اللفظ على ما هو دليل عليه وإما أنه لا بد وأن يكون احتمال اللفظ لهما على السوية لأنه لو كان ظاهرا في أحدهما لم يكن للتقسيم أيضا وجه بل كان يجب تنزيل اللفظ على ما هو ظاهر فيه كان ممنوعا أو مسلما
وذلك كما لو قال المستدل في البيع

بشرط الخيار وجد سبب ثبوت الملك للمشتري فوجب أن يثبت وبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل من المحل فقال المعترض السبب هو مطلق بيع أو البيع المطلق أي الذي لا شرط فيه الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بوجوده
ولقائل أن يقول التقسيم وإن كان من شرطه تردد اللفظ بين احتمالين على السوية فليس من شرطه أن يكون أحد الاحتمالين ممنوعا والآخر مسلما بل كما يجوز أن يكون كذلك يجوز أن يشترك الاحتمالان في التسليم ولكن بشرط أن يختلفا باعتبار ما يرد على كل واحد منهما من الاعتراضات القادحة فيه وإلا فلو اتحدا فيما يرد عليهما من الاعتراضات مع التساوي في التسليم لم يكن للتقسيم معنى بل كان يجب تسليم المدلول وإيراد ما يختص به
ولا خلاف أنهما لو اشتركا في المنع أن التقسيم لا يكون مفيدا
وعلى هذا فلو أراد المعترض تصحيح تقسيمه فيكفيه بيان إطلاق اللفظ بإزاء الاحتمالين من غير تكليف ببيان التساوي بينهما في دلالة اللفظ عليهما بجهة التفصيل لأن ذلك مما يعسر من جهة أن ما من وجه يبين التساوي فيه إلا وللمستدل أن يقول ولم قلت بعدم التفاوت من وجه آخر بلى لو قيل إنه يكلف التساوي بينهما من جهة الإجمال وهو أن يقول التفاوت يستدعي ترجح أحدهما على الآخر وزيادته عليه والأصل عدم تلك الزيادة لم يكن ذلك شاقا وكان وافيا بالدلالة على شرط التقسيم
ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما كما لو قال المستدل في مسألة الالتجاء إلى الحرم وجد سبب استيفاء القصاص فيجب استيفاؤه
وبين وجود السبب بالقتل العمل العدوان فقال المعترض متى يمكن القول بالاستيفاء إذا وجد المانع أو إذا لم يوجد الأول ممنوع والثاني مسلم
ولكن لم قلت إنه لم يوجد وبيان وجوده أن الحرم مانع وبينه بطريقة لم يخل إما أن يورد ذلك بناء على أن لفظ المستدل متردد بين الاحتمالين المذكورين أو على دعواه الملازمة بين الحكم ودليله

فإن كان الأول فهو باطل لعدم تردد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين وإن كان الثاني فإن اقتصر على المطالبة ببيان انتفاء المانع فهو غير مقبول لما تقرر في الاصطلاح من حط مؤنة ذلك عن المناظر في الموانع والمعارضات المختلف فيها وإن أضاف إلى ذلك الدلالة على وجود المعارض فحاصل السؤال يرجع إلى المعارضة ولا حاجة إلى التقسيم وإذا اتجه سؤال التقسيم على التفسير الأول
فجوابه من جهة الجدل من ستة أوجه الأول أن يعين المستدل بعض محامل لفظه ويبين أن اللفظ موضوع بإزائه حقيقة في لغة العرب إما بالنفل عن أهل الوضع أو الشارع الصادق أو ببيان كونه مشهورا به في الاستعمال فيكون حقيقة لأنه الغالب وبما يساعد من الأدلة ومع بيان ذلك فالتقسيم يكون مردودا لتبين فوات شرطه من التساوي في الدلالة
الثاني أن يقول إنه وإن لم يكن ظاهرا بحكم الوضع فيما عينته من الاحتمال غير أنه ظاهر بعرف الاستعمال كما في لفظ الغائط ونحوه
الثالث أنه وإن لم يكن ظاهرا بالأمرين إلا أنه ظاهر في عرف الشرع كلفظ الصلاة والصوم ونحوه
الرابع أنه وإن تعذر كونه ظاهرا بأحد الأنحاء المذكورة لكنه ظاهر بحكم ما اقترن به من القرائن المساعدة له في كل مسألة
الخامس أنه وإن تعذر بيان الظهورية بأحد الطرق المفصلة فله دفع التقسيم بوجه إجمالي وهو أن يقول الإجمال على خلاف الأصل فيجب اعتقاد ظهور اللفظ في بعض احتمالاته ضرورة نفي الإجمال عن اللفظ
ومع ذلك فالتقسيم لا يكون واردا
وقد يقدر على بيان كون اللفظ ظاهرا فيما عينه

بهذا الطريق الإجمالي وهو أن يقول إذا ثبت أنه لا بد وأن يكون اللفظ ظاهرا في بعض محامله نفيا للإجمال عن الكلام فيجب اعتقاد ظهوره فيما عينه المستدل ضرورة الاتفاق على عدم ظهوره فيما عداه أما عند المعترض فلضرورة دعواه الإجمال في اللفظ
وأما عند المستدل فلضرورة دعواه أنه ظاهر فيما ادعاه دون غيره
السادس أن يبين أن اللفظ له احتمال آخر غير ما تعرض له المعترض بالمنع والتسليم وأنه مراده إلا أن يحترز المعترض عن ذلك بأن يعين مجملا ويقول إن أردت هذا فمسلم
ولكن لم قلت ببناء الغرض عليه
وإن أردت ما عداه فممنوع
فما مثل هذا الجواب لا يكون متجها وإن أراد المستدل الجواب الفقهي فإن كان قادرا على تنزيل كلامه على أحد القسمين فالأولى في الاصطلاح تنزيله على أحدهما حذرا من التطويل وليكن منزلا على أسهلهما في التمشية والقرب إلى المقصود إن أمكن وإن كان الجمع جائزا شرعا
وإن لم يقدر على شيء من ذلك كان منقطعا
وأما موقع سؤال التقسيم فيجب أن يكون بعد منع حكم الأصل لكونه متعلقا بالوصف المتفرع عن حكم الأصل وأن يكون مقدما على منع وجود الوصف لدلالة منع الوجود على تعيين الوصف والتقسيم على الترديد وإن يكون مقدما على سؤال المطالبة بتأثير الوصف المدعي علة لكونه مشعرا بترديد لفظ المستدل بين أمرين والمطالبة بتأثير الوصف مشعرة بتسليم كونه مدلولا للفظ لا غير ضرورة تخصيصه بالكلام عليه وإلا كان التخصيص به غير مفيد وإيراد ما يشعر بالترديد بعد ما يشعر بتسليم اتحاد المدلول يكون متناقضا
وقد علل ذلك بعض أرباب الاصطلاح بأن المطالبة بتأثير الوصف

تستدعي تسليم وجود الوصف
والتقسيم مشتمل على منع الوجود ومنع الوجود بعد تسليم الوجود لا يكون مقبولا لما فيه من التناقض وهو غير صحيح لوجهين الأول أن ما ذكره إنما هو مبني على أن أحد القسمين لا بد وأن يكون ممنوع الوجود وليس كذلك لما سبق في مبدأ السؤال وبتقدير أن يكون أحد القسمين ممنوع الوجود فإنما يلزم التناقض والمنع بعد التسليم أن لو كان ما أورد عليه سؤال المطالبة أو لا هو نفس القسم الذي منع وجوده في التقسيم وبتقدير أن يكون غيره فلا
وبالجملة فيمتنع أيضا قبول سؤال التقسيم بعد سؤال الاستفسار لأن المسؤول إن كان قد دفع سؤال الاستفسار جدلا بنفي الإجمال فالتقسيم بعده لا يرد ضرورة توقفه على الإجمال وقد انتفى
وإن أجاب عنه بتعيين ما قصده بكلامه فبعد التعيين لا حاجة إلى التقسيم بل يجب ورود الاعتراض على عينه دون غيره
الاعتراض السادس منع وجود العلة في الأصل ولكون النظر في علة الأصل متفرعا عن حكم الأصل وجب تأخيره عن النظر في حكم الأصل وعن التقسيم لما ذكرناه في السؤال الذي قبله
ومثاله ما لو قال الشافعي في مسألة جلد الكلب مثلا حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير فيقول الخصم لا أسلم وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعا
وجوابه بذكر ما يدل على وجوده من العقل أو الحس أو الشرع على حسب حال الوصف في كل مسألة أو أن يفسر لفظه بما لا يمكن الخصم منعه وإن كان احتمال اللفظ له بعيدا
وذلك كما لو قال في المثال المذكور أعني به ما إذا لم يغلب على ظنه الطهارة

وإن فسر لفظه بما له وجود في الأصل غير أن لفظه لا يحتمله لغة فالمختار أنه لا يقبل وإن ذهب إلى قبوله بعض المتأخرين وذلك لأن وضع اللفظ إنما كان لقصد تحصيل المعنى منه وأن يعرف كل أحد ما في ضميره لغيره بواسطة اللفظ المستعمل وذلك مشروط بضبط الوضع ضبطا يمتنع معه دخول الزيادة والنقصان
وإذا قبل من كل أحد تفسير لفظه بما لا يحتمله لغة حالة عجزه عن تقرير كلامه أفضى ذلك إلى اضطراب اللغة وإبطال فائدة وضعها كيف وإن إطلاقه لذلك اللفظ دليل ظاهر على إرادة مدلوله وعدوله عند المنع مشعر بالانقطاع في تقريره
الاعتراض السابع منع كون الوصف المدعى علة ولما كانت العلية صفة للوصف المذكور ومتوفقة على وجوده وجب أن يكون النظر فيها نفيا وإثباتا متأخرا عن النظر في وجود الوصف
وهذا هو أعظم الأسئلة الواردة على القياس لعموم وروده على كل ما يدعى كونه علة واتساع طرق إثباته وتشعب مسالكه كما تقدم تقريره
وقد اختلف العلماء في قبوله نفيا وإثباتا والمختار لزوم قبوله
وذلك لأن إثبات الحكم في الفرع مما لا يمكن إسناده إلى مجرد إثبات حكم الأصل دون جامع بينهما

والجامع يجب أن يكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة على ما سبق تقريره
والوصف الطردي لا يصلح أن يكون باعثا فيمتنع التمسك به في القياس فلو لم يقبل منع تأثير الوصف والمطالبة بتأثيره أفضى ذلك إلى التمسك بالأوصاف الطردية ثقة من المتكلم بامتناع مطالبته بالتأثير
ولا يخفى وجه فساده
وأيضا فإن الأصل عدم الدليل الدال على جواز التمسك بالقياس غير أنا استثنينا منه ما كانت علة القياس فيه مخيلة أو شبهية لإجماع الصحابة عليه ولم ينقل عنهم أنهم تمسكوا بقياس علته طردية فبقينا فيه على حكم الأصل
فلذلك وجب قبول سؤال منع التأثير وبيان كون الوصف مؤثرا
وعند هذا فلا بد من ذكر شبه الرادين له وتحقيق جوابها
وقد احتجوا بشبه
الأولى أنه لو قبل سؤال منع التأثير فما من دليل يذكره المستدل على كون الوصف علة إلا وهذا السؤال وارد عليه إلى ما لا يتناهى فيجب رده حفظا للكلام عن الخبط والنشر
الثانية أنه لا معنى للقياس سوى رد الفرع إلى الأصل بجامع وقد أتى به المستدل وخرج عن وظيفته فعلى المعترض القدح فيه
الثالثة أن الأصل أن كل ما ثبت الحكم عقيبه في الأصل أن يكون علة فمن ادعى أن الوصف الجامع ليس بعلة احتاج إلى بيانه
الرابعة أنا بحثنا فلم نجد سوى هذه العلة فعلى المعترض القدح فيها أو إبداء غيرها
الخامسة أنهم قالوا عجز المعترض عن الاعتراض على الوصف المذكور دليل صحته كالمعجزة فالمنع من الصحة مع وجود دليل الصحة لا يكون مقبولا

السادسة قولهم حاصل هذا السؤال يرجع إلى المنازعة في علة الأصل ويجب أن يكون متنازعا فيها ليتصور الخلاف في الفرع
السابعة أن حاصل القياس يرجع إلى تشبيه الفرع بالأصل والشبه حجة
وقد تحقق ذلك بما ذكر من الوصف الجامع فلا حاجة إلى إبداء غيره
الثامنة قولهم هذا الوصف مطرد لم يتخلف حكمه عنه في صورة فكان صحيحا
والجواب عن الأولى أن التسلسل منقطع بذكر ما يفيد أدنى ظن بالتعليل من الطرق التي بيناها قبل فإن المطالبة بعلية ما غلب على الظن كونه علة بعد ذلك يكون عنادا وهو مردود إجماعا
وعن الثانية بمنع تحقق القياس بجامع لا يغلب على الظن كونه علة
وعن الثالثة بمنع أن الأصل علية كل ما ثبت الحكم معه من الأوصاف
وعن الرابعة أن البحث مع عدم الاطلاع على غير الوصف المذكور طريق من طرق إثبات العلة كما سبق فكان ذلك جوابا عن سؤال المطالبة وقبولا له لا أنه رد له
وعن الخامسة أنه لو كان عجز المعترض عن الاعتراض دليل صحة العلة لكان عجز المستدل عن تصحيح العلة دليل فسادها ولا أولوية ولكان عجز المعترض عن الاعتراض على إبطال ما ادعى من الحكم في الفتوى دليلا على ثبوت الحكم ولم يقل به قائل
وعن السادسة أن علة الأصل وإن كانت متنازعا فيها فلا بد من دليل ظني يدل على كونها علة كما في الحكم المختلف فيه
وعن السابعة أن إثبات الحكم في الفرع متوقف على ظن إثباته ولا نسلم أن مطلق المشابهة بين الأصل والفرع في مطلق وصف مفيد للظن الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز و جل

وعن الثامنة أن حاصلها يرجع إلى الاكتفاء بالوصف الطردي لكونه غير منتقض وهو باطل بما سبق في طرق إثبات العلة
وإذا علم أنه لا بد من قبول سؤال المطالبة بالتأثير وأنه لا بد من الدلالة على كون الوصف علة وطريق إثبات ذلك ما يساعد من الأدلة التي قررناها قبل
الاعتراض الثامن سؤال عدم التأثير وهو إبداء وصف في الدليل مستغنى عنه في إثبات الحكم أو نفيه
وقد قسمه الجدليون أربعة أقسام الأول عدم التأثير في الوصف وذلك بأن يكون الوصف المأخوذ في الدليل طرديا لا مناسبة فيه ولا شبه وذلك كما يقال في صلاة الصبح صلاة لا يجوز قصرها فلا تقدم في الأداء على وقتها كالمغرب فإن عدم القصر وصف طردي بالنسبة إلى الحكم المذكور
الثاني عدم التأثير في الأصل وهو أن يكون الوصف قد استغني عنه في إثبات الحكم في الأصل المقيس عليه بغيره وذلك كما إذا قال المستدل في بيع الغائب مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء والسمك في الماء فإن ما وجد في الأصل من العجز عن التسليم مستقل بالحكم
وهذا النوع مما اختلف فيه فرده الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني ومن تابعه مصيرا منهم إلى أنه إشارة إلى علة أخرى في الأصل ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد في محل واحد بعلتين

ومنهم من قبله مصيرا منهم إلى امتناع تعليل الحكم بعلتين وقد سبق تقرير كل واحد من المأخذين وما هو المختار منهما
الثالث عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل وذلك كما لو قال المستدل في مسألة المرتدين إذا أتلفوا أموالنا طائفة مشركة فلا يجب عليهم الضمان بتلف أموالنا في دار الحرب كأهل الحرب فإن الإتلاف في دار الحرب لا تأثير له في نفي الضمان ضرورة الاستواء في الحكم عندهم بين الإتلاف في دار الحرب ودار الإسلام
وحاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم المذكور إن كان طرديا أو إلى سؤال الإلغاء إن كان مؤثرا
الرابع عدم التأثير في محل النزاع وهو أن يكون الوصف المذكور في الدليل لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا
وذلك كما لو قال المستدل في مسألة ولاية المرأة زوجت نفسها من غير كفوء فلا يصح نكاحها
وذلك من حيث إن النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها من الكفء وغير الكفء
وهذا أيضا مما اختلف في قبوله فرده قوم مصيرا منهم إلى منع جواز الفرض في الدليل وقبله من لم يمنع من ذلك وهو المختار على ما عرفناه في كتاب الجدل
وإذا بطل القسم الرابع وهو عدم التأثير في محل النزاع ورجع حاصل القسم الثالث وهو عدم التأثير في الحكم إلى عدم التأثير في الوصف أو الإلغاء فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وعدم التأثير في الأصل
وعدم التأثير في الوصف راجع إلى بيان انتفاء مناسبة الوصف وسؤال المطالبة يغني عنه وجوابه جوابه فلا يجتمعان وعدم التأثير في الأصل فحاصله يرجع إلى المعارضة في الأصل لا أنه غيره
وجوابه جوابه كما يأتي
ومع ذلك كله فقد

يكون أخذ الوصف الذي لا يناسب الحكم في الدليل مفيدا بأن يكون مشيرا إلى نفي المانع الموجود في صورة النقض أو وجود الشرط الفائت فيها لقصد دفع النقض أو مشيرا إلى قصد الفرض في الدليل في بعض صور النزاع كما ذكر من مثال أخذ الإتلاف في دار الحرب في مسألة المرتدين ولا يكون عديم التأثير إذ هو غير مستغنى عنه في إثبات الحكم إما لقصد دفع النقض أو لقصد الفرض
الاعتراض التاسع القدح في مناسبة الوصف المعلل به وذلك بما يلزم من ترتيب الحكم على وفقه لتحصيل المصلحة المطلوبة منه وجود مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها
وقد بينا وجه الاختلاف فيه وأن المختار إبطاله لا أن يبين ترجيح المصلحة على المفسدة إما بطريق إجمالي أو تفصيلي كما بيناه فيما سبق
الاعتراض العاشر القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى ما علل به من المقصود وذلك كما لو عللت حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء إلى سد باب الفجور بالحرمة المؤبدة وعلم الرجل امتناع وصوله إلى الأنثى على الوجه المشروع حتى ينسد عليه باب الطمع في مقدمات الهم بها والنظر إليها فإن للمعترض أن يقول هذا الحكم غير صالح لإفضائه إلى هذا المقصود من حيث إن سد باب النكاح أدعى إلى محذور الوقوع في الزنى
وجوابه أن الحرمة المؤبدة مما تمنع من النظر إلى المرأة بشهوة عادة والامتناع العادي على مر الزمان يلتحق بالامتناع الطبعي وبه يتحقق انسداد باب الفجور

الاعتراض الحادي عشر أن يكون الوصف المعلل به باطنا خفيا وذلك لو علل بالرضا أو القصد فإنه قد يقال القصد والرضا من الأوصاف الباطنة الخفية التي لا يطلع عليها بأنفسها فلا تكون علة للحكم الشرعي الخفي ولا معرفة له
وجوابه أن يبين ضبط الرضا بما يدل عليه من الصيغ الظاهرة وضبط القصد بما يدل عليه من الأفعال الظاهرة
وكل ذلك معلوم في الخلافيات
الاعتراض الثاني عشر أن يكون الوصف المعلل به مضطربا غير منضبط كالتعليل بالحكم والمقاصد مثل التعليل بالحرج والمشقة والزجر والردع ونحوه
فإنه قد يقال مثل هذه الأوصاف مما تضطرب وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال
وما هذا شأنه فدأب الشارع فيه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية دفعا للعسر والحرج عن الناس في البحث عنها ومنعا للاضطراب في الأحكام عند اختلاف الصور بسبب الاختلاف في هذه الأوصاف بالزيادة والنقصان
وجوابه إما ببيان كون ما علل به مضبوطا بنفسه أو بضابطه كضبط الحرج والمشقة بالسفر ونحوه
الاعتراض الثالث عشر النقض وهو عبارة عن تخلف الحكم مع وجود ما ادعى كونه علة له وقد أومأنا في مسألة تخصيص العلة إلى وجه دلالة ذلك على إبطالها ووجه الانفصال عنه فيما إذا كانت العلة منصوصة أو مجمعا عليها أو مستنبطة وفي صورة

النقض مانع أو فوات شرط بالاستقصاء التام المفصل والذي يختص بما نحن فيه هاهنا وجوه أخر في الجواب الأول منع وجود العلة في صورة النقض إن أمكن
وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة زكاة الحلي مال غير نام فلا تجب فيه الزكاة كثياب البذلة
فقال المعترض هذا ينتقض بالحلي المحظور فإنه غير نام ومع ذلك فإن الزكاة تجب فيه
فقال المستدل لا أسلم أن الحلي المحظور غير نام وإنما كان منع وجود العلة في صورة النقض دافعا للنقض لأن النقض وجود العلة ولا حكم فإذا لم توجد العلة في صورة النقض فلا نقض لكن اختلفوا في المعترض هل له الدلالة على وجود العلة في صورة النقض عند منع المستدل لوجودها فمنهم من قال له ذلك إذ به يتحقق انتقاضها وهدم كلام المستدل فكان له ذلك كغيره من الاعتراضات
ومنهم من منع من ذلك لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضا والمعترض مستدلا
والواجب إنما هو التفصيل وهو أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه تحققا لفائدة المناظرة وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا نعم لو كان المستدل قد دل على وجود العلة في محل التعليل بدليل هو موجود في صورة النقض فإذا منع وجود العلة فإن قال المعترض فقد انتقض الدليل الذي دللت به على وجود العلة لا يكون مسموعا لكونه انتقالا من النقض على نفس العلة إلى النقض على دليلها
وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تبييت النية وتعيينها أي بمسمى الصوم فوجب أن يصح كما في محل الوفاق ودل على وجود الصوم بقوله إن الصوم عبارة في الإمساك مع النية وهو موجود فيما نحن فيه

فقال المعترض هذا منتقض بما إذا نوى بعد الزوال
وإن قال المعترض للمستدل ابتداء أمرك لا يخلو من حالين إما أن تعتقد وجود الصوم في صورة النقض أو لا تعتقده
فإن كان الأول فقد انتقضت علتك وإن كان الثاني فقد انتقض ما ذكرته من الدليل على وجود العلة كان متجها
وإن أورد ذلك لا في معرض نقض دليل وجود العلة بل في معرض الدلالة به على وجود العلة ي صورة النقض فالحكم فيه على ما سبق في الدلالة على نفي الحكم في صورة النقض فهو غير مسموع على ما يأتي الثاني منع تخلف الحكم وإنما كان ذلك دافعا للنقض لما ذكرناه في منع وجود العلة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة ثيب فلا يجوز إخبارها كالثيب البالغ فقال المعترض هذا منقوض بالثييب المجنونة فإنه يجوز إجبارها
فقال المستدل لا نسلم صحة إجبار الثيب المجنونة
والكلام في تمكين المعترض من الاستدلال على تخلف الحكم في صورة النقض كالكلام في دلالته على وجود العلة وقد عرف ما فيه
الثالث أن يكون النقض على أصل المستدل خاصة وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الرطب بالتمر باع مال الربا بجنسه متفاضلا فلا يصح كما لو باع صاعا بصاعين فقال الحنفي هذا منتقض على أصلك بالعرايا فإنه يصح وإن باع مال الربا بجنسه متفاضلا

وجوابه من ثلاثة أوجه الأول أن يبين في صورة النقض مناسبا يقتضي النفي من مانع أو فوات شرط مع قران الحكم به على أصله
الثاني أن يقول النقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل العلة فتخلف الحكم عن العلة إنما هو على مذهب أحد الفريقين وثبوت الحكم على وفق العلة المعلل بها بالاتفاق ولا مساواة بين المتفق عليه والمختلف فيه فلا يقع في معارضة دليل العلة
الثالث أن يبين أن تخلف الحكم عن العلة في معرض الاستثناء والمستثنى لا يقاس عليه ولا يناقض به كما في صورة العرايا المذكورة
الرابع أن يكون إبداء النقض على أصل المعترض لا غير وتوجيهه أن يقول المعترض هذا الوصف مما لم يطرد على أصلي فلا يلزمني الانقياد إليه
وجوابه أن يقول المستدل ما ذكرته حجة عليك في الصورتين إذ هي محل النزاع ومذهبك في صورة النقض لا يكون حجة في درء الاحتجاج وإلا كان حجة في محل النزاع وهو محال
وهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله عن النقض اختلفوا فمنهم من قال بوجوبه لقربه من الضبط وبعده عن النشر والخبط ولأن ما أشار إليه المستدل من الوصف المعلل به إذا كان منتقضا فإما أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لا لمعارض أو لمعارض فإن كان الأول فلا يكون الوصف علة لما سبق تقريره في مسألة تخصيص العلة
وإن كان الثاني فقد ثبت أن للعلة معارضا متفقا عليه فلا بد من نفيه في الدليل لأن المناظر تلو الناظر وليس للناظر الجزم بالحكم عند ظهور سببه

دون ظهور انتفاء معارضه فكذلك المناظر غير أنا أسقطنا عنه كلفة نفي المعارض المختلف فيه لعسر نفيه فبقينا فيما عداه على حكم الأصل
ومنهم من لم يوجبه تمسكا منه بأن ما يقع به الاحتراز عن النقض إما أن يكون من جملة أجزاء العلة أو خارجا عنها فإن كان الأول فالعلة لا تكون علة دونه وما مثل هذا لا خلاف في وجوب ذكره في العلة لعدم تمام العلة دونه ومن نازع فيه فقد نازع في أنه هل يجب على المستدل ذكر العلة أو لا وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون مشيرا إلى نفي المعارض أو لا يكون كذلك فإن كان الأول
فقد تعرض لما لم يسأل عنه لكونه مسؤولا بعد الفتوى عن الدليل المقتضي للحكم وانتفاء المعارض ليس من الدليل ولو قيل إنه من الدليل كان خلاف الغرض في هذا القسم
وإن كان الثاني فالنقض غير مندفع به لأن النقض عبارة عن وجود العلة ولا حكم فإذا كان المذكور خارجا عن العلة ولا فيه إشارة إلى نفي المعارض فالعلة ما دونه وقد وجدت في صورة النقض ولا معارض فكان النقض متجها
وإن قيل إن الوصف المأخوذ للاحتراز من جملة العلة لتعلق فائدة دفع النقض به وإن لم يكن مناسبا فقد سبق إبطاله في تخصيص العلة
الاعتراض الرابع عشر الكسر وهو النقض على المعنى
وقد ذكرنا طريق إيراده ووجه الانفصال عنه في شروط العلة
ويخصه من الأجوبة هاهنا منع وجود المعنى المشار إليه في صورة

النقض ومنع تخلف الحكم عنه وباقي الأجوبة التي أوردناها في سؤال النقض قبله
الاعتراض الخامس عشر المعارضة في الأصل بمعنى وراء ما علل به المستدل وسواء كان مستقلا بالتعليل كمعارضة من علل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم أو بالكيل أو بالقوت أو غير مستقل بالتعليل على وجه يكون داخلا في التعليل وجزءا من العلة وذلك كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل ونحوه
وقد اختلف الجدليون في قبوله فمنهم من رده بناء منه على أنه لا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين كما سبق تقريره ولهذا فإنا لو قدرنا انفراد ما ذكر المستدل مجردا عن المعارض صح التعليل به إجماعا وإنما صح التعليل به لصلاحية فيه لا لعدم المعارض فإن العدم لا يكون علة ولا داخلا فيها لما سبق تقريره
فإذا صح التعليل به مع عدم المعارض صح مع وجوده ولأنه لا معنى للعلة إلا ما يثبت الحكم عقيبها وهذا المعنى موجود في الوصفين فكان كل واحد علة
ومنهم من قبله وأوجب جوابه على المستدل وهو المختار
وذلك لأنه إذا وجد في الأصل وصفان
فإما أن يكون كل واحد علة مستقلة أو لا يكون كذلك لا جائز أن يكون كل واحد علة مستقلة لما سبق تقريره في امتناع ذلك سواء كانت العلة بمعنى الأمارة أو الباعث
وإن كان القسم الثاني فإما أن يكون الحكم ثابتا لما ذكره المستدل لا غير أو لما ذكره المعترض لا غير أو لهما جميعا بحيث تكون العلة مجموع الوصفين وكل واحد منهما جزؤها
لا جائز أن يقال بالأول ولا بالثاني

فإنه ليس تعيين أحدهما للتعليل وإلغاء الآخر مع تساويهما في الاقتضاء أولى من الآخر فلم يبق غير الثالث
ويلزم منه امتناع تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع
وبتقدير تساوي الاحتمالات الثلاثة فلا يخفى أن التعدية تمتنع بتقدير أن تكون العلة ما ذكره المعترض
وبتقدير أن تكون العلة هي الهيئة الاجتماعية من الوصفين
وإنما يصح بتقدير التعليل بما ذكره المستدل لا غير
ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه
ومع ذلك فالتعدية تكون ممتنعة لكن بشرط أن يكون ما أبداه المعترض صالحا للتعليل أو لدخوله فيه عند كون ما أبداه المستدل صالحا وإلا فلا معارضة وهل يجب على المعترض نفي ما أبداه معارضا في الأصل في الفرع اختفوا فيه فمنهم من قال لا يجب عليه ذلك فإنه إن كان موجودا في الفرع فيفتقر المستدل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق
وإن لم يبين ذلك فقد انقطع الجمع
ومنهم من قال لا بد له من نفيه عن الفرع لأن مقصوده الفرق
وذلك لا يتم دون نفيه عن الفرع
والمختار أنه إن قصد المعترض الفرق فلا بد له من نفيه وإن لم يقصد الفرق بأن يقول هذا الوصف قد ثبت أنه لا بد من إدراجه في التعليل لما دل عليه من الدليل فإن كان غير موجود في الفرع فقد ثبت الفرق وإن كان موجودا في الفرع فالحكم يكون ثابتا في الفرع بمجموع الوصفين ونتبين أن المستدل لم يكن ذاكرا للعلة في الابتداء بل لبعضها وأي الأمرين قدر فالإشكال لازم
هذا كله فيما إذا كان المقيس عليه أصلا واحدا

وإن كان المقيس عليه أصولا متعددة فمنهم من منع من ذلك لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بالواحد منها ومنهم من جوز ذلك لكونه أقوى في إفادة الظن
ومن جوز ذلك اختلفوا في جواز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد فمنهم من جوزه لأن المستدل قصد إلحاق الفرع بجميع الأصول فإذا وقع الفرق بين الفرع وبعض الأصول فقد تم مقصود المعترض من إبطال غرض المستدل ومنهم من قال لا بد من المعارضة في كل أصل لأنه إذا عارض في البعض دون البعض فقد بقي قياس المستدل صحيحا على الأصل الذي لم يعارض فيه وبه يتم المقصود من إثبات الحكم أو نفيه والذين أوجبوا المعارضة في جميع الأصول
منهم من أوجب اتحاد المعارض في الكل دفعا لانتشار الكلام ولأن يكون مقابلا في اتحاده لاتحاد وصف المستدل ومنهم من جوز المعارضة في كل أصل بغير ما في الأصل الآخر لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة
ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال يجوز للمستدل الاقتصار في الجواب على أصل واحد إذ به يتم مقصوده ومنهم من لم يجوز ذلك حيث إن المستدل التزم صحة القياس على الكل وعلى هذا يقع الخلاف فيما لو عارض في بعض الأصول هل يجب على المستدل الجواب أو لا والوجه في الجواب من ستة أوجه

الأول منع وجود الوصف المعارض به في الأصل
الثاني المطالبة بتأثير الوصف إن كان طريق إثبات العلة من جانب المستدل المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم
الثالث أن يبين كونه ملغى في جنس الأحكام كالطول والقصر ونحوه
الرابع أن يبين أنه ملغى في جنس الحكم المعلل وإن كان مناسبا وذلك كالذكورة في باب العتق
الخامس أن يبين أنه قد استقل بالحكم في صورة دون الوصف المعارض به وعند ذلك فيمتنع أن يكون علة مستقلة في محل التعليل لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل ويمتنع أن يكون داخلا في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع مع استقلاله لفوات ما لم يثبت استقلاله وهو ممتنع
فإن عارض المعترض في صورة الإلغاء بوصف آخر غير ما عارض به في الأصل فلا بد من إبطاله وإلا فالقياس متعذر ولا يمكن أن يقال في جوابه إن كل وصف اختص بصورة فهو ملغى بالصورة الأخرى
وهذا هو المسمى في الاصطلاح بتعدد الوضع
فإن للمعترض أن يقول العكس غير لازم في العلل الشرعية لجواز ثبوت الحكم في كل صورة بعلة غير علة الصورة الأخرى وإذا جاز ثبوت الحكم في صورتين بعلتين مختلفتين فلا يلزم من إثبات الحكم في كل صورة بعلة مع عدم علة الصورة الأخرى فيها إلغاء ما وجد في تلك الصورة
السادس أن يبين رجحان ما ذكره على ما عارض به المعترض بوجه من وجوه الترجيحات التي يأتي ذكرها

وعند ذلك
فيمتنع جعل ما عارض به المعترض علة مستقلة في محل التعليل لما فيه من إهمال الراجح واعتبار المرجوح ويمتنع أن يكون داخلا في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع بتخلف الحكم عنه مع رجحانه ضرورة إنتفاء الوصف المرجوح
وهاهنا ترجيح آخر وهو أن يكون أحد الوصفين في الأصل المستنبط منه متعديا والآخر قاصرا وذلك لا يخلو إما أن يكون في طرف الإثبات أو النفي فإن كان في طرف الإثبات فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي جزءا من العلة أو خارجا عنها بأن يكون المعارض في الأصل بالوصف القاصر لا غير فإن كان خارجا عنها فلا يخلو إما أن يكون الوصف المتعدي مساويا للقاصر في جهة اقتضائه أو أن الترجيح لأحدهما فإن كان مساويا للقاصر من جهة الاقتضاء فالتعليل بالمتعدي أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل
أما الإجمال فهو أن التعليل بالمتعدي متفق عليه بخلاف التعليل بالقاصر والتعليل بالمتفق عليه أولى
وأما التفصيل فهو أن فائدة المتعدي أكثر من القاصر لأن فائدة القاصر إنما هي في ظهور الحكمة الباعثة في الأصل لسرعة الانقياد وسهولة القبول والمتعدي مشارك للقاصر في هذا المعنى وزيادة التعريف للحكم في الفرع وهو أعظم فوائد العلة عند الأكثرين وهو وإن لزم من التعليل به إهمال المناسب القاصر فمقابل بمثله حيث إنه يلزم من التعليل بالقاصر إهمال المناسب المتعدي مع كونه راجحا
والتعليل بالقاصر وإن كان على وفق النفي الأصلي في الفرع والتعليل بالمتعدي على خلافه إلا أنه مخالفة لما وقعت مخالفته في الأصل بما لم تظهر مخالفته ولو عملنا بالقاصر لموافقة

النفي الأصلي لكان فيه العمل بموافقة ما وقع الاتفاق على مخالفته ومخالفة ما لم يقع الاتفاق على مخالفته وهو الوصف المتعدي فكان مرجوحا
فإن قيل إلا أن التعليل بالوصف المتعدي يلزم منه مخالفة ما لم يتفق على مخالفته من الوصف القاصر وما اتفق على مخالفته من النفي الأصلي فكان فيه مخالفة ظاهرين أحدهما متفق على مخالفته والآخر عير متفق على مخالفته والتعليل بالوصف القاصر يلزم منه العمل بهذين الظاهرين ومخالفة ظاهر واحد وهو الوصف المعتدي
قلنا هذا مقابل بمثله فإنه بعد أن ثبت الحكم في الأصل لمعنى وإن كان قاصرا فالأصل أن يثبت في الفرع بما وجد مساويا لوصف الأصل في الاقتضاء نظرا إلى تماثل مقصود الشارع والمحافظة على هذا الأصل أولى من المحافظة على النفي الأصلي لكون النفي الأصلي مخالفا في الأصل بمثل ما قيل باقتضائه للحكم في الفرع
وعند ذلك فيترجح ما ذكرناه من جهة أن العمل بالوصف المتعدي عمل به وبأصل مترجح على النفي الأصلي والعمل بالقاصر عمل به وبأصل مرجوح بالنظر إلى الأصل المعمول به من جانبنا فكان ما ذكرناه أولى
فإن قيل ربما كان المانع للحكم قائما مطلقا وعند ذلك فالتعليل بالقاصر أولى لما فيه من موافقة الدليل الشرعي النافي وموافقة النفي الأصل بخلاف المتعدي
قلنا المانع في الفرع بستدعي وجود المقتضي وإلا فالحكم يكون فيه منتفيا لانتفاء ما يقتضيه لا لوجود منافيه فدعوى وجود المانع في الفرع مع وجوب قصور العلة المقتضية للإثبات على الأصل تناقض لا حاصل له كيف وإن ما مثل هذا المانع مرجوح عند الخصم بالنسبة إلى الوصف القاصر والمتعدي على ما وقع به الفرض في ابتداء الكلام مساو للقاصر في

المقصود فكان مرجوحا بالنسبة إلى المتعدي أيضا فكان المتعدي أولى كما بيناه في النفي الأصلي
فإن قيل كما أن المتعدية قد تعرف إثبات الحكم في الفرع فالقاصرة تعرف نفيه عن الفرع وكما أن معرفة ثبوت الحكم في الفرع مقصود للشارع فمعرفة انتفائه أيضا عنه مقصود له
قلنا هذا إنما يستقيم أن لو لم يوجد في الفرع ما هو مساو للعلة القاصرة في الأصل فيما يرجع إلى جهة الاقتضاء
والمقصود المطلوب للشارع من إثبات الحكم لأن تعريف العلة القاصرة لنفي الحكم في الفرع إنما هو بناء على انتفاء مقصود الحكم ولن يتصور ذلك مع وجود ما هو مساو في الطلب والاقتضاء لما هو المقصود في الأصل فلا ينتهض الوصف القاصر في الأصل علامة على انتفاء الحكم في الفرع مع وجود الوصف المتعدى فيه ومساواته للقاصر في الاقتضاء على ما وقع به الفرض كيف وإن العلة القاصرة غير مستقلة بتعريف انتفاء الحكم في الفرع إلا مع ضميمة انتفاء علة غيرها وانتفاء النص والإجماع بخلاف العلة المتعدية في طرف الإثبات فما استقل بالتعريف يكون أولى مما لا يستقل
نعم قد يتوقف العمل بالعلة المثبتة على انتفاء المعارض لا أن انتفاء المعارض من جملة المعرف ولا الداعي بخلاف ما تتوقف عليه العلة القاصرة في تعريفها نفي الحكم في الفرع
والعمل بما هو معرف بنفسه من غير توقف في تعريفه على غيره أولى
وعلى هذا يكون الحكم إن كان الوصف المتعدي راجحا في جهة اقتضائه أولى والوصف المتعدي وإن توقف استقلاله على إخراج القاصر عن التعليل فليس إخراج القاصر موقوفا على استقلال المتعدي ليلزم الدور لجواز اتفاقهما في إخراجهما عن التعليل كيف وإنه مقابل بدور آخر حيث إنه يتوقف إدخال القاصر في التعليل على عدم استقلال المتعدي وكذلك بالعكس

وأما إن كان المتعدي مرجوحا في جهة اقتضائه بالنسبة إلى الوصف القاصر فالوصف القاصر أولى نظرا إلى المحافظة على زيادة المناسبة المعتبرة بثبوت الحكم على وفقها والنظر إليها وإن أوجب إهمال فائدة المتعدية أولى لما فيه من زيادة المصلحة وصلاح المكلف وما يتعلق به من زيادة التعقل وسرعة الانقياد في ابتداء ثبوت الحكم لأنه الأصل في كون الحكم معللا
وفائدة التعدية إنما تعرف بعد تعرف تعليل الحكم بما علل به بنظر ثان متأخر عن النظر فيما علل به الحكم في الأصل ولا شك أن ما هو أشد مناسبة للحكم يكون أسبق إلى الفهم بالتعليل للحكم الثابت في الأصل فكان التعليل به أولى
وإن كانت جهة التساوي والأرجحية غير معلومة ولا ظاهرة فالتعليل بالمتعدي أولى نظرا إلى أن العمل به أولى على تقدير أن يكون مساويا وعلى تقدير أن يكون راجحا
وإنما يمتنع العمل به على تقدير أن يكون مرجوحا في نفس الأمر
ولا يخفى أن العمل بما العمل به يتم على تقدير من التقديرين أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه
وعلى ما فصلناه في طرف الإثبات يكون الحكم في طرف النفي هذا كله إن كان الوصف المتعدي خارجا عن العلة القاصرة وأما إن كان داخلا فيها بأن كان المعارض معللا بمجموع الوصفين الوصف القاصر والمتعدي معا فالقاصر أولى وسواء كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي وسواء كان المتعدي راجحا على القاصر أو مرجوحا أو مساويا
أما في طرف الإثبات فلأن التعليل بالعلة المتعدية يلزم منه إهمال الوصف القاصر وتعطيله ولا كذلك بالعكس
ولايخفى أن الجمع أولى من التعطيل

فإن قيل إلا أنه على تقدير أن يكون الوصف المتعدي راجحا لو جعلنا الوصف القاصر داخلا في التعليل فيلزم منه أن يتخلف الحكم في الفرع عن الوصف المتعدي الراجح رعاية لما فات من الوصف المرجوح وهو ممتنع
قلنا هذا إنما يستقيم علي تقدير أن يكون رجحانه ظاهرا ولا يستقيم على تقدير أن يكون مرجوحا أو مساويا
ولا يخفى أن احتمال وقوع العمل بما يتم على تقدير من تقديرين أولى من العمل بما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه
كيف وإن العمل بالقاصر وإن كان يفضي إلى إهمال الوصف المتعدي في الفرع إلا إنه لا يلزم منه إهماله مطلقا إذ هو داخل في العلة ولو عملنا بالوصف المتعدي فقط يلزم منه إهمال القاصر وتعطيله مطلقا فالعمل بالقاصر يكون أولى وعلى هذا يكون الحكم إن كان ذلك في طرف النفي أيضا بل أولى لما فيه من تقليل مخالفة المقتضي للإثبات
هذا إن ظهر الترجيح وأما إن تحققت المعارضة من غير ترجيح بعد البحث التام فعلى مقتضى ما أسلفناه من القول بالتخيير عند التعارض مع التنافي فلا مانع من الجري على تلك القاعدة هاهنا
الاعتراض السادس عشر سؤال التركيب وهو الوارد على القياس المركب
وقد بينا معنى القياس المركب وأقسامه ووجه تسميته بذلك والسؤال الوارد عليه وجوابه في شرط حكم الأصل

الاعتراض السابع عشر سؤال التعدية وهو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فالذي عللت به أيضا قد تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر
وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إجبار البكر البالغ بكر فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة فعارضه الحنفي بالصغر وقال البكارة وإن تعدت إلى البكر البالغة فالصغر متعد إلى الثيب الصغيرة
وهذا أيضا مما اختلف فيه والحق أنه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية
وجوابه بإبطال ما عارض به المعترض وحذفه عن درجة الاعتبار بما أسلفناه في سؤال المعارضة في الأصل
ومهما حقق شيء من تلك الطرق فقد اندفع ولا أثر لما أشير إليه من التسوية خلافا للداركي
الاعتراض الثامن عشر منع وجود الوصف المعلل به في الفرع وجوابه كجواب منع وجوده في الأصل وقد عرف
الاعتراض التاسع عشر المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم المستدل إما بنص أو إجماع ظاهر أو بوجود مانع الحكم أو بفوات شرط الحكم
ولا بد من بيان تحققه وطريق كونه مانعا أو شرطا على نحو طريق إثبات المستدل كون

الوصف الذي علل به من التأثير أو الاستنباط
وقد اختلف في قبوله فمنع منه قوم تمسكا منهم بأن المعارضة استدلال وبناء وحق المعترض أن يكون هادما لا بانيا
وقبله الأكثرون وهو المختار إذ يلزم منه هدم ما بناه المستدل لمقاومة دليله لدليله ولا حجر عليه في سلوك طرق الهدم ولا سيما إذا تعين ذلك طريقا في الهدم بأن لم يكن له هادم سواه فلو لم يقبل منه لبطل مقصود المناظرة واختلت فائدة البحث والاجتهاد
والوجه في جوابه عند توجهه أن يقدح فيه المستدل بكل ما للمعترض أن يقدح به فيه أن لو كان المستدل متمسكا به وإن عجز عن جميع ذلك فقد اختلفوا في جواز دفعه بالترجيح فمنهم من لم يجوز ذلك اعتمادا منهم على أن ما ذكره المعترض وإن كان مرجوحا بالنسبة إلى ما ذكره المستدل فلا يخرج بذلك عن كونه اعتراضا
ومنهم من جوزه وهو المختار لأنه مهما ترجح ما ذكره المستدل بوجه من وجوه الترجيحات الآتية كان العمل به متعينا
وهل يجب على المستدل أن يذكر في دليله ما يومىء إلى الترجيح منهم من أوجبه لتوقف العمل بالدليل عليه فكان من الدليل فلو لم يذكره لم يكن ذاكرا للدليل أولا بل لبعضه ومنهم من لم يوجبه لما في التكليف به من الحرج والمشقة
والمختار أن يقال إما أن يكون ما به الترجيح يرجع إلى العلة بأن يكون وصفا من أوصافها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فلا بد من ذكره في الدليل أولا ليكون ذاكرا للدليل
وإن كان الثاني فلا لأنه مسؤول عن الدليل وقد أتى بمسماه حقيقة والترجيح بأمر خارج عن الدليل إنما هو من توابع ورود المعارضة

فذكره بعد المعارضة وإن توقف عليه إعمال الدليل بدفع المعارض لا يوجب أن يكون داخلا في مسمى الدليل حتى يقال إنه لم يكن ذاكرا للدليل أولا
الاعتراض العشرون الفرق واعلم أن سؤال الفرق عند أبناء زماننا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع إلا أنه عند بعض المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى إنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا
ولهذا اختلفوا فمنهم من قال إنه غير مقبول لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة وهي المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع
ومنهم من قال بقبوله واختلفوا مع ذلك في كونه سؤالين أو سؤالا واحدا
فقال ابن سريج إنه سؤالان جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق
وقال غيره بل هو سؤال واحد لاتحاد مقصوده وهو الفرق وإن اختلفت صيغته
ومن المتقدمين من قال ليس سؤال الفرق هو هذا وإنما هو عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخل في التعليل ولا وجود له في الفرع فيرجع حاصله إلى بيان انتفاء علة الأصل في الفرع وبه ينقطع الجمع
وجوابه على كل تقدير لا يخرج عما ذكرناه في جواب المعارضة في الأصل والفرع
الاعتراض الحادي والعشرون إذا اختلف الضابط بين الأصل والفرع واتحدت الحكمة كما لو قيل في شهود القصاص تسببوا في القتل عمدا عدوانا فلزمهم القصاص زجرا لهم عن التسبب كالمكره

فللمعترض أن يقول ضابط الحكمة في الأصل إنما هو الإكراه وفي الفرع الشهادة والمقصود منهما وإن كان متحدا وهو الزجر فلا يمكن تعدية الحكم به وحده وما جعل ضابطا له في الأصل غير موجود في الفرع والضابط في الفرع يحتمل أن لا يكون مساويا لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود فامتنع الإلحاق
وجوابه إما بأن يبين أن التعليل إنما هو بعموم ما اشترك فيه الضابط من التسبب المضبوط عرفا أو بأن يبين أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود أكثر من إفضاء ضابط الأصل فكان أولى بالثبوت
وذلك كما لو كان أصله في مثل هذه المسألة ( المغرى للحيوان ) من حيث إن انبعاث الولي للتشفي والانتقام في الفرع لغلبة إقدام المكره بالإكراه على القتل طلبا لخلاص نفسه أغلب من إقدام الحيوان بالإغراء على الآدمي بسبب غلبة نفرته عنه
وبالجملة فيبين الغلبة بما يساعد في آحاد المسائل
الاعتراض الثاني والعشرون إذا اتحد الضابط بين الأصل والفرع واختلف جنس المصلحة كما لو قال الشافعي في مسألة اللواط أولج فرجا في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا فوجب به الحد كالزنى
فللمعترض أن يقول الضابط وإن كان متحدا غير أن الحكمة التي في الفرع وهي صيانة النفس عن رذيلة اللياطة مخالفة لحكمة الأصل وهي دفع محذور اختلاط المياه واشتباه الأنساب المفضي إلى تضييع المولود وانقطاع نسل جنس الإنسان
وعند ذلك فلا يلزم من اعتبار الضابط في الأصل لما لزمه من الحكمة اعتباره في الفرع لغير تلك الحكمة لجواز أن لا تكون قائمة مقامها في نظر الشارع

وجوابه أن يقال التعليل إنما وقع بالضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع والتعرض لحذف خصوص ما اختص به الأصل من الزنى ومقصوده اللازم عنه وحذفه بطريق من طرق الحذف التي سبق بيانها في السبر والتقسيم
الاعتراض الثالث والعشرون أن يقال حكم الفرع مخالف الأصل فلا قياس لأن القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة الجامع بينهما ومع اختلاف الحكم فحكم الأصل لا يكون متعديا إلى الفرع فلا قياس
وجوابه ببيان اتحاد الحكم إما عينا وذلك كما في قياس وجوب الصوم على وجوب الصلاة وقياس صحة البيع على صحة النكاح وأن الاختلاف إنما هو عائد إلى المحل وهو غير قادح في صحة القياس لكونه شرطا فيه وإما جنسا كما في قياس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قتل الأنفس بالنفس الواحدة وأن الاختلاف إنما هو في عين الحكم فكان إما ملائما إن كان الاشتراك في جنس العلة أو مؤثرا إن كان الاشتراك في عينها على ما سبق تحقيقه
وذلك غير مبطل للقياس عند القائلين به
وأما إن كان الحكم مختلفا جنسا ونوعا كما في إلحاق الإثبات بالنفي أو الوجوب بالتحريم وبالعكس فقد بينا وجه الاختلاف في صحته وأن المختار إبطاله
الاعتراض الرابع والعشرون سؤال القلب وهو قسمان الأول قلب الدعوى والآخر قلب الدليل
أما قلب الدعوى فضربان وذلك لأن الدعوى

إما أن يكون الدليل مضمرا فيها أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فهو كما لو قال الأشعري أعلم بالضرورة أن كل موجود مرئي
فهذه دعوى فيها إضمار الدليل وتقديره لأنه موجود إذ الوجود هو المصحح للرؤية عنده
فقال المعتزلي أعلم بالضرورة أن كل ما ليس في جهة لا يكون مرئيا
فهذه الدعوى مقابلة للأولى من جهة أن الموجود ينقسم إلى ما هو في جهة وإلى ما ليس في جهة فالقول بأن ما ليس في جهة لا يكون مرئيا يقابل قول القائل كل موجود مرئي
ودليلها مضمر فيها وتقديره أن انتفاء الجهة مانع من الرؤية
وأما إن لم يكن الدليل مضمرا فيها فكما لو قال القائل في مسألة إفضاء النظر إلى العلم أو في مسألة التحسين والتقبيح مثلا أعلم بالضرورة أن النظر لا يفضي إلى العلم وأن الكفر قبيح لعينه والشكر حسن لعينه
فقال المعترض أعلم بالضرورة أن النظر يفضي إلى العلم وأن الكفر ليس قبيحا لعينه ولا الشكر حسنا لعينه
وهذا هو عين مقابلة بالفاسد والمقصود منه استنطاق المدعي باستحالة دعوى الضرورة من خصمه في محل الخلاف فيقال وهذا لازم لك أيضا

وقد أورد الجدليون في هذا الباب قلب الاستبعاد في الدعوى وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة إلحاق الولد بأحد الأبوين المدعيين تحكيم الولد في ذلك تحكم بلا دليل فقال الحنفي وتحكيم القائف في ذلك أيضا تحكم بلا دليل
قالوا والمقصود منه أيضا استنطاق المدعي بأن ما ذكره ليس بتحكم بل له مأخذ صحيح فيقول المعترض وكذلك ما ذكرته
وهو في غاية البعد فإنه إما أن يعترف المدعى بأن ما ذهب إليه تحكم أو أن يبين مأخذه فيه فإن كان تحكما فلا تغني معارضته بتحكمه في مذهبه في إبطال دعواه التحكم في مذهب خصمه وإن بين له مأخذا فلا يلزم منه أن يكون ما استبعده من مذهب خصمه كذلك
وإن تعرض المعترض لبيان المأخذ فيما استبعده المدعي فهو الجواب ولا حاجة إلى القلب
وأما قلب الدليل وهو عبارة عن بيان كون ما ذكره المستدل يدل عليه ثم لا يخلو إما أن يسلم المعترض أن ما ذكره المستدل من الدليل يدل له من وجه أو يبين أنه لا دلالة له على مذهب المستدل ولا من وجه فإن بين أن ما ذكره لا يدل له وهو دليل عليه فهذا قلما يوجد له مثال في غير المنصوص وذلك كما لو استدل في توريث الخال بقوله عليه السلام الخال وارث من لا وارث له فقال المعترض المراد به نفي توريث الخال بطريق المبالغة كما يقال الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له معناه نفي كون الجوع زادا والصبر حيلة
ويدل على إرادة هذا الاحتمال أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من قوله

لا وارث له نفي كل وارث فتوريث الخال لا يتوقف عند من يراه وارثا على نفي جميع الوراث لإرثه مع الزوج والزوجة وإما نفي من عداه من الوراث بجهة العصوبة فتخصيص الخال بالذكر لا يكون مفيدا لأن من عداه من ذوي الأرحام كذلك
وهذا النوع من القلب وإن دل على مذهب المعترض فهو شبيه بفساد الوضع من حيث إنه لا يدل على مذهب المستدل
وإن سلم أن ما ذكره المستدل يدل له من وجه فهذا النوع من القلب ثلاثة أقسام وذلك لأن المعترض إما أن يتعرض في القلب لتصحيح مذهبه أو لإبطال مذهب المستدل وإن تعرض لإبطال مذهب المستدل فإما أن يتعرض له صريحا بأن يجعله حكما للدليل بلا واسطة أو لا بصريحه بل بطريق الالتزام بأن يرتب على الدليل حكما يلزم منه إبطال مذهب المستدل
فإن كان من القسم الأول فهو كما لو قال الحنفي مثلا في مسألة الاعتكاف لبث محض فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة فقال المعترض لبث محض فلا يشترط الصوم في صحته كالوقوف بعرفة فكل واحد منهما قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه غير أن المستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا
وعند التحقيق فتعليل المستدل في هذا المثال لنفي القربة ليس تعليلا بمناسب يقتضي نفي القربة بل بانتفاء المناسب من حيث إن اللبث المحض لا يناسب ولا يشم منه رائحة المناسبة للقرابة
وتعليل المعترض بأمر طردي فإنه لا مناسبة في اللبث المحض لنفي اشتراط الصوم
وقد يتفق أن يكون المستدل قد تعرض لتصحيح مذهبه صريحا والمعترض كذلك كما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث

فقال المعترض طهارة تراد لأجل الصلاة فتصبح بغير الماء كطهارة الحدث فكل واحد منهما متعرض في الدليل لتصحيح مذهبه صريحا والعلة في الطرفين شبهية
وإن كان من القسم الثاني وهو أن يتعرض المعترض في القلب لإبطال مذهب المستدل صريحا فمثاله ما لو قال الحنفي في مسألة مسح الرأس عضو من أعضاء الوضوء
فلا يكتفي فيه بأقل ما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء
فقال الشافعي عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر بالربع كسائر الأعضاء فكل واحد منهما قد صرح في دليله بإبطال مذهب خصمه وليس في ذلك ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما فإنه ليس يلزم من إبطال مذهب كل واحد منهما تصحيح مذهب الآخر لجواز أن يكون الصحيح هو مذهب مالك وهو وجوب الاستيعاب
نعم لو كان القائل في المسألة قائلان والاتفاق منهما واقع على نفي قول ثالث فإنه يلزم من تعرض كل واحد منهما لإبطال مذهب الآخر تصحيح مذهبه ضرورة الاجتماع على إبطال قول ثالث
وذلك كالحكم بالأولوية في مسألة التخلي للعبادة
وإن كان من القسم الثالث فهو كما لو قال الحنفي في مسألة بيع الغائب عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالمعوض كالنكاح فقال الشافعي عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح
فإن المعترض في هذا المثال لم يتعرض لإبطال مذهب المستدل في القول بالصحة صريحا بل بطريق الالتزام
وذلك أن من قال بالصحة فقد قال بخيار الرؤية
فخيار الرؤية لازم الصحة
فإذا بطل خيار الرؤية فقد انتفى اللازم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم
ويلتحق بأذيال هذا القسم الثالث قلب التسوية

ومثاله قول الحنفي في مسألة إزالة النجاسة بالخل مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتحصل به الطهارة كالماء فيقول الشافعي مائع طاهر مزيل للعين والأثر فتستوي فيه طهارة الحدث والخبث كالماء فإنه يلزم من القول بالتسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث عدم حصول الطهارة بالخل في الخبث لعدم حصولها به في الحدث والحكم بالتسوية
واعلم أن أعلى مراتب أنواع القلب ما بين فيه أنه يدل على المستدل ولا يدل له ثم يليه النوع الثاني وهو ما بين فيه أنه يدل له وعليه وأعلى مراتب هذا النوع ما صرح فيه بإثبات مذهب المعترض وهو القسم الأول منه ثم ما صرح فيه بإبطال مذهب المستدل فإنه دون ما قبله من حيث إنه لا يلزم منه تصحيح مذهبه على ما تقدم وهو القسم الثاني منه ثم القسم الثالث فإنه وإن شارك ما قبله من القسم الثاني في إبطال مذهب المستدل إلا أنه يدل عليه بطريق الالتزام وما قبله بصريحه وهذا النوع من القلب لا تعرض فيه لدلالة المستدل بالقدح بل غايته بيان دلالة أخرى منه تدل على نقيض مطلوبه فكان شبيها بالمعارضة وإن فارقها من جهة أنه معارضة نشأت من نفس دليل المستدل
وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق معنى القلب وأقسامه فقد اختلف في قبوله فقبله قوم من حيث إنه يشير إلى ضعف الدليل لدلالته على نقيض مذهب المستدل ورده آخرون من حيث إن المعترض إما أن يتعرض في دليله لنقيض حكم المستدل أو إلى غيره فإن كان الأول فقد تعذر عليه القياس على أصل المستدل لاستحالة اجتماع حكمين متقابلين مجمع عليهما في صورة واحدة

وإن كان الثاني فلا يكون ذلك اعتراضا على الدليل
والحق في ذلك أنه وإن تعرض في الدليل لحكم يقابل حكم المستدل صريحا فقد لا يمتنع الجمع بينهما في أصل واحد كما ذكرناه من مثال إزالة النجاسة في القسم الأول
وإن تعرض لغيره فيصح القلب إذا كان ذلك لازما عما ذكره المعترض كما ذكرناه من المثال في القسم الثاني من النوع الثاني من التمثيل في مسألة بيع الغائب ومن التمثيل بقلب التسوية في إزالة النجاسة
وإنما يمتنع قبوله لأن ما ذكره المستدل إما أن يكون مقصود الشارع من الحكم المرتب عليه ملازما له أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فتعليل المعترض به لمقابل حكم المستدل إما أن يكون بحيث يلزمه مقصود من مقابل الحكم أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فإما أن يكون ذلك من جهة ما علل به المستدل أو من غيرها فإن كان الأول فمحال أن يكون الوصف الواحد من جهة واحدة يناسب الحكم ومقابله وإن كان الثاني فما ذكره ليس بقلب إذ القلب لا بد فيه من اتحاد العلة في القياسين بل هو معارضة بدليل آخر وإن كان بحيث لا يلازمه المقصود فهو بالنسبة إلى حكم المعترض طردي ووصف المستدل مناسب أو شبهي فلا يكون قادحا فيه
وإن كان ما ذكره المستدل طرديا بالنسبة إلى ما رتبه عليه فهو باطل في نفسه لتعذر التعليل بالطردي المحض ولا حاجة إلى شيء من الاعتراضات

الاعتراض الخامس والعشرون سؤال القول بالموجب وحاصله يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه
ومهما توجه على هذا الوجه كان المستدل منقطعا لتبين أن ما نصه من الدليل لم يكن متعلقا بمحل النزاع وهو منحصر في قسمين
وذلك لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه وما نقل عن إمامه من الحكم أو على إبطال ما يظنه مدركا لمذهب خصمه
فإن كان الأول فهو كما لو قال الشافعي في الملتجىء إلى الحرم وجد سبب جواز استيفاء القصاص فكان استيفاؤه جائزا
فقال الخصم أقول بموجب هذا الدليل فإن استيفاء القصاص عندي جائز
وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم
وإن كان الثاني فهو كما لو قال الشافعي في مسألة استيلاد الأب جارية ابنه وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين أو قال في مسألة القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه
فقال الخصم أقول بموجب هذا الدليل وأن وجوب القيمة لا يمنع من وجوب المهر والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه
والنزاع إنما هو في وجوب المهر ووجوب القصاص ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب المهر والقصاص لجواز انتفاء المقتضي لذلك أو وجود مانع آخر أو فوات شرط
وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب في المناظرات من ورود النوع الأول من جهة أن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام لكثرة المدارك وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف الأحكام فإنه قلما يتفق الذهول عنها

ولهذا قد يشترك في معرفة الحكم المنقول عن الإمام الخواص والعوام دون معرفة المدارك فكان احتمال الخطإ في اعتقاد كون المدرك المعين هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطإ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه
وقد اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع
فقال بعضهم لا بد من تكليفه بذلك لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده فإذا علم أنه لا يكلف بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب فقد يقول بذلك عنادا قصدا لإيقاف كلام خصمه ولا كذلك إذا وظف عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى
وقال آخرون لا وجه لتكليفه بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب وهو استبقاء محل النزاع وهو الأظهر لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ إمامه فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه فوجب تصديقه كيف وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ فإن مكنا المستدل من إبطاله والاعتراض عليه يلزم منه قلب المستدل معترضا والمعترض مستدلا ولا يخفى ما فيه من الخبط
وإن لم يمكن من ذلك فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما يصلح للتعليل ترويحا لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه
وللمستدل في دفع القول بالموجب بالاعتبار الأول طرق
الأول أن يقول المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرض فيه الكلام إن أمكن والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه
الثاني أن يبين أن محل النزاع لازم فيما فرض الكلام فيه وذلك كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي فقال المعترض هو عندي غير جائز بل واجب

فيقول المستدل المعنى بعدم الجواز لزوم التبعة بفعله ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعة بفعل الواجب
الثالث أن يقول المستدل القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره فلا يكون قولا بموجبه وذلك كما لو كان المستدل قد قال في زكاة الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فوجبت فيه الزكاة قياسا على الإبل
فقال المعترض عندي تجب فيه زكاة التجارة
والنزاع إنما هو في زكاة العين
فيقول المستدل إذا كان النزاع في زكاة العين
فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود وأيضا فإن لفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة وهو غير متجه لأن موجب الدليل التعميم فالقول ببعض الموجب لا يكون قولا بالموجب بل ببعضه
وكذلك إذا قال في مسألة إزالة النجاسة مائع لا يزيل الحدث فلا يزيل الخبث كالمرقة فقال المعترض أقول به فإن الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث فيقول المستدل ظاهر كلامي إنما هو الخل الطاهر ضرورة وقوع النزاع فيه وإيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره لا يكون قولا بمدلوله وموجبه بل بغيره فلا يكون مقبولا
وله في دفع القول بالموجب بالاعتبار الثاني أيضا طرق
الأول أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولا لدليله وفرض المعترض الكلام معه فيه وطالبه بالدليل عليه فإذا قال بالموجب بعد ذلك فقد سلم ما

وقع النزاع فيه وأفسد على نفسه القول بالموجب بالمطالبة بالدليل عليه أولا
وبمثل هذا يمكن أن يجاب عن القول بالاعتبار الأول أيضا
الثاني أن يبين لقب المسألة مشهور بذلك بين النظار كما سبق تقريره أولا
الثالث أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله إن أمكن وذلك بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضي لوجوب القصاص وكانت الموانع التي يوافق المستدل عليها منتفية والشروط متحققة
فإذا أبطل كون المانع المذكور مانعا فيلزم منه الحكم المتنازع فيه ظاهرا
وأما قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل فيرد عليهما كل ما كان واردا على قياس العلة سوى الأسئلة المتعلقة بمناسبة الوصف الجامع
فإنها لا ترد عليهما أما قياس الدلالة فلأن الوصف الجامع فيه ليس بعلة وأما القياس في معنى الأصل فلعدم ذكر الجامع فيه
والأسئلة الواردة على نفس الوصف الجامع لا ترد على القياس في معنى الأصل لعدم ذكر الجامع فيه
ويختص قياس الدلالة بسؤال آخر وهو عند ما إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل كما إذا قال القائل في مسألة الأيدي باليد الواحدة أحد موجبي الأصل فالطرف المعصوم يساوي النفس فيه دليله الموجب الثاني وقرره بأن الدية أحد الموجبين في الأصل وهي واجبة في الفرع على الكل ويلزم من وجود أحد الموجبين في الفرع وجود الموجب الآخر وذلك لأن علة الموجبين في الأصل إما أن تكون واحدة أو متعددة

فإن كانت واحدة فيلزم من وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها فيه ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل
وإن كانت متعددة فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين وعند ذلك فيلزم من وجود أحد الحكمين في الفرع وجود علته التي وجد بها في الأصل ويلزم من وجود علته وجود علة الحكم الآخر
والسؤال الوارد عليه أن يقال لا يلزم من وجود أحد حكمي الأصل في الفرع وجود الحكم الآخر سواء اتحدت علتهما في الأصل أو تعددت
أما إذا اتحدت فلأنه لا يمتنع عند تعدد المحال وإن اتحد نوع الحكم أن يكون الحكم الثابت في الفرع ثابتا بغير علة الأصل وهو الأولى لما فيه من تكثير مدارك الحكم فإنه أفضى إلى اقتناص مقصود الشارع من الحكم مما إذا اتحد المدرك وإذا كان كذلك فلا يلزم منه وجود الحكم الآخر لجواز أن لا تكون علة الفرع مستقلة بإثبات الحكم الآخر كاستقلال علة الأصل
وأما إذا تعددت العلة فإن وقع التلازم بينهما فلجواز أن تكون علة الحكم الثابت في الفرع غير علته في الأصل لما ذكرناه وعند ذلك فلا يلزم منها وجود العلة الأخرى في الفرع فإنه لا يلزم من التلازم بين علة ذلك الحكم وعلة الحكم الآخر في الأصل التلازم بين علته في الفرع وعلة الحكم الآخر
وعلى هذا لا يكون الحكم الآخر لازما في الفرع
وجوابه أن يقال ثبوت أحد الحكمين في الفرع يدل ظاهرا على وجود علته التي ثبت بها في الأصل وإن جاز ثبوته في الفرع بغيرها لأن الأصل عدم وجود علة أخرى غير علته في الأصل
والقول بأن تعدد المدارك أولى معارض بأن الاتحاد أولى لما فيه من التعليل بعلة مطردة منعكسة وما ذكروه وإن كانت العلة فيه مطردة إلا أنها غير منعكسة
والتعليل بالعلة المطردة المنعكسة متفق عليه بخلاف غير المنعكسة فكانت أولى

فإن قيل وكما أن الأصل عدم علة أخرى في الفرع غير علة الأصل فالأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر
قلنا بل العمل بما ذكرناه أولى لأن العلة فيه تكون متعدية وهي متفق على صحة التعليل بها
وما ذكروه يلزم منه أن تكون العلة في الأصل قاصرة لأن الأصل عدم وجودها في صورة أخرى وهي مختلف في صحة التعليل بها فكان ما ذكرناه أولى
خاتمة لهذا الباب في ترتيب الأسئلة الواردة على القياس والاعتراضات الواردة على القياس أما أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في الأصل أو في الفرع وإما أن تكون من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة ونحوها
فإن كان الأول فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معا إذ لا يلزم منها تناقض ولا نزول عن سؤال إلى سؤال
وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن تكون الأسئلة غير مرتبة أو مرتبة فإن كانت غير مرتبة فقد أجمع الجدليون على جواز الجمع بينهما سوى أهل سمرقند فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط
ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المتعددة من جنس واحد فإنها وإن أفضت إلى النشر فالجمع بينها مقبول من غير خلاف بين الجدلين

وإن كانت مرتبة فقد منع منه أكثر الجدليين من حيث إن المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجوده نزول عن المنع ومشعر بتسليم وجوده لأنه لو بقي مصرا على منع وجود الوصف فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال
وعند ذلك فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير من الأسئلة
ومنهم من لم يمنع منه وذلك بأن يورد المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجود الوصف مقدرا لتسليم وجود الوصف
وذلك بأن يقول وإن سلم عن المنع تقديرا فلا يسلم عن المطالبة وغيرها ولا شك أنه أولى لعدم إشعاره بالمناقضة والعود إلى منع ما سلم وجوده أولا كمنع وجود الوصف بعد المطالبة بتأثيره المشعر بتسليم وجوده
وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وهو المختار
وإذا كان لا بد من رعاية الترتيب في الأسئلة فأول ما تجب البداية به سؤال الاستفسار لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه
ثم بعده سؤال فساد الاعتبار لأنه نظر في فساده من جهة الجملة قبل النظر في تفصيله ثم سؤال فساد الوضع لأنه أخص من سؤال فساد الاعتبار كما سبق تقريره والنظر في الأعم يجب أن يكون قبل النظر في الأخص
ثم بعده منع الحكم في الأصل ويجب أن يكون مقدما على ما يتعلق بالنظر في العلة لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي فرع عليه والكلام في الفرع يجب تأخيره عن الكلام في أصله ثم بعده منع وجود العلة في الأصل
ثم بعده النظر فيما يتعلق بعلية الوصف كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود منه

ثم بعلمه النقض والكسر لكونه معارضا لدليل العلية ثم بعده المعارضة في الأصل لأنه معارضة لنفس العلة فكان متأخرا عن المعارض لدليل العلية والتعدية والتركيب لأن حاصلهما يرجع إلى المعارضة في الأصل كما سبق تقريره ثم بعده ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب ثم بعد ذلك القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له من تحقيق شروطه وانتفاء القوادح فيه
وهذا آخر الأصل الخامس

الأصل السادس في معنى الاستدلال وأنواعه أما معناه في اللغة فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب
وأما في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا أو غيره ويطلق تارة على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا
وهي عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا فإن قيل تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسب حقيقة الاستدلال عنه
قلنا إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق
وتعريف الأخفى بالأظهر جائز دون العكس
وإذا عرف معنى الاستدلال فهو على أنواع منها قولهم وجد السبب فثبت الحكم ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم فإنه دليل من حيث إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا أو ظاهرا ولا يخفى لزوم

المطلوب من ثبوت ما ذكرناه فكان دليلا وليس هو نصا ولا إجماعا ولا قياسا فكان استدلالا
فإن قيل تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم المطلوب تعريف للدليل بالمدلول والمدلول لا يعرف إلا بدليله فكان دورا ممتنعا
وإن سلمنا صحة الحد ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل الأمر إلى إثبات المدعى كان مفتقرا إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى للقياس سوى هذا
قلنا أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف وليس كذلك وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور لا من جهة حقيقته لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا دليل وجوده
والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من جهة وجوده في آحاد الصور
وإذا اختلفت الجهة فلا دور
وما ذكروه في تحقيق كونه قياسا فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا يكون إلا بما ذكروه وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع
والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصا ولا إجماعا كما تقرر قبل والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية
ومنها نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم الحكم يستدعي دليلا لا دليل فلا حكم
أما أنه يستدعي دليلا فبالضرورة وأما أنه لا دليل فلا يدل عليه سوى البحث والسبر وإن الأصل في الأشياء كلها العدم وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح دليلا من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال
وجوابه بالقدح في الدليل المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى
وقد ترد عليه أسئلة كثيرة أوردناها في كتاب المؤاخذات وقررناها

اعتراضا وانفصالا فعليك بالالتفات إليها
ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر
وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكورا فيما لزم عنه بالفعل أو هو مذكور فيه
فإن كان الأول فيسمى اقترانيا وأقل ما يتركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما
وكل مقدمة تشتمل على مفردين الواحد منهما مكرر في المقدمتين ويسمى حدا أوسط والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في المطلوب حدا أكبر وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى حدا أصغر والمقدمة التي فيها الحد الأكبر كبرى والتي فيها الحد الأصغر صغرى
ثم هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى شكلا وهيئته في النسبة إما بكونه محمولا على الحد الأصغر وموضوعا للحد الأكبر ويسمى الشكل الأول وإما بكونه محمولا عليهما ويسمى الشكل الثاني وإما بكونه موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث وإما بكونه موضوعا للأصغر ومحمولا على الأكبر ويسمى الشكل الرابع
وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة
أما الشكل الأول منها فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه عليه وهو منتج للمطالب الأربعة الكلي موجبا وسالبا والجزئي موجبا وسالبا
وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه
وضروبه المنتجة أربعة الضرب الأول من كليتين موجبتين كقولنا كل وضوء
عبادة وكل

عبادة تفتقر إلى النية واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية
الضرب الثاني من كلية صغرى موجبة كلية كبرى سالبة كقولنا كقولنا كل وضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية
الضرب الثالث بعض الوضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية واللازم بعض الوضوء يفتقر إلى النية
الضرب الرابع بعض الوضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية
الشكل الثاني وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية وكلية كبراه
وضروبه المنتجة أربعة الضرب الأول من كليتين الصغرى موجبة والكبرى سالبة كقولنا كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ولا شيء مما يصح بيعه صفات المبيع فيه مجهولة واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح
الضرب الثاني من كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا لا شيء من بيع الغائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله
الضرب الثالث من جزئية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة كقولنا بعض بيع الغائب مجهول الصفات ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ولازمه بعض بيع الغائب لا يصح
الضرب الرابع من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا ليس كل بيع غائب معلوم الصفات وكل بيع صحيح معلوم الصفات ولازمه كلازم الذي قبله
والإنتاج في هذا الشكل غير بين بنفسه بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن

تعكس الكبرى من الأول وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ثم تستنتج وتعكس النتيجة فيعود إلى عين المطلوب وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى بحالها فأنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الكبرى منه عادت جزئية ولا قياس عن جزئيتين والصغرى فلا عكس لها وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك الضرب فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال وليس لزوم المحال عن نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها صادقة فكان لازما عن نقيض المطلوب فكان محالا وإلا لما لزم عنه المحال
وإذا كان نقيض المطلوب محالا كان المطلوب الأول هو الصادق
الشكل الثالث وشرط إنتاجه إيجاب صغراه أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى مقدميته ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب
وضروبه المنتجة ستة الضرب الأول من كليتين موجبتين كقولنا كل بر مطعوم وكل بر ربوي ولازمه بعض المطعوم ربوي
الضرب الثاني من جزئية صغرى موجبة وكلية موجبة كبرى كقولنا بعض البر مطعوم وكل بر ربوي ولازمه كلازم ما قبله
الضرب الثالث من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى كقولنا كل بر مطعوم وبعض البر ربوي ولازمه كلازم ما قبله
الضرب الرابع من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا كل بر مطعوم ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلا ولازمه لا شيء من المطعوم يصح بيعه يجنسه متفاضلا

الضرب الخامس من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلا ولازمه كلازم ما قبله
الضرب السادس من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولنا كل بر مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلا ولازمه كلازم ما قبله
وإنتاج هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب وتعكس الكبرى من الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب
وأما السادس منه فلا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزيئتين والكبرى فلا عكس لها
وإن شئت بينت بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع ضروبه فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ويلزم من ذلك كذب النقيض لما بيناه في الشكل الثاني
ويلزمه صدق المطلوب الأول
وأما إن كان القسم الثاني وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكورا فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائيا
ولا بد فيه من قضيتين إحداهما استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزئين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب
والنسبة الإيجابية بينهما إما أن تكون باللزوم والاتصال وفي حالة السلب برفعه أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه
فإن كان الأول فتسمى تلك القضية شرطية متصلة وأحد جزئيها وهو

ما دخل عليه حرف الشرط ( مقدما ) والثاني وهو ما دخل عليه حرف الجزاء ( تاليا ) وما هي مقدمة فيه يسمى قياسا شرطيا متصلا
وإن كان الثاني فتسمى منفصلة وما هي مقدمة فيه يسمى قياسا منفصلا
أما الشرطي المتصل فشرط إنتاجه أن تكون النسبة بين المقدم والتالي كلية أي دائمة وأن يكون الاستثناء إما بعين المقدم منها أو نقيض التالي وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو مساويا له
ولا يجوز أن يكون أخص منه وإلا كانت القضية كاذبة
وعند ذلك فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو مساويا له
واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم
وأما استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولا من وجود الأعم وجود الأخص
وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج لازما لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة وذلك كما في قولنا دائما إن كان هذا الشيء إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان أو لكنه ليس بحيوان فيلزمه أنه ليس إنسانا
وأما المنفصل فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معا أو مانعة الجمع دون الخلو أو مانعة الخلو دون الجمع فإن كان الأول فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزئين نقيض الآخر ومن استثناء نقيضه عين الآخر وذلك كما في قولنا دائما إما أن يكون العدد زوجا وإما أن يكون فردا لكنه زوج فليس بفرد أو لكنه فرد ليس بزوج أو لكنه ليس بزوج فهو فرد أو لكنه ليس بفرد فهو زوج
وإن كان الثاني فاستثناء عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كقولنا دائما إما أن يكون الجسم جمادا وإما حيوانا لكنه حيوان فليس بجماد أو لكنه جماد

فليس بحيوان ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه
وإن كان الثالث فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كما إذا قلنا دائما إما أن يكون المحل لا أسود وإما لا أبيض
فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه
فهذه جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال لخصناها في أوجز عبارة
ومن أراد الاطلاع على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن
ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها وكذلك الجواب عنها
ومن أنواع الاستدلال استصحاب الحال وفيه مسألتان المسألة الأولى في الاستدلال باستصحاب الحال وقد اختلف فيه فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه
ومن هؤلاء من جوز به الترجيح لا غير

وذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالمزني والصيرفي والغزالي وغيرهم من المحققين إلى صحة الاحتجاج به وهو المختار وسواء كان ذلك الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي أو عقلي أو شرعي وذلك لأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه والظن حجة متبعة في الشرعيات على ما سبق تحقيقه
وإنما قلنا إنه يستلزم ظن بقائه لأربعة أوجه
الأول أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ولو لم يكن الأصل في كل متحققا دوامه للزم إما جواز الصلاة في الصورة الأولى أو عدم الجواز في الصورة الثانية وهو خلاف الإجماع
وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل إما أن يكون الراجح عدم الاستصحاب أو أن الاستصحاب وعدمه سيان فإن كان الأول فيلزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية لظن فوات الطهارة وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون استواء الطرفين مما تجوز معه الصلاة أو لا تجوز فإن كان الأول فيلزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى وإن كان الثاني فيلزمه عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية
وكل ذلك ممتنع
الوجه الثاني أن العقلاء وأهل العرف إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله

أحكام خاصة به فإنهم يسوغون القضاء والحكم بها في المستقبل من زمان ذلك الوجود أو العدم حتى إنهم يجيزون مراسلة من عرفوا وجوده قبل ذلك بمدد متطاولة وإنفاذ الودائع إليه ويشهدون في الحالة الراهنة بالدين على من أقر به قبل تلك الحالة
ولولا أن الأصل بقاء ما كان على على ما كان لما ساغ لهم ذلك الثالث أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير وذلك لأن الباقي لا يتوقف على أكثر من وجود الزمان المستقبل ومقابل ذلك الباقي له كان وجودا أو عدما
وأما التغير فمتوقف على ثلاثة أمور وجود الزمان المستقبل وتبدل الوجود بالعدم أو العدم بالوجود ومقارنة ذلك الوجود أو العدم لذلك الزمان
ولا يخفى أن تحقق ما يتوقف على أمرين لا غير أغلب مما يتوقف على ذينك الأمرين وثالث غيرهما
الوجه الرابع إذا وقع العرض فيما هو باق بنفسه الجوهر فقد يقال غلبة الظن بدوامه أكثر من تغيره فكان دوامه أولى
وذلك لأن بقاءه مستغن عن المؤثر حالة بقائه لأنه لو افتقر إلى المؤثر فإما أن يصدر عن ذلك المؤثر أثر أو لا يصدر عنه أثر فإن صدر عنه أثر فإما أن يكون هو عين ما كان ثابتا أو شيئا متجددا الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني فعلى خلاف الفرض
وإن لم يصدر عنه أثر فلا معنى لكونه مؤثرا وإذا كان مستغنيا في بقائه عن المؤثر فتغيره لا بد وأن يكون بمؤثر وإلا كان منعدما بنفسه وهو محال وإلا لما بقي وإذا كان البقاء غير مفتقر إلى مؤثر وتغيره مفتقر إلى المؤثر فعدم الباقي لا يكون إلا بمانع يمنع منه
وأما المتجدد سواء كان عدما أو وجودا فإنه قد ينتفي تارة لعدم مقتضيه وتارة لمانعه وما يكون عدمه بأمرين يكون أغلب مما عدمه بأمر واحد
وعلى هذا فالأصل في جميع الأحكام الشرعية إنما هو العدم وبقاء ما كان على ما كان إلا ما ورد الشارع
بخالفته فإنا نحكم به ونبقى فيما

عداه عاملين بقضية النفي الأصلي كوجوب صوم شوال وصلاة سادسة ونحوه
فإن قيل لا نسلم أن كل ما تحقق وجوده في حالة من الأحوال أو عدمه فهو مظنون البقاء وما ذكرتموه من الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه
الأول أنا نسلم انعقاد الإجماع على الفرق في الحكم فيما ذكرتموه من الصورتين فإن مذهب مالك وجماعة من الفقهاء إنما هو التسوية بينهما في عدم الصحة وإن سلمنا ذلك وسلمنا أنه لو لم يكن الأصل البقاء في كل متحقق للزم رجحان الطهارة أو المساواة في الصورة الأولى ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية
ولكن لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جوز الصلاة بدليل امتناع الصلاة بعد النوم والإغماء والمس على الطهارة وإن كان وجود الطهارة راجحا
ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية حيث قلتم بأن ظن الحدث لا يلحق بتيقين الحدث
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في الطهارة والحدث البقاء ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كل متحقق سواهما البقاء لا بد لهذا من دليل
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل البقاء في كل شيء
لكنه منقوض بالزمان والحركات من حيث إن الأصل فيهما التقضي دون البقاء والاستمرار
وما ذكرتموه من الوجه الثاني فليس فيه ما يدل على ظن البقاء بل إنما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه وذلك كاستحسان الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرة بل مرجوحة أو مساوية

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7