كتاب : المستصفى في علم الأصول
المؤلف : محمد بن محمد الغزالي أبو حامد

المستصفى في علم الأصول

الحمد لله القوي القادر الولي الناصر اللطيف القاهر المنتقم الغافر الباطن الظاهر الأول الآخر الذي جعل العقل أرجح الكنوز والذخائر والعلم أربح المكاسب والمتاجر وأشرف المعالي والمفاخر وأكرم المحامد والمآثر وأحمد الموارد والمصادر فشرفت بإثباته الأقلام والمحابر وتزينت بسماعه المحاريب والمنابر وتحلت برقومه الأوراق والدفاتر وتقدم بشرفه الأصاغر على الأكابر واستضاءت ببهائه الأسرار والضمائر وتنورت بأنواره القلوب والبصائر واستحقر في ضيائه ضياء الشمس الباهر على الفلك الدائر واستصغر في نوره الباطن ما ظهر من نور الأحداق والنواظر حتى تغلغل بضيائه في أعماق المغمضات جنود الخواطر وإن كلت عنها النواظر وكثفت عليها الحجب والسواتر
والصلاة على محمد رسوله ذي العنصر الطاهر والمجد المتظاهر والشرف المتناصر والكرم المتقاطر المبعوث بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين وناسخا بشرعه كل شرع غابر ودين داثر المؤيد بالقرآن المجيد الذي لا يمله سامع ولا آثر ولا يدرك كنه جزالته ناظم ولا ناثر ولا يحيط بعجائبه وصف واصف ولا ذكر ذاكر وكل بليغ دون ذوق فهم جليات أسراره قاصر وعلى آله وأصحابه وسلم كثيرا كثرة ينقطع دونها عمر العاد الحاصر
أما بعد فقد تناطق قاضي العقل وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل وشاهد الشرع وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور ومطية عمل لا مطية كسل ومنزل عبور لا متنزه حبور ومحل تجارة لا مسكن عمارة ومتجر بضاعتها الطاعة وربحها الفوز يوم تقوم الساعة والطاعة طاعتان عمل وعلم والعلم أنجحها وأربحها فإنه أيضا من العمل ولكنه عمل القلب الذي هو أعز الأعضاء وسعي العقل الذي هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة وحامل الأمانة إذ عرضت على الأرض والجبال والسماء فأشفقن من حملها وأبين أن يحملنها غاية الإباء
ثم العلوم ثلاثة 1 عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم فهي بين ظنون كاذبة لائقة وإن بعض الظن إثم وبين علوم صادقة لا منفعة لها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليست المنفعة في الشهوات الحاضرة والنعم الفاخرة فإنها فانية داثرة بل النفع ثواب دار الآخرة

ونقلي محض كالأحاديث والتفاسير والخطب في أمثالها يسير إذ يستوي في الاستقلال بها الصغير والكبير لأن قوة الحفظ كافية في النقل وليس فيها مجال للعقل
3 - وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد ولأجل شرف علم الفقه وسببه وفر الله دواعي الخلق على طلبه وكان العلماء به أرفع العلماء مكانا وأجلهم شأنا وأكثرهم أتباعا وأعوانا فتقاضاني في عنفوان شبابي اختصاص هذا العلم بفوائد الدين والدنيا وثواب الآخرة والأولى أن أصرف إليه من مهلة العمر صدرا وأن أخص به من متنفس الحياة قدرا فصنفت كتبا كثيرة في فروع الفقه وأصوله ثم أقبلت بعده على علم طريق الآخرة ومعرفة أسرار الدين الباطنة فصنفت فيه كتبا بسيطة ككتاب إحياء علوم الدين ووجيزه ككتاب جواهر القرآن ووسيطه ككتاب كيمياء السعادة ثم ساقني قدر الله تعالى إلى معاودة التدريس والإفادة فاقترح علي طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في أصول الفقه أصرف العناية فيه إلى التلفيق بين الترتيب والتحقيق وإلى التوسط بين الإخلال والإملال على وجه يقع في الفهم دون كتاب تهذيب الأصول لميله إلى الاستقصاء والاستكثار وفوق كتاب المنخول لميله إلى الإيجاز والاختصار فأجبتهم إلى ذلك مستعينا بالله وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني فلا مندوحة لأحدهما على الثاني فصنفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب يطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النطرفيه فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه وقد سميته كتاب المستصفى من علم الأصول والله تعالى هو المسؤول لينعم بالتوفيق ويهدي إلى سواء الطريق وهو بإجابة السائلين حقيق

صدر الكتاب اعلم أن هذا العلم الملقب بأصول الفقه قد رتبناه وجمعناه في هذا الكتاب وبنيناه على مقدمة وأربعة أقطاب المقدمة لها كالتوطئة والتمهيد والأقطاب هي المشتملة على لباب المقصود ولنذكر في صدر الكتاب معنى أصول الفقه وحده وحقيقته أولا ثم مرتبته ونسبته إلى العلوم ثانيا ثم كيفية إنشعابه إلى هذه المقدمة والأقطاب الأربعة ثالثا ثم كيفية اندراج جميع أقسامه وتفاصيله تحت الأقطاب الأربعة رابعا ثم وجه تعلقه بهذه المقدمة خامسا
بيان حد أصول الفقه اعلم أنك لا تفهم معنى أصول الفقه ما لم تعرف أولا معنى الفقه والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع يقال فلان يفقه الخير والشر أي يعلمه ويفهمه ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم وفلسفي ونحوي ومحدث ومفسر بل يختص بالعلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية كالوجوب والحظر والإباحة والندب والكراهة وكون العقد صحيحا وفاسدا وباطلا وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله
ولا يخفى عليك أن للأفعال أحكاما عقلية أي مدركة بالعقل ككونها أعراضا وقائمة بالمحل ومخالفة للجوهر وكونها أكوانا حركة وسكونا وأمثالها والعارف بذلك يسمى متكلما لا فقيها
وأما أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة ومباحة ومكروهة ومندوب إليها فإنما يتولى الفقيه بيانها فإذا فهمت هذا فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل فإن علم الخلاف من الفقه أيضا مشتمل على أدلة الأحكام ووجوه دلالتها ولكن من حيث التفصيل كدلالة حديث خاص في مسألة النكاح بلا ولي على الخصوص ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص
وأما الأصول فلا يتعرض فيها لإحدى المسائل ولا على طريق ضرب المثال بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والإجماع ولشرائط صحتها وثوبتها ثم لوجوه دلالتها الجميلة إما من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو مجرى لفظها أو معقول لفظها وهو القياس من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة فبهذا تفارق أصول الفقه فروعه وقد عرفت

من هذا أن أدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع فالعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الأحكام هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه
بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية كالطب والحساب والهندسة وليس ذلك من غرضنا
وإلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن أعني علم القلب وتطهيره عن الأخلاق الذميمة وكل واحد من العقلية والدينية ينقسم إلى كلية وجزئية فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية لأن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة
والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود
فيقسم الموجود أولا إلى 1 قديم 2 وحادث ثم يقسم المحدث إلى 1 جوهر 2 عرض
ثم يقسم العرض 1 إلى ما تشترط فيه الحياة من العلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر 2 وإلى ما يستغنى عنها كاللون والريح والطعم
ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض ثم ينظر في القديم فيبين أنه لا يتكثر ولا ينقسم انقسام الحوادث بل لا بد أن يكون واحدا وأن يكون متميزا عن الحوادث بأوصاف تجب له وبأمور تستحيل عليه وأحكام تجوز في حقه ولا تجب ولا تستحيل ويفرق بين الجائز والواجب والمحال في حقه ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه وأن العالم فعله الجائز وأنه لجوازه افتقر إلى محدث وأن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا الجائز واقع عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرف العقل بل العقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقول في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضا باستحالته فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي سببا للشقاوة لكنه لا يقضي باستحالته أيضا ويقضي بوجوب صدق من دلت المعجزة على صدقه فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق فهذا ما يحويه علم الكلام فقد عرفت من هذا أنه يبتدى نظره في أعم الأشياء أولا وهو الموجود ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل الذي ذكرناه فيثبت فيه مبادىء سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها والفقيه يأخذ واحدا خاصا وهو فعل المكلف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة ويأخذ الأصولي واحدا خاصا وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقه فينظر في وجه دلالته على الأحكام إما بملفوظة أو بمفهومه أو بمعقول معناه ومستنبطه ولا يجاوز نظر الأصولي قول الرسول عليه السلام وفعله فإن الكتاب إنما

يسمعه من قوله والإجماع يثبت بقوله والأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط وقول الرسول صلى الله عليه و سلم إنما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام فإذا الكلام هو المتكفل بإثبات مبادىء العلوم الدينية كلها فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات فإن قيل فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الأسفل قلنا ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مباد تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختياريات للمكلفين فقد أنكرت الجبرية فعل الإنسان وأنكرت طائفة وجود الأعراض والفعل عرض ولا على الفقيه إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع وأن لله تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي ولكن يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى
وثبوت الفعل من المكلف على سبيل التقليد وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب فيكون قد قام بمنتهى علمه وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق ثم ينظر في وجوده دلالته وشروط صحته فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادىء علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر
بيان كيفية دورانه على الأقطاب الأربعة اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة فوجب النظر في الأحكام ثم في الأدلة وأقسامها ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة ثم في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام فإن الأحكام ثمرات وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار
والثمرة هي الأحكام أعني الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها
والمثمر هي الأدلة وهي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقط
وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها
والمستثمر هو المجتهد ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه فإذا جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب
القطب الأول في الأحكام والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة
القطب الثاني في الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع وبها التثنية إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر
القطب الثالث في طريق الاستثمار وهو وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة دلالة بالمنظوم ودلالة بالمفهوم ودلالة بالضرورة والاقتضاء ودلالة بالمعنى المعقول
القطب الرابع في المستثمر وهو المجتهد الذي يحكم بظنه ويقابله المقلد الذي

يلزمه اتباعه فيجب ذكر شروط المقلد والمجتهد وصفاتهما
بيان كيفية اندراج الشعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الأقطاب الأربعة لعلك تقول أصول الفقه تشتمل على أبواب كثيرة وفصول منتشرة فكيف يندرج جملتها تحت هذه الأقطاب الأربعة فنقول القطب الأول هو الحكم وللحكم حقيقة في نفسه وانقسام وله تعلق بالحاكم وهو الشارع والمحكوم عليه وهو المكلف وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف وبالمظهر له وهو السبب والعلة ففي البحث عن حقيقة الحكم في نفسه يتبين أنه عبارة عن خطاب الشرع وليس وصفا للفعل ولا حسن ولا قبح ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشرع وفي البحث عن أقسام الحكم يتبين حد الواجب والمحظور والمندوب والمباح والمكروه والقضاء والأداء والصحة والفساد والعزيمة والرخصة وغير ذلك من أقسام الأحكام وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حكم إلا لله وأنه لا حكم للرسول ولا للسيد على العبد ولا لمخلوق على مخلوق بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره وفي البحث عن المحكوم عليه يتبين خطاب الناسي والمكره والصبي وخطاب الكافر بفروع الشرع وخطاب السكران ومن يجوز تكليفه ومن لا يجوز وفي البحث عن المحكوم فيه يتبين أن الخطاب يتعلق بالأفعال لا بالأعيان وأنه ليس وصفا للأفعال في ذواتها وفي البحث عن مظهر الحكم يتبين حقيقة السبب والعلة والشرط والمحل والعلامة فيتناول هذا القطب جملة من تفاريق فصول الأصول أوردها الأصوليون مبددة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه
القطب الثاني في المثمر وهو الكتاب والسنة والإجماع وفي البحث عن أصل الكتاب يتبين حد الكتاب وما هو منه وما ليس منه وطريق إثبات الكتاب وأنه التواتر فقط وبيان ما يجوز أن يشتمل عليه الكتاب من حقيقة ومجاز وعربية وعجمية وفي البحث عن السنة يتبين حكم الأقوال والأفعال من الرسول وطرق ثبوتها من تواتر وآحاد وطرق روايتها من مسند ومرسل وصفات رواتها من عدالة وتكذيب إلى تمام كتاب الأخبار ويتصل بالكتاب والسنة كتاب النسخ فإنه لا يرد إلا عليهما وأما الإجماع فلا يتطرق النسخ إليه وفي البحث عن أصل الإجماع تتبين حقيقته ودليله وأقسامه وإجماع الصحابة وإجماع من بعدهم إلى جميع مسائل الإجماع
القطب الثالث في طرق الاستثمار وهي أربعة الأولى دلالة اللفظ من حيث صيغته وبه يتعلق النظر في صيغة الأمر والنهي والعموم والخصوص والظاهر والمؤول والنص والنظر في كتاب الأوامر والنواهي والعموم والخصوص نظر في مقتضى الصيغ اللغوية
وأما الدلالة من حيث الفحوى والمفهوم فيشتمل عليه كتاب المفهوم ودليل

الخطاب
وأما الدلالة من حيث ضرورة اللفظ واقتضاؤه فيتضمن جملة من إشارات الألفاظ كقول القائل أعتق عبدك عني فتقول أعتقت فإنه يتضمن حصول الملك للملتمس ولم يتلفظا به لكنه من ضرورة ملفوظهما ومقتضاه
وأما الدلالة من حيث معقول اللفظ فهو كقوله صلى الله عليه و سلم لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه يدل على الجائع والمريض والحاقن بمعقول معناه ومنه ينشأ القياس وينجر إلى بيان جميع أحكام القياس
وأقسامه
القطب الرابع في المستثمر وهو المجتهد وفي مقابلته المقلد وفيه يتبين صفات المجتهد وصفات المقلد والموضع الذي يجري فيه الاجتهاد دون الذي لا مجال للاجتهاد فيه والقول في تصويب المجتهدين وجملة أحكام الاجتهاد فهذه جملة ما ذكر في علم الأصول وقد عرفت كيفية انشعابها من هذه الأقطاب الأربعة
بيان المقدمة ووجه تعلق الأصول بها اعلم أنه لما رجع حد أصول الفقه إلى معرفة أدلة الأحكام اشتمل الحد على ثلاثة ألفاظ المعرفة والدليل والحكم فقالوا إذا لم يكن بد من معرفة الحكم حتى كان معرفته أحد الأقطاب الأربعة فلا بد أيضا من معرفة الدليل ومعرفة المعرفة أعني العلم ثم العلم المطلوب لا وصول إليه إلا بالنظر فلا بد من معرفة النظر فشرعوا في بيان حد العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة وذلك مجاوزة لحد هذا العلم وخلط له بالكلام وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر كأبي زيد رحمه الله وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع فقد أكثروا فيه وعذر المتكلمين في ذكر حد العلم والنظر والدليل في أصول الفقه أظهر من عذرهم في إقامة البرهان على إثباتها مع المنكرين لأن الحد يثبت في النفس صور هذه الأمور ولا أقل من تصورها إذا كان الكلام يتعلق بها كما أنه لا أقل من تصور الإجماع والقياس لمن يخوض في الفقه وأما معرفة حجية الإجماع وحجية القياس فذلك من خاصية أصول الفقه فذكر حجية العلم والنظر على منكريه استجرار الكلام إلى الأصول كما أن ذكر حجية الإجماع والقياس وخبر الواحد في الفقه استجرار الأصول إلى الفروع
وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم من تعريف مدارك العقول وكيفية تدرجها من الضروريات إلى النظريات على وجه يتبين فيه حقيقة العلم والنظر والدليل وأقسامها وحججها تبينا بليغا تخلو عنه مصنفات الكلام

مقدمة الكتاب نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه
بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان اعلم أن إدراك الأمور على ضربين الأول إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر ما يدل عليه بالأسامي المفردة
الثاني إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات وهو أن تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضا أمران مفردان ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي أو الإثبات كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي فتقول ليس العالم قديما وتنسب الحدوث إليه بالإثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب وأما الأول فيستحيل فيه التصديق والتكذيب إذ لا يتطرق التصديق إلا إلى خبر وأقل ما يتركب منه جزآن مفردان وصف وموصوف فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات صدق أو كذب فأما قول القائل حادث أو جسم أو قديم فأفراد ليس فيها صدق ولا كذب ولا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها الدالة عليها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن تحاذى بها المعاني وقد سمى المنطقيون معرفة المفردات تصورا و معرفة النسبة الخبرية بينهما تصديقا فقالوا العلم إما تصور وإما تصديق وسمى بعض علمائنا الأول معرفة والثاني علما تأسيا بقول النحاة في قولهم المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيدا والظن يتعدى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيدا عالما ولا تقول ظننت زيدا ولا ظننت عالما والعلم من باب الظن فتقول علمت زيدا عدلا والعادة في هذه الاصطلاحات مختلفة وإذا فهمت افتراق الضربين فلا مشاحة في الألقاب فنقول الآن إن

الإدراكات صارت محصورة في المعرفة والعلم أو في التصور والتصديق وكل علم تطرق إليه تصديق فمن ضرورته أن يتقدم عليه معرفتان أي تصوران فإن من لا يعرف المفرد كيف يعلم المركب ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث
ومعرفة المفردات قسمان أولي وهو الذي لا يطلب بالبحث وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب كلفظ الوجود والشيء وككثير من المحسوسات
ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل ولا مفسر
فيطلب تفسيره بالحد
وكذلك العلم ينقسم إلى أول كالضروريات وإلى مطلوب كالنظريات والمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب لا يقتنص إلا بالبرهان فالبرهان والحد هو الآلة التي بها يقتنص سائر العلوم المطلوبة فلتكن هذه المقدمة المرسومة لبيان مدارك العقول مشتملة على دعامتين دعامة في الحد ودعامة في البرهان
الدعامة الأولى في الحد ويجب تقديمها لأن معرفة المفردات تتقدم على معرفة المركبات وتشتمل على فنين فن يجري مجرى القوانين وفن يجري مجرى الامتحانات لتلك القوانين
الفن الأول في القوانين وهي ستة القانون الأول أن الحد إنما يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه والسؤال طلب وله لا محالة مطلوب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع
المطلب الأول ما يطلب بصيغة هل يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود كقولك هل الله تعالى موجود أو يطلب حال الموجود ووصفه كقولك هل الله تعالى خالق البشر وهل الله تعالى متكلم وآمر وناه المطلب الثاني ما يطلب بصيغة ما ويطلق لطلب ثلاثة أمور الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا يدري العقار ما العقار فيقال له الخمر إذا كان يعرف لفظ الخمر
الثاني أن يطلب لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسؤول عنه من غيره كيفما كان الكلام سواء كان عبارة عن عوارض ذاته ولوازمه البعيدة عن حقيقة ذاته أو حقيقة ذاته كما سيأتي الفرق بين الذاتي والعرضي كقول القائل ما الخمر فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن والمقصود أن لا يتعرض لحقيقة ذاته بل يجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج منه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر
والثالث أن يطلب به ماهية الشيء وحقيقة ذاته كمن يقول ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب فيكون ذلك كاشفا عن حقيقته ثم يتبعه لا محالة التمييز واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الأوجه الثلاثة بالاشتراك فلنخترع لكل

واحد اسما ولنسم الأول حدا لفظيا إذ السائل لا يطلب به إلا شرح اللفظ ولنسم الثاني حدا رسميا إذ هو مطلب مرتسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء ولنسم الثالث حدا حقيقيا إذ مطلب الطالب منه درك حقيقة الشيء وهذا الثالث شرطه أن يشتمل على جميع ذاتيات الشيء فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقيل جسم حساس فقد جيء بوصف ذاتي وهو كاف في الجمع والمنع ولكنه ناقص بل حقه أن يضاف إليه المتحرك بالإرادة فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع أمرين فأما المرتسم الطالب للتمييز فيكتفي بالحساس وإن لم يقل أنه جسم أيضا
المطلب الثالث ما يطلب بصيغة ( لم ) وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان على ما سيأتي حقيقته
المطلب الرابع ما يطلب بصيغة ( أي ) وهو الذي يطلب به تمييز ما عرف جملته عما اختلط به كما إذا قيل ما الشجر فقيل إنه جسم فينبغي أن يقال أي جسم هو فيقول نام وأما مطلب ( كيف ) و ( أين ) و ( متى ) وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب ( هل ) والمطلوب به صفة الوجود
القانون الثاني إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية وذلك غامض فلا بد من بيانه فنقول المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالإضافة إلى الموصوف
إما ذاتيا له ويسمى صفة نفس
وإما لازما ويسمى تابعا
وإما عارضا لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود
ولا بد من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا
أما الذاتي فإني أعني به كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه وذلك كاللونية للسواد والجسمية للفرس والشجر فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية وكذا الفرس ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى فلا بد من إدراجه في حد الشيء فمن يحد النبات يلزمه أن يقول جسم نام لا محالة
وأما اللازم فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا يتصور مفارقته له ولكن فهم الأرض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا ولا يمكننا أن نعلم الأرض والسماء ما لم نعلم الجسم
وأما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما

سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي وربما لا يزول في الوجود كزرقة العين ولكن يمكن رفعه في الوهم وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس فإنه ملازم لا تتصور مفارقته ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن وقد استقصيناه في كتاب معيار العلم فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم فلا تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات وينبغي أن تورد جميع الذاتيات حتى يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب ما هو فإن القائل ما هو يطلب حقيقة الشيء فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي والذاتي ينقسم إلى عام ويسمى جنسا وإلى خاص ويسمى نوعا فإن كان الذاتي العام لا أعم منه سمي جنس الأجناس وإن كان الذاتي الخاص لا أخص منه سمي نوع الأنواع وهو اصطلاح المنطقيين ولتصالحهم عليه فإنه لا ضرر فيه وهو كالمستعمل أيضا في علومنا ومثاله أنا إذا قلنا الجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم والجسم ينقسم إلى نام وغير نام والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وغير عاقل فالجوهر جنس الأجناس إذ لا أعم منه والإنسان نوع الأنواع إذ لا أخص منه والنامي نوع بالإضافة إلى الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه وكذلك الحيوان بين النامي الأعم والإنسان الأخص فإن قيل كيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه وكيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه وكيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وخياط أخص منه قلنا لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا الأعم الذي هو ذاتي للشيء أي داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوما للعقل وعلى هذا اصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية إذ بطلانه لا يوجب زوال الماهية عن الذهن بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا شكل يحيط به ثلاثة أضلاع أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل يحيط به سبعة أضلاع فهم السائل حد المسبع وإن لم يعلم أن المسبع موجود في العالم أصلا فبطلان العلم بوجوده لا يبطل عن ذهنه فهم حقيقة المسبع ولو بطل عن ذهنه الشكل لبطل المسبع ولم يبق مفهوما عنده وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلا أو قصيرا أو شيخا أو صبيا أو كاتبا أو أبيض أو محترفا فشيء منه لا يدخل في الماهية إذ لا يتغير جواب الماهية بتغيره فإذا قيل لنا ما هذا فقلنا إنسان وكان صغيرا فكبر أو قصيرا فطال فسئلنا مرة أخرى ما هو لست أقول من هو لكان الجواب ذلك بعينه ولو أشير إلى ما ينفصل من الأحليل عند الوقاع وقيل ما هو لقلنا نطفة فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل ما هو تغير الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا ماء كما في حالة البرودة ولو استحال بالنار بخارا ثم هواء ثم قيل ما هو تغير الجواب فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل فلنذكر في الحد الحقيقي ما يدخل في الماهية وأما الحد اللفظي والرسمي

فمؤنتهما خفيفة إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر وتبديل لفظ العلم بالمعرفة أو بما هو وصف عرضي جامع مانع وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي وهو الكاشف عن ماهية الشيء لا غير
القانون الثالث ( أصل السؤال وتعريفه الصحيح ) إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحده حدا حقيقيا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقيا إلا بها فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا ويخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشيء ومصورا لكنه معناه في النفس
الأولى أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد أن تقول جسم لكن لو اقتصرت عليه لبطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز به عما لا ينمو فهذا الاحتراز يسمى فصلا أي فصلت به المحدود عن غيره
الثانية أن تذكر جميع ذاتياته وإن كانت ألفا ولا تبالي بالتطويل لكن ينبغي أن تقدم الأعم على الأخص فلا تقول نام جسم بل بالعكس وهذه لو تركتها لتشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ فالإنكار عليك في هذا أقل مما في الأول وهو أن تقتصر على الجسم
الثالثة إنك إذا وجدت الجنس القريب فلا تذكر البعيد معه فتكون مكررا تقول مائع شراب أو تقتصر على البعيد فتكون مبعدا كما تقول في حد الخمر جسم مسكر مأخوذ من العنب وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس لكنه مختل قاصر عن تصوير كنه حقيقة الخمر بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم وهو أيضا ضعيف بل ينبغي أن تقول شراب مسكر فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنسا أخص منه فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل إذ الشراب يتناول سائر الأشربة فاجتهد أن تفصل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك ذلك وهو كذلك عسير في أكثر الحدود فاعدل بعد ذكر الجنس إلى اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة فإن الخفي لا يعرف كما إذا قيل ما الأسد فقلت سبع أبخر ليتميز بالبخر عن الكلب فإن البخر من خواص الأسد لنه خفي ولو قلت سبع شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى المقصود لأنها أجلى وأكثر مما ترى في الكتب من الحدود رسمية إذ الحقيقية عسرة جدا وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر والتمييز بين الذاتي واللازم عسر ورعاية الترتيب حتى لا يبتدأ بالأخص قبل الأعم عسر وطلب الجنس الأقرب عسر فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع فتجمع أنواعا من العسر وأحسن الرسميات ما وضع فيه الجنس الأقرب وتمم بالخواص المشهورة المعروفة
الرابعة أن تحترز من الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض واذكر مرادك للسائل فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة للإنباء عنه ولو طول مطول واستعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في

ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات فإنه المقصود وهذه المزايا تحسينات وتزيينات كالأبازير من الطعام المقصود وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود الأصلي إلى الوسائل والرسوم والتوابع حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث إن الثقة مترددة بين الأمانة والفهم وهذا هوس لأن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعين فيها جهة الفهم ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر من حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر لأن قرينة الحاسة أذهبت عنه الاحتمال وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها
القانون الرابع في طريق اقتناص الحد اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا في حد الخمر أنه شراب مسكر فقيل لنا لم لكان محالا أن يقام عليه برهان فإن لم يكن معنا خصم وكنا نطلبه فكيف نطلبه بالبرهان وقولنا الخمر شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنه شراب مسكر وهذه القضية إن كانت معلومة بلا وسط فلا حاجة إلى البرهان وإن لم تعلم وافتقرت إلى وسط وهو معنى البرهان أعني طلب الوسط كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحد قضية واحدة فبماذا تعرف صحتها فإن احتيج إلى وسط تداعى إلى غير نهاية وإن وقف في موضع بغير وسط فبماذا تعرف في ذلك الموضع صحته فليتخذ ذلك طريقا في أول الأمر مثاله لو قلنا في حد العلم إنه المعرفة فقيل لم فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلا وكل اعتقاد فهو معرفة فكل علم إذن معرفة لأن هذا طريق البرهان على ما سيأتي فيقال ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد ولم قلتم كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين وهكذا يتداعى إلى غير نهاية بل الطريق أن النزاع إن كان مع خصم أن يقال عرفنا صحته باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلمه الخصم بالضرورة وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة ربما ينازع فيه ولا يقر به فإن منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا ما فيه التفاوت من زيادة أو نقصان وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان وجردنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضمونا فقالوا لا نسلم أن ولد المغصوب مغصوب قلنا حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد فربما منع كون اليد عادية وكونه إثباتا بل نقول هذا ثبوت ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال نسلم أن هذا موجود في ولد المغصوب لكن لا نسلم أن هذا حد الغصب فهذا لا يمكن إقامة برهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة فنقول قد زدت وصفا وهو الإزالة فلننظر هل يمكننا أن نقدر على اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف فإن قدرنا عليه بان أن الزيادة عليه محذوفة وذلك بأن نقول الغاصب من الغاصب

يضمن للمالك وقد أثبت اليد المبطلة ولم يزل المحقة فإنها كانت زائلة فهذا طريق قطع النزاع مع المناظر وأما الناظر مع نفسه إذا تحررت له حقيقة له حقيقة الشيء وتخلص له اللفظ الدال على ما تحرر في مذهبه علم أنه واجد للحد فلا يعاند نفسه
القانون الخامس في حصر مداخل الخلل في الحدود وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما أما الخلل من جهة الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في العشق إنه إفراط المحبة وإنما ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس كقولك في الكرسي إنه خشب يجلس عليه وفي السيف إنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف إنه آلة صناعية من حديد مستطيلة عرضها كذا ويقطع بها كذا فالآلة جنس والحديد محل الصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان موجودا والآن ليس بموجود كقولك للرماد إنه خشب محترق وللولد أنه نطفة مستحيلة فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقال في حد العشرة أنها خمسة وخمسة ومن ذلك أن توضع القدرة موضع المقدور كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية وهو فاسد بل هو الذي يترك وإلا فالفاسق يقوى على الترك ولا يترك ومن ذلك أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض مثلا ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشر وأما من جهة الفصل فأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدل الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول وأما الأمور المشتركة فمن ذلك أن يحد الشيء بما هو أخفى منه كقول القائل حد الحادث ما به القدرة ومن ذلك حد الشيء بما هو مساو له في الخفاء كقولك العلم ما يعلم به أو ما يكون الذات به عالما ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فيقول حد العلم ما ليس بظن ولا جهل وهكذا حتى يحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد ما ليس بزوج فيدور الأمر ولا يحصل له بيان ومن ذلك أن يأخذ المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة كقول القائل حد الأب من له ابن ثم لا يعجز أن يقول حد الابن من له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان تولد من نطفته حيوان آخر هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك ولا يحيل على الابن فإنهما في الجهل والمعرفة يتلازمان ومن ذلك أن يأخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحد المعلول إلا بأن تؤخذ العلة في حده كما يقول في حد الشمس إنه كوكب يطلع نهارا فيقال وما حد النهار فيلزمه أن يقول النهار زمان من طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر لا يمكن إحصاؤها
القانون السادس في أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حده إلا بطريق

شرح اللفظ أو بطريق الرسم
وأما الحد الحقيقي فلا والمعنى المفرد مثل الموجود فإذا قيل لك ما حد الموجود فغايتك أن تقول هو الشيء أو الثابت فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في موضع اللسان كمن يقول ما العقار فيقال الخمر وما الغضنفر فيقال الأسد وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال ثم لا يكون إلا شرحا للفظ وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتخلص له ذلك في عقله إلا بأن يقول هو سبع من صفته كيت وكيت فأما تكرار الألفاظ المترادفة فلا يغنيه ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئا من توابعه ولوازمه وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات فلا يكون حقيقيا فإذا الموجود لا حد له فإنه مبدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه وإنما قلنا المعنى المفرد ليس له الحد الحقيقي لأن معنى قول القائل ما حد الشيء قريب من معنى قوله ما حد هذه الدار وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة مسورة بها فإذا قال ما حد السواد فكأنه يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرئي ومعلوم ومذكور واحد وكثير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك من الأوصاف وهذه الأوصاف بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لونا فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لتجمع له تلك المعاني المتعددة ويتخلص بأي يبتدىء بالأعم ويختم بالأخص ولا يتعرض للعوارض وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم بل للذاتيات خاصة فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة كالموجود فكيف يتصور تحديده فكان السؤال عنه كقول القائل ما حد الكرة ويقدر العالم كله كرة فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار إذ ليس له حدود فإن حده عبارة عن منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس سطوحا مختلفة ولا هو منته إلى مختلفة حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ربما يفهم مقصود هذا الكلام ولا يفهم من قولي السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع أن في السواد ذوات متعددة متباينة متفاضلة فلا تقل إن السواد لون وسواد بل لون ذلك اللون بعينه هو سواد ومعناه يتركب ويتعدد للعقل حتى يعقل اللونية مطلقا ولا يخطر له السواد مثلا ثم يعقل السواد فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة والمتكلمون يسمون اللونية حالا لأن منكر الحال إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه الحد وإن زاد شيئا للاحتراز فيقال له إن الزيادة عين الأول أو غيره فإن كان عينه قلت

بموجود موجود والمترادفة كالمتكررة فهو إذا يبطل بالعرض وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك متحيز ولم يندفع بقولك موجود فهو غير بالمعنى لا باللفظ فوجب الإعتراف بتغاير المعنى في العقل والمقصود بيان أن المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي وإنما يحد بحد لفظي كقولك في حد الموجود إنه الشيء أو رسمي كقولك في حد الموجود أنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق والقادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه وكل ذلك ليس ينبىء عن ذات الموجود بل عن تابع لازم لا يفارقه البتة
واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات توجه السؤال عن حد الآحاد فإذا قيل لك ما حد الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حد النبات فتقول جسم نام فيقال ما حد الجسم فتقول جوهر مؤتلف أو الجوهر الطويل العريض العميق فيقال وما حد الجوهر وهكذا فإن كل مؤلف فيه مفردات فله حقيقة وحقيقته أيضا تأتلف من مفردات ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها وكل برهان ينتظم من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان يأتلف من مقدمتين وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل فإن طلب الحقيقة فهو معاند كمن يطلب البرهان على أن الإثنين أكثر من الواحد فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين
الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين بحدود مفصلة وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب معيار العلم ومحك النظر ونحن الآن مقتصرون على حد الحد وحد العلم وحد الواجب لأن هذا النمط من الكلام دخيل في علم الأصول فلا يليق فيه الاستقصاء
الامتحان الأول ( حد الحد ) اختلف الناس في حد الحد فمن قائل يقول حد الشيء هو حقيقته وذاته ومن قائل يقول حد الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع ومن قائل ثالث يقول هذه المسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد وهذان قد تباعدا وتنافرا وما تواردا على شيء واحد وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك على ما سنذكره فإن من يحد العين بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية لم يخالف من حده بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود بل حد هذا أمرا مباينا لحقيقة الأمر الآخر وإنما اشتركا في اسم العين فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع فإن قلت فما الصحيح عندك في حد الحد فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه ومن قرر المعاني أولا في عقله ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى فلنقرر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب الأولى حقيقته في نفسه

الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم
الثالثة تأليف صوت بحروف تدل عليه وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس
الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه والعلم تبع للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه وهذه الأربعة متطابقة متوازية إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأمم والآخرين وهو اللفظ والكتابة يختلفان بالأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قصد بها مطابقة الحقيقة ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع وإنما استعير لهذه المعاني لمشاركته في معنى المنع فانظر المنع أين تجده في هذه الأربعة فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره فإذا الحقيقة جامعة مانعة وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك لأنه مطابق للحقيقة المانعة والمطابقة توجب المشاركة في المنع وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة فهي أيضا مطابقة فقد وجدت المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثاني بل هو مشترك بين الحقيقة وبين اللفظ وكل لفظ مشترك بين حقيقتين فلا بد أن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حد الحد أنه حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حد الحد أنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي فحد الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقولك الموجود هو الشيء والعلم هو المعرفة والحركة هي النقلة هو تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل على شرط أن يجمع ويمنع
وأما حد الحد عند من يقنع بالرسميات فإنه اللفظ الشارح للشيء بتعديد صفاته الذاتية أو اللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس
وأما حده عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي فهو إنه القول الدال على تمام ماهية الشيء ولا يحتاج في هذا إلى ذكر الطرد والعكس لأن ذلك تبع للماهية بالضرورة ولا يحتاج إلى التعرض للوازم والعوارض فإنها لا تدل على الماهية بل لا يدل إلا على الماهية إلا الذاتيات فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية فهذه أربعة أمور مختلفة كما دل لفظ العين على أمور مختلفة فتعلم صناعة الحد فإذا ذكر لك اسم وطلب منك حده فانظر فإن كان مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها الاشتراك فإن كانت ثلاثة فاطلب لها ثلاثة حدود فإن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود فإذا قيل لك ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد فإن الإنسان مشترك بين أمور إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإنسان المصنوع على

الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإنسان الميت وله حد آخر فإن اليد المقطوعة والذكر المقطوع يسمى ذكرا وتسمى يدا ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة فإنها كانت تسمى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع وبعد القطع تسمى به من حيث أن شكلها شكل آلة البطش حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم وكذلك إذا قيل ما حد العقل فلا تطمع في أن تحده بحد واحد فإنه هوس لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدو فيقال فلان عاقل أي في هدو وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال للحجاج عاقل بل داه ولا يقال للكافر عاقل وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية بل إما فاضل وإما داه وإما كيس فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية كجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات وهكذا بقية الاعتبارات
فإن قلت فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين أحدهما أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه و سلم أو قول إمام من الأئمة يقصد الاطلاع على مراده به فيكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد فالخلاف تباين بعد التوارد وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة وبين من يقول الإنسان مجبور على الحركات إذ لا توارد فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى أو في كتاب إمام لجاز أن يتنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي
الثاني أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف كما يقول المعتزلي حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به ونحن نخالف في ذكر الشيء فإن المعدوم عندنا ليس بشيء وهو معلوم فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد وكذلك يقول القائل حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا ويخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الإنسان عن الذئاب وسائر الحيوانات من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب وتميز الإنسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب وفي الإنسان دون الذئاب وخلق البصر في العين دون العقب لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها فهذه أمور وإن أوردناها في

معرض الامتحان فقد أدرجنا فيها ما يجري على التحقيق مجرى القوانين
امتحان ثان ( حد العلم اختلف في حد العلم فقيل إنه المعرفة وهو حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه كما يقال حد الأسد الليث وحد العقار الخمر وحد الموجود الشيء وحد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم تطويل وتكرير إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك فهو كقول القائل حد الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود فإن هذا تطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا
ولست أمنع من تسمية هذا حدا فإن لفظ الحد مباح في اللغة لمن استعاره لما يريده مما فيه نوع من المنع هذا إذا كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع وإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة وقيل أيضا أنه الذي يعلم به وأنه الذي تكون الذات به عالمة وهذا أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر فيشرح الأخفى بالأشهر أما العالم ويعلم فهما مشتقان من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح له بالمشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه وهو كقول القائل في حد الفضة إنها التي تصاغ منها الأواني الفضية
وقد قيل في حد العلم إنه الوصف الذي يتأتى للمتصف به إتقان الفعل وأحكامه وهذا ذكر لازم من لوازم العلم فيكون رسميا وهو أبعد مما قبله من حيث أنه أخص من العلم فإنه لا يتناول إلا بعض العلوم ويخرج منه العلم بالله وصفاته إذ ليس يتأتى به إتقان فعل وأحكامه ولكنه أقرب مما قبله بوجه فإنه ذكر لازم قريب من الذات ليفيد شرحا وبيانا بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة فإن قلت فما حد العلم عندك فاعلم أنه إسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس وله حد بحسبه ويطلق على التخيل وله حد بحسبه ويطلق على الظن وله حد آخر ويطلق على علم الله تعالى على وجه آخر أعلى وأشرف ولست أعني به شرفا بمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة لأنه معنى واحد محيط بجميع التفاصيل ولا تفاصيل ولا تعدد في ذاته وقد يطلق على إدراك العقل وهو المقصود بالبيان وربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي فإنا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه وإذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن تحديد الإدراكات أعجز ولكنا نقدر على شرح معنى العلم بتقسيم ومثال أما التقسيم فهو أن نميزه عما يلتبس به ولا يخفى وجه تميزه عن الإرادة والقدرة وسائر صفات النفس وإنما يلتبس بالاعتقادات ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الشك والظن لأن الجزم منتف عنهما والعلم عبارة عن أمر جزم لا تردد فيه ولا تجويز ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الجهل فإنه متعلق بالمجهول على خلاف ما هو به والعلم مطابق للمعلوم وربما يبقى ملتبسا باعتقاد المقلد الشيء على ما هو به عن تلقف لا عن بصيرة وعن جزم لا عن تردد ولأجله خفي على المعتزلة حتى قالوا في حد العلم إنه

اعتقاد الشيء على ما هو به وهو خطأ من وجهين أحدهما تخصيص الشيء مع أن العلم يتعلق بالمعدوم الذي ليس شيئا عندنا
والثاني إن هذا الاعتقاد حاصل للمقلد وليس بعالم قطعا فإنه كما يتصور أن يعتقد الشيء جزما على خلاف ما هو به لا عن بصيرة كاعتقاد اليهودي والمشرك فإنه تصميم جازم لا تردد فيه يتصور أن يعتقد الشيء بمجرد التلقين والتلقف على ما هو به مع الجزم الذي لا يخطر بباله جواز غيره فوجه تميز العلم عن الاعتقاد هو أن الاعتقاد معناه السبق إلى أحد معتقدي الشاك مع الوقوف عليه من غير إخطار نقيضه بالبال ومن غير تمكين نقيضه من الحلول في النفس فإن الشاك يقول العالم حادث أم ليس بحادث والمعتقد يقول حادث ويستمر عليه ولا يتسع صدره لتجويز القدم والجاهل يقول قديم ويستمر عليه والاعتقاد وإن وافق المعتقد فهو جنس من الجهل في نفسه وإن خالفه بالإضافة فإن معتقد كون زيد في الدار لو قدر استمراره عليه حتى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان لم يتغير في نفسه وإنما تغيرت إضافته فإنه طابق المعتقد في حالة وخالفه في حالة وأما العلم فيستحيل تقدير بقائه مع تغير المعلوم فإنه كشف وانشراح والاعتقاد عقدة على القلب والعلم عبارة عن انحلال العقد فهما مختلفان ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه والعالم لا يجد ذلك أصلا وإن أصغى إلى الشبه المشككة ولكن إذا سمع شبهة فإما أن يعرف حلها وإن لم تساعده العبارة في الحال وإما أن تساعده العبارة أيضا على حلها وعلى كل حال فلا يشك في بطلان الشبهة بخلاف المقلد وبعد هذا التقسيم والتمييز يكاد يكون العلم مرتسما في النفس بمعناه وحقيقته من غير تكلف تحديد
وأما المثال فهو أن إدراك البصيرة الباطنة تفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المبصر في القوة الباصرة من إنسان العين كما يتوهم انطباع الصور في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صور المبصرات أي ينطبع فيها مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال يطابق صورتها وكذلك يرى مثال النار في المرآة لا عين النار فكذلك العقل على مثال مرآة تنطبع فيها صور المعقولات على ما هي عليها وأعني بصور المعقولات حقائقها وماهياتها فالعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات وهيآتها في نفسه وانطباعها فيه كما يظن من حيث الوهم انطباع الصور في المرآة ففي المرآة ثلاثة أمور الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيها فكذلك جوهر الآدمي كحديدة المرآة وعقله هيئة وغريزة في جوهره ونفسه بها يتهيأ للانطباع بالمعقولات كما أن المرآة بصقالتها واستدارتها تتهيأ لمحاكاة الصور فحصول الصور في مرآة العقل التي هي مثال الأشياء هو العلم والغريزة التي بها يتهيأ لقبول هذه الصورة هي العقل والنفس التي هي حقيقة الآدمي المخصوصة بهذه الغريزة المهيأة لقبول حقائق المعقولات كالمرآة فالتقسيم الأول يقطع العلم عن مظنان الاشتباه وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم فحقائق المعقولات إذا انطبع بها النفس العاقلة تسمى علما وكما أن السماء والأرض والأشجار والأنهار يتصور أن ترى في المرآة حتى كأنها موجودة في المرآة وكأن المرآة حاوية لجميعها فكذلك الحضرة

الإلهية بجملتها يتصور أن تنطبع بها نفس الآدمي والحضرة الإلهية عبارة عن جملة الموجودات فكلها من الحضرة الإلهية إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله فإذا انطبعت بها صارت كأنها كل العالم لإحاطتها به تصورا وانطباعا وعند ذلك ربما ظن من لا يدري الحلول فيكون كمن ظن أن الصورة حالة في المرآة وهو غلط لأنها ليست في المرآة ولكن كأنها في المرآة فهذا ما نرى الاقتصار عليه في شرح حقيقة العلم في هذه المقدمة التي هي علاوة على هذا العلم
امتحان ثالث ( تعريف الواجب ) اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلق به الإيجاب وهو فاسد كقولهم العلم ما يعلم به وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه وقيل ما يجب بتركه العقاب وقيل ما لا يجوز العزم على تركه وقيل ما يصير المكلف بتركه عاصيا وقيل ما يلام تاركه شرعا وأكثر هذه الحدود تعرض للوازم والتوابع وسبيلك إن أردت الوقوف على حقيقته أن تتوصل إليه بالتقسيم كما أرشدناك إليه في حد العلم فاعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح فدع الألفاظ جانبا ورد النظر إلى المعنى أولا فأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع ويقول وجود الله تعالى واجب وقال الله تعالى وجبت جنوبها ( الحج 36 ) ويقال وجبت الشمس وله بكل معنى عبارة والمطلوب الآن مراد الفقهاء وهذه الألفاظ لا شك أنها لا تطلق على جوهر بل على عرض ولا على كل عرض بل من جملتها على الأفعال فقط ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا على أفعال البهائم فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا وحادثا ومعلوما ومكتسبا ومخترعا وله بحسب كل نسبة انقسامات إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا نظر فيها ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطار الشرع فقط فنقسم الأفعال بالإضافة إلى خطاب الشرع فنعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق به خطاب الشرع كفعل المجنون وإلى ما يتعلق به والذي يتعلق به ينقسم إلى ما يتعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإقدام عليه وبين الإحجام عنه ويسمى مباحا وإلى ما ترجح فعله على تركه وإلى ما ترجح تركه على فعله والذي ترجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمى مندوبا وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه ويسمى واجبا ثم ربما خص فريق اسم الواجب بما أشعر بالعقوبة عليه ظنا وما أشعر به قطعا خصوه باسم الفرض ثم لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمى مكروها وقد يكون منه ما أشعر بعقاب على فعله في الدنيا كقوله صلى الله عليه و سلم من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمى محظورا و حراما ومعصية فإن قلت فما معنى قولك أشعر فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة فالإشعار يعم جميع المدارك فإن قلت فما معنى قولك عليه عقاب قلنا معناه أنه أخبر أنه سبب العقاب في الآخرة فإن قلت فما المراد بكونه سببا فالمراد به ما يفهم من قولنا الأكل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء فإن قلت فلو كان سببا لكان لا يتصور أن لا يعاقب وكم من تارك واجب يعفى عنه

ولا يعاقب فأقول ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص أو في معين مشار إليه بل يجوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب ولا يدل ذلك على بطلان السببية فرب دواء لا ينفع ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشيء آخر كمن يجرح في حال القتال وهو لا يحس في الحال به وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب فإن قال قائل هل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلنا أما الحد اللفظي فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة الأسامي الموضوعة للشيء الواحد
وأما الرسمي فيجوز أيضا أن يكثر لأن عوارض الشيء الواحد ولوازمه قد تكثر
وأما الحد الحقيقي فلا يتصور أن يكون إلا واحدا لأن الذاتيات محصورة فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو فإذا هذا الحد لا يتعدد وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة كما يقال في حد الحادث أنه الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم فهذه العبارات لا تؤدي إلا معنى واحدا فإنها في حكم المترادفة ولنقتصر في الامتحانات على هذا القدر فالتنبيه حاصل به إن شاء الله تعالى
الدعامة الثانية من مدارك العقول في البرهان الذي به التوصل إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالبحث والنظر وهذه الدعامة تشتمل على ثلاثة فنون سوابق ولواحق ومقاصد
الفن الأول في السوابق ويشتمل على تمهيد كلي وثلاثة فصول
التمهيد اعلم أن البرهان عبارة عن أقاويل مخصوصة ألفت تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر بالنظر وهذه الأقاويل إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها سميت مقدمات والخلل في البرهان تارة يدخل من جهة نفس المقدمات إذ قد تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ومرة منها جميعا ومثاله من المحسوسات البيت المبني فإنه أمر مركب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الأرض فيكون فاسدا من حيث الصورة وإن كانت الأحجار والجذوع وسائر الآلات صحيحة وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ولكن يكون الخلل من رخاوة في الجذوع وتشعب في اللبنات هذا حكم البرهان والحد وكل أمر مركب فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب كالثوب في القميص والخشب في الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف وكما أن من يريد بناء بيت بعيد عن الخلل يفتقر إلى أن يعد الآلات المفردة أولا

كالجذوع واللبن والطين ثم إن أراد اللبن افتقر إلى إعداد مفرداته وهو التبن والتراب والماء والقالب الذي فيه يضرب فيبتدىء أولا بالأجزاء المفردة فيركبها ثم يركب المركب وهكذا إلى آخر العمل وكذلك طالب البرهان ينبغي أن ينظر في نظمه وصورته وفي المقدمات التي فيها النظم والترتيب وأقل ما ينتظم منه برهان مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنها والأخرى خبرا ووصفا فقد انقسم البرهان إلى مقدمتين وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ فيجب ضرورة أن ننظر في المعاني المفردة وأقسامها ثم في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة وننظر في حكم المقدمة وشروطها ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانا وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة وكل من أراد أن يعرف البرهان بغير هذا الطريق فقد طمع في المحال وكان كمن طمع في أن يكون كاتبا يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتابة الكلمات أو يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتابة الحروف المفردة وهكذا القول في كل مركب فإن أجزاء المركب تقدم على المركب بالضرورة حى لا يوصف القادر الأكبر بالقدرة على خلق العلم بالمركب دون الآحاد إذ لا يوصف بالقدرة على تعليم الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات فلهذه الضرورة اشتملت دعامة البرهان على فن في السوابق وفن في المقاصد وفن في اللواحق
الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في دلالة الألفاظ على المعاني ويتضح المقصود منه بتقسمات
التقسيم الأول إن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه وهي المطابقة والتضمن والإلتزام فإن لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة ويدل على السقف وحده بطريق التضمن لأن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والحيطان وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط للحائط حتى يكون مطابقا ولا هو متضمن إذ ليس الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الإلتزام لكن اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة والتضمن لأن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد إذ السقف يلزم الحائط والحائط الأس والأس الأرض وذلك لا ينحصر
التقسيم الثاني إن الألفاظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله تنقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة ونسميه معينا كقولك زيد وهذه الشجرة وهذا الفرس وهذا السواد
وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد ونسميه مطلقا
والأول حده اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه فلو قصدت اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم

اللفظ منه
وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الاشتراك في معناه كقولك السواد والحركة والفرس والإنسان وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أدخل عليه الألف واللام للعموم فإن قلت وكيف يستقيم هذا وقولك الإله والشمس والأرض لا يدل إلا على شيء واحد مفرد مع دخول الألف واللام فاعلم أن هذا غلط فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس مفهوم اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوز في الإله عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة كلها فإن امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إله ثان فلم يكن امتناع الشركة لمفهوم اللفظ والمانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة فلو فرضنا عوالم في كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملا للكل فتأمل هذا فإنه مزلة قدم في جملة من الأمور النظرية فإن من لا يفرق بين قوله السواد وبين قوله هذا السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم سهوه في النظريات من حيث لا يدري
التقسيم الثالث إن الألفاظ المتعددة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ولنخترع لها أربعة ألفاظ وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة
أما المترادفة فنعني بها الألفاظ المختلفة والصيغ المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب وبالجملة كل اسمين لمسمى واحد يتناوله أحدهما من حيث يتناوله الآخر من غير فرق
وأما المتباينة فنعني بها الأسامي المختلفة للمعاني المختلفة كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والأرض وسائر الأسامي وهي الأكثر
وأما المتواطئة فهي التي تنطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متفقة بالمعنى الذي وضع الإسم عليها كاسم الرجل فإنه ينطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد واسم الجسم ينطلق على السماء والأرض والإنسان لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع الاسم بإزائها وكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فإنه ينطلق على آحاد مسمياته الكثيرة بطريق التواطؤ كاسم اللون للسواد والبياض والحمرة فإنها متفقة في المعنى الذي به سمي اللون لونا وليس بطريق الاشتراك البتة
وأما المشتركة فهي الأسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي يتفجر منه الماء وهي العين الفوارة وللذهب وللشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف ولقد ثار من ارتباك المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات حتى ظن من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من حيث الاسم وإن ذلك كمشاركة الذهب للمحدقة الباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل عقد البيع للكوكب في المشتري وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنرد له شرحا فنقول الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه وقد يدل على المتضادين كالجلل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للسواد والبياض والقرء للطهر والحيض واعلم أن المشترك قد يكون مشكلا قريب الشبه من المتواطىء ويعسر على الذهن وإن كان في غاية الصفاء الفرق ولنسم ذلك متشابها وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء المبصر

من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدى في الغوامض فلا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونها جسما إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان فإنه بالاشتراك المحض إذ يراد به من بعض النبات المعنى الذي به نماؤه ومن الحيوان المعنى الذي به يحس ويتحرك بالإرادة وإطلاقه على الباري تعالى إذا تأملت عرفت أنه لمعنى ثالث يخالف الأمرين جميعا ومن أمثال هذه تتابع الأغاليط مغلطة أخرى قد تلتبس المترادفة بالمتباينة وذلك إذا أطلقت أسام مختلفة على شيء واحد باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهند والصارم فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف والصارم يدل على السيف مع صفة الحدة والقطع لا كالأسد والليث وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نحتاج إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبدل اعتباراته كما أنا نسمي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدى به المتحدي ولم يكن عليه برهان إن كان في مقابلة خصم وإن لم يكن في مقابلة خصم سميناه قضية كأنه قضى فيه على شيء بشيء فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سميناه مطلوبا فإن دل بقياسه على صحته سميناه نتيجة فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتبه في أجزاء القياس سميناه مقدمة وهذا ونظائره مما يكثر
مثال الغلط في المشترك قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل يلزمه القصاص لأنه مختار ويقول الحنفي لا يلزمه القصاص لأنه مكره وليس بمختار ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالأمرين وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال وترى الفقهاء يتعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله وإنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك إذ قد يجعل لفظ المختار مراد فاللفظ القادر ومساويا له إذ قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة كالمحمول فيقال هذا عاجز محمول وهذا قادر مختار ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه وهو صادق على المكره وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته بلا تحرك دواعيه من خارج وهذا يكذب على المكره ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت فيها عقول الضعفاء فليستدل بهذا القليل على الكثير
الفصل الثاني من الفن الأول النظر في المعاني المفردة ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمات ثلاثة الأول أن المعنى إذا وصف بالمعنى ونسب إليه وجد إما ذاتيا وإما عرضيا وإما لازما وقد فصلناه
والثاني أنه إذا نسب إليه وجد إما أعم كالوجود بالإضافة إلى الجسمية وإما أخص كالجسمية بالإضافة إلى الوجود وإما مساويا كالمتحيز بالإضافة إلى الجوهر عند قوم وإلى الجسم عند قوم
الثالث إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى به تميزت الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر بها وإذا بطل ذلك المعنى

بطل الإبصار والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر فلو انعدم المبصر انعدم الإبصار وتبقى صورته في دماغك كأنك تنظر إليها وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلا وتنفي الحالة التي تسمى إبصارا ولما كنت تحس بالمتخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة بها يتهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باين العين الجبهة والعقب في الأبصار بمعنى اختص به لا محالة والصبي في أول نشئه تقوى فيه قوة الإبصار لا قوة التخيل فلذلك إذا ولع بشيء فغيبته عنه وأشغلته بغيره اشتغل به ولها عنه وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل ولا يفسد الأبصار فيرى الأشياء ولكنه كما تغيب عنه ينساها وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق له وأنه مستلذ لديه فبادر إليه فلو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته لها ثانيا كرؤيته لها أولا حتى لا يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين الإنسان بها البهيمة تسمى عقلا محلها إما دماغك وإما قلبك وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيز محلها النفس وقوة العقل تباين قوة التخيل مباينة أشد من مباينة التخيل للإبصار إذ ليس بين قوة الإبصار وقوة التخيل فرق إلا أن وجود المبصر شرط لبقاء الأبصار وليس شرطا لبقاء التخيل وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ويبقى في التخيل ذلك البعد وذلك القدر واللون وذلك الوضع والشكل حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان قدر على أن يجعلها نصفين فيصور نصف إنسان وربما ركب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس وربما تصور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحده وصورة الطير وحده وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال بل كل تصوراتها بالتفريق والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال والمقصود أن مباينة إدراك العقل لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست داخلة في ذاتها أعني التي ليست ذاتية كما سبق فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا وإنما إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك السواد ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجردة ويدرك الحيوانية والجسمية مجردة وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره الإلتفات إلى العاقل وغير العاقل وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضر معنى السوادية والبياضية وغيرهما وهذه من عجيب خواصها وبديع أفعالها فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير

والكبير والأشهب والكميت والبعيد منه في المكان والقريب بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة متنزهة عن كل قرينة ليست ذاتية لها فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود إذ مختلفات اللون والقدر تشترك في حقيقة الفرسية وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور مختلفة هي التي يعبر عنها المتكلمون بالأحوال والوجوه والأحكام ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل يعنون خارج الذهن وداخله ويقول أرباب الأحوال إنها أمور ثابتة تارة يقولون إنها موجودة معلومة وتارة يقولون لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت عقولهم والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس إذ من هاهنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الإنساني ومن تحير في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته
الفصل الثالث من السوابق في أحكام المعاني المؤلفة قد نظرنا في مجرد اللفظ ثم في مجرد المعنى فننظر الآن في تأليف المعنى على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب كقولنا مثلا العالم حادث والباري تعالى قديم فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الأخرى إما بالإثبات كقولك العالم حادث أو بالسلب كقولك العالم ليس بقديم وقد التأم هذا من جزأين يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا ويسمي المتكلمون أحدهما وصفا والآخر موصوفا ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا والآخر محمولا ويسمي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه ويسمي المجموع قضية وأحكام القضايا كثيرة ونحن نذكر منها ما تكثر الحاجة إليه وتضر الغفلة عنه وهو حكمان الأول إن القضية تنقسم بالإضافة إلى المقضى عليه إلى التعيين والإهمال والعموم والخصوص فهي أربع الأولى قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد عرض
الثانية قضية مطلقة خاصة كقولنا بعض الناس عالم وبعض الأجسام ساكن
الثالثة قضية مطلقة عامة كقولنا كل جسم متحيز وكل سواد لون
الرابعة قضية مهملة كقولنا الإنسان في خسر
وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور يبين مقداره بكليته فتكون مطلقة عامة أو بجزئيته فتكون خاصة أو لا يحصر بسور فتكون مهملة والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما ومن طرق المغالطين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة فإن المهملات قد يراد بها الخصوص والعموم فيصدق طرفا النقيض كقولك الإنسان في خسر تعني الكافر الإنسان ليس في خسر تعني الأنبياء ولا ينبغي أن يسامح بهذا في النظريات مثاله أن يقول الشفعوي مثلا معلوم أن المطعوم ربوي والسفرجل مطعوم فهو إذا ربوي فإن قيل لم قلت المطعوم ربوي فتقول دليله البر والشعير والتمر بمعنى فإنها مطعومات وهي ربوية فينبغي أن يقال فقولك المطعوم ربوي أردت به كل المطعومات أو بعضها فإن أردت البعض لم تلزم النتيجة إذ يمكن أن يكون السفرجل من

البعض الذي ليس بربوي ويكون هذا خللا في نظم القياس كما يأتي وجهه وإن أردت الكل فمن أين عرفت هذا وما عددته من البر والشعير ليس كل المطعومات
النظر الثاني في شروط النقيض وهو محتاج إليه إذ رب مطلوب لا يقوم الدليل عليه ولكن على بطلان نقيضه فيستبان من إبطاله صحة نقيضه والقضيتان المتناقضتان يعني بهما كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث وإنما يلزم صدق إحداهما عند كذب الأخرى بستة شروط الأول أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ فإن اتحد اللفظ دون المعنى لم يتناقضا كقولك النور مدرك بالبصر النور غير مدرك بالبصر إذا أردت بأحدهما الضوء وبالآخر العقل ولذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار وقولهم المضطر آثم المضطر ليس بآثم إذ قد يعبر بالمضطر عن المرتعد والمحمول المطروح على غيره وقد يعبر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف
الثاني أن يكون الحكم واحدا والإسم مختلفا كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم أردت بأحد القديمين ما أراده الله تعالى بقوله كالعرجون القديم ( يس 39 ) ولذلك لم يتناقض قولهم المكره مختار المكره ليس بمختار لأن المختار عبارة عن معنيين مختلفين
الثالث أن تتحد الإضافة في الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقضا إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد وكذلك تقول زيد أب زيد ابن فلا يتعدد بالإضافة إلى شخصين والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي بالإضافة إلى العشرين والثلاثين وكما يقال المرأة مولى عليها المرأة غير مولى عليها وهما صادقان بالإضافة إلى النكاح والبيع لا إلى شيء واحد وإلى العصبة والأجنبي لا إلى شخص واحد
الرابع أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مرو أي بالقوة وليس الماء بمرو أي بالفعل والسيف في الغمد قاطع وليس بقاطع ومنه ثار الخلاف في أن البارىء في الأزل خالق أو ليس بخالق
الخامس التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي ليس بأسود الأسنان وعنه نشأ الغلط حيث قيل إن العالمية حال لزيد بجملته لأن زيدا عبارة عن جملته ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد إذ لم نعن به أنه في جميع بغداد بل في جزء منها وهو مكان يساوي مساحته
السادس التساوي في المكان والزمان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث أي هو حادث عن أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق والصبي تنبت له أسنان والصبي لا تنبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى

وبالآخر التي بعدها وبالجملة فالقضية المتناقضة هي التي تسلب ما أثبتته الأولى بعينه عما أثبتته بعينه وفي ذلك الوقت والمكان والحال وبتلك الإضافة بعينها وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل وكذلك في الجزء والكل وتحصيل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبادل النفي بالإثبات فقط
الفن الثاني في المقاصد وفيه فصلان فصل في صورة البرهان وفصل في مادته
الفصل الأول في صورة البرهان والبرهان عبارة عن مقدمتين معلومتين تؤلف تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص فيتولد بينهما نتيجة وليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها
النمط الأول ثلاثة أضرب مثال الأول قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فلزم أن كل جسم حادث ومن الفقه قولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلزم أن كل نبيذ حرام فهاتان مقدمتان إذا سلمتا على هذا الوجه لزم بالضرورة تحريم النبيذ فإن كانت المقدمات قطعية سميناها برهانا وإن كانت مسلمة سميناها قياسا جدليا وإن كانت مظنونة سميناها قياسا فقهيا وسيأتي الفرق بين اليقين والظن إذا ذكرنا أصل القياس فإن كل مقدمة أصل فإذا ازدوج أصلان حصلت النتيجة وعادة الفقهاء في مثل هذا النظم أنهم يقولون النبيذ مسكر فكان حراما قياسا على الخمر وهذا لا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظم الذي ذكرناه فإن رد إلى هذا النظم ولم يكن مسلما فلا تلزم النتيجة إلا بإقامة الدليل حتى يثبت كونه مسكرا إن نوزع فيه بالحس والتجربة وكون المسكر حراما بالخبر وهو قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر حرام وقد ذكرنا في كتاب أساس القياس أن تسمية هذا قياسا تجوز فإن حاصله راجع إلى ازدواج خصوص تحت عموم وإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا البرهان مقدمتين إحداهما قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تشتمل على جزأين مبتدأ وخبر المبتدأ محكوم عليه والخبر حكم فيكون مجموع أجزاء البرهان أربعة أمور إلا أن أمرا واحدا يتكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة أجزاء بالضرورة لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء واحد وبطل الازدواج بينهما فلا تتولد النتيجة فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ثم لم تتعرض في المقدمة الثانية لا للنبيذ ولا للمسكر لكن قلت والمغصوب مضمون أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى فبالضرورة ينبغي أن تكرر أحد الأجزاء الأربعة فلنصطلح على تسمية المتكرر علة وهو الذي يمكن أن يقترن بقولك لأن في جواب المطالبة بلم فإنه إذا قيل لك لم قلت أن النبيذ حرام قلت لأنه مسكر ولا تقول لأنه نبيذ ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة ولنسم ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه وما يجري مجرى الحرام حكما فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام ولنشتق للمقدمتين اسمين منهما لا من العلة لأن العلة متكررة فيهما فنسمي المقدمة المشتملة على المحكوم المقدمة الأولى وهي قولنا كل نبيذ مسكر والمشتملة على الحكم المقدمة الثانية وهي

قولنا كل مسكر حرام أخذا من النتيجة فإنا نقول فكل نبيذ حرام فتذكر النبيذ أولا ثم الحرام وغرض هذه التسمية سهولة التعريف عند التفصيل والتحقيق ومهما كانت المقدمات معلومة كان البرهان قطعيا وإن كانت مظنونة كان فقيها وإن كانت ممنوعة فلا بد من إثباتها وأما بعد تسليمها فلا يمكن الشك في النتيجة أصلا بل كل عاقل صدق بالمقدمتين فهو مضطر إلى التصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف لأنا إذا قلنا النبيذ مسكر جعلنا المسكر وصفا فإذا حكمنا على كل مسكر بأنه حرام فقد حكمنا على الوصف فبالضرورة يدخل الموصوف فيه فإنه إن بطل قولنا النبيذ حرام مع كونه مسكرا بطل قولنا كل مسكر حرام إذا ظهر لنا مسكر ليس بحرام وهذا الضرب له شرطان في كونه منتجاز شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة فإن كانت نافية لم تنتج لأنك إذا نفيت شيئا عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل إذا وقعت المباينة بين المسكر والخل فحكمك على المسكر بالنفي والإثبات لا يتعدى إلى الخل
الشرط الثاني في المقدمة الثانية وهو أن تكون عامة كلية حتى يدخل المحكوم عليه بسبب عمومها فيها فإنك إذا قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربويا إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم في السفرجل ويثبت ذلك بعموم الخبر فإن قلت فبماذا يفارق هذا الضرب الضربين الآخرين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع محكوما عليها في المقدمتين أو محكوما بها في المقدمتين أو توضع حكما في إحداهما محكومة في الأخرى وهذا الأخير هو النظم الأول والثاني والثالث لا يتضحان غاية الاتضاح إلا بالرد إليه فلذلك قدمنا ذكره
النظم الثاني أن تكون العلة حكما في المقدمتين مثاله قولنا الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري غير مؤلف وكل جسم مؤلف فالباري تعالى إذن ليس بجسم فهاهنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمكرر هو المؤلف فهو العلة وتراه خبرا في المقدمتين وحكما بخلاف المسكر في النظم الأول إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الأخرى ووجه لزوم النتيجة منه أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر فهما متباينان فالتأليف ثابت للجسم منتف عن الباري تعالى فلا يكون بين معنى الجسم وبين الباري التقاء أي لا يكون الباري جسما ولا الجسم هو الباري تعالى ويمكن بيان لزوم النتيجة بالرد إلى النظم الأول بطريق العكس كما أوضحناه في كتاب معيار العلم وكتاب محك النظر فلا نطول الآن به وهذا النظم هو الذي يعبر عنه الفقهاء بالفرق إذ يقولون الجسم مؤلف والباري غير مؤلف وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية سالبة وأما النظم الأول فإنه ينتج النفي والإثبات جميعا ومن شروط هذا النظم أن تختلف المقدمتان في النفي والإثبات فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من

ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر فإنا نحكم على السواد والبياض باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد ونظمه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فلا يلزم كل سواد بياض ولا كل بياض سواد نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي
النظم الثالث أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين وهذا يسميه الفقهاء نقضا وهذا إذا اجتمعت شروطه أنتج نتيجة خاصة لا عامة مثاله قولنا كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون وكذلك لو قلت كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي ووجه دلالته أن الربوي والمطعوم شيئان حكمنا بهما على شيء واحد وهو البر فالتقيا عليه وأقل درجات الإلتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي وبعض الربوي مطعوم
النمط الثاني من البرهان وهو نمط التلازم يشتمل على مقدمتين والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر إحدى تينك القضيتين تسليما إما بالنفي أو بالإثبات حتى تستنتج منه إحدى تينك القضيتين أو نقيضها ولنسم هذا نمط التلازم ومثاله قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث فهذه مقدمة ومعلوم أنه حادث وهي المقدمة الثانية فيلزم منه أن له محدثا والأولى اشتملت على قضيتين لو أسقط منهما حرف الشرط لانفصلتا إحداهما قولنا إن كان العالم حادثا والثانية قولنا فله محدث ولنسم القضية الأولى المقدم ولنسم القضية الثانية اللازم والتابع والقضية الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سميناها مقدما وهو قولنا ومعلوم أن العالم حادث فتلزم منه النتيجة وهو أن للعالم محدثا وهو عين اللازم ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوتر يؤدى على الراحلة بكل حال فهو نفل ومعلوم أنه يؤدى على الراحلة فثبت أنه نفل وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات تنتج منها اثنتان ولا تنتج اثنتان أما المنتج فتسليم عين المقدم ينتج عين اللازم مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم أن يكون المصلي متطهرا ومثاله من الحس إن كان هذا سوادا فهو لون ومعلوم أنه سواد فإذا هو لون
وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فإنه ينتج نقيض المقدم مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة غير صحيحة وإن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم أنه لا يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه أنه ليس بصحيح ووجه دلالة هذا النمط على الجملة أن ما يفضي إلى المحال فهو محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال كقولنا لو كان الباري سبحانه وتعالى مستقرا على العرش لكان إما مساويا للعرش أو أكبر أو أصغر وكل ذلك محال فما يفضي إليه محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال
وأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم فإنا لو قلنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فلا يلزم منه لا صحة الصلاة ولا فسادها إذ قد تفسد الصلاة بعلة أخرى
وكذلك تسليم نقيض المقدم لا ينتج عين اللازم ولا نقيضه فإنا

لو قلنا ومعلوم أن الصلاة ليست صحيحة فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا ولا كونه غير متطهر وتحقيق لزوم النتيجة من هذا النمط أنه مهما جعل شيء لازما لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم بل إما أخص أو مساويا ومهما كان أخص فثبوت الأخص بالضرورة يوجب ثبوت الأعم إذ يلزم من ثبوت السواد ثبوت اللون وهو الذي عنيناه بتسليم عين اللازم وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص بالضرورة إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم وأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص فإن ثبوت اللون لا يوجب ثبوت السواد فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم ولا ثبوته فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدم لا ينتج أصلا وإن جعل الأخص لازما للأعم فهو خطأ كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد فإن كان اللازم مساويا للمقدم أنتج منه أربع تسليمات كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب لكنه موجود فإذا هو واجب لكنه واجب فإذا هو موجود لكن الرجم غير واجب فالزنا غير موجود لكن زنا المحصن غير موجود فالرجم غير واجب وكذلك كل معلول له علة واحدة كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فالنهار موجود لكن النهار موجود فهي إذا طالعة لكنها غير طالعة فالنهار غير موجود لكن النهار غير موجود فهي إذا غير طالعة
النمط الثالث نمط التعاند وهو على ضد ما قبله والمتكلمون يسمونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل ويسمون ما قبله الشرطي المتصل وهو أيضا يرجع إلى مقدمتين ونتيجة ومثاله العالم إما قديم وإما حادث وهذه مقدمة وهي قضيتان الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها فيلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات فإنا نقول لكنه حادث فليس بقديم لكنه قديم فليس بحادث لكنه ليس بحادث فهو قديم لكنه ليس بقديم فهو حادث وبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر ولا يشترط أن تنحصر القضية في قسمين بل شرطه أن تستوفي أقسامه فإن كانت ثلاثة فإنا نقول العدد إما مساو أو أقل أو أكثر فهذه ثلاثة لكنها حاصرة فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث وإثبات واحد ينتج انحصارا الحق في الآخرين في أحدهما لا بعينه والذي لا ينتج فيه انتفاء واحد هو أن لا يكون محصورا كقولك زيد إما بالعراق وإما بالحجاز فهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر أما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع آخر وقول من أثبت رؤية الله بعلة الوجود يكاد لا ينحصر كلامه إلا أن نتكلف له وجها فإن قول مصحح الرؤية لا يخلو إما أن يكون كونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا فيبطل بالحركة فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود وهذا غير حاصر إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك سوى الوجود لم يعثر عليه الباحث مثل كونه بجهة من الرائي مثلا فإن أبطل

هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود فعند ذلك ينتج فهذه أشكال البراهين فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الأنواع الخمسة فهو غير منتج البتة ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم
الفصل الثاني من فن المقاصد في بيان مادة البرهان وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير فإن ما ذكرناه يجري مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من السرير وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير إذ لا يتأتى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة برهان منتج بل البرهان المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينا أو ظنية إن كان المطلوب فقهيا فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها يقتنص اليقين أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال أحدها أن يتيقن ويقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعها به صحيح ويتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس فلا يجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ بل حيث لو حكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل بل تقطع بأنه كاذب أو تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن من معجزة فهي مخرقة وبالجملة فلا يؤثر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيا على سر به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقينا مثاله قولنا الثلاثة أقل من الستة وشخص واحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون قديما حادثا موجودا معدوما ساكنا متحركا في حالة واحدة
الحالة الثانية أن تصدق بها تصديقا جزما لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضها البتة ولو أشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للإصغاء إليه ولكنها لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيض معتقدها عمن هو أعلم الناس عندها كنبي أو صديق أورث ذلك فيها توقفا ولنسم هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعا بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز
الحالة الثالثة أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر لكن لو أشعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله وهذا يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وإن انضاف إليه ثالث زاد السكون والقوة فإن انضافت إليه تجربة لصدقهم على الخصوص زادت القوة فإن انضافت إليه قرينة كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وقد اصفرت وجوههم واضطربت أحوالهم زاد الظن وهكذا لا يزال

يترقى قليلا قليلا إلى أن ينقلب الظن علما عند الانتهاء إلى حد التواتر والمحدثون يسمون أكثر هذه الأحوال علما ويقينا حتى يطلقوا القول بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح توجب العلم والعمل وكافة الخلق إلا آحاد المحققين يسمون الحالة الثانية يقينا ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظنة الغلط فإذا ألفت برهانا من مقدمات يقينية على الذوق الأول وراعيت صورة تأليفه على الشروط الماضية فالنتيجة ضرورية يقينية يجوز الثقة بها هذا بيان نفس اليقين
أما مدارك اليقين فجميع ما يتوهم كونه مدركا لليقين والاعتقاد الجزم ينحصر في سبعة أقسام
الأول الأوليات وأعني بها العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها مثل علم الإنسان بوجود نفسه وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتسمة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصوله على أمر سوى وجود العقل إذ يرتسم فيه الموجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض مثل أن القديم حادث فيكذب بالعقل به وأن القديم ليس بحادث فيصدق العقل به فلا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب
الثاني المشاهدات الباطنة وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وجميع الأحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس فهذه ليست من الحواس الخمس ولا هي عقلية بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل وكذا الصبي والأوليات لا تكون للبهائم ولا للصبيان
الثالث المحسوسات الظاهرة كقولك الثلج أبيض والقمر مستدير والشمس مستنيرة وهذا الفن واضح لكن الغلط يتطرق إلى الأبصار لعوارض مثل بعد مفرط وقرب مفرط أو ضعف في العين وأسباب الغلط في الأبصار التي هي على الاستقامة ثمانية والذي بالانعكاس كما في المرآة أو بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج فيتضاعف في أسباب الغلط واستقصاء ذلك في هذه العلاوة غير ممكن فإن أردت أن تفهم منه أنموذجا فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا والعقل يقضي بأنه متحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة وإلى الصبي في أول نشوئه والنبات في أول النشوء وهو في النمو والتزايد في كل لحظة على التدريج فتراه واقفا وأمثال ذلك مما يكثر
الرابع التجربيات وقد يعبر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والخبز مشبع والحجر هاو إلى أسفل والنار صاعدة إلى فوق والخمر مسكر والسقمونيا مسهل فإذا المعلومات التجربية يقينية عند من جربها والناس يختلفون في هذه العلوم

لاختلافهم في التجربة فمعرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الماء مرو وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه وهذه غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر يهوي إلى الأرض وأما الحكم بأن كل حجر هاو فهي قضية عامة لا قضية في عين وليس للحس إلا قضية في عين وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر فحكم بأن جنس هذا المائع مسكر فالحس لم يدرك إلا شربا وسكرا واحدا معينا فالحكم في الكل إذا هو للعقل ولكن بواسطة الحس أو بتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذ المرة الواحدة لا يحصل العلم بها فمن تألم له موضع فصب عليه مائعا فزال ألمه لم يحصل له العلم بأنه المزيل إذ يحتمل أن زواله بالاتفاق بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص فزال فربما يخطر له أن إزالته بالاتفاق فإذا تكرر مرات كثيرة في أحوال مختلفة انغرس في النفس يقين وعلم بأنه المؤثر كما حصل بأن الاصطلاء بالنار مزيل للبرد والخبز مزيل لألم الجوع وإذا تأملت هذا عرفت أن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ولم يشعر بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشغله بلفظ وكأن العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الأكثر ولو كان بالاتفاق لاختلف وهذا الآن يحرك قطبا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات وقد نبهنا على غورها في كتاب تهافت الفلاسفة والمقصود تمييز التجربيات عن الحسيات ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من النتائج فيستفيدها من أهل المعرفة بها وهذا كما أن الأعمى والأصم تعوزهما جملة من العلوم التي تستنتج من مقدمات محسوسة حتى يقدر الأعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس أكبر من الأرض فإن ذلك يعرف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية ولما كان السمع والبصر شبكة جملة من العلوم قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع
الخامس متواترات كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلوات الخمس بل كعلمنا بأن من مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي فإن هذا أمر وراء المحسوس إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة وأما الحكم بصدقة فهو للعقل وآلته السمع ولا مجرد السمع بل تكرر السماع ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو كتكرر التجربة ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته فكذلك التواتر فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة لمقدمات البراهين وما بعدها ليس كذلك
السادس الوهميات وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارا إلى جهته فإن موجودا لا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخلا ولا خارجا محال وأن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال وهذا عمل قوة في التجويف الأوسط من الدماغ وتسمى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات ومتابعتها والتصرف فيها فكل ما لا يكون على وفق المحسوسات التي ألفتها فليس في طباعها إلا النبوة عنها وإنكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم خلاء ولا ملاء وهاتان قضيتان وهميتان

كاذبتان والأولى منهما ربما وقع لك الأنس بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك لأدلتها وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملاء غير ممكن لأن الخلاء باطل بالبراهين القاطعة إذ لا معنى له والملاء متناه بأدلة قاطعة إذ يستحيل وجود أجسام لا نهاية لها وإذا ثبت هذان الأصلان علم أنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية مثل قولك لا يكون شخص في مكانين بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما يشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفة الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها فإن قلت فبماذا أميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل ومتى يحصل الأمان منها فاعلم أن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيد العلم اليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن وقالوا بتكافؤ الأدلة وادعوا اليقين بتكافؤ الأدلة وقال بعضهم لا تيقن أيضا بتكافؤ الأدلة بما هو أيضا في محل التوقف وكشف الغطاء عن هذه الورطة يستدعي تطويلا فلا نشتغل به ونفيدك الآن طريقين نستعين بهما في تكذيب الوهم الأول جملي وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات ليست من النظريات ولو عرضت على الوهم نفس الوهم لأنكره فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا فإذا لم يجده أباه ولو كلفت الوهم أن يتأمل ذات القدرة والعلم والإرادة لصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد أو جسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض كأنه ستر رقيق مرسل على وجهه ولم يقدر على اتحاد البعض بالبعض بأسره فإنه ربما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي في كل شيئين بأن أحدهما متميز في الوضع عن الآخر
الطريق الثاني وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن نعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوسات بالمحسوسات إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات فحيلة العقل مع الوهم في أن يثق بكذبه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية ليساعده الوهم عليها وينظمها نظم البرهان الذي ذكرناه فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق في الأمثلة وكما في الهندسيات فتجد ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه فإذا رأى الوهم قد زاغ عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمها وعلى كونها نتيجة علم أن ذلك من قصور في طباعه عن إدراك مثل هذا الشيء الخارج عن المحسوسات فاكتف بهذا القدر فإن تمام الإيضاح فيه تطويل
السابع المشهورات وهي آراء محمودة يوجب التصديق بها إما شهادة الكل أو الأكثر أو شهادة جماهير الأفاضل كقولك الكذب قبيح وإيلام البريء قبيح وكفران النعم قبيح وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن وهذه قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة فلا يجوز أن يعول

عليها في مقدمات البرهان فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية فإن الفطرة الأولى لا تقضي بها بل إنما ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا وذلك بأن تكرر على الصبي ويكلف اعتقادها ويحسن ذلك عنده وربما يحمل عليها حب التسالم وطيب المعاشرة وربما تنشأ من الحنان ورقة الطبع فترى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون عن أكل لحومها وما يجري هذا المجرى فالنفوس المجبولة على الحنان والرقة أطوع لقبولها وربما يجبل على التصديق بها الاستقراء الكثير وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيرسخ في نفسه كمن يقول مثلا التواتر لا يورث العلم لأن كل واحد من الآحاد لا يورث العلم فالمجموع لا يورث لأنه لا يزيد على الآحاد وهذا غلط لأن قول الواحد لا يوجب العلم بشرط الإنفراد وعند التواتر فات هذا الشرط فيذهل عن هذا الشرط لدقته ويصدق به مطلقا وكذلك يصدق بقوله إن الله على كل شيء قدير مع أنه ليس قادرا على خلق ذاته وصفاته وهو شيء لكن هو قدير على كل شيء بشرط كونه ممكنا في نفسه فيذهل عن هذا الشرط ويصدق به مطلقا لكثرة تكرره على اللسان ووقع الذهول عن شرطه الدقيق وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة وهي من مثارات الغلط العظيمة وأكثر قياسات المتكلمين والفقهاء مبنية على مقدمات مشهورة يسلمونها بمجرد الشهرة فلذلك ترى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيرون فيها فإن قلت فبم يدرك الفرق بين المشهور والصادق فأعرض قول القائل العدل جميل والكذب قبيح على العقل الأول الفطري الموجب للأوليات وقدر أنك لم تعاشر أحدا ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تتأدب باستصلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ ومرشد وكلف نفسك أن تشكك فيه فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا وإنما الذي يعسر عليك هذه التقديرات أنك على حالة تضادها فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال ولكن إذا تحذقت فيها أمكنك التشكك ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلاء أو ملاء وهو كاذب وهمي لكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر يقتضيه فطرة العقل وأما كون الكذب قبيحا فلا يقتضيه فطرة العقل الوهم ولا فطرة العقل بل ما ألفه الإنسان من العادات والأخلاق والاستصلاحات وهذه أيضا معارضة مظلمة يجب التحرز عنها فهذا القدر كاف في المقدمات التي منها ينتظم البرهان فالمستفاد من المدارك الخمسة بعد الاحتراز عن مواقع الغلط فيها يصلح لصناعة البرهان والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية والأقيسة الجدلية ولا تصلح لإفادة اليقين البتة
الفن الثالث من دعامة البرهان في اللواحق وفيه فصول الفصل الأول في بيان أن ما تنطق به الألسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم يرجع إلى الضروب التي ذكرناها فإن لم يرجع إليها لم يكن دليلا وحيث يذكر لا على ذلك النظم فسببه إما قصور علم الناظر أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح أو لكون التلبيس في ضمنه حتى لا ينتبه له أو لتركيب الضروب وجمع جملة منها في سياق

كلام واحد
مثال ترك إحدى المقدمتين لوضوحها وذلك غالب في الفقهيات والمحاورات احترازا عن التطويل كقول القائل هذا يجب عليه الرجم لأنه زنى وهو محصن وتمام القياس أن تقول كل من زنى وهو محصن فعليه الرجم وهذا زنى وهو محصن ولكن ترك المقدمة الأولى لاشتهارها وكذلك يقال العالم محدث فيقال لم فيقول لأنه جائز ويقتصر عليه وتمامه أن يقول كل جائز فله فاعل والعالم جائز فإذا له فاعل ويقول في نكاح الشغار هو فاسد لأنه منهي عنه وتمامه أن يقول كل منهي عنه فهو فاسد والشغار منهي عنه فهو إذا فاسد ولكن ترك الأولى لأنها موضع النزاع ولو صرح بها لتنبه الخصم لها فربما تركها للتلبيس مرة كما تركها للوضوح أخرى وأكثر أدلة القرآن كذلك تكون مثل قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء 22 ) فينبغي أن يضم إليها ومعلوم أنهما لم تفسدا وقوله تعالى إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( الإسراء 42 ) وتمامه أنه معلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيلا
ومثال ما يترك للتلبيس أن يقال فلان خائن في حقك فتقول لم فيقال لأنه كان يناجي عدوك وتمامه أن يقال كل من يناجي العدو فهو عدو وهذا يناجي العدو فهو إذا عدو ولكن لو صرح به لتنبه الذهن بأن من يناجي العدو فقد ينصحه وقد يخدعه فلا يجب أن يكون عدوا وربما يترك المقدمة الثانية وهي مقدمة المحكوم عليه مثاله أن يقال لا تخالط فلانا فيقول لم فيقال لأن الحساد لا يخالطون وتمامه أن يضم إليه إن هذا حاسد والحاسد لا يخالط فهذا إذا لا يخالط وسبيل من يريد التلبيس إهمال المقدمة التي التلبيس تحتها استغفالا للخصم واستجهالا له وهذا غلط في النظم الأول ويتطرق ذلك إلى النظم الثاني والثالث مثاله قولك كل شجاع ظالم فيقال لم فيقال لأن الحجاج كان شجاعا وظالما وتمامه أن يقول الحجاج شجاع والحجاج ظالم فكل شجاع ظالم وهذا غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وقد بينا أنه لا ينتج إلا نتيجة خاصة وإنما كان من النظم الثالث لأن الحجاج هو العلة لأنه المتكرر في المقدمتين لأنه محكوم عليه في المقدمتين فيلزم منه أن بعض الشجعان ظالم ومن هاهنا غلط من حكم على كل المتصوفة أو كل المتفقهة بالفساد إذا رأى ذلك من بعضهم ونظم قياسه أن فلانا متفقه وفلان فاسق فكل متفقه فاسق وذلك لا يلزم بل يلزم أن بعض المتفقهة فاسق وكثيرا ما يقع مثل هذا الغلط في الفقه أن يرى الفقيه حكما في موضع معين فيقضي بذلك الحكم على العموم فيقول مثلا البر مطعوم والبر ربوي فالمطعوم ربوي وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم منه إلا نتيجة جزئية وهو معنى النظم الثالث ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساوية له كان من النظم الأول وأمكن استنتاج القضايا الأربعة منه أعني الموجبة العامة والخاصة والنافية العامة والخاصة ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي فأما الإيجاب فلا
ومثال المختلطات المركبة من كل نمط كقولك الباري تعالى إن كان على العرش أما مساو أو أكبر أو أصغر وكل مساو وأصغر وأكبر مقدر وكل مقدر فإما أن يكون جسما أو لا

يكون جسما وباطل أن لا يكون جسما فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى جسما ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش وهذا السياق اشتمل على النظم الأول والثاني والثالث مختلطا كذلك فمن لا يقدر على تحليله وتفصيله فربما انطوى التلبيس في تفاصيله وتضاعيفه فلا يتنبه لموضعه ومن عرف المفردات أمكنه رد المختلطات إليها فإذا لا يتصور النطق بالاستدلال إلا ويرجع إلى ما ذكرناه
الفصل الثاني في بيان رجوع الاستقراء والتمثيل إلى ما ذكرناه أما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات كقولنا في الوتر ليس بفرض لأنه يؤدى على الراحلة والفرض لا يؤدى على الراحلة فيقال لم قلتم أن الفرض لا يؤدى على الراحلة فيقال عرفناه بالاستقراء إذ رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة فقلنا إن كل فرض لا يؤدى على الراحلة ووجه دلالة هذا لا يتم إلا بالنظم الأول بأن يقول كل فرض فإما قضاء أو أداء أو نذر وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدى على الراحلة فكل فرض لا يؤدى على الراحلة وهذا مختل يصلح للظنيات دون القطعيات والخلل تحت قوله إما أداء فإن حكمه بأن كل أداء لا يؤدى على الراحلة يمنعه الخصم إذ الوتر عنده أداء واجب ويؤدى على الراحلة وإنما يسلم الخصم من الأداء الصلوات الخمس وهذه صلاة سادسة عنده فيقول وهل استقريت حكم الوتر في تصفحك وكيف وجدته فإن قلت وجدته لا يؤدى على الراحلة فالخصم لا يسلم فإن لم تتصفحه فلم يبين لك إلا بعض الأداء فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة وذلك لا ينتج لأنا بينا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة ولهذا غلط من قال أن صانع العالم جسم لأنه قال كل فاعل جسم وصانع العالم فاعل فهو إذا جسم فقيل لم قلت أن كل فاعل جسم فيقول لأني تصفحت الفاعلين من خياط وبناء وإسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساما فيقال وهل تصفحت صانع العالم أم لا فإن لم تتصفحه فقد تصفحت البعض دون الكل فوجدت بعض الفاعلين جسما فصارت المقدمة الثانية خاصة لا تنتج وإن تصفحت الباري فكيف وجدته فإن قلت وجدته جسما فهو محل النزاع فكيف أدخلته في المقدمة فثبت بهذا أن الاستقراء إن كان تاما رجع إلى النظم الأول وصلح للقطعيات وإن لم يكن تاما لم يصلح إلا للفقهيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط غلب على الظن أن الآخر كذلك
الفصل الثالث في وجه لزوم النتيجة من المقدمات وهو الذي يعبر عنه بوجه الدليل ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء فلا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره فنقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أحد أمرين إما أن يصدق به أو يمتنع من التصديق فإن صدق فهو الأولى المعلوم بغير واسطة ويقال إنه معلوم بغير نظر ودليل وحيلة وتأمل وكل ذلك بمعنى واحد وإن لم يصدق فلا مطمع في التصديق إلا بواسطة وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم فيكون خبرا عنها وتنسب إلى المحكوم عليه فتجعل

خبرا عنه فيصدق فيلزم من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه
بيانه أنا إذا قلنا للعقل احكم على النبيذ بالحرام فيقول لا أدري ولم يصدق به فعلمنا أنه ليس يلتقي في الذهن طرفا هذه القضية وهو الحرام والنبيذ فلا بد أن يطلب واسطة ربما صدق العقل بوجودها في النبيذ وصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب فيقال هل النبيذ مسكر فيقول نعم إذا كان قد علم ذلك بالتجربة فيقال وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا كان قد حصل ذلك بالسماع وهو المدرك بالسمع قلنا فإن صدقت بهاتين المقدمتين لزمك التصديق بالثالث لا محالة وهو أن النبيذ حرام بالضرورة فيلزمه أن يصدق بذلك ويذعن للتصديق به فإن قلت فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما فاعلم أن ما توهمت حق من وجه وغلط من وجه أما الغلط فهو أن هذه قضية ثالثة لأن قولك النبيذ حرام غير قولك النبيذ مسكر وغير قولك المسكر حرام بل هذه ثلاث مقدمات مختلفات وليس فيها تكرير أصلا بل النتيجة اللازمة غير المقدمات الملتزمة وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك المسكر حرام شمل بعمومه النبيد الذي هو أحد المسكرات فقولك النبيذ حرام ينطوي فيه لكن بالقوة لا بالفعل وقد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص فمن قال الجسم متحيز ربما لا يخطر بباله ذلك الوقت أن الثعلب متحيز بل ربما لا يخطر بباله ذلك الثعلب فضلا عن أن يخطر بباله أنه متحيز فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة والموجود بالقوة القريبة لا يظن أنه موجود بالفعل فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن وتخطر ببالك وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة فإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل فيقال له هل تعلم أن البغلة عاقر لا تحمل فيقول نعم فيقال وهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين إذ نظمهما أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذا عاقر والانتفاخ له أسباب فإذا انتفاخها من سبب آخر ولما كان السبب الخاص لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره فالحق أن المطلوب هو المدلول المستنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمتين بالقوة ولكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد القلب لحضور المقدمتين مع التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالفين للتولد الذي ذكره المعتزلة وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حضور المقدمتين في الذهن والتفظن لوجه تضمنهما له بطريق إجراء الله تعالى العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق به قدرة العبد وإنما قدرته على إحضار المقدمتين ومطالعة

وجه تضمن المقدمتين للنتيجة على معنى وجودها فيهما بالقوة فقط أما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق بها القدرة وعند بعضهم هو كسب مقدور والرأي الحق في ذلك لا يليق بما نحن فيه والمقصود كشف الغطاء عن النظر وإن وجه الدليل ما هو والمدلول ما هو والنظر الصحيح ما هو والنظر الفاسد ما هو وترى الكتب مشحونات بتطويلات في هذه الألفاظ من غير شفاء وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط فلا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح وإن خالف المعتاد
مغالطة من منكري النظر وهو أن يقول ما تطلب بالنظر وهو معلوم لك أم لا فإن علمت فكيف تطلب وأنت واجد وإن جهلته فإذا وجدته فبم تعرف أنه مطلوبك وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه فنقول أخطأت في نظم شبهتك فإن تقسيمك ليس بحاصر إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو أني أعرفه من وجه وأعلمه من وجه وأجهله من وجه وأعني الآن بالمعرفة غير العلم فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل أي في قوتي أن أقبل التصديق بها بالفعل وأجهلها من وجه أي لا أعلمها بالفعل ولو كنت أعلمها بالفعل لما طلبتها ولو لم أعلمها بالقوة لما طمعت في أن أعلمها إذ ما ليس في قوتي علمه يستحيل حصوله كاجتماع الضدين ولولا أني أفهمه بالمعرفة والتصور لأجزائه المنفردة لما كنت أعلم الظفر بمطلوبي إذا وجدته وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور وإنما أطلب مكانه وأنه في البيت أم لا وكونه في البيت أفهمه بالمعرفة والتصور أي أفهم البيت مفردا والكون مفردا وأعلمه بالقوة أي في قوتي أن أصدق بكونه في البيت وأطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر فإذا رأيته في البيت صدقت بكونه في البيت فكذلك طلبي لكون العالم حادثا إذا وجدته
الفصل الرابع في انقسام البرهان إلى برهان علة وبرهان دلالة أما برهان الدلالة فهو أن يكون الأمر المتكرر في المقدمتين معلولا ومسببا فإن العلة والمعلول يتلازمان وكذلك السبب والمسبب والموجب والموجب فإن استدللت بالعلة على المعلول فالبرهان برهان علة وإن استدللت بالمعلول على العلة فهو برهان دلالة وكذلك لو استدللت بأحد المعلولين على الآخر
ومثال قياس العلة من المحسوسات أن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد بأكله فتقول من أكل كثيرا فهو في الحال شبعان وزيد قد أكل كثيرا فهو إذا شبعان وإن قلت إن كل شبعان قد أكل كثيرا وزيد شبعان فإذا قد أكل كثيرا فهذا برهان دلالة ومثاله من الكلام قولك كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم فعل محكم فصانعه عالم ومثال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا الزنا يوجب حرمة المصاهرة لأن كل وطء لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة فإن الحرمة والمحرمية ليست إحداهما علة للأخرى بل هما نتيجتا علة واحدة وحصول إحدى النتيجتين يدل على حصول الأخرى بواسطة العلة فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضا تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة وجميع استدلالات الفراسة

من قبيل الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى حتى أنه يستدل بخطوط حمر في كتف الشاة على إراقة الدماء في تلك السنة ويستدل بالخلق على الأخلاق ولا يمكن ذلك إلا بطريق تلازم النتائج الصادرة عن سبب واحد ولنقتصر من مدارك العقول على هذا القدر فإنه كالعلاوة على علم الأصول ومن أراد مزيدا عليه فليطلبه من كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم ولنشتغل الآن بالأقطاب الأربعة التي يدور عليها علم الأصول والحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وعلى جميع أصحابه

بسم الله الرحمن الرحيم القطب الأول في الثمرة وهي الحكم والكلام فيه ينقسم إلى فنون أربعة فن في حقيقة الحكم وفن في أقسامه وفن في أركانه وفن فيما يظهره
الفن الأول في حقيقته ويشتمل على تمهيد وثلاث مسائل أما التمهيد فهو أن الحكم عندنا عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين فالحرام هو المقول فيه إتركوه ولا تفعلوه والواجب هو المقول فيه إفعلوه ولا تتركوه والمباح هو المقول فيه إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم فلهذا قلنا العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع فلنرسم كل مسألة برأسها

مسألة ( الحسن والقبح في الفعل )
ذهبت المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة فمنها ما يدرك بضرورة العقل كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى وشكر المنعم ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران وإيلام البريء والكذب الذي لا غرض فيه ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة لكن العقل لا يستقل بدركه فنقول قول القائل هذا حسن وهذا قبيح لا يحس بفهم معناه ما لم يفهم معنى الحسن والقبح فإن الاصطلاحات في إطلاق لفظ الحسن والقبح مختلفة فلا بد من تلخيصها والاصطلاحات فيه ثلاثة الأول الاصطلاح المشهور العامي وهو أن الأفعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل وإلى ما يخالفه وإلى ما لا يوافق ولا يخالف فالموافق يسمى حسنا والمخالف يسمى قبيحا والثالث يسمى عبثا وعلى هذا الاصطلاح إذا كان الفعل موافقا لشخص مخالفا لآخر فهو حسن في حق من وافقه قبيح في حق من خالفه حتى أن قتل الملك الكبير يكون حسنا في حق أعدائه قبيحا في حق أوليائه وهؤلاء لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله تعالى إذا خالف غرضهم ولذلك يسبون الدهر والفلك ويقولون خرب الفلك وتعس الدهر وهم يعلمون أن الفلك مسخر ليس إليه شيء ولذلك قال صلى الله عليه و سلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فإطلاق اسم الحسن والقبح على الأفعال عند هؤلاء كإطلاقه على الصور فمن مال طبعه إلى صورة أو صوت شخص قضى بحسنه ومن نفر طبعه عن

شخص استقبحه ورب شخص ينفر عنه طبع ويميل إليه طبع فيكون حسنا في حق هذا قبيحا في حق ذاك حتى يستحسن سمرة اللون جماعة ويستقبحها جماعة فالحسن والقبح عند هؤلاء عبارة عن الموافقة والمنافرة وهما أمران إضافيان لا كالسواد والبياض إذ لا يتصور أن يكون الشيء أسود في حق زيد أبيض في حق عمرو
الاصطلاح الثاني التعبير بالحسن عما حسنه الشرع بالثناء على فاعله فيكون فعل الله تعالى حسنا في كل حال خالف الغرض أو وافقه ويكون المأمور به شرعا ندبا كان أو إيجابا حسنا والمباح لا يكون حسنا
الاصطلاح الثالث التعبير بالحسن عن كل ما لفاعله أن يفعله فيكون المباح حسنا مع المأمورات وفعل الله يكون حسنا بكل حال
وهذه المعاني الثلاثة كلها أوصاف إضافية وهي معقولة ولا حجر على من يجعل لفظ الحسن عبارة عن شيء منها فلا مشاحة في الألفاظ فعلى هذا إذا لم يرد الشرع لا يتميز فعل عن غيره إلا بالموافقة والمخالفة ويختلف ذلك بالإضافات ولا يكون صفة للذات فإن قيل نحن لا ننازعكم في هذه الأمور الإضافية ولا في هذه الاصطلاحات التي تواضعتم عليها ولكن ندعي الحسن والقبح وصفا ذاتيا للحسن والقبيح مدركا بضرورة العقل في بعض الأشياء كالظلم والكذب والكفران والجهل ولذلك لا نجوز شيئا من ذلك على الله تعالى لقبحه ونحرمه على كل عاقل قبل ورود الشرع لأنه قبيح لذاته وكيف ينكر ذلك والعقلاء بأجمعهم متفقون على القضاء به من غير إضافة إلى حال دون حال قلنا أنتم منازعون فيما ذكرتموه في ثلاثة أمور أحدها في كون القبح وصفا ذاتيا
والثاني في قولكم أن ذلك مما يعلمه العقلاء بالضرورة
والثالث في ظنكم أن العقلاء لو توافقوا عليه لكان ذلك حجة مقطوعا بها ودليلا على كونه ضروريا
أما الأول وهو دعوى كونه وصفا ذاتيا فهو تحكم بما لا يعقل فإن القتل عندهم قبيح لذاته بشرط أن لا تسبقه جناية ولا يعقبه عوض حتى جاز إيلام البهائم وذبحها ولم يقبح من الله تعالى ذلك لأنه يثيبها عليه في الآخرة والقتل في ذاته له حقيقة واحدة لا تختلف بأن تتقدمه جناية أو تتعقبه لذة إلا من حيث الإضافة إلى الفوائد والأغراض وكذلك الكذب كيف يكون قبحه ذاتيا ولو كان فيه عصمة دم نبي بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله لكان حسنا بل واجبا يعصى بتركه والوصف الذاتي كيف يتبدل بالإضافة إلى الأحوال
وأما الثاني وهو كونه مدركا بالضرورة وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه والضروري لا ينازع فيه خلق كثير من العقلاء وقولكم أنكم مضطرون إلى المعرفة وموافقون عليه ولكنكم تظنون أن مستند معرفتكم السمع كما ظن الكعبي أن مستند علمه بخبر التواتر النظر ولا يبعد التباس مدرك العلم وإنما يبعد الخلاف في نفس المعرفة ولا خلاف فيها قلنا هذا كلام فاسد لأنا نقول يحسن من الله تعالى إيلام البهائم ولا نعتقد لها جريمة ولا ثوابا فدل أنا ننازعكم في نفس العلم
وأما الثالث فهو أنا لو سلمنا اتفاق العقلاء على هذا أيضا لم تكن فيه حجة إذ لم يسلم كونهم مضطرين إليه بل

يجوز أن يقع الاتفاق منهم على ما ليس بضروري فقد اتفق الناس على إثبات الصانع وجواز بعثه الرسل ولم يخالف إلا الشواذ فلو اتفق أن ساعدهم الشواذ لم يكن ذلك ضروريا فكذلك اتفاق الناس على هذا الاعتقاد يمكن أن يكون بعضه عن دليل السمع الدال على قبح هذه الأشياء وبعضه عن تقليد مفهوم من الآخذين عن السمع وبعضه عن الشبهة التي وقعت لأهل الضلال فالتئام الإتفاق من هذه الأسباب لا يدل على كونه ضروريا فلا يدل على كونه حجة لولا منع السمع عن تجويز الخطأ على كافة هذه الأمة خاصة إذ لا يبعد اجتماع الكافة على الخطأ عن تقليد وعن شبهة وكيف وفي الملحدة من لا يعتقد قبح هذه الأشياء ولا حسن نقائضها فكيف يدعى اتفاق العقلاء احتجوا بأنا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق والكذب آثر الصدق ومال إليه إن كان عاقلا وليس ذلك إلا لحسنه وإن الملك العظيم المستولي على الأقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى إنقاذه وإن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا ولا ينتظر منه أيضا مجازاة وشكرا ولا يوافق ذلك أيضا غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر أو على إفشاء السر ونقض العهد وهو على خلاف غرض المكره وعلى الجملة استحسان مكارم الأخلاق وإفاضة النعم مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد والجواب أنا لا ننكر اشتهار هذه القضايا بين الخلق وكونها محمودة مشهورة ولكن مستندها إما التدين بالشرائع وإما الأغراض ونحن إنما ننكر هذا في حق الله تعالى لانتفاء الأغراض عنه فأما إطلاق الناس هذه الألفاظ فيما يدور بينهم فيستمر من الأغراض ولكن قد تدق الأغراض وتخفى فلا يتنبه لها إلا المحققون ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاث مثارات يغلط الوهم فيها الأولى إن الإنسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره من حيث إنه لا يلتفت إلى الغير فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح مطلقا وربما يضيف القبح إلى ذات الشيء ويقول هو بنفسه قبيح فيكون قد قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها وهو أصل الاستقباح ومخطىء في أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه
والثاني حكمه بالقبح مطلقا ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره بل عدم الالتفات إلى بعض أحوال نفسه فإنه قد يستحسن في بعض الأحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض
الغلطة الثانية أن ما هو مخالف للغرض في جميع الأحوال إلا في حالة واحدة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة بل لا يخطر بالبال فيراه مخالفا في كل الأحوال فيقضي بالقبح مطلقا لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة عن ذكره كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا وغفلته عن الكذب الذي تستفاد به عصمة دم نبي أو ولي وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مدة وتكرر ذلك على سمعه ولسانه انغرس في نفسه استقباح منفر فلو وقعت تلك الحالة النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح فإنه ألقي إليه منذ الصبا على سبيل التأديب والإرشاد أن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه

أحد ولا ينبه على حسنه في بعض الأحوال خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال والسماع في الصغر كالنقش في الحجر فينغرس في النفس ويحن إلى التصديق به مطلقا وهو صدق لكن لا على الإطلاق بل في أكثر الأحوال وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الأحوال فهو بالإضافة إليه كل الأحوال فلذلك يعتقده مطلقا
الغلطة الثالثة سببها سبق الوهم إلى العكس فإن ما يرى مقرون بالشيء يظن أن الشيء أيضا لا محالة مقرون به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون بالأعم والأعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص ومثاله نفرة نفس السليم وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر فتوهم أن الرطب الأصفر مقرون به الاستقذار ويغلب الوهم حتى يتعذر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه
فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول إنما يترجح الإنقاذ على الإهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فيستقبحه منه بمخالفة غرضه فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى ميل النفس وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فنفر عن المقرون بالأذى فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره ولذلك قال الشاعر أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الأوطان وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وشواهد ذلك مما يكثر وكل ذلك من حكم الوهم وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه وإنما استحسنه من ينتظر الثواب على الصبر أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين وكم من شجاع يركب متن الخطر ويتهجم على عددهم أكثر منه وهو يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله من الألم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته وكذلك إخفاء السر وحفظ العهد إنما تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح وأكثروا الثناء عليهما فمن يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لأجل الثناء فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد مقرونا بالثناء فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليا عنه فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم ولا ينتظر الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذاك قطعا فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب وعن جميع ما يفرضونه ثم نقول نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب وإنما الكلام في القبح والحسن بالإضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده ولم يقبح منه وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس لأنه علم أنهم لا ينزجرون فليمنعهم قهرا فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة أو عجز وذلك أحسن من تمكينهم مع العلم لأنهم لا ينزجرون

مسألة ( شكر الخالق )
لا يجب شكر المنعم عقلا خلافا للمعتزلة ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به وتوعد بالعقاب على تركه فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة ومحال أن يوجب لا لفائدة فإن ذلك عبث وسفه وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ يتعالى ويتقدس عن الأغراض أو إلى العبد وذلك لا يخلو إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة ولا فائدة له في الدنيا بل يتعب بالنظر والفكر والمعرفة والشكر ويحرم به عن الشهوات واللذات ولا فائدة له في الآخرة فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين يعلم أنه يثاب عليه فإن قيل يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب والعقل يدعو إلى سلوك طريق الأمن قلنا لا بل العقل يعرف طريق الأمن ثم الطبع يستحث على سلوكه إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الألم فقد غلطتم في قولكم أن العقل داع بل العقل هاد والبواعث والدواعي تنبعث من النفس تابعة لحكم العقل وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر والمعرفة خاصة لأن هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به عن الكفر وهما متساويان بالإضافة إلى

جلال الله تعالى بل إن فتح باب الأوهام فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لأنه أمده بأسباب النعم فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته بغير إذنه ولهم شبهتان إحداهما قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر وقبح الكفران لا سبيل إلى إنكاره وذلك مسلم لكن في حقهم لأنهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون بالكفران والرب تعالى يستوي في حقه الأمران فالمعصية والطاعة في حقه سيان ويشهد له أمران أحدهما أن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة
والثاني أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الأشهاد بشكره كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا وجملة نعم الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك لأن خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده
الشبهة الثانية قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر ولا نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور والجواب من وجهين أحدهما من حيث التحقيق وهو أنكم غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين بل إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة لو نظر العاقل فيها فقد ثبت الشرع واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر إذ لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه بدفع ضرر معلوم أو موهوم فمعنى الوجوب رجحان الفعل على الترك والموجب هو المرجح والله تعالى هو المرجح وهو الذي عرف رسوله وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك والمعصية داء والطاعة شفاء فالمرجح هو الله تعالى والرسول هو المخبر والمعجزة سبب يمكن العاقل من التوصل إلى معرفة الترجيح والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن الترجيح والطبع المجبول على التألم بالعذاب والتلذذ بالثواب هو الباعث المستحث على الحذر من الضرر وبعد ورود الخطاب حصل الإيجاب الذي هو الترجيح وبالتأييد بالمعجزة حصل الإمكان في حق العاقل الناظر إذ قدر به على معرفة الرجحان فقوله لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر مثاله ما لو قال الأب لولده التفت فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك إن غفلت عنه فيقول لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الإلتفات ولا يجب الإلتفات ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت فيقول له لا جرم تهلك بترك الالتفات وأنت غير معذور لأنك قادر على الإلتفات وترك العناد فكذلك النبي يقول الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الأليم إن تركت الإيمان والطاعة وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي فإن نظرت وأطعت نجوت وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك وإنما أضررت بنفسك فهذا أمر معقول لا تناقض فيه
الجواب الثاني المقابلة بمذهبهم فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا ينفك منه أحد إذ لو

كان كذلك لم يخل عقل عاقل عن معرفة الوجوب بل لا بد من تأمل ونظر ولو لم ينظر لم يعرف وجوب النظر وإذا لم يعرف وجوب النظر فلا ينظر فيؤدي أيضا إلى الدور كما سبق فإن قيل العاقل لا يخلو عن خاطرين يخطران له أحدهما أنه إن نظر وشكر أثيب والثاني أنه إن ترك النظر عوقب فيلوك له على القرب وجوب سلوك طريق الأمن قلنا كم من عاقل انقضى عليه الدهر ولم يخطر له هذا الخاطر بل قد يخطر له أنه لا يتميز في حق الله تعالى أحدهما عن الآخر فكيف أعذب نفسي بلا فائدة ترجع إلي ولا إلى المعبود ثم إن كان عدم الخلو عن الخاطر كافيا في التمكين من المعرفة فإذا بعث النبي ودعا وأظهر المعجزة كان حضور هذه الخواطر أقرب بل لا ينفك عن هذا الخاطر بعد إنذار النبي وتحذيره ونحن لا ننكر أن الإنسان إذا استشعر المخافة استحثه طبعه على الاحتراز فإن الاستشعار إنما يكون بالتأمل الصادر عن العقل فإن سمى مسم معترف الوجوب موجبا فقد تجوز في الكلام بل الحق الذي لا مجاز فيه أن الله موجب أي مرجح للفعل على الترك والنبي مخبر والعقل معرف والطبع باعث والمعجزة ممكنة من التعريف والله تعالى أعلم

مسألة ( حكم الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة )
ذهب جماعة من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة وقال بعضهم على الحظر وقال بعضهم على الوقف ولعلهم أرادوا بذلك فيما لا يقضي العقل فيه بتحسين ولا تقبيح ضرورة أو نظرا كما فصلناه من مذهبهم وهذه المذاهب كلها باطلة أما إبطال مذهب الإباحة فهو أنا نقول المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذكر ذاكرا وعالما والمبيح هو الله تعالى إذا خير بين الفعل والترك بخطابه فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ فإن فعل البهيمة والصبي والمجنون لا يوصف بكونه مباحا وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج والأفعال في حق الله تعالى أعني ما يصدر من الله لا توصف بأنها مباحة ولا حرج عليه في تركها لكنه انتفى التخيير من المخير انتفت الإباحة فإن استجرأ مستجرىء على إطلاق اسم المباح على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى وإن كان لفظه مستكرها فإن قيل العقل هو المبيح لأنه خير بين فعله وتركه إذ حرم القبيح وأوجب الحسن وخير فيما ليس بحسن ولا قبيح قلنا تحسين العقل وتقبيحه قد أبطلناه وهذا مبني عليه فيبطل ثم تسمية العقل مبيحا مجاز كتسميته موجبا فإن العقل يعرف الترجيح ويعرف انتفاء الترجيح ويكون معنى وجوبه رجحان فعله على تركه والعقل يعرف ذلك ومعنى كونه مباحا انتفاء الترجيح والعقل معرف لا مبيح فإنه ليس بمرجح ولا مسو لكنه معرف للرجحان والاستواء ثم نقول بم تنكرون على أصحاب الوقف إذا أنكروا استواء الفعل والترك وقالوا ما من فعل مما لا يحسنه العقل ولا يقبحه إلا ويجوز أن يرد الشرع بإيجابه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي لأجله يكون لطفا ناهيا عن الفحشاء داعيا إلى العبادة ولذلك أوجبه الله تعالى والعقل لا يستقل بدركه ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي يدعو بسببه إلى الفحشاء لا يدركه العقل وقد استأثر الله بعلمه هذا مذهبهم ثم يقولون بم تنكرون على أصحاب الحظر إذ قالوا لا نسلم استواء الفعل وتركه فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله

تعالى هو المالك ولم يأذن فإن قيل لو كان قبيحا لنهى عنه وورد السمع به فعدم ورود السمع دليل على انتفاء قبحه قلنا لو كان حسنا لأذن فيه وورد السمع به فعدم ورود السمع به دليل على انتفاء حسنه فإن قيل إذا أعلمنا الله تعالى أنه نافع ولا ضرر فيه فقد أذن فيه قلنا فإعلام المالك إيانا أن طعامه نافع لا ضرر فيه ينبغي أن يكون أذنا فإن قيل المالك منا يتضرر والله لا يتضرر فالتصرف في مخلوقاته بالإضافة إليه يجري مجرى التصرف في مرآة الإنسان بالنظر فيها وفي حائطه بالاستظلال به وفي سراجه بالاستضاءة به قلنا لو كان قبح التصرف في ملك الغير لتضرره لا لعدم أذنه لقبح وإن أذن إذا كان متضررا كيف ومنع المالك من المرآة والظل والاستضاءة بالسراج قبيح وقد منع الله عباده من جملة من المأكولات ولم يقبح فإن كان ذلك لضرر العبد فما من فعل إلا ويتصور أن يكون فيه ضرر خفي لا يدركه العقل ويرد التوقيف بالنهي عنه ثم نقول قولكم أنه إذا كان لا يتضرر الباري بتصرفنا فيباح فلم قلتم ذلك فإن نقل مرآة الغير من موضع إلى موضع وإن كان لا يتضرر به صاحبها يحرم وإنما يباح النظر لأن النظر ليس تصرفا في المرآة كما أن النظر إلى الله تعالى وإلى السماء ليس تصرفا في المنظور فيه ولا في الاستظلال تصرف في الحائط ولا في الاستضاءة تصرف في السراج فلو تصرف في نفس هذه الأشياء ربما يقضي بتحريمه إلا إذا دل السمع على جوازه فإن قيل خلق الله تعالى الطعوم فيها والذوق دليل على أنه أراد انتفاعنا بها فقد كان قادرا على خلقها عارية عن الطعوم قلنا الأشعرية وأكثر المعتزلة مطبقون على استحالة خلوها عن الأعراض التي هي قابلة لها فلا يستقيم ذلك وإن سلم فلعله خلقها لا لينتفع بها أحد بل خلق العالم بأسره لا لعلة أو لعله خلقها ليدرك ثواب اجتنابها مع الشهوة كما يثاب على ترك القبائح المشتهاة
وأما مذهب أصحاب الحظر فأظهر بطلانا إذ لا يعرف حظرها بضرورة العقل ولا بدليله ومعنى الحظر ترجيح جانب الترك على جانب الفعل لتعلق ضرر بجانب الفعل فمن أين يعلم ذلك ولم يرد سمع والعقل لا يقضي به بل ربما يتضرر بترك اللذات عاجلا فكيف يصير تركها أولى من فعلها وقولهم إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو قبيح فاسد لأنا لا نسلم قبح ذلك لولا تحريم الشرع ونهيه ولو حكم فيه العادة فذلك يقبح في حق من تضرر بالتصرف في ملكه بل القبيح المنع مما لا ضرر فيه ثم قد بينا أن حقيقة درك القبح ترجع إلى مخالفة الغرض وأن ذلك لا حقيقة له
وأما مذهب الوقف إن أرادوا به أن الحكم موقوف على ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب قبل ورود السمع وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة فهو خطأ لأنا ندري أنه لا حظر إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه ولا إباحة إذ معنى الإباحة قوله إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه ولم يرد شيء من ذلك
الفن الثاني في أقسام الأحكام ويشتمل على تمهيد ومسائل خمس عشرة
أما التمهيد فإن أقسام الأحكام الثابتة لأفعال المكلفين خمسة الواجب والمحظور والمباح والمندوب والمكروه ووجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو

اقتضاء الترك أو التخيير بين الفعل والترك فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر فإما أن يقترن به الإشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا ولا يقترن فيكون ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فحظر وإلا فكراهية وإن ورد بالتخيير فهو مباح
ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم فأما حد الواجب فقد ذكرنا طرفا منه في مقدمة الكتاب ونذكر الآن ما قيل فيه
فقال قوم إنه الذي يعاقب على تركه فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن العقوبة على تركه ولا يخرج عن كونه واجبا لأن الوجوب ناجز والعقاب منتظر وقيل ما توعد بالعقاب على تركه فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد فإن كلام الله تعالى صدق ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب وقيل ما يخاف العقاب على تركه وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه فإنه ليس بواجب ويخاف العقاب على تركه وقال القاضي أبو بكر رحمه الله الأولى في حده أن يقال هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما لأن الذم أمر ناجز والعقوبة مشكوك فيها وقوله بوجه ما قصد أن يشمل الواجب المخير فإنه يلام على تركه مع بدله والواجب الموسع فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله فإن قيل فهل من فرق بين الواجب والفرض قلنا لا فرق عندنا بينهما بل هما من الألفاظ المترادفة كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني وقد قال القاضي لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب وهذا فيه نظر لأن ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه بالإضافة إلى أغراضنا فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا
وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا يخفى حده
وأما حد المباح فقد قيل فيه ما كان تركه وفعله سيين ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة ويبطل بفعل الله تعالى وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا وهما في حق الله تعالى أبدا سيان وكذلك الأفعال قبل ورود الشرع تساوي الترك ولايسمى شيء من ذلك مباحا بل حده أنه الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه ومدحه ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر عليه في تركه ولا فعله ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك المباح بمعصية فإنه يتضرر لا من حيث ترك المباح بل من يحث ارتكاب المعصية
وأما حد الندب فقيل فيه إنه الذي فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه ويرد عليه الأكل قبل ورود الشرع فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة وقالت القدرية هو الذي إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه ويرد عليه فعل الله تعالى فإنه لا يسمى ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم فالأصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير والموسع
وأما المكروه فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معاني أحدها المحظور فكثيرا ما يقولالشافعي رحمه الله وأكره كذا

وهو يريد التحريم
الثاني ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن عليه عقاب كما أن الندب هو الذي أشعر بأن فعله خير من تركه
الثالث ترك ما هو الأولى وإن لم ينه عنه كترك صلاة الضحى مثلا لا لنهي ورد عنه ولكن لكثرة فضله وثوابه قيل فيه إنه مكروه تركه
الرابع ما وقعت الريبة والشبهة في تحريمه كلحم السبع وقليل النبيذ وهذا فيه نظر لأن من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام ومن أداه اجتهاده إلى حله فلا معنى للكراهية فيه إلا إذا كان من شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه فقد قال صلى الله عليه و سلم الإثم حزاز القلب فلا يقبح إطلاق لفظ الكراهة لما فيه من خوف التحريم وإن كان غالب الظن الحل ويتجه هذا على مذهب من يقول المصيب واحد فأما من صوب كل مجتهد فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل
وإذا فرغنا من تمهيد الأقسام فلنذكر المسائل المتشعبة عنها

مسألة ( أصناف الواجب )
الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين أقسام محصورة ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة فإن الواجب من جملتها واحد لا بعينه وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا معنى للإيجاب مع التخيير فإنهما متناقضان ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا أما دليل جوازه عقلا فهو أن السيد إذا قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع وإنما أوجب واحدا لا بعينه أي واحد أردت فهذا كلام معقول ولا يمكن أن يقال أنه لم يوجب عليه شيئا لأنه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن الوجوب ولا يمكن أن يقال أوجب الجميع فإنه صرح بنقيضه ولا يمكن أن يقال أوجب واحدا بعينه من الخياطة أو البناء فإنه صرح بالتخيير فلا يبقى إلا أن يقال الواجب واحد لا بعينه
وأما دليل وقوع شرعا فخصال الكفارة بل إيجاب إعتاق الرقبة فإنه بالإضافة إلى أعيان العبيد مخير وكذلك تزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب ولا سبيل إلى إيجاب الجمع وكذلك عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين للإمامة واجب والجمع محال فإن قيل الواجب جميع خصال الكفارة فلو تركها عوقب على الجميع ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر وقد يسقط الواجب بأسباب دون الأداء وذلك غير محال قلنا هذا لا يطرد في الإمامين والكفؤين فإن الجمع فيه حرام فكيف يكون الكل واجبا ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة إذ الأمة مجمعة على أن الجميع غير واجب
واحتجوا بأن الخصال الثلاث إن كانت متساوية الصفات عند الله تعالى بالإضافة إلى صلاح العبد فينبغي أن يجب الجميع تسوية بين المتساويات وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الإيجاب فينبغي أن يكون هو الواجب ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره قلنا ومن سلم لكم أن للأفعال أوصافا في ذواتها لأجلها يوجبها الله تعالى بل الإيجاب إليه وله أن يعين واحدة من الثلاث المتساويات فيخصصها بالإيجاب دون غيرها وله أن يوجب واحدا لا بعينه ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال احتجوا بأن الواجب هو الذي يتعلق به الإيجاب وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به الإيجاب فيتميز ذلك في علمه فكان هو الواجب قلنا إذا أوجب واحدا لا بعينه

فإنا نعلمه غير معين ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين كما هو عليه وهذا التحقيق وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الإيجاب به وإنما هو إضافة إلى الخطاب والخطاب بحسب النطق والذكر وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن كمن يقول لزوجتيه إحداكما طالق فالإيجاب قول يتبع النطق فإن قيل الموجب طالب ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده قلنا يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين كما تقول المرأة زوجني من أحد الخاطبين أيهما كان وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت وبايع أحد هذين الإمامين أيهما كان فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه فإن قيل أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدى به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى قلنا يعلمه الله تعالى غير معين ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى فإن قيل فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد قلنا لأن الوجوب يتحقق بالعقاب ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه

مسألة ( أصناف الواجب من حيث الوقت )
الواجب ينقسم بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع وقال قوم التوسع يناقض الوجوب وهو باطل عقلا وشرعا
أما العقل فإن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي فهذا معقول ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا أو أوجب شيئا مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أنه أوجب م 9 وسعا
وأما الشرع فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لأمر الأيجاب مع أنه لا تضييق فإن قيل حقيقة الواجب ما لا يسع تركه بل يعاقب عليه والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه فيكون وجوبه في آخر الوقت أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه وهذا حد الندب قلنا كشف الغطاء عن هذا أن الأقسام في العقل ثلاثة فعل لا عقاب على تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت ولكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل والنزاع يرجع إلى اللفظ والذي ذكرناه أولى فإن قيل ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب إذ يجوز تركه وبالإضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا

يسع تأخيره عنه وقولكم أنه ينوي الفرض فمسلم لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة ويثاب ثواب معجل الفرض لا ثواب الندب ولا ثواب الفرض الذي ليس بمعجل قلنا قولكم أنه بالإضافة إلى أول الوقت يجوز تأخيره فهو ندب خطأ إذ ليس هذا حد الندب بل الندب ما يجوز تركه مطلقا وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل وما جاز تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالإعتاق فإنه ما من عبد إلا ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر وكذلك خصال الكفارة ما من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك واجبا مخيرا يسمى هذا واجبا غير مضيق وإذا كان حظ المعنى منه متفقا عليه وهو الانقسام إلى الأقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة وما جاز تركه بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا وما يجوز تركه مطلقا فهو قسم ثالث وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي فرضا فمخالف للإجماع إذ يجب نية التعجيل في الزكاة وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به فإن قيل قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض عنده وقال قوم يقع موقوفا فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين وقوعه فرضا وإن مات أو جن وقع نفلا قلنا لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا إذ النية قصد يتبع العلم والوقف باطل إذ الأمة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه إذا قال نويت أداء فرض الله تعالى فإن قيل بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك فإن الواجب المخير ما خير فيه بين شيئين كخصال الكفارة وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم ولأن مجرد قوله صل في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة ولأنه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا قلنا أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم وسببه أن الغافل لا يكلف أما إذا لم يغفل عن الأمر فلا يلخو عن العزم إلا بضده وهو العزم على الترك مطلقا وذلك حرام وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد الصيغة من حيث وضع اللسان ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع كالواجب المخير بالإضافة إلى أول الوقت وبالإضافة إلى آخره أيضا فإنه لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله

مسألة ( حكم من توفي أثناء وقت الصلاة بعد العزم عليها )
إذا مات في أثناء وقت الصلاة فجأة بعد العزم على الامتثال لا يكون عاصيا وقال بعض من أراد تحقيق معنى الوجوب أنه يعصي وهو خلاف إجماع السلف فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال أو بعد انقضاء مقدار ركعتين من أول الصبح وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير ولا سيما إذا اشتغل بالوضوء أو نهض إلى المسجد فمات في الطريق بل محال أن يعصي وقد جوز له التأخير فمن فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته فإن قيل جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة

قلنا هذا محال فإن العاقبة مستورة عنه فإذا سألنا وقال العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم وأنا أريد أن أؤخره إلى غد فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير فلا بدل له من جواب فإن قلنا لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه وإن قلنا يعصي فهو خلاف الإجماع في الواجب الموسع وإن قلنا إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الغد فأنت عاص وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير فيقول وما يدريني ماذا في علم الله فما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فإن قيل فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات فأي معنى لوجوبه قلنا تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم مع العزم على التفرغ له في كل وقت وتأخيره الحج من سنة إلى سنة فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم ولهذا قال أبو حنيفة لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر وشهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة و الشافعي رحمع الله يرى البقاى إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه آثم لكن لأنه أخطأ في ظنه والمخطىء ضامن غير آثم

مسألة ( ما لا يتم الواجب إلا به )
اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به هل يوصف بالوجوب والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى المكلف كالقدرة على الفعل وكاليد في الكتابة وكالرجل في المشي فهذا لا يوصف بالوجوب بل عدمه يمنع الإيجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق وكذلك تكليف حضور الإمام الجمعة وحضور تمام العدد فإنه ليس إليه فلا يوصف بالوجوب بل يسقط بتعذره الواجب
وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط الشرعي وإلى الحسي
فالشرعي كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة
وأما الحسي فكالسعي إلى الجمعة وكالمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالإمساك جزء من الليل قبل الصبح فيوصف ذلك بالوجوب ونقول ما لا يتصول إلى الواجب إلا به وهو فعل المكلف فهو واجب وهذا أولى من أن نقول يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب إذ قولنا يجب فعل ما ليس بواجب متناقض وقولنا ما ليس بواجب صار واجبا غير متناقض فإنه واجب لكن الأصل وجب بالإيجاب قصدا إليه والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما كان وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود فإن قيل لو كان واجبا

لكان مقدرا فما المقدار الذي يجب غسله من الرأس وإمساكنه من الليل قلنا قد وجب التوصل به إلى الواجب وهو غير مقدر بل يجب مسح الرأس ويكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم وهو غير مقدر فكذلك الواجب أقل ما يمكن به غسل الوجه وهذا التقدير كاف في الوجوب فإن قيل لو كان واجبا لكان يثاب على فعله ويعاقب على تركه وتارك الوضوء لا يعاقب على ما تركه من غسل الرأس بل من غسل الوجه وتارك الصوم لا يعاقب على ترك الإمساك ليلا قلنا ومن أنبأكم بذلك ومن أين عرفتم أن ثواب البعيد عن البيت لا يزيد على ثواب القريب في الحج وأن من زاد عمله لا يزيد ثوابه وإن كان بطريق التوصل وأما العقاب فهو عقاب على ترك الصوم والوضوء وليس يتوزع على أجزاء الفعل فلا معنى لإضافته إلى التفاصيل فإن قيل لو قدر على الاقتصار على غسل الوجه لم يعاقب قلنا هذا مسلم لأنه إنما يجب على العاجز أما القادر فلا وجوب عليه

مسألة ( حكم اختلاط المنكوحة بالأجنبية )
قال قائلون إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال ويجب الكف عنها وهذا متناقض بل ليس الحرمة والحل وصفا ذاتيا لهما بل هو متعلق بالفعل فإذا حرم فعل الوطء فيهما فأي معنى لقولنا وطء المنكوحة حلال ووطء الأجنبية حرام بل هما حرامان إحداهما بعلة الأجنبية والأخرى بعلة الاختلاط بالأجنبية فالاختلاف في العلة لا في الحكم وإنما وقع هذا في الأوهام من حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة الوصف بالعجز والقدرة والسواد والبياض والصفات الحسية وذلك وهم نبهنا عليه إذ ليست الأحكام صفات للأعيان أصلا بل نقول إذا اشتبهت رضيعة بنساء بلدة فنكح واحدة حلت واحتمل أن تكون هي الرضيعة في علم الله تعالى ولا نقول إنها ليست في علم الله تعالى زوجة له إذ لا معنى للزوجة إلا من حل وطؤها بنكاح وهذه قد حل وطؤها فهي حلال عنده وعند الله تعالى ولا نقول هي حرام عند الله تعالى وحلال عنده في ظنه بل إذا ظن الحل فهي حلال عند الله تعالى وسيأتي تحقيق هذا في مسألة تصويب المجتهد أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال يحل وطؤها والطلاق غير واقع لأنه لم يعين له محلا فصار كما إذا باع أحد عبديه ويحتمل أن يقال حرمتا جميعا فإنه لا يشترط تعيين محل الطلاق ثم عليه التعيين وإليه ذهب أكبر الفقهاء والمتبع في ذلك موجب ظن المجتهد أما المصير إلى أن إحداهما محرمة والأخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط المنكوحة بالأجنية فلا ينقدح هاهنا لأن ذلك جهل من الآدمي عرض بعد التعيين وأما هنا فليس متعينا في نفسه بل يعلمه الله تعالى مطلقا لإحداهما لا بعينها فإن قيل إذا وجب عليه التعيين فالله تعالى يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة المطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو مشكل علينا قلنا الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يعلم الطلاق الذي لم يعين محله متعينا بل يعلمه قابلا للتعيين إذا عينه المطلق ويعلم أنه سيعين زينب مثلا فيتعين الطلاق بتعيينه إذا عين لا قبله وكذلك نقول في الواجب المخير الله تعالى يعلم ما سيفعله العبد من خلال الكفارة ولا يعلمه واجبا بعينه بل واجبا غير معين في حال ثم يعلم صيرورته متعينا بالتعيين بدليل أنه لو علم أنه يموت

قبل التكفير وقبل التعيين فيعلم الوجوب والطلاق على ما هو عليه من عدم التعيين

مسألة ( حكم الواجب غير المعروف )
اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع والسجود ومدة القيام إنه إذا زاد على أقل الواجب هل توصف الزيادة بالوجوب فلو مسح جميع الرأس هل يقع فعله بجملته واجبا أو الواجب الأقل والباقي ندب فذهب قوم إلى أن الكل يوصف بالوجوب لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد والأمر في نفسه أمر واحد وهو أمر إيجاب ولا يتميز البعض من البعض فالكل امتثال والأولى أن يقال الزيادة على الأقل ندب فإنه لم يجب إلا أقل ما ينطلق عليه الاسم وهذا في الطمأنينة والقيام وما وقع متعاقبا أظهر وكذلك المسح إذا وقع متعاقبا وما وقع من جملته معا وإن كان لا يتميز بعضه من بعض بالإشارة والتعيين فيحتمل أن يقال قدر الأقل منه واجب والباقي ندب وإن لم يتميز بالإشارة المندوب عن الواجب لأن الزيادة على الأقل لا عقاب على تركها مطلقا من غير شرط بدل فلا يتحقق فيه حد الوجوب
مسألة ( حقيقة الوجوب والجواز )
الوجوب يباين الجواز والإباحة بحده فلذلك قلنا يقضي بخطأ من ظن أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز بل الحق أنه إذا نسخ رجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن فإن قيل كل واجب فهو جائز وزيادة إذ الجائز ما لا عقاب على فعله والواجب أيضا لا عقاب على فعله وهو معنى الجواز فإذا نسخ الوجوب فكأنه أسقط العقاب على تركه فيبقى سقوط العقاب على فعله وهو معنى الجواز قلنا هذا كقول القائل كل واجب فهو ندب وزيادة فإذا نسخ الوجوب بقي الندب ولا قائل به
ولا فرق بين الكلامين وكلاهما وهم بل الواجب لا يتضمن معنى الجواز فإن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتساوي بينهما بتسوية الشرع وذلك منفي عن الواجب وذكر هذه المسألة ههنا أولى من ذكرها في كتاب النسخ فإنه نظر في حقيقة الوجوب والجواز لا في حقيقة النسخ
مسألة ( الجواز ليس فيه أمر )
كما فهمت أن الواجب لا يتضمن الجواز فافهم أن الجائز لا يتضمن الأمر وأن المباح غير مأمور به لتناقض حديهما كما سبق خلافا للبلخي فإنه قال المباح مأمور به لكنه دون الندب كما أن الندب مأمور به لكنه دون الواجب وهذا محال إذ الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مطلوب بل مأذون فيه ومطلق له فإن استعمل لفظ الأمر في الإذن فهو تجوز فإن قيل ترك الحرام واجب والسكون المباح يترك به الحرام من الزنا والسرقة والسكوت المباح أو الكلام المباح يترك به الكفر والكذب وترك الكفر والكذب والزنا مأمور به قلنا قد يترك بالندب حرام فليكن واجبا وقد يترك بالحرام حرام آخر فليكن الشيء الواحد واجبا حراما وهو تناقض ويلزم هذا على مذهب من زعم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده بل يلزم عليه كون الصلاة حراما إذا تحرم بها من ترك الزكاة

الواجبة لأنه أحد أضداد الواجب وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء لكنهم لم يقولوا به فإن قيل فالمباح هل يدخل تحت التكليف وهل هو من التكاليف قلنا إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة فليس ذلك في المباح وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والإذن فيه فهو تكليف وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك لكن لا بنفس الإباحة بل بأصل الإيمان وقد سماه الأستاذ أبو إسحق رحمه الله تكليفا بهذا التأويل الأخير وهو بعيد مع أنه نزاع في اسم فإن قيل فهل المباح حسن قلنا إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو حسن وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب فليس المباح بحسن واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الأنبياء فقد دل الدليل على وقوعها منهم ولم يأمر بإهانتهم وذمهم لكنا نعتقد استحقاقهم لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء عليهم

مسألة ( هل المباح من الشريعة )
المباح من الشرع وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أنه ليس من الشرع إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل السمع فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي فعبر عنه بالمباح وهذا له غور وكشف الغطاء عنه أن الأفعال ثلاثة أقسام قسم بقي على الأصل فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع فينبغي أن يقال استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم
وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فهذا خطاب والحكم لا معنى له إلا الخطاب ولا سبيل إلى إنكاره وقد ورد
وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير لكن دل دليل السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع ولولا هذا الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله وبقاؤه على النفي الأصلي فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر إذ يمكن أن يقال قول الشارع إن شئت فقم وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم هو تقرير للحكم السابق ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه فليس ذلك أمرا حادثا بالشرع فلا يكون شرعيا وأما الطرف الآخر وهو الذي لم يرد فيه خطاب ولا دليل فيمكن أيضا إنكاره بأن يقال قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة الشرع فتكون إباحته من الشرع وإلا عورض أن الإباحة من جهة الشرع تقرير لا تغيير وليس مع التقرير تجديد أمر بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا بل كف عن التعرض له وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي
مسألة ( التفريق بين المندوب والمباح المندوب مأمور به )
وإن لم يكن المباح مأمورا به لأن الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مقتضى أما المندوب فإنه مقتضى لكن مع إسقاط الذم عن تاركه والواجب مقتضى لكن مع ذم تاركه إذا تركه مطلقا أو تركه وبدله وقال قوم المندوب غير داخل تحت

الأمر وهو فاسد من وجهين أحدهما أنه شاع في لسان العلماء أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب مع أن صيغة الأمر قد تطلق لإرادة الإباحة كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا ( المائدة 2 ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ( الجمعة 10 )
الثاني إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق وليس طاعة لكونه مرادا إذ الأمر عندنا يفارق الإرادة ولا لكونه موجودا أو حادثا أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات ولا لكونه مثابا عليه فإن المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا وإنما الثواب للترغيب في الطاعة ولأنه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته ولا يخرج عن كونه مطيعا فإن قيل الأمر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير معه والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه وقولكم أنه يسمى مطيعا يقابله أنه لو ترك لا يسمى عاصيا قلنا الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه لأن التخيير عبارة عن التسوية فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير وقد قال تعالى في المحرمات أيضا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( الكهف 29 ) فلا ينبغي أن يظن أن الأمر اقتضاء جازم بمعنى أن الشرع يطلب منه شيئا لنفسه بل يطلب منه لما فيه من صلاحه والله تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم ولا يرضى الكفر لهم وكذلك يقتضي الندب لنيل الثواب ويقول الفعل والترك سيان بالإضافة إلي أما في حقك فلا مساواة ولا خيرة إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم وأما قولهم أنه لا يسمى عاصيا فسببه أن العصيان اسم ذم وقد أسقط الذم عنه نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل كما يسمى فاعله موافقا ومطيعا

مسألة ( الواجب غير الحرام )
إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لأنه المقتضى تركه والواجب هو المقتضى فعله فلا يخفى عليك أن الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما طاعة معصية لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعدد أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا فإنه نوع واحد من الأفعال فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام ويكون انقسامه بالأوصاف والإضافات كالسجود لله تعالى والسجود للصنم إذ أحدهما واجب والآخر حرام ولا تناقض وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض فإن السجود نوع واحد مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس الجسود وهذا خطأ فاحش فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لم يتناقض والسجود للصنم غير السجود لله تعالى لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة إذ الشيء لا يغاير نفسه والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع وتارة باختلاف الوصف وتارة باختلاف الإضافة وقد قال الله تعالى لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله ( فصلت 37 ) وليس المأمور به هو المنهي عنه والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا فقولهم إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد إذ مقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون بالإضافة إلى واحد ولا وحدة مع المغايرة

مسألة ( الواحد بالتعيين )
ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر أما الواحد بالتعيين كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا لا تصح هذه الصلاة إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا وهو متناقض فقيل لهم هذا خلاف إجماع السلف فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله فقال يسقط الوجوب عندها لا بها بدليل الإجماع ولا يقع واجبا لأن الواجب ما يثاب عليه وكيف يثاب على ما يعاقب عليه وفعله واحد وهو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله وإن الحادث منه الأكوان لا غيرها وهو معاقب عليها عاص بها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص وهذا غير مرضي عندنا بل نقول الفعل وإن كان واحدا في نفسه فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه وفعله من حيث أنه صلاة مطلوب ومن حيث أنه غصب مكروه والغصب معقول دون الصلاة والصلاة معقولة دون الغصب وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده صل اليوم ألف ركعة وخط هذا الثواب ولا تدخل هذه الدار فإن ارتكبت النهي ضربتك وإن امتثلت الأمر أعتقتك فخاط الثوب في الدار وصلى ألف ركعة في تلك الدار فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة والصلاة وعصى بدخول الدار فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين يطلب أحدهما ويكره الآخر ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين فإن قيل ارتكاب المنهى عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية محال فكيف ينوي التقرب فالجواب من أوجه الأول إن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن وأبو هاشم والجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الأمة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم وكيف ينكر سقوط نية التقرب وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الإضافة إلى الله تعالى فقال قوم لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر فهو في محل الاجتهاد وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه فإن قيل من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة قلنا إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحالت نية التقرب فتلغى تلك النية ويصح أن يقال تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء

الصلاة من الذكر والقراءة وما لا يزاحم حق المغصوب منه فإن الأكوان هي التي تتناول منافع الدار ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه الجواب الثاني وهو الأصح أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة وإن كان في دار مغصوبة لأنه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا فإن قيل هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله ولا فعل له إلا قيامه وقعوده وهو متقرب بفعله فيكون متقربا بعين ما هو عاص به قلنا هو من حيث أنه مستوف منافع الدار غاصب ومن حيث أنه أتى بصورة الصلاة متقرب كما ذكرناه في صورة الخياطة إذ قد يعقل كونه غاصبا ولا يعلم كونه مصليا ويعلم كونه مصليا ولا يعلم كونه غاصبا فهما وجهان مختلفان وإن كان ذات الفعل واحدا
الجواب الثالث هو أنا نقول بم تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع فسلم أنه معصية ولكن الأمر لا يدل على الأجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الأجزاء بل يؤخذ الأجزاء من دليل آخر كما سيأتي
فإن قيل هذه المسألة اجتهادية أم قطعية قلنا هي قطعية والمصيب فيها واحد لأن من صحح أخذ من الإجماع وهو قاطع ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية ويدعى كون ذلك محالا بدليل العقل فالمسألة قطعية فإن قيل ادعيتم الإجماع في هذه المسألة وقد ذهب أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة فكيف تحتجون عليه بالإجماع قلنا الإجماع حجة عليه إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها مع أنهم لو أمروا به لانتشر وإذا أنكر هذا فيلزمه ما هو أظهر منه وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته وأنه لا يحصل التحليل بوطء من هذه حاله لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه

مسألة ( المكروه غير الواجب )
كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب فلا يدخل مكروه تحت الأمر حتى يكون شيء واحد مأمورا به مكروها إلا أن تنصرف الكراهية عن ذات المأمور إلى غيره ككراهية الصلاة في الحمام وأعطان الإبل وبطن الوادي وأمثاله فإن المكروه في بطن الوادي التعرض لخطر السيل وفي الحمام التعرض للرشاش أو لتخبط الشياطين وفي أعطان الإبل التعرض لنفارها وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة وربما شوش الخشوع بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمور إلى ما هو في جواره وصحبته لكونه خارجا عن ماهيته وشروطه وأركانه فلا يجتمع الأمر والكراهية فقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ( الحج 29 ) لا يتناول طواف المحدث الذي نهي عنه لأن المنهي عنه لا يكون مأمورا به والمنهي عنه في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة انفصل

عن المأمور إذ المأمور به الصلاة والمنهي عنه الغصب وهو في جواره

مسألة ( أصناف الترك ذات المتروك )
المتفقون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ينقسم النهي عندهم إلى ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى غيره فلا يضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى وصف المنهي عنه لا إلى أصله وقد اختلفوا في هذا القسم الثالث ومثال القسمين الأولين ظاهر ومثال القسم الثالث أن يوجب الطواف وينهى عن إيقاعه مع الحدث أو يأمر بالصوم وينهى عن إيقاعه في يوم النحر فيقال الصوم من حيث أنه صوم مشروع مطلوب ومن حيث أنه واقع في هذا اليوم غير مشروع والطواف مشروع بقوله تعالى ( 22 ) وليطوفوا بالبيت العتيق ( الحج 29 ) ولكن وقوعه في حالة الحدث مكروه والبيع من حيث أنه بيع مشروع ولكن من حيث وقوعه مقترنا بشرط فاسد أو زيادة في العوض في الربويات مكروه والطلاق من حيث أنه طلاق مشروع ولكن من حيث وقوعه في الحيض مكروه وحراثة الولد من حيث أنها حراثة مشروعة ولكنها من حيث وقوعها في غير المنكوحة مكروهة والسفر من حيث أنه سفر مشروع ولكن من حيث قصد الأباق به عن السيد غير مشروع فجعلأبو حنيفة هذا قسما ثالثا وزعم أن ذلك يوجب فساد الوصف لا انتفاء الأصل لأنه راجع إلى الوصف لا إلى الأصل والشافعي رحمه الله ألحق هذا بكراهة الأصل ولم يجعله قسما ثالثا وحيث نفذ الطلاق في الحيض صرف النهي عن أصله ووصفه إلى تطويل العدة أو لو حق الندم عند الشك في الولد وأبو حنيفة حيث أبطل صلاة المحدث دون طواف المحدث زعم أن الدليل قد دل على كون الطهارة شرطا في الصلاة فإنه قال عليه الصلاة و السلام لا صلاة إلا بطهور فهو نفي للصلاة لا نهي وفي المسألة نظران أحدهما في موجب مطلق النهي من حيث اللفظ وذلك نظر في مقتضى الصيغة وهو بحث لغوي نذكره في كتاب الأوامر والنواهي
والنظر الثاني نظر في تضاد هذه الأوصاف وما يعقل اجتماعه وما لا يعقل إذا وقع التصريح به من القائل وهو أنه هل يعقل أن يقول السيد لعبده أنا آمرك بالخياطة وأنهاك عنها ولا شك في أن ذلك لا يعقل منه فإنه فيه يكون الشيء الواحد مطلوبا مكروها ويعقل منه أن يقول أنا أطلب منك الخياطة وأكره دخول هذه الدار والكون فيها ولا يتعرض في النهي للخياطة وذلك معقول وإذا خاط في تلك الدار أتى بمطلوبه ومكروهه جميعا وهل يعقل أن يقول أطلب منك الخياطة وأنهاك عن إيقاعها في وقت الزوال فإذا خاط في وقت الزوال فهل جمع بين المكروه والمطلوب أو ما أتى بالمطلوب هذا في محل النظر والصحيح أنه ما أتى بالمطلوب وأن المكروه هي الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال مع بقاء الخياطة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع فإن قيل فلم صحت الصلاة في أوقات الكراهة ولم صحت الصلاة الواقعة في الأماكن السبعة من بطن الوادي وأعطان الإبل وما الفرق بينهما وبين النهي عن صوم يوم النحر قلنا من صحح هذه الصلوات لزمه صرف النهي عن أصل الصلاة ووصفها إلى غيره وقد اختلفوا في انعقاد الصلاة في الأوقات المكروهة لترددهم في أن النهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث أنه إيقاع صلاة أو من أمر آخر مقترن

به وأما صوم يوم النحر فقطع الشافعي رحمه الله ببطلانه لأنه لم يظهر انصراف النهي عن عينه ووصفه ولم يرتض قولهم أنه نهى عنه لما فيه من ترك إجابة الدعوة بالأكل فإن الأكل ضد الصوم فكيف يقال له كل أي أجب الدعوة ولا تأكل أي صم والآن تفصيل هذه المسائل ليس على الأصولي بل هو موكول إلى نظر المجتهدين في الفروع وليس على الأصولي إلا حصر هذه الأقسام الثلاثة وبيان حكمها في التضاد وعدم التضاد وأما النظر في آحاد المسائل أنها من أي قسم هي فإلى المجتهد وقد يعلم ذلك بدليل قاطع وقد يعلم ذلك بظن وليس على الأصولي شيء من ذلك وتمام النظر في هذا ببيان أن النهي المطلق يقتضي من هذه الأقسام أيها وأنه يقتضي كون المنهي عنه مكروها لذاته أو لغيره أو لصفته وسيأتي

مسألة ( هل الأمر بشيء ترك لغيره )
اختلفوا في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده وللمسألة طرفان أحدهما يتعلق بالصيغة ولا يستقيم ذلك عند من لا يرى للأمر صيغة ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله قم غير قوله لا تقعد فإنهما صورتان مختلفتان فيجب عليهم الرد إلى المعنى وهو أن قوله قم له مفهومان أحدهما طلب القيام والآخر ترك القعود فهو دال على المعنيين فالمعنيان المفهومان منه متحدان أو أحدهما غير الآخر فيجب الرد إلى المعنى
والطرف الثاني البحث عن المعنى القائم بالنفس وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى فإن كلامه واحد هو أمر ونهي ووعد ووعيد فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده واستدل القاضي أبو بكر رحمه الله عليهم بأن قال لا خلاف أن الآمر بالشيء ناه عن ضده فإذا لم يقم دليل على اقتران شيء آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به قال وبهذا علمنا أن الكسون عين ترك الحركة وطلب السكون عين طلب ترك الحركة وشغل الجوهر بحيز انتقل إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه والقرب من المغرب عين البعد من المشرق فهل فعل واحد بالإضافة إلى المشرق بعد وبالإضافة إلى المغرب قرب وكون واحد بالإضافة إلى خير شغل وبلإضافة إلى آخر تفريغ زكذلك ههنا طلب واحد بالإضافة إلى السكون أمر وإلى الحركة نهي قال والدليل على أنه ليس معه غيره أن ذلك الغير لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا ومحال كونه ضدا لأنهما لا يجتمعان وقد اجتمعا ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين ومحال كونه خلافا إذ لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر أما هذا دون ذاك أو ذاك دون هذا كإرادة الشيء مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الإرادة وإن لم يتصور وجود الإرادة دون العلم بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر وضد النهي عن الحركة الأمر بها فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا فيقول تحرك واسكن وقم واقعد وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة حيث منعوا تكليف المحال وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول إجمع بين القيام والقعود ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشيء أن يكون ناهيا عن ضده بل يجوز أن يكون آمرا بضده فضلا عن أن يكون لا آمرا

ولا ناهيا وعلى الجملة فالذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده لا بمعنى أنه عينه ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه بل يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن أضداده فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو ذاهل عنه وكذلك ينهى عن الشيء ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا بأحد أضداده ولا بعينه فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك أضداده فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين القيام والقعود إذا قيل له قم فجمع كان ممتثلا لأنه لم يؤمر إلا بإيجاد القيام وقد أوجده ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي من المعتزلة حيث أنكر المباح وقال ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب ويلزمه وصف الصلاة بأنها حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور وإن فرق مفرق فقال النهي ليس أمرا بالضد والأمر نهي عن الضد لم يجد إليه سبيلا إلا التحكم المحض فإن قيل فقد قلتم إن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ولا يتوصل إلى فعل الشيء إلا بترك ضده فليكن واجبا قلنا ونحن نقول ذلك واجب وإنما الخلاف في إيجابه هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره فإذا قيل إغسل الوجه فليس عين هذا إيجابا بالغسل جزء من الرأس ولا قوله صم النهار إيجابا بعينه لإمساك جزء من الليل ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار ولكن ذلك يجب بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور لا أنه عين ذلك الإيجاب فلا منافاة بين الكلامين
الفن الثالث من القطب الأول في أركان الحكم وهي أربعة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم
أما نفس الحكم فقد ذكرناه وأنه يرجع إلى الخطاب وهو الركن الأول
الركن الثاني الحاكم وهو المخاطب فإن الحكم خطاب وكلام فاعله كل متكلم فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له أما النبي صلى الله عليه و سلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من الآخر فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته فإن قيل لا بل من قدر على التوعد بالعقاب وتحقيقه حسا فهو أهل للإيجاب إذ الوجوب إنما يتحقق بالعقاب قلنا قد ذكرنا من مذهب القاضي رحمه الله أن الله تعالى لو أوجب شيئا لوجب وإن لم يتوعد عليه بالعقاب لكن عند البحث عن حقيقة الوجوب لا يتحصل على طائل إذا لم يتعلق به ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه إلا أن العادة جارية بتخصيص هذا الإسم

بالضرر الذي يحذر في الآخرة ولا قدرة عليه إلا لله تعالى فإن أطلق على كل ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه الآدمي فعند ذلك يجوز أن يكون موجبا لا بمعنى أنا نتحقق قدرته عليه فإنه ربما يعجز عنه قبل تحقيق الوعيد لكن نتوقع قدرته ويحصل به نوع خوف
الركن الثالث المحكوم عليه وهو المكلف وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم فمن لا يفهم كيف يقال له إفهم ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم وإن سمع الصوت كالبهيمة ولكنه لا يفهم فهو كمن لا يسمع ومن يسمع وقد يفهم فهما ما لكنه لا يعقل ولا يثبت كالمجنون وغير المميز فمخاطبته ممكنة لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن فإن قيل فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقات على الصبيان قلنا ليس ذلك من التكليف في شيء إذ يستحيل التكليف بفعل الغير وتجب الدية على العاقلة لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم فكذلك الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ وذلك غير محال إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم إفهم وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل
وأما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال حتى أن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب فيقال أنه موجود بالقوة كما أن شرط المالكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكنها بالقوة إذ مصيرها إلى الحياة فكذلك الصبي مصيره إلى العقل فصلح لإضافة الحكم إلى ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال
فإن قيل فالصبي المميز مأمور بالصلاة قلنا مأمور من جهة الولي والولي مأمور من جهة الله تعالى إذ قال عليه السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وذلك لأنه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه فصار أهلا له ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه إذ لا يفهم الآخرة فإن قيل فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع أفيدل ذلك على نقصان عقله قلنا قال القاضي أبو بكر رحمه الله ذلك يدل عليه وليس يتجه ذلك لأن انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا لأن العقل خفي وإنما يظهر فيه على التدريج فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة فنصب الشرع له علامة ظاهرة

مسألة ( هل يكلف الغافل والناس )
تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال إذ من لا يفهم كيف يقال له إفهم

أما ثبوت الأحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر كلزوم الغرامات وغيرها وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وذلك مما لا ينكر فإن قيل فقد قال الله تعالى في ( النساء 43 ) وهذا خطاب للسكران قلنا إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية ولها تأويلان أحدهما أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل
وقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون ( النساء 43 ) معناه حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك وإن كان أصل عقله باقيا وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة مثل هذا السكران وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع
الثاني أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان ومعناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد

مسألة ( أمر الله تعالى في الأزل )
فإن قال قائل ليس من شرط الأمر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الأزل لعباده قبل خلقهم فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم قلنا ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود لا أنه مأمور في حالة العدم إذ ذلك محال لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود ولا يسمى هذا المعنى في الأزل خطابا إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع وهل يسمى أمرا فيه خلاف والصحيح أنه يسمى به إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال فلان أمر أولاده بكذا وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن أو معدوما ولا يحسن أن يقال خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته يقال قد أطاعوه وامتثلوا أمره مع أن الآمر الآن معدوم والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو معدوم عن عالمنا هذا وإن كان حيا عند الله تعالى فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا فلم يشترط وجود المأمور لكون الأمر أمرا
فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر للمعدوم على وجه الإلزام قلنا نعم نحن نقول هو آمر لكن على تقدير الوجود كما يقال الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا

فيكون الإلزام والإيجاب حاصلا ولكن بشرط الوجود والقدرة
ولو قال لعبده صم غدا فقد أوجب وألزم في الحال صوم الغد ولا يمكن صوم الغد في الوقت بل في الغد وهو موصوف بأنه ملزم وموجب في الحال
الركن الرابع المحكوم فيه وهو الفعل إذ لا يدخل تحت التكليف إلا الأفعال الاختيارية وللداخل تحت التكليف شروط الأول صحة حدوثه لاستحالة تعلق الأمر بالقديم والباقي وقلب الأجناس والجمع بين الضدين وسائر المحالات التي لا يجوز التكليف بها عند من يحيل تكليف ما لا يطاق فلا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا به كما كان قبل الحدوث أو يخرج عن كونه مأمورا كما في الحالة الثانية من الوجود اختلفوا فيه وفيه بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره
الثاني جواز كونه مكتسبا للعبد حاصلا باختياره إذ لا يجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته وإن كان حدوثه ممكنا فليكن مع كونه ممكنا مقدورا للمخاطب
الثالث كونه معلوما للمأمور معلوم التمييز عن غيره حتى يتصور قصده إليه وأن يكون معلوما كونه مأمورا به من جهة الله تعالى حتى يتصور منه قصد الامتثال وهذا يختص بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب فإن قيل فالكافر مأمور بالإيمان بالرسول عليه السلام وهو لا يعلم أنه مأمور به قلنا الشرط لا بد أن يكون معلوما أو في حكم المعلوم بمعنى أن يكون العلم ممكنا بأن تكون الأدلة منصوبة والعقل والتمكن من النظر حاصلا حتى أن ما لا دليل عليه أومن لا عقل له مثل الصبي والمجنون لا يصح في حقه
الرابع أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو أكثر العبادات ويستثنى من هذا شيئان أحدهما الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة وهو لا يعرف وجوبه إلا بعد الإتيان به والثاني أصل إرادة الطاعة والإخلاص فإنه لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الإرادة إلى إرادة ولتسلسل ويتشعب عن شروط الفعل خمس مسائل

مسألة ( هل المكلف به ممكن الحدوث )
ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط بل يجوز تكليف ما لا يطاق والأمر بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإعدام القديم وإيجاد الموجود وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله وهو لازم على مذهبه من وجهين أحدهما أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة لأن الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله وإنما يكون مأمورا قبله
والآخر أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير
واتدل على هذا بثلاثة أشياء أحدها قوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ( البقرة 286 ) والمحال لا يسأل دفعه فإنه مندفع بذاته وهو ضعيف لأن المراد به ما يشق ويثقل علينا إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم فقد يقال حمل ما لا طاقة له به فالظاهر المؤول ضعيف الدلالة في القطعيات
الثاني قولهم أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الإيمان ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو

محال وهذا ضعيف أيضا لأن أبا جهل أمر بالإيمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر إذ لم يكن هو مجنونا فكان الإمكان حاصلا لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره فإذا علم كون الشيء مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا وكذلك نقول القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه
الثالث قولهم لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به أو لأنه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته إذ لا يستحيل أن يقول كونوا قردة خاسئين ( البقرة 65 ) وأن يقول السيد لعبده الأعمى أبصر وللزمن إمش وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين ومحال أن يقال أنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه الأصلح ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد والفساد والسفه من المخلوق ممكن فلم يمتنع ذلك مطلقا والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته إذ يجوز أن ترد صيغته ولكن للتعجيز لا للطلب كقوله تعالى قل كونوا حجارة أو حديدا ( الإسراء 50 ) وكقوله كونوا قردة خاسئين ( البقرة 65 ) أو لإظهار القدرة كقوله تعالى كن فيكون ( يس 82 ) لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه ولكن يمتنع لمعناه إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة والطلب يستدعي مطلوبا وذلك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق فيجوز أن يقول تحرك إذ التحرك مفهوم فلو قال له تحرك فليس بتكليف إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه فإنه لفظ مهمل فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور فلا يكون ذلك تكليفا أيضا لأن التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة لأن التكليف اقتضاء طاعة فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر لأن الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا وهذا غير معقول أي لا وجود له في العقل فإن الشيء قبل أن يوجد في نفسه فله وجود في العقل وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل وإحداث القديم غير داخل في العقل فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم وكذلك سواد الأبيض لا وجود له في العقل وكذلك قيام القاعدة فكيف يقول له قم وأنت قاعد فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب فإنه كما يشترط في المطلوب أن يكون معدوما في الأعيان يشترط أن يكون موجودا في الأذهان أي في العقل حتى يكون إيجاده في الأعيان على وفقه في الأذهان فيكون طاعة وامتثالا أي احتذاء لمثال ما في نفس الطالب فما

لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود فإن قيل فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام قلنا ذلك طلب مبني على الجهل وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا وهذا لا يتصور من الله تعالى
فإن قيل فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الإيجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق قلنا نحن ندرك بالضرورة تفرقه بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن أدخل البيت وبين أن يقال له إطلع السماء أو يقال له قم مع استدامة القعود أو إقلب السواد حركة والشجرة فرسا إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن وقدرة بالإضافة إلى أحد هذه الأوامر دون البقية ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا ولذلك جاز أن نقول لا تحملنا ما لا طاقة لنا به ( البقرة 286 ) فإن استوت الأمور كلها فأي معنى لهذا الدعاء وأي معنى لهذه التفرقة الضرورية فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها وعلى الجملة سبب غموض هذا أن التكليف نوع خاص من كلام النفس وفي فهم أصل كلام النفس غموض فالتفريع عليه وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض

مسألة ( الجمع بين الأضداد )
كما لا يجوز أن يقال إجمع بين الحركة والسكون لا يجوز أن يقال لا تتحرك ولا تسكن لأن الانتهاء عنهما محال كالجمع بينهما فإن قيل فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج إذ في كل واحد إفساد زرع الغير فهو عاص بهما قلنا حظ الأصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له لا تمكث ولا تخرج ولا ينهى عن الضدين فإنه محال كما لا يؤمر بجمعهما فإن قيل فما يقال له قلنا يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به مماسا للفرج الحرام ولكن يقال له إنزع على قصد التوبة لا على قصد الإلتذاذ فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر في المكث تكثيره وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالإضافة إلى أعظمهما كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز فإن قيل فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج قلنا الضمان لا يستدعي العدوان إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الإتلاف ويجب على الصبي وعلى من رمى إلى صف الكفار وهو مطيع به فإن قيل فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب وإن كان واجبا وطاعة فلم وجب القضاء ولم عصى به قلنا عصى بالوطء المفسد وهو مطيع بإتمام الفاسد والقضاء يجب بأمر مجدد وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة مع أنه عدوان فالقضاء كالضمان فإن قيل فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة فحكم العصيان ينسحب على فعله قلنا وليس لأحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصى بالصلاة قاعدا وإنما يعصى بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما وقول القائل ينسحب عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده فهو محال والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي قد نهي عنه فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان فكيف يفرض النهي عن شيء وعن ضده أيضا ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا لقوله تعالى لا يكلف الله

نفسا إلا وسعها ( البقرة 286 ) إن قيل فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح فكيف السبيل قلنا يحتمل أن يقال إمكث فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي قادر وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة ويحتمل أن يقال يتخير إذ لا ترجيح ويحتمل أن يقال لا حكم لله تعالى فيه فيفعل ما يشاء لأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص في هذه المسألة ولا نظير لها في المنصوصات حتى يقاس عليه فبقي على ما كان قبل ورود الشرع ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم فكل هذا محتمل وأما تكليف المحال فمحال

مسألة ( المقتضى بالتكليف )
اختلفوا في المقتضى بالتكليف والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الإقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد فالأمر بالصوم أمر بالكف والكف فعل يثاب عليه والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من أضداده وهو الترك فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله
وقال بعض المعتزلة قد يقتضي الكف فيكون فعلا وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون هذا وقالوا المنتهي بالنهي مثاب ولا يثاب إلا على شيء وأن لا يفعل عدم وليس بشيء ولا تتعلق به قدرة إذ القدرة تتعلق بشيء فلا يصح الإعدام بالقدرة وإذا لم يصدر منه شيء فكيف يثاب على لا شيء والصحيح أن الأمر فيه منقسم أما الصوم فالكف فيه مقصود ولذلك تشترط فيه النية وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما فيعاقب فاعلهما ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن فهو مثاب على فعله وأما من لم يصدر منه المنهي عن فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب لأنه لم يصدر منه شيء ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش ولا يقصد منه التلبس بأضدادها
مسألة ( هل المكره مكلف )
فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف بخلاف فعل المجنون والبهيمة لأن الخلل تم في المكلف لا في المكلف به فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم والمكره يفهم وفعله في حيز الإمكان إذ يقدر على تحقيقه وتركه فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل لأنه قادر عليه وإن كان فيه خوف الهلاك وإن كلف على وفق الإكراه فهو أيضا ممكن بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم إذ يجب قتلها أو أكره الكافر على الإسلام فإذا أسلم نقول قد أدى ما كلف وقالت المعتزلة إن ذلك محال لأنه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة وهذا محال لأنه قادر على تركه ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر وهذا ظاهر ولكن فيه غور وذلك لأن الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له

بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الإكراه بل كان يفعله لو أكره على تركه فلا يمتنع وقوعه طاعة لكن لا يكون مكرها وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة

مسألة ( الأمر بالشرط والمشروط )
ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الأمر بل يتوجه الأمر بالشرط والمشروط ويكون مأمورا بتقديم الشرط فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء والملحد بتصديق الرسول بشرط تقديم الإيمان بالمرسل وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع
أما الجواز العقلي فواضح
إذ لا يمتنع أن يقول الشارع بني الإسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها وبتقديم الإسلام من جملتها فيكون الإيمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات كما في المحدث والملحد فإن منع مانع الجميع وقال كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله والمحدث لا يقدر على الصلاة فهو مأمور بالوضوء فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الأمر بالصلاة قلنا فينبغي أن يقال لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة لأنه لم يؤمر قط بالصلاة وهذا خلاف الإجماع وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير فإنه يشترط تقديمه ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا ثم بالكاف ثانيا وعلى هذا الترتيب وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية
وأما الوقوع الشرعي فنقول كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالأحرار والمقيمين والأصحاء والطاهرات دون الحيض ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم وأدلته ثلاثة الأول قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من لمصلين ( المدثر 42 43 ) الآية
فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها قلنا ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الأمة وبه يحصل التحذير إذ لو كان كذبا لكان كقولهم عذبنا لأنا مخلوقون وموجودون كيف وقد عطف عليه قوله وكنا نكذب بيوم الدين ( المدثر 46 ) فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه فإن قيل العقاب بالتكذيب لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه قلنا لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها فإن قيل عوقبوا إلا بترك الصلاة لكن لإخراجهم أنفسهم بترك الإيمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا هذا باطل من أوجه أحدها أنه ترك للظاهر من غير ضرورة ولا دليل فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة وقد قالوا لم نك من المصلين ( المدثر 43 )

الثاني أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر لأن كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات والتسوية بينهما خلاف الإجماع
الثالث أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الإيمان لأنه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والإيمان فإن قيل لم نك من المصلين أي من المؤمنين لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين كما قال صلى الله عليه و سلم نهيت عن قتل المصلين أي المؤمنين لكن عرفهم بما هو شعارهم قلنا هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل ولا دليل للخصم
الدليل الثاني قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله ( الفرقان 68 ) إلى قوله تعالى يضاعف له العذاب ( الفرقان 69 ) فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب
والدليل الثالث إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول كما يعذب على الكفر بالله تعالى وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا لا تتصور العبادة مع الكفر فكيف يؤمر بها احتجوا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله قلنا وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه لكن إذا أسلم عفى له عما سلف فالإسلام يجب ما قبله ولا يبعد نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام فإن قيل إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الإسلام والإسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط فالإستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه ثم الحكم بسقوطه قلنا لا بعد في قولنا استقر الوجوب بالإسلام وسقط بحكم العفو فليس في ذلك مخالفة نص ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الأنبياء والأولياء وشوش الدين وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك فما ذكرناه أولى فإن قيل فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي قلنا القضاء إنما وجب بأمر مجدد فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالأداء وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالإسلام القضاء والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك
الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به وهو الذي يسمى سببا وكيفية نسبة الحكم إليه وفيه أربعة فصول الفصل الأول في الأسباب إعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لأحكامه وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها ونعني بالأسباب ها هنا أنها هي التي أضاف الأحكام إليها كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( البقرة 185 ) وقوله صلى الله عليه و سلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره فجدير بأن يسمى سببا أما ما لا يتكرر كالإسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى ولله على الناس حج البيت ( آل عمران 97 ) وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم

بالعمومات فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب ويمكن أن يقال سبب وجوب الإيمان والمعرفة الأدلة المنصوبة وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت والأمر فيه قريب
هذا قسم العبادات وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات فلا تخفى أسبابها وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والإبضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره وهذا ظاهر وإنما المقصود أن نصب الأسباب أسبابا للأحكام أيضا حكم من الشرع فلله تعالى في الزاني حكمان
أحدهما وجوب الحد عليه
والثاني نصب الزنا سببا للوجوب في حقه لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه بخلاف العلل العقلية وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول نصب الزنا علة للرجم
والسرقة علة للقطع لكذا وكذا فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا والنباش في معنى السارق وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس
وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء وأصل اشتقاقه من الطريق ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر وحده ما يحصل الشيء عنده لا به فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع وأطلقوه على أربعة أوجه الوجه الأول وهو أقربها إلى المستعار منه ما يطلق في مقابلة المباشرة إذ يقال إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب والمردي صاحب علة فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا
الثاني تسميتهم الرمي سببا للقتل من حيث أنه سبب للعلة وهو على التحقيق علة العلة ولكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به
الثالث تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا كقولهم الكفارة تجب باليمين دون الحنث فاليمين هو السبب وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون ملك النصاب سبب والحول شرط
الرابع تسميتهم الموجب سببا فيكون السبب بمعنى العلة وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية لأنها لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى ولنصبه هذه الأسباب علامات لإظهار الحكم فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل الحكم عنده
الفصل الثاني في وصف السبب بالصحة والبطلان والفساد إعلم أن هذا يطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى وإطلاقه في العبادات مختلف فيه فالصحيح عند المتكلمين عبارة عما وافق الشرع وجب القضاء أو لم يجب وعند الفقهاء عبارة عما أجزأ وأسقط الفضاء حتى أن صلاة من ظن أن متطهر صحيحة في إصطلاح المتكلمين لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه إسم الصحة وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء لأنها غير مجزئة وكذلك من قطع صلاته بإنقاذ

غريق فصلاته صحيحة عند المتكلم فاسدة عند الفقيه وهذه الإصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها إذ المعنى متفق عليه وأما إذا أطلق في العقود فكل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه يقال أنه صح وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل فالباطل هو الذي لا يثمر لأن السبب مطلوب لثمرته والصحيح هو الذي أثمر والفاسد مرادف للباطل في إصطلاح أصحاب الشافعي رضي الله عنه فالعقد إما صحيح وإما باطل وكل باطل فاسد
وأبو حنيفة أثبت قسما آخر في العقود بين البطلان والصحة وجعل الفاسد عبارة عنه وزعم أن الفاسد معتقد لإفادة الحكم لكن المعني بفساده أنه غير مشروع بوصفه والمعني بانعقاده أنه مشروع بأصله كعقدالربا فإنه مشروع من حيث أنه بيع وممنوع من حيث أنه يشتمل على زيادة في العوض فاقتضى هذا درجة بين الممنوع بأصله ووصفه جميعا وبين المشروع بأصله ووصفه جميعا فلو صح له هذا القسم لم يناقش في التعبير عنه بالفاسد ولكنه ينازع فيه إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله كما سبق ذكره
الفصل الثالث في وصف العبادة بالأداء والقضاء والإعادة أعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإن أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سمي قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في الوقت سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود ويتصدى النظر في شيئين أحدهما أنه لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يخترم قبل الفعل فلو أخر عصي بالتأخير فلو أخر وعاش قال القاضي رحمه الله ما يفعله هذا قضاء لأنه تقدر وقته بسبب غلبة الظن وهذا غير مرضي عندنا فإنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه وصار كما لو علم أنه يعيش فينبغي أن ينوي الأداء أعني المريض إذا أخر الحج إلى السنة الثانية وهو مشرف على الهلاك ثم شفي
الثاني أن الزكاة على الفور عندالشافعي رحمه الله فلو أخر ثم أدى فيلزم على مساق كلام القاضي رحمه الله أن يكون قضاء والصحيح أنه أداء لأنه لم يعين وقته بتقدير وتعيين وأنما أوجبنا البدء بقرينة الحاجة وإلا فالأداء في جميع الأوقات موافق لموجب الأمر وامتثال له وكذلك من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر فلا نقول أنه قضاء القضاء ولذلك نقول يفتقر وجوب القضاء إلى أمر مجدد ومجرد الأمر بالأداء كاف في دوام اللزوم فلا يحتاج إلى دليل آخر وأمر مجدد فإذا الصحيح أن إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل
دقيقة أعلم أن القضاء قد يطلق مجازا وقد يطلق حقيقة فإنه تلو الأداء وللأداء أربعة أحوال الأولى أن يكون واجبا فإذا تركه المكلف عمدا أو سهوا وجب عليه القضاء ولكن حط المأثم عنه عند سهوه على سبيل العفو فالإتيان بمثله بعده يسمى قضاء حقيقة
الثانية أن لا يجب الأداء كالصيام في حق الحائض فإنه حرام فإذا صامت بعد الطهر فتسميته قضاء مجاز محض وحقيقته أنه فرض مبتدأ لكن لما تجدد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الأداء حتى فات لفوات إيجابه سمي قضاء وقد أشكل هذا على طائفة فقالوا وجب الصوم على الحائض دون الصلاة بدليل وجوب القضاء وجعل هذا

الاسم مجازا أولى من مخالفة الإجماع إذ لا خلاف أنه لو ماتت الحائض لم تكن عاصية فكيف تؤمر بما تعصي به لو فعلته وليس الحيض كالحدث فإن إزالته تمكن فإن قيل فلم تنوي قضاء رمضان قلنا إن عينت بذلك أنها تنوي قضاء ما منع الحيض من وجوبه فهو كذلك وإن عنيت أنه قضاء لما وجب عليها في حالة الحيض فهو خطأ ومحال فإن قيل فلينو البالغ القضاء لما فات في حالة الصغر قلنا لو أمر بذلك لنواه ولكن لم يجعل فوات الإيجاب بالصبا سببا لإيجاب فرض مبتدأ بعد البلوغ كيف والمجاز إنما يحسن بالاشتهار وقد اشتهر ذلك في الحيض دون الصبا ولعل سبب اختصاص اشتهاره أن الصبا يمنع أصل التكليف والحائض مكلفة فهي بصدد الإيجاب
الحالة الثالثة حالة المريض والمسافر إذا لم يجب عليهما لكنهما إن صاما وقع عن الفرض فهذا يحتمل أن يقال أنه مجاز أيضا إذ لا وجوب ويحتمل أن يقال إنه حقيقة إذ فعله في الوقت لصح منه فإذا أخل بالفعل مع صحته فعله فهو شبيه بمن وجب عليه وتركه سهوا أو عمدا أو نقول قال الله تعالى فعدة من أيام أخر ( البقرة 184 185 ) فهو على سبيل التخيير فكان الواجب أحدهما لا بعينه إلا أن هذا البدل لا يمكن إلا بعد فوات الأول والأول سابق بالزمان فسمي قضاء لتعلقه بفواته بخلاف العتق والصيام في الكفارة إذ لا يتعلق أحدهما بفوات الآخر ولكن يلزم على هذا أن تسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء لأنه مخير بين التقديم والتأخير كالمسافر والأظهر أن تسمية صوم المسافر قضاء مجاز أو القضاء إسم مشترك بين ما فات أداؤه الواجب وبين ما خرج عن وقته المشهور المعروف به ولرمضان خصوص نسبة إلى الصوم ليس ذلك لسواه بدليل أن الصبي المسافر لو بلغ بعد رمضان لا يلزمه ولو بلغ في آخر وقت الصلاة لزمته فإخراجه عن مظنة أدائه في حق العموم يوهم كونه قضاء والذي يقتضيه التحقيق أنه ليس بقضاء فإن قيل فالنائم والناسي يقضيان ولا خطاب عليهما لأنهما لا يكلفان قلنا هما منسوبان إلى الغفلة والتقصير ولكن الله تعالى عفا عنهما وحط عنهما المأثم بخلاف الحائض والمسافر ولذلك يجب عليهما الإمساك بقية النهار تشبها بالصائمين دون الحائض ثم في المسافر مذهبان ضعيفان أحدهما مذهب أصحاب الظاهر أن المسافر لا يصح صومه في السفر لقوله تعالى فعدة من أيام أخر ( البقرة 184 185 ) فلم يأمره إلا بأيام أخر وهو فاسد لأن سياق الكلام يفهمنا إضمار الإفطار ومعناه من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه ( البقرة 60 ) يعني فضرب فانفجرت ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض
والثاني مذهب الكرخي أن الواجب أيام أخر ولكن لو صام رمضان صح وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على الحول وهو فاسد لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير وتوسيع الوقت عليه والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل بل هو

مؤد في وقته كما سبق في الصلاة في أول الوقت
الحالة الرابعة حال المريض فإن كان لا يخشى الموت في الصوم فهو كالمسافر أما الذي يخشى الموت أو الضرر العظيم فيعصي بترك الأكل فيشبه الحائض من هذا الوجه فلو صام يحتمل أن يقال لا ينعقد لأنه عاص به فكيف يتقرب بما يعصي به ويحتمل أن يقال إنما عصي بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة يعصي لتناوله حق الغير ويمكن أن يقال قد قيل للمريض كل فكيف يقال له لا تأكل وهو معنى الصوم بخلاف الصلاة والغصب ويمكن أن يجاب بأنه قيل له لا تهلك نفسك وقيل له صم فلم يعص من حيث أنه صائم بل من حيث سعيه في الهلاك ويلزم عليه صوم يوم النحر فإنه نهي عنه لترك إجابة الدعوة إلى أكل القرابين والضحايا وهي ضيافة الله تعالى ويعسر الفرق بينهما جدا فهذه احتمالات يتجاذبها المجتهدون فإن قلنا لا ينعقد صومه فتسمية تداركه قضاء مجاز محض كما في حق الحائض وإلا فهو كالمسافر
الفصل الرابع في العزيمة والرخصة اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد قال الله تعالى ( 02 ) فنسي ولم نجد له عزما ( طه 115 ) أي قصدا بليغا وسمي بعض الرسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحق والعزيمة في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى والرخصة في اللسان عبارة عن اليسر والسهولة يقال رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء وفي الشريعة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم فإن لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال وصلاة الضحى لا يسمى رخصة وما أباحه في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط صوم رمضان عن المسافر يسمى رخصة وعلى الجملة فهذا الاسم يطلق حقيقة ومجازا فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه وكذلك إباحة شرب الخمر وإتلاف مال الغير بسب الإكراه والمخمصة والغصص بلقمة لا يسيغها إلا الخمر التي معه وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الأصر والإغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة وما لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة وهذا لما أوجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة تجوزا فإن الإيجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقنا والرخصة فسحة في مقابلة التضييق ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز منها القصر والفطر في حق المسافر وهو جدير بأن يسمى رخصة حقيقة لأن السبب هو شهر رمضان وهو قائم وقد دخل المسافر تحت قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( البقرة 185 ) وأخرج عن العموم بعذر وعسر أما التيمم عند عدم الماء فلا يحسن تسميته رخصة لأنه لا يمكن تكليف استعمال الماء مع عدمه فلا يمكن أن يقال السبب قائم مع استحالة التكليف بخلاف المكره على الكفر والشرب فإنه قادر على الترك نعم تجويز ذلك عند المرض أو الجراحة أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة بل التيمم عند فقهاء الماء كالإطعام عند فقد الرقبة وذلك ليس برخصة بل أوجبت

الرقبة في حالة والإطعام في حالة فلا نقول السبب قائم عند فقد الرقبة بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة ولوجوب الإطعام في حالة فإن قيل إن كان سبب وجوب الوضوء مندفعا عند فقد الماء فسبب تحريم الكفر والشرب والميتة مندفع عند خوف الهلاك فكان المحرم محرم بشرط انتفاء الخوف قلنا المحرم في الميتة الخبث وفي الخمر الإسكار وفي الكفر كونه جهلا بالله تعالى أو كذبا عليه وهذه المحرمات قائمة وقد اندفع حكمها بالخوف فكل تحريم اندفع بالعذر والخوف مع إمكان تركه يسمى اندفاعه رخصة ولا يمنع من ذلك تغيير العبارة بأن يجعل انتفاء العذر شرطا مضموما إلى الموجب فإن قيل فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه كترك أكل الميتة والإفطار عند خوف الهلاك وإلى ما لا يعصى كالإفطار والقصر وترك كلمة الكفر وترك قتل من أكره على قتل نفسه فكيف يسمى ما يجب الإتيان به رخصة وكيف فرق بين البعض والبعض قلنا أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث أن فيه فسحة إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة
وأما سبب الفرق فأمور مصلحية رآها المجتهدون وقد اختلفوا فيها فمنهم من لم يجوز الاستسلام للصائل ومنهم من جوز وقال قتل غيره محظور كقتله وإنما جوز له نظرا له وله أن يسقط حق نفسه إذا قابله مثله وليس له أن يهلك نفسه ليمتنع عن ميتة وخمر فإن حفظ المهجة أهم في الشرع من ترك اليمتة والخمر في حالة نادرة ومنها السلم فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه في الحال فقد يقال إنه رخصة لأن عموم نهيه صلى الله عليه و سلم في حديث حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده يوجب تحريمه وحاجة المفلس اقتضت الرخصة في السلم ولا شك في أن تزويج الآبقة يصح ولا يسمى ذلك رخصة فإذا قوبل ببيع الآبق فهو فسحة لكن قيل النكاح عقد آخر فارق شرطه البيع فلا مناسبة بينهما ويمكن أن يقال السلم عقد آخر فهو بيع دين وذلك بيع عين فافترقا وافتراقهما في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخص فيشبه أن يكون هذا مجازا فقول الراوي نهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم تجوز في الكلام واعلم أن بعض أصحاب الرأي قالوا حد الرخصة أنه الذي أبيح مع كونه حراما وهذا متناقض فإن الذي أبيح لا يكون حراما وحذق بعضهم وقال ما أرخص فيه مع كونه حراما وهو مثل الأول لأن الترخيص إباحة أيضا وقد بنوا هذا على أصلهم إذ قالوا الكفر قبيح لعينه فهو حرام فبالإكراه رخص له فيما هو قبيح في نفسه وعن هذا لو أصر ولم يتلفظ بالكفر كان مثابا وزعموا أن المكره على الإفطار لو لم يفطر يثاب لأن الإفطار قبيح والصوم قيام بحق الله تعالى والمكره على إتلاف المال أيضا لو استسلم قالوا يثاب والمكره على تناول الميتة وشرب الخمر زعموا أنه يأثم إن لم يتناول وفي هذه التفاصيل نظر فقهي لا يتعلق بمحض الأصول والمقصود أن قولهم أنه رخص في الحرام متناقض لا وجه له والله تعالى أعلم
وقد تم النظر في القطب الأول وهو النظر في حقيقة الحكم وأقسامه فلننظر الآن في مثمر الحكم وهو الدليل

القطب الثاني في أدلة الأحكام وهي أربعة الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي فأما قول الصحابي وشريعة من قبلنا فمختلف فيه
الأصل الأول من أصول الأدلة كتاب الله تعالى واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذ قول مشغول الرسول صلى الله عليه و سلم ليس بحكم ولا ملزم بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده والإجماع يدل على السنة والسنة على حكم الله تعالى وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول عليه السلام لأنا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه و سلم فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق فلنبدأ بالكتاب والنظر في حقيقته ثم في حده المميز له عما ليس بكتاب ثم في ألفاظه ثم في أحكامه
النظر الأول في حقيقته ومعناه هو الكلام القائم بذات الله تعالى وهو صفة قديمة من صفاته والكلام اسم مشترك قد يطلق على الألفاظ الدالة على ما في النفس تقول سمعت كلام فلان وفصاحته وقد يطلق على مدلول العبارات وهي المعاني التي في النفس كما قيل إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقال الله تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ( المجادلة 8 ) وقال تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به ( الملك 13 ) فلا سبيل إلى إنكار كون هذا الاسم مشتركا وقد قال قوم وضع في الأصل للعبارات وهو مجاز في مدلولها وقيل عكسه ولا يتعلق به غرض بعد ثبوت الاشتراك وكلام النفس ينقسم إلى خبر واستخبار وأمر ونهي وتنبيه وهي معان تخالف بجنسها الإرادات والعلوم وهي متعلقة بمتعلقاتها لذاتها كما تتعلق القدرة والإرادة والعلم وزعم قوم أنه يرجع إلى العلوم والإرادات وليس جنسا برأسه وإثبات ذلك على المتكلم لا على الأصولي

فصل كلام الله تعالى واحد
وهو مع وحدته متضمن لجميع معاني الكلام كما أن علمه واحد وهو مع وحدته محيط بما لا يتناهى من المعلومات حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وفهم ذلك غامض وتفهيمه على المتكلم لا على

الأصولي وأما كلام النفس في حقنا فهو يتعدد كما تتعدد العلوم ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر وهو أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من غير توسط حرف وصوت ودلالة ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت وحرف ودلالة ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا وهو خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء وأما من سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي وذلك أيضا جائز ولأجله قال الله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ( التوبة 6 )
النظر الثاني في حده وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا ونعني بالكتاب القرآن المنزل وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله حتى كرهوا التعاشير والنقط وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره ونقل إلينا متواترا فعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن وأن ما هو خارج عنه فليس منه إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه فإن قيل هلا حددت موه بالعجز قلنا لا لأن كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه السلام لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى ولأن بعض الآية ليس بمعجز وهو من الكتاب فإن قيل فلم شرطتم التواتر قلنا ليحصل العلم به لأن الحكم بما لا يعلم جهل وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي حتى يتعلق بظننا فيقال إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به لأن التحريم بالوضع فيمكن الوضع عند الظن وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي فالحكم فيه بالظن جهل ويتشعب عن حد الكلام مسألتان

مسألة ( حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين )
التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول وإن قرأ ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لأن هذه الزيادة لم تتواتر فليست من القرآن فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار وقال أبو حنيفة يجب لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا والعمل يجب بخبر الواحد وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه وهو أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دله عليه واحتمل أن يكون خبرا وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم

مسألة ( هل البسملة آية أم لا )
البسملة آية من القرآن لكن هل هي آية من أول كل سورة فيه خلاف وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد وسائر السور لكنها في أول كل سورة آية برأسها وهي مع أول آية من سائر السور آية وهذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله فيه تردد وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن فإن قيل القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن مسعود ولجاز للروافض أن يقولوا قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار فكانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القرآن ومن التعاشير والنقط كيلا يختلط بالقرآن غيره فالعادة تحيل الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل فقال لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال إلا أنه قال أخطىء القائل به ولا أكفره لأن نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر فصاحبه مخطىء وليس بكافر واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أول كل سورة وأنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد قالابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبه البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه فتحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم والجواب أنا نقول لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر كما أنه من ألحق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر فنقول لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول صلى الله عليه و سلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك كما في التعوذ والتشهد فإن قيل ما ليس من القرآن لا حصر له حتى ينفي إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو

من القرآن قلنا هذا صحيح لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم مع القرآن بخط القرآن ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أول كل سورة وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن ولا يظن برسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لم يعرف كونه موهما ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم الحاقه فإذا القاضي رحمه الله يقول لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به ونحن نقول لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه و سلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا على قرائن الأحوال إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن وكان الرسول عليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه وكان يعرف كل ذلك قطعا ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال ووجد ذلك في أوائل السور ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك وهذا الظن خطأ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة فقطع بأنها آية ولم ينكر عليه كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن فدل على أن ذلك كان مقطوعا به وحدث الوهم بعده فإن قيل بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة اجتهادية وخرجت عن مظنة القطع فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد قلنا جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك والبسملة من القرآن في سورة النمل هي مقطوع بكونها من القرآن وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات كما كتبت فهذا يجوز أن يقع الشك فيه ويعلم بالاجتهاد لأنه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن فهذا جائز وقوعه والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه أن النافي لم يكفر الملحق والملحق لم يكفر النافي بخلاف القنوت والتشهد فصارت البسملة نظرية وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو كالقاطع في أنها من القرآن فإن قيل فالمسألة صارت نظرية وخرجت عن أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية قلنا الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما سرق الشيطان من الناس آية ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال البسملة من سورة الحمد وأوائل السور المكتوبة معها لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو نقل أن القنوت مع القرآن لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه وعلى الجملة إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم

كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات وقد أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة فإن قيل قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة وهو مبني على كونها قرآنا وكونها قرآنا لا يثبت بالظن فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات وإلا فهو جهل أي ليس بعلم فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود قلنا وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة البسملة وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة فكيف تساوي قراءةابن مسعود ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر وهاهنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح بالتواتر أنها من القرآن وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر
النظر الثالث في ألفاظه وفيه ثلاث مسائل

مسألة ( الحقيقة والمجاز )
ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما سيأتي في الفرق بينهما فالقرآن يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم فنقول المجاز اسم مشترك قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له والقرآن منزه عن ذلك ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن على المجاز وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه وذلك لا ينكر في القرآن مع قوله تعالى أولئك ( يوسف 82 ) وقوله جدارا يريد أن ينقض ( الكهف 77 ) وقوله لهدمت صوامع وبيع وصلوات ( الحج 40 ) فالصلوات كيف تهدم أو جاء أحد منكم من الغائط ( المائدة 6 ) من ( النور 35 ) يؤذن الله وهو يريد رسوله
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ( البقرة 194 ) والقصاص حق فكيف يكون عدوانا هذا ( الشورى 40 ) ذلول ( البقرة 15 ) ويمكرون ويمكر الله ( الأنفال 30 ) كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ( المائدة 64 ) ( 81 ) أحاط بهم سرادقها ( الكهف 29 ) وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي
مسألة ( هل القرآن كله عربي )
قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا عجمية فيه وقال قوم فيه لغة غير العرب واحتجوا بأن المشكاة هندية والإستبرق فارسية وقوله وفاكهة وأبا ( عبس 31 ) قال بعضهم الأب ليس من لغة العرب والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد العثجاة يعني صدر المجلس وهو معرب كمشكاة وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية وبين أوزانها وقال كل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا وإنما غيرها غيرهم تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للإله لاهوت وللناس ناسوت وأنكر أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( النحل 103 ) وقال أقوى الأدلة قوله تعالى الآخرة ( فصلت 44 ) ولو

كان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا بل عربيا وعجميا ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا نحن لا نعجز عن العربية أما العجمية فنعجز عنها وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي وقد استعملتها العرب ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيا وعن إطلاق هذا الاسم عليه ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف

مسألة ( المحكم والمتشابه في القرآن )
في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( آل عمران 70 ) واختلفوا في معناه وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع ولا يناسبه قولهم المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور والمحكم ما وراء ذلك ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال وهذا أبعد بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين أحدهما المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الإحتمال
الثاني أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف لكن هذا المحكم يقابله المثبج والفاسد دون المتشابه وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء وكقوله تعالى الذي بيده عقدة النكاح ( البقرة 237 ) فإنه مردد بين الزوج والولي وكاللمس المردد بين المس والوطء وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله فإن قيل قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ( آل عمران 7 ) الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله قلنا كل واحد محتمل فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أولى وإلا فالعطف إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق فإن قيل فما معنى الحروف في أوائل السور إذ لا يعرف أحد معناها قلنا أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل أحدها أنها أسامي السور حتى تعرف بها فيقال سورة يس وطه وقيل ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لأنها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء فلم يذكرها لإرادة معنى وقيل إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم وقد ينبه ببعض الشيء على كله يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة والقصيدة قال الشاعر يناشدني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم كنى بحاميم عن القرآن فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده ( الأنعام

) و الرحمن على العرش استوى ( طه 5 ) الجهة والاستقرار وقد أريد به غيره فهو متشابه قلنا هيهات فإن هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب المصدقون بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب
النظر الرابع في أحكامه ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق التخصيص إلى صيغ عمومه وتطرق النسخ إلى مقتضياته أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها وأما النسخ فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب الأخبار لأن النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا لكنا ذكرناه في أحكام الكتاب لمعنيين أحدهما إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله تعالى مع استحالة البداءة عليه
الثاني إن الكلام على الأخبار قد طال لأجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد فرأينا ذكره على أثر أحكام الكتاب أولى

كتاب النسخ والنظر في حده وحقيقته
ثم في إثباته على منكريه ثم في أركانه وشروطه وأحكامه فنرسم فيه أبوابا الباب الأول في حده وحقيقته وإثباته أما حده فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان يقال نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة فنقول حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل إذ يجوز النسخ بجميع ذلك وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم خطاب وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة فجميع ذلك قد ينسخ وإنما قلنا لولاه لكان الحكم ثابتا به لأن حقيقة النسخ الرفع فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا لأنه إذا ورد أمر بعبادة موقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا فإذا قال ثم أتموا الصيام إلى الليل ( البقرة 187 ) ثم قال في الليل لا تصوموا لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه وإنما قلنا مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ
وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ أنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة وهذا يوجب أن يكون قوله صم بالنهار وكل بالليل نسخا وقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل ( البقرة

) نسخا وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه فأي معنى لنسخه وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه وما ذكروه تخصيص وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة
وأما المعتزلة فإنهم حدوه بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه لولاه لكان ثابتا وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود فإن قيل تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه الأول أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء
الثاني أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه
الثالث أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال
الرابع أن ما أمر به أراد وجوده فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها
الخامس أنه يدل على البداء فإنه نهى عنه بعدما أمر به فكأنه بدا له فيما كان قد حكم به وندم عليه
فالاستحالة الأولى من جهة استحالة نفس الرفع والثانية من جهة قدم الكلام والثالثة من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا والرابعة من جهة الإرادة المقترنة بالأمر والخامسة من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده
والجواب عن الأول أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد إذ لو قال قائل ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم والمعدوم لا حاجة إلى إزالته والموجود لا سبيل إلى إزالته فيقال معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام فإن البيع سبب للملك مطلقا بشرط أن لا يطرأ قاطع وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة ونعقل أن نقول بعتك وملكتك أبدا ثم نفسخ بعد انقضاء السنة وندرك الفرق بين الصورتين وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه والثاني وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر وبهذا يفارق النسخ التخصيص فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكار معنى النسخ
وأما الجواب عن الثاني وهو استحالة رفع الكلام القديم فهو فاسد إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام

القديم يتعلق بالقادر العاقل فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق والكلام القديم لا يتغير في نفسه فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ العاقد ولأجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام
وأما الجواب عن الثالث وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح وأنه لا معنى لهما وهذا أولى من الاعتذار بأن الشيء يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت لأنه قد قال في رمضان لا تأكل بالنهار وكل بالليل لأن النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك بل يجوز أن يأمر بشيء واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي
وأما الجواب عن الرابع وهو صيرورة المراد مكروها فهو باطل لأن الأمر عندنا يفارق الإرادة فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر
وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء فهو فاسد لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح وينهى عما أمر فذلك جائز يمحو الله ما يشاء ويثبت ( الرعد 39 ) ولا تناقض فيه كما أباح الأكل بالليل وحرمه بالنهار وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فهو محال ولا يلزم ذلك من النسخ بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه وليس فيه تبين بعد جهل فإن قيل فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه قلنا هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع لكن يعلم أن النسخ سيكون فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه فليس إذا في النسخ لزوم البداء ولأجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال ما بدا الله في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شيء علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات وربما احتجوا بقوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت ( الرعد 39 ) وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ أو يمحو السيئات بالتوبة كما قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات ( هود 114 ) ويمحو الحسنات بالكفر والردة أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات فإن قيل فما الفرق بين التخصيص والنسخ قلنا هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه والنسخ

يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه فإن قوله إفعل أبدا يجوز أن ينسخ وما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ كما إذا قال ملكتك أبدا ثم يقول فسخت فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته وقصد الدلالة عليه باللفظ فلذلك يفترقان في خمسة أمور الأول أن الناسخ يشترط تراخيه والتخصيص يجوز اقترانه لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان
الثاني أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل عليه
والثالث أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع
الرابع أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على ما فيه من الاختلاف والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية
الخامس أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم أن النسخ لا يتناول إلا الأزمان والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال وهذا تجوز واتساع لأن الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال فإذا قال اقتلوا المشركين إلا المعاهدين معناه لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ
الفصل الثاني من هذا الباب في إثباته على منكريه والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته بدليل ما حققناه من معنى الرفع ودفعناه من الإشكالات عنه ولا يمتنع لادائه إلى مفسدة وقبح فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا بسبب العزم عن معاص وشهوات ثم يخفف عنهم وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص أما الإجماع فاتفاق الأمة قاطبة على أن شريعة محمد صلى الله عليه و سلم نسخت شرع من قبله إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه وهذا متفق عليه فمنكر هذا خارق للإجماع وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ وهم مسبوقون بهذا الإجماع فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على اليهود
وأما النص فقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ( النحل 101 ) الآية والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما تلاوة وإما حكم وكيفما كان فهو رفع ونسخ فإن قيل ليس المعني به رفع المنزل فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل قلنا هذا تعسف بارد فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا والبدل يستدعي مبدلا وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال فهذا هوس وسخف
والدليل الثاني قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( النساء 160 ) ولا معنى للنسخ إلا تحريم ما أحل وكذلك قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت

بخير منها أو مثلها ( البقرة 106 ) فإن قيل لعله أراد به التخصيص قلنا قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى تغيير اللفظ كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه وإنما هو بيان معنى الكلام
الدليل الثالث ما اشتهر في الشرع من نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر ونسخ فرض تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه و سلم حيث قال تعالى فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ( المجادلة 12 ) ومنه نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام ( البقرة 144 ) وعلى الجملة اتفقت الأمة على إطلاق لفظ النسخ في الشرع فإن قيل معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف الرسل والأنبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله قلنا فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا وهذا اللفظ كفر بالاتفاق كيف وقد نقلنا من قبلة إلى قبلة ومن عدة إلى عدة فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا
الفصل الثالث في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ وهي ست مسائل

مسألة ( هل ينسخ الأمر )
يجوز عندنا نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال خلافا للمعتزلة وصورته أن يقول الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم يقول قبل يوم عرفة لا تحجوا فقد نسخت عنكم الأمر أو يقول إذبح ولدك فيبادر إلى إحضار أسبابه فيقول قبل ذبحه لا تذبح فقد نسخت عنك الأمر لأن النسخ عندنا رفع للأمر أي لحكم الأمر ومدلوله وليس بيانا لخروج المنسوخ عن لفظ الأمر بخلاف التخصيص فلو قال صلوا أبدا فيجوز أن ينسخ بعد سنة وجوب في المستقبل لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة على جميع الأزمان ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه إذ كان دوامه مشروطا بعدم النسخ فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ فكأنه يقول صلوا أبدا ما لم أنهكم ولم أنسخ عنكم أمري وإذا كان كذلك عقل نسخ الحج قبل عرفة ونسخ الذبح قبل فعله لأن الأمر قبل التمكن حاصل وإن كان أمرا بشرط التمكن لأن الأمر بالشرط ثابت ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الإمتثال ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الأمر بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب ( الأوامر ) وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض وامتثال الأمر في ابتداء الصلاة وربما يموت في أثنائها وقبل تمام التمكن ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا بل نقول كان مأمورا بأمر مقيد بشرط والأمر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم يوجد وهم يقولون إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الأمر من أصله وإنا كنا نتوهم وجوبه فبان أنه لم يكن فهذه المسألة فرع لتلك المسألة ولذلك أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن وقالوا أيضا إنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة مفسدة وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد أبطلناه ولكن يبقى لهم مسلكان المسلك الأول أن الشيء الواحد في وقت واحد كيف يكون منهيا عنه ومأمورا به على وجه واحد وفي الجواب عنه طريقتان الأولى إنا لا نسلم أنه منهي عنه

على الوجه الذي هو مأمور به بل على وجهين كما ينهى عن الصلاة مع الحدث ويؤمر بها مع الطهارة وينهى عن السجود للصنم ويؤمر بالسجود لله عز و جل لاختلاف الوجهين ثم اختلفوا في كيفية اختلاف الوجهين فقال قوم هو مأمور بشرط بقاء الأمر منهي عنه عند زوال الأمر فهما حالتان مختلفتان ومنهم من أبدل لفظ بقاء الأمر بانتفاء النهي أو بعدم المنع والألفاظ متقاربه وقال قوم هو مأمور بالفعل في الوقت المعين بشرط أن يختار الفعل والعزم وإنما ينهى عنه إذا علم أنه لا يختاره وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ وقال قوم يأمر بشرط كونه مصلحة وإنما يكون مصلحة مع دوام الأمر أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة وقال قوم إنما يأمر في وقت يكون الأمر مصلحة ثم يتغير الحال فيصير النهي مصلحة وأنما يأمر الله تعالى به مع علمه بأن إيجابه مصلحة مع دوام الأمر أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة وقال قوم إنما يأمر الله به مع العلم بأن الحال ستتغير ليعزم المكلف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل وكل هذا متقارب وهو ضعيف لأن الشرط ما يتصور أن يوجد وأن لا يوجد فإما ما لا بد منه فلا معنى لشرطيته والمأمور لا يقع مأمورا إلا عند دوام الأمر وعدم النهي فكيف يقول آمرك بشرط أن لا أنهاك فكأنه يقول آمرك بشرط أن آمرك وبشرط أن يتعلق الأمر بالمأمور وبشرط أن يكون الفعل المأمور به حادثا أو عرضا أو غير ذلك مما لا بد منه فهذا لا يصلح للشرطية وليس هذا كالصلاة مع الحدث والسجود للصنم فإن الانقسام يتطرق إليه ومن رغب في هذه الطريقة فأقرب العبارات أن يقول الأمر بالشيء قبل وقته يجوز أن يبقى حكمه على المأمور إلى وقته ويجوز أن يزال حكمه قبل وقته فيجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر فيقال إفعل ما أمرتك به إن لم يزل حكم أمري عنك بالنهي عنه فإذا نهى عنه كان قد زال حكم الأمر فليس منهيا على الوجه الذي أمر به
الطريقة الثانية أنا لا نلتزم إظهار اختلاف الوجه لكن نقول يجوز أن يقول ما أمرناك أن تفعله على وجه فقد نهيناك عن فعله على ذلك الوجه ولا استحالة فيه إذ ليس المأمور حسنا في عينه أو لوصف هو عليه قبل الأمر به حتى يتناقض ذلك ولا المأمور مرادا حتى يتناقض أن يكون مرادا مكروها بل جميع ذلك من أصول المعتزلة وقد أبطلناها فإن قيل فإذا علم الله تعالى أنه سينهى عنه فما معنى أمره بالشيء الذي يعلم انتفاءه قطعا لعلمه بعواقب الأمور قلنا لا يصح ذلك إن كانت عاقبة أمره معلومة للمأمور أما إذا كان مجهولا عند المأمور معلوما عند الآمر أمكن الأمر لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد حتى يعرض بالعزم للثواب وبتركه للعقاب وربما يكون فيه لطف واستصلاح كما سيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الأمر بالشرط مع أنهم جوزوا الوعد من العالم بعواقب الأمور بالشرط وقالوا وعد الله على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة وعلى المعصية عقابا بشرط خلوها عما يكفرها من التوبة والله تعالى عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة والتوبة ثم شرط ذلك في وعده فلم يستحل أن يشرط في أمره ونهيه وتكون شرطيته بالإضافة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر فيقول أثيبك على

طاعتك ما لم تحبطها بالردة وهو عالم بأنه يحبط أم لا يحبط وكذلك يقول أمرتك بشرط البقاء والقدرة وبشرط أن لا أنسخ عنك
المسلك الثاني في إحالة النسخ قبل التمكن قولهم الأمر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم وكيف يكون الكلام الواحد أمرا بالشيء الواحد ونهيا عنه في وقت واحد بل كيف يكون الرافع والمرفوع واحدا والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى قلنا هذا إشارة إلى إشكالين أحدهما كيفية اتحاد كلام الله تعالى ولا يختص ذلك بهذه المسألة بل ذلك عندنا كقولهم العالمية حالة واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية من التفاصيل وإنما يحل إشكاله في الكلام
أما الثاني فهو أن كلامه واحد وهو أمر بالشيء ونهي عنه ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه اعتقاد الوجوب والعزم على الأداء ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد التحريم والعزم على الترك فنقول كلام الله تعالى في نفسه واحد وهو بالإضافة إلى شيء أمر وبالإضافة إلى شيء خبر ولكنه إنما يتصور الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين ولذلك شرطنا التراخي في النسخ ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز وأما جبريل عليه السلام فإنه يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا ثم يبلغ الرسول صلى الله عليه و سلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف فإن لم يكن فيبلغ في وقت واحد لكن يؤمر بتبيلغ الأمة في وقتين فيأمرهم مطلقا بالمسالمة وترك قتال الكفار ومطلقا باستقبال بيت المقدس في كل صلاة ثم ينهاهم عنها بعد ذلك فيقطع عنهم حكم الأمر المطلق كما يقطع حكم العقد بالفسخ ومن أصحابنا من قال الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة بل في حالتين فهذا أيضا يقطع التناقض ويدفعه ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة إبراهيم عليه السلام ونسخ ذبح ولده عنه قبل الفعل وقوله تعالى وفديناه بذبح عظيم ( الصافات 107 ) فقد أمر بفعل واحد ولم يقصر في البدار والامتثال ثم نسخ عنه وقد اعتاص هذا على القدرية حتى تعسفوا في تأويله وتحزبوا فرقا وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه أحدها أن ذلك كان مناما لا أمرا
الثاني أنه كان أمرا لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم فالذبح لم يكن مأمورا به
الثالث أنه لم ينسخ الأمر لكن قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع فانقطع التكليف لتعذره
الرابع المنازعة في المأمور وأن المأمور به كان هو الإضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح
الخامس جحود النسخ وأنه ذبح امتثالا فالتأم واندمل والذاهبون إلى هذا التأويل اتفقوا على أن إسماعيل ليس بمذبوح واختلفوا في كون إبراهيم عليه السلام ذابحا فقال قوم هو ذابح للقطع والولد غير مذبوح لحصول الالتئام وقال قوم ذابح لا مذبوح له محال وكل ذلك تعسف وتكلف
أما الأول وهو كونه مناما فمنام الأنبياء جزء من النبوة وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به فلقد كانت نبوة جماعة من الأنبياء عليهم السلام بمجرد المنام ويدل على فهمه الأمر قول ولده إفعل ما تؤمر ولو لم يؤمر لكان كاذبا وأنه لا يجوز قصد الذبح والتل للجبين بمنام لا أصل له وأنه سماه البلاء المبين

وأي بلاء في المنام وأي معنى للفداء
وأما الثاني وهو أنه كان مأمورا بالعزم اختبارا فهو محال لأن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار ولأن الاختبار إنما يحصل بالإيجاب فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار وقولهم العزم هو الواجب محال لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب بل هو تابع للمعزوم ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا لكان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية كيف وقد قال إني أرى في المنام أني أذبحك ( الصافات 102 ) فقال له ولده إفعل ما تؤمر ( الصافات 102 ) يعني الذبح وقوله تعالى جآءكم ( الصافات 103 ) استسلام لفعل الذبح لا للعزم
وأما الثالث وهو أن الإضجاع بمجرده هو المأمور به فهو محال إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال
وأما الرابع وهو إنكار النسخ وأنه امتثل لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف فهذا لا يصح على أصولهم لأن الأمر بالمشروط لا يثبت عندهم بل إذا علم الله تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه فلا يحتاج إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه
وأما الخامس وهو أنه فعل والتأم فهو محال لأن الفداء كيف يحتاج إليه بعد الالتئام ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك من آياته الظاهرة ولم ينقل ذلك قط وإنما هو اختراع من القدرية فإن قيل أليس قد قال قد صدقت الرؤيا قلنا معناه أنك عملت في مقدماته عملا مصدقا بالرؤيا والتصديق غير التحقيق والعمل

مسألة ( هل نسخ بعض العبادة نسخ لها )
إذا نسخ بعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها كما لو أسقطت ركعتان من أربع أو أسقط شرط الطهارة فقد قال قائلون هو نسخ لبعض العبادة لا لأصلها قال قائلون هو نسخ لأصل العبادة وقال قائلون نسخ الشرط ليس نسخا للأصل أما نسخ البعض فهو نسخ للأصل ولم يسمحوا بتسمية الشرط بعضا ومنهم من أطلق ذلك وكشف الغطاء عندنا أن نقول إذا أوجب أربع ركعات ثم اقتصر على ركعتين فقد نسخ أصل العبادة لأن حقيقة النسخ الرفع والتبديل ولقد كان حكم الأربع الوجوب فنسخ وجوبها بالكلية والركعتان عبادة أخرى لا أنها بعض من الأربعة إذ لو كانت بعضا لكان من صلى الصبح أربعا فقد أتى بالواجب وزيادة كما لو صلى بتسليمتين وكما لو وجب عليه درهم فتصدق بدرهمين فإن قيل إذا رد الأربع إلى ركعة فقد كانت الركعة حكمها أنها غير مجزية والآن صارت مجزئة فهل هذا نسخ آخر مع نسخ الأربع قلنا كون الركعة غير مجزئة معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم أصلي عقلي ليس من الشرع والنسخ هو رفع ما ثبت بالشرع فإذا لم يرد بلفظ النسخ إلا الرفع كيف كان من غير نظر إلى المرفوع فهذا نسخ لكنا بينا في حد النسخ خلافه وأما إذا أسقطت الطهارة فقد نسخ وجوب الطهارة وبقيت الصلاة واجبة نعم كان حكم الصلاة بغير طهارة أن لا تجزىء والآن صارت مجزئة لكن هذا تغيير لحكم أصلي لا لحكم شرعي فإن الصلاة بغير طهارة لم تكن مجزئة لأنها لم تكن مأمورا بها شرعا فإن قيل كانت صحة الصلاة متعلقة بالطهارة فنسخ تعلق صحتها بها شرعا فهو نسخ متعلق بنفس العبادة فالصلاة مع الطهارة غير الصلاة مع الحدث كما أن الثلاث غير الأربع فليكن هذا نسخا لتلك

الصلاة أو إيجابا بغيرها قلنا لهذا تخيل قوم أن نسخ شرط العبادة كنسخ البعض ولا شك أنه لو أوجب الصلاة مع الحدث لكان نسخا لإيجابها مع الطهارة وكانت هذه عبادة أخرى أما إذا جوزت الصلاة كيف كانت مع الطهارة وغير الطهارة فقد كانت الصلاة بغير طهارة غير مجزئة لبقائها على الحكم الأصلي إذ لم يؤمر بها فالآن جعلت مجزئة وارتفع الحكم الأصلي أما صحة الصلاة وأنها كانت متعلقة بالطهارة فنسخ هذا التعلق نسخ لأصل العبادة أو نسخ لتعلق الصحة ولمعنى الشرطية هذا فيه نظر والخطب فيه يسير فليس يتعلق به كبر فائدة وأما إذا نسخت سنة من سننها لا يتعلق بها الأجزاء كالوقوف على يمين الإمام أو ستر الرأس فلا شك أن هذا لا يتعرض للعبادة بالنسخ فإذا تبعيض مقدار العبادة نسخ لأصل العبادة وتبعيض السنة لا يتعرض للعبادة وتبعيض الشرط فيه نظر وإذا حقق كان إلحاقه بتبعيض قدر العبادة أولى

مسألة ( هل الزيادة على النص نسخ أم لا )
الزيادة على النص نسخ عند قوم وليست بنسخ عند قوم والمختار عندنا التفصيل فنقول ينظر إلى تعلق الزيادة بالمزيد عليه والمراتب فيه ثلاثة الأولى أن يعلم أنه لا يتعلق به كما إذا أوجب الصلاة والصوم ثم أوجب الزكاة والحج لم يتغير حكم المزيد عليه إذ بقي وجوبه وأجزاؤه والنسخ هو رفع حكم وتبديل ولم يرتفع
الرتبة الثانية وهي في أقصى البعد عن الأولى أن تتصل الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال كما لو زيد في الصبح ركعتان فهذا نسخ إذ كان حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع نعم الأربعة استؤنف إيجابها ولم تكن واجبة وهذا ليس بنسخ إذ المرفوع هو الحكم الأصلي دون الشرعي فإن قيل اشتملت الأربعة على الثنتين وزيادة فهما قارتان لم ترفعا وضمت إليهما ركعتان قلنا النسخ رفع الحكم لا رفع المحكوم فيه فقد كان من حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع كيف وقد بينا أنه ليست الأربعة ثلاثة وزيادة بل هي نوع آخر إذ لو كان لكانت الخمسة أربعة وزيادة فإذا أتى بالخمسة فينبغي أن تجزىء ولا صائر إليه
الرتبة الثالثة وهي بين المرتبتين زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة في القذف وليس انفصال هذه الزيادة كانفصال الصوم عن الصلاة ولا اتصالها كاتصال الركعات وقد قال أبو حنيفة رحمه الله هو نسخ وليس بصحيح بل هو بالمنفصل أشبه لأن الثمانين نفي وجوبها وأجزاؤها عن نفسها ووجبت زيادة عليها مع بقائها فالمائة ثمانون وزيادة ولذلك لا ينتفي الأجزاء عن الثمانين بزيادة عليها بخلاف الصلاة وفائدة هذه المسألة جواز إثبات التغريب بخبر الواحد عندنا ومنعه عندهم لأن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد فإن قيل قد كانت الثمانون حدا كاملا فنسخ اسم الكمال رفع لحكمه لا محالة قلنا هو رفع ولكن ليس ذلك حكما مقصودا شرعيا بل المقصود وجوده وأجزاؤه وقد بقي كما كان فلو أثبت مثبت كونه حكما مقصودا شرعيا لامتنع نسخه بخبر الواحد بل هو كما لو أوجب الشرع الصلاة فقط فمن أتى بها فقد أدى كلية ما أوجبه الله تعالى عليه بكماله فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كلية الواجب لكن ليس هذا حكما مقصودا فإن قيل هو نسخ لوجوب الاقتصار على الثمانين لأن إيجاب الثمانين مانع من الزيادة قلنا ليس

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5