كتاب : القواعد النوارنية الفقهية
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس

القواعد النورانية الفقهية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وهو حسبي ونعم الوكيل
قال الشيخ الإمام العالم العامل القدوة رباني الأمة ومحيي السنة العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين وإمام المهتدين وعلى آله أجمعين

فصل
أما العبادات فأعظمها الصلاة والناس آما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور لقوله صلى الله عليه وسلم ( مفتاح الصلاة الطهور ) كما رتبه أكثرهم وأما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة كما فعله مالك وغيره
فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام في اللباس ونحوه تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة
ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين فإن أهل المدينة مالكا وغيره يحرمون من الأشربة كل مسكر كما صحت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وليسوا في الأطعمة كذلك بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم

فيبيحون الطيور مطلقا وان كانت من ذات المخالب ويكرهون كل ذي ناب من السباع وفي تحريمها عن مالك روايتان وكذلك في الحشرات عنه هل هي محرمة أو مكروهة روايتان وكذلك البغال والحمير وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع وروى عنه أنها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير والخيل أيضا يكرهها لكن دون كراهة السباع
وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس ليست الخمر عندهم إلا من العنب ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمرا من العنب أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه وهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب وقيل إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها
فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار موافقة للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التحريم وزادوا عليهم في متابعة السنة وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا في الأشربة ما علمت أحدا صنف أكبر منه وكتابا أصغر منه وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال هل فيها من يحرم النبيذ فقالوا لا إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة وأخذ فيها بعامة السنة حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث وان لم يظهر فيه شدة متابعة للسنة المأثورة في ذلك لان الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا والحكمة هنا مما تخفى فأقيمت المظنة مقام الحكمة حتى إنه كره الخليطين إما كراهة تنزيه أو تحريم على اختلاف الروايتين عنه وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية هل هو مباح أو محرم أو مكروه لان أحاديث النهي كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة فاختلف اجتهاده هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخاري منها شيئا


وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بتحريم كل ذي ناب من السباع و كل ذي مخلب من الطير و تحريم لحوم الحمر لأن النبي صلى الله عليه و سلم أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن حيث قال ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا و بينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه و ما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا و إني أوتيت الكتاب و مثله معه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما حرم الله تعالى ) و هذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه
و علموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن لأن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة و الدم و لحم الخنزير

وعدم التحريم ليس تحليلا و إنما هو بقاء للأمر على ما كان و هذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك و الشافعي أنها من آخر القرآن نزولا و إنما سورة المائدة هي المتأخرة و قد قال الله فيها { أحل لكم الطيبات } فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا و إنما هو عفو فتحريم رسول الله رافع للعفو ليس نسخا للقرآن
لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بتحليلها يوم خيبر و بأنهم ذبحوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا و أكلوا لحمه و أحلوا الضب لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم بأنه قال ( لا أحرمه ) و بأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله و غير ذلك مما جاءت فيه الرخصة


فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة
و لأهل المدينة سلف من الصحابة و التابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر و المفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة و لهذا سميت الخمر أم الخبائث كما سماها عثمان بن عفان رضي الله عنه و غيره و أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها فإنه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري بل قد أمر صلى الله عليه و سلم بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة و إن كان الجمهور على أنه منسوخ و نهى النبي

صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه عن تخليل الخمر و أمر بشق ظروفها و كسر دنانها و إن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد هل هذا باق أو منسوخ
ولما كان الله سبحانه و تعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة ممن النقص بقدر ما فيها من المفسدة و لولا التأويل لاستحقوا العقوبة
ثم إن الإمام أحمد و غيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل فإنها حلال بالكتاب و السنة و الإجماع و لكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( إنها جن خلقت من جن ) و قد قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه أبو داود ( الغضب من الشيطان و إن الشيطان من النار

وإنما تطفئ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة و البراء بن عازب و أسيد بن الحضير و ذي الغرة و غيرهم فقال مرة توضئوا من لحوم الإبل و لا توضئوا من لحوم الغنم و صلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في معاطن الإبل فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد و قسوة القلب التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله المخرج عنه في الصحيحين إن الغلظة و قسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل و إن السكينة في أهل الغنم
و اختلف عن أحمد هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة على روايتين بناء

على أن الحكم مختص بها أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة
و سائر المصنفين من أصحاب الشافعي و غيره وافقوا أحمد على هذا الأصل و علموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد لأنه فرق في الحديث بين اللحمين ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع
و كذلك قالوا بما اقتضاه الحديث من أنه يتوضأ منه نيئا و مطبوخا و لأن هذا الحديث كان بعد النسخ و لهذا قال في لحم الغنم و إن شئت فلا تتوضأ و لأن النسخ لم يثبت إلا بالترك من لحم غنم فلا عموم له و هذا معنى قول جابر كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار فإنه رآه يتوضأ ثم رآه أكل لحم غنم و لم يتوضأ و لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغة عامة في ذلك و لو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا و هو أصل لا يقول به أكثر المالكية و الشافعية و الحنبلية
هذا مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة بل قد قيل إنها متأخرة و لكن أحد الوجهين في مذهب أحمد أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب و الوجه الآخر لا يستحب
فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية و التطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية و التطهر منها حتى قال صلى الله عليه وسلم ( إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه ) ) و قال ( إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) فعلل الأمر بالغسل

بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل
و كذلك نهي عن الصلاة في أعطان الإبل و قال إنها جن خلقت من جن كما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة و الحمام ) وقد روي عنه ( أن الحمام بيت الشيطان ) وثبت عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال ( إنه مكان حضرنا فيه الشيطان )
فعلل صلى الله عليه وسلم الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة و بهذا يقول أحمد و غيره من فقهاء الحديث و مذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين كالمعاطن و الحمامات حرمت الصلاة فيه و ما عرض الشيطان فيه كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة كرهت فيه الصلاة
و الفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم أو سمعوها و لم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه
و أما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل و أنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل فقد غلط عليهم و إنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضئون مما مست النار و إنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب الوضوء و الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر و إن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي
و من تمام هذا أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم و غيره

من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما وجاء من حديث غيرهما أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض بأن الأسود شيطان وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتي فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية ن سواري المسجد ) الحديث فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة فلذلك اخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود واختلف قوله في المرأة والحمار لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى وهي في قبلته وحديث ابن عباس رضى الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه بمنى مع أن المتوجه أن الجميع يقطع وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلى ولم يكن متحدثا وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث
واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجنى إذا علم بمروره هل يقطع الصلاة والأوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبظاهر قوله يقطع صلاتي لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك قوية في الدليل نصا وقياسا ولذلك اخذ بها فقهاء الحديث ولكن مدرك

علمها آثرا هو لأهل الحديث ومدركه قياسا هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط
ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا
ولقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث الوضوء من لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولذلك أعرض عنها الشيخان البخاري ومسلم وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء من مس الذكر لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر
وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كان كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا
وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة مع أنه أبعد عن القياس والأثر والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس وقد صح عن الصحابة ما يخالفه
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يقطع الصلاة شيء )

أو بما روى في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة خصوصا مذهب أحمد
فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية
وأصل آخر وهو أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو عن النجاسة فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلى ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس
والشافعي بإزائهم في ذلك فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء وونيم الذباب ونحوه ولا يعفو عن دم ولا عن غيره إلا عن دم البراغيث ونحوه مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك فقوله في النجاسات نوعا وقدرا أشد أقوال الأئمة الأربعة
ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه ويعفو عن يسير الدم وغيره
وأحمد كذلك فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسة التي يشق الإحتراز عنا حتى إنه في إحدى الروايتين عنه يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش وغير ذلك مما يشق الإحتراز عنه بل يعفو في إحدى الروايتين عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في شرح المذهب وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف أصحاب مالك ولو صلى بها جاهلا أو ناسيا لم يجب عليه الإعادة في أصح الروايتين كقول مالك كما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذى الذي فيهما ولم يستقبل الصلاة ولما صلى الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة

والرواية الأخرى تجب الإعادة كقول أبي حنيفة والشافعي
و أصل آخر في إزالتها فمذهب أبي حنيفة تزال بكل مزيل من المائعات و الجامدات و الشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف و الحذاء و الذيل لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء و حتى نجاسة الأرض
و مذهب أحمد فيه متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به يحوز في الصحيح عنه مسحها بالتراب و نحوه من النعل و نحوه كما جاءت به السنة كما يجوز مسحها من السبيلين فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها
و اختلف أصحابه في أسفل الذيل هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة و استوائها للأثر في ذلك و القياس إزالتها عن الأرض بالشمس و الريح يجب التوسط فيه
فإن التشديد في النجاسات جنسا و قدرا هو دين اليهود و التساهل هو دين النصارى و دين الإسلام هو الوسط فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام
و أصل آخر وهو اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس فقول الكوفيين فيه من الشدة مالا خفاء به
و سر قولهم إلحاق الماء بسائر المائعات و أن النجاسة إذا وقعت في مائع لم

يمكن استعماله إلا باستعمال الخبث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة
و بإزائهم مالك و غيره من أهل المدينة فإنهم في المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير و لا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء مع فرقهم بينه و بين غيره من المائعات
و لأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله و كثيره كقول الشافعي
و اختلف قوله في المائعات غير الماء هل يلحق بالماء أولا يلحق به كقول مالك و الشافعي أو يفرق بين الماء و غير الماء كخل العنب على ثلاث روايات
و في هذه الأفوال من التوسط أثرا و نظرا ما لا خفاء به مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح في الدليل
و أصل آخر وهو أن للناس في أجزاء الميتة التي لا رطوبة فيها كالشعر و الظفر و الريش مذاهب هل هو طاهر أو نجس ثلاثة أقوال
أحدها نجاستها مطلقا كقول الشافعي و رواية عن أحمد بناء على أنها جزء من الميتة
و الثاني طهارتها مطلقا كقول أبي حنيفة و قول في مذهب أحمد بناء على أن الموجب للنجاسة هن الرطوبات و هي إنما تكون فيما يجري فيه الدم و لهذا حكم بطهارة مالا نفس له سائلة فما لا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة مالا نفس له سائلة
و الثالث نجاسة ما كان فيه حس كالعظم إلحاقا له باللحم اليابس و عدم نجاسة ما لم يكن فيه إلا النماء كالشعر إلحاقا له بالنبات
و أصل آخر وهو طهارة الأحداث التي هي الوضوء و الغسل فإن مذهب فقهاء الحديث استعملوا فيها من السنن ما لا يوجد لغيرهم و يكفي المسح على

الخفين وغيرها من اللباس و الحوائل فقد صنف الإمام أحمد كتاب المسح على الخفين و ذكر فيه من النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه في المسح على الخفين و الجوربين و على العمامة بل على خمر النساء كما كانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم و غيرها تفعله و على القلانس كما كان أبو موسى و أنس يفعلانه ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاءا ظاهرا و إنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر و جبنوا عن القياس ورعا
و لم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم كأحاديث المسح على العمائم و الجوربين و التوقيت في المسح و إنما اختلف قوله فيما جاء عن الصحابة كخمر النساء و كالقلانس الدنيات
و معلوم أن في هذا الباب من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة و توافق الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
و اعلم أن كل من تأول في هذه الأخبار تأويلا مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزئ و نحو ذلك لم يقف على مجموع الأخبار و إلا فمن وقف على مجموعها أفادته علما يقينا بخلاف ذلك
و أصل آخر في التيمم فإن أصح حديث فيه حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين وليس في الباب حديث يعارضه من جنسه وقد أخذ به فقهاء الحديث أحمد وغيره وهذا أصح من قول

من قال يجب ضربتان والى المرفقين كقول أبي حنيفة والشافعي في الجديد أو ضربتان إلى الكوعين
وأصل آخر في الحيض والاستحاضة فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة وفي الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن سنة في المعتادة أنها ترجع إلى عادتها وسنة في المميزة أنها تعمل بالتمييز وسنة في المتحيرة التي ليست لها عادة ولا تتميز بأنها تتحيض غالب عادات النساء ستا أو سبعا وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت
فأما السنتان الأولتان ففي الصحيح وأما الثالثة فحديث حمنة بنت جحش رواه أهل السنن وصححه الترمذي وكذلك قد روى أبو داود وغيره في سهلة بنت سهيل بعض معناه
وقد استعمل أحمد هذه السنن الثلاث في المعتاد المميزة والمتحيرة فإن اجتمعت العادة والتمييز قدم العادة في أصح الروايتين كما جاء في أكثر الأحاديث
فأما أبو حنيفة فيعتبر العادة إن كانت ولا يعتبر التمييز ولا الغالب بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر وإلا حيضة الأقل
ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب فإن لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحيضها بل تصلى أبدا إلا في الشهر الأول فهل تحيض أكثر الحيض أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام على روايتين
والشافعي يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب فإن اجتمع قدم التمييز وإن عدم صلت أبدا واستعمل من الاحتياط في الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علما وعملا
فالسنن الثلاث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالات الفقهية استعملها فقهاء الحديث ووافقهم في كل منها طائفة من الفقهاء

فصل
وأما إذا ابتدؤا الصلاة بالمواقيت ففقهاء الحديث قد استعلموا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات الجواز وأوقات الاختيار
فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى في الزوال ووقت العصر إلى اصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب إلى مغيب الشفق ووقت العشاء إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد وهذا بعينه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو وروي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة من حديث أبي موسى وبريدة رضى الله عنهما وجاء مفرقا في عدة أحاديث وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك
فأهل العراق المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شئ مثليه وأهل الحجاز مالك وغيره ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد
فصل
وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض كما في حديث المستحاضة وغير ذلك من الأعذار
ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان وقت اختيار وهو خمس مواقيت ووقت اضطرار وهو ثلاث مواقيت ولهذا أمرت الصحابة

كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك رحمه الله وزائد عليه بما جاءت به الآثار والشافعي رحمه الله هو دون مالك في ذلك وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف وكذلك أوقات الاستحباب فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقا سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق
وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب
فأبو حنيفة يستحب التأخير إلا في المغرب والشافعي يستحب التقديم مطلقا حتى في العشاء على أحد القولين وحتى في الحر إذا كانوا مجتمعين وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإبراد وكانوا مجتمعين

فصل
وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام فقد استعمل فقهاء الحديث كأحمد

فيه جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسن أذان بلال وإقامته وأذان أبي محذورة وإقامته وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان مرجعا وفي صحيح مسلم الإقامة مشفوعة وثبت في الصحيحين أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وفي السنن أنه لم يكن يرجع
فرجح أحمد أذان بلال لأنه الذي كان يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم دائما قبل أذان أبي محذورة وبعده إلى أن مات واستحسن أذان أبي محذورة ولم يكرهه وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشئ منه مع علمه بذلك واختياره للبعض أو تسويته بين الجميع كما جوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس وغيرهم وأحبها إليه تشهد ابن مسعود لأسباب متعددة
منها كونه أصحها وأشهرها
ومنها كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه
ومنها كون غالبها يوافق ألفاظه فيقتضي أنه هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به غالبا
وكذلك أنواع الاستفتاح والإستعاذة المأثورة وإن اختار بعضها
وكذلك مواضع رفع اليدين في الصلاة ومحل وضعهما بعد الرفع وصفات التحميد المشروع بعد التسميع
ومنها صفات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختار بعضها
ومنها أنواع صلاة الخوف يجوز كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة


ومنها أنواع تكبيرات العيدين يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه
ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع وإن اختار التربيع
وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه فمنهم من يكره الترجيع في الأذان كأبي حنيفة ومنهم من يكره تركه كالشافعي ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي ومنهم من يكره إفرادها حتى صار الأمر بأتباعهم إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا محذورة بشفعها وإنما الضلالة حق الضلالة أن ينهي أحد عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم

فصل
فأما صفة الصلاة فمن شعائرها مسألة البسملة
فإن الناس اضطربوا فيها نفيا وإثباتا في كونها آية من القرآن وفي قراءتها وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع من جهل وظلم مع أن الخطب فيها يسير وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن عائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدا لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة
فأما كونها آية من القرآن فقالت طائفة كمالك ليست من القرآن إلا في سورة النمل والتزموا أن الصحابة أودعت المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك
وحكى طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه

وقالت طائفة منهم الشافعي ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة مع أدلة أخرى
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة بل تكون أية مفردة أنزلت في أول كل سورة كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا كما قال ابن عباس كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم
فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها وليست من السورة وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره وهو أوسط الأقوال وأعدلها
وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة طائفة لا تقرؤها لا سرا ولا جهرا كمالك والأوزاعي وطائفة تقرؤها جهرا كأصحاب ابن جريج والشافعي والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث مع فقهاء أهل الرأي يقرءونها سرا كما نقل عن جماهير الصحابة مع أن أحمد يستعمل ما روى عن الصحابة في هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها قال بعض أصحابه لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر
وهذا وإن كان وجها حسنا فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على

الجنازة وقال لتعلموا أنها سنة وكما جهر عمر بالاستفتاح غير مرة وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر ولهذا نقل عن أكثر من روى عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة فكأنهم جهروا لإظهار أنهم يقرءونها كما جهر بعضهم بالإستعاذة أيضا
والإعتدال في كل شئ استعمال الآثار على وجهها فإن كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها دائما وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك ولم يفعلوه ممتنع قطعا وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه وإقراره مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض كما تقدم وكراهة قراءتهم مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها الى النبي صلى الله عليه وسلم وكون الصحابة كتبوها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة فيه ما فيه مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة
فمتابعة الآثار فيها الإعتدال والائتلاف والتوسط الذي هو أفضل الأمور
ثم مقدار الصلاة يختار فيه فقهاء الحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يفعلها غالبا وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة التي يخفف فيها القيام والقعود ويطيل فيها الركوع والسجود ويسوي بين الركوع والسجود وبين الإعتدال منهما كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كون قراءته في الفجر بما بين الستين إلى المائة آية وفي الظهر بنحو الثلاثين آية وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك مع أنه قد كان يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال صلى الله عليه وسلم ( إني لأدخل في الصلاة وإني أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي

فأخفف لما أعلم من وجد أمه به ) كما أنه قد يطيلها عن ذلك لعارض كما قرأ صلى الله عليه وسلم في المغرب بطولى الطوليين وهى الأعراف
ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية ويستحب أن يمد في الأوليين ويحذف في الأخريين كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وعامة فقهاء الحديث على هذا
ومن الفقهاء من لا يستحب أن يطيل الاعتدال من الركوع والسجود ومنهم من يراه ركنا خفيفا بناء على أنه يشرع تابعا لأجل الفصل لا أنه مقصود
ومنهم من يسوى بين الركعتين الأوليين
ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات إلى أقوال أخر قالوها

فصل
في بيان ما أمر الله به ورسوله من إقامة الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها
قال الله تعالى في غير موضع من كتابه { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقال تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين } وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم

{ أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون } وقال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } وقالت تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال تعالى { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وقال تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } وسيأتي ببيان الدلالة في هذه الآيات
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأصحاب المسانيد كمسند احمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم سلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ثم قال ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وفي رواية للبخاري إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها


و في رواية له ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما و باقيه مثله و في رواية و إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك و ما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك
وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد فذكر الحديث و قال فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر و يحمد الله عز و جل و يثني عليه و يقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قائما ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قاعد ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته و في رواية إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز و جل فيغسل وجهه و يديه إلى المرفقين و يمسح برأسه و رجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله و يحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له و تيسر و ذكر نحو اللفظ الأول و قال ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه و ربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله و تسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته و يقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك رواه أهل السنن أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و قال حديث حسن و الروايتان لفظ أبي داود
و في رواية ثالثة له قال إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن و بما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فضع راحتك على ركبتيك و امدد ظهرك و قال إذا سجدت فمكن لسجودك فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى وفي رواية أخرى قال إذا أنت قمت في صلاتك فكبر الله عز و جل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن و قال فيه فإذا جلست في وسط

الصلاة فاطمئن و افترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك وفي رواية أخرى قال فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأتم ثم كبر فإن كان معك قرآن فاقرأ به و إلا فاحمد الله عز و جل و كبره و هلله و قال فيه و إن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر ذلك المسيء في صلاته بأن يعيد الصلاة و أمر الله و رسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب و أمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع و السجود و أمره المطلق على الإيجاب
و أيضا قال له فإنك لم تصل فنفى أن يكون عمله الأول صلاة و العمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شيء من واجباته فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز و جل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات التي ليست بواجبة
و أما ما يقوله بعض الناس إن هذا نفي للكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فيقال له نعم هو لنفي الكمال لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات
فأما الأول فحق و أما الثاني فباطل لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز و جل و لا في كلام رسوله قط و ليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه
و أيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين و الآخرين لأن كمال المستحبات من أندر الأمور
و على هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب و السنة فإنما هو لانتفاء

بعض واجباته كقوله تعالى [ 4 65 ] { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } و قوله تعالى [ 24 47 ] { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } و قوله تعالى [ 59 15 ] { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } الآية و قوله [ 24 62 ] { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } الآية و نظائر ذلك كثيرة
و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) و ( ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) و ( لا صلاة إلا بوضوء )
و أما قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فهذا اللفظ قد قيل إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم و ذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات و بكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه و لكن نظيره في السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ( من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له )
و لا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي و الصلاة في جماعة من الواجبات كما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله إني رجل شاسع الدار و لي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي

قال هل تسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة
لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه و يثاب على ما فعله من الصلاة أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها
هذا فيه نزاع بين العلماء
و على هذا قوله صلى الله عليه و سلم إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك و ما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك
فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها و كذلك قوله في الحديث الآخر فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته
و يؤيد هذا أنه أمره بأن يعيد الصلاة و لو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة و لهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا لكن لو لم يعد و فعلها ناقصة فهل يقال إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها أو يقال إنه يثاب على ما فعله و يعاقب على ما تركه بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع هذا فيه نزاع و الثاني أظهر لما روى أبو داود و ابن ماجة عن أنس بن حكيم الضبي قال خاف رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة فلقي أبا هريرة رضي الله عنه قال فنسبني فانتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثا قال قلت بلى يرحمك الله قال يونس فأحسبه ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموها من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم و في لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن فسدت فقد خاب و خسر فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر أعماله على هذا ) رواه الترمذي و قال حديث حسن
و روى أيضا أبو داود و ابن ماجة عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال ثم الزكاة مثل ذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
و أيضا فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع و السجود ) رواه أهل السنن الأربعة و قال الترمذي حديث حسن صحيح
فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع و ينتصب من السجود فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع و السجود
و هذه المسألة و إن لم تكن هي مسألة الطمأنينة فهي تناسبها و تلازمها
و ذلك أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع و السجود فالطمأنينة فيهما أوجب
و ذلك أن قوله يقيم ظهره في الركوع و السجود أي عند رفعه رأسه منهما فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع و السجود لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل و يكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل فالخفض و الرفع هما طرفا الركوع و السجود و تمامهما فلهذا قال يقيم صلبه في الركوع و السجود
و يبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع و السجود و هذا كقوله في الحديث المتقدم ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن

مفاصله و تسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته و يقيم صلبه فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض
و الحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة لكن قال في الركوع و السجود و القعود حتى تطمئن راكعا و حتى تطمئن ساجدا و حتى تطمئن جالسا و قال في الرفع من الركوع حتى تعتدل قائما و حتى تستوي قائما لأن القائم يعتدل و يستوي و ذلك مستلزم الطمأنينة
و أما الراكع و الساجد فليسا منتصبين و ذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال و الاستواء فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك و إما إلى أمامه لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية و معتدلة مع أنه قد روى ابن ماجة أنه صلى الله عليه و سلم قال في الرفع من الركوع حتى تطمئن قائما
و عن علي بن شيبان الحنفي قال خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه و صلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعني صلبه في الركوع و السجود فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع و السجود رواه الإمام أحمد و ابن ماجة وفي رواية للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه و سجوده
و هذا يبين أن إقامة الصلب هي الاعتدال في الركوع كما بيناه و إن كان طائفة من العلماء من أصحابنا و غيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة و احتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده لا على الاعتدالين و على ما ذكرناه فإنه يدل عليهما
و روى الإمام أحمد في المسند عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا

يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها و لا سجودها ) ) أو قال ( لا يقيم صلبه في الركوع و السجود ) وهذا التردد في اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد و إنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك
و أيضا فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب و افتراش السبع و أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أخرجه أبو داود و النسائي و ابن ماجة
و إنما جمع بين الأفعال الثلاثة و إن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة فنهى عن مشابهة فعل الغراب و عما يشبه فعل السبع و عما يشبه فعل البعير و إن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر و في الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( اعتدلوا في الركوع و السجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) لا سيما وقد بين في حديث آخر أنه من صلاة المنافقين و الله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين
فروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( تلك صلاة المنافق يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة و يضيع فعلها و ينقرها فدل ذلك على ذم هذا و هذا و إن كان كلاهما تاركا للواجب
و ذلك حجة واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز و أنه من فعل من فيه نفاق و النفاق كله حرام و هذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله و قال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } و هذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه و سجوده بالاعتدال و الطمأنينة

و المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب
و أما ما يرويه طوائف من العامة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك فقال لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار فسكت عنه عمر فهذا لا أصل له و لم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني لا في الصحيح و لا في الضعيف و الكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار
و أيضا فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع و ينقر في سجوده و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه و ينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا فأسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار و أتموا الركوع و السجود قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله الأشعري من حدثك بهذا الحديث قال أمراء الأجناد خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله و روى ابن ماجة بعضه
و أيضا ففي صحيح البخاري عن أبي وائل عن زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه و لا سجوده فلما قضى صلاته دعاه و قال له حذيفة ما صليت و لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله

عليها محمدا صلى الله عليه وسلم و لفظ أبي وائل ما صليت و أحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم
و هذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة أو ترك الاعتدال أو ترك كلاهما فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك إذ نقر الغراب و الفصل بين السجدتين بحد السيف و الهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإيتان بما قد يقال إنه ركوع أو سجود و هذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود لكنه لم يتمه و مع هذا قال له حذيفة ما صليت فنفى عنه الصلاة ثم قال لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم و على غير السنة و كلاهما المراد به هنا الدين و الشريعة ليس المراد به فعل المستحبات فإن هذا لا يوجب هذا الذم و التهديد فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المستحبات و لأن لفظ الفطرة و السنة في كلامهم هو الدين و الشريعة و إن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم ( إن الله فرض عليكم صيام رمضان و سننت لكم قيامه ) فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى و إن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى و إنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم و لقد رأينا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق و منه قوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ ) ولأن الله سبحانه و تعالى أمر في كتابه

بإقامة الصلاة و ذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها فقال تعالى في غير موضع { وأقيموا الصلاة } و إقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال أقيموا الركوع و السجود فإني أراكم من بعد ظهري و في رواية أتموا الركوع و السجود و سيأتي تقرير دلالة ذلك
و الدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه و تعالى قال { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فأباح الله القصر من عددها و القصر من صفتها و لهذا علقه بشرطين السفر و الخوف فالسفر يبيح قصر العدد فقط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله وضع عن المسافر الصوم و شطر الصلاة ) ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة التي اتفقت الأمة على نقلها عنه أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين و لم يصلها في السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما لا في الحج و لا في العمرة و لا في الجهاد و الخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } فذكر صلاة الخوف وهي صلاة ذات الرقاع إذ كان العدو في جهة القبلة و كان فيها أنهم كانوا يصلون خلفه فإذا قام إلى الثانية فارقوه و أتموا لأنفسهم الركعة الثانية ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم كما قال { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } فجعل السجود لهم خاصة فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } فعلم أنهم يفعلونه
وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين و مفارقة الأولين للإمام و قيام الآخرين قبل سلام الإمام و يتمون لأنفسهم ركعة ثم قال تعالى [ 4 103 ] { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة }

فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة و ذلك يتضمن الإتمام و ترك القصر منها الذي أباحه الخوف و السفر فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان
و أما قوله في صلاة الخوف { فأقمت لهم الصلاة } فتلك إقامة و إتمام في حال الخوف كما أن الركعتين في السفر إقامة و إتمام كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلاة السفر ركعتان و صلاة الجمعة ركعتان و صلاة الفطر ركعتان تمام من غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم و هذا يبين ما رواه مسلم و أهل السنن عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إقصار الناس الصلاة اليوم و إنما قال الله عز وجل { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } و قد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن فبينت السنة أن القصر نوعان كل نوع له شرط
و ثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة لأنه بذلك أمر الناس ليست مقصورة في الأجر و الثواب و إن كانت مقصورة في الصفة و العمل إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة و يؤمر بالاقتصار تارة
و أيضا فإن الله تعالى قال [ 4 103 ] { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } و الموقوت قد فسره السلف بالمفروض و فسروه بما له وقت و المفروض هو المقدر المحدد فإن التوقيت و التقدير و التحديد و الفرض ألفاظ متقاربة و ذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة و ذلك في زمانها و أفعالها و كما أن زمانها محدود فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا و جعل

بعضها أربعا في الحضر و اثنتين في السفر و بعضها ثلاثا و بعضها اثنتين في الحضر و السفر و تقدير عملها أيضا و لهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم و التأخير في الزمان كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة و ذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر و لهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار و صلاتي النهار الظهر و العصر و صلاتي الليل المغرب العشاء و كذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها و صفتها و هو موقوت محدود ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره لم يكن قد أتى بحد القيام
ومن المعلوم أن ذكر القيام الذي هو القراءة أفضل من ذكر الركوع و السجود و لكن نفس عمل الركوع و السجود أفضل من عمل القيام و لهذا كان عبادة بنفسه و لم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه و غير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا العذر وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود لا يبكون سجوده من انحناء فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين
وأيضا ففي ذلك إتمام الركوع والسجود
وأيضا فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ولهذا يقال للشيء الدائم ليس له قدر

فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد
وأيضا فإن الله عز وجل أمرنا بإقامتها والإقامة أن تجعل قائمة والشيء القائم هو المستقيم المعتدل فلا بد أن تكون افعال الصلاة مستقرة معتدلة وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها وهذا يتضمن الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر وكذلك الراكع
يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ) وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري ) وفي لفظ أقيموا الصفوف وروى البخاري من حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهرى وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه )
فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا لم يكونوا مصطفين ولكانوا يؤمرون الإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده فأمر النبى صلى الله علية وسلم أن يعيد الصلاة فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وفي رواية من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم ) وفي رواية للبخاري عن همام عن قتادة عن أنس

رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم ) ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ( أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عروبة أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم وذكره )
فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر وأيضا فأمر لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الإعتدال فيهما وإتمام طرفيهما وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الإنصراف قبله
وأيضا فقوله تعالى [ 2 238 ] { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } أمر بالقنوت للقيام لله والقنوت دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود كما قال تعالى [ 9 39 ] { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } وقال تعالى [ 4 34 ] { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } وقال [ 31 33 ] { ومن يقنت منكن لله ورسوله } [ 2 116 ] وقال { وله من في السماوات والأرض كل له قانتون }
فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله [ 4 135 ] { كونوا قوامين بالقسط } فيعم أفعالها ويقتضي الدوام في أفعالها وإما أن يكون المراد به قيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه


وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى
ويقوى الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت { وقوموا لله قانتين } قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ودل الأمر للقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل لمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد ( إن في الصلاة لشغلا ) ) فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلى عن مخاطبة الناس و هذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة و التسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها ولا ينافي القنوت فيها
و أيضا فإنه سبحانه قال [ 15 32 ] { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات و سبح بحمد ربه
و معلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات و لذلك وجب السجود مع ذلك و قد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم و ذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة و لهذا

قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد و غيرهم إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم
و الثاني أن الخرور هو السقوط و الوقوع و هذا إنما يقال فيما يثبت و يسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض و لهذا قال الله [ 22 36 ] { فإذا وجبت جنوبها } و الوجوب في الأصل هو الثبوت و الاستقرار
و أيضا فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال لما نزلت [ 56 96 ] { فسبح باسم ربك العظيم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزلت [ 1 87 ] { سبح اسم ربك الأعلى } قال ( اجعلوها في سجودكم ) رواه أبو داود و ابن ماجة
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع و السجود و أمره على الوجوب و ذلك يقتضي وجوب ركوع و سجود تبعا لهذا التسبيح و ذلك هو الطمأنينة
ثم إن من الفقهاء من قد يقول التسبيح ليس بواجب و هذا القول يخالف ظاهر الكتاب و السنة فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل و القول جميعا فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل
و أما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى [ 39 50 ] { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } و هذا أمر بالصلاة كلها كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب }
و إذا كان الله عز و جل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب

التسبيح كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى [ 2 72 ] { قم الليل إلا قليلا } دل على وجوب القيام و كذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى [ 17 78 ] { وقرآن الفجر } دل على وجوب القرآن فيها و لما سماها ركوعا و سجودا في مواضع دل على وجوب الركوع و السجود فيها
و ذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له فيسمونه رقبة و رأسا و وجها و نحو ذلك كما في قوله تعالى [ 3 58 ] { فتحرير رقبة } ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولأعلى ما يستلزم معناه
و أيضا فإن الله عز وجل ذم عموم الإنسان و استثنى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون قال تعالى [ 23 - 19 70 ] { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } و السلف من الصحابة و من بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها و بالدائم على أفعالها بالإقبال عليها و الآية تعم هذا و هذا فإنه قال { على صلاتهم دائمون } و الدائم على الفعل هو المديم له الذي يفعله دائما فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة هو أن يفعله كل يوم بحيث لا يفعله تارة و يتركه أخرى و سمي ذلك دواما عليه فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دواما و أن تتناول الآية ذلك و ذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها لأن الله عز و جل ذم عموم الإنسان و استثنى المداوم على هذه الصفة فتارك إدامة أفعالها يكون مذموما من الشارع و الشارع لا يذم إلا على ترك واجب أو فعل محرم
و أيضا فإنه سبحانه و تعالى قال { إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائما على صلاته و قد لا يكون دائما عليها

و أن المصلي الذي ليس بدائم مذموم و هذا يوجب ذم من لا يديم أفعاله المتصلة و المنفصلة و إذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع و السجود و غيرهما و لو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دواما و لم يجب الدوام على الركوع و السجود وهما أصل أفعال الصلاة
فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها المتضمن للطمأنينة و السكينة في أفعالها
و أيضا فقد قال الله تعالى [ 2 45 ] { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }
و هذا يقتضي ذم غير الخاشعين كقوله تعالى [ 20 143 ] { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } و قوله تعالى [ 13 42 ] { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
فقد دل كتاب الله عز و جل على من كبر عليه ما يحبه الله و أنه مذموم بذلك في الدين مسخوط منه ذلك و الذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم و إذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع
فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى إذ لو قيل إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها و لم يخشع فيها كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها و تكبر على من خشع فيها و قد انتفى مدلول الآية فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة
و يدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى [ 11 - 1 23 ] { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون }

أخبر سبحانه و تعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة و ذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم و قد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات و لهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب و إذا كان الخشوع في الصلاة واجبا فالخشوع يتضمن السكينة و التواضع جميعا
و منه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلا يعبث في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه أي لسكنت و خضعت و قال تعالى [ 39 49 ] { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز و الاهتزاز حركة و تربو و الربو الارتفاع
فعلم أن الخشوع فيه سكون و انخفاض و لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حال ركوعه ( اللهم لك ركعت و بك آمنت و لك أسلمت خشع لك سمعي و بصري و مخي و عقلي و عصبي ) رواه مسلم في صحيحه فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع و بذلك فسرت الآية ففي التفسير المشهور الذي يقال له تفسير الوالبي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما و قد رواه المصنفون في التفسير كأبي بكر بن المنذر و محمد بن جرير الطبري و غيرهما من حديث أبي صالح عبد الله بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى { في صلاتهم خاشعون } يقول خائفون ساكنون و رووا في التفاسير المسندة

كتفسير ابن المنذر و غيره من حديث سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد خاشعون قال السكون فيها قال و كذلك قال الزهري و من حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال الخشوع في القلب و قال ساكنون قال الضحاك الخشوع الرهبة لله و روى عن الحسن خائفون و روى ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان أنه قال في هذه الآية { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال الخشوع في القلب وأن يلين كنفه للمرء المسلم وأن لا تلفت في صلاتك وفي تفسير ابن المنذر أيضا ما في تفسير إسحاق بن راهويه عن روح حدثنا سعيد عن قتادة { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال الخشوع في القلب و الخوف و غض البصر في الصلاة و عن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مختار القرآن { في صلاتهم خاشعون } أي لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون وقد روى الإمام أحمد في كتاب الناسخ و المنسوخ من حديث ابن سيرين ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير و ابن المنذر أيضا في التفسير الذي له رواه من حديث الثوري حدثني خالد عن ابن سيرين قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده أي محل سجوده قال سفيان و حدثني غيره عن ابن سيرين أن هذه الآية نزلت في ذلك { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال هو سكون المرء في صلاته قال معمر و قال الحسن خائفون وقال قتادة الخشوع في القلب و منه خشوع البصر و خفضه و سكونه عند تقليبه في الجهات كقوله تعالى [ 8 - 6 54 ] { فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر } و قوله [ 44 - 43 70 ] { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون }

و في القراءة الأخرى { خشعا أبصارهم } وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصاره بخلاف آية الصلاة فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى { الذين هم في صلاتهم خاشعون } و قوله نعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }
وقال تعالى [ 43 - 42 68 ] { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة }
و من ذلك خشوع الأصوات كقوله تعالى [ 20 108 ] { وخشعت الأصوات للرحمن } وهو انخفاضها و سكونها و قال تعالى [ 42 45 - 44 ] { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } وقال تعالى [ 5 - 2 88 ] { وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية } و هذا يكون يوم القيامة وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب كما قال في القسم الآخر [ 10 - 8 88 ] { وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية } وقال تعالى [ 21 73 - 72 ] { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين }
و إذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو متضمن للسكون و الخشوع فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده و كذلك من لم يرفع رأسه من الركوع و يستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن

و من لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا وهو الذي بيناه
و يدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته و رفعه وهو ضد حال الخاشع فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ) وعن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد و فيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء فقال ( لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم ) الأول في البخاري و الثاني في مسلم و كلاهما في سنن أبي داود و النسائي و ابن ماجة
و قال محمد ابن سيرين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع بصره في الصلاة فلما نزلت هذه الآية { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده رواه الإمام أحمد في كتاب الناسخ و المنسوخ
فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه وسلم و توعد عليه
وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضى الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد
وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص عن أبى ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه ) وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس وهذا كحمله أمامة بنت أبى العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم وتأخره في صلاة الكسوف وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة وأمره برد المار بين يدي المصلى ومقاتلته وأمره النساء بالتصفيق وإشارته في الصلاة وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة
ويدل على ذلك أيضا حارواه تميم الطائي عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعوا أيديهم قال الراوي وهو زهير بن معاوية وأراه قال في الصلاة فقال مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة رواه مسلم وأبو داود والنسائي ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أو ألا يكفي أحدكم أن يقول هكذا وأشار بإصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله وفي رواية قال أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده على ففخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ولفظ مسلم صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمى بيده
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكون في الصلاة وهذا يقتضي

السكون فيها كلها والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة فمن لم يطمئن لم يسكن فيها وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث
ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهى عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك فقد غلط فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال
ويبين ذلك قوله مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس والشمس جمع شموس وهو الذي تقول له العامة الشموص وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال وهى حركة لا سكون فيها
وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عن الاستفتاح فذلك مشروع باتفاق المسلمين فكيف يكون الحديث نهيا عنه
وقوله اسكنوا في الصلاة يتضمن ذلك ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع ابن المبارك يديه فقال له أتريد أن تطير فقال إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية وإلا فلا وهذا نقض لما ذكره من المعنى
وأيضا فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معرضا بل لو قد تعارضنا فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها وهذا الرفع فيه سكون فقوله اسكنوا في الصلاة لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة بل قوله اسكنوا يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين


فيبن هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المشى إليها وهى حركة إليها فكيف بالحركة فيها فقال ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا )
وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه قال أبو داود وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب ابن أبي حمزة عن الزهري وما فاتكم فأتموا وقال ابن عينية عن الزهري فاقضوا قال محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضى الله عنه وجعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة فأتموا وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم فأتموا وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم ) قال أبو داود وكذا قال ابن سيرين عن ابي هريرة رضى الله عنه وليقض وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة وأبو ذر رضى الله عنه روى عنه فأتموا واقضوا اختلف عنه
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال
فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأخرى لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات

بعض الصلاة فأمره بالسكينة و أن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام و جعل ذلك مقدما على الإسراع إليها و هذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها فكيف فيها
يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة ) فقد نهاه صلى الله عليه وسلم في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام و العمل له منفردا فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي و غير ذلك فإذا كان منهيا عن السرعة و العجلة في المشي مأمورا بالسكينة و إن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها
و يدل على ذلك أن الله عز و جل أمر في كتابه بالسكينة و القصد في الحركة و المشي مطلقا فقال [ 9 31 ] { واقصد في مشيك واغضض من صوتك } و قال تعالى [ 25 63 ] { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } قال الحسن و غيره بسكينة و وقار فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء فإذا كان مأمورا بالسكينة و الوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة فكيف الأفعال العبادية ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع و السجود فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال كالرفع و الخفض و النهوض و الانحطاط و أما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه و السجود نفسه و القيام و القعود أنفسهما و هذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها و إنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود و لم يأت به كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه و لم يطعمه
و أيضا فإن الله تعالى أوجب الركوع و السجود في الكتاب و السنة وهو

واجب بالإجماع لقوله تعالى [ 22 77 ] { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا } و قوله تعالى [ 42 68 ] { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } وقوله تعالى [ 21 20 84 ] { فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } وقوله تعالى [ 15 32 ] { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } و قوله تعالى [ 19 96 ] { واسجد واقترب } و قوله تعالى [ 18 22 ] { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب }
فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب و قوله [ 26 76 ] { ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا } و قوله تعالى [ 15 98 ] { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } و قوله تعالى [ 48 77 ] { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } و قوله تعالى [ 5 55 ] { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }
و إذا كان الله عز وجل قد فرض الركوع و السجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة فالنبي صلى الله عليه و سلم هو المبين للناس ما نزل إليهم و سنته تفسر الكتاب و تبينه و تدل عليه و تعبر عنه و فعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما امتثله و فسره و هذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا و كان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع و السجود و تفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن و كذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود و قد كان يصلي الفريضة و النافلة و الناس يصلون على عهده و لم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع و السجود و بالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها قد نقل ذلك كل من نقل صلاة

الفريضة و النافلة و الناس يصلون على عهده و لم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع و السجود و بالطمأنينة و كذلك كانت صلاة أصحابه على عهده و هذا يقتضي وجوب السكون و الطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع
و أيضا فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات من أقوى الأدلة على وجوب ذلك إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله فلما لم يبين لا بقوله و لا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه كان ذلك دليلا على وجوبه
و أيضا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال لمالك بن الحويرث و صاحبه إذا حضرت الصلاة فأذنا و أقيما و ليؤمكما أكبركما و صلوا كما رأيتموني أصلي فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي
و ذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لهم و لا معارض لذلك و لا مخصص فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم و المنفرد
و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر و كبر و كبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي و لتعلموا صلاتي وفي سنن أبي داود و النسائي عن سالم البراد قال أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه و جعل أصابعه أسفل من ذلك و جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه

ثم كبر و سجد ووضع كفه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ففعل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذا الركعة فصلى صلاته ثم قال هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين و إذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه و نهاه و لا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك و هذا إجماع منهم على وجوب السكون و الطمأنينة في الصلاة قولا و فعلا ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب
و أيضا فإن الركوع و السجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه و حين وضع وجهه على الأرض فأما مجرد الخفض و الرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا و من سماه ركوعا و سجودا فقد غلط على اللغة فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر و حتى يقال إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعا و سجودا وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله وفي لغة العرب و إذا حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد لم يكن ممتثلا بالاتفاق لأن الوجوب معلوم و فعل الواجب ليس بمعلوم كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه و يشك في فعلها
وهذا أصل ينبغي معرفته فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول إن هذا يسمى ساجدا و راكعا في اللغة فإنه قال بلا علم و لا حجة و إذا طولب بالدليل انقطع و كانت الحجة لمن يقول ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود و الركوع المعروفين

ثم يقال لو وجد استعمال لفظ الركوع و السجود في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدا و لكان الراغم أنفه وهو الذي لصق أنفه بالرغام وهو التراب ساجدا لا سيما عند المنازع الذي يقول يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا و معلوم أن هذا ليس من لغة القوم كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب و نحوها سجودا ولو كان كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله و نحو ذلك ساجدا
و أيضا فإن الله أوجب المحافظة و الإدامة على الصلاة و ذم إضاعتها و السهو عنها فقال في أول سورة المؤمنين { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون } و قد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة و كذلك في سورة سأل سائل قال { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون } فذم الإنسان كله إلا ما استثناه فمن لم يكن متصفا بما استثناه كان مذموما كما في قوله تعالى

[ 3 - 1 103 ] { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } و قال تعالى [ 19 69 ] { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } و قال تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } و قال تعالى [ 2 238 ] { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين }
و هذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئا من واجبات الصلاة و إن كان في الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط و الأركان من الأعمال الظاهرة و الباطنة و بذلك فسرها السلف ففي تفسير عبد بن حميد و ذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد حدثنا روح عن سعيد عن قتادة { والذين هم على صلواتهم يحافظون } على وضوئها و مواقيتها و ركوعها و روى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن عن عبد الله قال قيل لعبد الله إن الله أكثر ذكر الصلاة في القرآن { الذين هم على صلاتهم دائمون } و { الذين هم في صلاتهم خاشعون } و { والذين هم على صلاتهم يحافظون } فقال عبد الله ذلك على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر و روى سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق في قول الله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } قال على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر و روى من حديث سعيد بن أبي مريم { الذين هم عن صلاتهم ساهون } بتضييع ميقاتها و روى عن أبي ثور عن ابن جريج في قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } المكتوبة و التي في سأل سائل التطوع و هذا قول ضعيف

فصل
و أما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم و ليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتموني أصلي
و أما القيام ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بق و القرآن المجيد و نحوها و كانت صلاته بعد إلى تخفيف أي يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة كما في صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك و في الصبح أطول من ذلك وفي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس و يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة و الشمس حية قال الراوي و نسيت ما قال في المغرب و كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة و كان يكره النوم قبلها و الحديث بعدها و كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ فيها بالستين إلى المئة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر و العصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين أية قدر آلم السجدة و حزرنا قيامه في الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر و حزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك رواه مسلم و أبو داود و النسائي و في الصحيحين و غيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبي وقاص لقد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين و أحذف الأخريين و لا آلو

ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز و أبلغ فقلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت و أوجزت فلو كنت تنفست فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن طول صلاة الرجل و قصر خطبته مئنة في فقهه فأطيلوا الصلاة و أقصروا الخطبة إن من البيان لسحرا
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصدا أي وسطا
و فعله الذي سنه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة إذ التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع في مقداره إلى السنة و ذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح و نعمل بأيدينا و إنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبو الزبير { سبح اسم ربك الأعلى } { والليل إذا يغشى } وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله عنه قال أقبل رجل بناضحين و قد جنح الليل فوافق معاذا يصلي و ذكره نحوه فقال في آخره فلولا صليت بسبح باسم ربك الأعلى و الشمس و ضحاها و الليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الضعيف و الكبير و ذو الحاجة


وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير و الضعيف و ذا الحاجة وفي رواية فإن فيهم الضعيف و الكبير وفي رواية فليخفف فإن فيهم المريض و الضعيف و ذا الحاجة
وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأقوم إلى الصلاة و أنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه
و أما مقدار بقية الأركان مع القيام فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة و لا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عن شريك عنه وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه
و أخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة و يكملها وفي لفظ يوجز الصلاة و يتم
و أخرجا أيضا عن أبي قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لأدخل في الصلاة و أنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة
وروى مسلم أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم و كانت صلاته متقاربة

و صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الصبح و عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أخف الناس صلاة في تمام
فقول أنس رضي الله عنه ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله يريد أنه صلى الله عليه وسلم كان أخف الأئمة صلاة و أتم الأئمة صلاة و هذا لاعتدال صلاته و تناسبها كما في اللفظ الآخر و كانت صلاته معتدلة و في اللفظ الآخر كانت صلاته متقاربة لتخفيف قيامها و قعودها و تكون أتم صلاة لإطالة ركوعها و سجودها و لو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك و لهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي وهو قراءة سورة قصيرة و بين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح و إنما مد في القراءة فإن عمر رضي الله عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس و سورة هود و سورة يوسف
و الذي يبين ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمد قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر و يسجد و كان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي و للبخاري من حديث شعبة عن ثابت قال قال أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم و كان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع حتى يقول القائل قد نسي
فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي

كان يوجزها و يكملها و التي كانت أخف الصلاة و أتمها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل إنه قد نسي و يقعد بين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي و إذا كان في هذا يفعل ذلك فمن المعلوم اتفاق المسلمين و السنة المتواترة أن الركوع و السجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين بل كثير من العلماء يقول لا يشرع و لا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع و السجود بل ينقصان عن الركوع و السجود وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث و سماه غندر في رواية مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام و قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه و ركوعه و إذا رفع رأسه من الركوع و سجوده و ما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا و لفظ مطر عن شعبة كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم و سجوده و بين السجدتين و إذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام و القعود قريبا من السواء وهو في الصحيح و السنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركوعه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته ما بين التسليم و الانصراف قريبا من السواء
و يشهد لهذا ما رواه مسلم و أبو داود و النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع

سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا ينفع ذا الجد منك الجد
و قوله أحق ما قال العبد هكذا هو في الحديث وهو خبر مبتدأ محذوف و أما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء و الصوفية من قوله حق ما قال العبد فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث و السنة ليس له أصل في الأثر و معناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق و الباطل و أما الرب سبحانه و تعالى فهو يقول الحق و يهدي السبيل كما قال تعالى { فالحق والحق أقول }
و أيضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز وجل
و روى مسلم و غيره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما بينهما و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وروى مسلم و غيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد
وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه كان يقول اللهم طهرني من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اتفق الصحابة رضي الله عنهم على نقلها عنه و قد نقلها أهل الصحاح و السنن و المسانيد من هذه الوجوه وغيرها و الصلاة عمود الدين فكيف خفي ذلك على طائفة من

فقهاء العراق وغيره حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقارنة للركوع والسجود ولا استحبوا في ذلك ذكرا أكثر من التحميد يقول ربنا لك الحمد حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته
قيل سبب ذلك وغيره أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها المسلمين الأمراء وولاة الحرب فوالى الجهاد هو كان أمير الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس والخليفة هو الذي يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره ومنهم من لا يتم الاعتدالين وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض و رفع و إذا قام و إذا وضع فأخبرت ابن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أم لك وهذا يعني به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك و ابن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس و أما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد و هذا كما أن عامة

الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل يفعل ذلك المؤذن و نحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن و غيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم لكن إذا احتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة هل يبطل صلاته أم لا
ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين و السنن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال صليت خلف علي بن أبي طالب أنا و عمران بن حصين فكان إذا سجد كبر و إذا رفع رأسه كبر و إذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرني هذا بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم و لهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران و مطرف كما سمعه غيرهما
و مثل هذا ما في الصحيحين و السنن أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة و غيرها يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف و الذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا
وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه و بين مروان بن الحكم في إمارة المدينة فيولي هذا تارة و يولي هذا تارة و كان مروان يستخلف و كان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه

بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة مروان و غيره من أمراء المدينة
و قوله في المكتوبة و غيرها يعني ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث و أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة و غيرها في رمضان و غيره فيكبر حين يقوم و يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد و ذكر نحوه
و كان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
و هذا كله معناه جهر الإمام بالتكبير و لهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت و فعله في كل خفض و رفع
يبين ذلك أن البخاري ذكر في باب التكبير عند النهوض من الركعتين قال وكان ابن الزبير يكبر في نهضته ثم روى البخاري من حديث فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود و حين سجد و حين رفع و حين قام من الركعتين و قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أردفه البخاري بحديث مطرف قال صليت أنا و عمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر و إذا رفع كبر و إذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم
فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير و أما أصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد و ليس هذا أيضا مما يجهل هل يفعله الإمام أم لا يفعله

فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة و نفي التسبيح في الركوع و السجود و نفي القراءة في الركعتين الآخرتين و نحو ذلك و لهذا استدل بعض من كان لا يتم بالتكبير و لا يجهر به بما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و كان لا يتم التكبير رواه أبو داود و البخاري في التاريخ الكبير و قد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا باطل و هذا إن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد و كان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير و إلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا و أن علي بن أبي طالب و أبا هريرة و غيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات و لازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها و لا رفعها
و هذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو كان المراد التكبير سرا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته فإن المأموم لا يعرف ذلك من إمامه ولا يسمي ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات و ليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام و خفضه كان في جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع و إذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة
فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد

بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه و يرى سجوده بخلاف الرفع من الركوع و السجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره
و يدل على صحة ما قاله أحمد من حديث ابن أبزي أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير و كان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه
و قد ظن أبو عمر بن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا يكبرون في الخفض و الرفع و جعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب حتى إنه قد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض و أما التطوع فلا قال أبو عمر لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله
قال و أما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض و رفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما و غير إمام قلت ما روى مالك لا ريب فيه و الذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك و لكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير في الصلاة و لهذا فرق أحمد بين الفرض و النفل فقال أحب إلي أن يكبر في الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض و النفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير الصلاة واجب في النفل كما أنه واجب في الفرض و إن قيل هو سنة في الفرض قيل هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره
وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا فهو

مشهور عنه وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال ابن عبد البر لما ذكر حديث أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض و رفع فلما انصرف قال و الله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عبد البر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك و يدل عيه مارواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن و تركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا و كان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله و كان يكبر كلما رفع و خفض قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة و الفقهاء ممن لا يرفع اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الاستفتاح و الاستعاذة ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال
قال و قد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام و شعار للصلاة و ليس بسنة إلا في الجماعة أما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر و لهذا ذكر مالك هذا الحديث و حديث ابن شهاب عن علي بن حسين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض و رفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل و حديث ابن عمر و جابر رضي الله عنهم أنهما كانا يكبران كلما خفضا و رفعا في الصلاة فكان جابر يعلمهم ذلك قال فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة
قلت ما ذكره مالك فكما ذكره و أما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع في الصلوات و إنما ذكر ذلك مالك و غيره و الله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير و قد قال ابن عبد البر روى

ابن وهب أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة و زينة الصلاة التكبير و رفع الأيدي فيها وإذا كان ابن عمر يقول ذلك فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بابن عمر
قال ابن عبد البر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم انهم كانوا لا يتمون التكبير وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسعيد بن جبير وروى عن أبي سلمة عن أبي هريرة انه كان يكبر هذا التكبير ويقول إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة قلت لايمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع بل قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى لا يتمونه لا ينقصونه ونقصه عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال صليت خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض قال وهذا معارض لما روى عن عمر انه كان لا يتم التكبير وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهرى قال

قلت لعمر بن عبد العزيز ما منعك أن تتم التكبير و هذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة الأول و أبى أن يقبل مني
قلت و إنما خفي على عمر بن عبد العزيز و على هؤلاء الجهر بالتكبير كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا و قبله ما ذكره أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال أول من نقص التكبير زياد
قلت زياد كان أميرا في زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا و يكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره و روى عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال لقد ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها و إما تركناها عمدا و كان يكبر كلما رفع و كلما وضع و كلما سجد
و معلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا من شاهدوهم من أهل العلم و الدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة و حصل بذلك نقصان في وقت الصلاة و فعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك و كذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } فكان يقول كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل تركت السنة فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم و قلت فقهاؤكم و التمست الدنيا بعمل الآخرة و تفقه لغير الدين و كان عبد الله بن مسعود يقول أيضا أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم

فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول
ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه و عمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال ما رواه أبو داود و النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد بعد رسول برسول الله صلى الله ع عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فخررنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وهذا كان في المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك و المدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا و لكن كانوا قد غيروا أيضا ببعض السنة و من اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين
وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود و الترمذي و ابن ماجة عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه ) و إذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا و ذلك أدناه قال أبو داود هذا مرسل عون لم يدرك عبد الله بن مسعود و كذلك قال البخاري في تاريخه وقال الترمذي ليس إسناده بمتصل عون ابن عبد الله لم يدرك ابن مسعود عون هو من علماء الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله

وقيل إنما تلقاه من علماء أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد حتى صاروا يقولون في الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع و ذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا
فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي و أحمد رضي الله عنهما و غيرهم هو من جنس قول من يقول من السنة أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحاح و السنن و المسانيد وغيرها تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه و لكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف و إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله و رسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات و كذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي و إنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي و القياس
ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء و يستخف هؤلاء ما يستطيله

هؤلاء فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس و مقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية
فعلم أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف و التطويل إلى السنة و بهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال إن طول صلاة الرجل و قصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة و أقصروا الخطبة و هناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة و التخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ولهذا قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء
فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم و الكبير و ذو الحاجة و لهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض كما قال صلى الله عليه وسلم إني لأدخل الصلاة و أنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه و بذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث ابن مسعود
وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف و الكبير

و ذا الحاجة و إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وفي رواية فإن فيهم السقيم و الشيخ الكبير و ذا الحاجة
و لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } وروى أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة و كان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ { والمرسلات عرفا } فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب وفي الصحيحين عن محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال قال لى زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا في المغرب بطولي الطوليين قال قلت ما طولى الطوليين قال الأعراف
فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر نم القراءة في الفجر فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها
ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور عن ابراهيم النخعي قال كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه قال أبو محمد بن حزم العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعول على من لا حجة فيه

قلت قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود فابن بن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وابن بن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين
فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء
يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفى قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين أيضا وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه
فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك
آخر ما وجد في الأصل والحمد لله رب العالمين

فصل
وأما السلام من الصلاة فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة فرضها ونقلها المشتملة على الأركان الفعلية أو على ركن واحد وعند أهل الكوفة تسليمتان في جميع ذلك وافقهم الشافعي


والمختار في المشهور عن أحمد أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان وأما الصلاة بركن واحد كصلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر فالمختار فيها تسليمة واحدة كما حاءت أكثر الآثار بذلك فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد فإن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة فما طولها أعطى كل جزء منها حظه من الطول وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها

فصل
فأما صلاة الجماعة فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب و السنة و أقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر و سقوطها بالعذر و تقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ففرق بين العلم بالكتاب و العلم بالسنة كما دل عليه الحديث و إنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع و فعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه فإذا استويا في كمال الصلاة منهما و خلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة و إلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم وما يحتاج إليه من العلم و الدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك و غيره
وقد يقول بعض العلماء هي سنة مؤكدة وقد يقول آخرون هي فرض على الكفاية ولهم في تقديم الأئمة خلاف
و يأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من سننها الخمس وهي تقويم الصفوف و رصها و تقاربها و سد الأول فالأول

و توسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المنفرد خلف الصف و يأمره بالإعادة كما أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة و كما أمر المسيء في وضوءه الذي ترك فيه موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة
فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة و الاصطفاف في الصلاة و الإتيان بأركانها
و الذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة و مالك و الشافعي منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده و الشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده و بكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم و بحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف
و أما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يضرب أحدهما بالآخر فيقول في مثل هذه المرأة إذا كانت مع النساء صلت بينهن و أما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم و إن كانت وحدها لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم و إن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف
و نقول إن الإمام لا يشبه المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة و سنة المؤتمين الاصطفاف نعم يدل انفراد الإمام و المرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا انفرادا فهذا قياس قول أحمد و غيره ولأن واجبات الصلاة و غيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن

الصلاة ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف و المرض و نحوهما مع استدبار القبلة و العمل الكثير و مفارقة الإمام ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة كحال الزحام و نحوه و إن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روى في بعض صفات صلاة الخوف ولهذا سقط عنده و عند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام و حل البقعة و نحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة و العيدين و الخوف و المناسك و نحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة و الجماعة أو إلى فتنة في الأمة و نحو ذلك كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر
ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر و كذلك الواجبات في الجماعات و نحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه و إن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين
وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة و العزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة
و كان أحمد في المنصوص عنه و طائفة من أصحابه يقولون بجواز اقتداء المفترض

بالمتنقل للحاجة كما في صلاة الخوف وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة و معاذ و نحو ذلك و إن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام و إن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال
فصارت الأقوال في مذهبه و غير مذهبه ثلاثة و المنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة و مالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعي
و يشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة و الرواية الثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة و الرواية الثالثة الجواز مطلقا كقول الشافعي و لهذا جوز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجل لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها و جعل لها مؤذنا و تتأخر خلفهم و إن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لا تؤمن امرأة رجلا و أن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء
و لهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في الإمام إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون و أنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة الإمام و التشبه بالأعاجم في القيام له و كذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا و الناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير
و لكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام

به و لهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة و لم ير هذا منسوخا بكونه صلى الله عليه وسلم في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به و بين ما فعله و لأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله فيفرق بين القعود من أول الصلاة و القعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه و إنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } و قوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم و أنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما و سقط الآخر بالوجه الشرعي و التنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء

فصل
في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام
الناس فيه على ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا ارتباط بينهما و أن كل امرئ يصلي لنفسه و فائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل الشافعي لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي و الرجل بالمرأة و إبطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له كالكافر و المحدث و في هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه
ومن الحجة فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة إن أحسنوا فلكم ولهم و إن أساءوا فلكم و عليهم
و القول الثاني أنها منعقدة بصلاة الإمام فرع عليها مطلقا فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم لقوله صلى الله عليه وسلم الإمام ضامن و على هذا فالمؤتمن بالمحدث الناسي لحدثه يعيد كما يعيد إمامه وهذا مذهب

أبي حنيفة و رواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب حتى اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن أن لا يأتم المتوضئ بالمتيمم لنقص طهارته عنه
و القول الثالث أنها منعقدة بصلاة الإمام بها لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما فأما مع العذر فلا يسري النقص فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة و المأموم معذور في الائتمام وهذا قول مالك و أحمد و غيرهما و عليه ينزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة و هو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة الإمام الناقص أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة فحكم صلاته كحكم نفسه
وعلى هذا أيضا ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ كأن لا يتوضأ من خروج النجاسات من غير السبيلين ولا من مس الذكر و نحو ذلك فإن اعتقاد الإمام هنا صحة صلاته كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث وأولى فإنه هناك تجب عليه الإعادة و هذا أصل نافع أيضا
و يدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يصلون لكم فإن أصابوا فلكم و لهم و إن أخطأوا فلكم و عليهم فهذا نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطأه عليه لا على المأمومين فمن صلى معتقدا لطهارته و كان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة و قلنا عليه الإعادة للنجاسة كما يعيد من الحدث فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد فيكون خطؤه عليه فيعيد صلاته و أما المأمومون فلهم هذه الصلاة و ليس عليهم من خطئه شيء كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم و هذا نص في إجزاء صلاتهم
و كذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم مثل أن يمس ذكره و يصلي أو يحتجم و يصلي أو يترك قراءة البسملة أو يصلي

و عليه نجاسة لا يعفي عنها عند المأموم و نحو ذلك فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا إن لم يكن مصيبا فتكون هذه الصلاة للمأموم و ليس عليه من خطأ إمامه شيء و كذلك روى أحمد و أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أم الناس فأصاب الوقت و أتم الصلاة فله و لهم ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه و لا عليهم لكن لم يذكر أبو داود و أتم الصلاة فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ و مفهوم قوله و إن أخطأ فعليه و لا عليهم أنه إذا تعمد لم يكن كذلك و لاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا ينبغي الصلاة خلفه

فصل
و أما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع و منهم من لا يراه إلا بعده
و أما فقهاء أهل الحديث كأحمد و غيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما و إن اختاروا القنوت بعد الركوع لأنه أكثر و أقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد سمع الله لمن حمد فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بينت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء و آخرها دعاء
و أيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر منهم من قال هو منسوخ فإنه قنت ثم ترك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ومن قال المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم يبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت هل كان قبل الركوع أو بعد الركوع فقال قبل الركوع قال فإن فلانا أخبرني

أنك قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد فقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا جاء لفظه مفسرا أنه ما زال يقنت قبل الركوع
والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء كذلك جاء مفسرا
ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال قلت لأنس بن مالك رضى الله عنه قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال نعم بعد الركوع يسيرا فأخبر أن قنوته كان سرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمى كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا كما قال تعالى { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } ولهذا لما سئل ابن عمر رضى الله عن القنوت الراتب قال ما سمعنا ولا رأينا وهذا قول ومنهم من قال بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت وروى عنه أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا وهذا قول الشافعي


ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر لكن لم يرو أحد انه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن على وهو اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره
وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيرهم فقالوا قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس كما قال تعالى { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم ) وكما قال في صفات الأبدال ( بهم ترزقون وبهم تنصرون ) وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده سبحانه وتعالى في قوله { أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } ثم ترك القنوت جاء مفسرا أنه صلى الله عليه وسلم تركه لزوال ذلك

السبب وكذلك كان عمر رضى الله عنه إذا أبطأ خبر عليه جيوش السلمين قنت وكذلك على رضى الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم
قالوا وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول ص = أمرا لحاجة ثم تركه لزالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل
قالوا ونعلم قطعا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم أن حى على خير العمل لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة
فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة
وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم فيما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة مالا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا
فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات انحلالا كثيرا

فصل
وأما القراءة خلف الإمام
فالناس فيها طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولى الشافعي وقول طائفة معه ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاته الجهرية وللبعيد الذي لا يسمع الإمام وأما للقريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم هل هي مبنية على صلاة الإمام أم كل واحد منهما يصلى لنفسه كما تقدم التنبيه عليه فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى إنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام
واصل الشافعي أن كل رجل يصلى لنفسه لا يقوم مقامة لا في فرض ولا سنة ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك
وأما مالك وأحمد فإنها عندهما مبنية عليها من وجه دون وجه كما ذكرنا من الاستماع للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندها سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه

النصوص الصحيحة وهى مبنية عليها فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في الإمامة

فصل
وأما الصلوات في الأحوال العارضة
كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة ففقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الباب فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختارون قصر الصلاة في السفر إتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فأنه لم يصل في السفر قط رباعية إلا مقصورة ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك بل منهم من يكره ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل وفي ذلك عن أحمد روايتان
وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يفعله إلا مرات قليلة فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حين جد به السير حتى اختلف عن أحمد هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائر أم لا ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر مختلفون في جواز الإتمام ومجمعون على جواز التفريق بين الصلاتين مختلفون في جواز الجمع بينهما
ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف
فأصحها وأشهرها أن يكون في كل ركعة ركوعان وفي الصحيح أيضا في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة ويجوزون حذف الركوع الزائد كما جاء

عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطيلون السجود فيها كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجهرون فيها بالقراءة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الاستسقاء يجوزون الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة كما فعله عمر رضى الله عنه بمحضر من الصحابة ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك الجنازة فإن اختيارهم أنه يكبر عليها أربعا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يفعلونه غالبا ويجوز على المشهور عند احمد التخميس في التكبير ومتابعة الإمام في ذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمسا وفعله غير واحد من الصحابة مثل على بن أبي طالب وغيره ويجوز أيضا على الصحيح عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولما في ذلك من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم

فصل
الأصل الثاني الزكاة
وهم أيضا متبعون فيها لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة أو بأحسنها في السائمة فاخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق رضى الله عنه ومتابعيه المتضمن أن في الإبل الكثيرة في أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإنه متقدم على هذا لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته بمدة وأما كتاب الصديق فإنه صلى الله عليه وسلم كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر


وتوسطوا في المعشرات بين أهل الحجاز وأهل العراق فإن أهل العراق كأبي حنيفة يوجبون العشر في كل ما أخرجت الأرض إلا القصب ونحوه في القليل والكثير منه بناء على أن العشر حق الأرض كالخراج ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج وأهل الحجاز لا يوجبون العشر إلا في النصاب المقدر بخمسة أوسق ووافقهم عليه أبو يوسف ومحمد ولا يوجبون من الثمار إلا في التمر والزبيب وفي الزروع في الأقوات ولا يوجبون في عسل ولا غيره والشافعي على مذهب أهل الحجاز
وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث فيوافقون في النصاب قول أهل الحجاز لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا يوجبون الزكاة في الخضراوات لما في الترك من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه والأثر عنه لكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تدخر وإن لم تكن تمرا أو زبيبا كالفستق والبندق جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات وقد يلحق بالموسق الموزونات كالقطن على إحدى الروايتين لما في ذلك من الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم
ويوجبها في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها هو وإن كان غيره لم تبلغه إلا من طريق ضعيفة وتسوية بين جنس ما أنزله الله من السماء وما أخرجه من الأرض
ويجمعون بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض وصاحبا أبي حنيفة قولمها هو قول أحمد أو قريب منه
وأما مقدار الصاع والمد ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أن الصاع خمسة أرطال وثلث والمد ربعه وهذا قول أهل الحجاز في الأطعمة والمياه وقصة مالك مع أبي يوسف فيه مشهورة وهو قول الشافعي وكثير من أصحاب أحمد أو أكثرهم


والثاني أنه ثمانية أرطال والمد ربعه وهو قول أهل العراق في الجميع
والقول الثالث أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الطهارة ثمانية أرطال كما جاء بكل واحد منهما الأثر فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل والوضوء وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل الأخبار الواردة في ذلك
ومن أصولها أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من غيره فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار ويوجبها في كل خارج من الأرض ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلى المباح وغيره ويجعل الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر والعشر إلا على مكلف ويجوز الاحتيال لإسقاطها واختلف أصحابه هل هو مكروه أم لا فكرهه محمد ولم يكرهه أبو يوسف وأما مالك والشافعي فاتفقا على أنه لا يشترط لها التكليف بما في ذلك من الآثار الكثيرة عن الصحابة
ولم يوجبها في الخيل ولا في الحلى المباح ولا في الخارج إلا ما تقدم ذكره وحرم مالك الاحتيال لإسقاطها وأوجبها مع الحيلة وكره الشافعي الحيلة في اسقاطها
وأما أحمد فهو في الوجوب بين أبي حنيفة ومالك كما تقدم في المعشرات وهو يوجبها في مال المكلف وغير المكلف
واختلف قوله في الحلى المباح وإن كان المنصور عند أصحابه أنه لا يجب وقوله في الاحتيال كقول مالك يحرم الاحتيال لسقوطها ويوجبها مع الحيلة كما دلت عليه سورة نون وغيرها من الدلائل
والأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة سواء كان التاجر مقيما أو مسافرا وسواء كان متربصا وهو

الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مدبرا كالتجار الذين في الحوانيت سواء كانت التجارة بزا من جديد أو لبس أو طعاما من قوت أو فاكهه أو أدم أو غير ذلك أو كانت آنية كالفخار ونحوه أو حيوانا من رقيق أو خيلا أو بغالا أو حميرا أو غنما معلوفة أو غير ذلك فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هى أغلب الأموال الظاهرة

فصل
ولا بد في الزكاة من الملك
واختلفوا في اليد فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال
أحدها أنها تجب في كل دين وكل عين وإن لم تكن تحت يد صاحبها كالمنصوب والضال والدين المجحود وعلى معسر أو مماطل وانه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه كالدين على الموسر وهذا أحد قولى الشافعي وهو أقواهما
فصل
والناس في إخراج القيم في الزكاة ثلاثة أقوال
أحدها أنه يجزئ بكل حال كما قاله أبو حنيفة
والثاني لا يجزئ بحال كما قاله الشافعي
والثالث أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة مثل من يجب عليه شاة في الإبل وليست عنده ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس
وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحا فإنه منع من إخراج القيم وجوزه في مواضع للحاجة لكن من أصحابه من نقل عنه جوازه فجعلوا عنه في إخراج القيمة روايتين واختاروا المنع لأنه المشهور عنه كقول الشافعي وهذا القول

أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر أدلة الوجوب ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعا

فصل
وأما الأفصل الثالث فالصيام
وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة منهم أبو حنيفة أنه يجزئ كل صوم فرضا كان أو نفلا بنية قبل الزوال كما دل عليه حديث عاشوراء وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة فلم يجد طعاما فقال إني إذا صائم
وبإزائها طائفة أخرى منهم مالك قالت لا يجزئ الصوم إلا مبيتا من الليل فرضا كان أو نفلا على ظاهر حديث حفصة وابن عمر الذي يروي مرفوعا وموقوفا لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل
وأما القول الثالث فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله إني إذا صائم كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات وصومهم يوم عاشوراء إن كان واجبا فإنما وجب عليهم من النهار لأنهم لم يعلموا قبل ذلك وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين أن ذلك كان في رمضان فباطل لا اصل له
وهذا أوسط الأقوال وهو قول الشافعي وأحمد واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل عن الصحابة


واختلف أصحابهما في الثواب هل هو ثواب يوم كامل أو من حين نواه والمنصوص عن أحمد أن الثواب من حين النية
وكذلك اختلفوا في التعيين وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره
أحدها أنه لا بد من نية رمضان فلا تجزئ نية مطلقة ولا معينة لغير رمضان وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين اختارها كثير من الصحابة
والثاني انه يجزئ بنية مطلقة ومعنية لغيره كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد
والثالث انه يجزئ بالنية المطلقة دون نية التطوع أو القضاء أو النذر وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه

فصل
واختلفوا في صوم يوم الغيم وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فقال قوم يجب صومه بنية من رمضان احتياطا وهذه الرواية عن أحمد وهى التي اختارها أكثر متأخرى أصحابه وحكوها عن أكثر متقدميهم بناء على ما تأولوه من الحديث وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب فيجب بغالب الظن
وقالت طائفة لا يجوز صومه من رمضان وهذه رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل والحلواني وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي استدلالا بما جاء من الأحاديث وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك
وهناك قول ثالث وهو أنه يجوز صومه من رمضان ويجوز فطره والأفضل صومه من وقت الفجر ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز طلوعه جاز له الإمساك والأكل وإن أمسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب

الإمساك لكن وأكثر نصوص أحمد تدل على هذا القول وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان وغيرهم أخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه والمنقول عنهم أنهم كانوا يصومون في حال الغيم لا يوجبون الصوم وكان غالب الناس لا يصومون ولم ينكروا عليهم الترك
وإنما لم يستحب الصوم في الصحو بل نهى عنه لأن الأصل والظاهر عدم الهلال فصومه تقديم لرمضان بيوم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك
واختلف الرواية عنه هل يسمى يوم الغيم يوم شك على روايتين وكذلك اختلف أصحابه في ذلك
وأما يوم الصحو عنده فيوم شك أو يقين من شعبان ينهى عن صومه بلا توقف وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره فإن المشكوك في وجوبه كما لو شك في وجوب زكاة أو كفارة أو صلاة أو غير ذلك لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله احتياطا فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط ولم توجب بمجرد الشك
وأيضا فإن أول الشهر كأول النهار ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك بل ينهى عن صوم يوم الشك لما يخاف من الزيادة في الفرض
وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب فإن الجماعات الذين صاموا منهم كعمر وعلى ومعاوية وغيرهم لم يصرحوا بالوجوب

وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل لا إلى نفس الاحتياط بالصوم فإن تحريم الصوم أو إيجابه كلاهما فيه بعد عن أصول الشريعة والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم إكمال العدة كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيها نظر
فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد
ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر لكان عن التحريم والإيجاب يؤثر عن الصديق أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر لكن

فصل وأما الحج فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفته وأحكامه
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة فقال من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدى فإنه لا يحل حتى

يبلغ الهدى محله فراجعه بعضهم في ذلك فغضب وقال أنظروا ما أمرتكم به فافعلوه وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدى فلم يحل من إحرامه ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال لو استقبلت من أمري مااستدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ولولا أن معي الهدى لأحللت وقال أيضا إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله فلما كان يوم التروية احرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك فلما زالت الشمس ركب وهو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة واسمه إلال على وزن هلال وهو الذي تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند قزح وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا ثم دفع بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمى جمرة العقبة ثم رجع

إلى منزله بمنى فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنه من الهدى الذي ساقه وأمر عليا فنحر الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى وهى الصغرى وهى الدنيا إلى منى والقصوى من مكة ويختم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فإن المواقف ثلاث عرفة ومزدلفة ومنى ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمى الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بنى كنانة فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة وقد بنى بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرام إلى الحل إلا عائشة وحدها
فأخذ فقهاء الحديث كأحمد وغيره بسنته في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة
فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سف واحدة وأحرم في أشهر الحج

كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من يقول إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج كما يقول الكوفيون وأما على قول أكثر الفقهاء أنها صارت قارنة فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك
وكذلك علموا أن من لم يسق الهدى وقرن بين النسكين لا يفعله وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة على قول من قال إنها كانت قارنة
ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء كأحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه ومن قال من أصحاب أحمد إنه تمتع وحل من إحرامه فقد غلط وكذلك من قال إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط
وأما من توهم من بعض الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للأفراد إذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه أحد ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته صلى الله عليه وسلم فأنه لا خلاف بينهم أنه صلى الله عليه وسلم لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هى ولا كان صلى الله عليه وسلم أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة
فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط
وسبب غلطه ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة

النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت عن أنس ابن مالك أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لبيك عمرة وحجا ) وعن عمر أنه اخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاني آت من ربي يعني بوادي العقيق وقال قل عمرة في حجة ولم يحك أحد لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم به إلا عمر وأنس
فلهذا قال الإمام أحمد لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأما ألفاظ الصحابة فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه فهذا التمتع العام يدخل فيه القرآن ولذلك وجب عليه الهدى عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وإن كان اسم التمتع قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته فمن قال منهم تمتع بالعمرة إلى الحج لم يرد أنه حل من إحرامه ولكن أراد أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج لكن لم يبين هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين أو أحرم بالحج بعد ذلك فإن كان قد أحرم قبل الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين وهو لم يكن حل من إحرامه فهذا يسمى متمتعا لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ويسمى قارنا لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة ولهذا يسميه بعض أصحابنا متمتعا ويسميه بعضهم قارنا ويسميه بعضهم بالإسمين وهو الأصوب وهذا التمتع الخاص فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد


ومع هذا فالصواب ما قطع به أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج قبل الطواف لقوله لبيك عمرة وحجا ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه { فصيام ثلاثة أيام في الحج } لأن العمرة دخلت في الحج كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم
وإذا كانت عمرة التمتع جزءا من حجه فالهدى المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم } وذلك إشارة إلى الهدي المسوق فإنه نذر ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره لأن نحره إنما يكوه عند بلوغه محله وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله لأنه تبع له وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر إذ قبل ذلك لا يحل مطلقا لأنه يجب عليه أن يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة فإنه حل حلا مطلقا
وأما ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة ثم المقام بعرنه التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنه فهذا كالجمع عليه بين الفقهاء وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة
ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر وأن ينفردا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام أحمد
وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي وأحمد عن هذا فطردوا قياسهم في

الجمع واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد
وهذا ليس بحق فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير وإنما جمع لنحو الوقوف لأجل أن لا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها كما قال أحمد أنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفرق الصلوات
ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة فالجمع ليس من خصائص السفر وهذا بخلاف القصر فإنه لا يشرع إلا للمسافر
وبهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع حتى أمر أحمد وغيره أن الموسم لا يقيمه أمير مكة لأجل قصر الصلاة
وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي الخطاب في عبادته الخمس إلا أنه يقصر المكيون وغيرهم وأن القصر هناك لأجل النسك
والحجة مع هؤلاء أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى خلفه بعرنه ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلى بهم بمكة أيام فتح مكة حين قال لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر


فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعا ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا
ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه أخذا فيه بالعمومات اللفظية أو القياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة فرمى جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بممنى ولهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الجمرة كان كما يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد ورمى الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام
ومثل هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلى تحية المسجد كسائر المساجد ثم يطوف طواف القدوم أو نحوه وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا أما أولا فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف
وأما ثانيا فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما أن تحية سائر المساجد هي الصلاة
وأشنع من هذا استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا و المروة أ ن يصلى ركعتين بعد السعي على المروة قياسا على الصلاة بعد الطواف وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح فأن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه طافوا

وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات أو بالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه بعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس التراويح على إمام واحدا وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع
فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس بمثله وإنجاز القياس في النوع الأول وهو مثل قياس صلاة العيدين والإستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الإستلام والتقبيل ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا { إنما البيع مثل الربا }
و أخذ فقهاء الحديث كالشافعي و أحمد و غيرهما مع فقهاء الكوفة ما عليه جمهور الصحابة و السلف بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة
و ذهب طائفة من السلف من الصحابة و التابعين و أهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة لأنها إجابة فتنقطع بالوصول إلى المقصد و سنة رسول الله عليه وسلم هي التي يجب إتباعها
و أما المعنى فإن الواصل إلى عرفة و إن كان قد وصل إلى هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر وهو مزدلفة فإذا قضى الوقوف بمزدلفة

فقد دعي إلى الجمرة فإذا شرع في الرمي فقد انقضى دعاؤه ولم يبق مكان يدعى إليه محرما لأن الحلق و الذبح يفعله حيث أحب من الحرم وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول
ولهذا قالوا أيضا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر و إن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا يلبي إلى أن يصل إلى الحرم فإنه و إن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت
نعم يستفاد من هذا المعنى أنه إنما يلبي حال سيره لا حال الوقوف بعرفة و مزدلفة و حال المبيت بها و هذا مما اختلف فيه أهل الحديث
فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه
و اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال و ذكاه على ثلاثة أقوال
فقالت طائفة من السلف هو حرام إتباعا لما فهموه من قوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } و لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه رد لحم الصيد لما أهدى إليه
و قال آخرون منهم أبو حنيفة بل هو مباح مطلقا عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي و أهدى لحمه للنبي صلى الله عليه وسلم و أخبره بأنه لم يصده له كما جاء في الأحاديث الصحيحة
و قالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم إذا لم يصده له المحرم و لا ذبحه من أجله توفيقا بين الأحاديث كما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحم صيد البر لكم حلال و أنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم قال الشافعي هذا أحسن حديث في هذا الباب و أقيس و هذا مذهب مالك و أحمد و الشافعي و غيرهم


و إنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه فهل يباح لغيره من المحرمين على قولين هما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله تعالى

فصل
و أما العقود من المعاملات المالية و النكاحية و غيرهم
فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات
فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال
أحدها أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ و العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب و القبول سواء في ذلك البيع و الإجارة و الهبة و النكاح و الوقف و العتق و غير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع و الوقف و يكون تارة رواية مخرجة كالهبة و الإجارة
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في الأخرس و يقيمون الكناية أيضا مقام العبارة عند الحاجة و قد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه و كذلك الهدية و نحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } و المعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة و نحوها تحتمل وجوها كثيرة و لأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر و الدعاء في العبادات
و القول الثاني أنها تصح بالأفعال فما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات

المحقرات و كالوقف في مثل من بنى مسجدا و أذن للناس في الصلاة فيه أو سبل أرضا الدفن فيها أو بنى مطهرة و سبلها للناس و كبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح و كالهدية و نحو ذلك فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس و لأن الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم و إلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود
وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد و وجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف
و القول الثالث أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل و بكل ما عده الناس بيعا أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تنوعت لغاتهم فإن ألفاظ البيع و الإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة
ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم و إن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك و ظاهر مذهب أحمد و لهذا يصحح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا و إن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا بدراهم فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدراهم فيعطيه ما يقبضه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن و يقبض جزرة البقل أو الحلواء أو غير ذلك

كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع له ليوضع بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يحكيه التجار عن عادة بعض أهل المشرق فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع و كذلك في الهبة كل ما عده الناس هبة
ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية و كذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري و ركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه الذي اعتقد أنه إجارة و مثل الدخول إلى الحمامات التي يدخلها الناس بالأجر و مثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواء يطبخ أو يشوي بالأجر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح حتى اختلف أصحابه في الخلع هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المعتاد من أن ذلك رضا منه بالمعاوضة
فذهب العكبريون كأبي حفص العكبري و أبي على بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح و ذكروا من كلام أحمد ومن قبله من السلف من الصحابة و التابعين ما يوافق قولهم و لعله هو الغالب على نصوصه بل لقد نص على أن الطلاق يقع بالقول و بالفعل و احتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ) قال و إذا كتب فقد عمل
و ذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام و ذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح و النكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه
و أما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد و القاضي و أصحابه مثل أبي الخطاب

و عامة المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح و التزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية تفتقر إلى نية و الشهادة شرط في صحة النكاح و الشهادة على النيه غير ممكنة و منعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك
وقال أكثر هؤلاء كابن حامد و القاضي و المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان و إن قدر على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين و أن فيه ثواب التعبد
وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا في ذلك و إنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال { خالصة لك من دون المؤمنين } و هذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك و جعلت عتقك صداقك و بقوله جعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته
فاختلف أصحابه فأما أبو عبد الله بن حامد فطرد قياسه و قال لا بد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين
و أما القاضي أبو يعلى و غيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد و أن ذلك من صور الاستحسان
و ذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح و التزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد و أصوله
و مذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فأن أصحاب مالك اختلفوا هل

ينعقد بغير لفظ الإنكاح و التزويج على قولين و المنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من هبة البضع بغير مهر قال ابن القاسم و إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندي جائز و ما ذكره بعض أصحاب مالك و أحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن الحكم مبني على مقدمتين
إحداهما أن ما سوي ذلك كناية وأن الكناية مفتقرة إلى النية و مذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة و تقوم مقام إظهار النية و لهذا جعلا الكنايات في الطلاق و القذف و نحوهما مع دلالة الحال كالصريح
و معلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من اجتماع الناس لذلك و التحدث بما اجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكها لك بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح و قد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا و ملاكا و لهذا روى الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة أنكحتكها بما معك من القرآن و تارة ملكتكها و إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه اقتصر على ملكتكها بل إما أنه قالهما جميعا أو قال أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا و تارة هكذا
ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد و نصوصه و عن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر و المسلم و هو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق و الصدقة و معلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي و لا عجمي و كذلك الصدقة و الوقف و الهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع

ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها
نعم لو قيل تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روي عن مالك و أحمد و الشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع
وقد ذكر أصحاب مالك و الشافعي و أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل و المتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا و تحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع و إن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه حتى قالوا لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته و اعتقداه نكاحا أقرا عليه و إلا فلا
و معلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر و إنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } وقال { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } فأمر بالولي الشهود و نحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح و صيانة للنساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف و الوليمة الموجبة لشهرته و لهذا جاء في الأثر المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها و أمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا فإنه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح و بأنه يحفظ النسب عند التجاحد
فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب و السنة و الآثار حكمتها بينة

فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر
وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه و تعالى قال { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } و قال { وأنكحوا الأيامى منكم } و قال { وأحل الله البيع } وقال { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وقال { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } و قال { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } وقال { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } وقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وقال { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم } و قال { فتحرير رقبة } وقال { فطلقوهن لعدتهن } وقال { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود إما أمرا و إما إباحة و المنهي فيها عن بعضها كالربا فإن الدلالة فيها من وجوه
أحدها أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } و بطيب نفس في التبرع في قوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية في

جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم و أفعالهم أنهم يعلمون التراضي و طيب النفس بطرق متعددة من الأقوال و الأفعال
فنقول قد وجد التراضي و طيب النفس و العلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها و إذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن و بعض الناس قد يحمله اللد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب لأن الفطرة السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب
الوجه الثاني أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والصيام والحج وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم ( من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه )
ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة و التابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم و أنه من البدع و ليس لذلك حد في لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر

بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا و الأصل بقاء اللغة و تقريرها لا نقلها و تغييرها فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس و عاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة
الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال و الأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم و عادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع
و أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه و الأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى و ذلك لأن الأمر و النهي هما شرع الله و العبادة لا بد أن يكون مأمور ا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور و لهذا كان أحمد و غيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله و إلا دخلنا في معنى قوله تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }
و العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه و إلا دخلنا في معنى قوله { أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } و لهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله و حرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون }

فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين و حرمت عليهم ما أحللت لهم و أمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
وهذه قاعدة عظيمة نافعة و إذا كان كذلك فنقول
البيع و الهبة و الإجارة و غيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل و الشرب و اللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد و أوجبت ما لا بد منه و كرهت ما لا ينبغي و استحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات و مقاديرها و صفاتها
و إذا كان كذلك فالناس يتبايعون و يستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون و يشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة و إن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي
و أما السنة و الإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة من أنواع المبايعات و المؤاجرات و التبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين و الآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض التنبيه على القواعد و إلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا
فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده و المسلمون بنوا المساجد على عهده و بعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من بنى لله مسجدا بنى الله

له بيتا في الجنة ) فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال هو لك يا عبد الله ابن عمر و لم يصدر من ابن عمر قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا و كان الاقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى و يكون الإعطاء هو الإيجاب و الأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم و للعباس و غيرهم
وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات
وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ) ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض وجوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات
والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحول والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجوع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر
ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف

بطريق الوكالة كالإذن اللفظي فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم برضي المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا
وعلى هذا يخرج مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه صلى الله عليه وسلم اللحام سادس ستة اتبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن استوهبه كبة شعر أما ما كان لي و لبني عبد المطلب فقد وهبته لك و كذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس
وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزم و عروة بن الجعد لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم في شراء شاه بدينار فاشترى شاتين و باع إحداهما بدينار
فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة و تارة بالتبرع و تارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص

فصل
القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها
و الأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل و ذم الأحبار و الرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل و ذم اليهود على أخذهم الربا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل و هذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات و التبرعات و ما يؤخذ بغير رضا المستحق و الاستحقاق
و أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما الربا

و الميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة و سور آل عمران و الروم و المدثر و ذم اليهود عليه في سورة النساء و ذكر تحريم الميسر في المائدة
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما رواه مسلم و غيره عن أبي هريرة رضي الله عنه و الغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار و ذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتني و أخذت مالي بثمن قليل و إن لم يحصل قال المشتري قمرتني و أخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة و البغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم و عداوة و بغضاء
و ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة و الملاقيح و المضامين و من بيع السنين و بيع الثمر قبل بدو صلاحه و بيع الملامسة و المنابذة و نحو ذلك كله من نوع الغرر و أما الربا فتحريمه في القرآن أشد و لهذا قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } و ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه و ذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم و صدهم عن سبيل الله و أخذهم الربا و أكلهم أموال الناس بالباطل و أخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات و كلاهما أمر مجرب عند الناس
و ذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج و إلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة

بألف و مائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف و إنما يأخذ المال بمثله و زيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد و قد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها و الربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني و الفقير في الدين و الدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه و ظلمه زيادة أخرى و الغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم و يعظمه لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الأخذ و موكله وهو المحتاج المعطي الزيادة و شاهديه و كاتبه لإعانتهم عليهم
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذا العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا و الدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق و نحو ذلك و لذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس و معاوية و غيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت و أبي سعيد و غيرهما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل
و أما الغرر فإنه ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة و بيع السنين و إما المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق و إما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي
فأما المعين المعلوم جنسه و قدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه و نحو ذلك ففيه خلاف مشهور و تغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة و عن أحمد فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح

بيعه بحال كقول الشافعي الجديد و الثانية يصح و إن لم يوصف و للمشتري الخيار إذا رآه كقول أبي حنيفة و قد روي عن أحمد لا خيار له و الثالثة وهي المشهور أنه لا يصح بالصفة ولا يصح بدون الصفة كالمطلق الذي في الذمة و هو قول مالك
و مفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة و إن لم يعلم دواخل الحيطان و الأساس و مثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع و إن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن و إن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا و كذلك اللبن عند الأكثرين و كذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة و ذهب إليه الجمهور كمالك و الشافعي و أحمد و إن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد
و جوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل
فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا و تبعا ما لا يجوز من غيره
و لما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص فلم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب على اختلاف القولين الشافعي و أحمد و إن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب
إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك و إبراهيم أفقههم في الصلاة و الحسن أجمع لذلك كله و لهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته و لهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب فإنهما يحرمان

الربا و يشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه و عظم مفسدته و يمنعان الاحتيال له بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه و إن لم تكن حيلة و إن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها
و جماع الحيل نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود
فالأول مسألة مد عجوة و ضابطها أن يبيع ربويا بجنسه و معهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا و نحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار
فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك و أحمد و غيرهما و إنما يسوغ هذا من جوز الحيل من الكوفيين و إن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا
و أما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة و درهم بمد عجوة و درهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد و المنع قول مالك و الشافعي و الجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد
و أما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز
و النوع الثاني من الحيل أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه بجرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يوطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه و هي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة و نحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا و يبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة و نحو ذلك

فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن و لا بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل و يسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك
و قد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل ) وفي الصحيحين عنه أنه قال ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها و أكلوا ثمنها ) وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس قمارا من أدخل فرسا بين فرسين و قد أمن أن يسبق فهو قمار ) وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله
و دلائل تحريم الحيل من الكتاب و السنة و الإجماع و الاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك و ذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أبي أيوب و حديث تمر خيبر و معاريض السلف و ذكرنا جواب ذلك
ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روى أحمد و أبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبايعتم بالعينة و اتبعتم أذناب البقر و تركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله

عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم و إن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا و أما مع التواطؤ فربا محتال عليه
ولو كان مقصود المشتري الدرهم و ابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها و يأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق ففي كراهته عن أحمد روايتان و الكراهة قول عمر بن عبد العزيز و مالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق
ففي الجملة أهل المدينة و فقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة و أصولها و قولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة و تدل عليه معاني الكتاب و السنة
و أما الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة و الشافعي أما الشافعي فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب و الثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء و الجوز و اللوز في قشره الأخضر و كالحب في سنبله فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا و اختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الاصطخري و روى عنه أنه ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل على جواز بيعه اشتداده و إن كان في سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا و كذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع
قال ابن المنذر جواز ذلك هو قول مالك و أهل المدينة و عبيد الله ابن الحسن و أهل البصرة و أصحاب الحديث و أصحاب الرأي و قال الشافعي مرة لا يجوز

ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه و قال به قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به
و ذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة و غير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر و إن وصف حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات و ضبطها ما لم يشترط غيره و لهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين و الدين بمثل هذا القول و قاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات و المعاوضات فاشترط في أجرة الأجير و فدية الخلع و الكتابة و صلح أهل الهدنة و جزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عينا و دينا ولم يجوز في ذلك جنسا و قدرا و صفة إلا ما يجوز مثله في البيع و إن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر
و أما أبو حنيفة فإنه يجوز بيع الباقلاء و نحوه في القشرين و يجوز إجارة الأجير بطعامه و كسوته و يجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة من المثل و يجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة و المزارعة و نحوهما من المعاملات مطلقا و الشافعي يجوز بيع بعض ذلك و يحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع و الإجارة و النكاح و غير ذلك مما يخالف مطلق العقد
و أبو حنيفة يجوز بعض ذلك و يجوز من الوكالات و الشركات مالا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة و الوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا
فبينهما في هذا الباب عموم و خصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك
و أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء و جميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع

المقاتي جملة و بيع المغيبات في الأرض كالجزر و الفجل و نحو ذلك
و أحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء و يجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده و نحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل و إن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب و منهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر و فدية الخلع و نحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز و يجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية و إن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر و نحوه إلا إذا قلع و قال هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه و المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء و الخيار و الباذنجان و نحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاتي و المباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن و لا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة و الشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر و الفجل و البصل و ما أشبه ذلك كقول مالك
وقال الشيخ أبو محمد إذا كان مما يقصد فروعه و أصوله كالبصل المبيع أخضر و الكراث و الفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر و يدخل ما لم يظهر في البيع تبعا و إن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب و إن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتياد الشرط و إنما سقط في الأقل التابع
و كلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال قلت لأحمد بيع الجزر في الأرض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية


فقد يقال إن لم يره كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد
وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غلبا فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضراوات كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحرث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يحز وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هى المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر
وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين
أحدهما جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره ولا شك انه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب
والثاني أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين
أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها

ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شئ إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد
الثاني أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع الى أكل الثمر فحاجة البائع هنا أو سحد بكثير وستقرر ذلك إن شاء الله
وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة
وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه
والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقى الثمرة ويستحق إبقائها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك


وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها على روايتين
أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهى اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا
والرواية الثانية يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعها
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد
واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد
أحدهما المنع وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد
والثاني الجواز وهو قول أبي الخطاب
وزاد الليث على هؤلاء فقال صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار
ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما فإنه قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح
ومأخذ من منع ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى يبدو صلاحها ) ) يقتضي بدو صلاح الجميع

والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه أمر لا ينضبط فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت
والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أخرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان فى وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبي يعلى يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا به وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلى )
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن

هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول كل مجتهد مصيب وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده
وأما الجمهور الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاد في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهاد ن العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوج ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد
وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضتهم لأنهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده
وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان
أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثير ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب
والثاني لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذا أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه
هذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل

بعد وضوحه له فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله و إن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات و الواقع منها و هذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول و إن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه و اللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين
و سبب الفرق بين أهل العلم و أهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد و الاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله و إن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل و إن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا و كما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك و إن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد و إن كان قد يكون غير مطابق و إن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق و اتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } و يجزمون بما يقولونه بالظن و الهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا و يقصدون ما لم يؤمروا بقصده و يجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من

الاجتهاد و القصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه و أما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق و يعاند عنه
وثم قسم آخر وهم غالب الناس وهو أن يكون له هوى وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة فتجتمع الشهوة و الشبهة و لهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات و يحب العقل الكامل عند حلول الشهوات )
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور و صاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب و أما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب و بحسب الحسنات الماحية
و أكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك
وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك و أصول أحمد و بعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال و عليه يدل غالب معاملات السلف و لا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به و كل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة و إما أن يحتال و قد رأينا الناس و بلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك و نحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها و إنما هي من جنس اللعب
و لقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود و كما قال تعالى

{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذا الذنب ذنب عملي و إما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد و إلا فمن اتقى الله و أخذ ما أحل له و أدى ما أوجب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج و إنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم و السبب الثاني هو عدم العلم و الظلم و الجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله تعالى 33 72 { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }
و أصل هذا أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم و الميتة و لحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر و الربا و ما يدخل فيهما بنوع من الغرر و غيره لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها و رسوله بقوله سبحانه 5 91 { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة و البغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المغالبة بلا فائدة و أخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك و كذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس و حضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم و اختلافهم و ذكر خارجة بن زيد أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر رواه البخاري تعليقا و أبو داود إلى قوله خصومتهم و روى أحمد في المسند عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه

و سلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة فقال ( ما هذا فقيل له إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابنا الدمان و القشام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها )
فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما أفضت إليه من الخصام و هكذا بيوع الغرر و قد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر و ابن عباس و جابر و أنس وفي مسلم من حديث أبي هريرة و في حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل و ما تزهى قال ( حتى تحمر أو تصفر ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ) و في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر و تصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك قال أبو مسعود الدمشقي جعل مالك و الداروردي قول أنس أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أدرجاه فيه و يرون أنه غلط
فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكل للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون
و إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة و البغضاء و أكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل و السهام و الإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعروض و إن لم يجز غيره بعوض و كما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل و إن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه

و سلم بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه و تأديبه فرسه و ملاعبته امرأته فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا
و معلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل لأن الغرر فيها يسير كما تقدم و الحاجة إليها ماسة و الحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر و الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية و لهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى و لهذا كان مذهب أهل المدينة و فقهاء الحديث أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق ) وفي رواية لمسلم عنه ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح ) و الشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث و إنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه أخذ في ذلك بقول الكوفيين إنها تكون من ضمان المشتري لأنه مبيع قد تلف بعد القبض لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض التخلية بين المشتري و بينه قبض و هذا على أصل الكوفيين أمشى لأن الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله و ضعفه مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع و ينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فإن المشتري

للثمرة إنما يتمكن من جذادها عند كمالها و نضجها لا عند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك في البيع
و أبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة و أن المشتري لم يملك الإبقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي و سنذكر أصله
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه و تذهب عنه الآفة ) و في لفظ لمسلم عنه نهى عن بيع النخل حتى تزهى و عن السنبل حتى يبيض و يأمن العاهة نهى البائع و المشتري و في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض
فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فإنه بعد بدو صلاحه و أمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد و ليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين 68 17 إلى 18 { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون } وما ذكره في سورة يونس في قوله 10 24 { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } و إنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها وهذا إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب و قبل ظهور النضج في الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح و بيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة و إيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر


فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين و ضاق عليه عقله و دينه
و أيضا ففي صحيح مسلم عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء
ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل و الموزون من الحيوان و نحوه كما عليه فقهاء الحجاز و الحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجب لرد المثل و الحيوان ليس بمثلي و بناء على أن ما سوى المكيل و الموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال
وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة
وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب و إلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي و أنه مضمون في الغصب و الإتلاف بالقيمة
و أيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد و الجداد وفيه روايتان عن أحمد أحدهما يجوز كقول مالك و حديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه
و أيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة }

و السنن في حديث بروع بنت واشق و إجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق و تستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم و إذا مات عند فقهاء الحديث و أهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق وهو أحد قولي الشافعي وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن بيع اللمس و النجس و إلقاء الحجر فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر و أن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر فدل على الفرق بينهما
و سببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدودة بل المرجع فيها إلى العرف فلذلك عوضه الآخر لأن المهر ليس هو المقصود و إنما هو نحلة تابعة فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه و لذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم و خيرهم بين السبي و بين المال فاختاروا السبي قال لهم إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين و نستشفع بالمسلمين على رسول الله و قام فخطب الناس فقال إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا فهذا معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متقارب غير محدود و قد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم و غلبهم على الأرض و الزرع و النخل فصالحوه على أن يجلو منها ولهم ما حملت ركابهم و لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء و البيضاء و الحلقة وهي السلاح و يخرجون منها و اشترط عليهم أن لا يكتبوا و لا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم

وعن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر و البقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين و عارية ثلاثين درعا و ثلاثين فرسا و ثلاثين بعيرا و ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها و المسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غارة رواه أبو داود
فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات المسلم و كذلك عارية خيل و إبل و أنواع من السلاح مطلقة موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق و الكتابة و الفدية في الخلع و الصلح عن القصاص و الجزية و الصلح مع أهل الحرب ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن و الأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما إنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون أيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر و الحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده

فصل
و مما تمس الحاجة إليه من فروع هذا القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عمت به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها لا سيما دمشق و ذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس و أرض تصلح للزرع و ربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها و يزدرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض و وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال


أحدها أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين و الشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه
و القول الثاني يجوز إذا كان الشجر قليلا و كان بياض الثلثين أو أكثر و كذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب و نحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين قال الكرماني قيل لأحمد الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات قال أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر و كأنه لم يعجبه أظنه أراد الشجر لم أفهم عن أحمد أكثر من هذا
وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف روايتان و أكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز و إن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن و لأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض و الشجر
و هذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها و اشتراء النخل و دخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات و العنب في الإجارة تبعا
و حجة الفريقين في المنع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع السنين و بيع الثمر حتى يبدو صلاحه كما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع و المبتاع و فيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل و ما تشقح قال تحمار و تصفار و يؤكل منها وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير من كلام سعيد ابن المثنى المحدث عن جابر


وفي الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية لهما وعن بيع السنين بدل المعاومة وفيهما أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زبد قلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم وفيهما عن أبي البحتري قال سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحرز وفي مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبتاعوا الثمر بالتمر )
وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز قالوا فإذا أكره الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم منع منه مطلقا طردا لعموم القياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال الضرر اليسير يحتمل في العقود كما لو ابتاع النخل وعليه ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبد صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز إفراده بالعقد
وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع في الحال فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقاءه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل

و ذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير إجماع
و القول الثالث أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر و دخول الشجر في الإجارة مطلقا وهذا قول ابن عقيل و إليه مال حرب الكرماني هذا القول كالإجماع من السلف و إن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روى سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله قال حدثنا عباد بن عباد بن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي و عليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه فقبلهم أرضه سنين و فيها النخل و الشجر
و أيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد و غيرها فأقر الأرض التي فيها النخل و العنب في أيدي أهل الأرض و جعل على كل جريب من جرب الأرض السواد و البيضاء خراجا مقدرا و المشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم و على جريب النخل ثمانية دراهم و على جريب الرطبة ستة دراهم و على جريب الزرع درهما و قفيزا من طعام
و المشهور عند مالك و الشافعي و أحمد أن هذه ا لمخارجة تجري مجرى المؤاجرة و إنما لم يؤقته لعموم المصلحة و أن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر و المسلمون في زمانه و بعده و لهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه المفاصلة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء
و حجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة و الحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر و ما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر و قد لا يساقى عليها
وهذا كما أن مالكا و الشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث كما قال في بيع الشجر تبعا للأرض وكذلك

الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه و إن كان كثيرا و النخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان
هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد و سوى بينهما في الجزء المشروط كالثلث و الربع فأما إن فاضل بين الجزءين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك إن فرق بينهما في عقدين و قدم المساقاة فيه وجهان فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا
فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض
وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك و لأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه و مرتكب لما يظن أنه حرام و صابر و متضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط و يبيحه ثمر الشجر كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها يبيعه إياها مطلقا أو بشرط القطع بجميع الأجرة و يبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة و الثوري و غيرهما و تارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة و يساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك
وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبي يوسف و محمد و الشافعي في القديم فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال و كذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل و العنب فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض و يتبرع له إما بإعراء الشجر و إما بالمحاباة في مساقاتها
و لفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعني حيلة المحاباة في المساقاة و المنصوص عن أحمد و أكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك و غيره


و المنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل سلف و بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك رواه الأئمة الخمسة أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي و ابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح فنهى صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف و بيع فإذا جمع بين سلف و إجارة فهو جمع بين سلف و بيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع و الإجارة مثل الهبة و العارية و العرية و المحاباة في المساقاة و المزارعة و المبايعة و غير ذلك هي مثل القرض
فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة و تبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزءا من العوض فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالاقتراض إلا بالثمن الزائد للسلعة و المشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف و السلعة بألفين فهي مسألة مد عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف و هكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر و رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها و إن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة فالثمرة هي المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر
و الذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة بين أمرين إما أن يفعلوا ذلك للحاجة و يعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس و إما أن يتركوا ذلك و يتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل

عليهم من الضرر و الإضرار ما لا يعلمه إلا الله و إن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط فضلا عن شريعة قال الله فيها 22 78 { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم } وفي الصحيحين إنما بعثتم ميسرين و يسروا ولا تعسروا ليعلم اليهود أن في ديننا سعة فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا
و الغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال و الآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ومن استقرأ الشريعة في مواردها و مصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقوله { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ و لا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة و المنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون فإنه يؤمر بالتوبة و يباح له ما يزيل ضرورته فيباح له الميتة يقضي عنه دينه من الزكاة و إن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال و حاله كحال الذين قال الله فيهم { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } و قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها
وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره ابن عقيل هو قياس أصول أحمد و بعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد

الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا و عقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول
الوجه الأول ما ذكرناه من فعل عمر في قصة أسيد بن الحضير فإنه قبل الأرض و الشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل و الشجر كان قليلا فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة كان الغالب عليها الشجر و أسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار و مياسيرهم فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا و كذلك ما ضربه من الخراج على السواد فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض و الشجر كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير } ومنه خراج العبد فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله فمن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره و إنما جوزه الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه و الحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء
فإنه إن قيل يمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة و المزارعة كما فعل في أثناء الدولة العباسية إما في خلافة المنصور و إما بعده فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التي هي المساقاة و المزارعة
و إن قيل إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض و التبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها قيل قد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر
و أيضا فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار و نعلم أن السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم

بأنفسهم ولا غالبهم و نعلم أن المساقاة و المزارعة لا تتيسر في كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين و ما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر و معلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر بارد لم يكن السلف من الصحابة و التابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر بمال أسيد بن الحضير و كما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم
فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذا الإجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة و التابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم
ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر
فإن قيل فقد قال حرب الكرماني سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر القبالات ربا قال هو أن يتقبل القرية فيها النخل و العلوج قيل فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال لا بأس إنما هو الآن مستأجر قيل فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة المكروهة قال حرب حدثنا عبيد الله ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول القبالات ربا قيل الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوها إنه ربا مع جواز تأجيله فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النساء و ذلك لا يكون إلا فيما يجوز تأجيله و إما ربا الفضل و ذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض مثل أن يقبل الأرض التي فيها

نخل بثمر فيكون المزابنة وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ففيه روايتان عن أحمد إحداهما أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة تكون أكثر أو أقل فيظهر الربا
فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل و الفلاحون من جنس مغلها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر و أرض وفيها فلاحون يعملون تغل له ما تغل من الحنطة و التمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة و التمر و نحو ذلك فهذا مظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم و الدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر
ثم إن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الإجارة عنده جائزة و إن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخد بدلها فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء به عن أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وإنما يكتريه ليكويه فقط فقد قيل هو ربا
والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا كانت

بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فإن العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج
وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها مع إكراء الشجر بنصف ثمره فقياس عليه إكراء الأرض والشجر بشئ مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان
الأصل الأول أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ومالا يتم المباح إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ومالا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان
وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص فيه
و أيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكترى مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد يخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح في جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس وبه فسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا

كانت الأرض و المساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه إذا أكرى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر و السقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا و إن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة و إن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعى أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض و المساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة
فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة و إن لم يجز إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ولهذا وجب عند أحمد و أكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه إن كان المشترك منفعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم و عتق عليه العبد و إلا فقد عتق عليه ما عتق أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقويم العبد كله و بإعطاء الشريك حصته من القيمة و معلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف و إذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى و إنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة و إنما يمكن ذلك عند بيع الجميع فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى و لذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها و إن أمكن تفريقهما بالحلب و إن كان بيع اللبن وحده لا يجوز


وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن و أما إن كان المقصود هو الثمر فقط و منفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود و إنما دخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل في مسائل مد عجوة لم يجئ هذا الأصل
الأصل الثاني أن يقال إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراه الأرض للازدراع و استئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع و إن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر و لبن الآدميات و البهائم و الصوف و الماء العذب فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء و لهذا جرت في الوقف و العارية و المعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار و العيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام و نحوه فلا يوقف
و أما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر و ما أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية و غير ذلك عارية و شبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم منيحة لبن أو منيحة ورق فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها و يأخذ

ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها و ليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه 65 6 { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها و اللبن دخل ضمنا و تبعا كنقع البئر و هذا مكابرة للعقل و الحس فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله { فإن أرضعن لكم } و ضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك و إنما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة و ليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإن لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها
فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها و استيفاء المنفعة و حال تشبه في الأعيان المحضة وهي حال انفصالها و قبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها و يعمل عليها حتى تصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض و يبذرها و يسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا و أن كان المشتري هو الذي يجد و يحصد كما لو باعها على الأرض و كان المشتري هو الذي ينقل و يحول و لهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة و الزرع و أما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى المكري حتى يسقيها و يلقحها و يدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها و يبذرها و يسقيها و لهذا سوى بينهما في المساقاة و المزارعة فكما أن كراء الأرض ليس

ببيع لزرعها فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة من النماء وهذا كراء بعوض معلوم فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها و تحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة و المزارعة و ليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كماله تأثير في الإنبات و مع عدم العمل عليها قد يعدم الثمر و قد ينقص فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإن بيع محض للثمرة لا إجارة للشجر و يكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده
فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا
يقال مثله في إكراء الأرض فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا
و إن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت
قيل المعقود عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج و معلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع و الثمر و إنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى و إن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك
فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ليس كاكترائها للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها
وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا


فظهر به أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة قبل زهوها و بيع الحب قبل اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها و زرعها بعمله و سقيه ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى
يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها و العمل عليها حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفية و مؤنه التوفية على البائع كالكيل و الوزن و أما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل أصلا و إنما عليه التمكين من العمل يحصل به الثمر و الزرع
ولكن يقال طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يفعلها و يسقيها و يحتلب لبنها
قيل إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها و يسقيها بجزء من درها و نسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها بشيء من مضمون
و إن قيل فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي التي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع و حينئذ فالقياس جوازه ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا و أما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر اللبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة و احتلابه كقطافها وهو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا يباع لبن في ضرع بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها و يحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض و الشجر


هذا إذا أكرى الأرض و الشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها و يأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط و أكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل و بعضه عن مالك و أحمد في إحدى الروايتين إذا كان الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق كما تقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى و الثمرة مقصود كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكتري في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن
وعلى ذلك الأصل فيجوز و إن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه و بين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع و إجارة بخلاف القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن و بعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر و لهذا يسميه الناس ضمانا إذ ليس هو بيعا محضا و لا إجارة محضة فسمى باسم الالتزام العام في المعاوضات و غيرها وهوالضمان كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه و كذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذلك يسمى إجارة وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء وفيه بيع أيضا
فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا و إنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا و يريد أن يقيم في الحديقة لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة

إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها و احتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه و لهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى و الشجر قليل مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب و نحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك و قياس أكثر نصوص أحمد و غيره و إن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق بينهما مالك و أحمد و إن كان المقصود السكنى و الأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى و الشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق و أما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف فالجمع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقتاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه و استأجر منه عملا في الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين و إجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين
ولو لم تكن السكنى المقصودة و إنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس و السقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا و غيرهم و قررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة و المنفعة و ربما كان أشد فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير و قد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم وما يزال العلماء و المؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم

مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية و القياسية التي اعتقدوا شمولها من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقتاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد و إن كانت المشقة في المقتاة أوكد و لهذا جوزها من منع الأجناس كمالك
فإن قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لمعين وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل في النهى فكيف تخالفون النهى
قلنا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاتي مع أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك بطريقين
أحدهما أن يقال إن النهى لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى 24 62 { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } وفي قوله { فعصى فرعون الرسول } وإلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى

وتعريف المضاف إليه فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه
ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالأبيار والحياض التي بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي
يدل على عدم العموم في مسألتنا أن في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل و ما تزهى قال تحمر و تصفر وفي لفظ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ولفظ مسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر و إلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت و التفاح و العنب الأبيض و الإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ و الخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك و يسميه الدمشقيون الدراق أو باللين بلا تغير لون كالتين و نحوه و لذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل و ما تشقح قال تحمار و تصفار و يؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب و كذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر ) و التمر الثاني هو الرطب بلا ريب فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه و تذهب عنه الآفة وقال بدو صلاحه حمرته و صفرته فهذه الأحاديث التي فيها لفظ التمر


و أما غيرها فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو و عن السنبل حتى يبيض و يأمن العاهة نهى البائع و المشتري و المراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه صلى الله عليه وسلم قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته
فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض و إنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون و عامة معنى لكل ما كان في معناه و ما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية و الاستصحابية تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير و قد بينا انتفاءه
الطريق الثاني أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست هي مراده بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة و الإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتاع نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع أخرجاه من حديث ابن عمر فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير و معلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة و العموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف و يجوز أيضا تخصيصه بالإجماع و بالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز و اللوز فبدو الصلاح في الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة و تارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض و تارة لا يتغير


و إذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار و إنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة و الصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل
فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم المنفعة في هذه القصة التي عمت بها البلوى وفي نظائرها و انظر في عموم كلام الله و رسوله لفظا و معنى حتى تعطيه حقه و أحسن ما تستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة و جريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى 7 157 { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم }
و أما نهيه صلى الله عليه وسلم عن المعاومة الذي جاء مفسرا في رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجرة و أما اكتراء الأرض و الشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق و إنما هو نوع من الإجارة
و نظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء الأرض و أنه نهى عن المخابرة و أنه نهى عن المزارعة و أنه قال لا تكروا في الأرض فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي المخابرة و المزارعة التي كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من الكراء أو المعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح و إلى المزارعة المشروط فيها جزء معين
وهذا نهى عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى عن الغرر في جنس البيع وذاك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة و المزارعة و قد بين في كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة

والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم الميسر بقوله 5 91 { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر }

فصل
و من القواعد التي أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات و المشاركات كالمساقاة و المزارعة و نحو ذلك
فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة و المزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الإجارة لأنها عمل بعوض و الإجارة لا بد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روى أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره و عن النجش و اللمس و إلقاء الحجر و أن العوض في المساقاة و المزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع و الثمر قليلا و قد يخرج كثيرا وقد يخرج على صفات ناقصة وقد لا يخرج فإن منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل باطلا وهذا قول أبي حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا
و أما مالك و الشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة إدخالا لذلك في الغرر لكن جوزا منه ما تدعو إليه الحاجة
فجوز مالك و الشافعي في القديم المساقاة مطلقا لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه و المالك قد يتعذر عليه سقي شجره و خدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فإنه يمكنه كراء الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من المزارعة ما يدخل في المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت المزارعة عليه تبعا للمساقاة
و مذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل بمطلق العقد فإن شرطاه بينهما جاز وهذا إذا لم يتجاوز الثلث
و الشافعي لا يجعله للعامل لكن يقول إذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه

جازت المزارعة عليه و لأصحابه في البياض إذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان
وهذا إذا جمعهما في صفقة واحدة فإن فرق بينهما في صفقتين فوجهان
أحدهما لا يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد
و الثاني يجوز إذا ساقى ثم زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما إذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا إذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث و الربع فإن فاضل بينهما ففيه وجهان
وروى عن قوم من السلف منهم طاووس والحسن وبعض الخلف المنع من إجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير
وروى حرب عن الأوزاعي أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأن ذلك في معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجرة لاستثمارها وقد كان طاووس يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين في المزارعة إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقى الآخر تحت الخطر إذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث على الأرض وبذرها وسقيها
وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج وحديث جابر فعن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراءالمزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله

عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشئ من التبن أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد فكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبد الله سمعت عمى وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكري ثم خشى عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض رواه مسلم وروى البخاري قول عبد الله الذي في آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو ازرعوها أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة أخرجاه في الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه ) ) أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال كانوا يزرعونها بالثلث أو الربع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من

أقسام الكتاب
1 2