كتاب : روضة الناظر وجنة المناظر
المؤلف : عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

كتاب روضة الناظر وجنة المناظر

بسم الله الرحمن الرحيم ( ربي زدني علما وفهما )
الحمد لله العلي الكبير العليم القدير الحكيم الخبير الذي جل عن الشبيه والنظير وتعالى عن الشريك والوزير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وصلى الله على رسوله البشير النذير السراج المنير المخصوص بالمقام المحمود والحوض المورود في اليوم العبوس القمطرير وعلى أصحابه الأطهار النجباء الأخيار وأهل بيته الأبرار الذين أذهب عنهم الرجس وخصهم بالتطهير وعلى التابعين لهم بإحسان والمقتدين بهم في كل زمان
أما بعد فهذا كتاب نذكر فيه أصول الفقه والاختلاف فيه ودليل كل قول على المختار ونبين من ذلك ما نرتضيه ونجيب من خالفنا فيه
بدأنا بمقدمة لطيفة في أوله ثم أتبعناها ثمانية أبواب
الأول في حقيقة الحكم وأقسامه

الثاني في تفصيل الأصول وهي الكتاب والسنة والإجماع والاستصحاب
الثالث في بيان الأصول المختلف فيها
الرابع في تقاسيم الكلام والأسماء
الخامس في الأمر والنهي والعموم والاستثناء والشرط وما يقتبس من الألفاظ من إشارتها وإيمائها
السادس في القياس الذي هو فرع للأصول
السابع في حكم المجتهد الذي يستثمر الحكم من هذه الأدلة والمقلد
الثامن في ترجيحات الأدلة المتعارضات
ونسأل الله تعالى أن يعيننا فيما نبتغيه ويوفقنا في جميع الأحوال لما يرضيه ويجعل عملنا صالحا ويجعله لوجهه خالصا بمنه ورحمته

تعريف الفقه وأصول الفقه
مقدمة
اعلم أنك لا تعلم معنى أصول الفقه قبل معرفة معنى الفقه والفقه في أصل الوضع الفهم قال تعالى أخبارا عن موسى عليه السلام واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
وفي عرف الفقهاء العلم بأحكام الأفعال الشرعية كالحل والحرمة والصحة والفساد ونحوها فلا يطلق اسم الفقيه على متكلم ولا محدث ولا مفسر ولا نحوي
وأصول الفقه أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل ( فإن الخلاف في الفقه مشتمل على أدلة الأحكام لكن من حيث التفصيل ) كدلالة حديث خاص على مسألة النكاح بلا ولي

والأصول لا يتعرض فيها لآحاد المسائل إلا على طريق ضرب المثال كقولنا الأمر يقتضي الوجوب ونحوه
فبهذا يخالف أصول الفقه فرعه ونظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية والمقصود اقتباس الأحكام من الأدلة

مقدمة منطقية
اعلم أن مدارك العقول تنحصر في الحد والبرهان وذلك لأن إدراك العلوم على ضربين إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى العالم والحادث والقديم
والثاني إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض نفيا أو إثباتا فإنك تعلم أولا معنى العالم والحادث القديم مفردا ثم تنسب مفردا إلى مفرد فتنسب الحادث إلى العالم بالإثبات فتقول العالم حادث وتنسب للقديم إليه بالنفي فتقول العالم ليس بقديم والضرب الأول يستحيل التصديق والتكذيب فيه إذ لا يتطرق إلا إلى خبر وأقل ما يتركب منه الخبر مفردان والضرب الثاني متطرق إليه التصديق والتكذيب وقد سمي قوم الضرب الأول تصورا والثاني تصديقا وسمي آخرون الأول معرفة والثاني علما وسمي النحويون الأول مفردا والثاني جملة
وينبغي أن يعرف السيط قبل مركبه فإن من لا يعرف المفرد كيف يعرف المركب ومن لا يعرف معنى العالم والحادث كيف يعرف أن العالم حادث ومعرفة المفردات قسمان أولي وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب كالموجود والشيء ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل
الثاني قسمان أيضا أولي كالضروريات ومطلوب كالنظريات فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم لا يقتنص إلا بالبرهان فذلك قلنا مدارك العقول تنحصر فيهما
أقسام الحد والحقيقي منه
فصل
والحد ينقسم ثلاثة أقسام حقيقي ورسمي ولفظي
فالحقيقي هو القول الدال على ماهية الشيء
والماهية ما يصلح جوابا لسؤال بصيغة ( ما هو ) فإن صيغ السؤال التي تتعلق بأمهات المطالب أربعة أحدها ( هل ) يطلب بها إما أصل الوجود وإما صفته والثاني ( لم ) سؤال عن العلة جوابه بالبرهان والثالث ( أي ) يطلب به تمييز ما عرف جملته الرابع ( ما ) وجوابه بالحد وسائر صيغ السؤال كمتى وأيان وأين يدخل في مطلب ( هل ) إذ المطلوب به صفة الوجود
والكيفية ما يصلح جوابا للسؤال بكيف والماهية تتركب من الصفات الذاتية
والذاتي كل وصف يدخل في حقيقة الشيء دخولا لا يتصور فهم معناه بدون فهمه كالجسمية للفرس واللونية للسواد إذ من فهم الفرس فهم جسما مخصوصا فالجسمية داخلة في ذات الفرسية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها بطل وجود الفرس ولو خرجت عن الذهن بطل فهم الفرس والوصف اللازم ما لا يفارق الذات لكن فهم الحقيقة غير موقوف عليه كالظل للفرس عند طلوع الشمس فإنه لازم غير ذاتي إذ فهم حقيقة الفرس غير موقوف على فهمه وكون الفرس مخلوقة أو موجودة أو طويلة أو قصيرة كلها لازمة لها غير ذاتية فإنك تفهم حقيقة الشيء وإن لم تعلم وجوده والوصف العارض فما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة

الذهب والصبا والكهولة والشيخوخة أو صاف عرضية إذ لا يقف فهم الحقيقة على فهمها وتتصور مفارقتها
ثم الأوصاف الذاتية تنقسم إلى جنس وفصل فالجنس هو الذاتي المشترك بين شيئين فصاعدا مختلفين بالحقيقة ثم هو منقسم إلى عام لا أعم منه كالجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم والجسم ينقسم إلى نام وغيره والنامي ينقسم إلى حيوان وغيره والحيوان ينقسم إلى آدمي وغيره وإلى خاص لا أخص منه كالإنسان ولا أعم من الجوهر إلا الموجود وليس بذاتي ولا أخص من الإنسان إلا الأحوال العرضية من الطول والقصر والشيخوخة ونحوها
والفصل ما يفصله عن غيره ويميزه به كالإحساس للحيوان فإنه يشارك الأجسام في الجسمية والإحساس يفصله عن غيره فيشترط في الحد أن يذكر الجنس والفصل معه وينبغي أن يذكر الجنس القريب ليكون أدل على الماهية فإنك إن اقتصرت على ذكر البعيد بعدت وإن ذكرت القريب معه كررت
فلا تقل في حد الآدمي جسم ناطق بل حيوان ناطق وقل في حد الخمر شراب مسكر ولا تقل جسم مسكر ثم ينبغي أن يقدم ذكر الجنس على الفصل فلا تقل في حد الخمر مسكر شراب بل بالعكس وهذا لو ترك لشوش النظم ولم يخرج عن الحقيقة وإذا كان للمحدود ذاتيات متعددة فلا بد من ذكر جميعها ليصل بيان الماهية وينبغي أن يفصل بالذاتيات ليكون الحد حقيقيا فإن عسر ذلك عليك فاعدل إلى اللوازم لكي يصير رسميا وأكثر الحدود رسمية لعسر درك الذاتيات
واحترز من إضافة الفصل إلى الجنس فلا تقل في حد الخمر مسكر الشراب فيصير الحد لفظيا غير حقيقي وأبعد من هذا أن تجعل مكان

الجنس شيئا كان وزال فتقول في الرماد خشب محترق فإن الرماد ليس بخشب

الحد الرسمي
وأما الحد الرسمي فهو اللفظ الشارح لشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة بحيث يطرد وينعكس كقوله في حد الخمر مائع يقذف بالزبد يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن فتجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج منه خمر ولا يدخل فيه غير الخمر واجتهد أن يكون من اللوازم الظاهرة المعروفة ولا تحد الشيء بأخفى منه ولا بمثله في الخفاء ولا تحد شيئا بنفي ضده فتقول في الزوج ما ليس بفرد وفي الفرد ما ليس بزوج فيدور الأمر ولا يحصل بيان واجتهد في الإيجاز ما استطعت فإن احتجت فاطلب منها ما هو أشد مناسبة للغرض
الحد اللفظي
وأما الحد اللفظي فهو شرح اللفظ بلفظ أشهر منه كقولك في العقار الخمر وفي الليث الأسد ويشترط أن يكون الثاني أظهر من الأول
واسم الحد شامل لهذه الأقسام الثلاثة لكن الحقيقي هو الأول فإن معنى الحد يقرب من معنى حد الدار وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد فتحديدها يذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة بها مشهورة وإذا سأل عن حد الشيء فكأنه يطلب المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة ذلك الشيء وتتميز به عما سواه فلذلك لم يسم اللفظي والرسمي حقيقيا وسمي الجميع باسم الحد لأنه جامع مانع إذ هو مشتق من المنع ولذلك سمي البواب حدادا لمنعه من الدخول والخروج فحد الحد إذا هو اللفظ الجامع المانع

واختلف في حد الحد الحقيقي فقيل هو اللفظ المفسر لمعني المحدود على وجه يجمع ويمنع وقيل القول الدال على ماهية الشيءوحده قوم بأنه نفس الشيء وذاته وهذا لا معارضة بينه وبين ما ذكرناه لكون المحدود هنا غير المحدود ثم وإنما يقع التعارض بعد التوارد على شيء واحد بيانه أن الموجود له في الوجود أربع مراتب الأولى حقيقته في نفسه والثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو المعبر عنه بالعلم الثالثة اللفظ المعبر عما في النفس الرابعة الكناية عن اللفظ وهذه الآربعة متوازية متطابقة فإذا المحدود في أحد الجانبين غير المحدود في الآخر فلا معارضة بينهما والله أعلم

الحد غير مانع لتعذر البرهان على صحته
فصل
1
- وزعم أهل هذا العلم أن الحد لا يمنع لتعذر البرهان على صحته فإن الحد أقل ما يتركب من مفردين فيحتاج في البرهان عن كل مفرد إلى حد يشتمل على مفردين ثم يتسلسل ذلك إلى أن يصير إلى الأوليات المعلومة ضرورة لكن قلما يمكن إنهاؤه إليها والنظر وضع للتعاون على إظهار الحق فلا يوضع على وجهه لا يمكن إثباته أو يعسر بل طريق الاعتراض عليه بالنقض أو المعارضة بحد آخر فإن عجز المستدل عن نقض حد المعترض كان منقطعا وإن أبطله صح حده مثاله قولنا في حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير فربما قال الحنفي لا نسلم أن هذا هو حد الغصب قلنا هو مطرد منعكس فما الحد عندك فيقول إثبات اليد العادية المزيلة لليد المحقة قلنا يبطل بالغاصب من الغاصب فإنه غاصب يضمن للمالك ولم يزل اليد المحقة فإنها كانت زائلة
البرهان
فصل
في البرهان وهو الذي يتوصل به إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالنظر وهو عبارة عن أقاويل مخصوصة ألفت تأليفا مخصوصا بشرط يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر وتسمى هذه الأقاويل مقدمات ويتطرق الخلل إلى البرهان من جهة المقدمات تارة ومن جهة التركيب تارة ومنهما تارة على مثال البيت المبني تارة يختل لعوج الحيطان وانخفاض السقف إلى قرب من الأرض وتارة لشعث اللبنات أو رخاوة الجذوع وتارة لها جميعا فمن نظم البرهان يبتدىء أولا بالنظر في الأجزاء المفردة ثم في المقدمات التي فيها النظم والترتيب وأقل ما يحصل منه المقدمة مفردات وأقل ما يحصل منه البرهان مقدمتان ثم يجمع المقدمتين فيصوغ منهما برهانا وينظر كيفية الصياغة
انحصار دلالة الألفاظ في المطابقة والتضمن واللزوم
فصل
واعلم أن دلالة الألفاظ على المعنى تنحصر في المطابقة والتضمن واللزوم فالمطابقة كدلالة لفظ البيت على معنى البيت والتضمن كدلالته على السقف ودلالة لفظ الإنسان على الجسم واللزوم كدلالة لفظ السقف على الحائط إذ ليس جزءا من السقف ولكنه لا ينفك عنه فهو كالرفيق الملازم ولا يستعمل في نظر العقل ما يدل بطريق اللزوم لأن ذلك لا ينحصر في حد إذا السقف يلزم الحائط والحائط الأس والأس الأرض فلا ينحصر بل اقتصر على الأولين من المطابقة والتضمن
الجزئي والكلي من الألفاظ
ثم اللفظ ينقسم إلى جزئي وهو ما يدل على معين كزيد وهذا الرجل وحده اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد وإلى ما يدل على واحد من أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد يسمى مطلقا كقولنا فرس ورجل فإن دخلت الألف واللام صار كليا يتناول جميع ما يقع عليه ذلك
فإن قيل فالسماء والأرض والإله والشمس والقمر مدلولها مفرد مع الألف واللام قلنا إمتناع الشركة لم يكن لوضع اللفظ بل لإستحالة وجود المشارك إذ الشمس في الوجود واحدة ولو فرضنا عوالم في كل واحد شمس كان قولنا الشمس شاملا للكل
أقسام الألفاظ الكلية
ثم تنقسم الألفاظ الكلية إلى مترادفة ومتباينة ومتواطئة ومشتركة
فالمترادفة أسماء مختلفة لمسمى واحد كالليث والأسد والعقار والخمر فإن كان أحدهما يدل على المسمى مع زيادة لم يكن من المترادفة كالسيف والمهند والصارم فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبته إلى الهند والصارم يدل على عليه مع صفة الحدة فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف
والمتباينة الأسماء المختلفة للمعاني المختلفة كالسماء والأرض وهي الأكثر

والمتواطئة فهي الأسماء المنطلقة على أشياء متغايرة بالعدد متفقة في المعنى التي وضع الإسم عليها كالرجل ينطلق على زيد وعمرو والجسم ينطلق عليهما وعلى السماء والأرض لاتفاقهما في معنى الجسمية
والمشتركة فهي الأسماء التي يطلق أحدها على مسميات مختلفة بالحقيقة كالعين للعضو الناظر والذهب وقد يقع على المتضادين كالجلل للكبير والصغير والجون للأسود والأبيض والقرء للحيض والطهر والشفق للبياض والحمرة وقد يقرب المشترك من المتواطئ كالحي يقع على الحيوان والنبات يظن أنه من المتواطئ وهو من المشترك إذ المراد من حياة النبات الذي يحصل به نماؤه ومن الحيوان الذي يحس به ويتحرك بالإرادة فيسمى هذا مشتبها والمختار يطلق على القادر على الفعل وتركه فلذلك يصح تسمية المكره مختارا لأن فيه القدرة على الفعل والترك ويطلق على من تخلى في إستعمال قدرته ودواعي ذاته فلا تحرك دواعيه من خارج وهذا غير موجود في المكره فليفهم هذا وله نظائر في النظريات تاهت فيها عقول كثير من الضعفاء فليستدل بالقليل على الكثير

فصل في النظر في المعاني
سبب الإدراك يسمى قوة والمعاني المدركة ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة ففي حدقتك معنى تميزت به عن الجهة حتى صرت تبصر بها تسمى قوة باصرة وشرط البصر وجود المبصر فإذا أبصرت شيئا فهو محسوس بحاسة البصر فإذا إنعدم المبصر إنعدم الإبصار وبقيت صورته في دماغك كأنك تنظر إليها فيسمى ذلك تخيلا فغيبة الشئ تنفي الإبصار

ولا تنفي التخيل ولما كنت تحس التخيل في دماغك فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة تهيئ للتخيل وبها تباين بقية الأعضاء كمباينة العين لها وهذه القوة يشارك فيها الإنسان البهيمة فمهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته فيعرف أنه موافق له مستلذ لديه ولو لم تثبت الصورة في خياله لم يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى
ثم فيك قوة ثالثة تباين البهيمة بها تسمى عقلا محلها القلب تباين قوة التخيل أشد من مباينة قوة التخيل قوة الإبصار ثم فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصورة التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شىء آخر بل إذا خطر في الخيال صورة إنسان قدر أن يجعلها نصفين نصف إنسان ونصف فرس وربما صوره إنسانا يطير إذا ثبت في الخيال صورة الإنسان والطيران مفردين والفكرة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي الإنسان وليس لها أن تخترع صورة لا مثل لها

فصل في تأليف مفردات المعاني
والتأليف بين مفردين لا يخلو إما أن ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات كقولنا العالم حادث والعالم ليس بقديم يسمي النحويون الأول مبتدأ والثاني خبرا ويسميه الفقهاء حكما ومحكوما عليه ويسمى الجميع قضية والقضايا أربع قضية مخصوصه نحو زيد عالم وقضية جزئية نحو بعض الناس عالم وقضية كلية كقولنا كل جسم متحيز وقضية مهملة كقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر

وربما وضع بعض المغالطين المهملة موضع العامة كقول الشافعية المطعوم ربوي دليله البر والشعير فيقال إن أردت كل مطعوم فما دليله والبر والشعير ليس كل المطعومات وإن أردت البعض لم تلزم النتيجة إذ يحتمل أن السفرجل من البعض الذي ليس بربوي

البرهان
فصل
وقد ذكر أن البرهان مقدمتان يتولد منهما نتيجة ولا يسمى برهانا إلا إذا كانت المقدمتان قطعيتين فإن كانتا مظنونتين سميت قياسا فقهيا وإن كانتا مسلمتين سميت قياسا جدليا وتسميتها قياسا مجاز إذ حاصله إدراج خصوص تحت عموم والقياس تقدير شئ بشئ آخر
والبرهان على خمسة أضرب
الأول قولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام ضرورة متى سلمت المقدمتان إذ كل عقل صدق بالمقدمتين صدق بالنتيجة متى أحضرهما في الذهن ووجه دلالته أنا جعلنا السكر صفة للنبيذ ثم حكمنا على الصفة بالتحريم فبالضرورة يدخل الموصوف فيه ولو بطل قولنا النبيذ حرام مع كونه مسكرا بطل قولنا كل مسكر حرام ثم اعلم أن كل واحدة من المقدمتين تشتمل على جزئين مبتدأ وخبر فتصير أجزاء البرهان أربعة أمور منها واحد مكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة إذ لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شىء واحد مثل قولنا النبيذ مسكر والمغصوب مضمون لم ترتبط إحداهما بالأخرى ويسمى المكرر علة فإنه لو قيل لك لم حرمت النبيذ قلت لأنه مسكر ويسمى ما جرى مجرى النبيذ محكوما عليه وما جرى مجرى الحرام حكما وما يشتمل على

المحكوم عليه المقدمة الأولى وما يشتمل على الحكم المقدمة الثانية ولهذا الضرب شرطان
أحدهما أن تكون الأولى مثبتة ولو كانت نافية لم تنتج
والثاني أن تكون الثانية كلية ليدخل فيها المحكوم عليه بسبب عمومها فلو قلت النبيذ مسكر وبعض المسكر حرام لم يلزم تحريم النبيذ
الضرب الثاني أن تكون العلة حكما في المقدمتين كقولنا لا يقتل المسلم بالكافر لأن الكافر غير مكاف وكل من يقتل به مكلف فهنا ثلاث معان مكاف ويقتل به
والثالث الكافر والمكرر المكافي فهو العلة وهو الحكم في المقدمة الأولى وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية ولهذا الضرب شرطان
أحدهما أن تختلف المقدمتان في النفي والإثبات
والثاني أن تكون الثانية كلية
الضرب الثالث أن تكون العلة مبتدأ بها في المقدمتين وتسمية الفقهاء نقضا وينتج نتيجة جزئية كقولنا كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم فيه أن بعض العرض لون ومن الفقه كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي
الضرب الرابع التلازم ومثاله إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن الصلاة صحيحة فيلزم أن المصلي متطهر أو نقول إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فيلزم

أن الصلاة غير صحيحة ووجه دلالة هذه الجملة أنه جعل الطهارة شرطا لصحة الصلاة فيلزم من وجود المشروط وجود الشرط ومن إنتفاء الشرط إنتفاء المشروط ولا يلزم العكس فلو قال إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر لم يصح إذ قد تفسد الصلاة بأمر آخر وكذلك لو قال ومعلوم أن الصلاة غير صحيحة لا يلزم منه شئ إذ لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط ولا من إنتفاء المشروط إنتفاء الشرط
وتحقيقه أنه متى جعل شىء لازما لشئ فيجب أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو مساويا له إذ ثبوت الأخص يوجب ثبوت الأعم ضرورة وإنتفاء الأعم يوجب إنتفاء الأخص ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص ولا من إنتفاء الأخص إنتفاء الأعم ومثاله إذا قلنا كل حيوان جسم فيلزم من ثبوت الحيوان ثبوت الجسم ومن إنتفاء الجسم إنتفاء الحيوان ولم يلزم العكس فلذلك قلنا إنه يلزم من صحة الصلاة التطهير ومن إنتفاء التطهير إنتفاء الصلاة ولم يلزم من نفي صحة الصلاة إنتفاء التطهير ولا من وجود التطهير وجود الصحة لكون التطهير أعم من الصلاة أما إذا كان أحدهما مساويا للآخر فيلزم الوجود بالوجود والإنتفاء بالإنتفاء لإستحالة تفارقهما كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب ومعلوم أن الرجم واجب فيكون الزنا موجودا لكنه غير واجب فلا يكون الزنا موجودا لكن الزنا غير موجود فلا يكون الرجم واجبا وكذلك كل معلول له علة واحدة
الخامس السبر والتقسيم كقولنا العالم إما حادث وإما قديم لكنه حادث فليس بقديم أو لكنه قديم فليس بحادث أو لكنه ليس بحادث فهو قديم وفي الجملة كل نقيضين ينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفيه إثبات الآخر ولا يشترط إنحصار القضية في قسمين لكن من شرطه إستيفاء أقسامه أما إذا

لم يحصر إحتمل أن الحق في قسم آخر فإن كانت ثلاثة كقولنا العدد مساو أو أقل أو أكثر فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين ونفي الآخرين ينتج إثبات الثالث وإبطال واحد ينتج إنحصار الحق في الآخرين

مخالفة نظم القياس وأسبابها
فصل
وجميع الأدلة في أقسام العلوم ترجع إلى ما ذكرناه وحيث تذكر لا على هذا النظم فهو إما لقصور وإما لإهمال إحدى المقدمتين ثم إهمالهما إما لوضوحهما وهو الغالب في الفقهيات كقول القائل هذا يجب رجمه لأنه زنى وهو محصن وترك المقدمة الأولى لإشتهارها وهي كل من زنى وهو محصن فعليه الرجم وأكثر أدلة القرآن على هذا قال الله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فترك أنهما لم تفسدا للعلم وكذلك قوله تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ثم قد لا يكون الإهمال للمقدمة الأولى وقد يكون للثانية وقد تترك إحدى المقدمتين للتلبيس على الخصم وذلك بترك المقدمة التي يعسر امثالها أو ينازعه الخصم فيها إستغفالا للخصم وإستجهالا له خشية أن يصرح بها فيتنبه ذهن خصمه لمنازعته فيها وعادة الفقهاء إهمال المقدمتين فيقولون في تحريم النبيذ النبيذ مسكر فكان حراما كالخمر ولا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظام الذي ذكرناه والله أعلم
فصل حد اليقين ومداركه
اليقين ما أذعنت النفس إلى التصديق به وقطعت بأن قطعها به صحيح بحيث لو حكى لها عن صادق خلافه لم تتوقف في تكذيب الناقل

كقولنا الواحد أقل من الإثنين وشخص واحد لا يكون في مكانين ولا يتصور إجتماع ضدين ولنا حالة ثانية وهي أن تصدق بالشىء تصديقا جزميا لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضه البتة ولو أشعرت بنقيضه عسر إذعانها للإصغاء لكن لو ثبت وأصغت وحكي لها نقيضة عن صادق أورث ذلك توقفا عندها وهذا إعتقاد أكثر الخلق وكافة الخلق يسمون هذا يقينا إلا آحادا من الناس فأما ما للنفس سكون إليه وتصديق به وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر لكن إن شعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله فهو يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى النقصان والزيادة لا تحصى فمن سمع من عدل شيئا سكنت نفسه إليه فإن إنضاف إليه ثان زاد السكون حتى يصير يقينا وبعض الناس يسمى هذا الظن يقينا أيضا
ومدارك النفس خمسة
الأول الأوليات وهي العقليات المحضة التي قضى العقل بمجرده بها من غير إستعانة بحس وتخيل كعلم الإنسان بوجود نفسه وأن القديم ليس بحادث وإستحالة إجتماع الضدين فهذه القضايا تصادف مرتسمة في النفس حتى يظن انه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصولها على أمر سوى مجرد العقل
الثاني المشاهدات الباطنة كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وسائر أحواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس فليست حسية ولا هي عقلية إذ تدركها البهيمة والصبي والأوليات لا تكون للبهائم
الثالث المحسوسات الظاهرة وهي المدركة بالحواس الخمس وهي البصر والسمع والذوق والشم واللمس فالمدرك بواحد منها يقيني كقولنا الثلج ابيض والقمر مستدير وهذا واضح لكن يتطرق الغلط إليها بعوارض كتطرق الغلط إلى الآبصار لبعد أو قرب مفرط أو ضعف في العين وخفاء في المرئي وكذلك ترى الظل ساكنا وهو متحرك وكذلك الشمس والقمر

والنجوم والصبي والنبات وهو في النمو لا يتبين ذلك وأسباب الغلط في الابصار المستقيمة منها الإنعكاس كما في المرآة والانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج وغير ذلك
الرابع التجريبات ويعبر باطراد العادات ككون النار محرقة والخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر والحجر هاو وهي يقينية عند من جربها وليست هذه محسوسة فإن الحس شاهد حجرا يهوى بعينه أما إن كان كل حجرها هاويا فقضيته عامة ولم يشاهدها وليس للحس إلا قضية في عين
الخامس المتواترات كالعلم بوجود مكة وبغداد وليس هو بمحسوس إنما للحس أن يسمع أما صدق المخبر فذلك إلى العقل
فهذه الخمسة مدارك اليقين فأما ما يتوهم أنه منها وليس منها فالوهميات والمشهورات وهي آراء محمودة توجب التصديق بها أما شهادة الكل او الأكثر أو جماعة من الأفاضل كقولك الكذب قبيح وكفران المنعم وإيلام البرئ قبيح والانعام وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن

فصل في لزوم النتيجة من المقدمتين
إعلم انك إذا جمعت مفردين ونسبت أحدهما إلى الآخر كقولك النبيذ حرام فلم يصدق بينهما العقل فلا بد من واسطة بينهما تنسب إلى المحكوم عليه فتكون حكما له وتنسب إلى الحكم فتصير حكما له فيصدق العقل به فيلزم ضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه بيانه إذا قال النبيذ حرام فمنع وطلب واسطة وربما صدق العقل بوجودها في النبيذ وصدق بوصف الحرام لتلك الواسطة فيقول النبيذ مسكر فيقول نعم إذا كان قد علم ذلك بالتجربة فيقول وكل مسكر حرام فيقول نعم إذا كان قد حصل ذلك بالسماع فيلزم التصديق بأن النبيذ حرام
فإن قيل فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين قلنا هذا غلط

فإن قولك النبيذ حرم غير قولك النبيذ مسكر وغير قولك المسكر حرام بل هذه ثلاث مقدمات لا تكرير فيها لكن قولك المسكر حرام شمل للنبيذ بعمومه فيدخل النبيذ فيه بالقوة لا بالفعل إذ قد يخطر العام في الذهن ولا يخطر الخاص فمن قال الجسم متحيز قد لا يخطر بباله ذكر القطب فضلا عن أن يخطر بباله مع ذلك انه متحيز فالنتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة لا تخرج إلى الفصل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم يحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة ولا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيظن انها حامل فيقال هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم فيقال هل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم فيقال فكيف توهمت حملها فتعجب من توهمه مع علمه بالمقدمتين
فإن قيل فالمطلوب بالنظر معلوم أم مجهول إن كان معلوما كيف تطلبه وأنت واجد وإن كان مجهولا فبم تعلم مطلوبك قلت هذا تقسيم غير حاصر بل ثم قسم آخر وهو أني أعرفه من وجه دون وجه فإني افهم المفردات وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة ولا أعلمها بالفعل فهو كطلب الآبق في البيت فإني أعرفه بصورته وأجهله بمكانة وكونه في البيت أفهمه مفردا فهو معلوم لي بالقوة وأطلب حصوله من جهة حاسة البصر فإذا رأيته في البيت صدقت بكونه فيه

الإستدلال بالعلة على المعلول وعكسه
فصل
وإذا إستدللت بالعلة على المعلول فهو برهان علة كالإستدلال بالغيم على المطر وإن إستدللت بالمعلول على العلة أو بأحد المعلولين على الآخر فهو برهان دلالة كالإستدلال بالمطر على الغيم والإستدلال بأحد المعلولين على الآخر كقولنا كل من صح طلاقه صح ظهاره والذي يصح طلاقه فيصح

ظهاره فإن إحدى النتيجتين تدل على الأخرى بواسطة العلة فإنها تلازم علتها والأخرى تلازم علتها وملازم اللازم ملازم

الإستدلال بالإستقراء
فصل
فأما الإستدلال بالإستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على مثلها كقولنا في الوتر ليس بفرض لأنه يؤدي على الراحلة والفرض لا يؤدي عليها فيقال لم قلتم أن الفرض لا يؤدي عليها قلنا بالإستقراء إذ رأينا القضاء والنذر لا يؤدي عليها فهذا مختل يصلح للظنيات دون القطعيات فإن حكمه بأن كل فرض لا يؤدي على الراحلة يمنعه الخصم إذ الوتر عنده واجب يؤدى عليها فنقول هل إستقريت حكم الوتر في تصفحك وكيف وجدته فإن قال وجدته لا يؤدي على الراحلة فباطل إجماعا ثم هو مبطل المقدمة الأخرى على نفسه إذ هي الوتر يؤدى على الراحلة وإن قال لم أتصفحه فلم يبين إلا بعض الأجزاء فخرجت المقدمة عن أن تكون عامة فإذا لا يصح ذلك إلا في الفقهيات فلنشرع الآن في ذكر الأصول فنقول
حقيقة الحكم وأقسامه
أقسام احكام التكليف خمسة واجب ومندوب ومباح

ومكروه ومحظور
وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخيير بينهما فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر فإن إقترن به إشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب وإلا فيكون إيجابا والذي يرد باقتضاء الترك نهي فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة وإلا فحظر وحد الواجب ما توعد بالعقاب على تركه وقيل ما يعاقب تاركه وقيل ما يذم تاركه شرعا والفرض هو الواجب على إحدى الروايتين لاستواء حدهما وهو قول الشافعي
والثانية الفرض آكد فقيل هو إسم لما يقطع بوجوبه كمذهب أبي حنيفة

وقيل ما لا يسامح في تركه عمدا ولا سهوا نحو أركان الصلاة فإن الفرض في اللغة التأثير ومنه فرضه النهر والقوس والوجوب السقوط ومنه وجبت الشمس والحائط إذا سقطا ومنه قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فاقتضى تأكد الفرض على الواجب شرعا ليوافق مقتضاه لغة ولا خلاف في إنقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الإصطلاحات بعد فهم المعنى

إنقسام الواجب إلى معين ومبهم
فصل
والواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم في اقسام محصورة فيسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا معنى للوجوب مع التخيير

ولنا أنه جائز عقلا وواقع شرعا أما العقل السيد لو قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم ايهما فعلته إكتفيت به وإن تركت الجميع عاقبتك ولا أوجبهما عليك معا بل أحدهما لا بعينه أيهما شئت كان كلاما معقولا ولا يمكن دعوى إيجاب الكل لأنه صرح بنقيضه ولا دعوى أنه ما أوجب شيئا أصلا لأنه عرضه للعقاب بترك الكل ولا أنه أوجب واحدا معينا لأنه صرح بالتخيير فلم يبق إلا أنه أوجب واحدا لا بعينه ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق الغرض بواحد غير معين لكون كل واحد منهما وافيا بالغرض حسب وفاء صاحبه فيطلب منه قدر ما يفي بغرضه والتعيين فضلة لا يتعلق بها الغرض فلا يطلبه منه
وأما وقوعه في الشرع فخصال الكفارة وإعتاق الرقبة بالإضافة إلى أعيان العبيد وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين وعقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين لها مخيرة ولا سبيل إلى إيجاب الجميع وأجمعت الأمة على أن جميع خصال الكفارة غير واجب
فإن قيل إن كانت الخصال متساوية عند الله تعالى بالنسبة إلى صلاح العبد

فينبغي أن يوجب الجميع تسوية بين المتساويات وأن تميز بعضها بوصف ينبغي أن يكون هو الواجب عينا
قلنا ولم قلتم أن للأفعال صفات في ذاتها لأجلها يوجبها الله سبحانه بل الإيجاب إليه وله أن يخصص من المتساويات واحدا بالإيجاب وله أن يوجب واحدا غير معين ويجعل مناط التعيين إختيار المكلف ليسهل عليه الإمتثال
جواب ثان أن التساوي يمنع التعيين لكونه عبثا وحصول المصلحة بواحد يمنع من إيجاب الزائد لكونه إضرارا مجردا حيث حصلت المصلحة بدونه فيكون الواجب واحدا غير معين
فإن قيل فالله سبحانه يعلم ما يتعلق به الإيجاب ويعلم ما يتأدى به الواجب ويكون معينا في علم الله سبحانه
قلنا الله سبحانه إذا أوجب واحدا لا بعينه علمه على ما هو عليه من نعته ونعته أنه غير معين فيعلم كذلك ويعلم أنه يتعين بفعل المكلف ما لم يكن متعينا قبل فعله والله أعلم

إنقسام الواجب بالإضافة إلى الوقت
فصل
والواجب ينقسم بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع
وأنكر أكثر أصحاب أبي حنيفة التوسع وقالوا هو يناقض الوجوب
ولنا أن السيد لو قال لعبده ابن هذا الحائط في هذا اليوم إما في أوله وإما في وسطه وإما في آخره وكيف أردت فمهما فعلت إمتثلت إيجابي
وإن تركت عاقبتك كان كلاما معقولا ولا يمكن دعوى أنه ما أوجب شيئا ولا أنه أوجب مضيقا لأنه صرح بضد ذلك فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا
وقد عهدنا من الشارع تسمية هذا القسم واجبا بدليل أن الصلاة تجب في أول الوقت
وكذلك إنعقد الإجماع على أنه يثاب ثواب الفرض وتلزمه نيته ولو كان نفلا لأجزأت نية النفل بل لإستحالت نية الفرض من العالم بكونه نفلا إذ النية قصد يتبع العلم
فإن قيل الواجب ما يعاقب على تركه والصلاة إن أضيفت إلى آخر الوقت فيعاقب على تركها فتكون واجبة حينئذ وإن أضيفت إلى أوله فيخير بين فعلها وتركها وتركها وفعلها خير من تركها وهذا حد الندب
وإنما أثيب ثواب الفرض ولزمته نية لأن مآله إلى الفرضيه فهو كمعجل الزكاة والجامع بين الصلاتين في وقت أولاهما
قلنا الأقسام ثلاثة فعل لا يعاقب على تركه مطلقا وهو المندوب

وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب المضيق وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت ولا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث يفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الوجوب والندب وأولى عباراته الواجب الموسع
قالوا ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب وبالإضافة إلى آخره واجب بدليل أنه في أول الوقت يجوز تركه دون آخره
قلنا بل حد الندب ما يجوز تركه مطلقا وهذا لا يجوز إلا بشرط وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل وما جاز تركه بشرط فليس بندب كما أن كل واحد من خصال الكفارة يجوز تركه إلى بدل ومن أمر بالإعتاق فما من عبد إلا يجوز تركه بشرط عتق ما سماه ولا يكون ندبا بل واجبا مخيرا كذا هذا يسمى واجبا موسعا وما جاز تركه بشرط يفارق ما جاز تركه مطلقا وما لا يجوز مطلقا فهو قسم ثالث وإذا كان المعنى متفقا عليه وهو النقسام إلى الإنقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة في العبارة
وأما تعجيل الزكاة فإنه يجب بنية التعجيل وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت غير ما نواه في آخره ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به

فإن قيل قولكم إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل بعده باطل فإنه لو ذهل أو غفل عن العزم ومات ولم يكن عاصيا ولأن الواجب المخير ما خير الشارع فيه بين شيئين وما خير بين العزم والفعل ولأن قوله صل في الوقت ليس فيه تعرض للعزم أصلا فإيجابه زيادة
قلنا إنما لم يكن عاصيا لأن الغافل لا يكلف فأما إذا لم يغفل فلا يترك العزم عن الفعل إلا عازما على الترك مطلقا وهو حرام وما لا خلاص عن الحرام إلا به يكون واجبا فهذا دليل وجوبه وإن لم تدل عليه الصيغة والله أعلم

من أخر الواجب الموسع فمات في أثنائه
فصل
إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيا لأنه فعل ما أبيج له فعله وهو جواز التأخير
فإن قيل إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة
قلنا هذا محال فإن العاقبة مستورة عنه ولو سألنا فقال علي صوم يوم فهل يحق لي تأخيره إلى غد فما جوابه إن قلنا نعم فلم أثم بالتأخير وإن قلنا لا فخلاف الإجماع في الواجب الموسع وإن قلنا إن كان في علم الله أنك تموت قبل غد لم يحل وإلا فهو يحل فيقول وما يدريني

ما في علم الله فلا بد من الجزم بجواب وهو التحليل أو التحريم فإذا معنى الوجوب وتحقيقه أنه لا يجوز له التأخير إلا بشرط العزم ولا يؤخر إلا إلى الوقت يغلب على ظنه البقاء إليه والله أعلم

مالا يتم الواجب إلا به
مالا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى ما ليس إلى اختيار المكلف كالقدرة واليد في الكتابة وحضور الإمام والعدد في الجمعة فلا يوصف بوجوب وإلى ما يتعلق باختيار العبد كالطهارة للصلاة والسعي إلى الجمعة وغسل جزء من الرأس مع الوجه وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم فهو واجب وهذا أولى من قولنا يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب إذ قولنا يجب ما ليس بواجب متناقض لكن الأصل وجب بالإيجاب قصدا والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود فهو واجب كيف ما كان وإن اختلفت علة إيجابهما
فإن قيل لو كان واجبا لأثيب على ما فعله وعوقب على ما تركه وتارك الوضوء والصوم لا يعاقب على ما ترك من غسل الرأس وصوم الليل
قلنا ومن أنبأكم أن ثواب القريب إلى البيت في الحج مثل ثواب

البعيد وأن الثواب لا يزيد بزيادة العمل في الوسيلة فأما العقوبة فإنه يعاقب على ترك الوضوء والصوم ولا يتوزع على أجزاء الفعل فلا معنى لإضافته إلى التفصيل

إذا اشتبه المباح بالمحرم حرما
فصل
وإذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه وقال قوم المذكاة حلال لكن يجب الكف عنها وهذا متناقض إذ ليس الحل والحرمة وصفا ذاتيا لهما بل هو متعلق بالفعل فإذا حرم فعل الأكل فيها فأي معنى لقولنا هي حلال وإنما وقع هذا في الأوهام حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة بالوصف بالسواد والبياض والأوصاف الحسية وذلك وهم على ما ذكرناه والله أعلم
الواجب غير المحدود
فصل
الواجب الذي لا يتقيد بحد محدود كالطمأنينة في الركوع والسجود ومدة القيام والقعود إذا زاد على أقل الواجب فالزيادة ندب واختاره أبوالخطاب
وقال القاضي الجميع واجب لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد والأمر

في نفسه أمر واحد وهو أمر إيجاب ولا يتميز البعض عن البعض فالكل امتثال
ولنا أن الزيادة يجوز تركها مطلقا من غير شرط بدل وهذا هو الندب ولأن الأمر إنما اقتضى إيجاب ما تناوله الاسم فيكون هو الواجب والزيادة ندب إذا تميزت وإن كان لا يتميز بعضه عن البعض فيحتمل كون بعضه واجبا وبعضه ندبا كما لو أدى دينارا عن عشرين

القسم الثاني المندوب
والندب في اللغة الدعاء إلى الفعل كما قال الشاعر ... لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا ...
وحده في الشرع مأمور لا يلحق بتركه ذم من حيث تركه من غير حاجة إلى بدل
وقيل هو ما في فعله ثواب ولا عقاب في تركه
والمندوب مأمور

وأنكر قوم كونه مأمورا لأن الله سبحانة وتعالى قال فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم والمندوب لا يحذر فيه ذل 4 ك ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وقد ندبهم إلى السواك فعلم أن الأمر لا يتناوالمندوب ولأن الأمر اقتضاء جازم لا تخيير معه وفي الندب تخيير ولم يسم تاركه عاصيا
ولنا أن الأمر استدعاء وطلب والمندوب مستدعى ومطلوب فيدخل في حقيقة الأمر قال الله تعال إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وقال تعالى وأمر بالمعروف ومن ذلك ما هو مندوب ولأنه شاع في ألسنة الفقهاء أن الأمر ينقسم إلى أمر أيجاب وأمر استحباب ولأن فعله طاعة وليس ذلك لكونه مرادا إذ الأمر يفارق الإرادة ولا لكونه موجودا فإنه غير موجود في غير الطاعات ولا لكونه مثابا فإن الممثل يكون مطيعا وإن لم يثب وإنما الثواب للترغيب في الطاعات وقولهم إن الأمر ليس فيه تخيير ممنوع وإن سلمنا فالمندوب كذلك لأن التخيير عبارة عن التسوية فإذا ترجح جهة الفعل ارتفعت التسوية والتخيير ولم يسم تاركه عاصيا لأنه اسم ذم وقد أسقط الله تعالى الذم عنه لكن يسمى مخالفا وغير ممتثل ويسمى فاعله موافقا ومطيعا
وقول النبي صلى الله عليه و سلم لأمرتهم بالسواك أي أمرتهم أمر جزم وإيجاب وقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب

ونحن نقول به لكن يجوز صرفه إلى المندوب بدليل ولا يخرج بذلك عن كونه امرا لما ذكرناه في دليلنا والله أعلم

القسم الثالث المباح
وحده ما أذن الله في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله ولا مدحه وهو من الشرع
وأنكر بعض المعتزلة ذلك إذ معنى الإباحة نفي الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل ورود السمع فمعنى إباحة الشيء تركه على ما كان قبل السمع
قلنا الأفعال ثلاثة أقسام قسم صرح فيه الشرع بالتخيير بين فعله وتركه فهذا خطاب ولا معنى للحكم إلا الخطاب وقسم لم يرد فيه خطاب بالتخيير لكن دل دليل السمع على نفي الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع ولولا هو لعرف بدليل العقل نفي الحرج عنه فهذا اجتمع عليه دليل العقل والسمع وقسم لم يتعرض الشرع له بدليل من أدلة السمع فيحتمل أن يقال قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك فالمكلف فيه مخير وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من

الأفعال فلا يبقى فعل لا مدلول عليه سمعا فيكون إباحته من الشرع ويحتمل أن يقال لا حكم له والله أعلم

الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع
فصل
واختلف في الأفعال وفي الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها فقال التميمي وأبو الخطاب والحنفية هي على الإباحة إذ علم انتفاعنا بها من غير ضرر علينا ولا على غيرنا فليكن مباحا ولأن الله سبحانه خلق هذه الأعيان لحكمة لا محالة ولا يجوز أن يكون ذلك لنفع يرجع إليه فثبت أنه لنفعنا

وقال ابن حامد والقاضي وبعض المعتزلة هي على الحظر لأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله سبحانه هو المالك ولم يأذن ولأنه يحتمل أن في ذلك ضررا فالإقدام عليه خطر
وقال أبو الحسن الحزري وطائفة الواقفية لا حكم لها إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب قبل ورود السمع والعقل لا يبيح شيئا ولا يحرمه وإنما هو معرف للترجيح والاستواء وقبح التصرف في ملك الغير إنما يعلم بتحريم الشارع ونهيه ولو حكمت فيه العادة إنما قبح في حق من يتضرر بالتصرف في ملكه بل يقبح المنع مما لا ضرر فيه كالظل وضوء النار
وهذا القول هو اللائق بالمذهب إذ العقل لا مدخل له في الحظر والإباحة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإنما تثبت الأحكام بالسمع وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا وبقوله قل إنما حرم ربي الفواحش الآية وقوله تعالى تعالوا

أتل ما حرم ربكم عليكم الآية وبقوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية ونحو ذلك وقول النبي صلى الله عليه و سلم وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه وقوله إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته وفائدة الخلاف أن من حرم شيئا أو أباحه كفاه فيه استصحاب حال الأصل

المباح غير مأمور به
فصل
المباح غير مأمور به لأن الأمر استدعاء وطلب والمباح مأذون فيه ومطلق له غير مستدعى ولا مطلوب وتسميته مأمورا تجوز
فإن قيل ترك الحرام مأمور به والسكوت المباح يترك به الكفر

والكذب الحرام فيكون مأمورا به
قلنا فليكن المباح واجبا إذا وقد يترك الحرام إلى المندوب فليكن واجبا وقد يترك الحرام بحرام آخر فليكن الشيء حراما واجبا ولتكن الصلاة حراما إذا تحرم بها من عليه الزكاة وهذا باطل
فإن قيل فهل الإباحة تكليف قلنا من قال التكليف الأمر والنهي فليست الإباحة كذلك ومن قال التكليف ما كلف اعتقاد كونه من الشرع فهذا كذلك وهذا ضعيف إذ يلزم عليه جميع الأحكام

القسم الرابع المكروه
وهو ما تركه خير من فعله وقد يطلق ذلك على المحظور وقد يطلق على ما نهى عنه نهي تنزيه فلا يتعلق بفعله عقاب
الأمر المطلق لا يتناول المكروه
والأمر المطلق لا يتناول المكروه لأن الأمر استدعاء وطلب والمكروه غير مستدعى ولا مطلوب ولأن الأمر ضد النهي فيستحيل ان يكون الشيء مأمورا ومنهيا وإذا قلنا إن المباح ليس بمأمور فالمنهي عنه أولى
القسم الخامس الحرام
الحرام ضد الواجب فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجبا حراما طاعة ومعصية من وجه واحد إلا أن الواحد بالجنس ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعين أي بالعدد والواحد بالنوع يجوز أن ينقسم إلى واجب وحرام ويكون انقسامه بالإضافة لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة والمغايرة تكون تارة بالنوع وتارة باختلاف الوصف كالسجود لله تعالى واجب والسجود للصنم حرام والسجود لله تعالى غير السجود للصنم قال الله تعالى لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن فالإجماع منعقد على أن الساجد للصنم عاص بنفس السجود والقصد

جميعا والساجد لله مطيع بهما جميعا وأما الواحد بالعين كالصلاة في الدار المغصوبة من عمرو فحركته في الدار واحد بعينه واختلفت الرواية في صحتها
فروى أنها لا تصح إذ يؤدى إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا وهو متناقض فإن فعله في الدار وهو الكون في الدار وركوعه وسجوده وقيامه وقعوده أفعال اختيارية هو معاقب عليها منهي عنها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه مطيعا بما هو عاص به
وروى أن الصلاة تصح لأن هذا الفعل الواحد له وجهان متغايران هو مطلوب من أحدهما مكروه من الآخر فليس ذلك محالا إنما المحال أن يكون مطلوبا من الوجه الذي يكره منه ففعله من حيث أنه صلاة مطلوب مكروه من حيث أنه غصب والصلاة معقولة بدون الغصب والغصب معقول بدون الصلاة وقد اجتمع الوجهان المتغايران فنظيره أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإن امتثلت اعتقتك وإن ارتكبت النهي عاقبتك فخاط الثوب في الدار حسن من السيد عتقه وعقوبته

ولو رمى سهما إلى كافر فمرق منه إلى مسلم لاستحق سلب الكافر ولزمته دية المسلم لتضمن الفعل الواحد أمرين مختلفين
ومن اختار الرواية الأولى قال ارتكاب النهي متى أخل بشرط العبادة أفسدها بالإجماع كما لو نهى المحدث عن الصلاة فخالف وصلى ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية محال فكيف يمكن التقرب به وقيامه وقعوده في الدار فعل هو عاص به فكيف يكون متقربا بما هو عاص به وهذا محال
وقد غلط من زعم أن في هذه المسألة اجتماعا لأن السلف لم يكونوا يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء الصلاة في أماكن الغصب إذ هذا جهل بحقيقة الإجماع فإن حقيقته الاتفاق من علماء أهل العصر وعدم النقل عنهم ليس بنقل الاتفاق ولو نقل عنهم أنهم سكتوا فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم كلهم القول بنفي وجوب القضاء فلم ينكروه فيكون حينئذ فيه اختلاف هل هو إجماع أم لا على ما سنذكره في موضعه

أقسام النهي عند مصححي الصلاة في المكان المغصوب
فصل
مصححو الصلاة في الدار المغصوبة قسموا النهي ثلاثة أقسام
الأول ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه كقوله تعالى لا تقربوا الزنا
وإلى ما لا يرجع إلى ذات المنهي عنه فلا يضاد وجوبه مثل قوله أقم الصلاة مع قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تلبسوا الحرير ولم يتعرض في النهي

للصلاة فإذا صلى في ثوب حرير أتى بالمطلوب والمكروه جميعا
القسم الثالث أن يعود النهي إلى وصف المنهي عنه دون اصله كقوله تعالى أقيموا الصلاة مع قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل وقوله عليه السلام دعي الصلاة أيام أقرائك ونهيه عن الصلاة في المقبرة وقارعة الطريق والأماكن السبعة ونهيه عنها في الأوقات الخمسة فأبو حنيفة يسمى المأتي به على هذا الوجه فاسدا وغير باطل وعندنا أن هذا من القسم الأول وهو قول الشافعي

فإن المكروه الموصوف وهي الصلاة في زمن الحيض لا الصفة وهي الوقوع في الحيض مع بقاء الصلاة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الأيقاع ولذلك بطلت الصلاة في هذه المواضع كلها

الأمر بالشيء نهي عن ضده
فصل
الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى فأما الصيغة فلا فإن قوله قم غير قوله لا تقعد وإنما النظر في المعنى وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود
فقالت المعتزلة ليس بنهي عن ضده لا بمعنى أنه عينه ولا يتضمنه ولا يلازمه إذ يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن ضده فكيف يكون طالبا لما هو ذاهل عنه فإن لم يكن ذاهلا عنه فلا يكون طالبا له إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك ضده فيكون تركه ذريعة بحكم الضرورة لا بحكم ارتباط الطلب به حتى لو تصور مثلا الجمع بين الضدين ففعل كان ممتثلا فيكون من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب غير مأمور به
وقال قوم فعل الضد هو عين ترك ضده الآخر فالسكون عين

ترك الحركة وشغل الجوهر حيزا عين تفريغه للحيز المتنقل عنه والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالإضافة إلى المشرق قرب وإلى المغرب بعد فإذا طلب السكون بالإضافة إليه أمر وإلى الحركة نهي وفي الجملة أنا لا نعتبر في الأمر الإرادة بل المأمور ما اقتضى الأمر امتثاله والأمر يقتضي ترك الضد ضرورة أنه لا يتحقق الامتثال إلا به فيكون مأمورا به والله أعلم
فهذه أقسام أحكام

التكليف
ولنبين الآن التكليف ما هو شروطه
التكليف
فصل
التكليف في اللغة إلزام ما فيه كلفة أي مشقة قالت الخنساء في صخر

يكلفه القوم ما نابهم ... وإن كان أصغرهم مولدا ...
الشروط المعتبرة في المكلف
فصل
وهو في الشريعة الخطاب بأمر أو نهي وله شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى نفس المكلف به
أما ما يرجع إلى المكلف فهو أن يكون عاقلا يفهم الخطاب فأما الصبي والمجنون فغير مكلفين لأن مقتضى التكليف الطاعة والامتثال ولا تمكن إلا بقصد الامتثال وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم إذ من لا يفهم كيف يقال له افهم ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة فهو كمن لا يسمع ومن يفهم فهما ما كغير المميز فخطابه ممكن لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن ووجوب الزكاة والغرامات في مال الصبي والمجنون ليس تكليفا لهما إذ يستحيل تكليفهما بفعل وإنما معناه أن الإئتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمتهما بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعدالبلوغ وهذا ممكن إنما المحال أن يقال

لمن لا يفهم افهم وإنما أهلية ثبوت ألأحكام في الذمة بالإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به يفهم التكليف في ثاني الحال والبهيمة ليس لها أهلية فهم الخطاب لا بالقوة ولا بالفعل فلم يتهيأ ثبوت الحكم في ذمتها والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكن الحصول على القرب فنقول هو موجود بالقوة كما أن شرط الملكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة والنطفة يثبت لها الملك مع عدم الحياة التي هي شرط الإنسانية لوجودها بالقوة فكذا الصبي ومصيره إلى العقل فصلح لثبوت الحكم في ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال فأما الصبي المميز فتكليفه ممكن لأنه يفهم ذلك إلا أن الشرع حط التكليف عنه تخفيفا ليظهر خفي التدريج إذ لا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشارع ويعلم الرسول والمرسل فنصب له علامة ظاهرة وقد روى أنه يكلف

النائم والناسي ومن زال عقله بالسكر غير مكلفين
فصل
والناسي والنائم غير مكلف لأنه لا يفهم فكيف يقال له افهم وكذا السكران الذي لا يعقل وثبوت أحكام أفعالهم من الغرامات ونفوذ طلاق السكران من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وذلك مما لا ينكر فأما قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى فقد قيل هذا كان في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر والمراد منه المنع من إفراط الشرب قبل وقت الصلاة كيلا يأتي عليه وقت الصلاة وهو سكران كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان معناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد وقال الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي الزموا الإسلام ولا تفارقوه

حتى إذا جاءكم الموت أتاكم وأنتم مسلمون وقيل هو خطاب لمن وجد منه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله لأنه إذا ظهر بالبرهان استحالة توجه الخطاب وجب تأويل الآية

تكليف المكره
فصل
فأما المكره فيدخل تحت التكليف لأنه يفهم ويسمع ويقدر على تحقيق ما أمر به تركه
وقالت المعتزلة ذلك محال لأنه لا يصح منه فعل غير ما أكره عليه ولا يبقى له خيرة وهذا غير صحيح فإنه قادر على الفعل وتركه ولهذا يجب عليه ترك القتل إذا أكره على قتل مسلم ويأثم بفعله ويجوز أن يكلف ما هو على وفق الإكراه كإكراه الكافر على الإسلام وتارك الصلاة على فعلها فإذا فعلها قيل أدى ما كلف لكن إنما تكون منه طاعة إذا كان الانبعاث بباعث الأمر دون باعث الإكراه فإن كان إقدامه للخلاص من سيف المكره لم تكن طاعة ولا يكون مجيبا داعي الشرع وإن كان يفعلها ممتثلا لأمر

الشارع بحيث كان يفعلها لولا الإكراه فلا يمتنع وقوعها طاعة وإن وجدت صورة التخويف

تكليف الكافر
فصل
واختلفت الرواية هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام فروى بأنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي إذ لا معنى لوجوبها مع استحالة فعلها في الكفر وانتفاء قضائها في الإسلام فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله
وهذا قول أكثر أصحاب الرأي 8
وروي أنهم مخاطبون بها وهو قول الشافعي لأنه جائز عقلا وقد قام دليله شرعا أما الجواز العقلي فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع بني الإسلام

على خمس وأنتم مأمورون بجمعها وبتقديم الشهادتين من جملتها فتكون الشهادتان مأمورا بهما لنفسهما ولكونهما شرطا لغيرهما كالمحدث يؤمر بالصلاة فإن منع مانع الحكم في المحدث وقال إنما يؤمر بالوضوء فإذا توضأ أمر بالصلاة إذ لايتصور الأمر بالصلاة مع الحدث لعجزه عن الامتثال
قلنا فإذا لو ترك الصلاة طول عمره لا يعاقب على تركها وهو خلاف الإجماع وينبغي إلا يصح أمره بالصلاة بعد الوضوء بل بالتكبيرة الأولى لاشتراط تقديمها وأما الدليل الشرعي فعموم قوله تعالى ولله على الناس حج البيت واخبار الله سبحانه عن المشركين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ذكر هذا في معرض التصديق لهم تحذيرا من فعلهم ولو كان كذبا لم يحصل التحذير منه كيف وقد عطف عليه وكنا نكذب بيوم الدين كيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه وقال الله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية لأنه نص في مضاعفة العذاب في حق من جميع المحظورات وفائدة الوجوب أنه لو مات عوقب على تركه وإن أسلم سقط عنه لأن الإسلام يجب ما قبله ولا يبعد النسخ قبل التمكن من الامتثال فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام

الشروط المعتبرة للفعل المكلف به
فأما الشروط المعتبرة للفعل المكلف به فثلاثة أحدهما أن يكون

به من جهة الله تعالى حتى يتصور فيه قصد الطاعة والامتثال وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة والتقرب
الثاني ان يكون معدوما أما الموجود فلا يمكن إيجاده فيستحيل الأمر به
الثالث أن يكون ممكنا فإن كان محالا كالجمع بين الضدين ونحوه لم يجز الأمر به
وقال قوم يجوز ذلك بدليل قوله تعالى لا تحملنا مالا طاقة لنا به والمحال لا يسأل دفعه ولأن الله تعالى علم أن أبا جهل لا يؤمن وقد أمره بالإيمان وكلفه إياه ولأن تكليف المحال لا يستحيل لصيغته إذ ليس يستحيل أن يقول كونوا قردة كونوا حجارة وإن أحيل طلب المستحيل للمفسدة ومناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه الإصلاح ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد فالسفه من المخلوق ممكن ووجه استحالته قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا نكلف نفسا إلا وسعها ولأن الأمر استدعاء وطلب

والطلب يستدعي مطلوبا وينبغي أن يكون مفهوما بالاتفاق ولو قال أبجد هوز لم يكن ذلك تكليفا لعدم عقل معناه ولو علم الأمر دون المأمور به لم يكن تكليفا إذ التكليف الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطاب وإنما اشترط فهمه ليتصور منه الطاعة إذ كان الأمر استدعاء الطاعة فإن لم يكن استدعاء لم يكن أمرا والمحال لا يتصور الطاعة فيه فلا يتصور استدعاؤه كما يستحيل من العاقل طلب الخياطة من الشجر ولأن الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان وإنما يتوجه الأمر بعد حصوله في العقل والمستحيل لا وجود له في العقل فيمتنع طلبه ولأننا اشترطنا أن يكون في الأعيان ليتصور الطاعة فيه فلذلك يشترط أن يكون موجودا في الأذهان ليتصور إيجاده على وفقه ولأننا اشترطنا كونه معلوما ومعدوما معدوما وكون المكلف عاقلا فاهما لاستحالة الامتثال بدونها فكون الشيء ممكنا في نفسه أولى أن يكون شرطا
وقوله تعالى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به فقد قيل المراد به ما يثقل ويشق بحيث يكاد يقضي إلى إهلاكه كقوله اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم في المماليك لا تكلفوهم ما لا يطيقون وقوله تعالى كونوا قردة تكون إظهارا للقدرة و كونوا حجارة تعجيز وليس شيء من ذلك أمرا وتكليف

أبي جهل الإيمان غير محال فإن الأدلة منصوبة والعقل حاضر وآلته تامة ولكن علم الله تعالى منه أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا والعلم يتبع المعلوم ولا يغيره وكذلك نقول الله قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن وخلاف خبره محال لكن استحالته لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه

المقتضى بالتكليف
فصل
والمقتضى بالتكليف فعل أو كف فالفعل كالصلاة والكف كالصوم وترك الزنا والشرب وقيل لا يقتضي الكف إلا أن يتناول التلبس بضد من أضداده فيثاب على ذلك لا على الترك لأن لا تفعل ليس بشيء ولا تتعلق به قدرة إذ لا تتعلق القدرة إلا بشيء والصحيح أن الأمر فيه منقسم فإن الكف في الصوم مقصود ولذلك

تشترط النية فيه والزنا والشرب نهي عن فعلهما فيعاقب على الفعل ومن لم يصدر منه ذلك لا يثاب ولا يعاقب إلا إذا قصد كف الشهوة عنه مع التمكن فهو مثاب على فعله ولا يبعد أن لا يتلبس بالفواحش وإن لم يقصد أنه يتلبس بضدها

الضرب الثاني من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع والأخبار وهو أقسام أيضا
أحدهما ما يظهر به الحكم ثم أعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الشارع في كل حال أظهر خطابه لهم بأمور محسوسة جعلها مقتضية لأحكامها على مثال اقتضاء العلة المحسوسة معلولها وذلك شيئان أحدهما العلة
والثاني السبب ونصبهما مقتضيين لأحكامهما حكم من الشارع فلله تعالى في الزاني حكمان احدهما وجوب الحد عليه والثاني جعل الزنا موجبا له فإن الزنا لم يكن موجبا للحد لعينه بل يجعل الشرع له موجبا ولذلك يصح تعليله فيقال إنما نصب علة لكذا وكذا
العلة
فأما العلة فهي في اللغة عبارة عما اقتضى تغييرا ومنه سميت علة علة المريض علة علة لأنها اقتضت تغيير الحال في حقه ومنه العلة العقلية وهي عبارة عما يوجب الحكم لذاته كالكسر مع الانكسار والتسويد مع السواد فاستعار الفقهاء لفظ العلة من هذا واستعملوه في ثلاثة أشياء
أحدها بإزاء ما يوجب الحكم لا محالة فعلى هذا لا فرق بين المقتضى والشرط والمحل والأهل بل العلة المجموع والأهل والمحل ركنان من أركانها أخذا من العلة العقلية
الثاني أطلقوه بإزاء المقتضى للحكم وإن تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع
والثالث أطلقوه بإزاء الحكمة كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة والأوسط أولى
الثاني السبب وهو في اللغة عبارة عما حصل الحكم عنده لا به ومنه سمي الحبل والطريق سببا فاستعار الفقهاء لفظة السبب من هذا الموضع واستعملوه في أربعة أشياء
أحدها بإزاء ما يقابل المباشرة كالحفر مع التردية والحافر يسمى صاحب سبب والمردي صاحب علة
الثاني بإزاء علة ( العلة ) كالرمي يسمى سببا
والثالث بإزاء العلة بدون شرطها كالنصاب بدون الحول

والرابع بإزاء

العلة
نفسها وإنما سميت سببا وهي موجبة لأنها لم تكن موجبة لعينها بل يجعل الشرع لها موجبة فأشبهت ما يحصل الحكم عنده لا به
الشرط
فصل
ومما يعتبر للحكم
الشرط
وهو ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم كالإحصان مع الرجم والحول في الزكاة فالشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده
العلة
والعلة يلزم من وجودها وجود المعلول ويلزم من عدمها عدمه في الشرعيات
الشرط
والشرط عقلي ولغوي وشرعي
فالعقلي كالحياة للعلم والعلم للإرادة
واللغوي كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم
وسمي شرطا لأنه علامة على المشروط يقال أشرط نفسه للأمر إذا جعل عليه علامة له ومنه قوله تعالى فقد جاء أشراطها أي علاماتها
المانع
وعكس الشرط المانع وهو ما يلزم من وجوده عدم الحكم ونصب الشيء شرطا للحكم أو مانعا له حكم شرعي على ما قررناه في المقتضى للحكم والله أعلم
القسم الثاني الصحة والفساد
فالصحة هي اعتبار الشرع الشىء في حق حكمه ويطلق على العبادات مرة وعلى العقود اخرى فالصحيح من العبادات ما أجزأ وأسقط القضاء والمتكلمون يطلقونه بإزاء ما وافق الأمر وإن وجب القضاء كصلاة من ظن أنه متظهر وهذا يبطل بالحج الفاسد فإنه يؤمر بإتمامه وهو فاسد وأما العقود فكل ما كان سببا لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه فهو صحيح وإلا فهو باطل فالباطل هو الذي لم يثمر والصحيح الذي أثمر والفاسد مرداف الباطل فهما اسمان لمسمى واحد
وأبو حنيفة أثبت قسما بين الباطل والصحيح جعل الفاسد عبارة عنه وزعم أنه عبارة عما كان مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه ولو صح له هذا المعنى لم ينازع في العبارة لكنه لا يصح إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله
فصل في القضاء والإعادة والأداء
الإعادة فعل العبادة مرة أخرى في الوقت المقدر لها شرعا والأداء فعلها في وقتها والقضاء فعلها بعد خروج وقتها المعين شرعا فلو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يموت قبل آخر الوقت لم يجز له

التأخير فإن أخره وعاش لم يكن قضاء لوقوعه في الوقت والزكاة واجبة على الفور فلو اخرها ثم فعلها لم تكن قضاء لأنه لم يعين وقتها بتقدير وتعيين ومن لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر لم نقل إنه قضاء القضاء فإذا إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل ولا فرق بين فواته لغير عذر أو لعذر كالنوم والسهو والحيض في الصوم والمرض والسفر
وقال قوم الصيام من الحائض بعد رمضان ليس بقضاء لأنه ليس بواجب إذ فعله حرام ولا يجب فعل الحرام فكيف تؤمر بما تعصي به ولا خلاف في أنها لو ماتت لم تكن عاصية وقيل في المريض والمسافر لا يلزمهما الصوم أيضا فلا يكون ما يفعلانه بعد رمضان قضاء
وهذا فاسد لوجوه ثلاثة أحدها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة والآمر بالقضاء إنما هو النبي صلى الله عليه و سلم على ما نقرره فيما يأتي
الثاني لا خلاف بين أهل العلم في انهم ينوون القضاء
الثالث أن العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب فعلها فيه

لا يجب بعده ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمة بناء على وجود ا لسبب مع تعذر فعلها كما في النائم والناسي وكما في المحدث تجب عليه الصلاة مع تعذر فعلها منه في الحال وديون الآدميين تجب على المعسر مع عجزه عن أدائها

فصل في العزيمة والرخصة
العزيمة في اللسان القصد المؤكد ومنه قوله تعالى ولم نجد له عزما فإذا عزمت فتوكل على الله والرخصة السهولة واليسر ومنه رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء فأما في عرف حملة الشرع فالعزيمة الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي وقيل ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى
والرخصة استباحة المحظور مع قيام الحاظر وقيل ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ولا يسمى ما لم يخالف الدليل رخصة وإن كان فيه سعة كإسقاط صوم شوال وإباحة المباحات لكن ما حط عنا من الإصر الذي كان على غيرنا يجوز أن يسمى رخصة مجازاة لما وجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق ذلك فأما إباحة التيمم إن كان مع القدرة على استعمال الماء لمرض أو زيادة ثمن سمي رخصة وإن كان مع عدمه فهو معجوز عنه فلا يمكن تكليف استعمال الماء مع استحالته فكيف يقال السبب قائم
فإن قيل فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال الضرورة قلنا يسمى رخصة من حيث إن فيه سعة إذ لم يكلفه الله تعالى إهلاك

أن يسمى من حيث وجوب العقاب بتركه فهو من قبيل الجهتين فأما الحكم الثابت على خلاف العموم فإن الحكم في بقية الصور لمعنى موجود في الصورة المخصوصة كبيع العرايا المخصوص من المزاينة المنهي عنها فهو حينئذ رخصة وإن كان لمعنى غير موجود في الصورة المخصوصة كإباحة الرجوع في الهبة للوالد المخصوص من قوله عليه السلام العائد في هبته كالعائد في قيئه فليس برخصة لأن المعنى الذي حرم لأجله الرجوع في الهبة غير موجود في الوالد

باب في أدلة الأحكام
الأصول أربعة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم والإجماع ودليل العقل المبقي على النفي الأصلي واختلف في قول الصحابي وشرع من قبلنا وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
وأصل الأحكام كلها من الله سبحانه إذ قول الرسول صلى الله عليه و سلم إخبار عن الله بكذا والإجماع يدل على السنة فإذا نظرنا إلى ظهور الحكم عندنا فلا يظهر إلا بقول الرسول صلى الله عليه و سلم فإننا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل عليه السلام وإنما ظهر لنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم والإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله لكن إذا

لم نحرر النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب فيها النظر منقسمة إلى ما ذكرنا

القرآن
فصل
وكتاب الله سبحانه هو كلامه وهو القرآن الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و سلم
وقال قوم الكتاب غير القرآن وهو باطل قال الله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا إلى قوله إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا فأخبر الله تعالى أنهم استمعوا القرآن وسموه قرآنا وكتابا وقال تعالى حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا وقال تعالى وإنه في أم الكتاب لدينا وقال إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون وقال تعالى بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ سماه قرآنا وكتابا وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه حتى كرهوا التعاشير والنقط كيلا يختلط بغيره فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القرآن وما خرج عنه فليس منه

إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفرالدواعي عل حفظ القرآن أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه

القراءة غير المتواترة
فصل
فأما ما نقل نقلا غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات فقد قال قوم ليس بحجة لأنه خطأ قطعا لأنه واجب على الرسول تبليغ القرآن طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وليس له مناجاة الواحد به وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون مذهبا له واحتمل أن يكون خبرا ومع التردد لا يعمل به
والصحيح أنه حجة لأنه يخبر أنه سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم فإن لم يكن قرآنا فهو خبر فإنه ربما سمع الشيء من النبي صلى الله عليه و سلم تفسيرا فظنه قرآنا وربما أبدل لفظه بمثلها ظنا منه أن ذلك جائز كما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجوز مثل ذلك وهذا يجوز في الحديث دون القرآن ففي الجملة لا يخرج عن كونه مسموعا من النبي صلى الله عليه و سلم ومرويا عنه فيكون حجة كيف ما كان
وقولهم يجوز أن يكون مذهبا له قلنا لا يجوز ظن مثل هذا

بالصحابة رضي الله عنهم فإن هذا افتراء على الله وكذب عظيم إذ جعل رأيه ومذهبه الذي ليس هو عن الله تعالى ولا عن رسوله قرآنا والصحابة رضي الله عنهم لا يجوز نسبة الكذب إليهم في حديث النبي صلى الله عليه و سلم ولا في غيره فكيف يكذبون في جعل مذاهبهم قرآنا هذا باطل يقينا

الحقيقة والمجاز في القرآن
فصل
والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز وهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح كقوله واخفض لهما جناح الذل واسأل القرية جدارا يريد أن ينقض أو جاء أحد منكم من الغائط وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعت عليكم فاعتدوا عليه إن الذين يؤذون الله أي أولياء الله وذلك كله مجاز لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه ومن منع فقد كابر ومن سلم وقال لا أسميه مجازا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه والله اعلم
ألفاظ غير عربية
فصل
قال القاضي ليس في القرآن لفظ بغير العربية لأن الله تعالى قال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ولو كان

فيه لغة العجم لم يكن عربيا محضا وآيات كثيرة في هذا المعنى ولأن الله سبحانه تحداهم بالإتيان بسورة من مثله ولا يتحداهم بما ليس من لسانهم ولا يحسنونه وروى عن ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهما أنهما قالا فيه ألفاظ بغير العربية قالوا ناشئة الليل بالحبشية و مشكاة هندية و استبرق فارسية
وقال من نصر هذا اشتمال القرآن على كلمتين ونحوهما أعجمية لا يخرجه عن كونه عربيا وعن إطلاق هذا الاسم عليه ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا وإن كان فيه آحاد كلمات عربية ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون هذه الكلمات أصلها بغير العربية ثم عربتها العرب واستعملتها فصارت من لسانها بتعريبها واستعمالها لها وإن كان أصلها أعجميا

أقوال العلماء في المحكم والمتشابه في القرآن
فصل
وفي كتاب الله سبحانه محكم ومتشابه كما قال تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال القاضي المحكم المفسر والمتشابه المجمل لأن الله سبحانه سمى المحكمات أم الكتاب وأم الشيء الأصل الذي لم يتقدمه غيره فيجب أن يكون المحكم غير محتاج إلى غيره بل هو أصل بنفسه وليس إلا ما ذكرنا
وقال ابن عقيل المتشابه هو الذي يغمض علمه على غير العلماء والمحققين كالآيات التي ظاهرها التعارض كقوله تعالى هذا يوم لا ينطقون وقال في أخرى قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ونحو ذلك
وقال آخرون المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور والمحكم ما عداه
وقال آخرون المحكم الوعد والوعيد والحرام والحلال والمتشابه القصص والأمثال
والصحيح أن المتشابه ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به ويحرم التعرض لتأويله كقوله تعالى الرحمن على العرش استوى بل يداه مبسوطتان

لما خلقت بيدي ويبقى وجه ربك تجري بأعيننا ونحوه فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به وإمراره على وجهه وترك تأويله فإن الله سبحانه ذم المبتغين لتأويله وقرنهم في الذم بالذين يبتغون الفتنة وسماهم أهل زيغ وليس في طلب تأويل ما ذكروه من المجمل وغيره ما يذم به صاحبه بل يمدح عليه إذ هو طريق إلى معرفة الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه منفرد بعلم تأويل المتشابه وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله لفظا ومعنى أما اللفظ فلأنه

لو أراد عطف الراسخين لقال ويقولون آمنا به بالواو وأما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا اتبعوه بقولهم كل من عند ربنا فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه صدر منه وجاء من عنده كما جاء من عنده المحكم ولأن لفظه أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ من وصفه إياهم لابتغاء المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه لأن ما ذكر من الوجوه لا يعلم تأويله كثير من الناس
فإن قيل فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله
قلنا يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ليختبر طاعتهم كما قال تعالى ولنبلونكم حتى تعلم المجاهدين منكم والصابرين وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم الآية وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة

مع أنه لا يعلم معناها والله أعلم

باب النسخ
النسخ في اللغة الرفع والإزالة ومنه نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الأثر وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل كقولهم نسخت الكتاب
فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير
وحده رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه ومعنى الرفع إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتا على مثال رفع حكم الإجارة بالفسخ فإن ذلك يفارق زوال حكمها بانقضاء مدتها وقيدنا الحد بالخطاب المتقدم لأن ابتداء العبادات في الشرع مزيل لحكم العقل من براءة الذمة وليس بنسخ وقيدناه بالخطاب الثاني لأن زوال الحكم بالموت والجنون ليس بنسخ وقولنا مع تراخيه عنه لأنه لو كان متصلا به كان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة ( أو ) شرط
وقال قوم النسخ كشف مدة العبادة بخطاب ثان وهذا يوجب أن يكون قوله ( صم بالنهار وكل بالليل نسخا ) وقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل نسخا وليس فيه معنى الرفع فإن قوله الأول إذا

لم يتناول إلا النهار متباعدا عن الليل بنفسه فأي معنى لنسخه وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وما ذكروه تخصيص على أن نسخ العبادة 2 قبل وقتها والتمكن من امتثالها جائز وليس فيه بيان لمدتها لانقطاعها

النسخ عند المعتزلة
وحد المعتزلة النسخ بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا
ولا يصح لأن حقيقة النسخ الرفع وقد أخلوا الحد عنه فإن
قيل تحديد النسخ بالرفع لا يصح لخمسة أوجه
أحدها أنه لا يخلو إما أن يكون رفعا لثابت أو لما لا ثبات له فالثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه
الثاني أن خطاب الله تعالى قديم فلا يمكن رفعه
الثالث أن الله تعالى إنما أثبته لحسنه فالنهي يؤدي إلى أن ينقلب الحسن قبيحا
الرابع أن ما أمر به إن أراد وجوده كيف ينهي عنه حتى يصير غير مراد

وندم عليه وهذا محال في حق الله تعالى
قلنا أما الأول ففاسد فإنا نقول بل هو رفع لحكم ثابت لولاه لبقي ثابتا كالكسر من المكسور والفسخ في العقود لو قال قائل إن الكسر إما أن يرد على معدوم أو موجود فالمعدوم لا حاجة إلى إعدامه والموجود لا ينكسر كان غير صحيح لأن معناه أن له من استحكام البنية ما يبقى لولا الكسر وندرك تفرقته بين كسره وبين انكساره بنفسه لتناهي الخلل فيه كما ندرك تفرقته بين فسخ الإجارة بين زوال حكمها لانقضاء مدتها وبهذا فارق التخصيص النسخ فإن التخصيص يدل على أنه أريد باللفظ البعض
وأما الثاني فإنه يراد بالنسخ رفع تعلق الخطاب بالمكلف كما يزول تعلقه به لطريان العجز والجنون ويعود بعودة القدرة والعقل والخطاب في نفسه لا يتغير
وأما الثالث فينبني على التحسين والتقبيح في العقل وهو باطل وقد قيل إن الشيء يكون حسنا في حالة وقبيحا في أخرى لكن لا يصح هذا العذر لجواز النسخ قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به في وقت واحد
والرابع ينبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهو غير صحيح
وأما الخامس ففاسد فإنهم إن أرادوا أن الله تعالى أباح ما حرم ونهى عما أمر به فهو جائز يمحو الله ما يشاء ويثبت ولا تناقض كما أباح الأكل ليلا وحرمه نهارا وإن أرادوا أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فلا يلزم من النسخ فإن الله تعالى يعلم أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم يقطع فيه التكليف بالنسخ
فإن قيل ( فهل هم ) مأمورون به في علم الله تعالى إلى وقت النسخ

أو أبدا إن قلتم إلى وقت النسخ فهو بيان مدة العبادة وإن قلتم أبدا فقد تغير علمه ومعلومه
قلنا بل هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع للحكم المطلق الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله البيع المطلق مفيدا لحكمه إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلمه في نفسه قاصرا ويعلم أن الفسخ سيكون فينقطع الحكم به لا لقصوره في نفسه
فإن قيل فما الفرق بين النسخ والتخصيص
قلنا هما مشتركان من حيث إن كل واحد يوجب اختصاص بعض متناول اللفظ مفترقان من حيث إن التخصيص بيان أن المخصوص غير مراد باللفظ والنسخ يخرج ما أريد باللفظ الدلالة عليه كقوله صم أبدا يجوز أن ينسخ ما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع وكذلك افترقا في وجوه ستة
أحدها أن النسخ يشترط تراخيه والتخصيص يجوز اقترانه
والثاني أن النسخ يدخل في الأمر بمأمور واحد بخلاف التخصيص
والثالث أن النسخ لا يكون إلا بخطاب والتخصيص يجوز بأدلة العقل والقرائن

والخامس أن النسخ لا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته والتخصيص لا ينتفي معه ذلك
والسادس أن النسخ في المقطوع به لا يجوز إلا بمثله والتخصيص فيه جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة

ثبوت النسخ بالأدلة العقلية والنقلية
وقد أنكر قوم النسخ وهو فاسد لأن النسخ جائز عقلا وقد قام دليله شرعا أما العقل فلا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة في زمان دون زمان
ولا بعد في أن الله يعلم مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له فيثابوا ويمتنعوا بسبب العزم عليه عن معاص وشهوات ثم يخففه عنهم
فأما دليله شرعا فقال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وإذا بدلنا آية مكان آية وقد أجمعت الأمة على أن شريعة محمد صلى الله عليه و سلم قد نسخت ما خالفها من شرائع الأنبياء قبله

وقد كان يعقوب عليه السلام يجمع بين الأختين وآدم عليه السلام كان يزوج بناته من بنيه وهو محرم في شرائع من بعدهم من الأنبياء عليهم السلام

أنواع النسخ
فصل
يجوز نسخ الآية دون حكمها ونسخ حكمتها دون تلاوتها ونسخهما معا
وأحال قوم نسخ اللفظ فإن اللفظ إنما نزل ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع
ومنع آخرون نسخ الحكم دون التلاوة لأنها دليل عليه فكيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل
قلنا هو متصور عقلا وواقع شرعا أما التصور فإن التلاوة وكتابتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها من أحكامها وكل حكم فهو قابل للنسخ وأما تعلقها بالمكلف في الإيجاب وغيره فهو حكم أيضا فيقبل النسخ فأما الدليل على وقوعه فقد نسخ حكم قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية جعام مسكين وبقيت تلاوتها والوصية للوالدين والأقربين وقد تظاهرت

الأخبار بنسخ آية الرجم وحكمها باق وقولهم كيف ترفع التلاوة قلنا لا يمتنع أن يكون المقصود الحكم دون التلاوة لكن أنزل بلفظ معين وقولهم كيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل قلنا إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه والناسخ مزيل لحكمه فلا يبقى دليلا والله أعلم

النسخ قبل التمكن
فصل
يجوز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال نحو أن تقول في رمضان حجوا في هذه السنة وتقول قبل يوم عرفة لا تحجوا وأنكرت المعتزلة ذلك لأنه يفضي إلى أن يكون الشيء الواحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مصلحة مفسدة ولأن الأمر والنهي كلام الله وهو عندكم قديم فكيف يأمر بالشيء وينهي عنه في وقت واحد
وقد ذكرنا وجه جوازه عقلا ودليله شرعا قصة إبراهيم عليه

السلام فإن الله سبحانه نسخ ذبح الولد عند قبل فعله بقوله تعالى وفديناه بذبح عظيم وقد اعتاص هذا عل 2 ى القدرية حتى تعسفوا في تأويله من ستة أوجه
أحدها أنه كان مناما لا أصل له
الثاني أنه لم يؤمر بالذبح وإنما كلف العزم على الفعل ولامتحان سره في صبره عليه
الثالث أنه لم ينسخ لكن قلب الله عنقه نحاسا فانقطع التكليف عنه لتعذره
الرابع أن المأمور به الاضجاع ومقدمات الذبح بدليل قد صدقت الرؤيا
الخامس أنه ذبح امتثالا فالتأم الجرح واندمل بدليل الآية
السادس أنه إنما أخبر أنه يؤمر به في المستقبل فإن لفظه لفظ الاستقبال لا لفظ الماضي

والجواب من وجهين أحدهما يعم جميع ما ذكروه والثاني أنا نفرد كل وجه مما ذكروه بجواب
أما الأول فلو صح شيء من ذلك لم يحتج إلى فداء ولم يكن بلاء مبينا في حقه
والجواب الثاني أما قولهم كان مناما لا أصل له قلنا منامات الأنبياء عليهم السلام وحي وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به ولو كان مناما لا أصل له لم يجز له قصد الذبح والتل للجبين ويدل على فساده قول ولده عليه السلام افعل ما تؤمر ولو لم يؤمر كان ذلك كذبا
والثاني فاسد لوجهين
أحدهما أنه سماه ذبحا بقوله إني أرى في المنام أني أذبحك والعزم لا يسمى ذبحا
والآخر أن العزم لا يجب ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا كان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية
والثالث لا يصح عندهم لأنه إذا علم الله أنه يقلب عنقه حديدا يكون آمرا بما يعلم امتناعه
والرابع فاسد لكونه لا يسمى ذبحا
والخامس فاسد إذ لو صح كان من آياته الظاهرة فلا يترك نقله ولم ينقل وإنما هو اختراع من القدرية ومعنى قوله قد صدقت أي عملت عمل صدق والتصديق غير التحقيق وقولهم إنه أخبر أنه يؤمر به في المستقبل فاسد إذ لو أراد ذلك لوجد الأمر به في المستقبل كيلا يكون خلفا في الكلام وإنما عبر بالمستقبل عن الماضي كما قال إني أرى سبع

بقرات سمان و إني أراني أعصر خمرا أي قد رأيت وقال الشاعر ...
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب ...
وقولهم إنه يفضي إلى أن يكون الشيء مأمورا منهيا قلنا لا يمتنع أن يكون مأمورا من وجه منهيا عنه من وجه آخر كما يؤمر بالصلاة مع الطهارة وينهى عنها مع الحدث كذا ها هنا يجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر فيقال افعل ما آمرك به إن لم يزل حكم أمرنا عنك بالنهي
فإن قيل فإذا علم الله سبحانه أنه سينهي عنه فما معنى أمره بالشيء الذي يعلم انتفاءه قطعا
قلنا يصح إذا كانت عاقبة الأمر ملتبسة على المأمور لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد وربما يكون فيه لطف واستصلاح لخلقه ولهذا جوزوا الوعد والوعيد بالشرط من العالم بعاقبة الأمور فقالوا يجوز أن يعد الله سبحانه على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها وعلى المعصية عقابا بشرط عدم ما يكفرها من التوبة والله سبحانه عالم بعاقبة أمره أنه يجوز أن يكون الشيء مأمورا منهيا في حالين

إذ ليس المأمور حسنا في عينه أو لوصف هو عليه قبل الأمر به ولا المأمور مرادا ليتناقض ذلك
وقولهم إن الكلام قديم فيكون أمرا بالشيء ونهيا عنه في حال واحد قلنا يتصورالامتحان به إذا سمعه المكلف في وقتين ولذلك اشترطنا التراخي في النسخ ولو سمعهما في وقت واحد لم يجز فأما جبريل فيجوز أن يسمعهما في وقت واحد ويؤمر بتبليغ الأمة في وقتين فيأمرهم بمسالمة الكفار مطلقا وباستقبال بيت المقدس ثم ينهاهم عنه بعد ذلك والله أعلم

الزيادة على النص
فصل
والزيادة علىالنص ليس بنسخ وهو على ثلاث مراتب
أحدهما أن لا تتعلق الزيادة بالمزيد عليه كما إذا أوجب الصلاة ثم أوجب الصوم فلا نعلم فيه خلافا لأن النسخ رفع الحكم وتبديله ولم يتغير حكم بالمزيد عليه بل بقي وجوبه وأجزاؤه
الرتبة الثانية أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلقا ما على وجه لا يكون شرطا فيه كزيادة التغريب على الجلد في الحد وعشرين سوطا على الثمانين في حد القذف فذهب أبو حنيفة إلى أنه نسخ لأن الجلد كان هو الحد كاملا يجوز الاقتصار عليه ويتعلق به التفسيق ورد الشهادة وقد ارتفعت هذه الأحكام بالزيادة

ولنا أن النسخ هو رفع حكم الخطاب وحكم الخطاب بالحد وجوبه وأجزاؤه على نفسه وهو باق وإنما انضم إليه الأمر بشيء آخر فوجب الإتيان به فأشبه الأمر بالصيام بعد الصلاة فأما صفة الكمال فليس هو حكما مقصودا شرعيا بل المقصود الوجوب والأجزاء وهما باقيان ولهذا لو أوجب الشرع الصلاة فقط كانت كلية ما أوجه الله وكماله فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كل الواجب وليس بنسخ اتفاقا
وأما الاقتصار عليه فليس هو مستفادا من منطوق اللفظ لأن وجوب الحد لا ينفي وجوب غيره وإنما يستفاد من المفهوم ولا يقولون به ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد ثم إنما يستقيم هذا أن لو ثبت حكم المفهوم واستقر ثم ورد التغريب بعده ولا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانات لإسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه
وأما التفسيق ورد الشهادة فإنما يتعلق بالقذف لا بالحد ثم لو سلم بتعلقه بالحد فهو تابع غير مقصود فصار كحل النكاح بعد العدة ثم تصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في حل النكاح بل في نفس العدة
فإن قيل قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم يقتضي أن لا يحكم بأقل منهما والحكم بشاهد ويمين نسخ له
قلنا هذا إنما استفيد من مفهوم اللفظ وقد أجبنا عليه
الرتبة الثالثة أن تتعلق بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط بحيث يكون وجود المزيد عليه بدون الزيادة وعدمه واحدا كزيادة النية في الطهارة وركعة في الصلاة فذهب بعض من وافق في الرتبة الثانية إلى أن الزيادة ها هنا نسخ

إذ كان حكم المزيد عليه الأجزاء والصحة وقد ارتفع وليس بصحيح لأن النسخ رفع حكم الخطاب بمجموعه والخطاب اقتضى الوجوب والأجزاء والوجوب باق بحاله وإنما ارتفع الأجزاء وهو بعض ما اقتضى اللفظ فهو كرفع المفهوم وتخصيص العموم ثم إنما يستقيم أن لو ثبت الأجزاء واستقر ثم وردت الزيادة بعده ولم يثبت بل ثبوت الزيادة بالقياس المقارن للفظ أو لخبر يحتمل أن يكون متصلا بيانا للشرط فلا معنى لدعوى استقراره بالتحكم ثم لا يصح هذا من اصحاب الشافعي فإنهم اشترطوا النية للطهارة والطهارة للطواف بالسنة وأصلها ثابت بالكتاب
فإن قيل فالطهارة المنوية غير الطهارة بلا نية وإنما هي نوع آخر فاشترط النية يوجب رفع الأولى بالكلية
قلنا هذا باطل فإنها لو كانت غيرها لوجب أن لا تصح الطهارة المنوية عند من لا يوجب النية لكونها غير مأمور بها

نسخ جزء العبادة المتصل بها أو شرطها
فصل
ونسخ جزء العبادة المتصل بها أو شرطها ليس بنسخ لجملتها
وقال المخالفون في المرتبة الثانية من الزيادة هو نسخ لأن الركعات الأربع غير الركعتين وزيادة بدليل ما لو أتى بصلاة الصبح أربعا فإنها لا تصح ولأن الركعتين كانت لا تجزي فصارت مجزية وهذا تغيير وتبديل
وليس بصحيح لأن الرفع والإزالة إنما يتناول الجزء والشرط خاصة وما سوى ذلك باق بحالة فهو كالصلاة كانت إلى بيت المقدس ثم نسخ ذلك إلى الكعبة فلم يكن نسخا للصلاة وقولهم هي غيرها قد سبق جوابه وإنما لا تصح الصبح إذا صلاها أربعا لإخلاله بالسلام والتشهد في موضعه وقولهم كانت غير مجزية معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم عقلي ليس من

الشرع والنسخ رفع ما ثبت بالشرع وكذلك وجوب العبادة مزيل لحكم في براءة الذمة وليس بنسخ

نسخ
العبادة إلى غير بدل
فصل
يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل
وقيل لا يجوز لقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
ولنا أنه متصور عقلا وقد قام دليله شرعا أما العقل فإن حقيقة النسخ الرفع والإزالة ويمكن الرفع من غير بدل ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى المصلحة في رفع الحكم وردهم إلى ما كان من الحكم الأصلي وأما الشرع فإن الله سبحانه نسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وتقديم الصدقة أمام المناجاة إلى غير بدل فأما الآية فإنها وردت في التلاوة وليس للحكم فيه ذكر على أنه يجوزأن يكون رفعها خيرا منها في الوقت الثاني لكونها لو وجدت فيه كانت مفسدة
النسخ بالأخف والأثقل
فصل
يجوز النسخ بالأخف والأثقل
وأنكر بعض أهل الظاهر جواز النسخ بالأثقل لقوله تعالى

يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال الآن خفف الله عنكم وقال سبحانه يريد الله أن يخفف عنكم ولأن الله تعالى رؤوف فلا يليق به التثقيل والتشديد
ولنا أنه لا يمتنع لذاته ولا يمتنع أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف إلى الأثقل كما في ابتداء التكليف وقد نسخ التخيير بين الفدية والصيام بتعيين الصيام وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف إلى وجوب الإتيان بها وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الأهلية وأمر الصحابة بترك القتال والإعراض ثم نسخ بإيجاب الجهاد والآيات التي احتجوا بها وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف وليس فيه منع إرادة التثقيل وقولهم إن الله رؤوف لا يمنع من التكليف ابتداء وتسليط المرض والفقر وأنواع العذاب لمصالح يعلمها

حكم من لم يبلغه النسخ
فصل
إذا نزل الناسخ فهل يكون نسخا في حق من لم يبلغه
قال القاضي ظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا يكون نسخا لأن أهل قباء بلغهم نسخ الصلاة إلى بيت المقدس وهم في الصلاة فاعتدوا بما مضى من صلاتهم

وقال أبو الخطاب يتخرج أن يكون نسخا بناء على قوله في الوكيل ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم لأن النسخ بنزول الناسخ لا بالعلم إذ العلم لا تأثير له إلا في نفس العذر ولا يمتنع وجوب القضاء على المعذور كالحائض والنائم والقبلة يسقط استقبالها في حق المعذور فلهذا لم يجب علىأهل قباء الإعادة
وقال من نصر الأول النسخ بالناسخ لكن العلم شرط لأن الناسخ خطاب ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه

اعتبار التجانس بين الناسخ والمنسوخ
فصل
يجوز نسخ القرآن بالقرآن والسنة المتواترة بمثلها والآحاد بالآحاد والسنة بالقرآن كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس وتحريم المباشرة في ليالي رمضان وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن وهو في السنة
فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فقال احمد رحمه الله لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده قال القاضي ظاهره أنه منع منه عقلا وشرعا
وقال أبو الخطاب وبعض الشافعية يجوز ذلك لأن الكل من عند الله ولم يعتبر التجانس والعقل لا يحيله فإن الناسخ في الحقيقة هو الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم بوحي غير نظم القرآن وإن جوز ناله النسخ بالاجتهاد بالاجتهاد فالإذن في الاجتهاد من الله سبحانه وتعالى وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله لا وصية لوارث ونسخ إمساك الزانية في

البيوت بقوله قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم
ولنا قول الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والسنة لا تساوي القرآن ولا تكون خيرا منه وقد روى الدارقطني في سننه عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال القرآن ينسخ حديثي وحديثي لا ينسخ القرآن ولأنه لا يجوز نسخ تلاوة القرآن وألفاظه بالسنة فكذلك حكمه وأما الوصية فإنها نسخت بآية المواريث قاله ابن عمر

وابن عباس وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا بقوله إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وأما الآية الآخرى فإن الله سبحانه أمر بإمساكهن إلى غاية يجعل لهن سبيلا فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن الله جعل لهن السبيل وليس ذلك بنسخ والله أعلم

نسخ القرآن ومتواتر السنة بأخبار الآحاد
فصل
فأما نسخ القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد فهو جائز عقلا إذ لا يمتنع أن يقول الشارع تعبدناكم بالنسخ بالخبر الواحد وغير جائز شرعا
وقال قوم من أهل الظاهر يجوز
وقالت طائفة يجوز في زمن النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز بعده لأن أهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخ القبلة وكان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث آحاد الصحابة إلى أطراف دار الإسلام فينقلون الناسخ والمنسوخ ولأنه يجوز التخصيص به فجاز النسخ به كالمتواتر
ولنا إجماع الصحابة على أن القرآن والمتواتر لا يرفع بخبر الواحد فلا ذاهب إلى تجويزه حتى قال عمر لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا

لقول امرأةلا ندري أصدقت أم كذبت

نسخ الإجماع والنسخ به
فصل
فأما الاجماع فلا ينسخ ولا ينسخ به لأنه لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص والنسخ لا يكون إلا بنص ولا ينسخ بالإجماع لأن النسخ إنما يكون لنص والإجماع لا ينعقد على خلافه لكونه معصوما عن الخطأ وهذا يفضي إلى إجماعهم على الخطأ
فإن قيل فيجوز أن يكونوا ظفروا بنص كان خفيا هو أقوى من النص الأول أو ناسخ له
قلنا فيضاف النسخ إلى النص الذي أجمعوا عليه لا إلى الإجماع
نسخ القياس والنسخ به
فصل
ما ثبت بالقياس إن كان منصوصا على علته فهو كالنص ينسخ وينسخ به وما لم يكن منصوصا على علته فلا ينسخ ولا ينسخ به على اختلاف مراتبه

وشذت طائفة فقالت ما جاز التخصيص به جاز النسخ به
وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد والتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ فكيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال

نسخ التنبيه والنسخ به
فصل
والتنبيه ينسخ وينسخ به لأنه يفهم من اللفظ فهو كالمنطوق وأوضح منه
ومنع منه بعض الشافعية وقالوا هو قياس جلي وليس بصحيح وإنما هو مفهوم الخطاب ولأنه يجري مجرى النطق في الدلالة فلا يضر تسميته قياسا وإذا نسخ الحكم في المنطوق بطل الحكم في المفهوم وفيما يثبت بعلته أو بدليل خطابه
وأنكر ذلك بعض الحنفية لأنه نسخ بالقياس وليس بصحيح لأن هذه فروع تابعة لأصل فإذا سقط حكم الأصل سقط حكم الفرع
ما يعرف به النسخ
فصل
اعلم أن ذلك لا يعرف بدليل العقل ولا بقياس بل بمجرد النقل وذلك من طرق
أحدها أن يكون في اللفظ كقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور

فزوروها كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا بها
الثاني أن يذكر الراوي تاريخ سماعه فيقول سمعت عام الفتح ويكون المنسوخ معلوما بقدمه
الثالث أن تجمع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ وأن ناسخه متأخر
الرابع أن ينقل الراوي الناسخ والمنسوخ فيقول رخص لنا في المتعة فمكثنا ثلاثا ثم نهانا عنها
الخامس أن يكون راوي أحد الخبرين أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم والآخر لم يصحب النبي صلى الله عليه و سلم إلا في أول الإسلام كرواية طلق بن علي الحنفي وأبي هريرة في الوضوء من

مس الفرج والله تعالى أعلم
الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي صلى الله عليه و سلم
وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه وأمر الله سبحانه بطاعته وتحذيره من مخالفة أمره وهو دليل قاطع على من سمعه منه شفاها فأما من بلغه بالإخبار عنه فينقسم في حقه قسمين تواترا وآحادا
وألفاظ الرواية في نقل الأخبار خمسة
فأقواها أن يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أخبرني أو حدثني أو شافهني فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في أمر الرواية قال صلى الله عليه و سلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
الرتبة الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا فهذه ظاهرة النقل وليس نصا صريحا لاحتمال أن يكون قد سمعه من غيره عنه كما روى أبو هريرة أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال حدثني الفضل بن عباس وروى ابن عباس قوله إنما الربا في النسيئة

فلما روجع أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد فهذا حكمه حكم القسم الذي قبله لأن الظاهر أن الصحابي لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم لأن قوله ذلك يوهم السماع فلا يقدم عليه إلا عن سماع بخلاف غير الصحابي ولهذا اتفق السلف على قبول الأخبار مع أن أكثرها هكذا ولو قدر أنه مرسل فمرسل الصحابة حجة على ما سيأتي
الرتبة الثالثة أن يقول الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أو نهى عن كذا فيتطرق إليه احتمالان
احدهما في سماعه كما في قوله قال
والثاني في الأمر إذ قد يرى ما ليس بأمر أمرا لاختلاف الناس فيه حتى قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم أنه أمر وأما احتمال الغلط فلا يحمل عليه أمر الصحابة إذ يجب حمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة مهما أمكن ولهذا لو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو شرط شرطا أو وقت وقتا فيلزمنا اتباعه ثم هذا إنما يستقيم أن لو كان الخلاف في الأمر مبنيا على اختلاف الصحابة فيه ولم يثبت ذلك والظاهر انه لم يكن بينهم فيه اختلاف إذ لو كان لنقل كما نقل اختلافهم في الأحكام وأقوالهم في الحلال والحرام وليس من ضرورة الاختلاف في زماننا أن يكون مبنيا على اختلافهم كما أنهم اختلفوا في الأصول وفي كثير من الفروع مع عدم اختلاف الصحابة فيه

فإذا قال الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أو نهى لا يكون إلا بعد سماعه ما هو أمر حقيقة
الرتبة الرابعة أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا فيتطرق إليه من الاحتمالات ما مضى واحتمال آخر وهو أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه و سلم من الأئمة والعلماء
وذهبت طائفة إلى أنه لا يحتج به لهذا الاحتمال وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله وأمر رسوله لأنه يريد به إثبات الشرع وإقامة حجته فلا يحمل على قول من لا يحتج بقوله وفي معناه قوله من السنة كذا والسنة جارية بكذا فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته ولا فرق بين قول الصحابي ذلك في حياة النبي صلى الله عليه و سلم أو بعد موته وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء إلا أن الاحتمال في قول التابعي أظهر
الرتبة الخامسة أن يقول كنا نفعل أو كانوا يفعلون فمتى أضيف إلى زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو دليل على جوازه لأن ذكره ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه النبي صلى الله عليه و سلم فسكت عنه ليكون دليلا مثل قول ابن عمر كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر

ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينكره وقال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعده أربعين سنه حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث وقالت عائشة كانوا لا يقطعون في الشيء التافه
فإن قال التابعي كانوا يفعلون فقال أبو الخطاب يكون نقلا للإجماع لتناول اللفظ إياه وقال بعض أصحاب الشافعي لا يدل ذلك على فعل الجميع ما لم يصرح بنقله عن أهل الإجماع قال أبو الخطاب وإذا قال الصحابي هذا الخبر منسوخ وجب قبوله ولو فسره بتفسير وجب الرجوع إلى تفسيره

أقسام الخبر
فصل
وحد الخبر هو الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب وهو قسمان تواتر وآحاد
فالمتواتر يفيد العلم ويجب تصديقه وإن لم يدل عليه دليل آخر وليس في الآخبار ما يعلم صدقه بمجرده إلا المتواتر وما عداه إنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر خلافا للسمنية فإنهم حصروا العلم

في الحواس وهو باطل فإننا نعلم استحالة كون الألف أقل من الواحد واستحالة اجتماع الضدين بل حصرهم العلم في الحواس على زعمهم معلوم لهم وليس مدركا بالحواس ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى مكة ولا نشك في وجود الأنبياء بل في وجود الأئمة الأربعة ونحو ذلك
فإن قيل لو كان معلوما ضرورة لما خالفناكم
قلنا إنما يخالف في هذا معاند يخالف بلسانه مع معرفته فساد قوله أو من في عقله خبط ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل عنادهم ثم لو تركنا ما علمناه لمخالفتكم لزمنا ترك المحسوسات لمخالفة السوفسطائية

التواتر يفيد العلم الضروري
فصل
قال القاضي العلم الحاصل بالتواتر ضروري وهو صحيح فإننا نجد أنفسنا مضطرين إليه كالعلم بوجود مكة ولأن العلم النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من اهل النظر ولا من ترك النظر قصدا
وقال أبو الخطاب هو نظري لأنه لم يفد العلم بنفسه مالم ينتظم في النفس مقدمتان

إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وكثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون عليه
الثاني أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة فينبني العلم بالصدق على المقدمتين ولا بد من إشعار النفس بهما وإن لم يتشكل فيها بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بتوسطها كقولنا الاثنان نصف الأربعة فإنا لا نعلم ذلك إلا بواسطة أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والإثنان كذلك فقد حصل العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن ولهذا لو قيل ستة وثلاثون نصف اثنين وسبعين افتقر فيه إلى تأمل ونظر والضروري عبارة عن الأولى الذي يحصل بغير واسطة كقولنا القديم ليس محدثا والمعدوم ليس موجودا لأننا نجد أنفسنا مضطرين إليه وهو يحصل دون تشكل واسطة في الذهن كالعلوم المحسوسة والعلم بالتجربة كقولنا الماء مرو والخمر مسكر والصحيح الأول فإن اللفظ يدل عليه لاشتقاقه منه والقول الآخر مجرد اختيار لا دليل عليه

وسائل العلم تفيده في كل واقعة
فصل
ذهب قوم إلى أن ما حصل العلم في واقعه يفيده في كل واقعة وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع ولا يجوز أن يختلف وهذا أنما يصح إذا تجرد الخبر عن القرائن فإن اقترنت به قرائن جاز أن تختلف به الوقائع والأشخاص لأن القرائن قد تورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار فلا يبعد أن تضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن وكيفية دلالتها فنقول لا شك أنا نعرف أمورا ليست محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبه

لإنسان وبغضه إياه وخوفه منه وخجله وهذه أحوال في النفس لا يتعلق بها الحس قد يدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال لكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكده ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال إلى أن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردا ويحصل القطع بالاجتماع فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بأفعال المحبين من خدمته وبذل ماله له وحضوره مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس وكل واحد منها إذ انفرد يحتمل أن يكون لغرض أضمره لا لمحبته لكن تنتهي كثرة هذه للدلالات إلى حد يحصل لنا العلم القطعي بحبه وكذلك نشهد الصبي يرضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن لكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه وسكوته عن بكائه من كونه لم يتناول طعاما آخر وكون ثدي المرأة الشابة لا يخلو من لبن والصبي لا يخلو عن طبع باعث على الامتصاص ونحو ذلك من القرائن فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص مع قرائن تنضم إليه ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم والتجربة تدل على هذا وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم فهذا يؤثر في النفوس تأثيرا لا ينكر

شروط التواتر
فصل
وللتواتر ثلاثة شروط
الأول أن يخبروا عن علم ضروري مستند إلى محسوس إذ لو أخبرنا

الجم الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الأنبياء لم يحصل لنا العلم بخبرهم
الثاني أن يستوي طرف الخبر ووسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد لأن خبر كل عصر يستقل بنفسه فلا بد من وجود الشروط فيه ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى عليه السلام تكذيب كل ناسخ لشريعته
الشرط الثالث في العدد الذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه فمنهم من قال يحصل باثنين ومنهم من قال يحصل بأربعة وقال قوم بخمسة وقال قوم بعشرين وقال آخرون بسبعين وقيل غير ذلك والصحيح أنه ليس عددا محصورا فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الأنبياء عليهم السلام ولا سبيل إلى معرفته فإنه لو قتل رجل في السوق وانصرفت جماعة فأخبرونا بقتله فإن قول الأول يحرك الظن والثاني يؤكده ولا يزال يتزايد حتى يصير ضروريا ولا يمكننا تشكيك أنفسنا فيه فلو تصور الوقوف على اللحظة التي حصل فيها العلم ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف عليه ولكن درك تلك اللحظة عسير فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج كتزايد عقل الصبي المخبر إلى أن يبلغ حد التكليف وتزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال فلذلك تعذر علىالقوة البشرية إدراكه
فأما ما ذهب إليه المخصصون بالأعداد فتحكم فاسد لا يناسب الغرض ولا يدل عليه وتعارض أقوالهم يدل على فسادها
فإن قيل فكيف تعلمون حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده

قلنا كما نعلم أن الخبز مشبع والماء مرو وإن كنا لا نعلم أقل مقدار يحصل به ذلك فنستدل بحصول العلم الضروري على كمال العدد لا أننا نستدل بكمال العدد على حصول العلم

الإسلام والعدالة في صحة التواتر
فصل
ليس من شروط التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولا لأن إفضاءه إلى العلم من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه ويمكن ذلك في الكفار كإمكانه في المسلمين ولا يشترط أيضا ألا يحصرهم عدد ولا تحويهم بلد فإن الحجيج إذا أخبروا بواقعة صدتهم عن الحج وأهل الجمعة إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت من الصلاة علم صدقهم مع دخولهم تحت الحصر وقد حواهم مسجد فضلا عن البلد
كتمان أهل التواتر يحتاج إلى النقل
فصل
ولا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته
وأنكر ذلك الإمامية وليس بصحيح لأن كتمان ذلك يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به فلم يجز وقوع ذلك منهم وتواطؤهم عليه
فإن قيل قد ترك النصارى نقل كلام عيسى في المهد
قلنا لأن كلامه في المهد قبل ظهوره واتباعهم له
القسم الثاني اخبار الآحاد وهي ما عدا المتواتر
اختلفت الرواية عن إمامنا رحمه الله في حصول العلم بخبر الواحد فروى أنه لا يحصل به وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا لأنا نعلم ضرورة أنا لا نصدق كل خبر نسمعه ولو كان مفيدا للعلم لما صح ورود خبرين متعارضين لاستحالة اجتماع الضدين ولجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به لكونه بمنزلتها في إفادة العلم ولوجب الحكم بالشاهد الواحد ولاستوى في ذلك العدل والفاسق كما في المتواتر
وروى عن أحمد أنه قال في أخبار الرؤية يقطع على العلم بها وهذا يحتمل أن يكون في أخبار الرؤية وما أشبهها مما كثرت رواته وتلقته الآمة بالقبول ودلت القرائن على صدق ناقله فيكون إذن من المتواتر إذ ليس للمتواتر عدد محصور ويحتمل أن يكون خبر الواحد عنده مفيدا للعلم وهو قول جماعة من أصحاب الحديث وأهل الظاهر قال بعض العلماء إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم وإتقانهم ونقل من طرق متساوية وتلقته الأمة بالقبول ولم ينكره منهم منكر فإن الصديق والفاروق رضي الله عنهما لو رويا شيئا سمعاه أو رأياه لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا ريب مع ما تقرر في نفسه لهما وثبت عنده من ثقتهما وأمانتهما ولذلك اتفق السلف في نقل أخبار الصفات وليس فيها عمل وإنما فائدتها وجوب تصديقها واعتقاد ما فيها لأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها والإجماع حجة قاطعة فأما التعارض فيما هذا سبيله فلا يسوغ في الأخبار المتواترة وآي الكتاب

وقولهم إنا لا نصدق كل خبر نسمعه فلأننا جعلناه مفيدا للعلم لما اقترن به من قرائن زيادة الثقة وتلقي الأمة له بالقبول ولذلك اختلف خبر العدل والفاسق وأما الحكم بشاهد واحد فغير لازم فإن الحاكم لا يحكم بعلمه وإنما يحكم بالبينة التي هي مظنة الصدق والله أعلم

التعبد بخبر الواحد عقلا
فصل
وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا لأنه يحتمل أن يكون كذبا والعمل به عمل بالشك وإقدام على الجهل فتقبح الحوالة على الجهل بل إذا أمرنا الشرع بأمر فليعرفناه لنكون على بصيرة إما ممتثلون وإما مخالفون
والجواب أن هذا إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالحكم بالشهادة والعمل بالفتيا أو التوجه إلى الكعبة بالاجتهاد عند الاشتباه وإنما يفيد الظن كما يفيد بالعلم بالتواتر والتوجه إلى الكعبة عند عدم معاينتها فلم يستحل أن يلحق المظنون بالمعلوم وإن صدر من منكر للشرع فيقال له أي استحالة في أن يجعل الله تعالى الظن علامة للوجوب والظن مدرك بالحس فيكون الوجوب معلوما فيقال له إذا ظننت صدق الشاهد والرسول والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه بل بالعمل به عند ظن صدقه وأنت ممتثل مصيب صدق أم كذب كما يجوز أن يقال إذا طار طائر ظننتموه غرابا أوجبت عليكم كذا وجعلت ظنكم علامة كما جعل زوال الشمس علامة على وجوب الصلاة
قبول خبر الواحد عقلا
فصل
وقال أبو الخطاب العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد لأمور ثلاثة

أحدها أنا لو فرضنا العمل على القطع تعطلت الأحكام لندرة القواطع وقلة مدارك اليقين
الثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم مبعوث إلى الكافة ولا يمكنه مشافهة جميعهم ولا إبلاغهم بالتواتر
الثالث أنا إذا ظننا صدق الراوي فيه ترجح وجود أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام فالاحتياط العمل بالراجح
وقال الأكثرون لا يجب التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يستحيل ذلك ولا يلزم من عدم التعبد به تعطيل الأحكام لإمكان البقاء على البراءة الأصلية والاستصحاب والنبي صلى الله عليه و سلم يكلف تبليغ من امكنه من أمته تبليغه دون من لا يمكنه كمن في الجزائر ونحوها

التعبد بخبر الواحد سمعا
فصل
فأما التعبد بخبر الواحد سمعا فهو قول الجمهور خلافا لأكثر القدرية وبعض أهل الظاهر ولنا دليلان قاطعان
أحدهما إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبوله فقد اشتهر ذلك عنهم في وقائع لا تنحصر إن لم يتواتر آحادها حصل العلم بمجموعها منها أن الصديق رضي الله عنه لما جاءته الجدة تطلب ميراثها نشد الناس

من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فشهد له محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاها السدس فرجع إلى قولهما وعمل به عمر بعده وروى عن عمر في وقائع كثيرة منها قصة الجنين حين قال أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جاريتين لي فضربت أحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره وكان

لا يورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ورجع إلى حديث عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه و سلم في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وأخذ عثمان بخبر فريعة في

السكنى بعد أن ارسل إليها وسألها وعلي كان يقول كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني

عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما من عبد يذنب فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له ولما اختلف الأنصار في الغسل من المجامعة أرسلوا أبا موسى إلى عائشة فروت لهم عن النبي صلى الله عليه و سلم أذا مس الختان الختان وجب الغسل فرجعوا إلى قولها واشتهر رجوع أهل قباء إلى خبر الواحد في التحول إلى الكعبة وروى أنس

قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ إذ أتانا آت فقال إن الخمرة قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها فكسرتها ورجع ابن عباس إلى حديث أبي سعيد

في الصرف وابن عمر إلى حديث ورافع بن خديج في المخابرة وكان زيد بن ثابت يرى أن لا تصدر الحائض حتى تطوف فقال

له ابن عباس سل فلانة الأنصارية هل أمرها النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فأخبرته فرجع زيد يضحك وقال لابن عباس ما أراك إلا قد صدقت والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى واتفق التابعون عليه أيضا وإنما حدث الاختلاف بعذ ذلك فإن قيل لعلهم عملوا بأسباب قارنت هذه الأخبار لا بمجردها كما أنهم أخذوا بالعموم وعملوا بصيغة الأمر والنهي ولم يكن ذلك نصا صريحا فيها قلنا قد صرحوا بأن العمل بالأخبار لقول عمر لولا هذا لقضينا بغيره وتقدير قرينة وسببها هنا كتقدير قرائن مع نص الكتاب والأخبارالمتواترة وذلك يبطل جميع الأدلة وأما العموم وصيغة الأمر والنهي فإنها ثابتة يجب الأخذ بها ولها دلالات ظاهرة تعبدنا بالعمل بمقتضاها وعملهم بها دليل على صحة دلالاتها فهي كمسألتنا وإنما أنكرها من لا يعتد بخلافه وأعتذروا بأنه لم ينقل عنهم في صيغة الأمر والعموم تصريح
فإن قيل فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة فلم يقبل النبي صلى الله عليه و سلم خبر ذي اليدين ولم يقبل أبو بكر خبر المغيرة وحده في ميراث

الجدة وعمر لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان ورد علي خبر معقل بن سنان الأشجعي في بروع وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه

قلنا الجواب من وجهين
أحدهما أن هذا حجة عليهم فإنهم قد قبلوا الأخبار التي توقفوا عنها بموافقة غير الراوي له ولم يبلغ بذلك رتبة التواتر ولا خرج عن رتبةالآحاد إلى رتبة التواتر
والثاني ان توقفهم كان لمعان مخصصة بهم فتوقف النبي صلى الله عليه و سلم في خبر ذي اليدين ليعلمهم أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يرد خبر المغيرة وإنما طلب الاستظهار بقول آخر وليس فيه ما يدل على أنه لا يقبل قوله لو انفرد وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يفعل ذلك سياسة لي ليتثبت الناس في رواية الحديث وقد صرح به فقال إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائشة لم ترد خبر ابن عمر وإنما تأولته
الدليل الثاني ما تواتر من انفاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراءه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام والقضاء وأخذ الصدقات وتبليغ الرسالة ومن المعلوم أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول ليكون مفيدا والنبي صلى الله عليه و سلم مأمور بتبليغ الرسالة ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفي به
دليل ثالث أن الإجماع انعقد على وجوب قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى فإن تطرق الغلط إلى المفتي كتطرق الغلط إلى الراوي لأن المجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يفرط وربما ظن أنه لم يفرط ويكون قد فرط وهذا عند من يجوز تقليد مقلد بعض الأئمة أولى فإنه إذا جاز أن يروي مذهب غيره

فلم لا يجوز أن يروي قول غيره فإن قيل هذا قياس لا يفيد إلا الظن وخبر الواحد أصل لا يثبت بالظن ثم الفرق بينهما أن هذا حال ضرورة فإنا لو كلفنا كل أحد الاجتهاد تعذر قلنا لا نسلم أنه مظنون بل هو مقطوع بأنه في معناه فإنا إذا قطعنا بخبر الواحد في البيع قطعنا به في النكاح ولم يختلف باختلاف المروي فيه ولم يختلف ها هنا إلا المروي عنه فإن هذا يروي عن ظنه وهذا يروي عن غيره وقولهم إنه يفضي إلى تعذر ألأحكام ليس كذلك فإن العامي يرجع إلى البراءة الأصلية واستصحاب الحال كما قلتم في المجتهد إذا لم يجد قاطعا

رأي الجبائي في خبر الواحد
فصل
وذهب الجبائي إلى أن خبر الواحد إنما يقبل إذا رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم اثنان ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى أن يصير في زماننا إلى حد يتعذر معه إثبات حديث أصلا وقاسه على الشهادة
وهذا باطل بما ذكرناه من الدليل على قبول خبر الواحد ولا يصح قياسه على الشهادة فإن الرواية تخالف الشهادة في أشياء كثيرة وكذلك لا تعتبر الرواية في الزنى أربعة كما تعتبر ذلك في الشهادة
مقبول الرواية
فصل
ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط الإسلام والتكليف والعدالة والضبط

أما الإسلام فلا خلاف في اعتباره فإن الكافر متهم في الدين
فإن قيل هذا يتجه في كافر لا يؤمن بنبينا صلى الله عليه و سلم إذ لا يليق بالسياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه أما الكافر المتأول فإنه معظم للدين يمتنع من المعصية غير عالم أنه كافر فلم لا تقبل روايته
قلنا كل كافر متأول فاليهودي أيضا متأول فإن المعاند هو الذي يعرف الحق بقلبه ويجحده بلسانه وهذا يندر بل تورع هذا من الكذب كتورع اليهودي فلا يلتفت إلى هذا ولا يستفاد هذا المنصب بغير الإسلام وقال أبو الخطاب في الكافر والفاسق المتأولين إن كان داعية فلا يقبل خبره فإنه لا يؤمن أن يضع حديثا على موافقة هواه وإن لم يكن داعية فكلام أحمد رحمه الله يحتمل الأمرين من القبول وعدمه فإنه قد قال احتملوا الحديث من المرجئة وقال يكتب عن القدري إذا لم يكن داعية واستعظم الرواية عن سعد العوفي وقال هو جهمي امتحن فأجاب واختار أبو الخطاب قبول رواية الفاسق المتأول لما ذكرناه وأن توهم الكذب منه كتوهمه من العدل لتعظيمه المعصية وامتناعه منها وهو مذهب الشافعي ولذلك كان السلف يروي بعضهم عن بعض مع اختلافهم في المذاهب والأهواء
والثاني التكليف فلا يقبل خبر الصبي والمجنون لكونه لا يعرف الله تعالى ولا يخافه ولا يلحقه مأثم فالثقة به أدنى من الثقة بقول الفاسق لكونه يعرف

الله تعالى ويخافه ويتعلق المأثم به ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر عن نفسه وهو الإقرار ففيما يخبر به عن غيره أولى أما ما سمعه صغيرا ورواه بعد البلوغ فهو مقبول لأنه لا خلل في سماعه ولا أدائه ولذلك اتفق السلف على قبول أخبار أصاغر الصحابة كابن عباس وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين والنعمان بن بشير ونظرائهم وعلى ذلك درج السلف

والخلف في إحضارهم الصبيان مجالس السماع وقبولهم لشهادتم فيما سمعوه قبل البلوغ
الثالث الضبط فمن لم يكن حاله السماع ممن يضبط ليؤدي في الآخرة على الوجه لم تحصل الثقة بقوله
الرابع العدالة فلا يقبل خبر الفاسق لأن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وهذا زجر عن الاعتماد على قبول الفاسق ولأن من لا يخاف الله سبحانه خوفا يزعه عن الكذب لا تحصل الثقة بقوله

خبر مجهول الحال
فصل
ولا يقبل خبر مجهول الحال في هذه الشروط في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي والأخرى يقبل مجهول الحال في العدالة خاصة دون بقية الشروط وهو مذهب أبي حنيفة ووجهه أربعة أدلة
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم قبل شهادة الأعرابي برؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام
الثاني أن الصحابة كانوا يقبلون رواية الأعراب والعبيد والنساء لأنهم لم يعرفوهم بفسق
الثالث أنه لو أسلم ثم روى أو شهد فإن قلتم لا نقبل فبعيد وإن قلتم

نقبل فلا مستند لذلك إلا إسلامهم مع عدم ظهور الفسق منهم فإذا مضى لذلك زمان فلا يجوز أن يجعل ذلك مستندا لرد روايته
الرابع أنه لو أخبر بطهارة الماء أو نجاسته أو أنه على طهارة قبل ذلك حتى يصلح للائتمام به ولو أخبر بأن هذه الجارية المبيعة ملكه أو أنها خالية عن زوج قبل قولهم حتى ينبني على ذلك الوطء
ووجه الرواية الأولى خمسة أمور
أحدها أن مستند قبول خبر الواحد الإجماع والمجمع عليه قبول رواية العدل ورد خبر الفاسق والمجهول الحال ليس بعدل ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله
الثاني أن الفسق مانع كالصبا والكفر فالشك فيه كالشك في الصبا والكفر من غير فرق
الثالث أن شهادته لا تقبل فكذلك روايته وإن منعوا في المال سلموا في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحدة وإن اختلفا في بقية الشروط
الرابع أن المقلد إذا شك في بلوغ المفتي درجة الاجتهاد لم يجز تقليده بل قد سلموا أنه لو شك في عدالته وفسقه لم يجز تقليده وأي فرق بين حكايته عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره
الخامس أنه لا تقبل رواية الفرع ما لم يعين شاهد الأصل فلم يجب تعيينه إن كان قول المجهول مقبولا فإن قالوا يجب تعيينه لعل الحاكم يعرفه بفسق فيرد شهادته قلنا إذا كانت العدالة هي الإسلام من غير ظهور فسق فقد عرف ذلك فلم يجب التتبع وأما قبول النبي صلى الله عليه و سلم قول الأعرابي فإن كونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بخبر عنه أو تزكيته ممن عرف حاله وإما بوحي فمن سلم لكم أنه كان

مجهولا وأما الصحابة فإنما قبلوا قول أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وقول من عرفوا حاله ممن هو مشهود العدالة عندهم وحيث جهلوا ردوا
جواب ثان أن الصحابة رضي الله عنهم لا تعتبر معرفة ذلك منهم لأنه مجمع على عدالتهم بتزكية النص لهم بخلاف غيرهم وأما الحديث العهد بالإسلام فلا يسلم قبول قوله لأنه قد يسلم الكاذب ويبقى على طبعه وإن سلمنا قبول روايته فذلك لطراوة إسلامه وقرب عهده بالإسلام وشتان بين من هو في طراوة البداية وبين من نشأ عليه بطول الألفة
فإن قيل إذا كانت العدالة لأمر باطن وأصله الخوف ولا يشاهد بل يستدل عليه بما يغلب على الظن فأصل ذلك الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به
قلنا المشاهدة والتجربة دلت على أن فساق المسلمين أكثر من عدولهم فلا نشكك أنفسنا فيما عرفناه يقينا ثم هلا اكتفى به في شهادة العقوبات وشاهد الأصل وحال المفتي وسائر ما سلموه وأما قول العاقد فهو مقبول رخصة مع ظهور فسقه لمسيس الحاجة إلى المعاملات وأما الخبر عن نجاسة الماء وقلته فلا نسلمه

أخبار النساء وغير المبصرين
فصل
ولا يشترط في الرواية الذكورية فإن الصحابة قبلوا قول عائشة وغيرها من النساء ولا البصر فإن الصحابة كانوا يروون عن عائشة رضي الله عنها عتمادا على صوتها وهم كالضرير في حقها ولا يشترط كون الراوي فقيها

لقوله ( رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) وكانت الصحابة تقبل خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثا واحدا ولا يقدح في الرواية العداوة والقرابة لأن حكمها عام لا يختص بشخص فيؤثر فيه ذلك ولا يشترط معرفة نسب الراوي فإن حديثه يقبل ولو لم يكن له نسب فالجهل أولى ألا يقدح ولو ذكر اسم شخص متردد بين مجروح وعدل فلا يقبل حديث المتردد

الجرح والتعديل
فصل
في التزكية والجرح
اعلم أنه يسمع الجرح والتعديل من واحد في الرواية لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية بخلاف الشهادة وكذلك تقبل تزكية العبد والمرأة كما تقبل روايتهما واختلفت الرواية في قبول الجرح إذا لم يتبين سببه فروى أنه يقبل لأن أسباب الجرح معلومة فالظاهر أنه لا يجرح إلا بما يعلمه وروى أنه لا يقبل لاختلاف الناس فيما يحصل به الجرح من فسق الاعتقاد والتدليس وغيره فيجب بيانه ليعلم وقيل هذا يختلف باختلاف المزكي فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه ومن عرفت عدالته دون بصيرته فنستفصله أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح فإنه اطلاع على زيادة خفيت على المعدل فإن زاد عدد المعدل على الجارح فقد قيل يقدم التعديل وهو ضعيف لأن سبب التقديم زيادة العلم فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد
التعديل
فصل
والتعديل إما بقول وإما بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم به وأعلاها صريح القول وتمامه أن يقول هو عدل رضى ويبين السبب
الثاني أن يروى عنه وهل ذلك تعديل له على روايتين والصحيح أنه إن عرف من عادته أو تصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا عن العدل كانت الرواية تعديلا له وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية عمن لو كلفوا الثناء عليه لسكتوا فليس فيه تصريح بالتعديل فإن قيل لو روى عن فاسق كان غاشا في الدين قلنا لم يوجب على غيره العمل به بل قال سمعت فلانا قال كذا وقد صدق فيه ثم لعله لم يعرفه بفسق ولا عدالة فروى عنه ووكل البحث إلى من أراد القبول
الثالث العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل فسق ويكون حكم ذلك حكم التعديل بالقول من غير ذكر السبب
الرابع أن يحكم بشهادته وذلك أقوى من تزكيته بالقول أما تركه الحكم بشهادته فليس بجرح إذ قد يتوقف في شهادته لأسباب سوى الجرح
تعديل الصحابة
فصل
والذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة رضي الله عنهم معلومة عدالتهم بتعديل الله وثنائه عليهم قال الله تعالى والسابقون الأولون وقال لقد رضي الله عن المؤمنين وقال محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار وقال النبي صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني وقال إن الله

اختارني واختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب وتعديل رسوله صلى الله عليه و سلم ولو لم يرد لكان فيما اشتهر وتواتر من حالتهم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم وبذل المهج ما يكفي في القطع بعدالتهم وهذا يتناول من يقع عليه اسم الصحابي ويحصل ذلك بصحبته ساعة ورؤيته مع الأيمان به ويحصل لنا العلم بذلك بخبره عن نفسه أو عن غيره أنه صحب النبي صلى الله عليه و سلم فإن قيل إن قوله شهادة لنفسه فكيف يقبل قلنا إنما هو خبر عن نفسه بما يترتب عليه حكم شرعي يوجب العمل لا يلحق غيره مضرة ولا يوجب تهمة فهو كرواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم

خبر المحدود في قذف
فصل
المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة فلا يرد خبره لأن نقصان العدد ليس من فعله ولهذا روى الناس عن أبي بكرة واتفقوا على ذلك وهو محدود في القذف وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايته حتى يتوب
كيفية الرواية
فصل
وهي على أربع مراتب
أعلاها قراءة الشيخ عليه في معرض الإخبار ليروى عنه وذلك يسلط الراوي أن يقول حدثني وأخبرني وقال فلان وسمعته يقول
الثانية أن يقرأ على الشيخ فيقول نعم أو يسكت فتجوز الرواية به خلافا لبعض أهل الظاهر ولنا أنه لو لم يكن صحيحا لم يسكت نعم لو كان ثم مخيلة إكراه أو غفلة لا يكتفى بسكوته وهذا يسلط الراوي على أن يقول أنبأنا أو حدثنا فلان قراءة عليه وهل يجوز أن يقول أخبرنا وحدثنا على روايتين إحداهما لا يجوز كما لا يجوز أن يقول سمعت من فلان والأخرى يجوز وهو قول أكثر الفقهاء لأنه إذا أقر به كقوله نعم والجواب بنعم كالخبر بدليل ثبوت أحكام الإقرار به ولذلك يقول أشهدني على نفسه وكذلك إذا قال الشيخ أخبرنا أو حدثنا هل يجوز للراوي عنه إبدال إحدى اللفظتين بالأخرى على روايتين وهل يجوز أن يقول سمعت فلانا فقد قيل لا يجوز لأنه يشعر بالنطق وذلك كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة أنه يريد القراءة على الشيخ
الثالثة الإجازة وهي أن يقول أجزت لك ان تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي
الرابعة المناولة وهي أن يقول خذ هذا الكتاب فاروه عني فهو كالإجازة لأن مجرد المناولة دون اللفظ لا يغني واللفظ وحده يكفي وكلاهما تجوزالرواية به فيقول حدثني أو أخبرني إجازة فإن لم يقل إجازة لم يجز

وجوزه قوم وهو فاسد لأنه يشعر بسماعه منه وهو كذب وحكى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا تجوز الرواية بالمناولة والإجازة وليس بصحيح لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق وقوله هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف كقراءته والقراءة عليه فأما إن قال سماعي ولم يقل اروه عني فلا يجوز الرواية عنه لأنه لم يأذن له فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه وكذا لو قال عندي شهادة لا يشهد بها ما لم يقل أذنت لك أن تشهد على شهادتي فالرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام لكن عند الجزم بها يتوقف وكذلك لو وجد شيئا مكتوبا بخطه لا يرويه عنه لكن يجوز أن يقول وجدت بخط فلان أما إذا قال العدل هذه نسخة من صحيح البخاري ليس له أن يروي عنه وهل يلزم العمل به فقيل إن كان مقلدا فليس له العمل به لأن فرضه تقليد المجتهد وإن كان مجتهدا لزمه لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الناس يعتمدون عليها بشهادة حاملها بصحتها دون أن يسمعها كل واحد منه فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وقيل لا يجوز العمل بما لم يسمعه والله أعلم

جواز رواية السماع إذا كان بخط ثقة
فصل
إذا وجد سماعه بخط يوثق به جاز له أن يرويه وإن لم يذكر سماعه إذا غلب على ظنه أنه سمعه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز قياسا على الشهادة ولنا ما ذكرنا من اعتماد الصحابة على كتب النبي صلى الله عليه و سلم ولأن مبني الرواية على حسن الظن وغلبته بناء على دليل وقد وجد ذلك والشهادة لا نسلمها على إحدى الروايتين وعلى الأخرى الشهادة آكد لما علم بينهما من الفروق والله أعلم
الشك في السماع
فصل
إذا شك في سماع حديث من شيخه لم يجز أن يرويه عنه لأن روايته عنه شهادة عليه فلا يشهد بما لم يعلم وإن شك في حديث من سماعه والتبس عليه لم يجز أن يروي شيئا منها مع الشك لما ذكرنا فإن غلب على ظنه في حديث أنه مسموع فقال قوم يجوز اعتمادا على غلبة الظن وقيل لا يجوز لأنه يمكن اعتبار العلم بما يرويه فلا يجوز أن يرويه مع الشك فيه كالشهادة
الشك في الخبر
فصل
إذا أنكر الشيخ الحديث وقال لست أذكره لم يقدح ذلك في الخبر في قول إمامنا ومالك والشافعي وأكثر المتكلمين ومنه منه

الكرخي قياسا على الشهادة وليس بصحيح لأن الراوي عدل جازم بالرواية فلا نكذبه بل قال لست أذكره فيمكن الجمع بين قوليهما بأن يكون نسيه فإن النسيان غالب على الإنسان وأي محدث يحفظ جميع حديثه فيجب العمل به جمعا بين قوليهما والشهادة تفارق الرواية في أمور كثيرة
منها أن لا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على الأصل والرواية بخلافه فإن الصحابة كان بعضهم يروي عن بعض مع القدرة على مراجعة النبي صلى الله عليه و سلم ولهذا كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته من غير مراجعة وأهل قباء تحولوا إلى القبلة بقول واحد من غير مراجعة وأبو طلحة وأصحابه قبلوا خبر الواحد في تحريم الخمر من غير مراجعة والله أعلم وقد روى ربيعة بن عبدالرحمن عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم حدثني ربيعة عني أني حدثته فلا ينكره أحد من التابعين

الزيادة من الثقة في الحديث
فصل
انفراد الثقة في الحديث بزيادة مقبول سواء كانت لفظا أو معنى لأنه لو انفرد بحديث لقبل فكذلك إذا انفرد بزيادة وغير ممتنع أن ينفرد بحفظ الزيادة إذ أن المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك في مجلسين وذكر الزيادة في أحدهما ولم يحضرها الناقص ويحتمل أن راوي الناقص دخل أثناء المجلس أو عرض له في أثنائه ما يزعجه أو ما يدهشه عن الإصغاء أو ما يوجب له القيام قبل التمام أو سمع الكل ونسي الزيادة والراوي للتمام عدل جازم بالرواية فلا نكذبه مع إمكان تصديقه فإن علم أن السماع كان في مجلس واحد فقال أبو الخطاب يقدم قول الأكثرين وذوي الضبط فإن تساووا في الحفظ والضبط قدم قول المثبت وقال القاضي إذا تساووا فعلى روايتين
رواية الحديث بالمعنى
فصل
وتجوز رواية الحديث بالمعنى للعالم المفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم عند الجمهور فيبدل لفظا مكان لفظ فيما لا يختلف الناس فيه كالألفاظ المترادفة مثل القعود والجلوس والصب والإراقة والحظر والتحريم والمعرفة والعلم وسائر ما لا يشك فيه ولا يتطرق إليه الاستنباط والفهم ولا يجوز إلا فيما فهمه قطعا دون ما فهمه بنوع استنباط واستدلال يختلف فيه
ولا يجوز أيضا للجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ
ومنع منه بعض أصحاب الحديث مطلقا لقول النبي صلى الله عليه و سلم

نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ولنا الإجماع على جواز شرح الحديث للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال كلمة عربية بأعجمية ترادفها فبعربية أولى وكذلك كان سفراء النبي صلى الله عليه و سلم يبلغونهم أوامره بلغتهم وهذا لأنا نعلم أنه لا يعتد باللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق ويدل على ذلك ان الخطب المتحدة والوقائع رواها الصحابة بألفاظ مختلفة ولأن الشهادة آكد من الرواية ولو سمع الشاهد شاهدا يشهد بالعجمية جاز أن يشهد شهادته بالعربية ولأنه تجوز الرواية عن غير النبي صلى الله عليه و سلم بالمعنى فكذلك عنه فإن الكذب فيهما حرام والحديث حجة لنا لأنه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه والفهم ونحن لا نجوزه لغير من يفهم
جواب آخر أن من روى بالمعنى فقد روى كما سمع ولهذا لا يعد كذبا
قال أبو الخطاب لايجوز أن يبدل لفظا بأظهر منه لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة وبالخفي أخرى

مراسيل الصحابة
فصل
مراسيل اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم مقبولة عند الجمهور
وشذ قوم فقالوا لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي وإلا فلا لأنه قد يروي عمن لم تثبت لنا صحبته
وهذا ليس بصحيح فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من اصاغر الصحابة مع إكثارهم وأكثر روايتهم عن النبي صلى الله عليه و سلم

مراسيل قال البراء بن عازب ما كل ما حدثنا به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعناه منه غير أننا لا نكذب وكثير منهم كان يرسل الحديث فإذا استكشف قال حدثني به فلان كأبي هريرة وابن عباس وغيرهما
والظاهر أنهم لا يروون إلا عن صحابي والصحابة معلومة عدالتهم فإن رووا عن غير صحابي فلا يروون إلا عمن علموا عدالته والرواية من غير عدل وهم بعيد لا يلتفت إليه ولا يعول عليه

مراسيل غير الصحابة
فصل
فأما مراسيل غير الصحابة وهو أن يقول قال النبي صلى الله عليه و سلم من لم يعاصره أو يقول قال أبو هريرة من لم يدركه ففيها روايتان إحداهما تقبل اختارها القاضي وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجماعة من المتكلمين والأخرى لا تقبل وهو قول الشافعي وبعض اهل الحديث وأهل الظاهر ولهم دليلان
أحدهما أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله فإذا لم يسمه فالجهل أتم إذ من لا يعرف عينه كيف نعرف عدالته
الثاني أن شهادة الفرع لا تقبل ما لم يعين شاهد الأصل فكذاالرواية وافتراق الشهادة والرواية في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لا يوجب فرقا في قبول رواية المجروح المجهول

ووجه الرواية الأولى أن الظاهر من العدل الثقة أنه لا يستجيز أن يخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم بقول ويجزم به إلا بعد أن يعلم ثقة ناقله وعدالته ولا يحل له إلزام الناس عبادة أو تحليل حرام أو تحريم مباح بأمر مشكوك فيه فيظهر أن عدالته مستقرة عنده فهو بمنزلة قوله أخبرني فلان وهو ثقة عدل ولو شك في الحديث ذكر من حدثه لتكون العهدة عليه دونه ولهذا قال إبراهيم النخعي إذا رويت عن عبدالله وأسندت فقد حدثني واحد وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة عنه
وأما المجهول فإن الرواية عنه ليست بتعديل له في إحدى الروايتين وفي الأخرى تكون تعديلا على ما مضى ولا كذلك ههنا
والرواية تفارق الشهادة في أمور كثيرة منها اللفظ والمجلس والعدد والذكورية والحرية عندهم والعجز عن شهود الأصل وأنه لايجوز لشهود الفرع الشهادة حتى تحملهم إياها شهود الأصل فيقولوا اشهدوا على شهادتنا والرواية تخالف هذا فجاز اختلافهما في هذا الحكم

قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى
فصل
ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى كرفع اليدين في الصلاة ومس الذكر ونحوه في قول الجمهور وقال أكثر الحنفية لا يقبل لأن ما تعم به

به البلوى كخروج النجاسة من السبيلين يوجد كثيرا وتنتقض به الطهارة ولا يحل للنبي صلى الله عليه و سلم أن لا يشيع حكمه إذ يؤدي إلى إخفاء الشريعة وإبطال صلاة الخلق فتجب الإشاعة فيه ثم تتوفر الدواعي على نقله فكيف يخفى حكمه وتقف روايته على الواحد ولنا أن الصحابة قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بدون الإنزال وخبر رافع بن خديج في المخابرة ولأن الراوي عدل جازم بالرواية وصدقه ممكن فلا يجوز تكذيبه مع إمكان تصديقه ولأن ما تعم به البلوى يثبت بالقياس والقياس مستنبط من الخبر وفرع له فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل أولى وما ذكروه يبطل بالوتر والقهقهة وخروج النجاسة من غير السبيل وتثنية الإقامة فإنه مما تعم به البلوى وقد أثبتوه بخبر الواحد ولم يكلف الله تعالى رسوله صلى الله عليه و سلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض ورد الخلق في البعض إلى خبر الواحد كما ردهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول لا تبيعوا المكيل بالمكيل والمطعوم بالمطعوم حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما يقتضي مصلحة الخلق أن يرد فيه إلى خبر الواحد

قبول خبر الواحد في الحدود
فصل
ويقبل خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات وحكى عن الكرخي أنه لا يقبل لأنه مظنون فيكون ذلك شبهة فلا يقبل لقوله عليه السلام ادرأوا الحدود بالشبهات وهذا غير صحيح فإن الحدود حكم شرعي يثبت بالشهادة فيقبل فيه خبر الواحد كسائر الأحكام ولأن ما يقبل فيه القياس المستنبط من خبر الواحد فهو بالثبوت بخبر الواحد أولى وما ذكروه يبطل الشهادة والقياس فإنهما مظنونان ويقبلان في الحدود
قبول خبر الواحد فيما يخالف القياس
فصل
ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس وحكي عن مالك أن القياس يقدم عليه وقال أبو حنيفة إذا خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به وهو فاسد فإن معاذا قدم الكتاب والسنة على الاجتهاد فصوبه النبي صلى الله عليه و سلم

وقد عرفنا من الصحابة رضي الله عنهم في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يعدلون إلى القياس عند عدم النص ولذلك قدم عمر حديث حمل بن مالك في غرة الجنين وكان يفاضل بين ديات الأصابع ويقسمها على قدر منافعها فلما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في كل أصبع عشر من الإبل رجع عنه إلى الخبر وكان بمحضر من الصحابة
ولأن قول النبي صلى الله عليه و سلم كلام المعصوم وقوله والقياس استنباط الراوي وكلام المعصوم أبلغ في إثارة غلبة الظن
ثم أصحاب أبي حنيفة قد أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر وأبطلوا الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها وحكموا في القسامة بخلاف القياس وهو مخالف للأصول

الأصل الثالث الإجماع
فصل
ومعنى الإجماع في اللغة الاتفاق يقال أجمعت الجماعة على كذا إذا اتفقوا عليه ويطلق بإزاء تصميم العزم يقال أجمع فلان رايه على كذا إذا صمم عزمه قال الله تعالى فأجمعوا أمركم وشركاءكم
ومعنى الإجماع في الشرع اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم

على أمر من أمور الدين
ووجوده متصور فإن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام وكيف يمنع تصوره والأمة كلها متعبدة بالنصوص والأدلة القواطع معرضون للعقاب بمخالفتها وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين وإذا جاز اتفاق اليهود مع كثرتهم على باطل فلم لا يجوز اتفاق أهل الحق عليه
ويعرف الإجماع بالإخبار والمشافهة فإن الذين يعتبر قولهم في الإجماع هم العلماء المجتهدون وهم مشتهرون معروفون فيمكن تعرف أقوالهم من الآفاق والإجماع حجة قاطعة عند الجمهور
وقال النظام ليس بحجة وقال والإجماع كل قول قامت حجته ليدفع عن نفسه شناعة قوله وهذا خلاف اللغة والعرف
ولنا دليلان أحدهما قول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية وهذا يوجب اتباع سبيل المؤمنين ويحرم مخالفتهم
فإن قيل إنما توعد على مشاقة الرسول وترك اتباع سبيل المؤمنين معا أو على ترك أحدهما بشرط ترك الآخر فالتارك لأحدهما بمفرده لا يلحق به الوعيد
ومن وجه آخر وهو أنه إنما ألحق الوعيد لتارك سبيلهم إذا بان له الحق لقوله تعالى من بعد ما تبين له الهدى والحق في هذه المسألة من

جملة الهدى فيدخل فيها ويحتمل أنه توعد على ترك سبيلهم فيما صاروا فيه مؤمنين ويحتمل أنه أراد بالمؤمنين جميع الأمة إلى قيام الساعة فلا يحصل الإجماع بقول أهل عصر ولأن المخالف من جملة المؤمنين فلا يكون تاركا لاتباع سبيلهم بأسرهم ولو قدر أنه لم يرد شيئا من ذلك غير أنه لا يقطع الاحتمال والإجماع أصل لا يثبت بالظن
قلنا التوعد على الشيئين يقتضي أن يكون الوعيد على كل واحد منهما منفردا أو بهما معا ولا يجوز أن يكون لاحقا بأحدهما معينا والآخر لا يلحق به وعيد كقول القائل من زنى وشرب ماء عوقب وهذا لا يدخل في القسم الثاني لأن مشاقة الرسول بمفردها تثبت العقوبة فثبت أنه من القسم الأول
وأما الثاني فلا يصح فإنه توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقا من غير شرط وإنما ذكر تبين الهدي عقيب قوله ومن يشاقق الرسول وليس بشرط لإلحاق الوعيد على مشاقة الرسول اتفاقا فلأن لا يكون شرطا لترك اتباع سبيل المؤمنين مع انه لم يذكر معه أولى
وأما الثالث فنوع تأويل وحمل اللفظ على صورة واحدة
الدليل الثاني من السنة قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على ضلالة وروى لا تجتمع على خطأ وفي لفظ لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ وقال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن

وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح وقال من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وقال من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية وقال عليكم بالسواد الأعظم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين ونهي عن الشذوذ وقال من شذ شذ في النار وقال لاتزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وقال من أراد بحبوحة الجنة فليلزم

الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهودة في الصحابة والتابعين لم يدفعها أحد من السلف والخلف وهي وإن لم تتواتر آحادها حصل لنا بمجموعها العلم الضروري أن النبي صلى الله عليه و سلم عظم شأن هذه الأمة وبين عصمتها عن الخطأ وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى تصديق شجاعة علي وسخاء حاتم وعلم عائشة وإن لم يكن آحاد الأخبار فيها متواترا بل يجوز على كل واحد منها الكذب لو جردنا النظر إليه ولا يجوز على المجموع ويشبه ذلك ما يحصل فيه العلم بمجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال وتحصل بمجموعها العلم الضروري
ومن وجه آخر أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يظهر فيه أحد خلافا إلى زمن النظام ويستحيل في مطرد العادة ومستقرها توافق الأمم في أعصار مطردة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتباين المذاهب في الرد والقبول ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه
ومن وجه آخر وهو أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا

به وهو الإجماع الذي يحكم على كتاب الله وسنة رسوله ويستحيل في العادة التسليم بخبر يرفعون به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به أما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستنده إلى خبر غير معلوم الصحة وكيف يذهل عنه جميع الأمة إلى زمن النظام فيختص بالتنبيه له هذا وجه الاستدلال

عدد من ينعقد بهم الإجماع
فصل
ولا يشترط في أهل الإجماع أن يبلغوا عدد التواتر لأن الحجة في قولهم لصيانة الأمة عن الخطأ بالأدلة المذكورة فإذا لم يكن على الأرض مسلم سواهم فهم على الحق يقينا صيانة لهم عن الاتفاق على الخطأ
من هو أهل للإجماع
فصل
ولا اختلاف في اعتبار علماء العصر من أهل الاجتهاد في الإجماع وأنه لا يعتد بقول الصبيان والمجانين فأما العوام فلا يعتبر قولهم عند الأكثرين
وقال قوم يعتبر قولهم لدخولهم في اسم المؤمنين ولفظ الأمة وهذا

القول يرجع إلى إبطال الإجماع إذ لا يتصور قول الأمة كلهم في حادثة واحدة وإن تصور فمن الذي ينقل قول جميعهم مع كثرتهم وتفرقهم في البوادي والأمصار والقرى
ولأن العامي ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي في نقصان الآلة ولا يفهم من عصمة الأمة عن الخطأ إلا عصمة من تتصور منه الإصابة لأهليته والعامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وليس يدري ما يقول
ولهذا انعقد الإجماع على أنه يعصي بمخالفة العلماء ويحرم عليه ذلك ولذلك ذم النبي صلى الله عليه و سلم الرؤساء الجهال الذين أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم الفتوى بالجهل والهوى

لا يقدح في الإجماع مخالفة أهل الكلام ومن في حكمهم
فصل
ومن يعرف من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم كأهل الكلام واللغة والنحو ودقائق الحساب فهو كالعامي لا يعتد بخلافه فإن كل أحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما سواه
فأما الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع والفقيه الحافظ لأحكام الفروع من غير معرفة بالأصول والنحوي إذا كان الكلام في مسألة تنبني على النحو فلا يعتد بقولهم أيضا

وقال قوم لا ينعقد الإجماع بدونهم لأن الأصولي مثلا العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنطوق وصيغة الأمر والنهي والعموم يتمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع وآية ذلك أن العباس وطلحة والزبير ونظراءهم ممن لم ينصب نفسه للفتيا نصب العبادلة وزيد بن ثابت ومعاذا يعتد بخلافهم وكيف لا يعتد بهم وهم

يصلحون للإمامة العظمى وقد سمى بعضهم في الشورى ولم يكونوا يحفظون الفروع بل لم تكن الفروع موضوعة بعد لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما والحافظ للفروع قد لا يحفظ دقائق مسائل الحيض والوصايا
فأصل هذه الفروع لأصل هذه الدقائق
ولنا أن من لا يعرف الأحكام لا يعرف النظير فيقيس عليه ومن لا يعرف الاستنباط مع عدم معرفته ما يستنبط منه لا يمكنه الاستنباط وكذلك من يعرف النصوص ولا يدري كيف يتلقى الأحكام منها كيف يمكنه تعرف الأحكام
وأما الصحابة الذين ذكروهم فقد كانوا يعلمون أدلة الأحكام وكيفية الاستنباط وإنما استغنوا بغيرهم واكتفوا بمن سواهم
فإن قيل فهذه المسألة اجتهادية ام قطعية قلنا اجتهادية فمتى جوزنا أن يكون قول واحد من هؤلاء معتبرا فخالف لم يبق الاجماع حجة قاطعة

لا يعتد في الإجماع بقول كافر
فصل
ولا يعتد في الإجماع بقول كافر سواء بتأويل أو بغيره فأما الفاسق باعتقاد أو فعل فقال القاضي لا يعتد بهم وهو قول جماعة لقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس أي عدولا وهذا غير عدل فلا تقبل روايته ولا شهادته ولا قوله في الإجماع ولأنه لا يقبل قوله منفردا فكذلك مع غيره وقال أبو الخطاب يعتد بهم لدخولهم في قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله عليه السلام لا

تجتمع أمتي على خطأ

الاعتداد بقول مجتهدي التابعين في عصر الصحابة
مسألة
وإذا بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة اعتد بخلافه في الإجماع عند الجمهور واختاره أبو الخطاب وقال القاضي وبعض الشافعية لا يعتد به وقد أومأ أحمد رضي الله عنه إلى القولين
وجه قول القاضي أن الصحابة شاهدوا التنزيل وهم أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد وقولهم حجة على من بعدهم فهم مع التابعين كالعلماء مع العامة ولذلك قدمنا تفسيرهم وأنكرت عائشة على أبي سلمة حين خالف ابن عباس قال إنما مثلك مثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح لصياحها

ووجه الأول أنه إذا بلغ رتبة الاجتهاد فهو من الأمة فإجماع غيره لا يكون إجماع كل الأمة والحجة إجماع الكل نعم لو بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع فهو كمن أسلم بعد تمام الإجماع ولا خلاف أن الصحابة رضي الله عنهم سوغوا اجتهاد التابعين ولهذا ولى عمر رضي الله عنه شريحا القضاء وكتب إليه مالم تجد في السنة اجتهد رأيك وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبدالله كعلقمة والأسود وغيرهما وسعيد بن المسيب وفقهاء المدينة كانوا يفتون في عصر الصحابة

رضي الله عنهم فكيف لا يعتد بخلافهم وقد روى الإمام أحمد في الزهد أن أنسا سئل عن مسألة فقال سلوا مولانا الحسن فإنه غاب وحضرنا وحفظ ونسينا وإنما يفضل الصحابي بفضيلة الصحبة أليس فيكم أبو الشعثاء يعني جابر بن زيد وروى نحوه عن جابر بن عبدالله وإنما فضل الصحابي بفضيلة الصحبة ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول متأخري الصحابة بقول متقدميهم وقول المتقدم منهم بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإنكار عائشة على أبي سلمة مخالفة ابن عباس قد خالفها أبو هريرة فقال أنا مع ابن اخي هي قضية في عين يحتمل أنها أنكرت عليه ترك التأدب مع ابن عباس أو لم تره بلغ رتبة الاجتهاد أو غير ذلك من المحتملات والله أعلم

انعقاد الإجماع بقول أكثر أهل العصر
فصل
ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من اهل العصر في قول الجمهور
وقال محمد بن جرير وأبو بكر الرازي ينعقد وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله ووجهه أن مخالفة الواحد شذوذ وقد نهى عن الشذوذ وقال عليه السلام عليكم بالسواد الآعظم وقال الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد
ولنا أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه وقد قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
فإن قيل قد يطلق اسم الكل على الأكثر قلنا هذا مجاز لأن الجمع العرفي حقيقة في الاستغراق ولهذا يصح أن يقال إنهم ليسوا كل المؤمنين ولا يجوز التخصيص بالتحكم وقد وردت نصوص تدل على قلة أهل الحق وذم الأكثرين كقوله تعالى ولكن أكثرهم لا يعقلون ونحوها وقليل ماهم

وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقليل من عبادي الشكور وقال صلى الله عليه و سلم بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ فطوبي للغرباء
دليل ثان إجماع الصحابة على تجويز المخالفة للآحاد فانفرد ابن مسعود بخمس مسائل في الفرائض وابن عباس بمثلها فإن قيل فقد أنكروا على ابن عباس القول بالمتعة وإنما الربا في النسيئة وأنكرت عائشة على زيد ابن أرقم مسألة العينة وأنكر ابن عباس على من خالفه في العول والجد قلنا إنما أنكروا عليهم لمخالفتهم السنة المشهورة والأدلة الظاهرة ثم هب أنهم أنكروا عليهم والمنفرد منكر عليهم إنكارهم فلم ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم والشذوذ يتحقق بالمخالفة بعد الوفاق ولعله أراد

به الشاذ من الجماعة الخارج على الإمام على وجه يثير الفتنة كفعل الخوارج وهذا الجواب عن الحديث الآخر والله أعلم

إجماع أهل المدينة
فصل
وإجماع أهل المدينة ليس بحجة وقال مالك هو حجة لأنها معدن العلم ومنزل الوحي وبها أولاد الصحابة فيستحيل اتفاقهم على غير الحق وخروجه عنهم
ولنا أن العصمة تثبت للأمة بكليتها وليس أهل المدينة كل الأمة وقد خرج من هو أعلم من الباقين بها كعلي وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وأبي عبيدة وأبي موسى وغيرهم من الصحابة فلا ينعقد الإجماع بدونهم وقولهم يستحيل خروج الحق عنهم تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع رجل حديثا من النبي صلى الله عليه و سلم في سفر أو في المدينة ثم يخرج منها قبل نقله وفضل المدينة لا يوجب انعقاد الإجماع بأهلها فإن مكة أفضل منها ولا أثر لها في الإجماع ولأن أجماعهم لو كان حجة لوجب أن يكون حجة في جميع الأزمنة ولا خلاف في أن قولهم لا يعتد به في زماننا فضلا عن أن يكون إجماعا
اتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع
فصل
واتفاق الآئمة الخلفاء الأربعة ليس بإجماع وقد نقل عن احمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يخرج من قولهم إلى قول غيرهم والصحيح أن ذلك ليس بإجماع لما ذكرناه وكلام أحمد في إحدى الروايتين عنه يدل على أن قولهم حجة ولا يلزم من كل ما هو حجة ان يكون إجماعا
هل انقراض أهل العصر شرط لصحة الإجماع
مسألة
ظاهر كلام أحمد رحمه الله أن انقراض أهل العصر شرط في صحة الإجماع وهو قول بعض الشافعية وقد أومأ إلى أن ذلك ليس بشرط بل لو اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة واحدة انعقد الإجماع وهو قول الجمهور واختاره أبو الخطاب وأدلة ذلك أربعة
أحدها أن دليل الإجماع الآية والخبر وذلك لا يوجب اعتبار العصر
الثاني أن حقيقة الإجماع الاتفاق وقد وجد ودوام ذلك استدامة له والحجة في اتفاقهم لا في موتهم
الثالث أن التابعين كانوا يحتجون بالإجماع في زمن أواخر الصحابة كأنس وغيره ولو اشترط انقراض العصر لم يجز ذلك
الرابع أن هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذا لم يتم الإجماع وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم فلتابعي التابعين مخالفتهم وهذا خبط
ووجه الأول أمران
أحدهما ذكره الإمام احمد وهو أن أم الولد كان حكمها حكم الأمة

بإجماع ثم أعتقهن عمر وخالفه علي بعد موته وحد الخمر كان في زمن أبي بكر أربعين ثم جلد عمر ثمانين ثم جلد على أربعين ولو لم يشترط انقراض العصر لم يجز ذلك
الثاني أن الصحابة لو اختلفوا على قولين فهو اتفاق منهم على تسويغ الخلاف والأخذ بكل واحد من القولين فلو رجعوا إلى قول واحد صارت المسألة إجماعا ولو لم يشترط انقراض العصر لم يجز ذلك لأنه يفضي إلى خطأ أحد الإجماعين
فإن قيل لا نسلم تصور وقوع هذا لكونه يفضي إلى خطأ أحد الإجماعين ثم إن سلمنا تصوره فلا نسلم أن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف بل كل طائفة تقول الحق معنا والأخرى مخطئة وإنما سوغت للعامي أن يستفتي كل أحد حتى لا يتحرج فإذا اتفقوا زال القول الآخر لعدم من يفتي به
الثالث لا نسلم أن إجماعهم بعد الاختلاف إجماع صحيح
قلنا هذا متصور عقلا إذ لا يمتنع أن يتغير اجتهاد المجتهد ولا نحجر عليه أن يوافق مخالفه فمن ذهب إلى تصحيح النكاح بغير ولي لم لا يجوز له أن يوافق من أبطله إذا ظهر له دليل بطلانه وإذا انفرد الواحد عن الصحابة كانفراد ابن عباس في مسألة العول لم لا يجوز أن يرجع إلى قولهم وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتال ما نعي الزكاة بعد الخلاف وعلى أن الأئمة من قريش وعلى إمامة أبي بكر رضي الله عنه بعد الخلاف ولا خلاف في تجويز ذلك في القطعيات فلم لا يجوز في الظنيات ومنع ذلك بناء على تعارض الإجماعين ينبني على أن الإجماع تم في بعض العصر وهو محل النزاع فكيف يجعل دليلا عليه

والثاني باطل إذ لا خلاف أن فرض المجتهد في مسائل الاجتهاد ما يؤديه إليه اجتهاده وفرض المقلد تقليد أي المجتهدين شاء
والثالث دليله إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر بعد الاختلاف فدل على صحته

إجماع أهل كل عصر حجة
فصل
إجماع أهل كل عصر حجة كإجماع الصحابة خلافا لداود وقد أومأ احمد رحمه الله إلى نحو ذلك لأن الواجب اتباع سبيل المؤمنين جميعهم والصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا من المؤمنين ولا من الأمة ولذلك لو أجمع التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر إجماعا ولا ينعقد الإجماع دون الغائب فكذلك الميت ومقتضى هذا أن لا ينعقد الإجماع أيضا للصحابة لكن لو اعتبرنا ذلك لم ينتفع بالإجماع فاعتبرنا قول من دخل في الوجود دون من لم يوجد أو نقول الآية والخبر تناولا الموجودين الذين كان وجودهم حين نزول الآية إذ المعدوم لا يوصف بإيمان ولا أنه من الأمة ولأنه يحتمل أن يكون لبعض الصحابة في هذه الحادثة قول لم نعلمه يخالف ما أجمع عليه التابعون فلا ينعقد إجماعهم بخلافه
ولنا ما ذكرناه من الأدلة على قبول الإجماع من غير تفريق بين عصر

وعصر والتابعون إذاأجمعوا فهو إجماع من الأمة ومن خالفهم سالك غير سبيل المؤمنين ويستحيل بحكم العادة شذوذ الحق عنهم مع كثرتهم كما سبق ولأنه إجماع أهل العصر فكان حجة كإجماع الصحابة وما ذكروه باطل إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد الإجماع بعد موت من مات من الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وبعده بعد نزول الآية كشهداء أحد واليمامة ولا خلاف في أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع وكما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين فالماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر وكلية الأمة حاصلة لكل الموجودين في كل وقت ويدخل في ذلك الغائب لأنه ذو مذهب تمكن مخالفته وموافقته بالقوة والميت لا يتصور في حقه وفاق ولا خلاف لا بالقوة ولا بالفعل بل الطفل والمجنون لا ينتظر لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف فالميت أولى وما ذكر من احتمال مخالفة واحد من الصحابة يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة مخالفته وهذا هو التحقيق لأنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج إذ ما من حكم إلا يتصور تقدير نسخه ولم ينقل وإجماع الصحابة يحتمل أن يكون واحد منهم أضمر المخالفة وأظهر الموافقة لسبب أو رجع بعد أن وافق والخبر يحتمل ان يكون كذبا فلا يلتفت إلى هذه الاحتمالات

إجماع التابعين على احد قولي الصحابة
فصل
وإذا اختلف الصحابة على قولين فأجمع التابعون على أحدهما فقال أبو الخطاب والحنفية يكون إجماعا لقوله عليه السلام لا تزال طائفة من أمتي على الحق وغيره من النصوص ولأنه اتفاق من أهل عصر

فهو كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفقوا على أحدهما
وقال القاضي وبعض الشافعية لا يكون إجماعا لأنه فتيا بعض الأمة لأن الذين ماتوا على القول الآخر من الأمة لا يبطل مذهبهم بموتهم ولذلك يقال خالف ا حمد او وافق بعد موته فأشبه ما إذا اختلفوا على قولين فانقرض القائل بأحدهما
فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فيكون خلاف قولهم حراما وإن لم يكونوا كل الأمة فلا يكون قولهم إجماعا أما أن يكونوا كل الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض
قلنا الكلية تثبت بالإضافة إلى مسألة حدثت في زمنهم أما ما أفتى به الصحابي فقوله لا يسقط بموته ولو مات القائل فأجمع الباقون على خلافه كان إجماعا
ومن وجه آخر أن اختلاف الصحابة على قولين اتفاق منهم على تسويغ الأخذ بكل منهما فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم

إجماع الصحابة على قولين يمنع احداث قول ثالث
فصل
إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث في قول الجمهور وقال بعض الحنفية وبعض أهل الظاهر يجوز لأمور ثلاثة
أحدها أن الصحابة خاضوا خوض مجتهدين ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث
الثاني أنه لو استدل الصحابة بدليل وعللوا بعلة جاز الاستدلال والتعليل بغيرهما لأنهم لم يصرحوا ببطلانه كذا هنا

الثالث أنهم لو اختلفوا في مسألتين فذهب بعضهم إلى الجواز فيهما وذهب الآخرون إلى التحريم فيهما فذهب التابعي إلى التجويز في أحدهما والتحريم في الأخرى كان جائزا وهو قول ثالث
ولنا أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عنه فإنه لو كان الحق في القول الثالث كانت الأمة قد ضيعته وغفلت عنه وخلا العصر من قائم لله بحجته ولم يبق منهم عليه أحد وذلك محال
قولهم لم يصرحوا بتحريم قول ثالث قلنا ولو اتفقوا على قول واحد فهو كذلك ولو لم يجوزوا خلافه فأما إذا عللوا بعلة فيجوز بسواها لأنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد وليس على الإطلاع على علة أخرى نسبة إلى تضييع الحق بخلاف مسألتنا
وأما إذا اختلفوا في مسألتين فإنهم إن صرحوا بالتسوية بين المسألتين فهو كمسألتنا لا يجوز التفريق وإن لم يصرحوا به جاز التفريق لأن قوله في كل مسألة موافق لمذهب طائفة ودعوى المخالفة للإجماع ههنا جهل بمعنى المخالفة إذ المخالفة نفي ما أثبتوه أو إثبات ما نفوه ولم يتفق أهل العصر على إثبات أو نفي في حكم واحد ليكون القول بالنفي والإثبات مخالفا ولا يلتئم الحكم من المسألتين بل نقول لا يخلو الإنسان من خطأ ومعصية والخطأ موجود من جميع الأمة وليس محالا إنما المحال الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا تقوم به طائفة ولهذا يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فريقين فتخطىء فرقة في مسألة وتصيب فيها الأخرى وتخطىء في المسألة الأخرى وتصيب فيها المخطئة الأولى والله اعلم

الإجماع السكوتي
فصل
إذا قال بعض الصحابة قولا فانتشر في بقية الصحابة فسكتوا فإن لم يكن قولا في تكليف فليس بإجماع وإن كان فعن أحمد رضي الله عنه ما يدل على أنه إجماع وبه قال أكثر الشافعية
وقال بعضهم يكون حجة ولا يكون إجماعا
وقال جماعة آخرون لا يكون حجة ولا إجماعا ولا ننسب إلى ساكت قولا إلا أن تدل قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين للرضا وتجويز الأخذ به
وقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب
أحدها أن يكون لمانع في باطنه لا يطلع عليه
الثاني أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب
الثالث أن لا يرى الإنكار في المجتهدات ويرى ذلك القول سائغا لمن أداه اجتهاده إليه وإن لم يكن هو موافقا
الرابع أن لا يرى البدار في الإنكار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله فيموت قبل زواله أو يشتغل عنه
الخامس أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما حين سكت عن القول بالعول في زمن عمر رضي الله عنه كان رجلا مهيبا فهبته

السادس أن يسكت لأنه متوقف في المسألة لكونه في مهلة النظر
السابع أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الأنكار وأغناه عن الإظهار لأنه فرض كفاية ويكون قد غلط فيه وأخطأ في وهمه
ولنا أن حال الساكت لا يخلو من سبعة أقسام
أحدها أن يكون لم ينظر في المسألة
الثاني أن ينظر فيها فلا يتبين له الحكم وكلاهما خلاف الظاهر لأن الدواعي متوفره والأدلة ظاهرة وترك النظر خلاف عادة العلماء عند النازلة ثم يفضي ذلك إلى خلو الأرض عن قائم لله بحجته
الثالث أن يسكت تقية فلا يظهر سببها ثم يظهر قوله عند ثقاته وخاصته فلا يلبث القول أن ينتشر
الرابع أن يكون سكوته لعارض لم يظهر وهو خلاف الظاهر ثم يفضي إلى خلو العصر عن قائم لله بحجته
الخامس أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب وليس ذلك قولا لأحد من الصحابة ولهذا عاب بعضهم على بعض وأنكر بعضهم على بعض مسائل انتحلوها
ثم العادة أن من ينتحل مذهبا يناظر عليه ويدعو إليه كما نشاهد في زمننا
السادس أن لا يرى الإنكار في المجتهدات وهو بعيد لما ذكرناه فثبت أن سكوته كان لموافقته
ومن وجه آخر أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة فنقل إليهم قول صحابي منتشر وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه فهو إجماع

منهم على كونه حجة ومن وجه آخر أنه لو لم يكن هذا إجماعا لتعذر وجود الإجماع إذ لم ينقل إلينا في مسألة قول كل علماء العصر مصرحا به وقول من قال هو حجة وليس بإجماع غير صحيح فإنا إن قدرنا رضا الباقين كان إجماعا وإلا فيكون قول بعض أهل العصر والله أعلم

انعقاد الإجماع عن الاجتهاد والقياس
فصل
مسألة يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة
وقال قوم لايتصور ذلك إذ كيف يتصور اتفاق الأمة مع اختلاف طبائعها وتفاوت أفهامها على مظنون أم كيف تجتمع على قياس مع اختلافهم في القياس
وقال آخرون هو متصور وليس بحجة لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يجب
ولنا أن هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال أما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في التحريم لكونه في معناه في الإسكار وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد مع تطرق الاحتمال وإذا جاز اتفاق أكثر الأمم على باطل مع أنه ليس لهم دليل قطعي ولا ظني لم لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب وأما منع تصوره بناء على الخلاف في القياس فإنا نفرض ذلك في الصحابة وهم متفقون عليه والخلاف حدث بعدهم وإن فرض ذلك بعد حدوث الخلاف فيستند أهل القياس إليه والآخرون إلى اجتهاد في مظنون ليس بقياس وهو في الحقيقة قياس فإنه قد يظن غير القياس قياسا وكذلك العكس وإذا ثبت تصوره فيكون حجة لما سبق من الأدلة على الإجماع
الإجماع قطعي وظني
فصل
الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون
فالمقطوع ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها ونقله أهل التواتر
والمظنون ما تخلف فيه أحد القيدين بأن يوجد مع الاختلاف فيه كالاتفاق في بعض العصر وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين أو توجد شروطه لكن ينقله آحاد
وذهب قوم إلى أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد لأن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به المقطوع وليس ذلك بصحيح فإن الظن متبع في الشرعيات والإجماع المنقول بطريق الآحاد يغلب على الظن فيكون ذلك دليلا كالنص المنقول بطريق الآحاد
وقولهم هو دليل قلنا قول النبي صلى الله عليه و سلم أيضا دليل قاطع في حق من شافهه أو بلغه بالتواتر وإذا نقله الآحاد كان مظنونا وهو حجة فالإجماع كذلك بل هو أولى فإنه أقوى من النص لتطرق النسخ إلى النص

وسلامة الإجماع منه فإن النسخ إنما يكون بنص والإجماع لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص

الأخذ بأقل ما قيل ليس بإجماع
فصل
الأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع نحو اختلاف الناس في دية الكتابي فقيل
دية المسلم
وقيل النصف
وقيل الثلث
فالقائل أنها الثلث ليس هو متمسكا بالإجماع لأن وجوب الثلث متفق عليه وإنما الخلاف في سقوط الزيادة وهو مختلف فيه فكيف يكون إجماعا ولو كان إجماعا كان مخالفه خارقا للإجماع وهذا ظاهر الفساد والله أعلم
الأصل الرابع
استصحاب الحال ودليل العقل
اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل لكن دل العقل على براءة الذمة من الواجبات وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل
فالنظر في الأحكام إما في إثباتها وإما في نفيها فأما الإثبات فالعقل قاصر عنه وأما النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد دليل السمع الناقل عنه فينتهض دليلا على أحد الشطرين ومثاله لما دل السمع على خمس صلوات بقيت السادسة غير واجبة لا لتصريح السمع بنفيها فإن لفظه قاصر على إيجاب

الخمس لكن كان وجوبها منتفيا ولا مثبت للوجوب فيبقى علىالنفي الأصلي وإذا أوجب عبادة على قادر بقي العاجز على ما كان عليه ولو أوجبها في وقت بقيت في غيره على البراءة الأصلية
فإن قيل إذا كان دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد وضع المشرع لا يعلم نفي السمع ومنتهاكم عدم العلم بوروده وعدم العلم ليس بحجة ولو جاز ذلك لجاز للعامي النفي مستندا إلى أنه لم يبلغه دليل
قلنا انتفاء الدليل قد يعلم وقد يظن فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال ولا صلاة سادسة إذ لو كان لنقل وانتشر ولم يخف على جميع الأمة وهذا علم بعدم الدليل لا عدم علم بالدليل فإن عدم العلم بالدليل ليس حجة والعلم بعدم الدليل حجة
وأما الظن فإن المجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة فلم يظهر له دليل مع أهليته واطلاعه على مدارك الأدلة وقدرته على الاستقصاء وشدة بحثه وعنايته غلب على ظنه انتفاء الدليل فنزل ذلك منزلة العلم في وجوب العمل لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد وهذا غاية الواجب على المجتهد وأما العامي فلا قدرة له فإن الذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ أمكنه القطع بنفي المتاع والأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يدري ما فيه لا يمكنه ادعاء نفي المتاع
فإن قيل ليس للاستقصاء غاية محدودة بل للمجتهد بداية ووسط ونهاية فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي والبيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن ومدارك الشرع غير محصورة فإن الأخبار كثيرة وربما غاب راوي الحديث قلنا مهما علم الإنسان أنه قد بلغ وسعه فلم يجد فله الرجوع إلى دليل العقل

فإن الأخبار قد دونت والصحاح قد صنفت فما دخل فيها محصور وقد انتهى ذلك إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف
فإن قيل لم لا يكون واجبا لا دليل عليه أو له دليل لم يبلغنا
قلنا أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال لأنه تكليف ما لا يطاق ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود الشرع والبحث يدلنا على عدم الدليل على ما ذكرناه
وأما استصحاب دليل الشرع فكاستصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد النسخ واستصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك الثابت وشغل الذمة بالإتلاف والالتزام وكذلك الحكم بتكرار اللزوم إذا تكررت الأسباب كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات فالاستصحاب إذن عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم الدليل بل إلى دليل ظني مع انتفاء الغير أو العلم به

استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف
فصل
فأما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف فليس بحجة في قول الأكثرين وقال بعض الفقهاء هو دليل واختاره أبو اسحاق بن شاقلا مثاله أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فنحن نستصحب ذلك حتى يأتينا دليل يزيلنا عنه

وهذا فاسد لأن الإجماع إنما دل على دوامها حال العدم فأما مع الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الاختلاف واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع وهذا لأن كل دليل يضاده نفس الخلاف لا يمكن استصحابه معه والإجماع يضاده نفس الخلاف والعموم والنص ودليل العقل لا يضاده نفس الاختلاف فلذلك صح استصحابه معه

النافي للحكم يلزمه الدليل
فصل
والنافي للحكم يلزمه الدليل وقال قوم في الشرعيات كقولنا وفي العقليات لا دليل عليه مطلقا لأمرين
أحدهما أن المدعي عليه الدين لا دليل عليه
والثاني أن الدليل على النفي متعذر فكيف يكلف ما لا يمكن كإقامة الدليل على براءة الذمة
ولنا قوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ومن المعنى يقال للنافي ما ادعيت نفيه علمته أم أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فهو معترف بالجهل وإن ادعى العلم فإما أن يعلم بنظر أو تقليد فإن ادعى العلم بتقليد فهو أيضا

معترف بعمي نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن كان ينظر فيحتاج إلى بيانه ولأنه لو أسقط الدليل عن النافي لم يعجز المثبت عن التعبير عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل قوله محدث ليس بقديم وبدل قوله قادر ليس بعاجز وقولهم إن المدعي عليه الدين لا دليل عليه عنه أجوبة
أحدها المنع فإن اليمين دليل لكنها قصرت عن الشهادة فشرعت عند عدمها واختصت بالمنكر لرجحان جانبه باليد التي هي دليل الملك واحتمال الكذب فيها لا يمنع كونها دليلا لاحتمال الكذب في الشهادة
الثاني إنما لم يحتج إلى دليل لوجود اليد التي هي دليل الملك إذ الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه
الثالث إنما لم يجب عليه الدليل لعجزه عنه إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه الشاهد من اول وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبته للحظات وهو محال وشغل الذمة أيضا لا سبيل إلى معرفته فإن الشاهد لا يحصل إلا الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو غيره وذلك في الماضي أما في الحال فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء فاكتفى بالشهادة على سبب اللزوم واكتفى معها باليمين لقول النبي صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على من انكر أما في مسألتنا فيمكن إقامة الدليل إن كان النزاع في الشرعيات

فقد يصادف الدليل عليها من الإجماع كنفي وجوب صلاة الضحى وصوم شوال أو النص كقوله لا زكاة في الحلى ولا زكاة في المعلوفة أو المفهوم أو القياس كقياس الخضروات على الرمان في نفي وجوب الزكاة وإن عدم الأدلة فيتمسك باستصحاب النفي الأصلي الثابت بدليل العقل وأما العقليات فيمكن نفيها فإن إثباتها يفضي إلى محال وما أفضى إلى المحال محال ويمكن الدليل عليه بدليل التلازم فإن انتفاء أحد المتلازمين دليل على انتفاء الآخر كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان

أصول مختلف فيها
وهي اربعة
الأصل الأول شرع من قبلنا إذا لم يصرح شرعنا بنسخه هل هو شرع

لنا وهل كان النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بعد البعثة باتباع شريعة من قبله فيه روايتان
إحداهما أنه شرع لنا اختارها التميمي وهو قول الحنفية
والثانية ليس بشرع لنا وعن الشافعية كالمذهبين
وجه أنه ليس بشرع لنا سبعة أدلة
الأول قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فدل على أن كل نبي اختص بشريعة لم يشاركه فيها غيره
الثاني قوله عليه السلام بعثت إلى الأحمر والأسود وكل نبي بعث إلى قومه فدل على أن كل نبي يختص شرعه بقومه ومشاركتنا لهم تمنع الاختصاص
الثالث أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى يوما بيد عمر قطعة من التوراة فغضب فقال ما هذا ألم آت بها بيضاء نقية لو أدركني موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي

الرابع أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال بم تحكم فذكرالكتاب والسنة والاجتهاد ولم يذكر شرع من قبلنا وصوبه صلى الله عليه و سلم ولو كانت من مدارك الأحكام لم يجز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنها
فإن قيل اندرجت التوارة والإنجيل تحت الكتاب فإنه اسم جنس يعم كل كتاب
قلنا إطلاق اسم الكتاب لا يفهم منه المسلمون غير القرآن كيف ولم يعهد من معاذ تعلم شيء من هذه الكتب ولا الرجوع إليها
الخامس لو كان النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف في الظهار والمواريث ونحوها ولم يعهد منه ذلك إلا في آية الرجم ليبين أنه ليس بمخالف لدينهم
السادس أنه لو كان مدركا لكان تعلمها وحفظها ونقلها فرض كفاية ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام ولم يفعلوا
السابع إطباق الأمة على أن هذه الشريعة شريعة الرسول صلى الله عليه و سلم بجملتها ولو تعبد بشرع غيره كان مخبرا لا شارعا
ووجه الرواية الأخرى خمس آيات وثلاثة أحاديث
أما الآيات فقوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقوله إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسملوا وقوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم وقوله شرع لكم

من الدين بما وصى به نوحا وقوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
فإن قيل أما الآيات الثلاث فالمراد بها التوحيد بدليل أنه أمره باتباع هدى جميعهم وما وصى به جملتهم وشرائعهم مختلفة وناسخة ومنسوخة فيدل على أنه أراد الهدى المشترك والملة عبارة عن أصل الدين بدليل قوله تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولا يجوز تسفيه الأنبياء الذين خالفوا شريعة إبراهيم عليه السلام والهدى والنور أصل الدين والتوحيد
قلنا الشريعة من جملة الهدى فتدخل في عموم قوله تعالى فبهداهم اقتده وهي من جملة ما أوصى الله به الآنبياء عليهم السلام
قولهم في شرائعهم الناسخ والمنسوخ قلنا إنما يتبع الناسخ دون المنسوخ كما في الشريعة الواحدة
وأما الأحاديث فمنها أنه قضى في السن بالقصاص وقال كتاب الله القصاص وليس في القرآن قصاص في السن إلا في قوله تعالى السن بالسن الثاني مراجعته التوراة في رجم الزانيين الثالث قوله من نام

عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وأقم الصلاة لذكري وهذا خطاب لموسى عليه السلام وقد أجيب عن الأول بأنه دخل في عموم قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وعن الثاني بأنه راجع التوراة ليبين كذبهم وأنه ليس بمخالف لشريعتهم
ومن المعنى أن شرع الله تعالى الحكم في حق أمة يدل على اعتبار الشرع له فلا يجوز العدول عنه حتى يدل على نسخه دليل كما في الشريعة الواحدة وأما قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فإن المشاركة في بعض الشريعة لا تمنع نسبتها بكمالها إلى المبعوث نظرا إلى الأكثر وبقية الأدلة تندفع بكون الشريعة الأولى لم تثبت بطريق موثوق به بل قد أخبر الله بتحريف أهلها وتبديلهم فلذلك أنكر النبي صلى الله عليه و سلم على عمر

كتاب التوراة وصوب معاذا في إعراضه عن كتبهم ولم يلزمه ولا الصحابة الرجوع إليها ولا البحث عنها وإنما الواجب الرجوع إلى ما ثبت منها بشرعنا كآية القصاص والرجم ونحوهما وهو ما تضمنه الكتاب والسنة فيكون منهما فلا يجوز العدول إلى الاجتهاد مع وجوده

الأصل الثاني
من المختلف فيه قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف
فروى أنه حجة يقدم على القياس ويخص به العموم وهو قول مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية وروى ما يدل على أنه ليس بحجة وبه قال عامة المتكلمين والشافعي في الجديد واختاره أبو الخطاب لأن الصحابي يجوز عليه الغلط والخطأ والسهو ولم تثبت عصمته وكيف تجوز عصمة من يجوز عليهم الاختلاف وقد جوز الصحابة مخالفتهم فلم ينكر أبو بكر وعمر علىمن خالفهما فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الخلاف بينهم وتجويزهم مخالفتهم ثلاثة أدلة
وقال قوم الحجة قول الخلفاء الراشدين لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وذهب آخرون إلى أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لقوله عليه السلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ووجه الرواية الأولى قوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فإن قيل هذا خطاب لعوام عصره بدليل أن الصحابي غير داخل فيه

قلنا اللفظ عام لكن خرج منه الصحابي بقرينة أنهم الذين أمر بتقليدهم وجعل الأمر لغيرهم
ومن وجه آخر وهو أن الصحابة أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ لأنهم حضروا التنزيل وسمعوا كلام الرسول منه فهم أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد فيكون قولهم أولى كالعلماء مع العامة وما ذكروه من عدم العصمة فلا يلزم فإن المجتهد غير معصوم ويلزم العامي تقليده وقول من خص الأئمة بالإحتجاج بقولهم لا يصح لما ذكرناه من عموم الدليل في غيرهم وتخصيصهم بالأمر بالاقتداء بهم في سيرتهم وعدلهم ويحتمل أنه ذكرهم لكونهم من جملة من يجب الاقتداء بهم

أذا اختلف الصحابة على قولين لا يؤخذ بأحدهما إلا بدليل
فصل
وإذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز للمجتهد الإخذ بقول بعضهم من غير دليل خلافا لبعض الحنفية وبعض المتكلمين أنه يجوز ذلك ما لم ينكر على القائل قوله لأن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف والأخذ بكل واحد من القولين ولهذا رجع عمر إلى قول معاذ في ترك رجم المرأة وهذا فاسد فإن قول الصحابة لا يزيد على الكتاب والسنة ولو تعارض دليلان من كتاب أو سنة لم يجز الأخذ بواحد منهما بدون الترجيح ولأننا نعلم أن أحد القولين صواب والآخر خطأ ولا نعلم ذلك إلا بدليل وإنما

يدل اختلافهم على تسويغ الاجتهاد في كلا القولين أما على الأخذ به فكلا وأما رجوع عمر إلى معاذ فلأنه بان له الحق بدليله فرجع إليه

الأصل الثالث
الاستحسان
ولا بد أولا من فهمه وله ثلاثة معان
أحدها أن المراد به العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنه قال القاضي يعقوب القول بالاستحسان مذهب أحمد رحمه الله وهو أن تترك حكما إلى حكم هو أولى منه وهذا مما لا ينكر وإن اختلف في تسميته فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى
الثاني انه يستحسنه المجتهد بعقله حكى عن أبي حنيفة أنه قال هو حجة تمسكا بقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقوله اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ويقول النبي صلى الله عليه و سلم ما أراه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولأن المسلمين استحسنوا دخول الحمام من غير تقدير أجرة وكذلك نظائرها إذ التقدير في مثله قبيح فاستحسنوا تركه

ولنا على فساده مسلكان
الأول أن هذا لا يعرف من ضرورة العقل ونظره ولم يرد من سمع متواتر ولا نقل آحاد ومهما انتفى الدليل وجب النفي
الثاني أنا نعلم بإجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له حكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة والاستحسان من غير نظر حكم بالهوى المجرد فهو كاستحسان العامي وأي فرق بين العامي والعالم غير معرفة الأدلة الشرعية وتمييز صحيحها عن فاسدها ولعل مستند استحسانه وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يحصل منه طائل
وروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال من استحسن فقد شرع ولما بعث معاذ إلى اليمن لم يقل إني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط
وأما اتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا فواجب فليبينوا أن هذا أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه والخبر دليل على أن الإجماع حجة ولا خلاف فيه ثم يلزمهم استحسان العوام والصبيان فإن فرقوا بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة في أهلية النظر وما استشهدوا به من المسائل لعل مستند ذلك جريانه في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وتقريره عليه من معرفته به لأجل الشقة في تقدير الماء المصبوب في الحمام ومدة المقام والمشقة سبب ويحتمل أن يقال دخول الحمام مستباح بالقرينة والماء متلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ثم ما يبذله له إن ارتضى الحمامي واكتفى به عوضا وإلا طالبه بالتسديد إن شاء فهذا أمر ينقاس والقياس حجة
الثالث قولهم إن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على

التعبير عنه وهذا هوس فإن ما لايعبر عنه لا يدري أهو وهم أو تحقيق فلا بد من إظهاره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه أو تزيفه

ألأصل الرابع
الاستصلاح أو المصلحة المرسلة
الرابع من الأصول المختلف فيها الاستصلاح وهو اتباع المصلحة المرسلة والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة وهي ثلاثة أقسام
قسم شهد الشرع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع
القسم الثاني ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك إذ العتق سهل عليه فلا ينزجر والكفارة وضعت للزجر فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع
الثالث ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين وهذا على ثلاثة ضروب
أحدها ما يقع في مرتبة الحاجات كتسليط المولى على تزويج الصغيرة فذلك لا ضرورة إليه لكنه محتاج إليه لتحصيل الكفء خيفة من الفوات واستقبالا للصلاح المنتظر في المآل
الضرب الثاني ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات كاعتبار الولي في النكاح صيانة للمراة عن مباشرة العقد لكونه مشعرا بتوقان نفسها إلى الرجال فلا يليق ذلك بالمروءة ففوض ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظاهر لكان من الضرب

الأول ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك كان وضعا للشرع بالرأي ولما احتجنا إلى بعثة الرسل ولكان العامي يساوي العالم في ذلك فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه
الضرب الثالث ما يقع في رتبة الضروريات وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها وهي خمسة أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدع صيانة لدينهم وقضاؤه بالقصاص إذ به حفظ النفوس وإيجابه حد الشرب إذ به حفظ العقول وإيجابه حد الزنا حفظا للنسل والأنساب وإيجابه زجر السارق حفظا للأموال وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع وكون هذه المعاني مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات فيسمى ذلك مصلحة مرسلة ولا نسميه قياسا لأن القياس يرجع إلى أصل معين والصحيح أن ذلك ليس بحجة لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ في الردع والزجر ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر فإذا أثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد كما حكي أن مالكا قال

يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق

الباب الرابع
تقاسيم الكلام والأسماء
اختلف في مبدأ اللغات فذهب قوم إلى أنها توقيفية لأن الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا عن لفظ معلوم قبل الاجتماع للاصطلاح
وقال آخرون هي اصطلاحية إذ لا يفهم التوقيف مالم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق
وقال القاضي يجوز أن تكون توقيفية ويجوز أن تكون اصطلاحية ويجوزأن يكون بعضها توقيفية وبعضها اصطلاحية وأن يكون بعضها ثبت قياسا فإن جميع ذلك متصور في العقل
أما التوقيف فإن الله سبحانه قادر على أن يخلق لخلقه العلم بأن هذه الأسماء قصدت للدلالة على المسميات
وأما الاصطلاح فبأن تجتمع دواعي العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعرف الأمورالغائبة فيبتدىء واحد ويتبعه آخر حتى يتم الاصطلاح
أما الواقع منها فلا مطمع في معرفته يقينا إذ لم يرد به نص ولا مجال للعقل والبرهان في معرفته ثم هذا أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى

اعتقاده حاجة فالخوض فيه فضول فلا حاجة إلى التطويل والأشبه أنها توقيفية لقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها فإن قيل يحتمل أنه ألهمه وضع ذلك ثم نسبه إلى تعليمه لأنه الهادي إليه ويحتمل أنه كان موضوعا قبل آدم بوضع خلق آخرين فعلمه ما تواضع عليه غيره ويحتمل أنه أراد اسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها قلنا هذا نوع تأويل يحتاج إلى دليل

إثبات الأسماء بالقياس
فصل
قال القاضي يعقوب يجوز أن تثبت الأسماء قياسا كتسمية النبيذ خمرا لعلمنا أن مسكر العنب إنما سمي خمرا لأنه يخامر العقل أي يغطيه وقد وجد هذا المعنى في النبيذ فيسمى به حتى يدخل في عموم قوله عليه السلام حرمت الخمرة لعينها وبه قال بعض الشافعية
وقال أبو الخطاب وبعض الحنفية وبعض الشافعية ليس هذا بمرض فإنا عرفنا أن اهل اللغة خصوا مسكر عصير العنب باسم الخمر فوضعه لغيره اختراع من عندنا فلا يكون من لغتهم وإذا علمنا أنهم وضعوه لكل مسكر فاسم الخمر ثابت للنبيذ توقيفا من جهتهم لا قياسا وإن احتمل الأمرين فلم نتحكم عليهم ونقول لغتكم هذه وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعان ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده وكميتا لحمرته والقارورة من الزجاج لأنه يقر فيها المائعات ولا يتجاوزون بهذه الأسماء محلها وإن كان

المعنى عاما في غيره فإذا ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم لا سبيل إلى إثباته ووضعه
قلنا متى تحققنا أنهم وضعوا الاسم لمعنى استدللنا على أنهم وضعوه بإزاء كل ما فيه المعنى كما أنه إذا نص على حكم في صورة لمعنى علمنا أنه قصد إثبات الحكم في كل ما وجد فيه المعنى فالقياس توسيع مجرى الحكم وإذا جاز قياس التصريف فسموا فاعل الضرب ضاربا ومفعوله مضروبا فلم لا يجوز فيما نحن فيه وفيما استشهدوا به من الأسماء وضع الاسم لشيئين الجنس والصفة ومتى كانت العلة ذات وصفين لم يثبت الحكم بدونهما
فصل

في تقاسيم الأسماء
وهي أربعة أقسام وضعية وعرفية وشرعية ومجاز مطلق
أما الوضعية فهي الحقيقة وهو اللفظ المستعمل في وضعه الأصلي
وأما العرفية فإن الاسم يصير عرفيا باعتبارين
أحدهما أن يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة الاسم ببعض مسمياته الوضعية كتخصيص الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب
الاعتبار الثاني أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا بل هو مجاز فيه كالغائط والعذرة والراوية وحقيقة الغائط المطمئن من الأرض والعذرة فناءالدار والراوية الجمل الذي يستقي عليه فصار أصل الوضع منسيا والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم إلا أنه ثبت بعرف الاستعمال لا بالوضع الأول
وأما الشرعية فهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع كالصلاة والصيام

والزكاة والحج وقال قوم لم ينقل شيء بل الاسم باق على ما هو عليه في اللغة لكن اشترط للصحة شروط
فالركوع أو السجود شرط للصلاة لا من نفس الصلاة بدليل أمرين
أحدهما أن القرآن عربي والنبي صلى الله عليه و سلم مبعوث بلسان قومه ولو قال أكرموا العلماء وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم وإن كان اللفظ المنقول إليه عربيا
والثاني أنه لو فعل ذلك للزمه تعريف الأمة ذلك بالتوقيف
وهذا ليس بصحيح فإن ما تصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة لا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف إما النقل وإما التخصيص وإنكار أن الركوع والسجود والقيام والقعود الذي هو ركن الصلاة منها بعيد جدا وتسليم أن الشرع يتصرف في ألفاظ اللغة بالنقل تارة والتخصيص أخرى على مثال تصرف أهل العرف أسهل وأولى مما ذكروه إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانا بقوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية كما قلنا في تصرف أهل اللغة ولا تسلب الاسم العربي عن القرآن كما لو اشتمل على مثلها من الكلمات الأعجمية على ما مضى وقوله كان يجب التوقيف على تصرفه فهذا إنما يجب إذا لم يعلم مقصوده بالقرائن والتكرير مرة بعد اخرى فإذا فهم حصل الغرض وعند إطلاق هذه الألفاظ في لسان الشرع وكلام الفقهاء يجب حمله على الحقيقة الشرعية دون اللغوية ولا يكون مجملا لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع لسائر الأحكام الشرعية

وحكى عن القاضي أنه يكون مجملا وهو قول بعض الشافعية والأولى ما قلناه
وأما المجاز فهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه على وجه يصح ثم أنه إنما يصح بأمور
أحدها اشتراكهما في المعنى المشهور في محل الحقيقة كاستعارة لفظ الأسد في الرجل الشجاع لاشتهار الشجاعة في الأسد الحقيقي ولا تصح استعارة الأسد في الرجل الأبخر وإن كان البخر موجودا في محل الحقيقة لكونه غير مشهور به
والثاني لسبب المجاورة غالبا كتسمية المزادة راوية باسم الجمل الحامل لها لتجاوهما في الأعم الأغلب وتسمية المرأة ظعينة باسم الجمل الذي تظعن عليه للزومها إياه وكذلك تسمية الفضلة المستقذرة غائطا وعذرة
الثالث إطلاقهم اسم الشيء على ما يتصل به كقولهم الخمر محرمة والمحرم شربها والزوجة محللة والمحلل وطؤها وكإطلاقهم السبب على المسبب وبالعكس
الرابع حذفهم المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله تعالى واسأل القرية وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل وكل مجاز له حقيقة في شيء أخر إذ هو عبارة عن المستعمل في غير موضوعه فلا بد أن يكون له موضوع ولا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز إذ كون الشيء له موضوع لا يلزم أن يستعمل فيما عداه

اللفظ حقيقة أذا دار بين الحقيقة والمجاز
فصل
متى دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فهو للحقيقة ولا يكون مجازا إلا أن يدل دليل على أنه أريد به المجاز إذ لو جعلنا كل لفظ أمكن التجوز فيه مجملا لتعذرت الاستفادة في أكثر الألفاظ واختل مقصود الوضع وهو التفاهم ولأن واضع الاسم لمعنى إنما وضعه ليكتفي به فيه فكأنه قال إن سمعتم هذه اللفظة فافهموا ذلك المعنى فيجب حمله عليه إلا أن يغلب المجاز بالعرف كالأسماء العرفية فتصير حينئذ الحقيقة كالمتروكة فإنه لو قال رأيت غائطا أو راوية لم تفهم منه الحقيقة فيصير الحكم للعرف ولا يصرف إلى الحقيقة إلا بدليل
المعرف للحقيقة والمجاز
فصل
ويستدل على معرفة الحقيقة من المجاز بشيئين
أحدهما أن يكون أحد المعنيين يسبق إلى الفهم من غير قرينة والآخر لا يفهم إلا بقرينة فيكون حقيقة فيما يفهم منه مطلقا
أو يكون احد المعنيين يستعمل فيه اللفظ مطلقا والمعنى الآخر لا يقتصر فيه على مجرد لفظه فيكون حقيقة فيما يقتصر فيه على مجرد اللفظ
الثاني أن يصح الاشتقاق من احد اللفظين كالأمر في الكلام حقيقة لأنه يصح منه أمر يأمر أمرا وليس بحقيقة في الشأن نحو قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد لأنه لا يقال عنه أمر يأمر أمرا
حقيقة الكلام وأقسامه
فصل
الكلام هو الأصوات المسموعة والحروف المؤلفة وهو ينقسم إلى مفيد وغير مفيد وأهل العربية يخصون الكلام بما كان مفيدا وهو الجملة المركبة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل أو حرف نداء واسم وما عداه إن كان لفظة واحدة فهي كلمة وقول وإن كثر فهو كلم وقول والعرف ما قلناه مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح
أقسام الكلام المفيد
والكلام المفيد بنقسم ثلاثة أقسام نص وظاهر ومجمل
القسم الأول النص وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال كقوله تعالى تلك عشرة كاملة وقيل هو الصريح في معناه وحكمه أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ
وقد يطلق اسم النص على الظاهر ولا مانع منه فإن النص في اللغة بمعنى الظهور كقولهم نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته قال امرؤ القيس ... وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل ...
ومنه سميت منصة العروس للكرسي الذي تجلس عليه لظهورها عليه إلا أن الأقرب تحديد النص بما ذكرناه أولا دفعا للترادف والاشتراك عن الألفاظ فإنه على خلاف الأصل
وقد يطلق النص على ما لا يتطرق إليه احتمال يعضده دليل فإن

تطرق إليه احتمال لا دليل عليه فلا يخرجه عن كونه نصا
القسم الثاني الظاهر وهو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره وإن شئت قلت ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر فحكمه أن يصار إلى معناه الظاهر ولا يجوز تركه إلا بتأويل والتأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر إلا أن الاحتمال يقرب تارة ويبعد اخرى وقد يكون الاحتمال بعيدا جدا فيحتاج إلى دليل في غاية القوة وقد يكون قريبا فيكفيه أدنى دليل وقد يتوسط بين الدرجتين فيحتاج دليلا متوسطا
والدليل يكون قرينة أو ظاهرا آخر أو قياسا راجحا ومهما تساوى الاحتمالان وجب المصير إلى الترجيح
وكل متأول يحتاج إلى بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه ثم إلى دليل صارف له وقد يكون في الظاهر قرائن تدفع الاحتمال بمجموعها وآحادها لا تدفعه مثال تأويل الحنفية قول النبي صلى الله عليه و سلم لغيلان بن سلمة حيث أسلم على عشر نسوة أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن بالانقطاع عنهن وترك نكاحهن وعضدوه بالقياس إلا أن في الحديث قرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى من الاحتمال

أحدها أنه لم يسبق إلى أفهام الصحابة الاستدامة فإنهم لو فهموه لكان هو السابق إلى أفهامنا
والثاني أنه فوض الأمساك والمفارقة إلى اختياره وابتداء النكاح لا يصح إلا برضاء المرأة
الثالث أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه لئلا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وما أحوج حديث العهد بالإسلام إلى معرفة شرائط النكاح
الرابع أن ابتداء النكاح لا يختص بهن فكان ينبغي أن يقول انكح أربعا ممن شئت
ومثال التأويل في العموم القوي قول الحنفية في قول النبي صلى الله عليه و سلم ايما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل قالوا هذا محمول على الأمة فثناهم عن قولهم فلها المهر بما استحل من فرجها فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى المكاتبة وهذا تعسف ظاهر لأن العموم قوي والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء وليس من كلام العرب إرادة الشاذالنادر باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ وليس قياس النكاح على المال والإناث على الذكور قرينة تقترن باللفظ وتصلح لتنزيله على صورة نادرة
ودليل ظهور قصد التعميم أمور
الأول أنه صدر بأي وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن خالف في صيغ العموم
الثاني أنه أكد بما وهي من مؤكدات العموم

الثالث أنه رتب بطلان النكاح على الشرط في معرض الجزاء ولو اقترح على العربي الفصيح أن يأتي بصيغة دالة على العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة ونعلم أن الصحابة لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة ولو سمعنا نحن هذه الصيغة لم نفهم منها المكاتبة ولو قال القائل أردت المكاتبة لنسب إلى الألغاز ولو أخرج المكاتبة وقال ما خطرت ببالي لم يستنكر فما لم يخطر على البال إلا بالإخطار كيف يجوز قصر العموم عليه
وقد قيل في تأويل قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل يحمله على القضاء إنه من هذا القبيل لأن التطوع غير مراد فلا يبقى إلا الغرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان والقضاء والنذر يجب بأسباب عارضة فهو كالمكاتبة في مسألة النكاح والصحيح أنه ليس ندرة هذا كندرة المكاتبة وإن كان كالغرض أسبق إلى الفهم فيحتاج هذا التخصيص إلى دليل قوي وليس ظهر بطلانه كظهور التخصيص في المكاتبة وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قليل والقصر على النادر ممتنع وبينهما درجات تتفاوت في البعد والقرب ولكل مسألة ذوق يجب أن تفرد بنظر خاص ويليق ذلك بالفروع
القسم الثالث المجمل وهو ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك مثل الألفاظ

المشتركة كلفظة العين المشتركة بين الذهب والعين الناظرة والقرء للحيض والطهر والشفق للبياض والحمرة
وقد يكون الإجمال في لفظ مركب كقوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح متردد بين الزوج والولي
وقد يكون بحسب التصريف كالمختار يصلح للفاعل والمفعول
وقد يكون لأجل حرف محتمل كالواو تصلح عاطفة ومبتدأة ومن تصلح للتبعيض وابتداء الغاية والجنس وأمثال ذلك
فحكم هذا التوقف فيه حتى يتبين المراد منه فاما قوله تعالى حرمت عليكم الميتة ونحوها فليس بمجمل لظهوره من جهة العرف في تحريم الأكل والعرف كالوضع ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية ومن أنس بتعارف أهل اللغة علم أنهم يريدون بقولهم حرمت عليك الطعام أي الأكل دون اللمس والنظر وحرمت عليك الجارية أي الوطء ويذهبون في تحريم كل عين إلى تحريم ما هي معدة له وهذا اختيار أبي الخطاب وبعض الشافعية
وحكي عن القاضي أنه مجمل لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم حقيقة وإنما يحرم فعل ما يتعلق بها فلا يدري ما ذلك الفعل في الميتة أكلها أم بيعها أم النظر إليها أو لمسها وهذا قول جماعة من المتكلمين وقد ذكرنا أن هذا ظاهر من جهة العرف في الأكل والصريح يكون بالوضع تارة وبالعرف أخرى وقوله تعالى وأحل الله البيع ليس بمجمل وإنما هو لفظ عام

فيحمل على عمومه وقال القاضي هو مجمل

نفي الحكم لا يقتضي الإجمال
فصل
وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بطهور ليس بمجمل وقال الحنفية هو مجمل لأن المراد به نفي حكمه إذ لا يمكن حمل اللفظ على نفي صورة الفعل فيكون خلفا وليس حكم أولى من حكم
قلنا إذا حملناه على نفي الصلاة الشرعية لم يحتج إلى إضمار الحكم وإنما يصار إلى الإضمار إذا لم يمكن حمل اللفظ على ما أضيف إليه اللفظ
فإن قيل فالفاسدة تسمى صلاة قلنا ذلك مجاز لكونها على صورة الصلاة والكلام يحمل على حقيقته والصحيح أن يحمل ذلك على نفي الصحة
وجهه أنه قد اشتهر في العرف نفي الشيء لنفي فائدته كقولهم لاعلم إلا ما نفع ولا عمل إلا بنية ولا بلدة إلا بسلطان يراد به نفي الفائدة والجدوى ولو قضينا بالصحة لم تنتف الفائدة فيكون على خلاف العرف ولا يصح حمله على نفي الصلاة الشرعية فإنه إن أريد بالصلاة الشرعية الصورة لم يكن حمل اللفظ عليه لكونه خلفا وإن فسرت بالفعل مع الحكم لم يصح لأن الصلاة يؤمر بها وينهى عنها والأمر والنهي إنما يتعلق بالفعل الذي يمكن الإتيان به وتركه

وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا عمل إلا بنية يدل على نفي الأجزاء وعدمه لما ذكرنا من العرف فليس هذا من المجملات بل هو من المألوف في العرف وكل هذا نفي لما لا ينتفي وهو صدق لأن المراد نفي مقاصده لا نفي ذاته

رفع الخطأ عن الأمة رفع للحكم
فصل
وقوله عليه الصلاة و السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان المراد به رفع حكمه فإنا علمنا أنه لم يرد رفع صورته لأن كلامه يجل عن الخلف وقيل المراد رفع حكمه الذي هو المؤاخذة لا نفي الضمان ولزوم القضاء لأنه ليس بصيغة عموم فيجعل عاما في كل حكم كما لم يجعل قوله تعالى حرمت عليكم الميته عاما في كل حكم بل لا بد من إضمار فعل يضاف النفي إليه فها هنا لا بد من إضمار حكم يضاف الرفع إليه ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال قبل الشرع وقد كان يفهم من قولهم رفعت عنك الخطأ المؤاخذة به والعقاب والضمان لا يجب للعقاب خاصة بل قد يجب امتحانا ليثاب عليه ولهذا يجب على الصبي والمجنون وعلى العاقلة ويجب على المضطر مع وجوب الإتلاف ويجب عقوبة على قاتل الصيد وأكثر ما يقال أنه ينتفي الضمان الذي يجب عقوبة

قال أبو الخطاب وهذا لايصح لأنه لو أراد نفي الإثم لم يكن لهذه الأمة فيه مزية فإن الناسي لا يكلف في كل شريعة ولأنه لما أضاف ارفع إلى مالا ترتفع ذاته اقتضى رفع ما يتعلق به ليكون وجوده وعدمه واحدا كما أنه لما أضاف النفي إلى ما لا تنتفي ذاته انتفى حكمه ليكون وجوده وعدمه واحدا

فصل في البيان
البيان والمبين في مقابلة المجمل
واختلف في البيان فقيل هو الدليل وهو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم أو ظن
وقيل هو إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح
وقيل هو ما دل على المراد بما يستقل بنفسه في الدلالة على المراد
وقد قيل هذان الحدان يختصان بالمجمل وقد يقال لمن دل على شيء بينه وهذا بيان حسن وإن لم يكن مجملا والنصوص المعربة عن الأحكام ابتداء بيان وليس ثم إشكال ولا يشترط أيضا حصول العلم للمخاطب فإنه يقال بين له غير أنه لم يتبين
ثم البيان يحصل بالبيان بالكلام وبالكتابة ككتابة النبي صلى الله عليه و سلم إلى عماله في الصدقات وبالإشارة كقوله الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه بالفعل كتبيينه الصلاة والحج بفعله فإن قيل إنما حصل البيان بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني

مناسككم قلنا هذا اللفظ لا تعلم منه الصلاة والمناسك وإنما بان وعلم بفعله والبيان بالفعل أدل على الصفة وأوقع في الفهم من الصفة بالقول لما في المشاهدة من المزيد عن الأخبار وقد يبين جواز الفعل بالسكوت عنه فإن النبي صلى الله عليه و سلم لا يقر على الخطأ فكل مفيد من الشارع بيان ويجوز تبيين الشيء بأضعف منه كتبيين أي الكتاب بأخبار الآحاد

تأخير البيان عن وقت الحاجة
فصل
ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة واختلف في تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال ابن حامد والقاضي يجوز وبه قال أكثر الشافعية وبعض الحنفية
وقال أبو بكر عبدالعزيز وأبو الحسن التميمي لا يجوز ذلك وهو

قول أهل الظاهر والمعتزلة ووجهه ثلاثة مأمور
أحدها أن الخطاب يراد لفائدته وما لا فائدة فيه وجوده كعدمه ولا يجوز أن يقال أبجد هوز يراد به وجوب الصلاة ثم يبينه فيما بعد
والثاني أنه لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية لأنه لا يفهم معناه ولا يسمع إلا لفظه
والثالث أنه لا خلاف أنه لو قال في خمس من الإبل شاة يريد به في خمس من البقر لم يجز لأنه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد وكذا قوله اقتلوا المشركين يوهم قتل كل مشرك فإذا لم يبين للتخصيص فهو تجهيل في الحال ولو أراد بالعشرة سبعة لم يجز إلا بقرينة الاستثناء كذلك العام لا يجوز أن يراد به الخصوص إلا بقرينة متصلة مبينة فإن لم يكن بقرينة فهو تغيير للوضع
وقال أخرون يجوز تأخير بيان المجمل ولا يجوز تأخير بيان التخصيص في العموم فإنه يوهم العموم فمتى أريد به الخصوص ولم يبين مراده أوهم ثبوت الحكم في صورة غير مرادة والمجمل بخلاف هذا فإنه لم يفهم منه شيئا
ولنا مسلكان الأول الاستدلال بوقوعه في الكتاب والسنة قال الله تعالى فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت و ثم للتراخي وقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ولم يفصل إلا بعد السؤال وفال في خمس الغنيمة ولذي القربى وأراد

بني هاشم وبني المطلب ولم يبينهم فلما منع بني نوفل وبني عبد شمس سئل عن ذلك فقال إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام
وقال لنوح احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول فتوهم نوح عليه السلام أن ابنه من اهله حتى بين الله تعالى له وقال أقيموا الصلاة وبين المراد بصلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه و سلم في اليومين وبان المراد بقوله تعالى وآتوا الزكاة بقول النبي صلى الله عليه و سلم في أربعين شاة شاة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وبان المراد بقوله ولله على الناس حج البيت بفعله لقوله خذوا عني مناسككم والنكاح والإرث أصلهما في الكتاب وبينهما النبي صلى الله عليه و سلم متراخيا بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن يحرم وقوله وجاهدوا عام ثم قال ليس على الضعفاء ولا على المرضى

وكل عام أتى في الشرع ورد خصوصه بعده وهذا لا سبيل إلى إنكاره وإن تطرق الاحتمال إلى بعض هذه الاستشهادات فلا يتطرق إلى الجميع
المسلك الثاني أنه لا يجوز تأخير النسخ بل يجب والنسخ بيان للوقت فيجوز أن يرد بلفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام ثم ينسخ بعد حصول اعتقاد اللزوم في الدوام
أما قولهم لا فائدة في الخطاب بمجمل فغير صحيح فإن قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده يعرف وجوب الإيتاء ووقته وأنه حق المال ويمكن العزم على الامتثال والاستعداد له ولو عزم على تركه عصى وقوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي فهو كالأمر إذا لم يتبين أنه للإيجاب أو للندب وأنه على الفور أم على التراخي فقد أفاد اعتقاد الأصل وإن خلا من كمال الفائدة وليس ذلك مستنكرا بل واقع في الشريعة والعادة بخلاف أبجد هوز فإنه لا فائدة فيه أصلا والتسوية بينه أيضا وبين الخطاب بالفارسية لمن لا يفهمها غير صحيحة

لما ذكرنا ثم لا يمتنع أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه و سلم جميع أهل الآرض بالقرآن وينذر به من بلغه من الزنج وغيرهم ويشعرهم اشتماله على أوامر يعرف بها المترجم وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود فأمر الأعجمي على تقدير البيان أقرب وها هنا يسمى خطابا لحصول أصل الفائدة
وأما المسلك الثالث فإنما يلزم لو كان العام نصا في الاستغراق ولا كذلك بل هو ظاهر وإرادة الخصوص به من كلام العرب فمن اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله بل يعتقد أنه محتمل للخصوص وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر وينتظر أن ينبه على الخصوص
أما إرادة السبعة بالعشرة والبقرة بالإبل فليس من كلام العرب بخلاف ما ذكرناه

باب الأمر
الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وقيل هو القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به وهو فاسد إذ تتوقف معرفة المأمور على معرفة الأمر والحد ينبغي أن يعرف المحدود فيفضي إلى الدور وللأمر صيغة مبينة فتدل بمجردها على كونها أمرا إذا تعرت عن القرائن وهي افعل للحاضر وليفعل للغائب هذا قول الجمهور وزعمت فرقة من المبتدعة أنه لا صيغة للأمر بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم بالنفس فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف أما الكتاب فإن الله تعالى قال لزكريا آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا فلم يسم إشارته إليهم كلاما وقال لمريم فقولي

إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فالحجة فيه مثل الحجة في الأول وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به وقال لمعاذ أمسك عليك لسانك قال وإنا لمؤاخذون بما نقول قال ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وقال إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين ولم يرد بذلك ما في النفس وأما أهل اللسان فإنهم اتفقوا عن آخرهم على أن الكلام اسم وفعل وحرف واتفق الفقهاء بأجمعهم على أن من حلف لا يتكلم فحدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه لم يحنث ولو نطق حنث وأهل العرف كلهم يسمون الناطق متكلما ومن عداه ساكتا أو أخرس ومن خالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وإجماع الناس كلهم على اختلاف طبقاتهم فلا يعتد بخلافه
فأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر فاتفاق أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمرا ولو قال رجل لعبده اسقني ماء عد أمرا وعد العبد مطيعا بالامتثال عاصيا بالترك مستحقا للأدب والعقوبة فإن قيل هذه الصيغة مشتركة بين الإيجاب كقوله أقم الصلاة والندب كقوله فكاتبوهم والإباحة

كقوله فاصطادوا والإكرام كقوله ادخلوها بسلام والإهانة كقوله ذق إنك أنت العزيز الكريم والتهديد كقوله اعملوا ما شئتم والتعجيز كقوله كونوا حجارة أو حديدا والتسخير كقوله كونوا قردة والتسوية كقوله أصبروا أو لا تصبروا والدعاء كقوله اللهم اغفر لي والخبر كقوله أسمع بهم وأبصر وقول النبي صلى الله عليه و سلم إذا لم تستح فاصنع ما شئت والتمني كقول الشاعر ... ألا أيها الليل الطويل ألآ انجلي ...
فالتعيين يكون تحكما قلنا هذا لا يصح لوجهين
أحدهما مخالفة أهل اللسان فإنهم جعلوا هذه الصيغة أمرا وفرقوا بين الأمر

والنهي فقالوا باب الأمر افعل وباب النهي لا تفعل كما ميزوا بين الماضي والمستقبل وهذا أمر نعلمه بالضرورة من كل لسان من العربية والعجمية والتركية وسائر اللغات لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ونحوه في نوادر الأقوال الثاني أن هذا يفضي إلى سلب فائدة كبيرة من الكلام وإخلاء الوضع عن كثير من الفائدة وفي الجملة كالاشتراك على خلاف الأصل لأنه يخل بفائدة الوضع وهو الفهم
والصحيح أن هذه صيغة الأمر ثم تستعمل في غيره مجازا مع القرينة كاستعمال ألفاظ الحقيقة بأسرها في مجازها

اعتبار إرادة الآمر في الأمر
فصل
ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادة الآمر في قول الأكثرين
وقالت المعتزلة إنما يكون أمرا بالإرادة وحده بعضهم بأنه إرادة الفعل بالقول على وجه الاستعلاء
قالوا لأن الصيغة مترددة بين أشياء فلا ينفصل الأمر منها مما ليس بأمر إلا بالإرادة ولأن الصيغة إن كانت أمرا لذاتها فهو باطل بلفظ التهديد أو لتجردها عن القرائن فيبطل بكلام النائم والساهي فثبت أن المتكلم بهذه الصيغة على غير وجه السهو غرضه إيقاع المأمور به وهو نفس الإرادة
ولنا أن الله أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ولم يرده منه وأمر إبليس بالسجود ولم يرده منه إذ لو أراده لوقع فإن الله تعالى فعال لما يريد
دليل ثان أن الله تعالى أمر بأداء الأمانات بقوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ثم لو ثبت أنه لو قال والله لأؤدين أمانتك إليك

غدا إن شاء الله فلم يفعل لم يحنث ولو كان مراد الله لوجب أن يحنث فإن الله تعالى قد شاء ما أمره به من أداء أمانته
دليل آخر أن دليل الأمر ما ذكرناه عن أهل اللسان وهم لا يشترطون الإرادة
ودليل آخر أنا نجد الأمر متميزا عن الإرادة فإن السلطان لو عاقب رجلا على ضرب عبده فمهد عذره بمخالفة أمره فقال له بين يدي الملك أسرج الدابة وهو لا يريد أن يسرج لما فيه من خطر الهلاك للسيد ولأنه قصد تمهيد عذره ولا يتمهد إلا بمخالفته وترك امتثال أمره وهو أمر لولاه لما تمهد العذر وكيف لا يكون أمرا وقد فهم العبد والمل والحاضرون منه الأمر
فأما الاشتراك في الصيغة فقد أجبنا عنه ولأننا قد حددنا الأمر بأنه استدعاء الفعل بالقول ومع التهديد لا يكون استدعاء وهذا الجواب عن الكلام الثاني فإنا نقول هي أمر لكونها استدعاء على وجه الاستعلاء ويخرج من هذا النائم والساهي فإنه لا يوجد على وجه الاستعلاء

موجب الأمر المجرد عن القرائن
مسألة
إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين وقال بعضهم يقتضي الإباحة لأنها أدنى الدرجات فهي مستيقنة فيجب حمله على اليقين
وقال بعض المعتزلة يقتضي الندب لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه وهذا معلوم أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه

ولأن الأمر طلب والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير والمندوب حسن فيصح طلبه وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليه مطلق الأمر ولا يلزم منه ولأن الشارع أمر بالمندوبات والواجبات معا فعند وروده يحتمل الأمرين معا فيحمل على اليقين
وقالت الواقفية هو على الوقف حتى يرد الدليل ببيانه لأن كونه موضوعا لأحد هذه الأقسام إما أن يعلم بنقل أو عقل ولم يوجد أحدهما فيجب التوقف فيه
ولنا ظواهر الكتاب والسنة والإجماع وقول أهل اللسان
أما الكتاب فقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك وأيضا قول الله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وقوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ذمهم على ترك امتثال الأمر والواجب ما يذم بتركه
ومن السنة ما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال وما لي لا أغضب

وأنا آمر بالأمر فلا أتبع
فإن قيل هذا في أمر اقترن به ما دل على الوجوب قلنا النبي صلى الله عليه و سلم إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره ولولا أن أمره للوجوب لما غضب من تركه وقول النبي صلى الله عليه و سلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة والندب غير شاق فدل على أن أمره اقتضى الوجوب وقوله عليه السلام لبريرة لو راجعتيه فقالت أتأمرني يا رسول الله قال إنما أنا شافع فقالت لا حاجة لي فيه وإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم مندوب إليها فدلنا ذلك على أن امره للإيجاب
الثالث إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله تعالى وامتثال أوامره من غير سؤال النبي صلى الله عليه و سلم عما عنى بأوامره وأوجبوا أخد الجزية من المجوس بقوله سنوا بهم سنة أهل

الكتاب وغسل الإناء من الولوغ بقوله فليغسله سبعا والصلاة عند ذكرها بقوله فليصلها إذا ذكرها واستدل أبو بكر رضي الله عنه على إيجاب الزكاة بقوله تعالى وآتوا الزكاة ونظائر ذلك مما لا يخفى يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب
الرابع أن أهل اللغة عقلوا من إطلاق الأمر الوجوب لأن السيد لو أمر عبده فخالفه حسن عندهم لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته بمخالفة الأمر والواجب ما يعاقب بتركه أو يذم بتركه
فإن قيل إنما لزمت العقوبه لأن الشريعة أوجبت ذلك
قلنا إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب ولو أذن له في الفعل أو حرمه عليه لم يجب عليه ولأن مخالفته الأمر معصية قال الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال أفعصيت أمري ويقال أمرتك فعصيتني وقال الشاعر ... أمرتك أمرا جازما فعصيتني ...
والمعصية موجبة للعقوبة قال الله تعالى ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا

مبينا
وأما قول من قال نحمله على الإباحة لأ نه اليقين فهو باطل فإن الأمر استدعاء وطلب والإباحة ليست طلبا ولا استدعاء بل إذن له وإطلاق وقد أبعد من جعل قوله افعل مشتركا بين الإباحة والتهديد الذي هو المنع وبين الاقتضاء فإنا ندرك في وضع اللغات كلها تفرقة بين قولهم افعله ولا تفعل وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل حتى لو قدرنا انتفاء القرائن كلها يسبق إلى الأفهام اختلاف معاني هذه الصيغ ونعلم قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد كما ندرك التفرقة بين قولهم قام ويقوم في أن هذا ماض وذاك مستقبل وهذا أمر يعلم ضرورة ولا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد وبالطريق الذي نعرف فإنه لم يوضع للتهديد فعلم أنه لم يوضع للتخيير
وقول من قال هو للندب لأنه اليقين لايصح لوجهين
أحدهما أنا قد بينا أن مقتضى الصيغة الوجوب بما ذكرنا من الأدلة
الثاني أن هذا إنما يصح أن لو كان الوجوب ندبا وزيادة ولا كذلك لأنه يدخل في حد الندب جواز الترك وليس بموجود في الوجوب
وأما أهل الوقف فغاية ما معهم المطالبة بالأدلة وقد ذكرناها ثم قد سلموا أن الأمر اقتضى ترجيح الفعل على الترك فيلزمهم أن يقولوا بالندب ويتوفقوا فيما زاد كقول أصحاب الندب
أما القول بأن الصيغة لا تفيد شيئا فتسفيه لواضع اللغة وإخلاء للوضع

عن الفائدة بمجرده وإن توقفوا لمطلق الاحتمال لزمهم التوقف في الظواهر كلها وترك العمل بما لا يفيد القطع واطراح أكثر الشريعة فإن أكثرها إنما ثبت بالظنون

موجب الأمر بعد الحظر
فصل
إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر اقتضت الإباحة وهو ظاهر قول الشافعي وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين تفيد ما كانت تفيده لولا الحظر لعموم أدلة الوجوب ولأنها صيغة أمر مجردة عن قرينة أشبهت ما لم يتقدمه حظر
ولأن صيغة الأمر اقتضت نسخ الحظر وقد ينسخ بإيجاب وينسخ بإباحة وإذا احتمل الأمرين بقي الأمر على مقتضاه في الوجوب ولأن النهي بعد الأمر يقتضي ما كان مقتضيا له فكذلك الأمر بعد الحظر
وقال قوم إن ورد الأمر بعد الحظر بلفظة افعل كقولنا وإن ورد بغير هذه الصيغة كقولهم أنتم مأمورون بعد الإحرام بالإصطياد كقولهم لأنه في الأول انصرف بعرف الاستعمال إلى رفع الذم فقط حتى رجع حكمه إلى ما كان وفي الثاني لا عرف له في الاستعمال فيبقى على ما كان
ولنا أن عرف الاستعمال في الأمر بعد الحظر الإباحة بدليل أن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر للإباحة كقوله تعالى إذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن وقول النبي صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأوعية كلها ولا تشربوا مسكرا وفي العرف أن السيد لو قال لعبده لا تأكل هذا الطعام ثم قال كله أو قال لأجنبي ادخل داري وكل من ثماري اقتضى ذلك رفع الحظر دون الإيجاب ولذلك لا يحسن اللوم والتوبيخ على تركه فإن قيل فقد قال الله تعالى فإذا

انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين قلنا ما استفيد وجوب القتل بهذه الآية بل بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فقاتلوا أئمة الكفر وأما أدلة الوجوب فإنما تدل على اقتضائه مع عدم القرائن الصارفة له بدليل المندوبات وغيرها وتقدم الحظر قرينة صارفة لما ذكرناه وقولهم إن النسخ يكون بالإيجاب قلنا النسخ إنما يكون بالإباحة التي تضمنها الإيجاب فهو مقتض لإباحة الترك كقوله عليه السلام توضأوا من لحوم الإبل ولا تتوضأوا من لحوم الغنم وإن سلمنا فالنهي آكد

الأمر المطلق لا يقتضي التكرار
الأمر المطلق لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين هو اختيار أبي الخطاب

وقال القاضي وبعض الشافعية يقتضي التكرار لأن قوله صم ينبغي أن يعم كل زمان كما أن قوله اقتلوا المشركين يعم كل مشرك لأن إضافة الأمر إلى جميع الزمان كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وموجب النهي ترك المنهي أبدا فليكن موجب الأمر فعل الصوم أبدا فإن قوله صم معناه لا تفطر وقوله لا تفطر يقتضي التكرار أبدا ولأن الأمر يقتضي العزم والفعل ثمراته تقتضي العزم على التكرار فكذلك الموجب الآخر
وقيل إن علق الأمر على شرط اقتضى التكرار وإلا فلا يقتضيه لأن تعليق الحكم بالشرط كتعلقه بالعلة ثم إن الحكم يتكرر بتكرر علته فكذلك يتكرر بتكرر شرطه ولأنه لا اختصاص له بالشرط الأول دون بقية الشروط ودليل اعتباره النهي المعلق على شرط
وقيل إن كرر لفظ الأمر كقول صل غدا ركعتين اقتضي التكرار طلبا لفائدة الأمر الثاني وحملا له على مقتضاه في الوجوب والندب كالأول وحكي هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه
ولنا أن الأمر خال عن التعرض لكمية المأمور به إذ ليس في نفس اللفظ تعرض للعدد ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك لكنه محتمل للإتمام ببيان الكمية فهو كقوله اقتل لا نقول هو مشترك بين زيد وعمرو ولا فيه تعرض لهما فتفسيره بهما أو بأحدهما زيادة على كلام ناقص فإتمامه بلفظ دل على تلك الزيادة لا بمعنى البيان فحصل من هذا أن ذمته تبرأ بالمرة الواحدة لأن وجوبها معلوم والزيادة لا دليل عليها ولم يتعرض اللفظ لها فصار الزائد كما قبل الأمر فإنا كنا نقطع بانتفاء الوجوب

فقوله صم أزال القطع في مرة واحدة فصار كما كان ويعتضد هذا باليمين والنذر والوكالة والخبر
بيانه أنه لو قال والله لأصومن أو لله علي أن أصوم بر بصوم يوم ولو قال لوكيله طلق زوجتي لم يكن له أكثر من تطليقة ولو أمر عبده بدخول الدار أو بشراء متاع خرج عن العهدة بمرة واحدة ولم يحسن لومه ولا توبيخه ولو قال صمت أو سوف أصوم صدق بمرة واحدة
فإن قيل فلم حصل الاستفسار عنه قلنا هذا يلزمكم إن كان يقتضي التكرار فلم حسن الاستفسار ثم يبطل بما ذكرناه من الأمثلة بحسن الاستفسار مع انه لا يقتضي التكرار ثم أنه حسن الاستفسار لأنه محتمل له لما ذكرناه
وقولهم إن صم عام في الزمان ليس بصحيح إذ لا يتعرض للزمان بعموم ولا خصوص لكن الزمان من ضرورته كالمكان ولا يجب عموم الأماكن بالفعل كذا الزمان وليس هذا نظير قولنا اقتلوا المشركين بل نظيره قولهم صم الأيام ونظير مسألتنا قوله اقتل مطلقا فإنه لا يقتضي العموم في كل من يمكن قتله
والفرق بين الأمر والنهي أن الأمر يقتضي وجود المأمور مطلقا والنهي يقتضي ألا يوجد مطلقا والنفي المطلق يعم والوجود المطلق لا يعم فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا ولذلك افترقا في اليمين والنذر والتوكيل والخبر ولأن الأمر يقتضي الإثبات والنهي يقتضي النفي والنفي في النكرة يعم والإثبات المطلق لا يعم
وتحقيقه أنه لو قال لا تفعل مرة واحدة اقتضى العموم ولو قال افعل مرة واحدة اقتضى التخصيص بلا خلاف وقولهم أن الأمر بالشيء نهي

عن ضده قلنا إنما هو نهي عما يعقب الامتثال فكان النهي مقيدا بزمن امتثال الأمر وقولهم إن الأمر يقتضي الاعتقاد على الدوام قلنا يبطل بما لو قال افعل مرة واحدة والفرق بين الفعل والاعتقاد أن الاعتقاد ما وجب بهذا الأمر إنما وجب بأخباره أنه يجب اعتقاد أ وامره فمتى عرف الأمر ولم يعتقد وجوبا كان مكذبا وقولهم إن الحكم يتكرر بتكرار العلة فكذا الشرط قلنا العلة تقتضي حكمها فيوجد بوجودها والشرط لا يقتضي وإنما هو بيان لزمان الحكم فإذا وجد ثبت عنده ما كان يثبت بالأمر المطلق كاليمين والنذر وسائر ما استشهدنا به
وقولهم إن الواجب يتكرر بتكرر اللفظ لا يصح فإن اللفظ الثاني دل على ما دل عليه اللفظ الأول فلا يصح حمله على واجب سواه ولذلك لو كرر اليمين فقال والله لأصومن والله لأصومن بر بصوم واحد وقد نقل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال والله لأغزون قريشا ثلاثا ثم غزاهم غزوة الفتح ولو كرر لفظ النذر لكان الواجب به واحدا وفائدة اللفظ الثاني تحصيل التأكيد فإنه من سائغ كلام العرب

اقتضاء الأمر الفورية
مسألة
الأمر يقتضي فعل المأمور به على الفور في ظاهر المذهب وهو قول الحنفية
وقال أكثر الشافعية هو على التراخي لأن الأمر يقتضي فعل المأمور لا غير أما الزمان فهو لازم الفعل كالمكان والآلة ولأن الزمان في الأمر إنما حصل ضرورة والضرورة تندفع بأي زمان كان فالتعيين تحكم ويعتضد هذا بالوعد واليمين لو قال سوف أفعل فمتى فعل كان صادقا وكذا اليمين
وقالت الواقفية هو على الوقف في الفور والتراخي والتكرار وعدمه

وهو بين البطلان فإن المبادر ممتثل بإجماع الأمة مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء ولو قيل لرجل قم فقام في الحال عد ممتثلا ولم يعد مخطئا باتفاق أهل اللغة وقد أثنى الله تعالى على المسارعين فقال أولئك يسارعون في الخيرات
ولنا أدلة أحدها قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم فاستبقوا الخيرات أمر بالمسارعة وأمره يقتضي الوجوب
الثاني أن مقتضاه عند أهل اللسان الفور فإن السيد لو قال لعبده اسقني فأخر حسن لومه وتوبيخه وذمه ولو اعتذر عن تأديبه على ذلك بأنه خالف أمري وعصاني لكان عذره مقبولا
الثالث أنه لا بد من زمان وأولى الأزمنة عقيب الأمر ولأنه يكون ممتثلا يقينا وسالما من الخطر قطعا ولأن الأمر سبب للزوم الفعل فيجب أن يتعقبه حكمه كالبيع والطلاق وسائر الإيقاعات ولذلك يعقبه العزم على الفعل والوجوب
الرابع أن جواز التأخير غير مؤقت ينافي الوجوب فإنه لا يخلو إما أن يؤخر إلى غاية أو إلى غير غاية فالأول باطل لأن الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة لأنه يكون تكليفا لما لا يدخل تحت الوسع وإن جعلت الغاية الوقت الذي يغلب على ظنه البقاء إليه فباطل أيضا فإن الموت يأتي بغتة كثيرا ثم لا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات لا سيما العبادات الشاقة كالحج لا سيما والإنسان طويل الأمل يهرم ويشب أمله وإن قيل يؤخر إلى غير غاية فباطل أيضا لأنه لا يخلو من قسمين

إما أن يؤخر إلى غير بدل فيلتحق بالنوافل والمندوبات
أو إلى بدل فلا يخلو البدل إما أن يكون بالوصية به أو العزم عليه والوصية لا تصلح بدلا لأن كثيرا من العبادات لا تدخلها النيابة ولأنه لو جاز التأخير للموصي جاز للوصي أيضا فيفضي إلى سقوطه والعزم ليس ببدل لأن العزم يجب قبل دخول الوقت والبدل لا يجب قبل دخول وقت المبدل ولأن وجوب البدل يحذو وجوب المبدل والمبدل لا يجب على الفور فكذلك البدل ولأن البدل يقوم مقام المبدل ويجزىء عنه والعزم ليس بمسقط للفعل وكيف يجب الجمع بين البدل والمبدل ثم لا ينفعكم تسميته بدلا مع كون الفعل واجبا فما الذي يسقط وجوب الفعل ويقوم مقامه
فإن قيل هذا يبطل بما إذا قال افعل أي وقت شئت فقد أوجبته عليك فإنه لا يتناقض
قلنا بل يتناقض إذ حقيقة الواجب ما لا يجوز تركه مطلقا وهذا جائز الترك مطلقا وقولهم إن الأمر لا يتعرض للزمان فهي مطالبة بالدليل وقد ذكرناه والفرق بين الزمان والمكان والآلة أن عدم التعيين في الزمان يفضي إلى فواته بخلاف المكان ولأن المكانين سواء بالنسبة إلى الفعل والزمان الأول أولى لسلامته فيه من الحظر والخروج من العهدة يقينا فافترقا

الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته
فصل
الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته ولا يفتقر إلى أمر جديد وهو قول بعض الفقهاء
وقال الأكثرون لا يجب القضاء إلا بأمر جديد اختاره أبو الخطاب لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال وشهر رمضان كتخصيص الحج بعرفات والزكاة بالمساكين والصلاة بالقبلة والقتل بالكفار ولا فرق بين الزمان والمكان

والشخص إذ جميع ذلك تقييد له بصفة فالعاري عنها لا يتناوله اللفظ بل يبقى على ما كان قبل الأمر
ولنا أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأداء أو إبراء كما في حقوق الآدميين وخروج الوقت ليس بواحد منهما ويصير هذا كما لو اشتغل الحيز بجو هو لا يزول الشغل إلا بمزيل والفرق بين الزمان والمكان أن الزمن الثاني تابع للأول فما ثبت فيه انسحب على جميع الأزمنة التي بعده بخلاف الأمكنة والأشخاص

اقتضاء الأمر الإجزاء بفعل المأمور به
فصل
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشرطه
وقال بعض المتكلمين لا يقتضي الإجزاء ولا يمتنع وجوب القضاء مع حصول الامتثال بدليل المضي في الحج الفاسد ويجب القضاء ومن ظن أنه متطهر فإنه مأمور بالصلاة إذا صلى فهو ممتثل مطيع ويجب القضاء ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد والأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله يدل عليه أن الأمر إنما يدل على اقتضاء المأمور وطلبه لا غير والإجزاء أمر زائد لا يدل عليه الأمر ولا يقتضيه
ولنا ما روى أن امرأة سنان بن سلمة الجهني أمرت أن تسأل

رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزىء عنها أن تحج عنها قال نعم ولو كان على أمها دين فقضته ألم يكن يجزىء عنها فلتحج عنها وهذا يدل على أن الإجزاء بالقضاء كان مقررا عندهم ولأن الأصل براءة الذمة وإنما اشتغلت بالمأمور به وطريق الخروج عن عهدته الإتيان به فإذا أتى به يجب أن تعود ذمته بريئة كما كانت كديون الآدميين وفي المحققات إذا اشتغل الحيز بجوهر فبرفعه يزول الشغل ولأنه لو لم يخرج عن العهدة للزمه الامتثال أبدا فإذا قال له صم يوما فصامه فالأمر يتوجه إليه بصوم يوم كما كان قبل منه ذلك أبدا وهو خلاف الإجماع
قولهم إن القضاء يجب بأمر جديد ممنوع وإن سلم فإن القضاء إنما سمي قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها وإن لم يكن كذلك استحال تسميته قضاء والحج الفاسد والصلاة بلا طهارة أمر بها مع الخلل ضرورة حاله ونسيانه فعقل الأمر بتدارك الخلل أما إذا أتى بها مع الكمال بلا خلل فلا يعقل إيجاب القضاء والمفسد لحجة لا يقضي الفاسد وإنما هو مأمور بحج خال عن الفساد وقد أفسده على نفسه فيبقى في عهدة الأمر ويؤمر بالمضي بالفاسد ضرورة الخروج عن الإحرام وقولهم لا يقتضي الأمر إلا الامتثال هو محل النزاع لا يقبل

الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا به
فصل
الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا به ما لم يدل عليه دليل مثاله قوله صلى الله عليه و سلم مروهم بالصلاة لسبع ليس بخطاب من الشارع للصبي ولا إيجابا عليه مع ان الأمر واجب على الولي لكن إذا كان المأمور بالأمر النبي صلى الله عليه و سلم كان وجبا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم لقيام الدليل على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه و سلم وتحريم مخالفته أما إذا كان المأمور بالأمر غيره فلا يبعد أن يجب عليه الأمر لحكمة فيه مختصة به ولهذا لا يمتنع أن يقال للولي الذي يعتقد أن لطفله على طفل آخر شيئا عليك المطالبة بحقه ويقال لولي الطفل الآخر إذا لم تعلم أن على طفلك شيئا بجب عليك الممانعة وليس لك التسليم
أمر الجماعة أمر للواحد منهم
فصل
الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم ولا يسقط الواجب عنهم بفعل واحد منهم إلا أن يدل عليه دليل أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم كقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيكون فرض كفاية
فإن قيل ما حقيقة فرض الكفاية أهو واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض أم على واحد غير معين كالواجب المخير أم واجب على من حضر دون من غاب كحاضر الجنازة مثلا

قلنا بل واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض بحيث لو فعله الجميع نال الكل ثواب الفرض ولو امتنعوا عم الإثم الجميع ويقاتلهم الإمام على تركه وسقوط الفرض بدون الأداء ممكن إما بالنسخ أو بسبب آخر
أما الإيجاب على واحد لا بعينه فمحال لأن المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف وإذا أبهم الوجوب لم يعلم بخلاف إيجاب خصلة من خصلتين فإن التخيير فيهما لا يوجب تعذر الامتثال
أمر الله النبي صلى الله عليه و سلم أمر لأمته ما لم يقم دليل تخصيص

فصل
إذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بلفظ ليس فيه تخصيص كقوله تعالى يا أيها المزمل قم الليل أو أثبت في حقه حكما فإن أمته يشاركونه في ذلك الحكم ما لم يقم على اختصاصه به دليل وكذلك إذا توجه الحكم إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره ويدخل فيه النبي صلى الله عليه و سلم نحو قوله إن الله فرض عليكم صيامه هذا قول القاضي وبعض المالكية وبعض الشافعية وقال أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وبعض الشافعية يختص الحكم بمن توجه إليه الأمر لأن السيد من أهل اللغة لو أمر عبدا من عبيده بأمر لاختص به دون بقية عبيده ولو أمر الله تعالى بعبادة لم يتناول بمطلقه عبادة أخرى ولأن لفظ العموم لا يحمل على الخصوص بمطلقه فكذلك الخصوص لا يحمل على العموم
ولنا قول الله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم فعلل إباحته لنبيه عليه السلام بنفي الحرج عن أمته ولو اختص به الحكم لما كان علة لذلك
وأيضا قوله تعالى خالصة لك من دون المؤمنين ولو كان الأمر مختصا به

لما احتيج إلى تخصيصه بلفظ التخصيص وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم سأله رجل فقال تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقى وروي عنه في القبلة للصائم مثل ذلك رواه مسلم فالحجة فيه من وجهين
أحدهما أنه أجابهم بفعله ولو اختص به الحكم لم يكن جوابا لهم
الثاني أنه أنكر عليهم مراجعتهم له باختصاصه بالحكم فدل على أن مثل هذا لا يجوز اعتقاده ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون إلى أفعال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يختلفون فيه من الأحكام كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال وإيجاب الوضوء من الملامسة وصحة الصوم ممن أصبح جنبا وعدم ثبوت حكم الإحرام في حق من بعث هديه وأقام في أهله حتى عدوا ذلك ناسخا لما قبله معارضا لما خالفه من أمره ونهيه ولأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بقيام الليل ودخل فيه أمته حتى نسخه بقوله علم أن لن تحصوه فتاب عليكم

ولما عاتبه في تحريم ما أحل الله له قال عقيبه قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وابتدأ الخطاب بمناداته وحده ثم تممه بلفظ الجمع بقوله يا أيها النبي إذا طلقتم وهذا يدل على أن حكم خطابه لا يختص به وقد أشار إليه عليه ا لسلام بقوله إنما أسهو لأسن فإذا ثبت أن امته يشاركونه في حكمه فلزم مشاركته لهم في حكمهم لوجود التلازم ظاهرا فإن ما ثبت في أحد المتلازمين ثبت في الآخر فإنه لو ثبت في حقهم حكم انفردوا به دونه لثبت نقيض ذلك الحكم في حقه دونهم وقد أقمنا الدليل

على خلافه ولهذا قالت حفصة للنبي صلى الله عليه و سلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هدبي فلا أحل حتى أنحر فلولا أنه داخل فيما ثبت لهم من الأحكام ما استدعوا منه موافقتهم ولا أقرهم على ذلك وبين لهم عذره والدلالة على أن الحكم إذا ثبت في حق واحد من الصحابة دخل فيه غيره قوله عليه السلام خطابي للواحد خطابي للجماعة ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانت ترجع في أحكامها إلى قضايا النبي صلى الله عليه و سلم في الأعيان كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة ماعز وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق وفي السكنى والنفقة إلى

حديث فاطمة بنت قيس وفريعة بنت مالك وإلى حديث صفية الآنصارية في سقوط طواف الوداع عن الحائض وغير ذلك ولأنه لو اختص به لما احتيج إلى التخصيص بقوله لأبي بردة في التضحية بالجذع من المعز تجزيك ولا تجزي عن أحد بعدك
دليل آخر أن قول الراوي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أمر أو قضى يعم ولو اختص الحكم من شوفه به لم يكن عاما ولأن الخطاب

بالكتاب والسنة إنما شوفه به أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ولا خلاف في ثبوت حكمه في حق أهل الأعصار

تعليق الأمر بالمعدوم
فصل
الأمر يتعلق بالمعدوم وأوامر الشرع قد تناولت المعدومين إلى قيام الساعة بشرط وجودهم على صفة من يصح تكليفه خلافا للمعتزلة وجماعة من الحنفية قالوا لا يتعلق الأمر به لأنه يستحيل خطابه فيستحيل تكليفه ولأنه لا يقع منه فعل ولا ترك فلم يصح أمره كالعاجز والمجنون ولأن المعدوم ليس بشيء فأمره هذيان وكما أن من شرط القدرة وجود المقدور يجب أن يكون من شرط الأمر وجود المأمور
ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين على الرجوع إلى الظواهر المتضمنة أوامر الله سبحانه وأوامر نبيه عليه السلام على من لم يوجد في عصرهم لا يمتنع من ذلك أحد ولأنه قد ثبت أن كلام الله تعالى قديم وصفة من صفاته لم يزل آمرا ناهيا وقال الله تعالى فاتبعوه وهذا أمر باتباع النبي صلى الله عليه و سلم ولا خلاف أنا مأمورون باتباعه ولم نكن موجودين
قولهم إن خطاب المعدومين محال قلنا إنما يستحيل خطابه بإيجاد الفعل حال عدمه أما أمره بشرط الوجود فغير مستحيل بأن يفعل عند وجوده ما أمر به متقدما كما يقول الوالد يوجب على أولاده ويلزمهم التصدق عنه إذا عقلوا وبلغوا فيكون الإلزام حاصلا بشرط الوجود ولو قال لعبده صم غدا فهو أمر في الحال بصوم الغد وأما العاجز فإنه يصح أمره بشرط القدرة كمسألتنا بغير فرق
فإن قيل هذا مخالف لقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة عن

الصبي قلنا المراد به رفع المأثم والإيجاب المضر بدليل أنه قرن به النائم ولا نسلم أن شرط القدرة وجود المقدور فإن الله سبحانه وتعالى قادر قبل أن يوجد مقدور

التكليف بغير الممكن
فصل
ويجوز الأمر من الله سبحانه لما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله
وعند المعتزلة لا يجوز ذلك إلا أن يكون تعلقه بشرط تحققه مجهولا عند الآمر أما إذا كان معلوما أنه لا يتحقق الشرط فلا يصح الأمر به لأن الأمر طلب فكيف يطلب الحكيم ما يعلم امتناعه وكيف يقول السيد لعبده خط ثوبي إن صعدت السماء وبهذا يفارق أمر الجاهل لأن من لا يعرف عجز غيره عن القيام يتصور أن يطلبه منه أما إذا علم امتناعه فلا يكون طالبا وإذا لم يكن طالبا لم يكن آمرا
ولأن إثبات الأمر بشرط يفضي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطا بما يوجد بعده والشرط ينبغي أن يقارن أو يتقدم أما أن يتأخر عن المشروط فمحال
وهذه المسألة تنبني على النسخ قبل التمكن وأن فيه فائدة على ما مضى
ولنا الإجماع على أن الصبي إذا بلغ يجب عليه ان يعلم ويعتقد انه مأمور بشرائع الإسلام منهي عن الزنى والسرقة ويثاب على العزم على أمتثال المأمورات وترك المنهيات ويكون متقربا بذلك وإن لم يحضر وقت عبادة ولا يمكن من زنى ولا سرقة وعلمه بأن الله تعالى عالم بعاقبة الأمر لا ينفي عنه ذلك وإن احتمل أن لا يكون مأمورا منهيا لعدم مساعدة التمكن يجب

أن يشك في كونه مأمورا منهيا وفي كونه متقربا إذلا خلاف في العزم على امتثال ما ليس بمأمور وترك ما ليس بقربه وهذا لا يتيقن أنه مأمور ولا متقرب وهذا خلاف الإجماع
ودليل ثان الإجماع على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية ولا تقبل نية الفرضية إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول الوقت فرض الظهر وربما مات في أثنائها فتبين عندهم أنها لم تكن فرضا فليكن شاكا في الفرضية فتمتنع النية لأنها لا تتوجه إلا إلى المعلوم فإن قيل فإذا مات في أثنائها كيف يقال إن الأربع كانت فريضة على الميت
قلنا هو قاطع بأنها فرض عليه لكن بشرط البقاء والأمر بشرط أمر في الحال وليس بمعلق من عزم عليه يثاب ثواب العزم على الواجبات فإن قول السيد لعبده صم غدا أمر في الحال بصوم الغد لا أنه أمر في الغد ولو قال فرضت عليك بشرط بقائك فهو فارض في الحال لكن بشرط ولو قال لوكيله بع داري في راس الشهر كان وكيلا في الحال يصح أن يقال وكله ويصح عزله وإذا قال وكلني وعزلني كان صادقا فإن مات قبل رأس الشهر لم يتبين كذبه بخلاف ماإذا قال إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي فإنه لا يكون وكيلا في الحال
الثالث الإجماع على لزوم الشروع في صوم رمضان فإن كان الموت يتبين به عدم الأمر والموت يجوز فيصير مشكوكا فيه فكيف تلزمه العبادة بالشك
قالوا لأن الظاهر بقاؤه والحاصل يستصحب والاستصحاب أصل تنبني عليه الأمور كما أن من أقبل عليه سبع لم يقبح الهرب وإن كان من المحتمل موت السبع دونه ولو فتح هذا الباب لم يتصور امتثال الأمر
قلنا هذا يلزمكم ومذهبكم يفضي إليه وما أفضي إلى المحال محال
وأما الهرب فحزم وأخذ بالأسوأ من الأحوال ويكفي فيه الاحتمال

البعيد والشك فإن من شك في سبع في العرين أو لص حسن منه الاحتراز عنه
وأما الوجوب فلا يثبت بالشك والاحتمال بل ينبغي أن من أعرض عن الصوم لم يكن عاصيا لأنه أخذ بالاحتمال الآخر
وقولهم الأمرطلب وطلب المستحيل من الحكيم محال
قلنا الأمر إنما هو قول الأعلى لمن دونه افعل مع تجردها عن القرائن وهذا متصور مع علمه بالاستحالةوعلى أنا لو سلمنا أن الأمر طلب فليس الطلب من الله تعالى كالطلب من الآدميين وإنما هو استدعاء فعل لمصلحة العبد وهذا يحصل مع الاستحالة لكي يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد وهذا متصور
ويتصور من السيد ايضا أن ليستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على فسخ الأمر قبل الامتثال امتحانا للعبد واستصلاحا له ولو وكل رجلا في عتق عبده غدا مع عزمه على عتق العبد صح ويتحقق فيها المقصود من استمالة الوكيل وامتحانه في إظهار الاستبشار بأوامره والكراهية له وكل ذلك معقول الفائدة فكذا ههنا
وقولهم يفضي إلى تقدم المشروط على الشرط
قلنا ليس هذا شرطا لذات الأمر بل الأمر موجود وجد الشرط أم لم يوجد وإنما هو شرط لوجوب التنفيذ فلا يفضي إلى ما ذكروه

باب النهي
فصل
اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير

من ذلك أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها
وقال قوم النهي عن الشيء لعينه يقتضي الفساد والنهي عنه لغيره لا يقتضيه لأن الشيء قد يكون له جهتان هو مقصود من إحداهما مكروه من الأخرى على ما مضى
وقال آخرون النهي عن العبادات يقتضي فسادها وفي المعاملات لا يقتضيه لأن العبادة طاعة والطاعة موافقة الأمر والأمروالنهي يتضادان فلا يكون النهي مأمورا فلا يكون طاعة ولا عبادة ولأن النهي يقتضي التحريم وكون الشيء قربة محرما محال
وحكي عن طائفة منهم أبو حنيفة ان النهي يقتضي الصحة لأن النهي يدل على التصور لكونه يراد للامتناع والممتنع في نفسه المستحيل في ذاته لا يمكن الامتناع منه فلا يتوجه إليه النهي كنهي الزمن عن القيام والأعمى عن النظر
وكما أن الأمر يستدعي مأمورا يمكن امتثاله فالنهي يستدعي منهيا يمكن ارتكابه إذا ثبت تصوره فلفظات الشرع تحمل على المشروع دون اللغوي
فإذا نهى عن صوم يوم النحر دل على تصوره شرعا
وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين لا يقتضي فسادا ولا صحة لأن النهي من خطاب التكليف والصحة والفساد من خطاب الأخبار فلا يتنافى أن يقول نهيتك عن كذا فإذا فعلته رتبت عليك حكمه ولو صرح به فقال للأب لا تستولد جارية الابن فإن فعلته ملكت الجارية ولا تطلق المرأة وهي حائض فإن فعلت وقع الطلاق ولا تغسل الثوب بماء مغصوب فإن فعلت طهر الثوب لم يكن هذا مناقضا فإذا لا دليل عليه من حيث الشرع ولا عرف له في اللغة
ولنا أدلة أحدها ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم

قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أي مردود وما كان مردودا على فاعله فكأنه لم يوجد
فإن قيل معناه ليس بمقبول قربة ولا طاعة
قلنا قوله مردود يقتضي رد ذاته فإن لم يكن اقتضى رد ما يتعلق به ليكون وجوده وعدمه واحدا
والثاني أن الصحابة رضي الله عنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها فاستدلوا على فساد عقود الربا بقوله عليه السلام لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل واحتج ابن عمر في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات وفي نكاح المحرم بالنهي وفي بيع الطعام قبل قبضه بالنهي وغير ذلك مما يطول
الثالث أن النهي عن الشيء يدل على تعلق المفسده به أو بما يلازمه لأن الشارع حكيم لا ينهي عن المصالح إنما ينهي عن المفاسد وفي القضاء بالفساد إعدام لها بأبلغ الطرق
الرابع أن النهي عنها مع ربط الحكم بها يفضي إلى التناقض في الحكمة لأن نصبها سببا تمكين من التوسل والنهي من التوسل ولأن حكمها مقصود الآدمي ومتعلق غرضه فتمكينه منه حث على تعاطيه والنهي منع من التعاطي ولا يليق ذلك بحكمة الشرع ثم لا فرق بين كون النهي عن الشيء لعينه أو لغيره لدلالة النهي على رجحان ما يتعلق به من المفسدة والمرجوح كالمستهلك المعدوم

وقولهم إن النهي لا ينافي الصحة قد بينا تناقضهما وإن سلمنا أنه لا ينافيه لكن يدل على الفساد ظاهرا ويكفي ذلك وفي المواضع التي قضينا بالصحة خولف فيه الظاهر فلا يخرجه عن أن يكون الأصل ما ذكرناه كما لو خولف مقتضاه في التحريم
وقولهم إنه يدل على الصحة بعيد جدا فإنهم إذا لم يجعلوه دليلا عل الفساد مع قربه منه كيف يجعلونه دليلا على الصحة
قولهم إنه يدل على التصور
قلنا يدل على تصوره حسا وهو الأفعال
أما الصحة والفساد فحكمان شرعيان لا ينهي عنهما ولا يؤمر بهما
ودليله سائر مناهي الشرع كالمحاقلة والمزابنة والمنابذة والملامسة وقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وذروا ما بقي من الربا وقوله عليه السلام دعي الصلاة أيام إقرائك إلى نظائره
قولهم إن الأسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع عنه جوابان

أحدهما أن الأصل تقرير الأوضاع اللغوية إلا ما صرف عنه الاستعمال الشرعي وفي الأوامر ألفنا من الشارع استعمال هذه الأسماء للموضوع الشرعي أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف
الثاني أنا نسلم استعماله في الموضوع الشرعي لكن الصلاة الشرعية هي الأفعال المنظومة والصحة غير داخلة في حد لما ذكرناه
باب العموم
اعلم أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة وقد يطلق في غيرها كقولهم عمهم القحط والمطر والعطاء ولكنه مجاز فإن عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو وليس في الوجود فعل هو عطاء نسبته إلى زيد وعمرو واحد وليس في الوجود معنى واحد مشترك بين اثنين وعلوم الناس وقدرهم وإن اشتركت في أنها علم وقدرة لا توصف بأنها عموم والرجل له وجود في الأعيان والأذهان واللسان فوجوده في الأعيان لا عموم له إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو وأما وجوده في اللسان فلفظة الرجل قد وضعت للدلالة ونسبتها في الدلالة عليهما واحدة فسمي عاما لذلك وأما الذي في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا فإن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الحادث كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا فإن سمي عاما بهذا المعنى فلا بأس وحينئذ العام هو اللفظ الواحد الدال على شيئين فصاعدا مطلقا واحترازنا بالواحد عن قولهم ضرب زيد عمرا فإنه يدل على شيئين لكن بلفظين وبقولنا مطلقا عن قولهم رجال فإنه يدل على شيئين فصاعدا لكن ليس بمطلق بل هو إلى إتمام العشرة وقيل العام كلام مستغرق لجميع ما يصلح له
ثم العام ينقسم إلى عام لا أعم منه ويسمى عاما مطلقا كالمعلوم يتناول

الموجود والمعدوم وقيل الشيء وقيل ليس لنا عام مطلق لأن الشيء لا يتناول المعدوم والمعلوم لا يتناول المجهول
والخاص ينقسم إلى خاص لا أخص منه يسمى خاصا مطلقا كزيد وعمرو وهذا الرجل وما بينهما عام وخاص بالنسبة فكل ما ليس بعام ولا خاص مطلقا فهو عام بالنسبة إلى ما تحته خاص بالنسبة إلى ما فوقه
والموجود خاص بالنسبة إلى المعلوم عام بالنسبة إلى الجوهر
والجوهر خاص بالنسبة إلى الموجود عام بالنسبة إلى الجسم
والجسم خاص بالنسبة إلى الجوهر عام بالنسبة إلى النامي والنامي خاص بالنسبة إلى الجسم عام بالنسبة إلى الحيوان وأشباه ذلك يسمى عاما لشموله ما يشمله خاصا من حيث قصوره عما شمله غيره

ألفاظ العموم
فصل
وألفاظ العموم خمسة أقسام
الأول كل اسم عرف بالألف واللام لغير المعهود وهو ثلاثة أنواع
الأول ألفاظ الجموع كالمسلمين والمشركين والذين
والنوع الثاني أسماء الأجناس وهو ما لا واحد له من لفظه كالناس والحيوان والماء والتراب
والنوع الثالث لفظ الواحد كالسارق والسارقة والزاني والزانية و إن الإنسان لفي خسر
القسم الثاني من ألفاظ العموم ما أضيف من هذه الأنواع إلى معرفة كعبيد زيد ومال عمرو
القسم الثالث أدوات الشرط كمن فيمن يعقل وما فيما لا يعقل وأي في الجميع وأين وأيان في المكان ومتى في الزمان ونحوه كقوله تعالى ومن يتوكل

على الله فهو حسبه ما عندكم ينفد وما عند الله باق أينما تكونوا يدرككم الموت وقوله عليه السلام أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها
القسم الرابع كل وجميع كقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت ولكل أمة أجل والله خالق كل شيء
القسم الخامس النكرة في سياق النفي كقوله تعالى ولم تكن له صاحبة ولا يحيطون بشيء من علمه قال البستي الكامل

في العموم هو الجمع لوجود صورته ومعناه وما عداه قاصر في العموم لأنه بصيغته إنما يتناول واحدا لكنه ينتظم جمعا من المسميات معنى فالعموم قائم بمعناها لا بصيغتها
واختلف الناس في هذه الأقسام الخمسة
فقالت الواقفية لا صيغة للعموم بل أقل الجمع داخل فيه بحكم الوضع وفيما زاد عليه بين الاستغراق وأقل الجمع مشترك كاشتراك لفظ النفر بين الثلاثة والخمسة وحكى مثل ذلك عن محمد بن شجاع الثلجي قالوا لأن أقل الجمع متعين وفيما زاد مشكوك يحتمل أن يكون مرادا وأن لا يكون مرادا فيحمل على اليقين ولأن وضع هذه الصيغ للعموم إما أن تعلم بعقل أو بنقل
فالعقل لا مدخل له في اللغات
والنقل إما تواتر وإما آحاد والآحاد لا يحتج بها
والتواتر لا تمكن دعواه ثم لو كان لأفاد علما ضروريا ولأنا لما رأيت العرب تستعمل الألفاظ المشتركة في جميع مسمياتها قضينا بأنها مشتركة
وأن من ادعى أنها حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر كان متحكما
وهذه الصيغ تستعمل في العموم والخصوص بل استعمالها في الخصوص أكثر في الكتاب والسنة وليس أحدهما أولى من الآخر فهما قولان متقابلان فيجب تدافعهما والقول والاعتراف بالاشتراك ولأنه يحسن الاستفهام

فلو قال من دخل داري فأعطه درهما حسن أن يقول وإن كان كافرا فاسقا ولو عم اللفظ لما حسن أن يستفسر
ولنا مسلكان
أحدهما إجماع الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم من اهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل على تخصيصه دليل فإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فعملوا بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم واستدلوا به على إرث فاطمة حتى نقل أبو بكر نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وأجروا السارق والسارقة الزانية والزاني ومن قتل مظلوما وذروا ما بقي من الربا ولاتقتلو أنفسكم ولا تقتلوا الصيد ولاتنكح المرأة على عمتها ومن أغلق بابه فهو آمن لا يرث القاتل وغير ذلك مما لا يحصى على العموم ولما نزل قوله تعالى لا يستوي

القاعدون من المؤمنين قال ابن أم مكتوم إني ضرير البصر فنزل غير أولي الضرر فعقل الضرير وغيره من عموم اللفظ ولما نزل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا فقال له قد عبدت الملائكة والمسيح أفيدخلون النار فنزل إن الذين سبقت لهم منا الحسنة اولئك عنها مبعدون فعقل العموم ولم ينكر عليه حتى يبين الله تعالى المراد من اللفظ ولما أراد أبو بكر قتال مانعي الزكاة قال له عمر كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث فلم ينكر أبو بكر احتجاجه بل قال أليس قد قال إلا بحقها والزكاة من حقها واختلف عثمان وعلي في الجمع بين الأختين فاحتج عثمان بقوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم واحتج علي بمعموم قوله تعالى وأن

تجمعوا بين الأختين ولما سمع عثمان بن مظعون قول لبيد ... وكل نعيم لا محالة زائل ...
قال له كذبت إن نعيم الجنة لا يزول وهذا وأمثاله مما لا ينحصر كثرة يدل على اتفاقهم على فهم العموم من صيغته والإجماع حجة ولو لم يكن إجماعهم حجة لكان حجة من حيث أنهم أهل اللغة وأعرف بصيغها وموضوعاتها
المسلك الثاني أن صيغ العموم يحتاج إليها في كل لغة ولا تختص بلغة العرب فيبعد جدا أن يغفل عنها جميع الخلق فلا يضعونها مع الحاجة إليها

ويدل على وضعه توجه الاعتراض على من عصى الأمرالعام وسقوطه ممن اطاع ولزوم النقص والخلف على الخبر العام وبناء الاستحلال والأحكام على الألفاظ العامة فهذه أربعة أمور تدل على الغرض
وبيانها أن السيد إذا قال لعبده من دخل داري فأعطه رغيفا فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه ولو قال لم أعطيت هذا وهو قصير وإنما أردت الطوال فقال ما أمرتني بهذاوإنما أمرتني بإعطاء كل داخل فلو عرض هذا على العقلاء لرأوا اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها ولو أن العبد حرم واحدا وقال له السيد لم لم تعطه فقال لأن هذا أسود ولفظك ما اقتضى العموم فيحتمل أنك اردت البيض لاستوجب التأديب عند العقلاء وقيل له مالك وللنظر إلى اللون وقد أمرت بإعطاء كل داخل
وأما النقص فإنه لو قال ما رأيت احدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا ومنقوضا وكاذبا ولذلك قال الله تعالى قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم فإن لم يكن هذا عاما فلم أورد النقض عليهم فلعلهم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر
وأما إثبات الاستحلال والأحكام إذا قال أعتقت عبيدي وإمائي ومات عقيبه جاز لمن سمع أن يزوج عبيده ويتزوج من إمائه بغير رضا الورثة ولو قال العبيد الذين في يدي ملك فلان كان إقرارا محكوما في الكل ولو ادعى رجل دينا فقال مالك علي شيء كان إنكارا لدعواه ولو خلف على ذلك بريء في الحكم ولو كان له عليه دين فحلف هذه اليمين كان كاذبا آثما
وبناء أمثال هذه الأحكام على العموم لا ينحصر
فإن قيل إنما ثبت هذا الذي ذكرتموه بالقرائن لا بمجرد اللفظ قلنا

هذا باطل فإنه لو قدر انتفاء القرائن لفهم العموم فإنه لو قدر أن سيدا أمر عبدا له لم يعرف له عادة ولا عاشره زمنا بأمر عام ولا يعلم له غرض في إثباته وانتفائه لتمهد عذره في العمل بعمومه وتوجه إليه اللوم بترك الامتثال ولو قال كل عبد لي حر ولم تعلم منه قرينة أصلا حكمنا بحرية الكل وتقدير قرينة ههنا كتقدير القرينة في سائر أنواع أدلة الكتاب والسنة وهذا يبطلها بأسرها ولأن اللفظ لو لم يكن للعموم لخلا عن الفائدة واختلت أوامر الشرع العامة كلها لأن كل واحد يمكنه أن يقول لم اعلم أنني مراد بهذا اللفظ دلالة على أنني مراد به ولا يلزمني الامتثال
وكذلك النواهي يقول لست مخاطبا بالنهي لعدم دلالته على العموم في حقي فتختل الشريعة وتبطل دلالة الكتاب والسنة فلا يصح من احد الاحتجاج بلفظ عام في صورة خاصة لعدم دلالتها عليها ولا يقدر احد أن يأمر جماعة ولا ينهاهم ولا يذكر لهم شيئا يعمهم بلفظ واحد وهذا باطل يقينا وفاسد قطعا فوجب اطراحه
وأما حجة الواقفية فحاصلها مطالبة بالدليل وليس بدليل ثم قد ذكرنا وجه الدليل على التهيم وأنها إنما تستعمل علىالخصوص مع قرينة وإنما حسن الاستفسار عن الفاسق لأنه يفهم من الإعطاء الإكرام ويفهم من عادة الناس انهم لا يكرمونه فلو توهم القرينة المخصصة حسن السؤال ولذلك لم يحسن في بقية الصفات ولأنه لو لم يراجع وأعطى الفاسق لكان عذره متمهدا ثم إنه إنما حسن الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص فلذلك كان للمستفهم الاحتياط في طلبه ولهذا دخل التوكيد في الكلام لرفع اللبس وإزالة الاتساع ولهذا يحسن الاستفهام في الخاص فإذا قال رأيت الخليفة قيل له أنت رأيته

الخلاف في عموم بعض الألفاظ
فصل
وقد قال قوم بالعموم إلا فيما فيه الألف واللام وقال آخرون بالعموم إلا في اسم الواحد بالألف واللام وقال بعض النحويين والمتأخرين في النكرة في سياق النفي لا تعم إلا أن تكون فيه ( من ) مظهرة كقوله تعالى وما من إله إلا الله أو مقدرة كقوله لا إله إلا الله بدليل أنه يحسن أن يقال ما عندي رجل بل رجلان ومن أنكر أن الألف واللام للاستغراق قال يحتمل أن تكون للمعهود ويحتمل أن تكون للاستغراق ويحتمل انها تكون لجملة من الجنس فما دليل التعميم ثم وإن سلم في البعض فما قولكم في جمع القلة وهو ما ورد على وزن الآفعال كالأحمال والأفعل وكالأكلب والأكعب والأفعلة كالأرغفة والفعلة كالصبية وقد قال أهل اللغة إنه للتقليل وما هو ما دون العشرة وقال ناس بالتعميم إلا في لفظ المفرد المحلي بالألف واللام لأنه لفظ واحد والواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وواحد بالذات فإذا دخله التخصيص علم أنه ما أراد الواحد بالنوع فانصرف إلى الواحد بالذات قلنا ما ذكرناه من الاستدلال جار فيما فيه الألف واللام وفي النكرة في سياق النفي فإنه إذا قا لعبده أعط الفقراء والمساكين واقتل المشركين واقطع السارق والسارقة وارجم الزانية والزاني ولا تؤذ مسلما ولا تجعل مع الله إلها واقتصر عليه وانتفت القرائن جرى حكم الطاعة والعصيان وتوجه الاعتراض وسقوطه ولو قال والله لا آكل رغيفا حنث إذا اأكل رغيفين وقد قال الله تعالى ولم يتخذ صاحبة ولم يكن له كف 6 وا أحد ولا يظلم ربك أحدا إن الله لا يظلم مثقال ذرة ومن لم يجعل الله

له نورا فماله من نور ولا يحل أن يقال في مثل هذا ان اللفظ ما اقتضى التعميم
وقولهم إن الألف واللام للمعهود قلنا إنما ينصرف إلى المعهود عند وجوده وما لا معهود فيه يتعين حمله على الاستغراق وهذا لأن الألف واللام للتعريف فإذا كان ثم معهود فحمل عليه حصل التعريف وإن لم يكن ثم معهود فصرف إلى الاستغراق حصل التعريف أيضا وإن صرف إلى

أقل الجمع
أو إلى واحد لم يحصل التعريف وكان دخول اللام وخروجها واحدا ولأنهما إذا كانا للعهد استغرقا جميع العهود فإذا كانا للجنس يجب أن يستغرقاه
وأما جمع القلة فإن العموم إنما يتلقى من الآلف واللام ولهذا استفيد من لفظ الواحد في مثل السارق والسارقة والدينار أفضل من الدرهم وأهلك الناس الدينار والدرهم ولذلك صح توكيده بما يقتضي العموم وجاز الاستثناء منه كقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت الخطاب فقوله إنه يصح أن يقول ما عندي رجل أو رجلان قرينة لفظية تدل على أنه استعمل لفظ العموم في غير موضوعه ولا يمنع ذلك من حمله على موضوعه عند عدم القرينة كما أن لفظة الأسد إذا استعملت في الرجل الشجاع بقرينة لا يمنع من استعمالها في موضوعها وحملها عليه عند الإطلاق وأما لفظة من فهي من مؤكدات العموم وتمنع من استعماله في مجازه ولتأثيرها في التأكيد ومنعها من التوسع واستعمال اللفظ في غير العموم تطرق الوهم إلى القائل ينفي التعميم فيما خلت منه
أقل الجمع
فصل
أقل الجمع ثلاثة وحكي عن أصحاب مالك وابن داود وبعض النحويين وبعض الشافعية أن أقله اثنان لقوله تعالى فإن كان له إخوه فلأمه السدس ولاخلاف

في حجبها باثنين وقد جاء ضمير الجمع للإثنين في هذان خصمان اختصموا وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وكانوا اثنين وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا و إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وقال النبي صلى الله عليه و سلم الإثنان فما فوقهما جماعة ولأن الجمع مشتق من جمع الشيء إلى الشيء وضمه إليه وهذا يحصل في الإثنين
ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعثمان رضي الله عنه حجبت الأم بالإثنين من الإخوة وإنما قال الله تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس وليس الأخوان بإخوة في لسانك

ولا في لسان قومك فقال له عثمان لا أنقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس ومضى في الأمصار على انه في لسان العرب ليس بحقيقة في الإثنين وإنما صار إليه للإجماع
دليل آخر أن أهل اللسان فرقوا بين الآحاد والتثنية والجمع وجعلوا لكل واحد من هذه المراتب لفظا وضميرا مختصا به فوجب أن يغاير الجمع التثنية كمغايرة التثنية الآحاد ولأن الإثنين لا ينعت بهما الرجال والجماعة في لغة أحد فلا تقول رأيت رجالا اثنين ولا جماعة رجلين ويصح أن يقال ما رأيت رجالا وإنما رأيت رجلين ولو كان حقيقة فيه لما صح نفيه وما احتجوا به فغايته أنه جاز التعبير بأحد اللفظين عن الآخر مجازا كما عبر عن الواحد بلفظ الجمع في قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم و إنا نحن نزلنا الذكر ثم إن الطائفة والخصم يقع على الواحد والجمع والقليل والكثير فرد الضمير إلى الجماعة الذين اشتمل عليهم لفظ الطائفة والخصم وأما قوله الإثنان جماعة فأراد في حكم الصلاة وحكم انعقاد الجماعة لأن كلام النبي صلى الله عليه و سلم يحمل على الأحكام لا على بيان الحقائق وقولهم إنه جمع شيء إلى شيء قلنا الأسماء في اللغة لا يلزم فيها حكم الاشتقاق على ما مضى

العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب
فصل
إذا ورد لفظ العموم على سبب خاص لم يسقط عمومه كقوله عليه السلام حين سئل أنتوضأ بماء البحر في حال الحاجة قال هو الطهور ماؤه
وقال مالك وبعض الشافعية يسقط عمومه إذ لو لم يكن للسبب تأثير لجاز إخراج السبب بالتخصيص من العموم ولما نقله الراوي لعدم فائدته ولما أخر بيان الحكم إلى وقوع الواقعة ولأنه جواب والجواب يكون مطابقا للسؤال
ولنا أن الحجة في لفظ الشارع لا في السبب فيجب اعتباره بنفسه في خصوصه ولذلك لو كان أخص من السؤال لم يجز تعميمه لعموم السؤال ولو سألت امرأة زوجها الطلاق فقال كل نسائي طوالق طلقن كلهن لعموم لفظه وإن خص السؤال ولذلك يجوز أن يكون الجواب معدولا عن سنن السؤال فلو قال قائل أيحل أكل الخبز والصيد والصوم فيجوز أن يقول الأكل مندوب والصوم واجب والصيد حرام فيكون جوابا وفيه وجوب وندب وتحريم والسؤال وقع عن الإباحة وكيف ينكر هذا وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب كنزول آية الظهار في أوس بن الصامت

وآية اللعان في هلال بن أمية ونحو هذا ولا يلزم من وجوب التعميم جواز تخصيص السبب فإنه لا خلاف في أنه بيان الواقعة وإنما الخلاف هل هو بيان لها خاصة ام لها ولغيرها فاللفظ يتناولها يقينا ويتناول غيرها ظنا إذ لا يسأل عن شيء فيعدل عن بيانه إلى بيان غيره إلا أن يجيب عن غيره مما ينبه على محل السؤال كما قال لعمر لما سأله عن القبلة للصائم أرأيت لو تمضمضت لهذا كان نقل الراوي للسبب مفيدا ليبين به تناول اللفظ له يقينا فيمتنع من تخصيصه وفيه فوائد أخر من معرفة أسباب النزول والسير والتوسع في الشريعة
وقولهم لم أخر بيان الحكم قلنا الله أعلم بفائدته في أي وقت يحصل لا يسأل عما يفعل ثم لعله آخره لوجوب البيان في تلك الحال أو للطف ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد لا تحصل بالتقديم ولا بالتأخير ثم يلزمه بهذه العلة اختصاص الرجم بماعز وغيره من الأحكام
وقولهم تجب المطابقة قلنا يجب أن يكون متناولا له أما أن يكون مطابقا له فكلا بل لا يمتنع أن يسأل عن شيء فيجيب عنه وعن غيره كما سئل عن الوضوء بماء البحر فبين لهم حل ميته

خبر الصحابي بلفظ عام يفيد العموم
فصل
قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة وقضى بالشفعة فيما لم يقسم يقتضي العموم
وقال قوم لا عموم له لأن الحجة في المحكي لا في لفظ الحاكي والصحابي يحتمل أنه سمع لفظا خاصا أو يكون عموما أو يكون فعلا لا عموم له وقضاؤه بالشفعة لعله حكم في عين أو بخطاب خاص مع شخص فكيف يتمسك بعمومه أم كيف يثبت العموم مع التعارض والشك
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه قد عرف منهم الرجوع إلى هذا اللفظ في عموم الصور كرجوع ابن عمر إلى حديث رافع نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المخابرة واحتجاجهم بهذا اللفظ نحو نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة وبيع التمر حتى يبدو صلاحه والمنابذة وسائر المناهي وكذلك أوامره وأقضيته ورخصه مثل

أرخص في السلم ووضع الجوائح وقد اشتهر عنهم في وقائع كثيرة مما يدل على اتفاقهم على الرجوع إلى هذه الألفاظ
واتفاق الصحابة على نقل هذه الألفاظ دليل على اتفاقهم على العمل بها إذ لو لم يكن كذلك لكان اللفظ مجملا
ثم لو كانت القضية في شخص واحد وجب التعميم لما ذكرنا في المسألة الأخرى

ورود الخطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين يعم العبيد
فصل
وما ورد من خطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين دخل فيه العبد لأن من جملة ما يتناوله اللفظ وخروجه عن بعض التكاليف لا يوجب رفع العموم فيه كالمريض والمسافر والحائض ويدخل النساء في الجمع المضاف إلى الناس وما لا يتبين فيه التذكير والتأنيث كأدوات الشرط ولا يدخلن فيما يختص بالذكور من الأسماء كالرجال والذكور
فأما الجمع بالواو والنون كالمسلمين وضمير المذكرين كقوله كلوا واشربوا فاختار القاضي أنهن يدخلن فيه وهو قول بعض الحنفية وابن داود واختار أبو الخطاب والأكثرون أنهن لا يدخلن فيه لأن الله تعالى ذكر المسلمات بلفظ متميز فيما يثبته ابتداء ويخصه بلفظ المسلمين لا يدخلن فيه إلا بدليل آخر من قياس أو كونه في معنى المنصوص وما يجري مجراه
ولنا أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب التذكير ولذلك لو قال لمن بحضرته من الرجال والنساء قوموا واقعدوا تناول جميعهم ولو قال قوموا وقمن واقعدوا واقعدن عد تطويلا ولكنة ويبينه قوله تعالى قلنا اهبطوا

منها جميعا بعضكم لبعض عدو وكان ذلك خطابا لآدم وزوجته والشيطان وأكثر خطاب الله تعالى في القرآن بلفظ التذكير كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا و يا عبادي الذين أسرفوا و هدى للمتقين بشرى للمؤمنين و بشر المخبتين والنساء في جملته وذكره لهن بلفظ مفرد تبيينا وإيضاحا لا يمنع دخولهن في اللفظ العام الصالح لهن كقوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال

وهما من الملائكة وقوله فيهما فاكهة ونخل ورمان وقد يعطف العام على الخاص كقوله تعالى وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم والمال عام في الكل

حجية العام فيما بقي بعد التخصيص
فصل
العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص عند الجمهور
وقال أبو ثور وعيسى بن أبان لا يبقى حجة لأنه يصير مجازا فقد خرج الوضع من أيدينا ولا قرينة تفصل وتحصل فيبقى مجملا
ولنا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بالعمومات وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص إلا اليسير كقوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و إن الله بكل شيء عليم فعلى قولهم لا يجوز

التمسك بعمومات القرآن أصلا ولأن لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع فالمخصص صرف دلالته عن البعض فلا تسقط دلالته عن الباقي كالاستثناء وقولهم يصير مجازا ممنوع وإن سلم فالمجاز دليل إذا كان معروفا لأنه يعرف منه المراد فهو كالحقيقة وقولهم لا قرينة تفصل قلنا ليس كذلك وإنما يجعل اللفظ مجازا بدليل التخصيص فيختص الحكم به دون ما عداه

العام بعد التخصيص حقيقة
فصل
واختار القاضي أنه حقيقة بعد التخصيص وهو قول أصحاب الشافعي وقال يصير مجازا على كل حال لأنه وضع للعموم فإذا أريد به غير ما وضع له كان مجازا وإن لم يكن هذا هو المجاز فلا يبقى للمجاز معنى إذن ولا خلاف في إنه لو رد إلى ما دون أقل الجمع فقال لا تكلم الناس وأراد زيدا وحده كان مجازا وإن كان هو داخلا فيه
وقال آخرون إن خصص بدليل منفصل صار مجازا لما ذكرناه وإن خصص بلفظ متصل فليس بمجاز بل يصير الكلام بالزيادة كلاما آخر موضوعا لشيء آخر فإنا نقول مسلم فيدل على واحد ثم نزيده الواو والنون فيدل على أمر زائد ولا نجعله مجازا ثم نزيد الآلف والنون في رجل فيصير صيغة أخرى بالزيادة ولا فرق بين زيادة كلمة أو زيادة حرف فإذا قال السارق للنصاب يقطع أو يقطع السارق إلا سارق دون النصاب فلا مجاز فيه بل مجموع هذا الكلام موضوع للدلالة على ما دل عليه فقوله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما دل على تسعمائة وخمسين وضعا فكأن العرب وضعت لذلك عبارتين ويمكن أن يقال ما صار بالوضع عبارة عن هذا القدر بل بقي

الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع بعد الإثبات فإذا رفعنا من الألف خمسين بقي تسعمائة وخمسون
أما زيادة الواو والنون فلا معنى لها في نفسها بخلاف هذا
ووجه قول القاضي أن القرينة المنفصلة من الشرع كالقرينة المتصلة لأن كلام الشارع يجب بناء بعضه على بعض فهو كالاستثناء وقد تبين الكلام فيه

جواز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
فصل
ويجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد
وقال الرازي والقفال والغزالي لا يجوز النقصان من أقل الجمع لأنه يخرج به عن الحقيقة
ولنا أن القرينة المتصلة كالقرينة المنفصلة وفي القرينة المتصلة يجوز ذلك فكذلك في المنفصلة
الخطاب بالعام يدخل فيه المخاطب
فصل
والمخاطب يدخل تحت الخطاب بالعام
وقال قوم لا يدخل بدليل قوله تعالى الله خالق كل شيء ولو قال قائل لغلامه من دخل الدار فأعطه درهما لم يدخل في ذلك
وهذا فاسد لأن اللفظ عام والقرينة هي التي أخرجت المخاطب فيما ذكروه ويعارضه قوله تعالى وهو بكل شيء عليم ومجرد كونه مخاطبا ليس بقرينة قاضية بالخروج عن العموم والأصل اتباع العموم
واختار أبو الخطاب أن الآمر لا يدخل في الأمر لأن الأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه ولن يتصور كون الإنسان دون نفسه فلم توجد حقيقته ولأن مقصود الآمر الامتثال وهذا لا يكون إلا من الغير وقال القاضي يدخل النبي صلى الله عليه و سلم فيما أمر به ويمكن أن تنبني هذه المسألة على أن ما ثبت في حق الأمة من حكم شاركهم النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الحكم ولذلك لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ثم لم يفعل سألوه عن ترك الفسخ فبين لهم عذره وقد عاب الله تعالى الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم وقال في حق شعيب وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وفي الأثر إذا أمرت بمعروف فكن من آخذ الناس به وإذا نهيت عن منكر فكن من أترك الناس له وإلا هلكت
العام يجب اعتقاد عمومه في الحال
فصل
اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال في قول أبي بكر والقاضي
وقال أبو الخطاب لا يجب حتى يبحث فلا يجد ما يخصصه قال وقد أومأ إليه في رواية صالح وأبي الحارث
قال القاضي فيه روايتان وعن الحنفية كقول أبي بكر وعنهم أنه إن سمع من النبي صلى الله عليه و سلم على طريق تعليم الحكم فالواجب اعتقاد عمومه وإن سمعه من غيره فلا
وعن الشافعية كالمذهبين قالوا لأن لفظ العموم يفيد الاستغراق مشروطا بعدم المخصص ونحن لا نعلم عدمه إلا بعد أن نطلب فلا نجد ومتى لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط ولذلك كل دليل أمكن أن يعارضه دليل فهو دليل بشرط سلامته عن المعارض ولا بد من معرفة الشرط
والجمع بين الأصل والفرع بعلة مشروط بعدم الفرق فلا بد من معرفة عدمه
ثم اختلفوا إلى متى يجب البحث فقال قوم يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاءعند الاستقصاء في البحث كالباحث عن المتاع في البيت إذا لم يجده

غلب على ظنه انتفاؤه وقال آخرون لا بد من اعتقاد جازم وسكون نفس بأنه لا مخصص فيجوز الحكم حينئذ أما إذا كان تشعر نفسه بدليل شذ عنه وتخيل في صدره إمكانه فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما
ولنا أن اللفظ موضوع للعموم فوجب اعتقاد موضوعه كأسماء الحقائق والأمر والنهي ولأن اللفظ في الأعيان والأزمان ثم يجب اعتقاد عمومه في الزمان ما لم يرد نسخ كذلك في الأعيان وقولهم إن دلالته مشروطة بعدم القرينة
قلنا لا نسلم وإنما القرينة مانعة من حمل اللفظ على موضوعه فهو كالنسخ يمنع استمرار الحكم والتأويل يمنع حمل الكلام على حقيقته واحتمال وجوده لا يمنع من اعتقاد الحقيقة ولأن التوقف يفضي إلى ترك العمل بالدليل فإن الأصول غير محصورة ويجوز أن لا يجد اليوم ويجده بعد اليوم فيجب التوقف أبدا وذلك غير جائز والله أعلم

الأدلة التي يخص بها العموم
فصل
لا نعلم اختلافا في جواز تخصيص العموم وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى الله خالق كل شيء وتجبى إليه ثمرات كل شيء تدمر كل شيء وقد ذكرنا أن أكثر العمومات مخصصة
وأدلة التخصيص تسعة
الأول دليل الحس وبه خصص قوله تدمر كل شيء بأمر ربها خرج منه السماء والأرض وأمور كثيرة بالحس
الثاني دليل العقل وبه خصص قوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
أقسام الكتاب
1 2