كتاب : المحرر الوجيز
المؤلف : أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)

هذه الآية لأهل مكة ، وهم المراد ب { الذين } في قول الأكثر ، وقال مجاهد : المراد نمرود بن كنعان ، والأول أظهر ، ونصب { السيئات } يحتمل وجهين : أحدهما أن ينصب بقوله { أفأمن } وتكون { السيئات } على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به ، ويكون قوله { أن يخسف } بدلاً منها . والوجه الثاني أن ينصب ب { مكروا } ، وعدي { مكروا } لأنه بمعنى عملوا وفعلوا ، و { السيئات } على هذا معاصي الكفر وغيره ، قاله قتادة ، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف ، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش ، أن قوماً في هذه الأمة ، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم ، و { تقلبهم } سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها ، و « المعجز » المفلت هرباً كأنه عجز طالبه ، وقوله { على تخوف } أي على جهة التخوف ، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
تخوف السير منها تامكاً فرداً ... كما تخوف عود النبعة السفن
والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى « التخوف » في هذه الآية ، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك ، حتى سمع هذا البيت ، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة « التخوف » ، فقال له يا أمير المؤمنين : إن أبي يتخوفني مالي ، فقال عُمر : الله كبر { أو يأخذهم على تخوف } ، ومنه قول طرفة :
وجامل خوف من نبيه ... زجرُ المعلى أبداً والسفيح
ويروى من نبته ، ومنه قول الآخر : [ الوافر ]
ألأم على الهجاء وكل يوم ... تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي ... سلاسل في الحلوق لها صليل
يريد الأهاجي ، ومنه قول النابغة : [ الطويل ]
تخوفهم حتى أذل سراتهم ... بطعن ضرار بعد قبح الصفائح
قال القاضي أبو محمد : وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين : أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء ، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه ، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت ، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها ، ويؤيد هذا قوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد ، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع : والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى ، ثم كذلك حتى يهلك الكل ، وقالت فرقة : « التخوف » هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول تكلف ما ، وقوله { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر « أو لم يروا » بالياء على لفظ الغائب ، وكذلك في العنكبوت ، فهي جارية على قوله : { أو يأخذهم } ، وقوله : { أو يأتيهم } وقوله : { لا يشعرون } ، ورجحها الطبري ، وقرأ حمزة والكسائي « أولم تروا » بالتاء في الموضعين ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن ، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما : أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا ، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً ، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق ، واختلف عنه في العنكبوت ، وقوله { من شيء } لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله { يتفيأ ظلاله } لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل ، والرؤية هنا هي رؤية القلب ، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين ، وقرأ أبو عمرو وحده « تتفيأ » بالتاء من فوق ، وهي قراءة عيسى ويعقوب ، وقرأ الجمهور « يتفيأ » ، قال أبو علي : إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان ، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال ، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس ، فيعم ، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب ، وكذلك قول حميد بن ثور :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
فهو على المهيع ، وكذلك قول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
تَتَبع أفياء الظلال عشية ... على طرق كأنهن سيوف
وكذلك قول امرىء القيس :
يفيء عليها الظل ... وأما النابغة الجعدي فقال : [ الخفيف ]
فسلام الإله يغدو عليهم ... وفيء الفردوس ذات الظلال
فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع ، وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال فيء وظل ، ولا يقال قبله إلا ظل فقط ، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة ، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى : { ما أفاء الله } [ الحشر : 7 ] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا ، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب ، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره ، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل ، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء ، وهو في المعنى لجمع ، وقرأ الثقفي « ظُلَلُه » بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء ، وقوله { عن اليمين والشمائل } أفرد اليمين وهو يراد به الجمع ، فكأنه للجنس ، والمراد عن الأيمان والشمائل ، كما قال الشاعر : [ جرير ]

الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وكما قال الآخر :
ففي الشامتين الصخر إن كان هدني ... رزية شبلي مخدر في الضراغم
والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك ، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط ، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر ، أي تقدره ذا يمين وشمال ، وتقدره يستقبل أي جهة شئت ، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال ، وذلك في كل أقطار الدنيا ، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية ، وفيه تجوز واتساع ، ومن ذهب إلى أن { اليمين } من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال ، وهو قول قتادة وابن جريج ، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب ، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب ، وما قال بعض الناس من أن { اليمين } أول وقعة للظل بعد الزوال ، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال ، ولذلك جمع { الشمائل } ، وأفرد { اليمين } ، فتخليط من القول يبطل من جهات ، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً ، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة ، وظلال متقطعة ، فهي شمائل كثيرة ، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء ، وفي هذا القول تجوز في تفيأ ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال ، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل ، وقالت فرقة « الظلال » هنا الأشخاص هي المراد أنفسها ، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل ، ومنه قول عبدة بن الطيب : [ البسيط ]
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية ، ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
تتبع أفياء الظلال عشية ... أي أفياء الأشخاص .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله محتمل غير صريح ، وإن كان أبو علي قد قدره ، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة ، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت ، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة ، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود ، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف
والداخر المتصاغر المتواضع ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس ... ومنجحر في غير أرضك في حجر

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

وقعت { ما } في هذه الآية لما يعقل ، قال الزجاج : قوله { ما في السماوات } يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان ، وقوله { وما في الأرض من دابة } بين ، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله { والملائكة } ويحتمل أن يكون قوله : { والملائكة } هو الذي يعم « السماوات والأرض » ، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك ، إنما هو للحيوان أجمع ، وقوله { يخافون ربهم } عام لجميع الحيوان ، وقوله { من فوقهم } يحتمل معنيين : أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان ، والآخر أن يتعلق قوله { من فوقهم } بقوله { يخافون } ، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم ، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق ، وقوله { ويفعلون ما يؤمرون } أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة ، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى ، وقوله { وقال الله } الاية ، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعداً ، بما ينصه من قوله { إنما هو إله واحد } ، قالت فرقة المفعول الأول ب { تتخذوا } قوله { إلهين } ، وقوله { اثنين } تأكيد وبيان بالعدد ، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيداً ، ومنه قوله { إله واحد } لأن لفظ { إله } يقتضي الانفراد ، وقال قوم منهم : المفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً أو مطاعاً ونحو هذا ، وقالت فرقة : المفعول الأول { اثنين } ، والثاني قوله { إلهين } ، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين ، ومثله قوله تعالى { ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح } [ الإسراء : 2-3 ] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل { تتخذوا } ، وقوله { فإياي } منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به ، وقوله { وله ما في السموات } الآية ، الواو في قوله { وله } عاطفة على قوله : { إله واحد } ، وجائز أن يكون واو ابتداء ، و { ما } عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل ، و { السماوات } هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق ، فيدخل فيه العرش والكرسي ، و { الدين } الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو : وحالت بيننا فدك . أي في طاعته وملكه و « الواصب » القائم ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر [ أبي الأسود ] : [ الكامل ]
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوماً بذم الدهر أجمع واصبا
ومنه قول حسان : [ المديد ]
غيرته الريح تسفي به وهزيم رعده واصب ... وقالت فرقة : هو من الوصب وهو التعب ، أي وله الدين على تعبه ومشقته .
قال القاضي أبو محمد : ف « واصب » على هذا جار على النسب أي ذا وصب ، كما قال : أضحى فؤادي به فاتناً ، وهذا كثير ، وقال ابن عباس أيضاً : « الواصب » الواجب ، وهذا نحو قوله : الواصب الدائم ، وقوله { أفغير } ، توبيخ ولفظ استفهام ونصب « غير » ب { تتقون } ، لأنه فعل لم يعمل في سوى « غير » المذكورة ، والواو في قوله { وما بكم } يجوز أن تكون واو ابتداء ، ويجوز أن تكون واو الحال ، ويكون الكلام متصلاً بقول { أفغير الله تتقون } ، كأنه يقال على جهة التوبيخ : أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه ، والباء في قوله { بكم } متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا ، و { ما } بمعنى الذي ، والفاء في قوله { فمن الله } دخلت بسبب الإبهام الذي في { ما } التي هي بمعنى الذي ، فأشبه الكلام الشرط ، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله ، إيجاده داخل في ذلك فما بعده ، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى ، و { الضر } وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن ، و { تجأرون } معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع ، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها ، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح ، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]

يراوح من صلوات الملي ... ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
وأنشده أبو عبيدة :
بأبيل كلما صلى جأر ... والأصوات تأتي غالباً على فعال أو فعيل : وقرأ الزهري « يجَرَون » بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم ، كما خففت « تسلون » من « تسألون » ، وقوله { ثم إذا كشف الضر } قرأ الجمهور « كشف » ، وقرأ قتادة « كاشف » ، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة ، و { فريق } هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر ، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم ، وأضافوا ذلك الشفاء إليها ، وقوله { ليكفروا } يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا ، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا ، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد ، كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك ، ويؤيده قوله : { بربهم يشركون } ، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر ، لقوله : { بما آتيناهم } أي بما أنعمنا عليهم ، وقرأ الجمهور { فتمتعوا فسوف تعلمون } على معنى قل لهم يا محمد ، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام « فيُمتعوا » بياء من تحت مضمومة « فسوف يعلمون » على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم ، وهي قراءة أبي العالية ، وقرأ الحسن « فتمتعوا » على الأمر « فسوف يعلمون » بالياء على ذكر الغائب ، وعلى ما روى أبو رافع يكون « يمتعوا » في موضع نصب عطفاً على « يكفروا » إن كانت اللام لام كي ، أو نصباً بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر ، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال .

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

الضمير في قوله { ويجعلون } للكفار ، وقوله { لما لا يعلمون } يريد الأصنام ، ومعناه لا يعلمون فيهم حجة ولا برهاناً ، ويحتمل أن يريد بقوله : { يعلمون } الأصنام ، أي يجعلون لجمادات لا تعلم شيئاً { نصيباً } ، فالمفعول محذوف ، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل ، وبحسب أنه إسناد منفي ، وهذا كله ضعيف ، و « النصيب » المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها ، والقسم لها من الغلات ، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام ، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به كما قال بعضهم ، و « الفرية » اختلاق الكذب وقوله { ويجعلون لله البنات } الآية ، هذا تعديد لقبح قول الكفار : الملائكة بنات الله ورد عليهم من وجهين ، أحدهما نسبة النسل إلى الله تعالى عن ذلك ، والآخر أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم ، و { ما } في قوله { ما يشتهون } مرتفعة بالابتداء ، والخبر في المجرور قبله ، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفاً على { البنات } ، والبصريون لا يجيزون هذا لأنه من باب ضربتني ، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون ، والمراد بقوله { ما يشتهون } : الذكران من الأولاد ، وقوله { وإذا بشر } لما صرح بالشيء المبشر به حسن ذكر البشارة فيه وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير ، وقوله { ظل وجهه مسوداً } عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم ، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة وتذهب شراقته ، فلذلك يذكر له السواد ، و { كظيم } بمعنى كاظم كعليم وعالم ، والمعنى أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى ، وقوله { يتوارى من القوم } الآية ، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى إنما هو بعد البشارة بالأنثى ، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق توارى حتى يخبر بأحد الأمرين ، فليس المراد في الآية ، ويشبه أن ذلك كان إذا أخبر بسارّ خرج ، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ولم يحتج إلى إحداثه ، ومعنى { يتوارى } يتغيب ، وتقدير الكلام يتوارى من القوم مدبراً { أيمسكه أم يدسه } ؟ وقرأت فرقة « أيمسكه » على لفظ « ما أم يدسها » على معنى الأنثى ، وقرأ الجحدري « أيمسكها أم يدسها » على معنى الأنثى في الموضعين ، وقرأ الجمهور « على هُون » بضم الهاء ، وقرأ عيسى بن عمر « على هوان » ، وهي قراءة عاصم الجحدري ، وقرأ الأعمش « على سوء » ، ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له ، أم يدسها فيدفنها حية ، فهو الدس في التراب ، ثم استفتح تعالى بالإخبار بسوء حكمهم وفعلهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله .

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

قالت فرقة { مثل } في هذه الآية بمعنى صفة ، أي لهؤلاء صفة السوء ولله الوصف الأعلى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يضطر إليه ، لأنه خروج عن اللفظ ، بل قوله { مثل } على بابه ، وذلك أنهم إذا قالوا إن البنات لله فقد جعلوا له مثلاً أبا البنات من البشر ، وكثرة البنات عندهم مكروه ذميم ، فهو مثل السوء الذي أخبر الله تعالى أنه لهم ليس في البنات فقط ، لكن لما جعلوه هم في البنات جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء ، ولا غاية أبعد من عذاب النار ، وقوله { ولله المثل الأعلى } على الإطلاق أيضاً في الكمال المستغني ، وقال قتادة : { المثل الأعلى } لا إله إلا الله ، وباقي الآية بين ، وقوله { ولو يؤاخذ الله الناس } الآية ، وآخذ هو تفاعل من أخذ ، كأن أحد المتواخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء ، وهي لغتان واخذ وآخذ ، و { يؤاخذ } يصح أن يكون من آخذ ، وأما كونها من واخذ فبين ، والضمير في { عليها } عائد على الأرض ، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها ، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس :
حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجنَّ عورات البلاد ظلامُها
ومنه قول تعالى { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ولم يجر للشمس ذكر ، وقوله { من دابة } دخلت { من } لاستغراق الجنس ، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لم أخذ الناس بعقاب يستحقونه بظلمهم في كفرهم ومعاصيهم لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى ، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء : كاد الجُعَل أن يهلك بذنوب بني آدم ، ذكره الطبري ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة » ، وسمع أبو هريرة رجلاً يقول : إن الظالم لا يهلك إلا نفسه ، فقال أبو هريرة : بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلاً بذنوب الظلمة ، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم ، وقالت فرقة : قوله : { من دابة } ، يريد من أولئك الظلمة فقط ، ويدل على هذا التخصيص ، أن الله لا يعاقب أحداً بذنب أحد ، واحتجب بقول الله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] وهذا معنى آخر ، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحداً بسبب إِذْنَاب غيره ، ولكن إذا أرسل عذاباً على أمة عاصية ، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب ، فأصابه العذاب لا بأنه له مجازاة ، ونحو هذا قوله

{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال « نعم إذا كثر الخبث » ، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء ، وذلك بترك التغير ومداهنة أهل الظلم ومداومة جوارهم ، و « الأجل المسمى » في هذه الآية هو بحسب شخص شخص ، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز ، وقوله { ما يكرهون } يريد البنات ، و { ما } في هذا الموضع تقع لمن يعقل من حيث هو صنف وقرأ الحسن « ألسنتهم الكذب » بسكون النون كراهية توالي الحركات ، وقرأ الجمهور « الكذِب » بكسر الذال ، ف { أن } بدل منه ، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام « الكُذُب » بضم الكاف والذال والباء على صفة الألسنة ، و { أن لهم } مفعول ب { تصف } ، و { الحسنى } قال مجاهد وقتادة : الذكور من الأولاد ، وهو الأسبق من معنى الآية ، وقالت فرقة يريد الجنة .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا قوله { لا جرم أن لهم النار } ومعنى الآية على هذا التأويل يجعلون لله المكروه ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة ، كما تقول لرجل أنت تعصي الله ، وتقول مع ذلك أنت تنجو ، أي هذا بعيد مع هذا ، ثم حكم عليهم بعد ذلك بالنار ، وقد تقدم القول في { لا جرم } ، وقرأ الجمهور « أن لهم » بفتح الهمزة ، وإعرابها بحسب تقدير { جرم } ، فمن قدرها بكسب فعلهم فهو نصب ، ومن قدرها بوجب فهو رفع ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمران « إن لهم » بكسر الهمزة وقرأ السبعة سوى نافع « مفرَطون » بفتح الراء وخفتها ، ومعناه مقدمون إلى النار والعذاب ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس ، وقد رويت عن نافع ، وهو مأخوذ من فرط الماء وهم القوم الذين يتقدمون إلى المياه لإصلاح الدلاء والأرشية ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « أنا فرطكم على الحوض » ومنه قول القطامي :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فرّاطٌ لورّاد
وقالت فرقة : { مفرطون } معناه مخلفون متركون في النار منسيون فيها ، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي هند ، وقال آخرون { مفرطون } معناه مبعدون في النار ، وهذا قريب من الذي قبله ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع « مُفَرِّطون » بكسر الراء وتشديدها وفتح الفاء ، ومعناه مقصرون في طاعة الله تعالى ، وقد روي عنه فتح الراء مع شدها ، وقرأ نافع وحده « مُفرِطون » بكسر الراء وخفتها ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي رجاء وشيبة بن نصاح وأكثر أهل المدينة ، أي يتجاوزون الحد في معاصي الله عز وجل .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)

هذه آية ضرب مثلاً لهم بمن تقدم وفي ضمنها وعيد لهم وتأنيس للنبي صلى الله عليه ولم ، وقوله { اليوم } يحتمل أن يريد يوم الإخبار بهذه الآية ، وهو بعد موت أولئك الأمم المذكورة ، أي لا ولي لهم منذ ماتوا واحتاجوا إلى الغوث إلا الشيطان ، ويحتمل أن يريد يوم القيامة ، والألف واللام فيه للعهد ، أي « هو وليهم » في « اليوم » المشهور وهو وقت الحاجة والفصل ، ويحتمل أن يريد { فهو وليهم } مدة حياتهم ، ثم انقطعت ولايته بموتهم ، وعبر عن ذلك بقوله { اليوم } تمثيلاً للمخاطبين بمدة حياتهم ، كما تقول لرجل شاب تحضه على طلب العلم : يا فلان لا يدرس أحد من الناس إلا اليوم ، تريد في مثل سنك هذه . فكأنه قال لهؤلاء : { فهو وليهم } في مثل حياتكم هذه ، وهي التي كانت لهم ، وسائر الآية وعيد ، وقوله { وما أنزلنا عليك الكتاب } يريد القرآن ، وقوله { لتبين } في موضع المفعول من أجله ، وقوله { وهدى ورحمة } عطف عليه ، كأنه قال إلا للبيان أي لأجل البيان لهم ، وقوله { الذي اختلفوا فيه } لفظ عام لأنواع كفر الكفرة من الجحد بالله تعالى ، أو بالقيامة ، أو بالنبوءات ، أو غير ذلك ، ولكن الإشارة في هذه الآية إنما هي لجحدهم الربوبية وتشريكهم الأصنام في الألوهية ، ويدل على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدالة على أن الأنعم وسائر الأفعال إنما هي من الله تعالى ، لا من الأصنام . وقوله تعالى { والله أنزل من السماء ماء } الآية ، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه ، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل ، و « حياة الأرض وموتها » استعارة وتشبيه بالحيوان ، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة فهي كالميت ، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية فهي كالحي ، وقوله { يسمعون } يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه ، لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب ، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط ، و { الأنعام } هي الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز ، و { العبرة } الحال المعتبر فيها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف والحسن وأهل المدينة « نَسقيكم » بفتح النون من سقى يسقي ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم « نُسقيكم » بضم النون من أسقى يُسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة ، قال بعض أهل اللغة ، هما لغتان بمعنى واحد ، وقالت فرقة : تقول لمن تسقيه بالشفة أو في مرة واحدة سقيته وتقول لمن تُعِدُّ سقيه أو تمنحه شرباً أسقيته ، وهذا قول من قرأ « نسقيكم » ، لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر ، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى ، قول لبيد : [ الوافر ]

سقى قومي بني بدر وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال
وذلك لازم لأنه لا يدعو لقومه بالقليل ، وقرأ أبو رجاء « يسقيكم » بالياء أي يسقيكم الله ، وقرأت فرقة « تسقيكم » بالتاء وهي ضعيفة وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين وقوله { مما في بطونه } ، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور كما قال الشاعر : مثل الفراخ نتفت حواصله ، وهذا كثير لقوله تعالى { إن هذه تذكرة } [ الإنسان : 29 ] { فمن شاء ذكره } [ المدثر : 55 ] وقيل : إنما قال : { مما في بطونه } ، لأن الأنعام والنعم واحد فرد الضمير على معنى النعم وقالت فرقة : الضمير عائد على البعض ، إذ الذكور لا ألبان لها ، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام ، و « الفرث » ما ينزل إلى الأمعاء ، و « السائغ » السهل في الشرب اللذيذ ، وقرأت فرقة « سيّغاً » بشد الياء ، وقرأ عيسى الثقفي « سيْغاً » بسكون الياء وهي تخفيف من سيغ كميت وهين ، وليس وزنهما فعلاً ، لأن اللفظة واوية ، ففعل منها سوغ ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

قال الطبري : التقدير { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ما { تتخذون } ، وقالت فرقة : التقدير { ومن ثمرات النخيل والأعناب } شيء { تتخذون منه } ، ويجوز أن يكون قوله : { ومن ثمرات } ، عطفاً على { الأنعام } [ النحل : 66 ] أي ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة ، ويجوز أن يكون عطفاً على { مما } [ النحل : 66 ] ، أي ونسقيكم أيضاً مشروبات من ثمرات ، والسكر ما يسكر ، هذا هو المشهور في اللغة ، فقال ابن عباس : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، وأراد بالسكر الخمر ، وبالرزق الحسن جميع ما يشرب ويؤكل حلالاً من هاتين الشجرتين وقال بهذا القول ابن جبير وإبراهيم والشعبي وأبو زيد ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر ، وقال الشعبي ومجاهد : السكر السائغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ ، و « الرزق الحسن » العنب والتمر ، قال الطبري : والسكر أيضاً في كلام العرب ما يطعم ، ورجح الطبري هذا القول ، ولا مدخل للخمر فيه ولا نسخ من الآية شيء ، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر : إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر ، وفي هذه المقالة درك ، لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « حُرمت الخمر بعينها ، والسَّكَر من غيرها » هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف ، أي جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره ، ورواه العراقيون ، و « السُّكْر » بضم السين وسكون الكاف وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال ، وباقي الآية بين ، وقوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } الآية ، الوحي في كلام العرب إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء ، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك ، ومنه وحي الرؤيا ، ومنه وحي الإلهام ، وهو الذي في آياتنا هذه باتفاق من المتأولين ، والوحي أيضاً بمعنى الأمر ، كما قال تعالى { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] . وقرأ يحيى بن وثاب « إلى النّحَل » بفتح الحاء و { أن } في قوله { أن اتخذي } مفسرة ، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع ، إما في الجبال وكُواها ، وإما في متجوف الأشجار ، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح والحيطان ونحوها ، و « عرش » معناه هيأ ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها ، ومنه العريش الذي صيغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، ومن هذا هي لفظة العريش ، ويقال عرش يعرِش بكسر الراء وضمها ، وقرىء بهما ، قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر ، واختلف عن عاصم ، وجمهور الناس على كسر ، وقرأ بالضم أبو عبد الرحمن وعبيد بن نضلة ، وقال ابن زيد في قوله : { يعرشون } قال الكروم ، وقال الطبري { ومما يعرشون } يعني ما يبنون من السقوف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا منهما تفسير غير متقن ، وقوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } الآية ، المعنى ثم ألهمها أن كلي ، فعطف { كلي } على { اتخذي } ، و { من } للتبعيض ، أي كلي جزءاً أو شيئاً من كل الثمرات ، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار ، و « السبل » الطرق وهي مسالكها في الطيران وغيرها ، وأضافها إلى « الرب » من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك ، وقوله { ذللاً } يحتمل أن يكون حالاً من { النخل } ، أي مطيعة منقادة لما يسرت له ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم ، وقرأ { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 71-72 ] ، ويحتمل أن يكون حالاً من « السبل » أي مسهلة مستقيمة ، قال مجاهد : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه ، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة أمر العسل في قوله { يخرج من بطونها } ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة ، فظاهر هذا أنه من غير الفم ، و « اختلاف الألوان » في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي ، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم : جرست نحْلُهُ العرفطَ حين شبهت رائحته برائحة المغافير ، وقوله { فيه شفاء للناس } الضمير للعسل ، قاله الجمهور : ولا يقتضي العموم في كل على وفي كل إنسان ، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض وعلى حال دون حال ، ففائدة الآية إخبار منبه منه في أنه دواء كما كثر الشفاء به وصار خليطاً ومعيناً للأدوية في الأشربة والمعاجين ، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل ، حتى إنه يدهن به الدمل والضرحة ويقرأ { فيه شفاء للناس } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم ، وقال مجاهد : الضمير للقرآن ، أي فيه شفاء ، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها أهل البيت ورجال بني هاشم ، وأنهم النحل ، وأن الشراب القرآن والحكمة ، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي : فقال له رَجل ممن حضر : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فأضحك الحاضرين ، وبُهت الآخر ، وظهرت سخافة قوله ، وباقي الآية بين .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك ، ثم اعترض بمن ينكث من الناس لأنهم موضع عبرة ، و { أرذل العمر } آخرُه الذي تفسد فيه الحواس ويخْتل النطق ، وخص ذلك بالرذيلة وإن كانت حال الطفولية كذلك ، من حيث كانت هذه لأرجاء معها ، والطفولية إنما هي بدأة والرجاء معها متمكن ، وقال بعض الناس : أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة روي ذلك عن علي رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في الأغلب ، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان ، والمعْنى ، منكم من يرد إلى أرذل عمره ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره ، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره ، واللام في { لكي } يشبه أن يكون لام صيرورة ، وليس ببين ، والمعنى ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً ، وهذه عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئاً البتة ، ولم تحل { لا } بين « كي » ومعمولها لتصرفها ، وأنها قد تكون زائدة ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير ، وقوله { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } إخبار يراد به العبرة ، وإنما هي قاعدة يبنى المثل عليها ، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم ، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب ، وهم خلقه وغيرها مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه ، هذا تأويل الطبري ، وحكاه عن ابن عباس وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام ، قال المفسرون : هذه الآية كقوله تعالى { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء } [ الروم : 28 ] ، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدية إلى الإيمان ، وقرأ الجمهور وحفص عن عاصم « يجحدون » بالياء من تحت ، وقرأ أبو بكر عن عاصم « تجحدون » بالتاء ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه ، وهي على معنى قل لهم يا محمد . قال قتادة : لا يكون الجحد إلا بعد معرفة ، وقوله { والله جعل لكم } الآية ، آية تعديد نعم ، و « الأزواج » الزوجات ، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك ، وقوله { من أنفسكم } يحتمل أن يريد خلقته حواء من نفس آدم وجسمه ، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال ، وهذا قول قتادة ، والأظهر عندي أن يريد بقوله { من أنفسكم } ، أي من نوعكم وعلى خلقتكم ، كما قال تعالى

{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقوله { وجعل لكم من أزواجكم بنين } ، ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء ، واختلف الناس في قوله { وحفدة } فقال ابن عباس : « الحفدة » أولاد البنين ، وقال الحسن : هم بنوك وبنو بنيك ، وقال ابن مسعود وأبو الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير : « الحفدة » الأصهار وهم قرابة الزوجة ، وقال مجاهد : « الحفدة » الأنصار والأعوان والخدم ، وحكى الزجاج أن الحفدة البنات في قول بعضهم ، قال الزهراوي لأنهن خدم الأبوين لأن لفظة البنين لا تدل عليهن ، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تعالى : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } [ الكهف : 46 ] وإنما الزينة في الذكور ، وقال ابن عباس أيضاً : « الحفدة » أولاد زوجة الرجل من غيره ، ولا خلاف أن معنى الحفد الخدمة والبر والمشي مسرعاً في الطاعة ومنه في القنوت : وإليك نسعى ونحفد ، والحفدان خبب فوق المشي ، ومنه قول الشاعر وهو جميل بن معمر : [ الكامل ]
حفد الولائد بينهن وأسلمت ... بأكفهن أرمة الإجمال
ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
كلفت مجهولها نوقاً ثمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا
قال القاضي أبو محمد : وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنيت على أن كل أحد جعل له من زوجه بنون وحفدة ، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس ، ويحتمل عندي أن قوله : { من أزواجكم } إنما هو على العموم والاشتراك ، أي من أزواج البشر جعل الله لهم البنين ، ومنهم جعل الخدمة فمن لم تكن له قط زوجة فقد جعل الله له حفدة ، وحصل تحت النعمة ، وأولئك الحفدة هم من الأزواج ، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم ، وتستقيم لفظة « الحفدة » على مجراها في اللغة ، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة ، وقالت فرقة : « الحفدة » هم البنون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يستقيم على أن تكون الواو عاطفة صفة لهم ، كما لو قال جعلنا لهم بنين وأعواناً أي وهم لهم أعوان ، فكأنه قال : وهم حفدة وقوله { ورزقكم من الطيبات } يريد الله : من الأشياء التي تطيب لمن رزقها ، ولا يقتصر هنا على الحلال لأنهم كفار لا يكتسبون بشرع ، وفي هذه الآية رد على من قال من المعتزلة : إن الرزق إنما يكون الحلال فقط ، و { لكم } تعلق في لفظة { من } إذ هي للتبعيض ، فيقولون : ليس الرزق المعدد عليهم من جميع ما بأيديهم إلا ما كان حلالاً ، وقرأ الجمهور « يؤمنون » ، وتجيء الآية على هذه القراءة توقيفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم على إيمانهم بالباطل وكفرهم بنعمة الله ، وقرأ أبو عبد الرحمن « تؤمنون » بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم على معنى قل لهم يا محمد ، ويجيء قوله بعد ذلك { وبنعمت الله هم يكفرون } إخباراً مجرداً عنهم وحكماً عليهم لا توقيفاً ، وقد يحتمل التوقيف أيضاً على قلة اطراد في القول .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

هذه آية تقريع للكفار وتوبيخ وإظهار لفساد نظرهم ووضع لهم من الأصنام في الجهة التي فيها سعي الناس وإليها هممهم ، وهي طلب الرزق ، وهذه الأصنام لا تملك إنزال المطر ولا إثبات نعمة ، ومع أنها لا تملك لا تستطيع أن تحاول ذلك من ملك الله تعالى ، وقوله { رزقاً } مصدر ونصبه على المفعول ب { يملك } ، وقوله { شيئاً } ذهب كثير من النحويين إلى أنه منصوب على البدل ، من قوله { رزقاً } و { رزقاً } اسم ، وذهب الكوفيون وأبو علي معهم إلى أنه منصوب بالمصدر في قوله { رزقاً } ولا نقدره اسماً ، وهو كقوله تعالى { ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً } [ المرسلات : 25-26 ] فت { كفاتاً } [ المرسلات : 25 ] مصدر منصوب به { أحياء } [ المرسلات : 26 ] ومنه أيضاً في قوله عز وجل { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة } [ البلد : 14-15 ] فنصب { يتيماً } [ البلد : 15 ] ب { إطعام } [ البلد : 14 ] ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد صاروا لنا كالموارد
والمصدر يعمل مضافاً باتفاق لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف اللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعُد عن حال الفعلية ، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر :
ضعيف النكاية أعداءه ... البيت :
وقوله : عن الضرب مسمعاً ، وقوله { يملك } على لفظ { ما } ، وقوله { يستطيعون } على معناها بحسب اعتقاد الكفار في الأصنام أنها تعقل ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يستطيعون } للذين يعبدون ، المعنى لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها ، وقوله { فلا تضربوا } أي لا تمثلوا لله الأمثال ، وهو مأخوذ من قولك : ضريب هذا أي مثله ، والضرب النوع ، تقول : الحيوان على ضروب ، وهذان من ضرب واحد ، وباقي الآية بين وقوله { ضرب الله مثلاً } الآية ، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه ، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر ، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة كما انتزع بعض من ينتحل الفقه ، وقد قال في المثال : لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمناً ينفق بحسب الطاعة ، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالاً ، والرزق ما صح الانتفاع به ، وقال أبو منصور في عقيدته : الرزق ما وقع الاغتذاء به ، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص ، وكذلك قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 30 ] و { أنفقوا مما رزقناكم } [ البقرة : 254 ] وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم : « جعل رزقي في ظل رمحي » ، وقوله : « أرزاق أمتي في سنابك خيلها ، وأسنة رماحها ، فالغنيمة كلها رزق » ، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق ، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به ، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله :

« يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت » .
قال القاضي أبو محمد : وفي معنى اللباس يدخل المركوب ونحوه ، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل فقال قتادة وابن عباس : هو مثل الكافر والمؤمن فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة فهو لا يقدر على شيء لذلك . ويشبه ذلك العبد المذكور .
قال القاضي أبو محمد : والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط ، جعل له مثالاً ، ثم قرن بالمؤمن المرزوق إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن ، وإنما هو مثال للمؤمن ، فيقع التمثيل من جهتين ، وقال مجاهد والضحاك : هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام ، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب ، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أصوب ، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام ، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وعبد كان له ، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده .
قال القاضي أبو محمد : والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد ، وقوله { الحمد لله } شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له ، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك : الله أكبر ، على هذا يكون كذا وكذا ، فلما قال هنا { هل يستوون } ؟ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة ، وقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } يريد لا يعلمون أبداً ولا يداخلهم إيمان ، ويتمكن على هذا قوله : { أكثرهم } ، لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك ، ولو كان معنى قوله { لا يعلمون } أي الآن ، لكان قوله { أكثرهم } بمعنى الاستيعاب لأنه لم يكن أحد منهم يعلم .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

هذا مثل لله عز وجل والأصنام ، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، و « الكَلّ » الثقل والمؤنة ، وكل محمول فهو كَلّ ، وسمي اليتيم كلاً ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أكول المال الكَلِّ قبل شبابه ... إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد
كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ثم لا يأتي من جهتها خير البتة ، هذا قول قتادة ، وقال ابن عباس : هو مثل للكافر ، وقرأ ابن مسعود « يوجه » ، وقرأ علقمة « يوجِّهُ » وقرأ الجمهور ، « يوجهه » ، وهي خط المصحف ، وقرأ يحيى بن وثاب « يُوجَّه » ، وقرأ ابن مسعود أيضاً « توجهه » على الخطاب ، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة لأنه لازم ، والذي { يأمر بالعدل } هو الله تعالى ، وقال ابن عباس : هو المؤمن . و « الصراط » الطريق ، وقوله { ولله غيب السماوات والأرض } الآية ، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه ، وقوله { وما أمر الساعة } آية إخبار بالقدرة وحجة على الكفار ، والمعنى على ما قال قتادة وغيره : ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن ، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك ، ف { أو } على هذا على بابها في الشك ، وقيل هي للتخيير ، و « لمح البصر » هو وقوعه على المرئي ، وقوى هذا الإخبار بقوله { إن الله على كل شيء قدير } . ومن قال { وما أمر الساعة } له وما إتيانها ووقوعها بكم على جهة التخويف من حصولها ففيه بعد تجوز كثير ، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم « بعثت أنا والساعة كهاتين » ، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها ، ووجه التأويل أن القيامة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب { كلمح البصر } كما يقال : ما السنة إلا لحظة ، إلا أن قوله { أو هو أقرب } يرد أيضاً هذه المقالة ، وقوله { والله أخرجكم } الآية ، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل ، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها ، فالله عز وجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئاً ، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلماً إلى درك المعارف ، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه ، و « أمهات » أصله أمات ، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيداً ، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء ، قاله أبو إسحاق ، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا ، وقرأ حمزة والكسائي « إمهاتكم » بكسر الهمزة ، وقرأ الأعمش « في بطون أمِّهاتكم » بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة ، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة ، قال أبو حاتم : حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب والترجي الذي في « لعل » هو بحسبنا ، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار ، وقوله { ألم تروا إلى الطير } الآية ، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز « ألم تروا » بالتاء ، وقرأ أهل مكة والمدينة « ألم يروا » بالياء على الكناية عنهم ، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي ، و « الجو » مسافة ما بين السماء والأرض ، وقيل هو ما يلي الأرض منها ، وما فوق ذلك هو اللوح ، و « الآية » عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت ، فذكر أولاً بيوت التمدن وهي التي للإقامة الطويلة وهي أعظم بيوت الإنسان ، وإن كان الوصف ب { سكناً } يعم جميع البيوت ، والسكن مصدر يوصف به الواحد ، ومعناه يسكن فيها وإليها ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة ، وقوله { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف ، لأن هذه هي من الجلود ، لكونها نابتة فيها ، نحا إلى ذلك ابن سلام ، ويكون قوله { ومن أصوافها } عطفاً على قوله { من جلود الأنعام } ، أي جعل بيوتاً أيضاً ، ويكون قوله { أثاثاً } نصباً على الحال ، و { تستخفونها } أي تجدونها خفافاً وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو « ظعَنكم » بفتح العين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي « ظعْنكم » بسكون العين ، وهما لغتان ، وليس بتخفيف ، و « ظعن » معناه رحل والأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز والبقر ، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه ، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضاً والكتان في لفظ السرابيل ، والأثاث متاع البيت واحدتها أثاثة ، هذا قول أبي زيد الأنصاري ، وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه .
قال القاضي أبو محمد : والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم : لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة ، تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف ، وقوله { إلى حين } يريد به وقتاً غير معين ، وهو بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الوافر ]
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزيّ الجميل من الأثاث
وقوله : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } الآية ، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم ، وأنها الأشياء المباشرة لهم ، لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر ، وقوله { مما خلق } يعم جميع الأشخاص المظلة ، و « الأكنان » جمع كن وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك ، و « السرابيل » جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل ، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه ، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا ، والبرد فيها معدوم في الأكثر ، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر ، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط ، قاله الطبري عن عطاء الخراساني ، الا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم ، قال ابن عباس : إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط .

قال القاضي أبو محمد : وأيضاً فذكر أحدهما يدل على الآخر ، ومنه قول الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
قال القاضي أبو محمد : وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز ، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد ، ومنه قول متمم :
إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا . ... ومنه قول الآخر :
في ليلة من جمادى ذات أندية . ... البيتين ، وغير هذا ، والسرابيل التي تقي البأس هي الدرع ، ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]
شم العرانين أبطال لبوسهمُ ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
وقال أوس بن حجر :
ولنعم حشو الدرع والسربال ... فهذا يراد به القميص ، و « البأس » مس الحديد في الحرب ، وقرأ الجمهور « يتم نعمته » ، وقرأ ابن عباس « تتم نعمته » على أن النعمة هي تتم ، وروي عنه « تتم نعمه » على الجمع وقرأ الجمهور « تسلمون » من الإسلام ، وقرأ ابن عباس « تَسلمون » من السلامة ، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب ، وما في « لعل » من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين ، أي لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف ، والمعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم ، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه ، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة ، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى ، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها ، هذا قول مجاهد ، فسماهم منكرين للنعمة تجوزاً ، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما ، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع ، وقال السدي : « النعمة » هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ووصفهم تعالى بأنهم يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه الطبري ، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل مكة ، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام ، ومن أسلم بعد ذلك ، وقوله { ويوم نبعث } الآية وعيد ، والتقدير واذكر يوم نبعث ويرد { شهيداً } على كفرهم وإِيمانهم ، ف « شهيد » بمعنى ، شاهد وذكر الطبري أن المعنى ثم ينكرونها اليوم { ويوم نبعث من كل أمة شهيداً } ، أي ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد وقوله { ثم لا يؤذن } أي لا يؤذن لهم في المعذرة ، وهذا في موطن دون موطن ، لأن في القرآن أن { كل نفس تأتي تجادل عن نفسها } [ النحل : 111 ] ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل فإذا استقرتَ أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار ، فلم يؤذن للمكذبين بعد في معذرة ، و { يستعتبون } معناه يعتبون ، يقال أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه ، كما تقول أشكيته إذا كفيته ما شكا ، فكأنه قال ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم والعرب تقول استفعل بمعنى أفعل ، تقول أدنيت الرجل واستدنيته وقال قوم معناه لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا .
قال القاضي أبو محمد : فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم ، وقال الطبري معنى { يستعتبون } يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة عمل . وقوله { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } الآية ، أخبر الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفرة الظالمين في كفرهم إذا أراهم الله عذاب الله وشارَفُوها وتحققوا كنه شدتها ، فإن ذلك الأمر الهائل الذي نزل بهم لا يخفف بوجه ولا يؤخر عنهم ، وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا ، فإن الإنسان لا يتوقع أمراً من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه ، وكذلك متى حل به كان طامعاً في أن يخف ، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيراً ، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير .

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

أخبر الله تعالى في هذه الآية أن المشركين إذا رأوا يوم القيامة بأبصارهم الأوثان والأصنام وكل معبود من دون الله لأنها تحشر معهم توبيخاً لهم على رؤوس الأشهاد أشاروا إليهم وقالوا هؤلاء كنا نعبد من دون الله ، أرادوا بذلك تذنيب المعبودين وإدخالهم في المعصية ، وأضافوا الشركاء إلى أنفسهم من حيث هم جعلوهم شركاء ، وهذا كما يصف رجل آخر بأنه خير فتقول أنت ما فعل خيرك فأضفته إليه من حيث وصفه هو بتلك الصفة ، والضمير في { أقول } عائد على الشركاء ، فمن كان من المعبودين من البشر ألقى القول المعهود بلسانه ، وما كان من الجمادات تكلمت بقدرة الله بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله ، ففي هذا وقع الكذب لا في العبادة وقال الطبري : المعنى إنكم لكاذبون ، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا .
قال القاضي أبو محمد : فكأنهم كذبوهم في التذنيب لهم وقوله { وألقوا إلى الله } ، الضمير في { ألقوا } عائد على المشركين ، والمعنى ألقوا إليه الاستسلام ، وألقوا ما بأيديهم وذلوا لحكمه ، ولم تكن لهم حيلة ولا دفع ، و { السلم } الاستسلام ، وقرأ الجمهور « السلَم » بفتح اللام ، وروى يعقوب عن أبي عمرو سكون اللام ، وقرأ مجاهد « السُّلُم » بضم السين واللام ، وقوله { وضل عنهم } معناه وتلف عنهم كذبهم على الله وافتراؤهم الكفر والتشريك ، وقوله { الذين كفروا } الآية ، في ضمن { وضل عنهم ما كانوا يفترون } لأنه حل بهم عذاب الله وباشروا نقمته ، ثم فسروه فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين وسلوك سبيل الله زادهم عذاباً أجلّ من العذاب العام لجميع الناس عقوبة على إفسادهم ، فيحتمل أن يكون قوله { الذين } بدلاً من الضمير في { يفترون } ، و { زدناهم } فعل مستأنف إخباره ، ويحتمل أن يكون { الذين } ابتداء و { زدناهم } خبره ، وروي في ذلك أن الله تعالى يسلط عليهم عقارب وحيات لها أنياب كالنخل الطوال ، قاله ابن مسعود ، وقال عبيد بن عمير : لها أنياب كالنخل وعقارب كالبغال الدهم ، ونحو هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، إن لجهنم سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب ، فيفر الكافر إلى السواحل من النار ، فتلقاهم هذه الحيات والعقارب ، فيفرون منها إلى النار فتتبعهم حتى تجد حر النار ، فترجع ، قال وهي في أسراب ، وقوله تعالى { ويوم نبعث } الآية ، هذه الآية في ضمنها وعيد ، والمعنى واذكر يون نبعث في كل أمة شهيداً عليها ، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها ، وإيمانها وهداها ، ويجوز أن يبعث الله شهيداً من الصالحين مع الرسل ، وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيداً عليه يوم القيامة ، { من أنفسهم } بحسب أن بعثة الرسل كذلك ، في الدنيا وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير وفهم الأغراض والإشارات يتمكن له إفهامهم والرد على معانديهم ، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة ، فلذلك لم يبعث الله قط نبياً إلا من الأمة المبعوث إليهم ، وقوله { هؤلاء } إشارة إلى هذه الأمة و { الكتاب } القرآن ، وقوله { تبياناً } اسم وليس بالمصدر ، وهو كالنقصان ، والمصادر في مثل هذا ، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار ، ونصب { تبياناً } على الحال .

وقوله { لكل شيء } أي مما يحتاج في الشرع ولا بد منه في الملة كالحلال والحرام والدعاء إلى الله والتخويف من عذابه ، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين ، وقال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء قد بين لنا في القرآن ، ثم تلا هذه الآية .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أجمل آية في كتاب الله آية في سورة النحل ، وتلا هذه الآية ، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب ، فتعجب وقال : يا آل غالب ، اتبعوه تفلحوا فوالله ، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق ، وحكى النقاش قال : يقال زكاة العدل الإحسان ، وزكاة القدرة العفو ، وزكاة الغنى المعروف ، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه .
قال القاضي أبو محمد : و { العدل } هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم ، والإنصاف وإعطاء الحق ، { والإحسان } هو فعل كل مندوب إليه ، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه ، ومنها ما هو فرض ، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل ، والتكميل الزائد على حد الاجزاء داخل في الإحسان ، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري : { العدل } لا إله ألا الله ، و { الإحسان } أداء الفرائض .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القسم الأخير نظر ، لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عليه السلام ، وذلك هو العدل ، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه ، حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حديث سؤال جبريل عليه السلام ، بقوله : « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ، فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد أداء الفرائض مكملة { وإيتاء ذي القربى } لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة ، وتركه مبهماً أبلغ ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر ، وهذا المعنى المأمور به في جانب { ذي القربى } داخل تحت { العدل } و { الإحسان } ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماماً به وخصاً عليه ، و { الفحشاء } الزنى ، قاله ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وغيره من المعاصي التي شنعتها ظاهرة وفاعلها أبداً متستر بها ، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج ، والمنكر أعم منه ، لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والإذايات على اختلاف أنواعها ، و { البغي } هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه ، وهو داخل تحت { المنكر } لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره بالناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ذنب أسرع عقوبة من بغي » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « الباغي مصروع ، وقد وعد الله تعالى من بُغِي عليه بالنصر » ، وفي بعض الكتب المنزلة : لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكاً .
قال القاضي أبو محمد : وتغيير المنكر فرض على الولاة ، إلا أن المغير لا يعنّ لمستور ، ولا يعمل ظناً ، ولا يتجسس ، ولا يغير إلا ما بدت صفحته ، ويكون أمره ونهيه بمعروف ، وهذا كله لغير الولاة ألزم وفرض على المسلمين عامة ، ما لم يخف المغير إذاية أو ذلاً ، ولا يغير المؤمن بيده ما وجد سلطاناً ، فإن عدمه غير بيده ، إلا أنه لا يصل إلى نصب القتال والمدارأة وإعمال السلاح إلا مع الرياسة والإمام المتبع ، وينبغي للناس أن يغير المنكر منهم كل أحد تقي وغير تقي ، ولو لم يغير إلا تقي لم يتغير منكر في الأغلب ، وقد ذم الله تعالى قوماً بأنهم لم يتناهوا عن منكر فعلوه ، فقد وصفهم بفعله وذمهم لما لم يتناهوا عنه وكل منكر فيه مدخل للنظر فلا مدخل لغير حملة العلم فيه ، فهذه نبذة من القول في تغيير المنكر تضمنت ثمانية شروط ، وروي أن جماعة رفعت على عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي ، فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يبينوا عليه كبيرة ظلم ، ولا جوروه له في شيء ، فقام فتى من القوم ، فقال يا أمير المؤمنين : إن الله أمر { بالعدل والإحسان } ، وأنه عدل ولم يحسن ، قال : فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل ، وقوله { وأوفوا بعهد الله } ، الآية مضمن قوله { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية ، افعلوا كذا وانتهوا عن كذا ، فعطف على ذلك التقدير قوله { وأوفوا } ، و « عهد الله » لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة ، وبالجملة كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه ، كان فيه نفع للغير أو لم يكن ، وقوله { ولا تنقضوا الأيمان } خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان تهمماً بها وتنبيهاً عليها .

قال القاضي أبو محمد : وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق فهو الذي قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير » ويقال تأكيد وتوكيد ووكد وأكد وهما لغتان ، وقال الزجاج : الهمزة مبدلة من الواو .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ، لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك ، و { كفيلاً } معناه متكفلاً بوفائكم ، وباقي الآية وعيد في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، رواه أبو ليلى عن مزيدة ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فزادها الإسلام شدة .
قال القاضي أبو محمد : كما قال صلى الله عليه وسلم : « لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة » ، وهذا حديث معنى ، وإن كان السبب بعض هذه الأشياء ، فألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكماً ، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلته بعد إبرامه ، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت سعد كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقيل كانت امرأة موسوسة تسمى خطية تغزل عند الحجر وتفعل ذلك ، وقال مجاهد وقتادة ، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة و { أنكاثاً } نصب على الحال ، والنكث النقض ، و « القوة » في اللغة واحدة قوى الغزل والحبل ، وغير ذلك مما يظفر ، ومنه قول الأغلب الراجز :
حبل عجوز فتلت سبع قوى ... ويظهر لي أن المراد ب « القوة » في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ولو قدرناها واحدة القوى لم يكن معها ما ينقض { أنكاثاً } ، والعرب تقول أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه ، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة ، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له ، قال مجاهد : المعنى من بعد إمرار قوة ، و « الدخل » الدغل بعينه ، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن فيتمكن الحالف من ضره بما يريده ، وقوله { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة ، قوية فداخلتها ، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى ، فقال الله تعالى ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة و « الربا » الزيادة ، ويحتمل أن يكون القول معناه لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم أي أزيد خيراً ، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود ، و { يبلوكم } معناه يختبركم ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به ، ويحتمل أن يعود على الربا ، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها ، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة ، وقوله { هي أربى } موضع { أربى } عند البصريين رفع وعند الكوفيين نصب ، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين لأنه لا يكون مع النكرة ، و { أمة } نكرة ، وحجة الكوفيين أن { أمة } وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف ، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص ، وفي هذا نظر ، وقوله تعالى : { ولو شاء الله } الآية ، أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يبتلي عباده بالأوامر والنواهي ليذهب كل أحد إلى ما يسر له ، وذلك منه تعالى بحق الملك ، وأنه لا يسأل عما يفعل ، ولو شاء لكان الناس كلهم في طريق واحد ، إما في هدى وإما في ضلالة ، ولكنه تعالى شاء أن يفرق بينهم ، ويخص قوماً بالسعادة وقوماً بالشقاوة و { يضل } و { يهدي } معناه يخلق ذلك في القلوب خلافاً لقول المعتزلة ، ثم توعد في آخر الآية بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله ، وهذا سؤال توبيخ ، وليس ثم سؤال تفهم ، وذلك هو المنفي في آيات .

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

كرر النهي عن اتخاذ الأيمان { دخلاً بينكم } تهمماً بذلك ومبالغة في النهي عنه ، لعظم موقعه من الدين وتردده في معاشرات الناس ، و « الدخل » كما قلنا الغوائل الخدائع ، وقوله { فتزل قدم بعد ثبوتها } استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط لأن القدم إذا زلت نقلت الإحسان من حال خير إلى حال شر ، ومن هذا المعنى قول كثير :
فلما توافينا ثبت وزلت ... أي تنقلت من حال إلى حال ، فاستعار لها الزلل ، ومنه يقال لمن أخطأ في شيء : زل فيه ، ثم توعد بعد بعذاب في الدنيا و { عذاب عظيم } في الآخرة ، وقوله { بما صددتم عن سبيل الله } يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله { ولا تشتروا بعهد الله } الآية ، هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الأخذ أو تركه ، أو فعل ما يجب عليه تركه ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها ، فمن أخذ على ذلك مالاً فقد أعطى عهد الله وأخذ قليلاً من الدنيا ، ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى ، ثم بين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان ، أو ينقضي عنها ، ومنن الآخرة باقية دائمة ، وقرأ ابن كثير وعاصم « ولنجزين » بنون ، وقرأ الباقون « وليجزين » بالياء ولم يختلفوا في قوله { ولنجزينهم } أنه بالنون ، كذا قال أبو علي ، وقال أبو حاتم : إن نافعاً روي عنه « وليجزينهم » بالياء ، و { صبروا } معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعة وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المذكورة ، وقوله { بأحسن } أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون ، وقوله { من عمل صالحاً } يعم جميع أعمال الطاعة ، ثم قيده بالإيمان ، واختلف الناس في { الحياة الطيبة } فقال ابن عباس والضحاك : هو الرزق الحلال ، وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي القناعة وهذا طيب عيش الدنيا ، وقال ابن عباس أيضاً : هي السعادة ، وقال الحسن البصري : « الحياة الطيبة » هي حياة الآخرة ونعيم الجنة .
قال القاضي أبو محمد : وهناك هو الطيب على الإطلاق ، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا ، والذي أقول : إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، فبهذا تطيب حياتهم وأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة ، أو قناعة فذلك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب وجاء قوله { فلنحيينه } على لفظ { من } ، وقوله { ولنجزينهم } على معناها ، وهذا وعد بنعيم الجنة ، وباقي الآية بين ، وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال : نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا ، وقال كل منهم ملتي أفضل ، فعرفهم الله تعالى في هذه الآية أفضل الملل .

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

الفاء في قوله { فإذا } واصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية فإذا أخذت في قراءة القرآن كما قال عز وجل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] ، وكما تقول لرجل إذ أكلت فَقُل : بسم الله ، و « الاستعاذة » ندب عند الجميع ، وحكى النقاش عن عطاء أن التعوذ واجب ، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة الآية ، وقد ذكرت الخلاف الذي قيل فيه في صدر هذا الكتاب ، و { الرجيم } المرجوم باللغة وهو إبليس ، ثم أخبر الله تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة ، هذا ظاهر « السلطان » عندي في هذه الآية ، وذلك أن « السلطان » إن جعلناه الحجة فليس له حجة في الدنيا على أحد لا مؤمن ولا كافر ، اللهم إلا أن يتأول متأول { ليس له سلطان } يوم القيامة ، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له من قبل أنفسهم ، وهؤلاء الذين لا سلطان ولا رياسة لإبليس عليهم هم المؤمنون أجمعون ، لأن الله لم يجعل سلطانه إلا على المشركين الذين يتولونه ، والسلطان منفي هاهنا في الإشراك ، إذ له عليهم ملكة ما في المعاصي وهم الذين قال الله فيهم { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر : 42 ] وهم الذين قال إبليس فيهم { إلا عبادك منهم المخلصين } [ الحجر : 40 ] ، و { يتولونه } معناه يجعلونه ولياً ، والضمير فيه يحتمل أن يعود على اسم الله عز وجل ، والظاهر أنه يعود على اسم إبليس ، بمعنى من أجله وبسببه ، كما تقول لمعلمك : أنا عالم بك ، أي بسببك ، فكأنه قال : والذين هم بسببه مشركون بالله ، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة ، تقتضي أن الاستعاذة تتصرف كيده ، كأنها متضمنة للتوكل على الله والانقطاع إليه ، وقوله { وإذا بدلنا آية مكان آية } كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها ، لأن هذا كله يقع عليه التبديل ، يقولون : لو كان هذا من عند الله لم يتبدل ، وإنما هو من افتراء محمد ، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد ، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر ، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك ، وأنهم لا يعلمون هذا ، وقرأ الجمهور « ينَزّل » بفتح النون وشد الزاي ، وقرأ أبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، وعبّر ب « الأكثر » مراعاة لما كان عند قليل منهم من توقف وقلة مبالغة في التكذيب والظن ، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ قرر على قليل منهم أنهم يعلمون ويكفرون تمرداً وعناداً ، وأمر نبيه أن يخبر أن القرآن وناسخه ومنسوخه إنما جبريل عليه السلام وهو { روح القدس } ، لا خلاف في ذلك ، و { القدس } الموضع المطهر ، فكأن جبريل أضيف إلى الأمر المطهر بإطلاق ، وسمي روحاً إما لأنه ذو روح من جملة روح الله الذي بثه في خلقه ، وخص هو بهذا الاسم ، وإما لأنه يجري من الهدايات والرسالات ومن الملائكة أيضاً مجرى الروح من الأجساد لشرفه ومكانته ، وقرأ ابن كثير « القدْس » بسكون الدال ، وقرأ الباقون « القدُس » بضمها ، وقوله { بالحق } أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأحكامه ومصالحه ، وأخباره ، ويحتمل أن يكون قوله { بالحق } بمعنى حقاً ، ويحتمل أن يريد { بالحق } في أن ينزل أي أنه واجب لمعنى المصلحة أن ينزل ، وعلى هذا الاحتمال اعتراضات عند أصحاب الكلام على أصول الدين ، وباقي الآية بين وقوله { ولقد نعلم أنهم يقولون } ، قال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له بلعام ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه ويعلمه الإسلام ويرومه عليه فقالت قريش : هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم ، فنزلت الآية بسببه ، وقال عكرمة وسفيان : كان اسم الغلام يعيش ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان بمكة غلامان أحدهما اسمه جبر والآخر يسار ، وكانا يقرآن بالرومية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ، فقالت قريش ذلك ، ونزلت الآية ، وقال ابن إسحاق : الإشارة إلى جبر ، وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن سلمان إنما أسلم بعد الهجرة بمدة وقرأت فرقة « لسان الذي » ، وقرأ الحسن البصري « اللسان الذي » بالتعريف وبغير تنوين في رأي بشر ، وقرأ نافع وابن كثير « يُلحدون » بضم الياء من ألحدَ إذا مال ، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر وأبي جعفر بن القعقاع ، وقرأ حمزة والكسائي « يَلحدون » بفتح الياء من لحد ، وهي قراءة عبد الله وطلحة وأبي عبد الرحمن والأعمش ومجاهد ، وهما بمعنى ، ومنه قول الشاعر : [ الرمل ]
قدني من نصر الخبيبين قدي ... ليس أمري بالشحيح الماحد
يريد المائل عن الجود وحال الرياسة ، وقوله { أعجمي } إضافة إلى أعجم لا إلى العجم لأنه كان يقول عجمي ، والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية ، وأما العجمي فقد يتكلم بالعربية ونسبته قائمة ، وقوله { وهذا } إشارة إلى القرآن والتقدير ، وهذا سرد لسان ، أو نطق لسان ، فهو على حذف مضاف ، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة ، و « اللسان » في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد في هذه الآية ، واللسان الخبر ومنه قول الأعشى : إني أتتني لسان غير كاذبة .
ومنه قول الآخر : [ الوافر ]
لسان السوء يهديها إلينا ... وجيت وما حسبتك أن تجينا
وحكى الطبري عن سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله : { إنما يعلمه بشر } ، { إنما } هي إشارة إلى كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر الآيات : « والله سميع عليم » ، أو « عزيز حكيم » ، أو نحو هذا ، ثم يشتغل بسماع الوحي ، فيبدل هو بغفور رحيم أو نحوه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الآيات : هو كما كتبت ، ففتن ، وقال أنا أعلم محمداً ، وارتد ولحق بمكة ، ونزلت الآية فيه . قال القاضي أبو محمد : هذا نصراني أسلم وكتب ، ثم ارتد ولحق بمكة ومات ، ثم لفظته الأرض ، وإلا فهذا القول يضعف لأن الكاتب المشهور الذي ارتد لهذا السبب ولغيره من نحوه هو عبد الله بن أبي سرح العامري ، ولسانه ليس بأعجمي فتأمله .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر ، تهمماً بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم ، وذلك كقوله تعالى { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] والمراد ما ذكرناه فكأنه قال إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله ، وقوله : { إنما يفتري الكذب } بمعنى يكذب ، وهذه مقاومة للذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنما أنت مفتر ، و { إنما } أبداً حاصرة ، لكن حصرها يختلف باختلاف المعاني التي تقع فيها ، فقد يربط المعنى أن يكون حصرها حقيقياً كقوله تعالى : { إنما الله إله واحد } [ النساء : 171 ] وقد يقتضي المعنى أن يكون حصرها تجوزاً ومبالغة ، كقولك : إنما الشجاع عنترة ، وهكذا هي في هذه الآية ، قال الزجاج : يفتري هذا الصنف لأنهم إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله ، كذبوا بها ، فهذا أفحش الكذب ، وكرر المعنى في قوله : { وأولئك هم الكاذبون } لفائدة إيقاع الصفة بالكذب عليهم إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به ، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضيه الخبر فبدأ في هذه الآية بالخبر ، ثم أكد بالصفة ، وقد اعترض هذا النظر مكي ، وليس اعتراضه بالقوي ، و { من } في قوله { من كفر } بدل من قوله { هم الكاذبون } ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله ، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يتأكد بما روي من أن قوله { وأولئك هم الكاذبون } يراد به عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد ، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة ، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم ، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة ، يعذبونهم ليرتدوا ، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول ، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية ، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده ، ثم ابتدأ الإخبار : « أن من شرح صدراً بالكفر فعليهم » ، وهذا الضمير على معنى من لا على لفظها .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والظاهر من هذه الآية أنها مكية وقالت فرقة { من } في قوله { من كفر } ابتداء ، وقوله { من شرح } تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه ، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب { ولكن } ، وقوله { فعليهم } خبر { من } الأولى والثانية ، إذ هو واحد بالمعنى ، لأن الإخبار في قوله { من كفر } إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر ، و { صدراً } نصب على التمييز ، وقوله { شرح بالكفر صدراً } معناه انبسط إلى الكفر باختباره ، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب ، وما سامع به من القول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف تجد قلبك؟ قال : أجده مطمئناً بالإيمان ، قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وإن عادوا فعد .

قال القاضي أبو محمد : ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه ، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان ، قوْلاً واحداً فيما أحفظ ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف ، فقالت فرقة هي الجمهور : يجيب بحسب التقية ، وقالت فرقة : لا يجيب ويسلم نفسه ، وقالت فرقة : إن كان السجود نحو القبلة أجاب ، واعتقد السجود لله .
قال القاضي أبو محمد : وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه ، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل ، فكيف لهذا ، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلماً به ، فقصر الرحمة على القول ، ولم يذكر الفعل .
قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بحجة لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه ، فأما الإكراه على البيع والإيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل ، فلا يلزم المكره شيء من ذلك ، قاله مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك ، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول كالعتق والطلاق فجعل فيها التقية ، وقال : لا تقية فيما كان فعلاً كشرب الخمر والفطر في رمضان ، ولا يحل فعلها لمكره ، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم ، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، قال مطرف : ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب ، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه ، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال ، هو لها ضامن كالغاصب ، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم ، قال مطرف : وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره ، وله أخذ متاعه ، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه ، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد كالزنا والقتل أو نحوه ، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم : لا يفعل أحد ذلك وإن قتل إن لم يفعله ، فإن فعل فهو آثم ، ويلزمه الحد والقود ، قال مالك : والقيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإِنقاذه لما يتوعد .

قال القاضي أبو محمد : ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين ، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه ، فقد يكون الضرب إكراهاً في شيء دون شيء ، فلهذه النوازل فقه الحال ، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة ، قال ابن الماجشون : وسواء حلف فيما هو لله طاعة ، أو فيما هو لله معصية ، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية ، فاليمين فيه ساقطة ، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلاً فاسقاً فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمراً أو لا يفسق أو لا يغش في عمله ، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديباً له ، فإن اليمين تلزم ، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك ، وقال به ابن حبيب ، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء ، فقال مطرف : لا تقية في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله ، وقال ابن الماجشون : لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه ، وقال ابن القاسم بقول مطرف ، ورواه عن مالك ، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب ، قال مطرف وابن الماجشون : وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه ، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ ، وقال أيضاً ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب وإنما حلف خوفاً من ضربه أو قتله أو أخذ ماله فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه ، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث ، وإذا اتهم الوالي أحداً بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي ، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية ، فالتقية في هذا ، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ويكون نظر الوالي فيه صواباً فلا تقية في اليمين ، وهو حانث ، قاله مالك وابن الماجشون .
قال القاضي أبو محمد : فهذه نبذة من مسائل الإكراه .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

قوله { ذلك } إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية ، والضمير في { أنهم } ل { من شرح بالكفر صدراً } [ النحل : 106 ] ، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين ، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره ، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب ، وقوله { وأن الله لا يهدي } إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم ، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر ، فجمعت الآية بين الأمرين ، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة ، وقوله { لا يهدي القوم الكافرين } عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم ، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي ، وقوله { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } الآية ، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى ، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم ، وتغليب الإعراض على نظرهم ، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل ، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة ، وهل هو حقيقة أو مجاز؟ و « السمع » اسم جنس وهو مصدر في الأصل ، فلذلك وحد ، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر ، فوصفهم ب « الغفلة » ، وقد تقدم شرح { لا جرم } في هذه السورة ، وقوله { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ النساء : 97 ] إلى آخر الآية قال : وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 العنكبوت : 10 ] إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل .
قال القاضي أبو محمد : جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا ، وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم ، وقال ابن إسحاق : ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد .

قال القاضي أبو محمد : وذكر عمار في هذا عندي غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدراً فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية ، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدَنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً ، وإن وجد فهو ضعيف ، وقرأ الجمهور « من بعد ما فُتِنوا » بضم الفاء وكسر التاء ، وقرأ ابن عامر وحده « فَتَنوا » بفتح الفاء والتاء ، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول ، كما فعل عمار ، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون ، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان ، والضمير في { بعدها } عائد على الفتنة ، أو على الفعلة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها ، وإن لم يجر لها ذكر صريح ، وقوله { يوم تأتي كل نفس } المعنى لغفور رحيم يوم ، وقوله : { كل نفس } أي كل ذي نفس ، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأتت العلامة ، و { نفس } الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى الذات ، كما تقول نفس الشيء وعينه أي ذاته ، { وتوفى كل نفس } أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أن كل نفس { تجادل } كانت مؤمنة أو كافرة ، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف ، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن ، وقالت فرقة : « الجدال » قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي ، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة والقرية المضروب بها المثل مكة كانت بهذه الصفة التي ذكر الله لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد . وكانت الأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها رسوله والمراد بهذه الضمائر كلها أهل القرية ، فكفروا بأنعم الله في ذلك وفي جملة الشرع والهداية ، فأصابتهم السنون والخوف ، وسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته ، هذا إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب من الله بحسب التكذيب .
قال القاضي أبو محمد : وإن كانت هي التي ضربت مثلاً فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هي فيه ، وحكى الطبري عن حفصة أم المؤمنين أنها كانت تسأل في وقت حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه ما صنع الناس وهي صادرة من الحج من مكة ، فقيل لها قتل فقالت : والذي نفسي بيده ، إنها القرية تعني المدينة التي قال الله لها ، { وضرب الله مثلاً } الآية .
قال القاضي أبو محمد : فأدخل الطبري هذا على أن حفصة قالت : إن الآية نزلت في المدينة وإنها هي التي ضربت مثلاً ، والأمر عندي ليس كذلك وإنما أرادت أن المدينة قد حصلت في محذور المثل وحل بها ما حل بالتي جعلت مثلاً ، وكذلك يتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلاً لكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة ، و { رغداً } نصب على الحال و { أنعم } جمع نعمة كشدة وأشد كذا قال سيبويه وقال قطرب { أنعم } جمع نعم وهي التنعيم ، يقال هذه أيام طعم ونعم وقوله { فأذاقها الله لباس الجوع } استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى : [ المتقارب ]
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنّتْ عليه فصارت لباسا
ونحوه قوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ... ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
كأن العار لما باشرهم وألصق بهم جعلهم لبسوه ، قوله « أذاقها » نظير قوله تعالى { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ونظير قول الشاعر :
دونك ما جنيته فأحسن وذق ... وقرأ الجمهور : « والخوفِ » عطفاً على { الجوع } وقرأ أبو عمرو : بخلاف عنه « والخوفَ » عطفاً على قوله { لباس } ، وفي مصحف أبي بن كعب « لباس الخوف والجوع » ، وقرأ ابن مسعود ، « فأذاقها الله الخوف والجوع » ولا بذكر { لباس } ، والضمير في { جاءهم } لأهل مكة ، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، و { العذاب } الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط ، وذكر الطبري أنه القتل ببدر ، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة ، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة ، فيحتمل أن يكون الضمير في { جاءهم } لأهل تلك المدينة ، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل .

وقوله { فكلوا مما رزقكم الله } الآية ، هذا ابتداء كلام آخر ، ومعنى حكم ، والفاء في قوله { فكلوا } الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة ، هذا قول ، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى ، أي وأنتم المؤمنون لستم كهذه القرية ، { فكلوا } واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سنناً وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله { حلالاً } حال ، وقوله { طيباً } أي مستلذاً ، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيداً وباقي الآية بين ، قوله { إن كنتم إياه تعبدون } إقامة للنفوس كما تقول الرجل : إن كنت من الرجال فافعل كذا ، على معنى إقامة نفسه ، وذكر الطبري : أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطاباً للكافر عن طعام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم في جوعهم ، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه .

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

حصرت { إنما } هذه المحرمات وقت نزول الآية ، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس : « الميْتة » ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : « الميّتة » وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارىء عليه ، والعامل في نصبها { حرم } ، وقرأت فرقة « الميتةُ » بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي .
قال القاضي أبو محمد : وكون { ما } متصلة ب { إن } يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و { ما } كافة ، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة ، وذلك خلاف خط المصحف ، وقرأ الجمهور « حرم » على معنى حرم الله ، وقرأت فرقة « حُرِّم » على ما لم يسم فاعله ، وهذا برفع « الميتةُ » ولا بد .
قال القاضي أبو محمد : و { الميتة } المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه ، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب ، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء { والدم } المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفرداً وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه ، ولا يكلف أحد تتبعه ، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك ، { ولحم الخنزير } هو معظمه والمقصود الأظهر فيه ، فلذلك خصه بالذكر ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه ، والأولى تحريمه جملة ، وأما شعره فالانتفاع به مباح ، وقالت فرقة ذلك غير جائز ، والأول أرجح ، وقوله : { وما أهل لغير الله به } يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواه ، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم ، لكن خَرجت العبارة عن ذلك ب { أهلّ } ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به ، وقوله : { فمن اضطر } قالت فرقة : معناه أكره وقال الجمهور : معناه اضطره جوع واحتياج ، وقرأت فرقة « فمنُ » بضم النون « اضطُر » بضم الطاء ، وقرأت فرقة « فمنِ » بكسر النون « اضطِر » بكسر الطاء ، على أن الأصل اضطرت ، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء ، وقالت فرقة : « الباغي » صاحب البغي على الإمام ، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي ، و « العادي » بمعناه في أنه ينوي المعصية ، وقال الجمهور : { غير باغ } معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها ، { ولا عاد } معناه لا يعدو حدود الله في هذا ، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة ، وقالت فرقة : { باغ } و { عاد } في الشبع والتزود ، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة ، فقالت فرقة : الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط ، وقالت فرقة : بل يجوز الشبع التام ، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله : يجوز الشبع والتزود ، وقال بعض النحويين في قوله { عاد } إنه مقلوب من عائد ، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر : لأن بها الأشياء والعنبري ، وقوله : { فإن الله غفور رحيم } ، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر ، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجاً وتضييقاً في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات ، فغاية هذا المرخص له غفران الله له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته . قال القاضي أبو محمد : وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء ، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه ، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافاً .

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } [ الأنعام : 139 ] والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم ، ومنه ما جعلوه في الشهور ، وقرأ السبعة وجمهور الناس « الكَذِبَ » بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء ، و « ما » مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب ، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن ، « الكذبِ » بخفض الباء على البدل من « ما » ، وقرأ بعض أهل الشام ومعَاذ بن جبل وابن أبي عبلة « الكُذُبُ » بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة ، وقرأ مسلمة بن محارب « الكذبَ » بفتح الباء « الكُذُبَ » بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب ، وقوله { هذا حلال } إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا ، وقوله { وهذا حرام } إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا ، وقوله { لتفتروا على الله الكذب } ، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها ، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه ، لأن من شرع أمراً فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق ، وهذا مراد الله ، ثم أخبرهم الله { إن الذين يفترون على الله الكذب } لا يبلغون الأمل ، و « الفلاح » بلوغ الأمل ، فطوراً يكون في البقاء كما قال الشاعر ، والصبح والمسى لافلاح معه ، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى ، يقوي ذلك قوله { متاع قليل } ، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد : بالرجز ]
أفلح بما شئت فقد يبلغ ... بالضعف وقد يخدع الأريب
وقوله { متاع قليل } إشارة إلى عيشهم في الدنيا ، { ولهم عذاب أليم } بعد ذلك في الآخرة . وقوله { وعلى الذين هادوا } الآية ، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضاً بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم ، وقولهم { ما قصصنا عليك } ، إشارة إلى ما في سورة الأنعام « من ذي الظفر والشحوم » الآية : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [ الأنعام : 146 ] وقوله { وما ظلمناهم } أي لم نضع العقوبة بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها ، بل هم طرقوا إلى ذلك وجاء من تسبيبهم بالمعاصي ما أوجب ذلك . وقوله { ثم إن ربك للذين عملوا السوء } هذه آية تأنيس لجميع العالم ، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب ، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة ، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم ، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص .

وقالت فرقة « الجهالة » العمد ، و « الجهالة » عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم بل هي تعدي الطور وركوب الرأس ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « أو أجهل أو يجهل علي » وهي التي في قول الشاعر : [ الوافر ]
ألا لا يجهلنْ أحد علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيراً ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر ، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع . والضمير في { بعدها } عائد على التوبة .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

لما كشف الله تعالى فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم ، أراد أن يبين بُعدهم عن شرع إبراهيم والدعوى فيه أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حاله وحال قريش أيضاً ، و { أمة } لفظة مشتركة تقع للعين والقامة والجمع الكثير من الناس ، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى { أمة } ، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام { أمة } ، قال ابن مسعود : « الأمة » معلم الخير ، وكان معاذ بن جبل « أمة قانتاً » ، وقال في بعض أوقاته إن معاذاً كان { أمة قانتاً } فقال قرة الكندي أو فروة بن نوفل : ليس كذلك إنما هو إبراهيم ، فقال أتدري ما الأمة ، هو معلم الخير وكذلك كان معاذ يعلم الخير ويطيع الله ورسوله ، وقال مجاهد : سمي إبراهيم { أمة } لانفراد بالإيمان في وقته مدة .
قال القاضي أبو محمد : وفي البخاري أنه قال لسارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك ، وقال بعض النحويين ، أظنه أبا الحسن الأخفش : « الأمة » فعلة من أم يؤم فهو كالهُزْأة والضحكة أي يؤتم به .
قال القاضي أبو محمد : ف { أمة } على هذا صفة ، وعلى القول الأول اسم ليس بصفة ، و « القانت » المطيع الدائم على العبادة ، و « الحنيف » المائل إلى الخير والإصلاح ، وكانت العرب تقول ، لمن يختتن ويحج البيت حنيفاً ، وحذف النون من « لم يكن » لكثرة الاستعمال كحذفهم من لا أبال ولا أدر ، وهو أيضاً يشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك ، فكأن « لم » دخلت على « يكن » في حال الجزم . ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله { لم يكن الذين كفروا } [ البينة : 1 ] ولا يحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة ، وقوله { من المشركين } يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود إذ كلهم ادعاه ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم ، و { شاكراً } ، صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم ، و « الأنعم » جمع نعمة ، و { اجتباه } معناه تخيره ، وباقي الآية بين . وقوله { وآتيناه في الدنيا حسنة } الآية ، « الحسنة » لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق ، هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب . وقوله { لمن الصالحين } بمعنى المنعم عليهم أي من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم ، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا ، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين ، ويحتمل أن يكون المعنى وأنه في عمل الآخرة ، فعلى هذا هي وصف حالي في الدنيا الدنياوية والأخراوية .

وقوله { ثم أوحينا إليك } الآية ، الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذا من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم ، قال ابن فورك وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به و { أن } في قوله { أن اتبع } مفسرة ، ويجوز أن تكون مفعولة ، و « الملة » الطريقة في عقائد الشرع ، و { حنيفاً } حال ، والعامل فيه الفعلية التي في قوله { ملة إبراهيم } ، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير المرفوع في { اتبع } قال مكي : ولا يكون حالاً من إبراهيم ، لأنه مضاف إليه : وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال ، كقولك مررت بزيد قائماً ، وقوله { إنما جعل السبت } أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله الله فرضاً عاقب به القوم المختلفين فيه ، قاله ابن زيد ، وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوماً مختصاً بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة ، فقال جمهورهم : بل يكون يوم السبت لأن الله فرغ فيه من خلق مخلوقاته ، فقال غيرهم : بل نقبل ما أمر الله به موسى ، فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فالزمهم الله يوم السبت إلزاماً قوياً عقوبة لهم منه ، فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم ، وقرأ الأعمش « إنما أنزلنا السبت » ، وهي قراءة ابن مسعود وقرأ أبو حيوة « جَعَل » بفتح الجيم والعين .
قال القاضي أبو محمد : وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وهؤلاء الأحد فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه » ، فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث ، وباقي الآية وعيد بين .

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين ، أمره الله تعالى أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف ، وهو أن يسمع المدعو حكمه ، وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع ، { والموعظة الحسنة } التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يحله ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل ، ونحو هذا ، فهذه حالة من يُدعَى وحالة من يجادَل دون مخاشنة ، ويبين عليه دون قتال ، فالكلام يعطي أن جدك وهمك وتعبك لا يغني لأن الله تعالى قد علم من يؤمن منهم ويهتدي ، وعلم من يضل ، فجملة المعنى اسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية لأن علم الله قد سبق بالمهتدي منهم والضال ، وقالت فرقة : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة هي محكمة .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال وأن لا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة هو منسوخ لا محالة ، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة إلى يوم القيامة ، وأيضاً فهي محكمة في جهة العصاة ، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة . وقوله { وإن عاقبتم فعاقبوا } الآية ، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري ، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالاً حسناً لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله ، ولكن ما روى الجمهور أثبت ، وأيضاً فقوله { ولئن صبرتم } يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال « لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين » ، وفي كتاب النحاس وغيره « بتسعين » منهم فقال الناس : « إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن » ، فنزلت هذه الآية ، ثم عزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر في الآية بعدها ، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة ، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول ، وهذا بعكس قوله { مكروا ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] ، وقوله { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] ، فان الثاني هو المجاز ، والأول هو الحقيقة ، وقرأ ابن سيرين : « وإن عقَبتم فعقبوا » ، وحكى الطبري عن فرقة : أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره ، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه ، فقالت فرقة : له ذلك ، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد ، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها ، وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك ، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« أدِّ الأمانة إلى من اسأمنك ولا تخن من خانك » .
قال القاضي أبو محمد : ووقع في مسند ابن سنجر أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنا بامرأة رجل آخر ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : « أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك » ، ويتقوى في أمر المال قول مالك رحمه الله ، لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها ، ولا ينبغي للمرء أن يتأسى بغيره في الرذائل ، وإنما ينبغي أن تتجنب لنفسها ، وأما الرجل يظلم في المال ثم يتمكن من الانتصاف دون أن يؤتمن فيشبه أن ذلك له جائز يرى أن الله حكم له كما لو تمكن له بالحكم من الحاكم ، وقوله : { واصبر وما صبرك إلا بالله } الآية ، هذه العزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر عن المجازاة في التمثيل بالقتلى ، قال ابن زيد : هذه الآية منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : « أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون؟ » ، قالوا : نصبر يا رسول الله كما ندبنا ، وقوله : { وما صبرك إلا بالله } أي بمعونة الله وتأييده لك على ذلك ، والضمير في قوله { عليهم } قيل يعود على الكفار أي لا تتأسف على أن لم يسلموا ، وقالت فرقة : بل يعود على القتلى : حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأول أصوب يكون عود الضمير على جهة واحدة ، وقرأ الجمهور في « ضَيْق » بفتح الضاد ، وقرأ ابن كثير في « ضِيق » بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه ، قال بعض اللغويين : الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر وقال أبو عبيدة : الضِيق مصدر والضَّيْق مخفف من ضيِّق كميْت وميت ، وهيْن وهيِّن ، قال أبو علي الفارسي : والصواب أن يكون الضيْق لغة في المصدر لأنه إن كان مخففاً من ضيِّق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف ، وليس هذا موضع ذلك .
قال القاضي أبو محمد : الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة ، كما تقول رأيت ضاحكاً فإنما تخصص الإنسان ، ولو قلت : رأيت بارداً لم تحسن ، وببارد مثل سيبويه رحمه الله « وضيق » لا يخصص الموصوف ، وقال ابن عباس وابن زيد : إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ ، وقوله : { مع الذين } أي بالنصر والمعونة والتأييد ، و { اتقوا } يريد المعاصي ، و { محسنون } معناه يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير .
كمل تفسير سورة النحل بعون الله وتأييده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده ، وهو محمد عليه السلام ، ويظهر أن { أسرى } هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره ، أسرى الملائكة بعبده ، وكذلك يقلق أن يسند { أسرى } وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى ، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة ، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث « أتيته سعياً ، وأتيته هرولة » حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و { أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق فيمثل هذا اللفظ ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته و { أتى الله بنيانهم } [ النحل : 26 ] ويحتمل أن يكون { أسرى } بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً ، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم ، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله ، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه ، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته ، إلا في صعوده إلى السماء ، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل ، وجوزه الحسن وابن إسحاق ، والحديث ، قال القاضي أبو محمد ، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما ، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب ، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم ، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري : البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أم هاني : لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل ، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } [ الإسراء : 60 ] ، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا ، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث : فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم ، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام ، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً ، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { سبحان } مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل ، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى { سبحان } ، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً ، هذا كله مذهب سيبويه فيه ، وقالت فرقة : قال القاضي أبو محمد : نصبه على النداء كأنه قال : « يا سبحان » ، قال القاضي أبو محمد الذي ، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهاً لله ، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه ولم ما معنى سبحان الله؟ قال :

« تنزيهاً لله من كل سوء » ، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل ، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء ، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهاً فوقع { سبحان } مكان قولك تنزيهاً ، وقال قوم من المفسرين : { أسرى } فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى ، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة ، وقرأ حذيفة وابن مسعود « أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام » ، وقوله من { المسجد الحرام } ، قال أنس بن مالك : أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال : هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم ، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال : « بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة » ، الحديث بطوله . وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام ، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام : « بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان » ، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال : أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب ، وقالت فرقة : { المسجد الحرام } مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة ، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي ، وروي بعضها عن النبي عليه السلام ، أنه قال : « خرج سقف بيتي » وهذا يلتئم مع قول أم هاني ، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام ، وقاله قتادة ، وقيل بعام ونصف ، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب ، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة ، وقبل بيعة العقبة ، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه : وذلك قبل الوحي إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك ، و { المسجد الأقصى } ، مسجد بيت المقدس ، وسماه { الأقصى } أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة ، ويحتمل أن يريد ب { الأقصى } البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة .

و « البركة حوله » هي من جهتين ، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه ، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : « إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس » وقوله : { لنريه من آياتنا } يريد لنري محمداً بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب ، ويحتمل أن يريد لنري محمداً للناس آية ، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب ، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة . وقوله : { إنه هو السميع البصير } وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي { هو السميع } لما تقولون { البصير } بأفعالكم .

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)

عطف قوله : { وآتينا } على ما في قوله { أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] من تقدير الخبر ، كأنه قال أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا ، و { الكتاب } التوراة ، والضمير في { جعلناه } يحتمل أن يعود على { الكتاب } ويحتمل أن يعود على { موسى } . وقوله { ألا تتخذوا } يجوز أن تكون « أن » في موضع نصب بتقدير كراهية أن موضع خفض بتقدير لأن لا تتخذوا ، ويجوز أن تكون « أن » مفسرة بمعنى أي كما قال { أن امشوا واصبروا } [ ص : 6 ] فهي في هذا مع أمر موسى وهي في آياتنا هذه مع نهي ، والمعنى مع هذه التقديرات فعلنا ذلك لئلا تتخذوا يا ذرية ، ويحتمل أن يكون { ذرية } مفعولاً ، ويحتمل أن تكون « أن » زائدة ويضمر في الكلام قول تقديره قلنا لهم : لا تتخذوا ، وأما أن يضمر القول ولا تجعل « أن » زائدة فلا يتجه ، لأن ما بعد القول إما يكون جملة تحكى ، وإما أن يكون ترجمة عن كلام لا هو بعينه ، فيعمل القول في الترجمة كما تقول لمن قال : لا إله إلا الله قلت حقاً ، وقوله : { ألا تتخذوا } ليس بواحد من هذين ، قاله أبو علي وقرأ جمهور الناس « تتخذوا » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وحده « ألا يتخذوا » بالياء على لفظ الغائب ، وهي قراءة بن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبي رجاء ، و « الوكيل » هنا فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه في الأمور ، فهو ند لله بهذا الوجه ، قال مجاهد { وكيلاً } شريكاً ، وقرأ جمهور الناس « ذُرية » بضم الذال وقرأ مجاهد بفتحها ، وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان ومجاهد أيضاً بكسرها ، وكل هذا بشد الراء والياء ، ورويت عن زيد بن ثابت بفتح الذال وتسهيل الراء وشد الياء على وزن فعيلة ، و { ذرية } وزنها فعولة ، أصلها ذرورة ، أبدلت الراء الثانية ياء كما قالوا قصيت شعري أي قصصته ، ثم قلبت الواو ياء وأدغمت ثم كسرت الراء لتناسب الياء ، وكل هؤلاء قرؤوا { ذرية } بالنصب ، وذلك متجه إما على المفعول ب « يتخذوا » ويكون المعنى أن لا يتخذ بشر إلهاً من دون الله ، وإما على النداء أي يا ذرية ، فهذه مخاطبة للعالم ، قال قوم : وهذا لا يتجه إلا على قراءة من قرأ « تتخذوا » بالتاء من فوق ، ولا يجوز على قراءة من قرأ « ويتخذوا » بالياء لأن الفعل الغائب والنداء لمخاطب والخروج من الغيبة إلى الخطاب إنما يستسهل مع دلالة الكلام على المراد ، وفي النداء لا دلالة إلا على التكلف ، وإما على النصب بإضمار أعني وذلك متجه على القراءتين على ضعف النزعة في إضمار أعني ، وإما على البدل من قوله { وكيلاً } وهذا أيضاً فيه تكلف ، وقرأت فرقة « ذريةٌ » بالرفع على البدل من الضمير المرفوع في « يتخذوا » وهذا إنما يتوجه على القراءة بالياء ، ولا يجوز على القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت : ضربتك زيداً على البدل لم يجز ، وقوله : { ذرية من حملنا مع نوح } إنما عبر بهذه العبارة عن الناس الذين عناهم في الآية بحسب الخلاف المذكور لأن في هذه العبارة تعديد النعمة على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم ، ويقبح الكفر والعصيان مع هذه النعمة ، والذين حملوا مع نوح وأنسلوا هم بنوه لصلبه لأنه آدم الأصغر ، وكل من على الأرض اليوم من نسله هذا قول الجمهور ذكره الطبري عن قتادة ومجاهد وإن كان معه غيرهم فلم ينسل قال النقاش : اسم نوح عبد الجبار ، وقال ابن الكلبي : اسمه فرج ، ووصفه ب « الشكر » لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة على المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم ، قاله سلمان الفارسي وسعيد بن مسعود وابن أبي مريم وقتادة ، وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي « في الكتب » على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور « لتُفسِدن » بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي « لَتفسُدُن » بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد « لتُفسَدُن » بضم التاء وفتح السين وضم الدال . وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين « المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

الضمير في قوله { أولاهما } عائد على قوله { مرتين } [ الإسراء : 4 ] وعبر عن الشر ب « الوعد » لأنه قد صرح بذكر المعاقبة ، وإذا لم يجيء « الوعد » مطلقاً فجائز أن يقع في الشر ، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن « عبيداً » ، واختلف الناس في العبيد المبعوثين ، وفي صورة الحال اختلافاً شديداً متباعداً عيونه : أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل ، وكذا قال ابن إسحاق وابن جبير ، وقال ابن عباس : غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل : غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس ، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان ، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء ، وقيل غزاهم أولاً صنحابين ملك رومة ، وقيل بختنصر ، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك الملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش ، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك ، وقالت فرقة : إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء ، وصورة قتله : أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته ، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها : إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين ، فإذا قال لك تمني علي ما أردت ، فقولي رأس يحيى بن زكرياء : ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة ، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك ، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث ، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه ، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفاً ، هذا مقتضى هذا الخبر ، وفي بعض رواياته زيادة ونقص ، فروت فرقة : أن أشعياء النبي عليه السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري ، وذكر أشعياء في آخره محمداً صلى الله عليه وسلم وبشر به فابتدره بنو إسرائيل ، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه ، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشاراً فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه ، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة ، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصاً ، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه ، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول ، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخراً هو سابور ذو الأكناف ، وقال أيضاً ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهرياران ، وآخر ، وقال مجاهد : إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس « فجاس خلال الديار » وتغلب ولكن لم يكن قتال ، ولا قتل في بني إسرائيل ، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر ، وقوله عز وجل { فجاسوا خلال الديار } وهي المنازل والمساكن .

وقوله تعالى : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأول غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال ، وقد قال مؤرج ، « جاسوا خلال الأزقة » ، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصاً طويلاً منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها ، وقوله { بعثنا } يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولاً يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاه وقرأ الناس « فجاسوا » بالجيم ، وقرأ أبو السمال « فحاسوا » بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسراً ومنه الحواس ، وقيل لأبي السمال إنما القراءة « جاسوا » بالجيم فقال « جاسوا وحاسوا » واحد .
قال القاضي أبو محمد : فهذا يدل على تخير لا على رواية ، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه ، وقرأ الجمهور : « خلال » ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن « خللَ » ونصبه في الوجهين على الظرف ، وقوله { ثم رددنا لكم الكرة } ، الآية عبارة عما قاله الله لبني إسرائيل في التوراة وجعل { رددنا } موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى لما وصفنا ، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه ، وحسنت حالهم برهة من الدهر ، وأعطاهم الله الأموال والأولاد ، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس ، قال الطبري معناه وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم ، قال قتادة : كانوا { أكثر نفيراً } في زمن داود عليه السلام ، و « نفير » يحتمل أن يكون جمع نفر ككلب وكليب ، وعبد وعبيد ، ويحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل أي وجعلناكم أكثر نافراً .
قال القاضي أبو محمد : وعندي أن النفر اسم لا جمع الذي نفر سمي بالمصدر ، وقد قال تبع الحميري : [ المتقارب ] .

فأكرم بقحطان من والد ... وحمير أكرم بقوم نفيرا
وقالوا : لا في العير ولا في النفير ، يريدون جمع قريش الخارج من مكة لا بإذن ، فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله { إن أحسنتم } والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم ، و { وعد الآخرة } معناه من المرتين المذكورتين ، وقوله { ليسوءوا } اللام لام أمر ، وقيل المعنى بعثناهم { ليسوءوا } فهي لام كي كلها ، والضمير للعباد « أولي البأس الشديد » ، وقرأ الجمهور : « ليسوءوا » بالياء جمع همزة وبين واوين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر « ليسوءَ » بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، وقرأ الكسائي ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب « لنسوء » بنون العظمة ، وقرأ أبي بن كعب « لنسوءن » بنون خفيفة ، وهي لام الأمر ، وقرأ علي بن أبي طالب « ليسوءن » ، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل ، وفي مصحف أبي بن كعب « ليُسيء » بياء مضمومة بغير واو ، وفي مصحف أنس « ليسوء وجهكم » على الإفراد ، وخص ذكر « الوجوه » لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر ، و { المسجد } مسجد بيت المقدس ، و « تبر » معناه أفسد بقسم وركوب رأس ، وقوله { ما علوا } أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد ، وقيل { ما } ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، و « تبر » معناه رد الشيء فتاتاً كتبر الذهب والحديد ، ونحوه وهو مفتتة .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل { عسى ربكم } إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم { أن يرحمكم } ، و { عسى } ترجّ في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية ، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة ، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك ، و « الحصير » فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم ، وبنحو هذا فسر مجاهد ، وقتادة وغيرهما ، ويقال « الحصير » أيضاً من الحصر للملك ومنه قول لبيد : [ الكامل ]
ومقامة غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
ويقال لجنى الإنسان الحصيران لأنهما يحصرانه ومنه قول الطرماح : [ الطويل ]
قليلاً تتلى حاجة ثم غولبت ... على كل معروش الحصيرين بادن
وقال الحسن البصري في الآية : أراد ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عن الناس .
قال القاضي أبو محمد : وذلك الحصير أيضاً هو مأخوذ ، من الحصر ، وقوله تعالى : { إن هذا القرآن } الآية ، { يهدي } في هذه الآية بمعنى يرشد ، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو ، و { التي } يريد بها الحالة والطريقة ، وقالت فرقة ، { للتي هي أقوم } لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : والأول أعم وكلمة الإخلاص وغيرها من الأقوال داخلة في الحال « التي هي أقوم » من كل حال تجعل بازائها ، والاقتصار على { أقوم } ولم يذكر من كذا إيجاز ، والمعنى مفهوم ، أي { للتي هي أقوم } من كل ما غايرها فهي النهاية في القوام ، وقيد المؤمنين بعمل الصالحات إذ هو كمال الإيمان وإن لم يكن في نفسه ، والمؤمن المفرط في العمل له بإيمانه حظ في عمل الصالحات : و « الأجر الكبير » الجنة ، وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة ، وقوله { أن } الأولى في موضع نصب ب { يبشر } ، و { أن } الثانية عطف على الأولى ، وهي داخلة في جملة بشارة المؤمنين ، بشرهم القرآن بالجنة ، وأن الكفار لهم عذاب أليم ، وذلك أن علم المؤمنين بهذا مسرة لهم ، وفي هذه البشارة وعيد للكفار بالمعنى ، هذا الذي تقتضيه ألفاظ الآية ، وقرأ الجمهور ، « ويُبَشِّر » بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين ، وقرأ ابن مسعود ويحيى ين وثاب وطلحة « ويَبْشُر » بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، و { أعتدنا } معناه أحضرنا وأعددنا ومنه العتاد ، و « الأليم » الموجع ، وقوله { ويدع الإنسان } الآية ، سقطت الواو من { يدع } في خط المصحف لأنهم كتبوا المسموع ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر ، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت ، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم ، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل ، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية ، و { الإنسان } هنا قيل يريد به الجنس بحسب ما في الخلق من ذلك قاله مجاهد وغيره ، وقال سلمان الفارسي وابن عباس : إشارته إلى آدم في أنه لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك فلم يقدر وأشارت ألفاظ هذه الآية إلى هذا والمعنى فأنتم ذووعجلة موروثة من أبيكم ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أسيراً في قيْد في بيت سودة بنت زمعة فسمعت سودة أنينه فأشفقت فقالت له ما بالك؟ فقال : ألم القيد ، فقالت : فأرخت من ربطه فسكت ، ثم نامت ، فتحيل في الانحلال وفر ، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصبح ، فأخبر الخبر ، فقال قطع الله يدها ففزعت سودة ورفعت يديها نحو السماء وهي تخاف الإجابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إن الله قد جعل دعائي في مثل هذا رحمة على المدعو عليه ، لأني بشر أغضب وأعجل ، فلترد سودة يديها » ، وقالت فرقة هذه الآية نزلت في شأن قريش الذين قالوا { اللهم إن كان الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] ، وكان الأولى أن يقولوا فاهدنا إليه وارحمنا به فذمهم الله تعالى في هذه الآية بهذا ، وقالت فرقة : معنى هذه الآية : معاتبة الناس على أنهم إذا نالهم شر وضرعوا وألحوا في الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير ويلتزمه من ذكر الله وحمده والرغبة إليه ، لكنه يقصر حينئذ ، فإذا مسه ضر ألح واستعجل الفرج ، فالآية على هذا من نحو قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر دعَانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضُر مسه } [ يونس : 12 ] .

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

« الآية » العلامة المنصوبة للنظر والعبرة ، وقوله { فمحونا } قالت فرقة : سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحيه ثلاثة مرات فمن هنالك كلَفُه وكونه منيراً فقط ، وقالت فرقة ، وهو الظاهر : إن قوله { فمحونا } إنما يريد في أصل خلقته ، وهذا كما تقول بنيت داري فبدأت بالأس ، ثم تابعت فلا تريد بالفاء التعقيب ، وظاهر لفظ الآية يقتضي أربع آيات لا سيما لمن بنى على أن القمر هو الممحو والشمس هي المبصرة ، فأما إن قدر الممحو في إظلام الليل والإبصار في ضوء النهار أمكن أن تتضمن الآية { آيتين } فقط ، على أن يكون فيها طرف من إضافة الشيء إلى نفسه ، وقوله { مبصرة } مثل قولك ليل قائم ونائم أي ينام فيه ويقام ، فكذلك « آية مبصرة » أي يبصر بها ومعها ، وحكى الطبري عن بعض الكوفيين أنه قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سلوا عما شئتم فقال ابن الكوّا : ما السواد الذي في القمر؟ فقال له علي : قاتلك الله هلا سألت عن أم دينك وآخرتك ذلك محو الليل وجعل الله تعالى النهار مبصراً ليبتغي الناس الرزق ، وفصل الله ، وجعل القمر مخالفاً للشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر وللأيام ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس ، وقوله { كل شيء } منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر تقديره وفصلنا كل شيء فصلناه تفصيلاً وقيل : و { كل } عطف على { والحساب } فهو معمول { لتعلموا } ، والتفصيل البيان بأن تذكر فصول ما بين الأشياء وتزال أشباهها حتى يتميز الصواب من الشبه العارضة فيه ، وقوله { وكل إنسان ألزمناه طائره } الآية ، قوله { كل } منصوب بفعل مقدر ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد؛ « طيره في عنقه » ، قال ابن عباس { طائره } ما قدر له وعليه ، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف ، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظبا وحيوان الفلاة ، وسميت ذلك كله تطيراً ، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء . وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه ، وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ولا طيرة » { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان ب « الطائر » ، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في أمور على الطائر الميمون ، وبأسعد طائر ومنه طار في المحاجة والسهم كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة عثمان بن مظعون ، أي كان ذلك حظنا ، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير والشر وأبطل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم

« لا عدوى ولا طيرة » ، وقوله { في عنقه } جرى أيضاً على مقطع العرب في أن تنسب ما كان إلزاماً وقلادة وأمانة ونحو هذا إلى العنق كقولهم : دمي في عنق فلان وكقول الأعشى :
والشعر قلدته سلامة ذا ... فائش والشيء حيثما جعلا
وهذا كثير ، ونحوه جعلهم ما كان تكسباً وجناية وإثماً منسوباً إلى اليد إذ هي الأصل في التكسب ، وقرأ أبو جعفر ونافع والناس « ونخرج » بنون العظمة « كتاباً » بالنصب ، وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن : و « يخرُج » بفتح الياء وضم الراء على الفعل المستقبل « كتاباً » أي طائره الذي كني به عن عمله يخرج له ذا كتاب ، وقرأ الحسن من هؤلاء « كتابٌ » بالرفع ، وقرأ أبو جعفر أيضاً « ويُخرَج » بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ، « كتاباً » أي طائره ، وقرأ أيضاً « كتاباً » وقرأت فرقة « ويُخرِج » بضم الياء وكسر الراء أي يخرج الله ، وفي مصحف أبي بن كعب « في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً » ، وهذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته ، وقرأ الجمهور « يَلْقاه » بفتح الياء وسكون اللام وخفة القاف ، وقرأ ابن عامر وحده ، « يُلَقّاه » بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وهي قراءة الحسن بخلاف ، وأبي جعفر والجحدري ، وقوله { اقرأ كتابك } حذف من الكلام يقال له اختصار الدلالة الظاهرة عليه ، و « الحسيب » الحاسب ونصبه على التمييز ، وأسند الطبري عن الحسن أنه قال : يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت أو قلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } قد عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذه الألفاظ التي ذكر يكون الطائر ما يتحصل مع آدم من عمله في قبره فتأمل لفظه ، وهذا هو قول ابن عباس وقال قتادة في قوله : { اقرأ كتابك } إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ .

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

معنى هذه الآية أن كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره ، وروي أن سببها أن الوليد بن المغيرة المخزومي قال لأهل مكة : اكفروا بمحمد وإثمكم علي ، فنزلت هذه الآية ، أي إن الوليد لا يحمل إثمكم وإنما إثم كل واحد عليه ، وقالت فرقة نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسد ، والإشارة بالضلال إلى الوليد بن المغيرة ، و { وزر } معاه حمل ، والوزر الثقل ، ومنه وزير السلطان أي يحمل ثقل دولته ، وبهذه الآية نزعت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الرد على من قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه ، ونكتة ذلك المعنى إنما هي أن التعذيب إنما يعنّ إذا كان البكاء من سنة الميت ، وسببه كما كانت العرب تفعل وقوله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } قالت فرقة هي الجمهور : هذا في حكم الدنيا ، أي إن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار ، وقالت فرقة : هذا عام في الدنيا والآخرة .
قال القاضي أبو محمد : وتلخيص هذا المعنى : أن مقصد الآية في هذا الموضع الإعلام بعادة الله مع الأمم في الدنيا ، وبهذا يقرب الوعيد من كفار مكة ، ويؤيد ما يجيء بعد من وصفه ما يكون عند إرادته إهلاك قرية ، ومن إعلامه بكثرة ما أهلك من القرون ومع هذا فالظاهر من كتاب الله في غير هذا الموضع ومن النظر أن الله تعالى لا يعذب في الآخرة إلا بعد بعثة الرسل ، كقوله تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى } [ الملك : 8-9 ] ، وظاهر { كلما } [ الملك : 8 ] الحصر ، وكقوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] ، وأما من جهة النظر فإن بعثة آدم عليه السلام بالتوحيد وبَثِ المعتقدات في نبيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر يوجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله ، ثم تجدد ذلك في مدة نوح عليه السلام بعد غرق الكفار ، وهذه الآية أيضاً يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا ، ويجوز مع الفرض وجود قوم لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم ، وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضيه ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليس دار تكليف ، وقوله { وإذا أردنا أن نهلك قرية } الآية ، في مصحف أبي « بعثنا أكابر مجرميها » ، و « القرية » ، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته وليست من قرأ الذي هو مهموز ، وإن كان فيها جمعاً معنى الجمع ، وقرأ الجمهور « أمَرنا » على صيغة الماضي من أمر ضد نهي ، وقرأ نافع ، وابن كثير في بعض ما روي عنهما ، « آمرنا » بمد الهمزة بمعنى كثرنا ، ورويت عن الحسن ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج ، وقرأ بها ابن إسحاق ، تقول العرب : أمر القوم إذا كثروا ، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف : « أمّرنا » بتشديد الميم ، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، وقال الطبري ، : القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير ، والثانية معناها كثرناهم ، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس ، قال القاضي أبو محمد : قال أبو علي الفارسي : الجيد في « آمرنا » أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم ، قال « وآمرنا » مبالغة في « أمرنا » بالهمزة ، و « أمّرنا » مبالغة فيه بالتضعيف ، ولا وجه لكون « أمّرنا » من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحداً بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم .

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة ، وسواهم تبع لهم وأما « أمّرنا » من الإمارة فمتوجه على وجهين ، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم ، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكاً هو أميره ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
إذا كان هادي الفتى في البلاد ... صدر القناة أطاع الأميرا
ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص ، إن علي أميراً لا أقطع أمراً دونه ، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره ، ومنه قول الآخر : [ الكامل ]
والناس يلحون الأمير إذ هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
وأيضاً فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى ، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفاً ففسق ثم ولي مثله بعده ، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم ، وقرأ الحسن ويحيى بن عمر « أمِرنا » بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس ، ولا أتحقق وجهاً لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه ، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا ، ومنه قول لبيد :
إن يغبُطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوماً يصيروا للقل والنفد

ومنه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، ورد القراء هذه القراءة ، وقد حكي أمر متعدياً عن أبي زيد الأنصاري ، و « المترف » الغني من المال المتنعم ، والترفة النعمة ، وفي مصحف أبي بن كعب : « قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها » ، وقوله { فحق عليها القول } أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم ، والتدمير الإهلاك ، مع طمس الآثار وهدم البناء ، ومنه قول الفرزدق : [ المتقارب ]
وكان لهمْ ككبرِ ثمود لمّا ... رغا دهراً فدمرهم دمارا
وقوله { وكم أهلكنا } الآية { كم } في موضع نصب ب { أهلكنا } وهذا الذكر لكثرة من أهلك الله { من القرون } مثال لقريش ووعيد ، أي لستم ببعيد مما حصلوا فيه من العذاب إذا أنتم كذبتم نبيكم ، واختلف الناس في القرن ، فقال ابن سيرين : عن النبي عليه السلام أربعون ، وقيل غير هذا مما هو قريب منه ، وقال عبد الله بن أبي أوفى القرن مائة وعشرون سنة ، وقالت طائفة القرن مائة سنة ، وهذا هو الأصح الذي يعضده الحديث في قوله عليه السلام « خير الناس قرني » ، وروى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن يسر ، قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي ، وقال سيعيش هذا الغلام قرناً قلت : كم القرن؟ قال مائة سنة ، قال محمد بن القاسم ، فما زلنا نعد له حتى أكمل مائة سنة ومات رحمه الله ، والباء في قوله { بربك } زائدة التقدير وكفى بربك ، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم وكأنها تعطي معنى اكتف بربك أي ما أكفاه في هذا ، وقد تجيء { كفى } دون باء كقول الشاعر : [ الطويل ]
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ... وكقول الآخر : [ الطويل ]
ويخبرني عن غائب الأمر هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

المعنى من كان يريد الدنيا العاجلة ولا يعتقد غيرها ولا يؤمن بآخرة فهو يفرغ أمله ومعتقده للدنيا ، فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء هذا المريد أو ما يشاء الله على قراءة من قرأ « نشاء » بالنون ، وقوله { لمن يريد } شرط كاف على القراءتين ثم يجعل الله جهنم لجميع مريدي العاجلة على جهة الكفر من أعطاه فيها ما يشاء ومن حرمه ، قال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته ، وقرأ الجمهور : « نشاء » بالنون ، وقرأ نافع أيضاً « يشاء » بالياء ، و « المدحور » المهان المبعد المذلل المسخوط عليه ، وقوله { ومن أراد الآخرة } الآية ، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان بها وبالله ورسالاته .
قال القاضي أبو محمد : وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه ، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملاً ولا سعياً إلا أثاب عليه وغفر بسببه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فعفر له ، وقوله { كلاًّ نمد } الآية نصب { كلاًّ } ب { نمد } ، وأمددت الشيء إذا زدت فيه من غيره نوعه ، ومددته إذا زدت فيه من نوعه ، وقيل هما بمعنى واحد ، يقال مد وأمد . و { هؤلاء } بدل من قوله { كلاًّ } فهو في موضع نصب ، وقوله { من عطاء ربك } يحتمل أن يريد من الطاعات لمريدي الآخرة والمعاصي لمريدي العاجلة ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس ، ويحتمل أن يريد ب « العطاء » رزق الدنيا ، وهذا تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أي إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين ومريدي العاجلة من الكافرين ويمدهم بعطائه منها وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة ، ويتناسب هذا المعنى مع قوله { وما كان عطاء ربك محظوراً } ، أي إن رزقه في الدنيا لا يضيق عن مؤمن ولا كافر ، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي التي توبقه ، و « المحظور » الممنوع . وقوله { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } ، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق ، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق ، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه السلام إن أعطى الله قوماً الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار ، وهذا قول الطبري : وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما ثم أخبر عز وجل أن التفضيل الأكبر إنما يكون في الآخرة .

وقوله { أكبر درجات } ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ولا بد ، أي { أكبر درجات } من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض إليها ، وكذلك قوله { أكبر تفضيلاً } .
قال القاضي أبو محمد : وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين ، وأسند الطبري في ذلك حديثاً نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها .
قال القاضي أبو محمد : ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحداً ، ولا يتمنى ذلك بدلاً ، وقوله { لا تجعل } الآية ، الخطاب لمحمد عليه السلام ، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره ، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه ، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه ، و « الخذلان » في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر ، و « المخذول » الذي لا ينصره من يحب أن ينصره . والخاذل من الظبا التي تترك ولدها ، ومن هذه اللفظة قول الراعي :
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... وسعى فلم أر مثله مخذولا

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

{ قضى } في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى { وقضى ربك } أمره { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً ، والمقضي هنا هو الأمر ، وفي مصحف ابن مسعود « ووصى ربك » وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب « قضى » حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً ، قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحاً ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون { قضى } على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } عطفاً على { أن } الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و { إما } شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر « يبلغنّ » ، وروي عن ابن ذكوان « يبلغنَ » بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي « يبلغان » وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله { أحدهما } فاعلاً ، وقوله { أو كلاهما } معطوفاً عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [ الطويل ]
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت
ويجوز أن يكون { أحدهما } فاعلاً وقوله { أو كلاهما } عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن ، وقرأ أبو عمرو « أفِّ » بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى « أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر « أفَّ » بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال « أفٌّ » بضم الفاء ، وقرأ ابن عباس « أف » خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها « أف » بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، « وأفّاً » بالنصب والتنوين « وأفي » بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، « وأفاً » بألف بعد الفتحة ، « وأفّْ » بسكون الفاء المشددة « وأَف » مثل رب ، ومن العرب من يميل « أفاً » ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول « أفاه » .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و « الألف » وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله { ولا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما . وتقول { أف } .
قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدَّاج النجيبي : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله { وقل لهما قولاً كريماً } ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ ، وقوله { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر { الذل } هنا ولم يذكر في قوله { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } [ الشعراء : 215 ] وذلك بحسب عظم الحق هنا ، وقرأ الجمهور « الذُّل » بضم الذال ، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير « الذِل » بكسر الذال ، ورويت عن عاصم بن أبي النجود ، و « الذل » في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول ، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« أبعده الله وأسحقه » قالوا من يا رسول الله؟ قال : « من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له » وقوله { من الرحمة } ، { من } هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون لابتداء الغاية ، ثم أمر الله عبادة بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقاً لهما وحناناً عليهما ، وهذا كله في الأبوين المؤمنين ، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى ، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ ، وليس هذا موضع نسخ ، وقوله { ربكم أعلم بما في نفوسكم } أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك ، ويجعلون ظاهر برهما رياء ، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله ، واختلفت عبارة الناس في { الأوابين } ، فقالت فرقة هم المصلحون ، وقال ابن عباس : هم المسبحون ، وقال أيضاً : هم المطيعون المحسنون ، وقال ابن المنكدر : هم الذين يصلون العشاء والمغرب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال : « تلك صلاة الأوابين » ، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه ، وقال عون العقيلي : هم الذين يصلون صلاة الضحى ، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع ، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبداً إلى طاعة الله تعالى ، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح ، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ، وفسر الجمهور { الأوابين } بالرجاعين إلى الخير ، وقال ابن جبير : أراد بقوله غفوراً للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه ، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه ، وقالت فرقة « خفض الجناح » هو ألا يمتنع من شيء يريدانه .

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

اختلف المتأولون في « ذي القربى » ، فقال الجمهور : الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم ، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد الأمة ، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه ، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم ، وقال علي بن الحسين في هذه : هم قرابة النبي عليه السلام ، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، ويعضده العطف ب { المسكين وابن السبيل } . { وابن السبيل } هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا ، « وابن السبيل » في آية الصدقة أخص ، و « التبذير » إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح ، وهو من البذر ، ويحتمل قوله تعالى : { المبذرين } أن يكون اسم جنس ، ويحتمل أن يعني أهل مكة معينين ، وذكره النقاش ، وقوله تعالى : { إخوان } يعني أنهم في حكمهم ، إذ المبذر ساع في فساد والشيطان أبداً ساع في فساد ، و { إخوان } جمع أخ من غير النسب ، وقد يشذ ، ومنه قوله تعالى في سورة النور { أو إخوانهن أو بني إخوانهن } [ النور : 31 ] والإخوة جمع أخ في النسب ومقد يشذ ، ومنه قوله تبارك وتعالى : { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] وقرأ الحسن والضحاك « إخوان الشيطان » على الإفراد ، وكذلك في مصحف أنس بن مالك ، ثم ذكر تعالى كفر الشيطان ليقع التحذير من التشبه به في الإفساد مستوعباً بيناً ، وقوله تعالى : { وإما تعرض } ، الضمير في { عنهم } عائد على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل ، فأمر الله تعالى نبيه في هذه الآية إذا سأله منهم أحد ، فلم يجد عنده ما يعطيه فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض تأدباً منه في أن لا يرده تصريحاً ، وانتظار الرزق من الله تعالى يأتي فيعطي منه ، أن يكون يؤنسه بالقول الميسور ، وهو الذي فيه الترجية بفضل الله تعالى والتأنيس بالميعاد الحسن والدعاء في توسعة الله تبارك وتعالى وعطائه ، وروي أنه عليه السلام كان يقول بعد نزول هذه الآية ، إذا لم يكن عنده ما يعطي : يرزقنا الله وإياكم من فضله ، ف « الرحمة » على هذا التأويل الرزق المنتظر ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وقال ابن زيد « الرحمة » الأجر والثواب ، وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم منهم نفقة المال في فساد ، فكان يعرض عنهم رغبة الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم ، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم { قولاً ميسوراً } يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح .

قال القاضي أبو محمد : وقال بعض أهل التأويل الأول ، نزلت الآية في عمار بن ياسر وصنفه ، و « الميسور » مفعول من لفظة اليسر ، تقول يسرت لك كذا إذا أعدَدته ، وقوله { ولا تجعل يدك } الآية ، روي عن قالون « كل البصط » بالصاد ، ورواه الأعشى عن أبي بكر ، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل « الغل إلى العنق » ، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل ، وكل هذا في إنفاق الخير ، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام ، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم : « مثل البخيل والمتصدق » ، والحديث بكامله ، والعلامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي ، و « المسحور » المنفه الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة فهو حسير ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجى لم كن عوناً على السرى ... ولا زال منها ظالع وحسير
ومنه البصر الحسير وهو الكال ، وقال ابن جريج وغيره في معنى هذه الآية ، لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق ، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه ، وقال قتادة : « التبذير » النفقة في معصيه الله ، وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيراً ، ولو أنفق مداً في باطل تبذيراً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا فيه نظر ، ولا بعض البسط لم يبح فيما نهى عنه . ولا يقال في المعصية ولا تبذر ، وإنما يقال ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام ، ولله در ابن عباس وابن مسعود فإنهما قالا : التبذير الإنفاق وفي غير حق ، فهذه عبارة تعم المعصية والسرف في المباح ، وإنما نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولاً من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عيالاً ونحوه ، ومن كلام الحكمة : ما رأيت قط سرفاً إلا ومعه حق مضيع ، وهذه من آيات فقه الحال ، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس ، وقوله { إن ربك يبسط } الآية ، والمعنى كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام ولا يهمنك فقر من تراه كذلك فإنه بمرأى من الله ومسمع وبمشيئة ، { ويقدر } معناه ويضيف ، وقوله تعالى : { إنه كان بعباده خبيراً بصيراً } أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى ، وقال بعض المفسرين وحكاه الطبري : إن الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر ، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت ، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم .

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

قرا الأعمش وابن وثاب « ولا تقتّلوا » بتضعيف الفعل ، وهذه الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله ، وهو قوله تعالى : { وإذا الموءودة سئلت } [ التكوير : 8 ] ، ويقال كان جهلهم يبلغ أن يغدو أحدهم كلبه ويقتل ولده ، و { خشية } نصب على المفعول من أجله ، و « الإملاق » الفقر وعدم الملك ، أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود ، وقرأ الجمهور « خِطْئاً » بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز والقصر ، وقرأ ابن عامر « خطئاً » بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة ، وهي قراءة أبي جعفر ، وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطىء إذا أتى الذنب على عمد ، فهي كحذر وحذر ومثل ومثل وشبه وشبه اسم ومصدر ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
الخطء فاحشة والبر نافلة ... كعجوة غرست في الأرض تؤتبر
قال الزجاج يقال خطىء الرجل يخطأ خطأً مثل أثم إثماً فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه ، وقال بعض العلماء خطىء معناه واقع الذنب عامداً ، ومنه قوله تعالى : { لا يأكله إلا الخاطئون } [ الحاقة : 37 ] ، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد ، ومنه قوله تعالى : { إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] ، وقال أبو علي الفارسي : وقد يقع هذا موضع هذا ، وهذا موضع هذا ، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر : [ الوافر ]
عبادك يخطئون وأنت رب ... كريم لا يليق بك الذموم
وخطىء بمعنى لم يتعمد في قول الآخر : [ الكامل ]
والناس يلحون الأمير إذا همُ ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
وقد روي عن ابن عامر « خَطأً » بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة ، وقرأ ابن كثير « خِطَاء » بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة ، وهي قراءة الأعرج بخلاف ، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه ، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً ، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . قال أبو علي الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطَأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه ، فمنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
تخاطأت النبْل احشاءه ... وخر يومي فلم أعجل
وقول الآخر في صفة كماة : [ الطويل ]
تَخَاطَأَه القنّاصُ حتى وجدته ... وخرطومه في مَنْقَع الماء راسب
فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل ، وقرأ الحسن فيما روي عنه « خَطَاء » بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم : لا يعرف هذا في اللغة ، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم ، قال أبو الفتح : الخطاء من اخْطَأت بمنزلة العطاء من أعطيت ، هو اسم يعني المصدر ، وقرأ الحسن بخلاف « خَطاً » بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز ، وقرأ أبو رجاء والزهري « خِطاً » بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها ، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء ، وقوله { ولا تقربوا الزنى } تحريم .

و { الزنى } يمد ويقصر فمن قصره الآية ، وهي لغة جميع كتاب الله ، ومن مده قول الفرزدق : [ الطويل ]
أبا حَاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا
ويروى أبا خالد ، و « الفاحشة » ما يستتر به من المعاصي لقبحه ، و { سبيلا } نصب على التمييز ، التقدير وساء سبيله سبيلاً ، أي لأنه يؤدي إلى النار ، وقوله { ولا تقتلوا } وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا } [ الإسراء : 23 ] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في { النفس } هي للجنس ، و { الحق } الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله : « لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى » .
قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى : { مظلوماً } نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و « الولي » القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و « السلطان » الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قال ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : « السلطان » القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم « فلا يسرف » بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أعتى الناس على الله ثلاثة ، رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بدحل الجاهلية ، أو قتل في حرم الله » ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فلا يسرف } القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي « فلا تسرف في القتل » بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل .

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية ، « فلا يسرفُ » بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط .
قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : « فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً ، والضمير في قوله { إنه } عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام : » ونصر المظلوم وإبرار القسم « ، وكقوله » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً « ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

الخطاب في هذه الآية للأوصياء الذين هم معدون لقرب مال اليتامى ، ثم لمن تلبس بشيء من أمر يتيم من غير وصي ، و { اليتيم } الفرد من الأبناء ، واليتم الانفراد ، يقال يتم الصبي يتيم إذا فقد أباه ، قال ابن السكيت : اليتم في البشر من قبل الأب ، وفي البهائم من قبل الأم ، وفي كتاب الماوردي ، أن اليتم في البشر من قبل الأم أيضاً ، وجمعه أيتام كشريف وأشراف وشهيد وأشهاد ، ويجمع يتامى كأسير وأسارى كأنهما الأمور المكروهة التي تدخل على المرء غلبة ، قال ابن سيده : وحكى ابن الأعرابي يتمان في يتيم ، وأنشد في ذلك : [ الطويل ]
فبت أشوي ظبيتي وحليلتي ... طربا وجرو الذيب يتمان جائع
ويجوز أن يكون يتامى جمع يتمان ، وفي الحديث « لا يتم بعد حلم » وقوله { إلا بالتي هي أحسن } يريد إلا بأحسن الحالات .
قال القاضي أبو محمد : وذلك في الوصي الغني ، أن يثمر المال ويحوطه ولا يمسّ منه شيئاً على جهة الانتفاع به ، هذا هو الورع والأولى الا أن يكون يشتغل في مال اليتيم ويشح فله بالفقه أن تفرض له أجرة ، وأما الوصي الفقير الذي يشغله مال اليتيم عن معاشه ، فاختلف الناس في أكله منه بالمعروف كيف هو؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يتسلف منه ، فإذا أيسر رد فيه ، وقال ابن المسيب ، لا يشرب الماء من مال اليتيم ، قيل له فما معنى { فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ؟ قال : إنما ذلك لخدمته وغسل ثوبه ، وقال مجاهد : لا يقرب إلا التجارة ولا يستقرض منه ، قال : قوله { فليأكل بالمعروف } [ ذاته ] معناه من مال نفسه ، وقال أبو يوسف : لعل قوله { فليأكل بالمعروف } [ ذاته ] منسوخ بقوله { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] [ النساء : 29 ] وقال ابن عباس : يأكل منه الشربة من اللبن والطرفة من الفاكهة ونحو هذا مما يخدمه ، ويلط الحوض ويجد النخل ، وينشد الضالة فليأكل غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب ، وقال زيد بن أسلم : يأكل منه بأطراف أصابعه بلغة من العيش بتعبه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه استعارة للتقلل ، وقال مالك رحمه الله وغيره . يأخذ منه أجره بقدر تعبه ، فهذه كلها تدخل فيما هو أحسن ، وكمال تفسير هذه المعاني في سورة النساء بحسب ألفاظ تلك الآيات ، وفي الخبر عن قتادة أن هذه الآية لما نزلت شقت على المسلمين وتجنبوا الأكل معهم في صحفة ونحوه ، فنزلت { وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح } [ البقرة : 220 ] وقوله { حتى يبلغ أشده } غاية الإمساك عن مال اليتيم ، ثم ما بعد الغاية قد بينته آية أخرى ، وما بعد هذه الغايات أبداً موقوف حتى يقوم فيه دليل شرعي أو يقتضي ذلك الاتفاق في النازلة ، ومثل هذا قول عائشة رضي الله عنها أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، وبعث بها ، فلم يحرم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ، و « الأشد » جمع شد عند سيبويه ، وقال أبو عبيدة : لا واحد له من لفظه ، ومعناها قواه في العقل والتجربة والنظر لنفسه ، وذلك لا يكون إلا مع البلوغ ، ف « الأشد » في مذهب مالك أمران ، البلوغ بالاحتلام أو ما يقوم مقامه حسب الخلاف في ذلك ، والرشد في المال ، واختلف هل من شروط ذلك الرشد في الدين على قولين ، فابن القاسم لا يراعيه إذا كان ضابطاً لماله ، وراعاه غيره من بعض أصحاب مالك ، ومذهب أبي حنيفة أن الأشد هو البلوغ فقط فلا حجر عنده على بالغ إلا أن يعرف منه السفه .

قال القاضي أبو محمد : ولست من هذا التقييد في قوله على ثقة ، وقال أبو إسحاق الزجاج « الأشد » في قوله أن تأتي على الصبي ثمان عشرة سنة ، وإنما أراد أنها بعض ما قيل في حد البلوغ لمن لا يحتلم ، وأما أن يكون بالغ رشيد تقي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ هذه المدة فشيء لا أحفظ من يقوله ، وقوله { بالعهد } لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بينه وبين المخلوقين في طاعة ، وقوله { إن العهد كان مسؤولاً } أي مطلوباً ممن عهد إليه أو عوهد هل وفى به أم لا؟ .
وقوله تعالى : { وأوفوا الكيل } الآية ، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم ، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم ، هذا المكيال وهذا الميزان .
قال القاضي أبو محمد : وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع ، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل ، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه ، و { القسطاس } قال الحسن هو القبان ، ويقال القفان وهو القلسطون ، ويقال القرسطون ، وقيل : « القسطاس » الميزان صغيراً كان أو كبيراً ، وقال مجاهد { القسطاس } العدل ، وكان يقول هي لغة رومية ، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر « القُسطاس » بضم القاف ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم « القِسطاس » بكسر القاف ، وهما لغتان ، واللفظة منه للمبالغة من القسط ، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت ، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة ، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها ، وقرأت فرقة « القصطاس » بالصاد .
قال القاضي أبو محمد : وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة ، وكل ذلك أنها استعارات للعدل ، وقوله : في ميزان القيامة مردود ، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان .

وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وعظ جميل ، و « التأويل » في هذه الآية المآل . قاله قتادة ، ويحتمل أن يكون « التأويل » مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن ، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق ، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذاً لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه ، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع ، وقوله { ولا تقف } معناه ولا تقل ولا تتبع .
قال القاضي أبو محمد : لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا » ، ونقول فلان قفوتي أي موضع تهمتي ، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي أي ما رميت به ، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه ، وقد قال ابن عباس أيضاً ومجاهد : { ولا تقف } معناه ، ولا ترم ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا
وقال الكميت : [ الوافر ]
ولا أرم البرى بغير ذنب ... ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر ، تقول قفوت الأثر ، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت ، وتقول قفت الأثر ، ومن هذا : هو القائف ، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف ، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث ، فمعنى الآية ، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به ، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية ، وقرأ الجمهور « ولا تقف » ، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي « ولا تقُفْ » بضم القاف وسكون الفاء ، وقرأ الجراح « والفآد » بفتح الفاء وهي لغة ، وأنكرها أبو حاتم وغيره ، وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } ب { أولئك } لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة ، فهي حالة من يعقل ، فلذلك عبر عنها ب { أولئك } ، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى :

{ رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل ، عبر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب « أولئك » ، وأنشد هو والطبري : [ الكامل ] .
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام ، والضمير في { عنه } يعود على ما ليس للإنسان به علم ، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان ، وبصره ، وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي ، ويحتمل أن يعود الضمير في { عنه } على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد ، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده ، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولاً ، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولاً ، فهو على حذف مضاف .

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

قرأ الجمهور « مرَحاً » بفتح الراء مصدر من مرَح يمرَح إذا تسبب مسروراً بدنياه مقبلاً على راحته ، فهذا هو المرح ، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه ، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك ، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولاً ، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فَقَصْرُكَ نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق ، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم .
قال القاضي أبو محمد : وإقبال الناس على الصيد ونحوه تنزهاً دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية ، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر أو الساعة من يومه يجم بها نفسه في التفرج والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة ، فليس ذلك بداخل في هذه الآية ، وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب « مرِحاً » بكسر الراء على بناء اسم الفاعل ، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة ، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره الطبري مع القراءة الأولى وهو بهذه القراءة أليق ، وهو أن قوله { لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً } أراد به أنك أيها المرح المختال الفخور لا تخرق الأرض ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك ، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى ، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح ، لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته ، إذ المشي في الأرض لا يفارقه ، فلم ينه إلا عن يكون مرحاً ، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحاً فيترتب في « المرِح » بكسر الراء أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال ، وخرق الأرض قطعها ، والخرق الواسع من الأرض ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء خرق تشكى الكلالا
ويقال لثقب الأرض ، وليس هذا المعنى في الآية ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... وقرأ الجراح الأعرابي « تخرُق » بضم الراء ، وقال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة ، وقوله تعالى : { كل ذلك كان سيئة } الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، وأبو جعفر والأعرج « سيئة » ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن ومسروق « سيئه » على إضافة سيىء إلى الضمير ، والإشارة على القراءة الأولى إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقول أف وقذف الناس والمرح وغير ذلك ، والإشارة على القراءة الثانية إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية ، ثم اختص ذكر السيىء منه بأنه مكروه عند الله تعالى ، فأما من قرأ « سيئه » بالإضافة إلى الضمير فإعراب قراءته بين : وسيىء اسم { كان } و { مكروهاً } خبرها ، وأما من قرأ « سيئة » فهي الخبر ل { كان } ، واختلف الناس في إعراب قوله { مكروهاً } ، فقالت فرقة هو خبر ثان ل { كان } حمله على لفظ كل ، و « سيئة » محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل ، وقال بعضهم هو نعت ل { سيئة } لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر .

قال القاضي أبو محمد : وضعف أبو علي الفارسي هذا ، وقال إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده وفقه ، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ألا ترى أن قول الشاعر : [ المتقارب ] .
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم ، ولو قال قائل ، أبقل أرض لم يكن قبيحاً ، قال أبو علي ولكن يجوز في قوله { مكروهاً } أن يكون بدلاً من { سيئة } ، قال ويجوز أن يكون حالاً من الذكر الذي في قوله { عند ربك } ويكون قوله { عند ربك } في موضع الصفة ل { سيئة } ، وقرا عبد الله بن مسعود « كان سيئاته » ، وروي عنه « كان سيئات » بغير هاء ، وروي عنه « كان خبيثة » ، وذهب الطبري إلى أن هذه النواهي كلها معطوفة على قوله أولاً : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] وليس ذلك بالبين ، قوله { ذلك مما أوحى إليك ربك } الآية . الإشارة ب { ذلك } إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن الأخلاق ، و { الحكمة } قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة ، ثم عطف قوله { ولا تجعل } على ما تقدم من النواهي ، والخطاب للنبي عليه السلام ، والمراد كل من سمع الآية من البشر ، و « المدحور » ، المهان المبعد ، وقوله { أفأصفاكم } الآية ، خطاب للعرب التي كانت تقول الملائكة بنات الله ، فقررهم الله على هذه الحجة ، أي أنتم أيها البشر لكم الأعلى من النسل ولله الإناث؟ فلما ظهر هذا التباعد الذي في قولهم عظم الله عليهم فساد ما يقولونه وشنعته ، ومعناه عظيماً في المنكر والوخامة ، و « أصفاكم » معناه جعلكم أصحاب الصفوة ، وحكى الطبري عن قتادة عن بعض أهل العلم أنه قال : نزلت هذه الآية في اليهود لأنهم قالوا هذه المقالة من أن الملائكة بنات الله .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

قرأ الجمهور « صرّفنا » بتشديد الراء على معنى صرّفنا فيه الحكم والمواعظ ، وقرأ الحسن « صرَفنا » بتخفيف الراء على معنى صرَفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله ، وقال بعض من شدد الراء : إن قوله { في } زائد ، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن ، وهذا ضعيف ، وقرأ الجمهور « ليذَّكَّروا » وقرأ حمزة والكسائي « ليذْكُروا » بسكون الذال وضم الكاف ، وهي قراءة طلحه ويحيى والأعمش ، وما في ضمن الآية من ترج وطماعية فهو في حق البشر وبحسب ظنهم فيمن يفعل الله معه هذا ، و « النفور » عبارة عن شدة الإعراض تشبيهاً بنفور الدابة ، وهو في هذه الآية مصدر لا غير ، وروي أن في الإنجيل في معنى هذه الآية : يا بني إسرائيل شوقناكم فلم تشتاقوا ونحنا لكم فلم تبكوا . وقوله تعالى : { قل لو كان معه آلهة } الآية إحبار بالحجة ، واختلف الناس في معنى قوله { لا تبتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } فحكى الطبري وغيره من المفسرين أن معناه لطلب هؤلاء الآلهة الزلفى إلى ذي العرش والقربة إليه بطاعته ، فيكون السبيل على هذا التأويل بمعناها في قوله { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } [ المزمل : 19 ] ، وقال سعيد بن جبير وأبو علي الفارسي والنقاش وقاله المتكلمون أبو منصور وغيره ، إن معنى الكلام ، لابتغوا إليه سبيلاً في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته ، وعلى هذا التأويل تكون الآية بياناً للتمانع ، وجارية مع قوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] .
قال القاضي أبو محمد : ونقتضب شيئاً من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى غيره ، وذلك على ما قال أبو المعالي وغيره . إنا لو فرضناه لفرضنا أن يريد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه ، ومستحيل أن تنفذ الإرادتان ، ومستحيل أن لا تنفذ جميعاً ، فيكون الجسم لا متحركاً ولا ساكناً ، فإن صحت إرادة أحدهما دون الآخر فالذي لم تتم إرادته ليس بإله ، فإن قيل نفرضهما لا يختلفان ، قلنا اختلافهما جائز غير ممتنع عقلاً ، والجائز في حكم الواقع ، ودليل آخر ، إنه لو كان الاثنان لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة ، وكذلك إلى ما لا نهاية ، ودليل آخر أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا تتعلق به إلا قدرة واحدة ، لا يصح فيها اشتراك ، والآخر كذلك دأباً ، فكل جزء إنما يخترعه واحد ، وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول ، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم « كما يقولون » بالياء من تحت ، وقرأ الجمهور « كما تقولون » و { سبحانه } مصدر بفعل متروك إظهاره ، فهو بمعنى التنزيه ، موضعه هنا موضع تنزه ، فلذلك عطف الفعل عليه في قوله { وتعالى } ، والتعالي تفاعل أما في الشاهد والأجرام فهو من اثنين ، لأن الإنسان إذ صعد في منزله أو في جبل فكأن ذلك يعاليه ، وهو يعالي ويرتقي ، وأما في ذكر الله تعالى فالتعالي هو بالقدر لا بالإضافة إلى شيء آخر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو « عما يقولون » بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي « تقولون » بالتاء من فوق ، .

و { علواً } ، مصدر على غير الفعل ، فهو كقوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] وهذا كثير ، وقوله تعالى : { تسبح له السماوات } الآية ، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم ، والاشتراك الذي أنتم بسبيله ، { السماوات السبع والأرض } ، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح ، وقوله { من فيهن } يريد الملائكة والإنس والجن ، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها ، في قوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي ينزه الله ويحمده ويمجده ، واختلف أهل العلم في التسبيح ، فقالت فرقة هو تجوز ، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر ، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن } [ ص : 18 ] وقالت فرقة { من شيء } لفظ عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات البحتة ، فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح ، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام ، وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال قد كان يسبح مرة ، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح ، فمذ صارت خواناً مدهوناً أو نحوه صارت جماداً ، وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمراً مفقوهاً ، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه .
قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله { لا تفقهون } الكفار والغفلة ، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن : بلغني أن معنى هذه الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات ، سبحت له الأرض ، سبح كذا ، سبح كذا ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : « يسبح له » بالياء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي « تسبح » بالتاء ، والقراءتان حسنتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش « سبحت له السماوات » ، وقوله { إنه كان حليماً غفوراً } فيه تنيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة ، أي تقولون قولاً ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات ، { إنه كان حليماً غفوراً } فلذلك أمهلكم .

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)

هذه الآية تحتمل معنيين : أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه ، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية ، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجاباً ، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها ، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين ، وقوله { مستوراً } أظهر ما فيه أن يكون نعتاً للحجاب ، أي مستوراً عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب ، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين ، وقيل التقدير مستوراً به على حذف العائد وقال الأخفش { مستوراً } بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويامن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لغير داعية إليه ، تكلف ، وليس مثاله بمسلم ، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وهذا معترض بأن المبالغة أبداً إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول ، فلو قال حجاباً حاجباً لكان التنظير صحيحاً ، وقوله { وجعلنا على قلوبهم أكنة } الآية ، الأكنة جمع كنان ، وهو ما غطى الشيء ، ومنه كنانة النبل ، و « الوقر » الثقل في الأذن المانع من السمع ، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به ، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطى قلبه وصمت أذنه ، وقوله { وإذا ذكرت } الآية ، يريد إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فرَّ كفار مكة من سماع ذلك إنكاراً له واستشباعاً ، إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها ، وقال بعض العلماء : إن ملأ قريش دخلوا على أبي طالب يزورونه فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال « يا معشر قيرش قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم » ، فولوا ونفروا ، فنزلت الآية ، وأن تكون الآية وصف حال الفارين عنه في وقت توحيده في قراءته أبين وأجرى مع اللفظ ، وقوله { نفوراً } يصح أن يكون مصدراً في موضع الحال ، ويصح أن يكون جمع نافر كشاهد وشهود ، لأن فعولاً من أبنية فاعل في الصفات ، ونصبه على الحال ، أي نافرين ، وقوله { أن يفقهوه } { أن } نصب على المفعول أي « كراهة أن » ، أو « منع أن » ، والضمير في { يفقهوه } عائد على { القرآن } ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما عنى بقوله : { ولوا على أدبارهم نفوراً } الشياطين وأنهم يفرون من قراءة القرآن ، يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص »

وقوله { نحن أعلم بما يستمعون به } الآية ، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال ، أو بإعراض وتغافل واستخفاف ، فالضمير في { به } عائد على { ما } ، وهي بمعنى الذي ، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به ، أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم ، والعامل في { إذ } الأولى وفي المعطوفة عليها { يستمعون } الأول ، وقوله { وإذ هم نجوى } وصفهم بالمصدر ، كما قالوا : قوم رضى وعدل ، وقيل المراد بقوله : { وإذ هم نجوى } اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم ، وقوله { مسحوراً } الظاهر فيه أن يكون من السحر ، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم ، وأقواله الوخيمة برأيهم ، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه ، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم { به جنة } [ المؤمنون : 25 ] ونحو هذا ، وقال أبو عبيدة : { مسحوراً } معناه ذا سحر ، وهي الرية يقال لها سحر وسُحر بضم السين ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري ومنه قولهم للجبان : انتفخ سحره ، لأن الفازع تنتفخ ريته ، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية ، قال : ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره : مسحور ومسحر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الوافر ]
ونسحر بالطعام وبالشراب ... وقول لبيد : بالطويل ]
فإن تسألينا فيمَ نَحْنُ فإننا ... عصافيرُ من هذا الأنام المسحَّر
ومنه السحور ، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر ، ويشبه أن يكون من السحر ، كالصبوح من الصباح ، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السِّحر ، بكسر السين ، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له .

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

ضرب المثل له هو قولهم مسحور ، ساحر ، مجنون ، متكهن ، لأنه لم يكن عندهم متيقناً بأحد هذه ، فإنما كانت منهم على جهة التشبيه ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارين عليهم هو أنه ساحر ، ثم حكم الله عليهم بالضلال ، وقوله { فلا يستطيعون سبيلاً } يحتمل معنيين : أحدهما لا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، فتجري الآية مجرى قوله { وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الإسراء : 46 ] [ الأنعام : 25 ] ونحو هذا ، والآخر : لا يستطيعون سبيلاً إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة في جهتك ، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه ، وقوله { إذا كنا عظاماً } الآية ، هذه الآية في إنكارهم البعث ، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد ، و « الرفات » من الأشياء : ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى ، وقربه من حالة التراب ، يقال : رفت رفتاً فهو مرفوت ، وفعال : بناء لهذا المعنى ، كالحطام ، والفتات ، والرصاص ، والرضاض ، والدقاق ، ونحوه ، وقال ابن عباس : { رفاتاً } غباراً ، وقال مجاهد : تراباً ، واختلف القراء في هذين الاستفهامين : فقرأ ابن كثير وأبو عمرو « أيذا كنا تراباً أينا » جميعاً بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ، ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة ، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ الثانية « إنا » مكسورة على الخبر ، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني ، غير أنه كان يهمز همزتين ، وقرأ عاصم وحمزة : « أإذا أإنا » بهمزتين فيهما ، وقرأ ابن عامر « إذا كنا » ، مكسورة الألف من غير استفهام « ءإنا » يهمز ، ثم يمد ، ثم يهمز . ويروى عنه مثل قراءة حمزة ، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات ، و { جديداً } صفة لما قرب حدوثة من الأشياء ، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث ، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة ، لغة ضعيفة ، كذا قال سيبويه ، وقوله تعالى : { قل كونوا حجارة أو حديداً } الآية ، المعنى : قل لهم يا محمد كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي ، لا بد من بعثكم ، وقوله { كونوا } هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع لفظة افعل ، وبهذه الآية مثل بعضهم ، وفي هذا عندي نظر : وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب ، كقوله تعالى : { فادرؤوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، ونحوه ، وأما هذه الآية ، فمعناها : كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا ، الذي فطركم كذلك ، هو يعيدكم ، وقال مجاهد أراد ب « الخلق » ، الذي يكبر في الصدور : السماوات والأرض والجبال ، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك : أراد الموت ، وقال قتادة ومجاهد : بل أحال على فكرتهم عموماً ، ورجحه الطبري ، وهذا هو الأصح ، لأنه بدأ بشيء صلب ، ثم تدرج القول إلى أقوى منه ، ثم أحال على فكرهم ، إن شاؤوا في أشد من الحديد ، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء ، ثم احتج عليهم عز وجل في الإعادة بالفطرة الأولى ، من حيث خلقهم ، واخترعهم من تراب ، فكذلك يعيدهم إذا شاء ، لا رب غيره ، وقوله { فسينغضون } معناه : يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب ، قال ابن عباس : والاستهزاء .

قال الزجاج : تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئاً أطمعا
ويقال نغضت السنّ إذا تحركت وقال ذو الرمة : [ الطويل ]
ظعائن لم يسكن أكناف قرية ... بسيف ولم تنغض بهن القناطر
قال الطبري وابن سلام و { عسى } من الله واجبة والمعنى : وهو قريب .
قال القاضي أبو محمد : وهذه إنما هي من النبي عليه السلام ، ولكنها بأمر الله ، فيقربها ذلك من الوجوب ، وكذلك قال عليه السلام « بعثت أنا والساعة كهاتين » ، وفي ضمن اللفظ توعد لهم .

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

{ يوم } : بدل من قوله { قريباً } [ الإسراء : 51 ] ، ويظهر أن يكون المعنى : هو يوم ، جواباً لقولهم : { متى هو } [ ذاته ] ويريد : يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور ، لقيام الساعة ، وقوله { فتستجيبون } أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة ، وقوله : { بحمده } ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه : بأمره ، وكذلك قال ابن جريج ، وقال قتادة معناه : بطاعته ومعرفته ، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جيمع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى { بحمده } : إما أن جميع العالمين ، كما قال ابن جبير ، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته ، وإما أن قوله { بحمده } هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في هذه الآيات : عسى ، أن الساعة قريبة ، يوم يدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري ، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه ، وقوله تعالى { وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً } يحتمل معنيين : أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة ، وتصرف الأجساد ، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلاً لمغيب علم مقدار الزمن عنهم ، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا ، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين ، وعلى هذا التأويل عول الطبري ، واحتج بقوله تعالى : { كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أبو بعض يوم } [ المؤمنون : 112-113 ] ، والآخر : أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم : يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله ، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلاً ، من حيث هو منقض منحصر ، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها : متاع قليل ، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق ها هنا لأنه في شيء قد وقع ، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود ، وفي الكلام تقوية للبعث ، كأنه يقول : أنت أيها المكذب بالحشر ، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبداً ، لا بد أن تدعى للبعث ، فتقوم ، وترى أنك إنما لبثت قليلاً منقضياً منصرماً . وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً . وقوله تعالى : { وقل لعبادى } الآية اختلف النحويون في قوله { يقولوا } فمذهب سيبويه ، أنه جواب شرط مقدر تقديره : وقل لعبادي : إنك إن تقل لهم يقولوا ، وهذا على أصله ، في أن الأمر لا يجاب ، وإنما يجاب معه شرط مقدر ، ومذهب الأخفش : أن الأمر يجاب ، وأن قوله ها هنا { يقولوا } إنما هو جواب { قل } .
قال القاضي أبو محمد : ولا يصح المعنى على هذا بأن يجعل { قل } مختصة بهذه الألفاظ على معنى أن يقول لهم النبي : قولوا التي هي أحسن؛ وإنما يصح بأن يكون { قل } أمراً بالمحاورة في هذا المعنى بما أمكن من الألفاظ ، كأنه قال بين لعبادي ، فتكون ثمرة ذلك القول والبيان قولهم { التي هي أحسن } ، وهذا المعنى يجوزه مذهب سيبويه الذي قدمنا ومذهب أبي العباس المبرد : أن { يقولوا } جواب لأمر محذوف ، تقديره : وقل لعبادي « قولوا التي هي أحسن » يقولوا فحذف وطوي الكلام ، ومذهب الزجاج : أن { يقولوا } جزم بالأمر ، بتقدير { قل لعبادي } ليقولوا ، فحذفت اللام لتقدم الأمر ، وحكى أبو علي في الحلبيات في تضاعيف كلامه : أن مذهب أبي عثمان المازني في { يقولوا } أنه فعل مبني ، لأنه مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر؛ لأن المعنى { قل لعبادي } قولوا ، واختلف الناس في { التي هي أحسن } فقالت فرقة : هي لا إله إلا الله ، ويلزم على هذا أن يكون قوله { لعبادي } يريد به جميع الخلق ، لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله .

ويجيء قوله بعد ذلك { إن الشيطان ينزع بينهم } غير مناسب للمعنى ، إلا على تكره ، بأن يجعل { بينهم } بمعنى خلالهم ، وأثناءهم ، ويجعل النزع بمعنى الوسوسة والإضلال ، وقال الجمهور : { التي هي أحسن } هي المحاورة الحسنى بحسب معنى قال الحسن : يقول : يغفر الله لك ، يرحمك الله ، وقوله { لعبادي } خاص بالمؤمنين ، فكأن الآية بمعنى قوله عليه السلام ، « وكونوا عباد الله إخواناً » ثم اختلفوا ، فقالت فرقة : أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب ، وخفض الجناح ، وإلانة القول ، واطراح نزغات الشيطان ، وقالت فرقة : إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بالإنة القول للمشركين بمكة ، أيام المهادنة ، وسبب الآية : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله ، فكاد أن يثير فتنة ، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وقرأ الجمهور : « ينزَغ » بفتح الزاي ، وقرأ طلحة بن مصرف : « ينزغ » ، بكسر الزاي على الأصل قال أبو حاتم : لعلها لغة ، والقراءة بالفتح ، ومعنى النزغ : حركة الشيطان بسرعة ليوجب فساداً ، ومنه قول النبي عليه السلام « لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزع الشيطان في يده » فهذا يخرج اللفظة عن الوسوسة ، و « عداوة الشيطان البينة » هي قصته مع آدم عليه السلام فما بعد ، وقوله تعالى : { ربكم أعلم بكم } الآية ، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة؛ وذلك أن هذه المخاطبة في قوله { ربكم أعلم بكم } هي لكفار مكة بدليل قوله { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار إنه أعلم بهم ، ورجاهم وخوفهم ، ومعنى { يرحمكم } بالتوبة عليكم من الكفر ، قاله ابن جريج وغيره ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإنما عليك البلاغ ، ولست بوكيل على إيمانهم ولا بد ، فتتناسب الآيات بهذا التأويل ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم ، فهذه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشراً ، المعنى : لا تنكروا أمر محمد عليه السلام ، وإن أوتي قرآناً ، فقد فضل النبيون ، وأوتي داود زبوراً ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وتفضيل بعض الرسل ، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر ، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس ، وإما أن يكون التفضيل مقسماً فيهم : أعطي هذا التكليم ، وأعطيت هذه الخلفة ، ومحمد الخمس ، وعيسى الإحياء ، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق ، وقوله { بمن في السماوات } ، الباء متعلقة بفعل تقديره ، علم من في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب { أعلم } لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب { أعلم } ولا يلتفت لدليل الخطاب وقرأ الجمهور : « زَبوراً » بفتح الزاي ، وهو فَعول بمعنى مفعول ، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب ، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش « زُبوراً » بضم الزاي ، وله وجهان : أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد ، كما قالوا في جمع ظريف ، ظروف ، والآخر ، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود ، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر ، سمي بمصدر زبر يزبر ، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور ، فكأنه قال : آتينا داود كتباً ، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر ، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيراً ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في آخر كتاب مسلم : « وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له » ، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم في هذه الآية ، ليسوا عبدة الأصنام ، وإنما هم عبدة من يعقل ، واختلف في ذلك . فقال ابن عباس : هي في عبدة العزير والمسيح وأمه ونحوهم ، وقال ابن عباس أيضاً ، وابن مسعود : هي في عبدة الملائكة ، وقال ابن مسعود أيضاً : هي في عبدة شياطين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم أولئك الشياطين ، وعبدتهم بقوا يعبدونهم فنزلت الآية في ذلك .
وقال ابن عباس أيضاً : هي في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه ، وأي ذلك كان ، فمعنى الآية : قل لهؤلاء الكفرة { ادعوا } عند الشدائد ، و { الضر } هؤلاء المعبودين ، فإنهم لا يملكون كشفه ولا تحويله عنكم ، ثم أخبرهم على قراءة ابن مسعود وقتادة « تدعون » بالتاء ، أو أخبر النبي عليه السلام على قراءة الجمهور ، « يدعون » بالياء من تحت ، أن هؤلاء المعبودين ، يطلبون التقرب إلى الله والتزلف إليه وأن هذه حقيقة حالهم ، وقرأ ابن مسعود « إلى ربك » ، والضمير في { ربهم } للمتبعين أو للجميع ، و { الوسيلة } ، هي القربة ، وسبب الوصول إلى البغية ، وتوسل الرجل : إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما ، وقال عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... ومنه قول النبي عليه السلام : « من سأل الله لي الوسيلة » الحديث . و { أيهم } ابتداء ، و { أقرب } خبر ، و { أولئك } يراد به المعبودون وهو : ابتداء خبره { يبتغون } والضمير في { يدعون } للكفار ، وفي { يبتغون } للمعبودين ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب وهذا كما قال عمر بن الخطاب في حديث الراية بخيبر : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها أي يتبارون في طلب القرب ، وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله ، وقال ابن فورك وغيره : إن الكلام من قوله { أولئك الذين } راجع إلى النبيين المتقدم ذكرهم ، ف { يدعون } على هذا من الدعاء ، بمعنى الطلبة إلى الله ، والضمائر لهم في { يدعون } وفي { يبتغون } وباقي الآية بين . وقوله تعالى : { وإن من قرية } الآية : أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء ، هذا مع السلامة وأخذها جزءاً أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة فهذا عموم في كل مدينة و { من } لبيان الجنس ، وقيل المراد الخصوص { وإن من قرية } ظالمة ، وحكى النقاش أنه وجد في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية استقراء البلاد المعروفة اليوم ، وذكر الهلاك كل قطر منها صفة ، ثم ذكر نحو ذلك عن وهب بن منبه ، فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش فيها ، وتركت سائرها لعدم الصحة في ذلك ، والمعلوم أن كل قرية تهلك ، إما من جهة القحوط والخسف غرقاً ، وإما من الفتن ، أو منهما ، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل ، فأما ما هلك بالفتنة ، فعن ظلم ولا بد ، إما في كفر أو معاص ، أو تقصير في دفاع ، وحزامة ، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء ، وكذلك الخسف .

وقوله { مهلكوها } الضمير لها ، وفي ضمن ذلك الأهل ، وقوله { معذبوها } هو على حذف مضاف ، فإنه لا يعذب إلا الأهل ، وقوله { في الكتاب } يريد في سابق القضاء ، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ ، و « المسطور » المكتوب إسطاراً ، وقوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل } الآية ، هذه العبارة في معناها هي على ظاهر ما تفهم العرب ، فسمى سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه منعاً ، وأن الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع ، والتقدير : وما منعنا الإرسال إلا التكذيب ، وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض ، فأوحى الله إلى محمد عليه السلام ، إن شئت أن أفعل ذلك لهم ، فإن تأخروا عن لاإيمان عاجلتهم العقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم ، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بل تستأني بهم يا رب » ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستيناء ، إذ قد سلفت عادته بمعالجة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة فلم يؤمنوا ، قال الزجاج : أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة ، بقوله { بل الساعة موعدهم } [ القمر : 46 ] ، فهذه الآية تنظر إلى ذلك ، ثم ذكر أمر ثمود ، احتجاجاً إن قال منهم قائل نحن كنا نؤمن لو جاءتنا آية اقترحناها ولا نكفر بوجه ، فذكر الله تعالى ثمود ، بمعنى : لا تؤمنون إن تظلموا بالآية كما ظلمت ثمود بالناقة ، وقرأ الجمهور : « ثمود » بغير تنوين ، قال هارون : أهل الكوفة ينونون « ثموداً » في كل وجه ، قال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن « ثمود » في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ، ونحن نقرؤها بغير ألف ، وقوله { مبصرة } على جهة النسب أي معها إبصار ، كما قال : { آية النهار مبصرة } [ الإسراء : 12 ] أي معها إبصار ممن ينظر ، وهذا عبارة عن بيان أمرها ، ووضوح إعجازها ، وقرأ قوم « مُبصَرة » بضم الميم وفتح الصاد ، حكاه الزجاج ، ومعناه متبينة ، وقرأ قتادة « مَبصَرة » بفتح الميم والصاد ، وهي مَفعَلة من البصر ومثله قول عنترة : [ الكامل ] .
الكفر مخبثة لنفس المنعم ... وقوله { فظلموا بها } أي وضعوا الفعل غير موضعه ، أي بعقرها ، وقيل بالكفر في أمرها ، ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يرسل { بالآيات } غير المقترحة { تخويفاً } للعباد ، وهي آيات معها إمهال لا معاجلة ، فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك ، قال الحسن والموت الذريع ، وروي أن الكوفة رجفت في مدة عبد الله بن مسعود . فقال : أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه ، ومن هذا قول النبي علي السلام في الكسوف : « فافزعوا إلى الصلاة » الحديث ، وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام : فقسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية ، وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد غباً كالرعد والكسوف ونحوه ، وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوءة ، وإنما يعتبر به توهماً لما سلف منه .

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قال الطبري : معنى قوله : { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة ، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم ، أي فالتبليغ رسالة ربك ، ولا تتهيب أحداً من المخلوقين ، وهذا تأويل بيّن جار مع اللفظ ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن والسدي ، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده ، توطئة له ، فأقول : اختلف الناس في { الرؤيا } ، فقال الجمهور : هي رؤيا عين ويقظة ، وهي ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ، قالوا : فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب ، قال الكفار إن هذا لعجيب تحت الحداة إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ، ويقول محمد إنه جاءه من ليلة وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين ، فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآيات فعلى هذا ، يحسن أن يكون معنى قوله { وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي : في إضلالهم وهدايتهم ، وأن كل واحد ميسر لما خلق له ، أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ، ولا تحزن عليهم ، فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم ، وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل « رؤيا » ، إذ هما مصدران من رأى ، وقال النقاش جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك . وقالت عائشة { الرؤيا } في الإسراء رؤيا منام ، وهذا قول الجمهور على خلافه ، وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها ، وقد ذكر هذا مستوعباً في صدر السورة ، وقال ابن عباس : { الرؤيا } التي في هذه الآية ، هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة ، فعجل في سنة الحديبية فرد ، فافتتن المسلمون بذلك ، فنزلت الآيات ، وقال سهل بن سعد : إنما هذه « الرؤيا » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر ، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، ويجيء قوله { أحاط بالناس } أي بأقداره ، وأن كل ما قدره نافذ ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك وقد قال الحسن بن علي ، في خطبته في شأن بيعته لمعاوية { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }

[ الأنبياء : 111 ] ، وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه « الرؤيا » عثمان بن عفان ، ولا عمر بن عبد العزيز ، ولا معاوية ، وقوله { والشجرة الملعونة في القرآن } : معطوفة على قوله { الرؤيا } ، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة { والشجرة } هنا في قول الجمهور هي شجرة الزقوم ، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يزعم أنها تنبت الشجر ، والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له ، فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه تزقموا ، فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء ، فأخبر الله نبيه أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختباراً ليكفر من سبق عليه الكفر ، ويصدق من سبق له الإيمان ، كما روي أن أبا بكر الصديق ، قيل له ، صبيحة الإسراء إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة بيت المقدس وانصرف منه فقال إن كان قال ذلك فلقد صدق ، فقيل له : أتصدقه قبل أن تسمع منه ، قال : أين عقولكم ، أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير . وقالت فرقة : { والشجرة } : إشارة إلى القوم المذكورين قبل في { الرؤيا } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف محدث ، وليس هذا عن سهل بن سعد ، ولا مثله ، وقال الطبري عن ابن عباس : إن { الشجرة الملعونة } يريد الملعون آكلها ، لأنها لم يجر لها ذكر .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد { الملعونة } ، هنا فأكد الأمر بقوله { في القرآن } وقالت فرقة : { الملعونة } ، المبعدة المكروهة ، وهذا أراد لأنها لعنها بلفظ اللعنة المتعارف ، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله ، وأيضاً فما ينبت في أصل الجحيم ، فهو في نهاية البعد من رحمة الله ، وقوله { ونخوفهم } يريد : إما كفار مكة ، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً » والأول منها أصوب كما قلنا قبل ، وقوله { فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً } يريد كفرهم وانتهاكهم فيه كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم ، فقد قال النقاش إن في ذلك نزلت ، وفي نحوه وقرأ الأعمش « ويخوفهم » وقرأ الجمهور و « ونخوفهم » بالنون .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

المعنى : واذكر إذ قلنا ، وكذلك { إذ } [ الإسراء : 60 ] في الآية المتقدمة : هي منصوبة بفعل مضمر ، وقد تقدم في غير موضع ذكر خلق آدم وأمر السجود ، واختلف في قوله { إلا إبليس } فقيل هو استثناء منقطع ، لأن { إبليس } لم يكن من الملائكة ، وقيل هو متصل لأن إبليس من الملائكة ، وقوله { طيناً } يصح أن يكون تمييزاً ، ويصح أن يكون حالاً ، وقاس { إبليس } في هذه النازلة فأخطأ ، وذلك أنه رأى الفضيلة لنفسه ، من حيث رأى النار أفضل من الطين ، وجهل أن الفضائل في الأشياء ، إنما تكون حيث خصصها الله تعالى ، ولا ينظر إلى أصولها . وذكر الطبري عن ابن عباس أن إبليس هو الذي أمره الله فأخذ من الأرض طينة آدم ، والمشهور أنه ملك الموت ، وكفر إبليس في أن جهل صفة العدل من الله تعالى ، حين لحقته الأنفة ، والكبر ، وكان أصل ذلك الحسد ، ولذلك قيل : إن أول ما عصي الله بالحسد ، وظهر ذلك من إبليس ، من قوله { أرأيتك هذا الذي كرمت علي } { أنا خير منه } [ الأعراف : 11 ] حسبما ذكر الله في آية أخرى . فهذا هو النص بأن فعلك غير مستقيم ، والكاف في قوله { أرأيتك } هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه ، لا موضع لها من الإعراب ، فهي زائدة ، ومعنى أرأيت : أتأملت ونحوه ، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد ، وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ، ومثل بقوله أرأيتك زيداً أبو من هو؟ وقاله الزجاج : في { آياتنا } [ طه : 56 ] ولم يمثل ، وقول سيبويه : صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية ، فهي كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله ، وقرأ ابن كثير « أخرتني » بياء في الوصل والوقف ، وهذا هو الأصل ، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف ، كمثل قول الأعشى : [ المتقارب ]
فهل يمنعني ارتياد البلاد ... من حذر الموت أن يأتين
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي « أخرتن » بحذف الياء في الوصل والوقوف ، وهذا تشبيه بياء قاض ونحوه ، لكونها ياء متطرقة قبلها كسرة ، ومنه قوله تعالى : { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } [ هود : 105 ] وقوله { لأحتنكن } معناه : لأميلن ولأجرن ، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد ، وألسنة تحتنك المال ، أي تجتره ، ومنه قول الشاعر :
تشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهداً إلى جهة بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت ... ومن هذا الشعر ، قال الطبري { لأحتنكن } معناه : لاستأصلن ، وعبر ابن عباس في ذلك ب « لأستولين » ، وقال ابن زيد لأضلن ، وهذا بدل اللفظ لا تفسير ، وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم ، من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء وما اقترن بها من الشهوات والعوارض ، كالغضب ونحوه ، ثم استثنى القليل ، لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله ، وقوله : { اذهب } وما بعده من الأوامر ، هو صيغة افعل من التهديد ، كقوله تعالى

{ اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] و { تبعك } معناه في طريق الكفر الذي تدعو إليه ، فالآية في الكفار وفي من ينفذ عليه الوعيد من العصاة وقوله { جزاء } مصدر في موضع الحال ، و « الموفور » المكمل { واستفزز } معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك ، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده ، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير :
كما استغاث بسيىء فز غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك
و « الصوت » هنا : هو الغناء والمزامير والملاهي ، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي ، فهي مضافة إلى { الشيطان } ، قاله مجاهد ، وقيل معناه : بدعائك إياهم إلى طاعتك ، قال ابن عباس : صوته ، كل داع إلى معصية الله ، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك . وقوله { وأجلب } أي هول؛ والجلبة : الصوت الكثير المختلط الهائل ، وقرأ الحسن : « واجلُب » بوصل الألف وضم اللام . وقوله { بخيلك ورجلك } قيل هذا مجاز واستعارة ، بمعنى : اسع سعيك ، وابلغ جهدك ، وقيل معناه : أن له من الجن خيلاً ورجلاً ، قاله قتادة ، وقيل المراد : فرسان الناس ورجالتهم ، المتصرفون في الباطل ، فإنهم كلهم أعوان إبليس على غيرهم ، قاله مجاهد وقرأ الجمهور « ورجْلك » بسكون الجيم ، وهو جمع راجل ، كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، وشارب وشرب ، وقرأ حفص عن عاصم : « ورجِلك » بكسر الجيم على وزن فعل ، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه ، وهي صفة؛ تقول فلان يمشي رجلاً ، غير راكب ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
أنا أقاتل عن ديني على فرسي ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي
وقرأ قتادة وعكرمة : « ورجالك » . { وشاركهم في الأموال } عام : لكل معصية يصنعها الناس بالمال ، فإن ذلك المصرف في المعصية ، هو خط إبليس ، فمن ذلك البحائر وشبهها ، ومن ذلك مهر البغي ، وثمن الخمر ، وحلوان الكاهن ، والربا ، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأباً . وقوله { والأولاد } عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا ، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس ، وعبد الجدي ، وأبا الكويفر ، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله ، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر ، وغير هذا ، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله . وقوله { وعدهم } أي منّهم بما لا يتم لهم ، وبأنهم غير مبعوثين ، فهذه مشاركة في النفوس ، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم { غروراً } منه ، لأنه لا يغني عنهم شيئاً ، وقوله { إن عبادي } الآية ، قول من الله تعالى لإبليس ، وقوله { عبادي } يريد المؤمنين في الكفر ، والمتقين في المعاصي ، وخصهم باسم العباد ، وإن كان اسماً عاماً لجميع الخلق ، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم ، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب : هذا ابني ، على معنى التنبيه منه والتشريف له ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : « هذا خالي فليرني امرؤ خاله » و « السلطان » الملكة والتغلب ، وتفسيره هنا بالحجة قلق ، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { وكفى بربك } يا محمد حافظاً للمؤمنين ، وقيماً على هدايتهم .

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

« الإزجاء » : سوق الثقيل السير ، إما لضعف أو ثقل حمل أو غيره ، فالإبل الضعاف تزجى ، ومنه قول الفرزدق : [ البسيط ]
على زواحف تزجيها محاسير ... والسحاب تزجى ومنه قوله تعالى { ألم تر أن الله يزجي سحاباً } [ النور : 43 ] والبضاعة المزجاة هي التي تحتها لاختلالها أن تساق بشفاعة وتدفع بمعاون إلى الذي يقبضها ، وإزجاء { الفلك } سوقه بالريح اللينة والمجاديف ، و { الفلك } و { البحر } الماء الكثير عذباً كان أو ملحاً ، وقد غلب الاسم على هذا المشهور ، و { الفلك } تجري فيها . وقوله { لتبتغوا من فضله } لفظ يعم البصر ، وطلب الأجر ، في حج أو غزو ونحوه ، ولا خلاف في جواز ركوبه للحج والجهاد والمعاش ، واختلف في وجوبه للحج ، أعني الكثير منه ، واختلف في كراهيته للثروة وتزيد المال ، وقد روي عنه أنه قال « البحر لا أركبه أبداً » ، وهذا حديث يحتمل أنه رأي رآه لنفسه ، ويحتمل أنه أوحي إليه ذلك ، وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده . و { الضر } لفظ يعم خوف الغرق ، والامتساك في المشي ، وأهول حالاته : اضطرابه وتموجه . وقوله { ضل } معناه تلف وفقد ، وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلهاً من دون الله ، والمعنى في هذه الآية أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة ، وأن لها فضلاً ، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام ، فوفقهم الله من ذلك على حالة البحر . وقوله { أعرضتم } أي لم تفكروا في صنع الله وقت حاجتكم إليه ، وقوله { كفوراً } أي بالنعم . و { الإنسان } هنا للجنس ، وكل أحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب ، وقال الزجاج { الإنسان } يراد به الكفار ، وهذا غير بارع . وقوله { أفأمنتم } الآية ، المعنى { أفأمنتم } أيها المعرضون الناسون الشدة ، حين صرتم إلى الرخاء « أن يخسف الله بكم مكانكم من البر » إذا أنتم في قبضه القدرة في البحر والبر ، و « الحاصب » العارض الرامي بالبرد والحجارة ونحو ذلك ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
ومنه قول الأخطل : [ الكامل ]
ترمي العصاة بحاصب من ثلجها ... حتى يبيت على العضاه جمالا
ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط ، والحصب : الرمي بالحصباء ، وهي الحجارة الصغار ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي « يخسف » بالياء على معنى يخسف الله ، وكذلك « يرسل » و « يعيد » و « يرسل » و « يغرق » ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ذلك كله بالنون ، وقرأ أبو جعفر ومجاهد « تغرقكم » بالتاء أي الريح ، وقرأ حميد « نغرقكم » بالنون حقيقة وأدغم القاف في الكاف ، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن وقرأ الحسن وأبو رجاء « يغرّقكم » بشد الراء .

و « الوكيل » القائم بالأمور ، و « القاصف » الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه ، و { تارة } ، جمعها تارات وتير ، معناه : مرة أخرى ، وقرأ أبو جعفر : « من الرياح » بالجمع . و « التبيع » الذي يطلب ثأراً أو ديناً ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها ... ضوامن عزم لزهن تبيع
ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام : « إذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع » فالمعنى لا تحدون من يتبع فعلنا بكم ويطب نصرتكم .

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

{ كرمنا } تضعيف كرم ، فالمعنى : جعلنا لهم كرماً ، أي شرفاً وفضلاً ، وهذا هو كرم نفي النقصان ، لا كرم المال؛ وإنما هو كما تقول : ثوب كريم ، أي جمة محاسنه .
قال القاضي أبو محمد : رضي الله عنه : وهذه الآية ، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان ، والحيوان والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، وحملهم { في البر والبحر } ، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره { في البر والبحر } جميعاً ، والرزق { من الطيبات } ، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم ، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ، ويأكلون المركبات من الأطعمة ، وغاية كل حيوان أن يأكل لحماً نياً ، أو طعاماً غير مركب ، و « الرزق » ، كل ما صح الانتفاع به ، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا : « التفضيل » هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم ، وقال غيره : وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان ، ويمشي قائماً ، ونحو هذا من التفضيل ، وهذا كله غير محذق وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم ، كجري الفرس ، وسمعه ، وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد وكرم الديك ، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله ، وبه يعرف الله عز وجل ، ويفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه ، وقالت فرقة : هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس ، من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى { ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل التساوي ، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضعٍ أخر من الشرع ، وقوله تعالى { يوم ندعو } الآية ، يحتمل قوله { يوم } أن يكون منصوباً على الظرف ، والعامل فيه : فعل مضمر تقديره أنكر ، أو فعل يدل عليه ، قوله { ولا يظلمون } تقديره « ولا يظلمون يوم ندعو » . ثم فسره { يظلمون } الأخير ، ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } ، وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيّن ، لأنهم المنعمون المكلمون المحاسبون الذين لهم القدر ، إما أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر؛ يا ليتني كنت تراباً ، ولا يعمل فيه { ندعو } لأنه مضاف إليه ، ويحتمل أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي } إلى قوله { ومن كان } . وقرأ الجمهور « ندعو » بنون العظمة ، وقرأ مجاهد « يدعو » ، بالياء على معنى يدعو الله ورويت عن عاصم .

وقرأ الحسن « يُدعو » بضم الياء وسكون الواو ، وأصلها يدعى ولكنها لغة لبعض العرب ، يقلبون هذه الألف واواً ، فيقولون افعو حبلو ، ذكرها أبو الفتح وأبو علي في ترجمة أعمى بعد وقرأ الحسن : « كل » بالرفع ، على معنى يدعى كل ، وذكر أبو عمرو الداني عن الحسن ، أنه قرأ « يدعى كل » { أناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وقوله { بإمامهم } يحتمل أن يريد باسم إمامهم ، ويحتمل أن يريد مع إمامهم ، فعلى التأويل الأول : يقال يا أمة محمد ، ويا أتباع فرعون ، ونحو هذا ، وعلى التأويل الثاني : تجيء كل أمة معها إمامها ، من هاد أو مضل ، واختلف المفسرون في « الإمام » ، فقال مجاهد وقتادة : نبيهم ، وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليهم ، وقال ابن عباس والحسن : كتابهم الذي فيه أعمالهم ، وقالت فرقة : متبعهم ، من هاد أو مضل ، ولفظة « الإمام » تعم هذا كله ، لأن الإمام هو ما يؤتم به ويهتدي به في المقصد ، ومنه قيل لخيط البناء إمام ، قال الشاعر يصف قدحاً : [ الطويل ]
وقومته حتى إذا تم واستوى ... كمخة ساق أو كمتن إمام
ومنه قيل للطريق إمام ، لأنه يؤتم به في المقاصد حتى ينهي إلى المراد وقوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } حقيقة في أن يوم القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الأيمان لأهل الإيمان ، وفي الشمائل لأهل الكفر ، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد ، فسيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار ، وقوله { يقرؤون كتابهم } عبارة عن السرور بها أي يرددنها ويتأملونها ، وقوله { ولا يظلمون فتيلاً } أي ولا أقل ولا أكثر ، فهذا هو مفهوم الخطاب حكم المسكوت عنه كحكم المذكور . كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] وكقوله { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] وهذا كثير ومعنى الآية : أنهم لا يبخسون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئاً ، و « الفتيل » هو الخيط الذي في شق نواة التمرة يضرب به المثل في القلة وتفاهة القدر ، وقوله { ومن كان } ، الآية ، قال محمد بن أبي موسى : الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله { ولقد كرمنا بني آدم } أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها ، فهو في أمور الآخرة وشأنها { أعمى } .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل { أعمى } الثاني أن يكون بمنزلة الأول ، على أنه تشبيه بأعمى البصر ، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل ، أي أشد عمى ، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني ، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد : الإشارة بهذه إلى الدنيا ، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى؛ إما أن يكون على حذف مضاف ، أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون : فهو في يوم القيامة أعمى ، على معنى أنه حيران ، لا يتوجه له صواب ، ولا يلوح له نجح ، قال مجاهد « فهو في الآخرة أعمى » عن حجته .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن الإشارة ب { هذه } إلى الدنيا ، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله ، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى ، لأنه قد باشر الخيبة ، ورأى مخايل العذاب ، وبهذا التأويل ، تكون معادلة للتي قبلها ، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه ، وإذا جعلنا قوله { في الآخرة } بمعنى في شأن الآخرة ، لم تطرد المعادلة بين الآيتين . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : « أعمى » في الموضعين ، بغير إمالة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة ، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني ، وتأوله بمعنى أشد عمى ، ولذلك لم يمله ، قال أبو علي : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أعمى } ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا ، فليس يتم إلا في قولنا من كذا ، فهو إذاً ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل قوله عطفاً عليه { وأضل سبيلاً } فإنما عطف { أضل } الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به ، وإنما جعله في الآخرة { أضل سبيلا } ، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو ، وهو في الآخرة ، لا يمكنه ذلك ، فهو { أضل سبيلاً } ، وأشد حيرة ، وأقرب إلى العذاب ، وقول سيبويه رحمه الله : لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه ، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه ، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ، وذكر مكي في هذه الآية ، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال ، والله المعين . وقوله { وإن كادوا ليفتنونك } الآية ، { إن } هذه عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة ، واللام في قوله { ليفتنونك } لام تأكيد ، و { إن } هذه عند الفراء بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا والضمير في قوله { كادوا } قيل هو لقريش وقيل لثقيف ، فأما لقريش ، فقال ابن جبير ومجاهد : نزلت الآية لأنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ندعك تستلم الحجر الأسود حى تمس أيضاً أوثاننا على معنى التشرع بذلك ، قال الطبري وغيره : فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لهم ذلك ، وقلبه منكر فنزلت الآية في ذلك قال الزجاج : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه « وما علي أن أفعل لهم ذلك والله تعالى يعلم ما في نفسي » وقال ، ابن إسحاق وغيره ، إنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه ، وقالوا له : أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك ، فنزلت الآية في ذلك فهي في معنى قوله تعالى :

{ ودّوا لو تدهن فيدهنون } [ القلم : 9 ] . وحكى الزجاج أن الآية قيل إنها فيما أرادوه من طرد فقراء أصحابه ، وأما لثقيف ، فقال ابن عباس وغيره : لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات ، وقالوا إنا نريد أن نأخذ ما يهدى لنا ، ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب ، فقل : أوحى الله ذلك إلي ، فنزلت الآية في ذلك ، ويلزم قائل هذا القول أن يجعل الآية مدنية ، وقد روي ذلك ، وروى قائلو الأقوال الأخر أنها مكية .
قال القاضي أبو محمد : وجميع ما أريد من النبي صلى الله عليه وسلم بحسب هذا الاختلاف قد أوحى الله إليه خلافه ، إما في معجز وإما في غير معجز ، وفعله هو أن لو وقع افتراء على الله إذ أفعاله وأقواله إنما هي كلها شرع . وقوله { وإذاً لاتخذوك خليلاً } توقيف على ما نجاه الله منه من مخالفة الكفار والولاية لهم ، وقوله { لولا أن ثبتناك } الآية ، تعديد نعمة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » و « الركون » شد الظهر إلى الأمر أو الحزم على جهة السكون إليه ، كما يفعل الإنسان بالركن من الجدران ومنه قوله تعالى حكاية . { أو آوي إلى ركن شديد } [ هود : 80 ] ، وقرأ الجمهور « تركَن » بفتح الكاف ، وقرأ ابن مصرف وقتادة وعبد الله بن أبي إسحاق « تركُن » بضم الكاف ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركن ، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم طمعاً منه في استئلافهم ، وذهب ابن الأنباري إلى أن معناه لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت ، ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفي الهم بذلك النبي عليه السلام ، فحمل اللفظ ما لا يحتمل ، وقوله { شيئاً قليلاً } يبطل ذلك ، وهذا الهم من النبي عليه السلام إنما كانت خطرة مما لا يمكن دفعه ، ولذلك قيل { كدت } ، وهي تعطي أنه لم يقع ركون ، ثم قيل { شيئاً قليلاً } إذ كانت المقاربة التي تتضمنها { كدت } قليلة خطرة لم تتأكد في النفس ، وهذا الهمّ هو كهمّ يوسف عليه السلام ، والقول فيهما واحد وقوله { إذاً لأذقناك } الآية ، يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابن الأنباري ، وقوله { ضعف الحياة وضعف الممات } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات .
قال القاضي أبو محمد : على معنى أن ما يستحقه هذا المذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه لك ، وهذا التضعيف شائع مع النبي عليه السلام في أجره ، وفي ألمه وعقاب أزواجه ، وباقي الآية بين .

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)

قال حضرمي الضمير في { كادوا } ليهود المدينة وناحيتها ، كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء بالشام ، ولكنك تخاف الروم ، فإن كنت نبياً ، فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء ، فنزلت الآية في ذلك ، وأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرج لم يلبثهم بعده { إلا قليلاً } ، وحكى النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بسبب قولهم ، وعسكر بذي الحليفة ، وأقام ينتظر أصحابه ، فنزلت الآية عليه ، فرجع ، وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة ، وقالت فرقة الضمير في { كادوا } هو لقريش ، وحكى الزجاج أن « استفزازهم » هو ما كانوا أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله ، و { الأرض } على هذا عامة في الدنيا ، كأنه قال { ليخرجوك } من الدنيا ، وعلى سائر الأقوال هي أرض مخصوصة ، إما مكة وإما المدينة ، كما قال تعالى { أو ينفوا من الأرض } [ المائدة : 33 ] . فإنما معناه من الأرض التي فيها تصرفهم وتمعسهم ، وقال ابن عباس وقتادة : واستفزاز قريش هو ما كانوا ذهبوا إليه من إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، كما ذهبوا قبل إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية ، وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار وغير ذلك ، ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه { إلا قليلاً } يوم بدر ، وقال مجاهد ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها ، لأنه لما أراد الله استبقاء قريش وأن لا يستأصلها ، أذن لرسوله بالهجرة ، فخرج من الأرض بإذن الله لا يقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم ، قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا ، فذهب مجاهد رحمه الله إلى أن الضمير في { يلبثون } عام في جميعهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود « وإذاً لا يلبثوا » بحذف النون ، وإعمال { إذاً } ، وسائر القراء ألغوها وأثبتوا النون ، وقرأ عطاء بن أبي رباح « يُلَبّثون » بضم الياء وفتح اللام وشد الباء ، وروي مثله عن يعقوب إلا أنه كسر الباء ، وقرأ عطاء « بعدك إلا قليلاً » ، وقرأ الجمهور « خلفك » ، وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وحفص عن عاصم « خلافك » ، والمعنى واحد ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
عقب الرذاذ خلافها فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا
ومنه قوله تعالى : { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة : 81 ] ، على بعض تأويلاته أي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه اللفظة قد لزم حذف المضاف لأن التقدير في آياتنا خلاف خروجك ، وفي بيت الشاعر خلاف انبساط الشمس أو نحوه ، قال أبو علي : أصابوا هذه الظروف تضاف إلى الأسماء الأعيان التي ليس أحداثاً فلم يستحبوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم كما أنها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موضع النصب ، كقوله تعالى :

{ وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } [ الجن : 11 ] ، وقوله { يوم القيامة يفصل بينكم } [ الممتحنة : 3 ] ، وقوله { سنّة } نصب على المصدر ، وقال الفراء نصبه على حذف الخافض ، لأن المعنى كسنة ، فحذفت الكاف ونصب ويلزمه على هذا أن لا يقف على قوله { قليلاً } ، ومعنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب واستأصلها الهلاك فلم تلبث بعده إلا قليلاً ، وقوله { أقم الصلاة } الآية ، هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة ، فقال ابن عمرو وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : « دلوك الشمس » زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر ، و { غسق الليل } أشير به إلى المغرب والعشاء ، { وقرآن الفجر } أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أتاني جبريل { لدلوك الشمس } حين زالت فصلى بي الظهر » ، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس ، وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : « دلوك الشمس » غروبها ، والإشارة بذلك إلى المغرب ، و { غسق الليل } اجتماع ظلمته ، فالإشارة إلى العتمة ، { وقرآن الفجر } صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا إلى الظهر والعصر ، والقول الأول أصوب لعمومه الصلوات ، وهما من جهة اللغة حسنان ، وذلك أن الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال ، وآخره هو الغروب ، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكاً ، لأنها في حالة ميل ، فذكر الله { الصلوات } التي في حالة « الدلوك » وعنده ، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في { غسق الليل } ، ومن الدلوك الذي هو الميل قول الأعرابي للحسن بن أبي الحسن أيدالك الرجل امرأته يريد أيميل بها إلى المطل في دينها فقال له الحسن نعم إذا كان ملفجاً ، أي عديماً ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدوالك
ومن ذلك قول الشاعر : [ الرجز ]
هذا مكان قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح
يروى براح بكسر الباء ، قال أبو عبيدة الأصمعي وأبو عمرو الشيباني ومعناه براحة الناظر يستكف بها أبداً لينظر كيف ميلها وما بقي لها ، وهذا نحو قول الحجاج : [ الرجز ]

والشمس قد كادت تكون دنفاً ... دفعها بالراح كي تزحلقا
وذكر الطبري عن ابن مسعود أنه قال : دلكت براح يعني براح مكاناً . قال : فإن كان هذا من تفسير ابن مسعود فهو أعلم ، وإن كان من كلام راوٍ فأهل الغريب أعلم بذلك ، ويروى أن البيت الأول : « غدوة حتى هلكت بَراح » ، بفتح الباء على وزن قطام وحذام ، وهو اسم من أسماء الشمس ، وغسق الليل اجتماعه وتكاثف ظلمته ، وقال الشاعر : [ المديد ]
آب هذا الليل إذ غسقا ... وقال ابن عباس : { غسق الليل } بدؤه ، ونصب قوله { وقرآن } بفعل مضمر تقديره واقرأ قرآن ، ويصح أن ينصب عطفاً على الصلاة ، أي « وأقم قرآن الفجر » ، وعبر عن صلاة الصبح خاصة ب « القرآن » لأن القرآن هو عظمها ، إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، ويصح أن ينصب قوله { وقرآن } على الإغراء وقوله { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } معناه ليشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث المشهور من قوله عليه السلام : « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر » ، الحديث بطوله من رواية أبي هريرة وغيره ، وعلى القول بذلك مضى الجمهور ، وذكر الطبري حديثاً عن ابن عسكر من طريق أبي الدرداء ، في قوله { كان مشهوداً } قال محمد بن سهل بن عسكر يشهده الله وملائكته ، وذكر في ذلك الحديث أن الله تعالى ينزل في آخر الليل ، ونحو هذا مما ليس بالقوي ، وقوله { ومن الليل } { من } للتبعيض ، وقتاً من الليل أي وقم وقتاً ، والضمير في { به } عائد على هذا المقدر ويحتمل أن يعود على « القرآن » وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق ، لكن جرى مضافاً إلى الفجر ، و { فتهجد } معناه : فاطرح الهجود عنك ، والهجود النوم ، يقال هجُد يهجُد بضم الجيم هجوداً إذا نام ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
ألا طرقتنا والرفاق هجود ... فباتت بعلات النوال تجود
ومنه قول الحطيئة : [ الطويل ]
فحياك ود ما هداك لفتية ... وخوص بأعلى ذي طوالة هجد
وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث ، ومثله { فظلتم تفكهون } [ الواقعة : 65 ] معناه تندمون ، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي انبساط النفس وسرورها ، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك ، فالمعنى وقتاً من الليل اسهر به في صلاة وقراءة ، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود : « التهجد » بعد نومة ، وقال الحجاج بن عمرو إنما « التهجد » بعد رقدة ، وقال الحسن : « التهجد » ما كان بعد العشاء الآخرة ، وقوله { نافلة لك } قال ابن عباس وغيره : معناه زيادة لك في الفرض ، قالوا : وكان قيام الليل فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل ، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله { أقم الصلوات } الآية . وقال مجاهد : إنما هي { نافلة } للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم ، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته ، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث ، وإما أن تحط بها خطاياهم ، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة ، كنصراني يسلم وصبي يحتلم ، وضعف الطبري قول مجاهد . وقوله { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } عزة من الله عز وجل لرسوله ، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه السلام ، والحديث بطوله في البخاري ومسلم ، فلذلك اختصرناه ، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال : « أنا سيد ، ولد آدم ولا فخر » و { عسى } من الله واجبة ، و { مقاماً } نصب على الظرف ، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى ، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف ، فيذهب لذلك ، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار ، فمعناه الاقتضاب والاختصار . لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف ، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار ، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء ، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي » .
قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها ، أو يقال إن كل مقام منها محمود ، قال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات ، شفاعة العامة ، وشفاعة السبق إلى الجنة ، وشفاعة في أهل الكبائر ، والمشهور أنهما شفاعتان فقط ، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : « المقام المحمود » هو أن الله عز وجل يجلس محمداً معه على عرشه ، وروت في ذلك حديثاً ، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول ، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ، ولا ينكر مع ذلك أن يروى ، والعلم يتأوله ، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا .
قال القاضي أبو محمد : من أنكر جوازه على تأويله .

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة ، فهي على أتم عموم ، معناه { ربِّ } أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري ، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص ، ثم اختلفوا في تعيينه ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة : أراد { أدخلني } المدينة { وأخرجني } من مكة ، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع ، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم ، اللهم إن مكان الدخول والقرار هو الأهم ، وقال أبو صالح ومجاهد : { أدخلني } في أمر تبليغ الشرع { وأخرجني } منه بالأداء التام ، وقال ابن عباس : الإدخال بالموت في القبر والإخراج البعث ، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله ، أصوب ، وقرأ الجمهور « مُدخل » « ومُخرج » بضم الميم ، فهو جرى على { أدخلني وأخرجني } وقرأ أبو حيوة وقتادة وحميد ، « مَدخل » « ومَخرج » بفتح الميم ، فليس بجار على { أدخلني } ولكن التقدير « أدخلني فأدخل مدخل » ، لأنه إنما يجري على دخل ، و « الصدق » هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح ، كما تقول رجل صدق أي جامع للمحاسن ، وقوله { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } قال مجاهد وغيره : حجة ، يريد تنصرني ببيانها على الكفار ، وقال الحسن وقتادة يريد سعة ورياسة وسيفاً ينصر دين الله ، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر الدين ، فروي أن الله وعده بذلك ثم أنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته ، وقوله { وقل جاء الحق } الآية ، قال قتادة : { الحق } القرآن ، و { الباطل } الشيطان ، وقالت فرقة : { الحق } الإيمان ، { والباطل } الكفر ، وقال ابن جريج : { الحق } الجهاد ، { والباطل } الشرك ، وقيل غير ذلك ، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة ، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما نطوى فيه ، { وزهق } الكفر بجميع ما انطوى فيه ، و { الباطل } كل ما لا تنال به غاية نافعة . وقوله { كان زهوقاً } ليست { كان } إشارة إلى زمن مضى ، بل المعنى كان وهو يكون ، وهذا كقولك كان الله عليماً قادراً ونحو هذا ، وهذه الآية نزلت بمكة ، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها ، وقرأ الجمهور « وننزل » بالنون ، وقرأ مجاهد « وينزل » بالياء خفيفة ، ورواها المروزي عن حفص ، وقوله { من القرآن } يصح أن تكون { من } لابتداء الغاية ، ويصح أن تكون لبيان الجنس كأنه قال وننزل ما فيه شفاء { من القرآن } وأنكر بعض المتأولين أن يكون { من } للتبعيض لأنه تحفظ من يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه .

قال القاضي أبو محمد : وليس يلزمه هذا بل يصح أن يكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض ، فكأنه قال { وننزل من القرآن } شيئاً شيئاً ما فيه كله { شفاء } ، واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى المقررة لشرعه ، ويحتمل أن يراد ب « الشفاء » نفعه من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه ، وكونه رحمته ظاهر ، وقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } معنى أنه عليهم عمى ، إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن . وقوله { وإذا أنعمنا } الآية ، { الإنسان } في هذه الآية لا يراد به العموم ، وإنما يراد به بعضه وهم الكفرة ، وهذا كما تقول عند غضب : لا خير في الأصدقاء ولا أمانة في الناس ، فأنت تعم مبالغة ، ومرادك البعض ، وهذا بحسب ذكر الظالمين ، و « الخسار » في الآية قبل فاتصل ذكر الكفرة ، ويحتمل أن يكون { الإنسان } في هذه الآية عاماً للجنس ، على معنى أن هذا الخلق الذميم في سجيته ، فالكافر يبالغ في الإعراض والعاصي يأخذ بحظه منه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤمن : « فأعرض فأعرض الله عنه » ، ومعنى { أعرض } ولانا عرضه ، ونأى أي بعد ، وهذه استعارة ، وذلك أنه يفعل أفعال المعرض النائي في تركه الإيمان بالله وشكر نعمه عليه ، وقرأ ابن عامر وحده « وناء » ، ومعناه نهض أي متباعداً ، هذا قول طائفة ، وقالت أخرى هو قلب الهمزة بعد الألف من { نأى } بعينه وهي لغة كرأى وراء ، ومن هذه اللفظة ، قول الشاعر في صفة رام : [ الرجز ]
حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوركاً على شماله ، والذي عندي أن « ناء ونأى » فعلان متباينان ، وناء بجانبه عبارة عن التحيز والاستبداد ، ونأى عبارة عن البعد والفراق ، ثم وصف الكفرة بأنهم إذا مسهم شر من مرض أو مصيبة في مال أو غير ذلك يئسوا من حيث لا يؤمنون بالله ولا يرجون تصرف أقداره ، ثم قال عز وجل { قل } يا محمد { كل يعمل على شاكلته } أي على طريقته وبحسب نيته ومذهبه الذي يشبهه وهو شكله ومثل له ، وهذه الآية تدل دلالة ما على أن { الإنسان } أولاً لم يرد به العموم ، أي إن الكفار بهذه الصفات ، والمؤمنون بخلافها ، وكل منهم يعمل على ما يليق به ، والرب تعالى أعلم بالمهتدي ، وقال مجاهد : { على شاكلته } معناه على طبيعته ، وقال أيضاً معناه على حدته ، وقال ابن عباس : معناه على ناحيته ، وقال قتادة : معناه على ناحيته وعلى ما ينوي ، وقال ابن زيد : معناه على دينه ، وأرجح هذه العبارات قول ابن عباس وقتادة وفي قوله { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } توعد بين

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)

الضمير في { يسألونك } قيل هو لليهود وإن الآية مدنية ، وروى عبد الله بن مسعود ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر على حرث بالمدينة ، ويروى على خرب ، وإذا فيه جماعة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، ولا يطلع عليه أحداً من عباده ، قال ابن مسعود : وقال بعضهم : لا تسألوه لئلا يأتي في بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته ، قال فسألوه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عسيب فظننت أنه يوحى إليه ، ثم تلا عليهم الآية ، وقيل الآية مكية والضمير لقريش ، وذلك أنهم قالوا : نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود ، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، فقال اليهود لهما : جرباه بثلاث مسائل ، سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب ، وإن سكت عن الروح فهو نبي ، فسألته قريش عن الروح ، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم « غداً أخبركم به » ، ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوماً ، معاتبة على وعده لهم دون استثناء ، ثم نزلت هذه الآية ، واختلف الناس في { الروح } المسؤول عن أي روح هو؟ فقالت فرقة هي الجمهور : وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي؟ ف { الروح } اسم جنس على هذا ، وهذا هو الصواب ، وهو المشكل الذي لا تفسير له ، وقال قتادة { الروح } المسؤول عنه جبريل ، قال وكان ابن عباس يكتمه ، وقالت فرقة عيسى ابن مريم ، وقال علي بن أبي طالب : « ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة » ، ذكره الطبري ، وما أظن هذا القول يصح عن علي ، وقالت فرقة { الروح } القرآن ، وهذه كلها أقوال مفسرة ، والأول أظهرها وأصوبها ، وقوله { من أمر ربي } يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون « الأمر » اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها ، فهي إضافة خلق إلى خالق ، والثاني أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمراً بالكون فكان . وقرأ ابن مسعود والأعمش « وما أوتوا » ، ورواها ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الجمهور « وما أوتيتم » ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط ، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود ، وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم ، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ، وقالت فرقة : العالم كله ، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له { قل الروح } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل ، ويحتمل أيضاً أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جداً ، كما قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام ، « ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر » ، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر ، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه ، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور ، أي إما لا ينقص علمنا شيئاً من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص ، إذ نقصه غير محسوس ، فكأنه معدوم ، فهذا احتمال ، ولكن فيه نظر ، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلاً؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث « كلاًّ » يعني أن المراد ب { أوتيتم } جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أو قومك؟ فقال « كلاًّ » ، وفي هذا المعنى نزلت

{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } [ لقمان : 27 ] ، حكى ذلك الطبري رحمه الله ، وقوله تعالى : { ولئن شئنا } الآية فيها شدة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي عتاب على قوله غداً أعلمكم ، فأمر بأن يقول إن الروح من أمر ربه فيذعن بالتسليم لله في أنه يعلم بما شاء ، ويمسك عن عباده ما شاء ، ثم قيل له { وما أوتيتم } أنت يا محمد وجميع الخلائق { من العلم إلا قليلاً } ، فالله يعلم من علمه بما شاء ويدع ما شاء ، ولئن شاء لذهب بالوحي الذي أتاك ، ثم لا ناصر لك منه ، أي فليس بعظيم أن لا تجيء بتفسير في الروح الذي أردت أن تفسره للناس ووعدتهم بذلك ، وروى ابن مسعود أنه ستخرج ريح حمراء من قبل الشام فتزيل القرآن من المصاحف ومن الصدور وتذهب به ، ثم يتلو هذه الآية . أراد ابن مسعود بتلاوة الآية أن يبدي أن الأمر جائز الوقوع ليظهر مصداق خبره من كتاب الله تعالى .

و « الوكيل » القائم بالأمر في الانتصار أو المخاصمة ونحو ذلك من وجود النفع ، وقوله { إلا رحمة } استثناء منقطع ، أي لكن رحمة من ربك تمسك ذلك عليك ، وهذا الاستثناء المنقطع يخصص تخصيصاً ما ، وليس كالمتصل لأن المتصل يخصص من الجنس أو الجملة ، والمنقطع يخصص أجنبياً من ذلك ، ولا ينكر وقوع المنقطع في القرآن إلا أعجمي ، وقد حكي ذلك عن ابن خويز منداد ، ثم عدد عليه عز وجل كبر فضله في اختصاصه بالنبوة وحمايته من المشركين إلى غير ذلك مما لا يحصى . وقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية ، سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن ، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز ، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنساً وجناً على ذلك لم يقدروا عليه ، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل ، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى ، وقد ذكرت هذه المسألة في صدر هذا الديوان ، وقوله { لا يأتون بمثله } في موضع رفع ، و { لا } متلقية قسماً ، واللام في قوله { لئن } مؤذنه غير لازمة قد تحذف أحياناً ، وقد تجيء هذه اللام مؤكدة فقط ، ويجيء الفعل المنفي مجزوماً ، وهذا اعتماد على الشرط ومنه قول الأعمش : [ البسيط ]
لئن منيت بنا عن غر معركة ... لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل
و « الظهير » المعين ، ومنه قوله عز وجل { وإن تظاهرا عليه } [ التحريم : 4 ] الآية : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ، ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة ، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ، ولكل حصل علم قطعي ، لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي وأعماله مشاهدة علم ضرورة وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر ، فحصل للجميع القطع ، لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير في شعر ذي الرمة في قوله : يُعد الناسبون إلى تميم .
الأبيات كلها ، وألا ترى قصة جرير في نوادره مع الفرزدق : في قول الفرزدق : على م تلفتين ، وفي قوله : تلفت أنها تحت ابن قين .
وألا ترى إلى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى استدلال الآخر على البعث بقوله { حتى زرتم المقابر } [ التكاثر : 2 ] فقال إن الزيارة تقتضي الانصراف ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى : وأنكرتني وما كان الذي نكرت ، ومنه قول الأعرابي للأصمعي : من أحوج الكريم إلى أن يقسم؟ ومن فهمهم أنهم ببدائههم يأتون بكلمة منثورة تفضل المنقح من الشعر ، وأمثلة ذلك محفوظة ، ومن ذلك أجوبتهم المسكتة إلى غير ذلك من براعتهم في الفصاحة ، وكونهم فيها النهاية ، كما كان السحر في زمن موسى ، والطب في زمن عيسى ، فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ المحاد منهم إلى السيف ، ورضي بالقتل والسبا وكشف الحرم ، وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة ، وكذلك التحدي بالعشر السور ، والتحدي بالسورة إنما وقع كله على حد واحد في النظم خاصة ، وقيد العشر بالافتراء لأنهم ذكروا أن القرآن مفترى ، فدعاهم بعقب ذكر ذلك إلى الإتيان بعشر سور مفتريات ، ولم يذكر الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل ، بل قال

{ إن كنتم في ريب } [ البقرة : 23 ] على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف ، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق ، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات ، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)

هذه الآية تنبه على فضل الله في القرآن على العالم ، وتوبيخ للكفار منهم على قبيح فعلهم ، وتصريف القول هو ترديد البيان عن المعنى ، وقرأ الجمهور « صرّفنا » بتشديد الراء ، وقرأ الحسن « صرَفنا » بفتح الراء خفيفة ، وقوله { من كل مثل } يجوز أن تكون { من } لابتداء الغاية ، ويكون المفعول ب { صرفنا } مقدراً تقديره « ولقد صرفنا في هذا القرآن التنبيه والعبر من كل مثل ضربناه » ، ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة ، التقدير « ولقد صرفنا كل مثل » ، وهذا كقوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] . وقوله { فأبى } عبارة عن تكسب الكفار الكفر وإعراضهم عن الإيمان ، وفي العبارة يأبى تغليظ ، والكفر بالخلق والاختراع هو من فعل الله تعالى ، وبالتكسب والدؤوب هو من الإنسان ، و { كفوراً } مصدر كالخروج ، وقوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك } الآية ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر « حتى تُفجّر » ، وقرأ عاصم وحمزة الكسائي حتى « تَفجُر » بفتح التاء وضم الجيم ، وفي القرآن { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] ، وانفجر مطاوع فجر فهذا مما يقوي القراءة الثانية ، وأما الأولى فتقتضي المبالغة في التفجير . و « الينبوع » الماء النابع ، وهي صفة مبالغة إنما تقع للماء الكثير ، وطلبت قريش هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وإياها عنوا ب { الأرض } ، وإنما يراد بإطلاق لفظة { الأرض } هنا الأرض التي يكون فيها المعنى المتكلم فيه ، كقوله { أو ينفوا من الأرض } [ المائدة : 33 ] فإنما يريد من أرض تصرفهم وقطعهم السبل ومعاشهم ، وكذلك أيضاً اقتراحهم الجنة إنما هو بمكة لامتناع ذلك فيها ، وإلا ففي سائر البلاد كان ذلك يمكنه وإنما طلبوه بأمر إلهي في ذلك الموضع الجدب ، وقرأ الجمهور « جنة » ، وقرأ « حبة » المهدوي ، وقوله { فتفجّر } . تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، كغلقت الأبواب ، و { خلالها } ظرف ، ومعناه أثناءها وفي داخلها ، وروي في قول هذه المقالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث طويل ، مقتضاه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وعبد الله بن أبي أمية ، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وسادتها ، اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك ، أو يجمعوا له كثيراً من المال إن أراد الغنى ، أو يطبوه إن كان به داء ونحو هذا من الأقاويل ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك إلى الله ، وقال « إنما جئتكم عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم ، فإن سمعتم وأطعتم فحسن ، وإلا صبرت لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء » ، فقالوا له حينئذ فإن كان ما تزعمه حقاً ففجر ينبوعاً ونؤمن لك ، ولتكن لك جنة إلى غير ذلك مما كلفوه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« هذا كله إلى الله ، ولا يلزمني هذا ولا غيره ، وإنما أنا مستسلم لأمر الله » ، هذا هو معنى الحديث . وفي الألفاظ اختلاف وروايات متشعبة يطول سوق جميعها ، فاختصرت لذلك . وقوله تعالى : { أو تسقط السماء } الآية ، قرأ الجمهور « أو تُسقط » بضم التاء ، « السماءَ » نصب ، وقرأ مجاهد « أو تَسقط السماءُ » برفع « السماءُ » وإسناد الفعل إليها ، وقوله { كما زعمت } إشارة إلى ما تلي عليهم قبل ذلك في قوله عز وجل { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } [ سبأ : 9 ] ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي « كسْفاً » بسكون السين إلا في الروم ، فإنهم حركوها ، ومعناه قطعاً واحداً ، قال مجاهد : السماء جميعاً وتقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، ف « الكسَف » بفتح السين المصدر ، والكسف الشيء المقطوع ، قال الزجاج : المعنى أو تسقط السماء علينا قطعاً ، واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته .
قال القاضي أبو محمد : وليس بمعروف في دواوين اللغة كسف بمعنى غطى ، وإنما هو بمعنى قطع ، وكأن كسوف الشمس والقمر قطع منهما ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر « كسَفاً » بفتح السين أي قطعاً جمع كسفه ، وقوله { قبيلاً } قيل معناه مقابلة وعياناً ، وقيل معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك ، ومنه القبالة وهي الضمان والقبيل ، والمتقبل الضامن ، وقيل معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا ، وقرأ الأعرج « قبلاً » وقيل بمعنى المقابلة .

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)

قال المفسرون : « الزخرف » الذهب في هذا الموضع ، والزخرف ما تزين به ، كان بذهب أو غيره ، ومنه { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } [ يونس : 24 ] وفي قراءة عبد الله بن مسعود « أو يكون لك بيت من ذهب » ، قال مجاهد ما كنا نعرف الزخرف حتى قرأنا في حرف عبد الله « من ذهب » ، وقوله { من السماء } يريد في الهواء علواً ، والعرب تسمي الهواء علواً سماء لأنه في حيز السمو . ويحتمل أن يريدوا السماء المعروفة ، وهو أظهر لأنه أعلمهم أن إله الخلق فيها وأنه تأتيه خبرها ، و { ترقى } معناه تصعد ، والرقي الصعود ، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبد الله بن أبي أمية ، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا لا أؤمن لك حتى تأتي بكتاب أراك هابطاً به فيه من الله عز وجل إلى عبد الله بن أبي أمية ، وروي أن جماعتهم طلبت هذا النحو منه ، فأمره الله عز وجل أن يقول { سبحان ربي } أي تنزيهاً له من الإتيان مع الملائكة قبيلاً ، ومن أن يخاطبكم بكتاب كما أردتم ، ومن أن اقترح أن عليه هذه الأشياء ، وهل أنا إلا بشر منكم ، أرسلت إليكم بالشريعة ، فإنما علي التبليغ فقط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر « قال سبحان ربي » على معنى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سبح عند قولهم ، وقوله تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا } هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبي عليه السلام والبشر ، كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان ، ما نمنع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يستند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب ، فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما { لو كان في الأرض ملائكة } يسكنونها { مطمئنين } ، أي وادعين فيها مقيمين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طباعهم من رؤيته ، ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما أراد الله جري أحوالهم على معتادها .

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)

روى البخاري أن الملأ من قريش الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المقالات التي تقدم ذكرها من عرض الملك عليه والغنى وغير ذلك ، قالوا له في آخر قولهم : فلتجىء معك طائفة من الملائكة تشهد لك بصدقك في نبوتك ، قال المهدوي : روي أنهم قالوا له : فمن يشهد لك؟ .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى أقوالهم إنما هو طلب شهادة دون أن يذكروها ، ففي ذلك نزلت الآية ، أي الله يشهد بيني وبينكم الذي له الخبر والبصر لجميعنا صادقنا وكاذبنا ، ثم رد الأمر إلى خلق الله تعالى واختراعه الهدى والضلال في قلوب البشر ، أي ليس بيدي من أمركم أكثر من التبليغ ، وفي قوله { فلن تجد لهم أولياء من دونه } وعيد ، ثم أخبر عز وجل أنهم يحشرون على الوجوه { عمياً وبكماً وصماً } ، وهذا قد اختلف فيه ، فقيل هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينصفونه بحجة ، وقيل هي حقيقة كلها ، وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم ، فعند رد ذلك إليهم يرون النار ويسمعون زفيرها ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك ، ويقال للمنصرف عن أمر خائفاً مهموماً : انصرف على وجهه ، ويقال للبعير المتفه كأنما يمشي على وجهه ، ومن قال ذلك في الآية حقيقة ، قال : أقدرهم الله على النقلة على الوجوه ، كما أقدر في الدنيا على النقلة على الأقدام ، وفي هذا المعنى حديث قيل يا رسول الله : كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال : « أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه » ؟ . قال قتادة : بلى وعزة ربنا ، وقوله { كلما خبت } أي كلما فرغت من إحراقهم فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ، ثم تثور ، فتلك « زيادة السعير » قاله ابن عباس ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور ، وخبت النار معناه سكن اللهيب والجمر على حاله ، وخمدت معناه سكن الجمر وضعف ، وهمدت معناه طفيت جملة ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الهزج ]
أمن زينب ذي النار قبيل الصبح ما تخبو ... إذا ما خبت يلقى عليها المندل الرطب
ومنه قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
وسطة كاليراع أو سرج المج ... دل طوراً تخبو وطوراً تثير
ومنه قول القطامي :
فتخبوا ساعة وتهب ساعا ... وقوله { ذلك جزاؤهم } الآية ، الإشارة إلى الوعيد المتقدم بجهنم ، وقوله { بآياتنا } يعم الدلائل والحجج التي جاء بها محمد عليه السلام ، ويعم آيات القرآن وما تضمن من خبر وأمر ونهي ، ثم عظم عليهم أمر إنكار البعث ، وخصه بالذكر مع كونه في عموم الكفر بآيات القرآن ، ووجه تخصيصه التعظيم له والتنبيه على خطارة الكفر في إنكاره ، وقد تقدم اختلاف القرآء في الاستفهامين في غير هذا الموضع ، و « الرفات » بقية الشيء التي قد أصارها البلى إلى حال التراب ، و « البعث » تحريك الشيء الساكن ، وهذا الاستفهام منهم هو على جهة الإنكار والاستبعاد للحال بزعمهم .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)

هذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من العبث ، وذلك أنهم قرروا على خلق الله تعالى واختراعه لهذه الجملة التي البشر جزء منها ، فهم لا ينكرون ذلك ، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلقه للكل وإخراجه من خمول العدم وينكرون إعادته للبعض؟ فحصل الأمر في حيز الجواز ، وأخبر الصادق الذي قامت دلائل معجزاته بوقوع ذلك الجائز ، و « الرؤية » في هذه الآية رؤية القلب ، و « الأجل » هنا يحتمل أن يريد به القيامة ويحتمل أن يريد أجل الموت ، و « الأجل » على هذا التأويل اسم جنس لأنه وضعه موضع الآجال ، ومقصد هذا الكلام بيان قدرة الله عز وجل وملكه لخلقه ، وبتقرير ذلك يقوى جواز بعثه لهم حين يشاء لا إله إلا هو ، وقوله { فأبى } عبارة عن تكسبهم وجنوحهم ، وقد مضى تفسير هذه الآيات آنفاً ، وقوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون } الآية حكم لو أن يليها الفعل إما مظهراً وإما مضمراً يفسره الظاهر بعد ذلك ، فالتقدير هنا ، قل لو تملكون خزائن ، ف { أنتم } رفع على تبع الضمير ، و « الرحمة » في هذه الآية المال والنعم التي تصرف في الأرزاق ، ومن هذا سميت { رحمة } ، و { الإنفاق } المعروف ذهاب المال وهو مؤد إلى الفقر ، فكأن المعنى خشية عاقبة الإنفاق ، وقال بعض اللغويين أنفق الرجل معناه افتقر كما تقول أترب وأقتر ، وقوله { وكان الإنسان فتوراً } أي ممسكاً ، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى ، فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر ، وكذلك يظن أن قدرة الله تعالى تقف دون البعث ، والأمر ليس كذلك ، بل قدرته لا تتناهى ، فهو مخترع من الخلق ما يشاء ، ويخترع من الرحمة الأرزاق ، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته ، وبهذا النظر تتلبس هذه الآية بما قبلها ، والله ولي التوفيق برحمته ، ومن الإقتار قول أبي داود : [ الخفيف ]
لا أعد الإقتار عدماً ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
وقوله تعالى : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } اتفق المتأولون والرواة أن الآيات الخمس التي في سورة الأعراف هي من هذه التسع ، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، واختلفوا في الأربع ، فقال ابن عباس : هي يده ولسانه حين انحلت عقدته ، وعصاه والبحر ، وقال محمد بن كعب القرطبي : هي البحر والعصا والطمسة والحجر ، وقال سألني عن ذلك عمر بن عبد العزيز فأخبرته ، فقال لي : وما الطمسة؟ فقلت دعا موسى وآمن هارون فطمس الله أموالهم وردها حجارة ، فقال عمر : وهل يكون الفقه إلا هكذا؟ ثم دعا بخريطة فيها غرائب كانت لعبد العزيز بن مروان ، جمعها بمصر ، فاستخرج منها الحوزة والبيضة والعدسة وهي كلها حجر كانت من بقايا أموال آل فرعون ، وقال الضحاك : هي إلقاء العصا مرتين ، واليد ، وعقدة لسانه ، وقال عكرمة ومطر الوراق ، والشعبي : هي العصا واليد والسنون ونقص الثمرات ، وقال الحسن : هي العصا في كونها ثعباناً وتلقف العصا ما يأفكون ، وقال ابن عباس : هي السنون في بواديهم ، ونقص الثمرات في قراهم ، واليد ، والعصا ، وروى مطرف عن مالك أنها العصا ، واليد ، والجبل إذ نتق ، والبحر ، وروى ابن وهب عنه مكان البحر الحجر ، والذي يلزم من الآية أن الله تعالى خص من آيات موسى إذ هي كثيرة جداً تنيف على أربع وعشرين ، تسعاً بالذكر ووصفها بالبيان ولم يعينها ، واختلف العلماء في تعيينها بحسب اجتهادهم في بيانها أو روايتهم التوقيف في ذلك ، وقالت فرقة آيات موسى إنما أريد بها آيات التوراة التي هي أوامر ونواه ، روى في هذا صفوان بن عسال ، أن يهود المدينة قال لآخر : سر بنا إلى هذا النبي نسأله عن آيات موسى ، فقال له الآخر : لا تقل إنه نبي ، فإنه لو سمعك صار له أربع أعين ، قال : فسارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال

« هن أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرفوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تفروا يوم الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت » ، وقرأ الجمهور « فاسأل بني إسرائيل » وروي عن الكسائي « فسل » على لغة من قال سأل يسأل ، وهذا كله على معنى الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي اسأل معاصريك عما أعلمناك به من غيب القصة ، ثم قال { إذ جاءهم } يريد آباءهم ، وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم ، ويحتمل أن يريد { فاسأل بني إسرائيل } الأولين الذين جاءهم موسى وتكون إحالته إياه على سؤالهم بطلب إخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم نحو قوله تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } [ الزخرف : 45 ] وهذا كما تقول لمن تعظه : سل الأمم الخالية هل بقي منها مخلد؟ ونحو هذا مما يجعل النظر فيه مكان السؤال ، قال الحسن : سؤالك نظرك في القرآن وقرأ ابن عباس « فسأل بني إسرائيل » أي فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب ، وقوله { مسحوراً } اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة هو مفعول على بابه ، أي إنك قد سحرت ، فكلامك مختل ، وما تأتي به غير مستقيم ، وقال الطبري : هو مفعول بمعنى فاعل كما قال { حجاباً مستوراً } [ الإسراء : 45 ] وكما قالوا مشؤوم وميمون وإنما هو شايم ويامن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يتخرج إلى على النسب أي ذا سحر ملكته وعلمته ، فأنت تأتي بهذه الغرائب لذلك ، وهذه مخاطبة تنقص ، فيستقيم أن يكون { مسحوراً } مفعولاً على ظاهره ، وعلى أن يكون بمعنى ساحر يعارضنا ما حكي عنهم أنهم قالوا له على جهة المدح { يا أيها الساحر ادع لنا ربك } [ الزخرف : 49 ] فإما أن يكون القائلون هنالك ليس فيهم فرعون وإما أن يكون فيهم لكنه تنقل من تنقصه إلى تعظيمه ، وفي هذا نظر .

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنه قرأ « علمتُ » بتاء المتكلم مضمومة ، وقال ما علم عدو الله قط ، وإنما علم موسى ، وتتقوى هذه القراءة لمن تأول { مسحوراً } [ الإسراء : 101 ] على بابه ، فلما رماه فرعون بأنه قد سحر ففسد نظره وعقله وكلامه ، رد هو عليه بأنه يعلم آيات الله ، وأنه ليس بمسحور ، بل محرر لما يأتي به ، وهي قراءة الكسائي ، وقرأ الجمهور « لقد علمتَ » بتاء المخاطب مفتوحة ، فكأن موسى عليه السلام رماه بأنه يكفر عناداً ، ومن قال بوقوع الكفر عناداً فله تعلق بهذه الآية ، وجعلها كقوله عز وجل : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] ، وقد حكى الطبري ذلك عن ابن عباس ، ونحا إلى ذلك الزجاج ، وهي معرضة للاحتمال على أن يكون قول موسى عليه السلام إبلاغاً على فرعون في التوبيخ ، أي أنت بحال من يعلم هذا ، وهي من الوضوح بحيث تعلمها ، ولم يكن ذلك على جهة الخبر عن علم فرعون ، ومن يريد من الآية وقوع الكفر عناداً فإنما يجعل هذا خبراً من موسى عن علم فرعون ، والإشارة ب { هؤلاء } إلى التسع الآيات ، وقوله { بصائر } جمع بصيرة ، وهي الطريقة أي طرائق يهتدي بها ، وكذلك غلب على البصيرة أنها تستعمل في طريقة النفس في نظرها واعتقادها ، ونصب { بصائر } على الحال ، و « المثبور » المهلك ، قاله مجاهد ، وقال ابن عباس والضحاك هو المغلوب ، وقال ابن زيد هو المخبول ، وروي عن ابن عباس أنه فسره بالملعون ، وقال بعض العلماء : كان موسى عليه السلام في أول أمره يجزع ، ويؤمر بالقول اللين ، ويطلب الوزير ، فلما تقوت نفسه بقوى النبوءة ، تجلد وقابل فرعون بأكثر مما أمره به بحسب اجتهاده الجائر له ، قال ابن زيد : اجترأ موسى أن يقول له فوق ما أمره الله به ، وقالت فرقة بل « المثبور » المغلوب المختدع ، وما كان موسى عليه السلام ليكون لعاناً ، ومن اللفظة قول عبد الله بن الزبعرى : [ الخفيف ]
إذا جاري الشيطان في سنن الغ ... ي ومن مال ميله مثبورا
وقوله عز وجل { فأراد أن يستفزهم } الآية ، { يستفزهم } معناه يستخفهم ويقلعهم ، إما بقتل أو بإجلاء ، و { الأرض } أرض مصر ، وقد تقدم أنه متى ذكرت الأرض عموماً فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها ، وقد يحسن عمومها في بعض القصص .
قال القاضي أبو محمد : واقتضبت هذه الآية قصص موسى مع فرعون وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره ، وذلك طرفاه ، أراد فرعون غلبتهم وقتلهم وهذا كان بدء الأمر « فأغرقه » الله أغرق جنوده وهذا كان نهاية الأمر ، ثم ذكر تعالى أمر { بني إسرائيل } بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام ، و { وعد الآخرة } هو يوم القيامة ، و « اللفيف » الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض ، فليس ثم قبائل ولا انحياز ، قال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع ولا واحد له من لفظه ، وقال الطبري هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً و { لفيفاً } وفي هذا نظر فتأمله .

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)

الضمير في قوله { أنزلناه } عائد على القرآن المذكور ، وفي قوله { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الإسراء : 89 ] ويجوز أن يكون الكلام آنفاً . وأشار بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته ، كما قال { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] .
وهذا كثير ، قال الزهراوي : معناه بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس { بالحق } في نفسه ، وقوله { وبالحق نزل } ، يريد { بالحق } في أوامره ونواهيه وأخباره فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول ، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد ، أي بأخباره وأوامره وبذلك نزل ، وقوله { وقرآناً } مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد ، أي « وفرقنا قرآناً » ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في { أرسلناك } من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس « فرَقناه » بتخفيف الراء ، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقاناً ، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف ، وحميد وعمرو بن فائد « فرّقناه » بتشديد الراء ، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبيّ « فرقناه عليه لتقرأه » أي أنزلناه شيئاً بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله { لتقرأه على الناس على مكث } ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة ، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل : في خمس وعشرين سنة ، وقال ابن عباس : في ثلاث وعشرين سنة ، وقال قتادة في عشرين سنة ، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين ، وتم بموته ، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال : نزل القرآن في ثمان عشرة سنة ، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم ، وتأولت فرقة قوله عز وجل { على مكث } أي على ترسل في التلاوة ، وهو ترتيل ، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد ، والتأويل الآخر أي { على مكث } وتطاول في المدة شيئاً بعد شيء ، وقوله { ونزلناه تنزيلاً } مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية ، ، وأجمع القراء على ضم الميم من { مُكث } ، ويقال مَكث ومِكث بفتح الميم ومكث بكسرها ، وقوله { قل آمنوا به } الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد ، والمعنى أنكم لستم بحجة ، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم ، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة ، واختلف الناس في المراد ب { الذين أوتوا العلم من قبله } ، فقالت فرقة : هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة : هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما .

وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله ، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة ، وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح ، فنزلت الآية فيهم ، وقالت فرقة : المراد ب { الذين أوتوا العلم من قبله } محمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير في { قبله } عائد على القرآن حسب الضمير في { به } ، ويبين ذلك قوله { إذا يتلى } ، وقيل الضميران لمحمد . واستأنف ذكر القرآن في قوله { إذا يتلى } ، وقوله { للأذقان } أي لناحيتها ، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما ، وعليهما قال ابن عباس : المعنى للوجوه ، وقال الحسن : المعنى للحي ، و « الأذقان » أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان ، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض ، لا سيما عند سجوده ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم ... سباع من الطير العوادي وتنتف
و { إن } في قوله { إن كان } هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة ، واللام بعدها لام التوكيد ، وهي عند الفراء النافية ، واللام بمعنى إلاّ ، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله { آمنوا به أو لا تؤمنوا } مخلصاً للوعيد دون التحقير ، والمعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب ، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر ، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة ، { إذا يتلى عليهم } ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا .

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئاً أن يجري إلى هذه الرتبة ، وحكى الطبري عن التميمي أنه قال : إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه ، لأن الله تعالى نعت العلماء ، ثم تلا هذه الآية كلها ، وقوله { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو « يا الله يا الرحمن » ، فقالوا كان محمد أمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين ، قاله ابن عباس ، وقال مكحول : تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال في دعائه « يا رحمن يا رحيم » ، فسمعه رجل من المشركين ، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن ، فقال ذلك السامع : ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة ، فنزلت مبينة أنها لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك ، وقرأ طلحة بن مصرف « أيّاً ما تدعوا فله الأسماء » ، أي وله سائر الأسماء الحسنى ، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وهي بتوقيف ، لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث ، وقد روي « أن لله تسعة وتسعين اسماً » ؛ الحديث ، ونصها كلها الترمذي وغيره بسند ، وتقدير الآية أي الأسماء تدعوا به فأنت مصيب له الأسماء الحسنى ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن « لا يجهر » بصلاته وأن « لا يخافت بها » ، وهو الإسرار الذي لا يسمعه المتكلم به ، هذه هي حقيقته ، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه ، واختلف المتأولون في الصلاة ما هي؟ فقال ابن عباس وعائشة وجماعة : هي الدعاء ، وقال ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة ، فهذا على حذف مضاف ، التقدير { ولا تجهر } بقراءة صلاتك ، قال : والسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوسط ، ليسمع أصحابه المصلون معه ، ويذهب عنه أذى المشركين ، قال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم ، فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يسر قراءته ، وكان عمر يجهر بها ، فقيل لهما في ذلك ، فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي ، وقال عمر أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت هذه الآية ، قيل لأبي بكر : ارفع أنت قليلاً ، وقيل لعمر اخفض أنت قليلاً ، وقالت عائشة أيضاً : « الصلاة » يراد بها في هذه الآية التشهد ، وقال ابن عباس والحسن : المراد والمعنى : ولا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر ، بل اتبع طريقاً وسطاً يكون دائماً في كل حالة ، وقال ابن زيد : معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت من خلفه ، وقال ابن عباس في الآية : إن معناها { ولا تجهر } بصلاة النهار { ولا تخافت } بصلاة الليل ، واتبع سبيلاً من امتثال الأمر كما رسم لك ، ذكره يحيى بن سلام والزهراوي ، وقال عبد الله بن مسعود لم يخافت من أسمع أذنيه ، وما روي من أنه قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً يرد هذا ، ولكن الذي قال ابن مسعود هو أصل اللغة ، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في ارفع من ذلك ، وقوله تعالى : { وقل الحمد لله } الآية ، هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذاً : عزير وعيسى والملائكة ذرية لله سبحانه وتعالى عن أقوالهم ، ورادة على العرب في قولهم لولا أولياء الله لذل وقيد لفظ الآية نفي الولاية لله عز وجل بطريق الذي وعلى جهة الانتصار ، إذ ولايته موجودة بتفضله ورحمته لمن والى من صالحي عباده ، قال مجاهد : المعنى لم يحالف أحداً ولا ابتغى نصر أحد ، وقوله { وكبره تكبيراً } أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، ثم أكدها بالمصدر تحقيقاً لها وإبلاغاً في معناها ، وروى مطرف عن عبد الله بن كعب قال : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة . نجز تفسير سورة سبحان والحمد لله رب العالمين .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27