كتاب : البرهان في علوم القرآن
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي 

مشاكلة اللفظ للفظ.
هي قسمان: أحدهما - وهو الأكثر - المشاكلة بالثاني للأول، نحو [ أخذه ما قدم وما حدث ]. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} على مذهب الجمهور وأن الجر للجوار: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}.
وقد تقع المشاكلة بالأول للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة: {الْحَمْدِ لِلَّهِ} بكسر الدال، وهي أفصح من ضم اللام للدال.

مشاكلة اللفظ للمعنى.
ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، ولم يقل من [طين] كما أخبر به سبحانه في غير موضع: {نِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر ولما اراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل أخبرهم أن يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقي العناصر لأنه أتى بصيغة الاستغراق وليس في العناصر الأربع ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء ليدخل الحيوان البحري فيها.
ومنه قوله تعالى: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} فإنه سبحانه أتى بأغرب الفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها فإن [ والله [و[ بالله ]أكثر استعمالا وأعرف من [ تالله ] لما كان الفعل الذي جاور القسم أعزب الصيغ التي في بابه فإن [كان] وأخواتها أكثر استعمالا من [تفتأ] وأعرف عند العامة ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة وهي لفظة [حرض]:.

ولما أراد غير ذلك قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} لما كانت جميع الألفاظ مستعملة.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم وكان دون ذلك مشاركتهم في الظلم أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم وهو مس النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام وإن كان المس قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب.
ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ}، فإنه نشأ في الآية سؤال وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبة بالفاعل ثم بالمفعول فإن كان في الكلام مفعولان: أحدهما يعدى وصول الفعل إليه بالحرف، والآخر بنفسه قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}.
إذا ثبت هذا فقد يقال كيف توخى حسن الترتيب في عجز الاية دون صدرها ؟ والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج فيثقل الكلام بسبب ذلك فإنه لو قيل لئن بسطت يدك إلى والطاء والتاء متقاربة المخرج فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على الفعل الذي تعدى إليه بنفسه ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة جاء الكلام على ترتيبه: من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه على.

المفعول الذي يعدى إليه بحرف الجر. وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ وأما المعنى فعلى نظم الآية لأنه لما كان الأول حريصا على التعدي على الغير قدم المتعدى على الآلة فقال: إليَّ يدك ولما كان الثاني غير حريص على ذلك لأنه نفاه عنه قدم الآلة فقال: [يدي إليك] ويدل لهذا أنه عبر عن الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم.
ويؤيد ذلك أيضا قوله في سورة الممتحنة : {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} ، لأنه لما نسبهم للتعدي الزائد قدم ذكر المبسوط إليهم على الآلة وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية.
ومثله قوله: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية كما أتى به في عجزها لكن منعه توخى الأدب والتهذيب في نظم الكلام وذلك أنه لما كان الضمير الذي في [يجزي] عائدا على الله سبحانه وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى رديفة حتى لا تنسب السيئة إليه سبحانه فقال في موضع السيئة: بما [عملوا] فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فإن هذا المحذور منه مفقود فجرى الكلام على مقتضى الصناعة.
ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}، فإن سبحانه خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعري ودعا خلقا إلى عبادتها.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ولم يقل:[ لا تعلمون] لما في الفقه من الزيادة على العلم.

وقوله حكاية عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الادب مع أبيه حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحق له ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ} فذكر الخوف والمس وذكر العذاب ونكره ولم يصفه بأنه يقصد التهويل بل قصد استعطافه ولهذا ذكر [الرحمن] ولم يذكر [المنتقم] ولا [الجبار] على حد قوله:
فما يوجع الحرمان من كف حازم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإنه قد يقال: ما الحكمة في التعمير بالسخرية دون الاستهزاء ؟ وهلا قيل:[ فحاق بالذين استهزءوا بهم ]ليطابق ما قبله ؟.
والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة والسخرية قد تكون في النفس ولهذا يقولون: سخرت منه كما يقولون: عجبت منه ولا يقال: تجنب ذلك لما في ذلك من تكرار الاستهزاء ثلاث مرات لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى: {إِِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، وإنما لم يقل: [نستهزىء بكم] لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء.
وأما قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فالعرب تسمى الجزاء على الفعل باسم الفعل كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} وهو مجاز حسن وأما الاستهزاء الذين نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة لا يرضى به إلا جاهل.
ثم قال سبحانه: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}، أي حاق بهم من الله الوعيد.

لبالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزئون بألسنتهم فنزلت كل كلمة منزلتها.
وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ولم يذكر الكعبة لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة فإن استقبال عينها حرج عليه بخلاف القريب ولما خص الرسول بالخطاب تعظيما وأيجابا لشرعته عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة.
قاعدة:.
إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى، بدئ باللفظ ثم بالمعنى، هذا هو الجادة في القرآن، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} أفرد أولا باعبتار اللفظ ثم جمع ثانيا باعتبار المعنى فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فعاد الضمير مجموعا كقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فعاد الضمير من [يدخله] مفردا على لفظ [من] ثم قال [خالدين] وهو حال من الضمير.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ}.
وقد يجرى الكلام على أوله في الإفراد كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ.

قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الآيتين فكرر فيها ثمانية ضمائر كلها عائد على لفظ [من] ولم يرجع منها شيء على معناها مع أن المعنى على الكثرة.
وقد يقتصر على معناها في الجميع كقوله تعالى في سورة يونس: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}. وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجيء في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} فأنث [خالصة] حملا على معنى [ما] ثم راعى اللفظ فذكر وقال: {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}.
واعترض بعض الفضلاء وقال: إنما يتم ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك إذا كان ان الضمير الذي في الصلة التي في بطون هذه الانعام يقدر مؤنثا أما إذا قدر مذكرا فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ.
وأجيب بأن اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية لأن اعتبار الأمرين أو أحدهما أنما يظهر في اللفظ وإذا كان كذلك صدق أنه إنما بدىء في الآية بالحمل على المعنى فيتم كلام العراقي.
ونقل الشيخ أبو حيان في تفسيره عن ابن عصفور: أن الكوفيين لا يجيزون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال: ولم يرد السماع إلا بالفاصل كما ذهب إليه الكوفيون. ونازعه الشيخ أثير الدين بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ.

الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ، وقال: ألا تراه كيف جمع بين الجمليتن دون فصل ! انتهى.
والذي ذكره ابن عصفور في شرح "المقرب": شرط الكوفيون في جواز اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل فيجوزون: مَن يقومون اليوم وينظر في أمرنا إخوتنا ولا يجوزون: مَن يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا لعدم الفصل وإنما ورد السماع بالفصل. انتهى.
وهذا يقتضى أن الكوفيين لا يشترطون الفصل عند اجتماع الجملتين إلا أن يقدم اعتبار المعنى ويؤخر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ.
وقال ابن الحاجب: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ لأن المعنى أقوى فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ ويضعف بعد اعتبار المعنى القوي الرجوع إلى الأضعف.
وهذا معترض بأن الاستقراء دل على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى وكثرة موارده تدل على قوله وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به التنزيل كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما بعد الاخر من غير ضعف.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً } فقرأه الجماعة بتذكير [يقنت] حملا على لفظ [من] في التذكير [وتعمل] بالتأنيث حملا على معناها لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي [يعمل] بالتذكير فيهما حملا على لفظها.

رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في [منكن] حسن الحمل على المعنى.
وقال أبو الفتح في "المحتسب": لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى.
وقد يورد عليه قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ثم قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} فقد راجع اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى إلا أن يقال: إن الضمير في جاء يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه لا إلى [من].
ومنه الفرق بين [أسقى] و[سقى] بغير همز لما لا كلفة معه في السقيا ومنه قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة بل جميع ما يقع فيها من الملاذ يقع فرصة وعفوا بخلاف [أسقى] بالهمزة فإنه لا بد فيه من الكلفة بالنسبة للمخاطبين كقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا.
ومنه قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} ، قال أبو سلمة محمد بن بحر الأصبهاني في تفسيره: إنما خص الموزون بالذكر دون المكيل لأمرين:.
أحدهما: أن غاية المكيل ينتهى إلى الموزون لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل فكان الوزن أعم من المكيل.
والثاني: أن في الموزون معنى المكيل لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء.

ومقايسته وتعديله به وهذا المعنى ثابت في المكيل فخص الوزن بالذكر لاشتماله على معنى المكيل.
وقال الشريف المرتضى في "الغرر": هذا خلاف المقصود بل المراد بالموزون القدر الواقع بحسب الحاجة فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة.
ومنه قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}، فذكر في مدة اللبث السنة وفي الانفصال العام للإشارة إلى أنه كان في شدائد في مدته كلها إلا خمسين عاما قد جاءه الفرج والغوث فإن السنة تستعمل غالبا في موضع الجدب ولهذا سموا شدة القحط سنة.
قال السهيلي: ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا إلا أن الخمسين منها كانت أعواما فيكون عمره ألف سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة لأن الخمسين عاما بحسب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية بنحو عام ونصف.
وابن على هذا المعنى قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقوله : {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فأنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدة ذلك اليوم والسنة أطول من العام.

النحت.
نحو الحوقلة والبسملة، جعله ابن الزملكاني من1 نظوم القرآن ومثله بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، قال: وكفى من كفتيه الشيء ولم يجيء للعرب كفتيه بالشيء فجعل بين الفعلين الفعل المذكور وهو متعد وخص من الفعل اللازم وهو اكتفيت به بالباء وكذلك انتصب [شهيدا] على التمييز أو الحال كأنه قيل: كفى بالله فاكتف به فاجتمع فيه الخبر والأمر.

الإبدال.
من كلامهم إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض يقولون: مدحه ومدهه وهو كثير ألف فيه المصنفون وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، فقال: فالراء واللام متعاقبان، كما تقول العرب: فلق الصبح وفرقه. قال: وذكر عن الخليل- ولم أسمعه سماعا - أنه قال في قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} إنما أراد فحاسوا فقامت الجيم مقام الحاء.
قال ابن فارس: وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقه عنه.
قلت: ذكر ابن جنى في "المحتسب": أنها قراءة أبو السمال، وقال: قال أبو زيد - أو غيره: قلت له: إنما هو [فجاسوا] فقال: حاسوا وجاسوا واحد. وهذا يدل على أن بعض القراء يتخير بلا رواية ولذلك نظائر. انتهى.
وهذا الذي قاله ابن جنى غير مستقيم ولا يحل لأحد أن يقرأ إلا بالرواية. وقوله:" إنهما بمعنى واحد " لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه ابو الفتح وقائل ذلك والقارىء به هو أبو السوار الغنوى لا أبو السمال فاعلم ذلك. كذلك أسنده الحافظ أبو عمرو الداني، فقال: حدثنا المازني قال: سألت أبا السوار الغنوى، فقرأ: [فحاسوا] بالحاء غير الجيم فقلت: إنما هو [فجاسوا] قال: حاسوا وجاسوا واحد، ويعنى أن اللفظين بمعنى واحد وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة والغرض كما جازت بالأولى فقد غلط في ذلك وأساء.

وزعم الفارسي في تذكرته في قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ}، أنه بمعنى حب الخيل وسميت الخيل خيرا لما يتصل بها من العز والمنعة كما روى:" الخيل معقود بنواصيها الخير " وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به.
وقيل في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} إن أصله ملاقح لأنه يقال: ألقحت الريح السحاب أي جمعته وكل هذا تفسير معنى وإلا فالواجب صون القرآن أن يقال فيه مثل ذلك.
وذكر أبو عبيدة في قوله: {إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} ، معناه [تصدده] فأخرج الدال الثانية ياء لكسر الدال الأولى كما حكاه صاحب "الترقيص".
وحكى عن أبي رياش في قول امرىء القيس:
فسلى ثيابي من ثيابك تنسلى ...
معناه:[ تنسلل ] فاخرج اللام الثانية [ياء] لكسرة اللام الأولى ومثله قول الآخر:
وإني لأستنعى وما بي نعسة ... لعل خيالا منك يلقى خياليا
أراد استنعس، فاخرج السين ياء.
وقال الفارسي في "التذكرة" قرأ أبو الحسن - أو من قرأ له - قوله تعالى فيما حكى عن يعقوب في القلب والإبدال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} ، [غير.

عائد]، واستحسنه الفارسي ألا يعود إليه كما يعود في حال السعة من العشاء إلى الغذاء.
وقيل في قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ}: إن خرقه واخترقه وخلقه واختلقه بمعنى هو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة.
وجوز الزمخشري كونه من خرق الثوب إذا شقه أي أنهم اشتقوا له بنين وبنات.

المحاذاة.
ذكره ابن فارس، وحقيقته أن يؤتى باللفظ على وزن الاخر لأجل انضمامه إليه وإن كان لا يجوز فيه ذلك لو استعمل منفردا كقولهم: أتيته الغدايا والعشايا فقالوا: الغدايا لانضمامها إلى العشايا.
قيل: ومن هذا كتابه المصحف، كتبوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} بالياء، وهو من ذوات الواو لما قرن بغيره مما يكتب بالياء.
ومنه قوله تعالى: {لَسَلَّطَهُمْ} فاللام التي في [لسلطهم] جواب [لو].
ثم قال: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فهذه حوذيت بتلك اللام وإلا فالمعنى: لسلطهم عليكم فقاتلوكم.
ومثله :{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} فهما لاما قسم - ثم قال: أو {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} فليس ذا موضع قسم لأنه عذر5 للهدهد فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر لكنه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.

ومنه الجزاء عن الفعل بمثل لفظه نحو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء الاستهزاء.
وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.

قواعد في النفي.
قد تقدم في شرح معاني الكلام جمل من قواعده ونذكر هاهنا زيادات.
اعلم أن نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيا للذات. وانتفاء النهي عن الذات الموصوفة قد يكون نهيا عن الذات وقد يكون نهيا عن الصفة دون الذوات قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} فإنه نهى عن القتل بغير الحق. وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}.
ومن الثاني قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}،{وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أي فلا يكون موتكم إلا على حال كونكم ميتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة على خلاف حال الإسلام كقول القائل: لا تصل إلا وأنت خاشع فإنه ليس نهيا عن الصلاة بل عن ترك الخشوع.
وقوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية.
وقد ذكروا أن النفي بحسب ما يتسلط عليه يكون أربعة أقسام:.
الأول: بنفي المسند نحو، ما قام زيد بل قعد ومنه قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فالمراد نفي السؤال من أصله لأنهم متعففون ويلزم من نفيه نفى الإلحاف.

الثاني: أن ينفى المسند إليه، فينتفي المسند، نحو ما قام زيد إذا كان زيد غير موجود لأنه يلزم من عدم زيد نفي القيام ومنه قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم.
ومنه قول الشاعر:
*على لاحب لا يهتدي لمناره*
أي: على طريق لا منار له فيهتدي به ولم يكن مراده أن يثبت المنار فينتفى الاهتداء به.
الثالث: أن ينفى المتعلق دون المسند والمسند إليه نحو ما ضربت زيدا بل عمرا.
الرابع: أن ينفى قيد المسند إليه أو المتعلق نحو ما جاءني رجل كاتب بل شاعر، وما رأيت رجلا كاتبا بل شاعرا، فلما كان النفي قد ينصب على المسند وقد ينصب على المسند إليه أو المعلق وقد ينصب على القيد احتمل في قولنا: ما رأيت رجلا كاتبا أن يكون المنفى هو القيد فيفيد الكلام رؤية غير الكاتب وهو احتمال مرجوح ولا يكون المنفى المسند أي الفعل بمعنى أنه لم يقع منه رؤية عليه لا على رجل ولا على غيره وهو في المرجوحية كالذي قبله.

نفى الشيء رأسا.
لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته، كقوله تعالى في صفة أهل النار: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فنفى عنه الموت لأنه ليس بموت صريح ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة كقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي ما هم بسكارى مشروب ولكن سكارى فزع.
وقوله: {لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وهم قد نطقوا بقولهم :{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا.
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}.
وقوله: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
ومنه قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}، فإن المعتزلة احتجوا به على نفى الرؤية لأن النظر لا يستلزم الإبصار، ولا يلزم من قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} إبصار.
وهذا وهم لأن الرؤية تقال على أمرين: أحدهما الحسبان والثاني العلم، والآية من المعنى الأول أي تحسبهم ينظرون إليك لأن لهم أعينا مصنوعة بأجفانها وسوادها يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه وليست تبصر شيئا.

ومنه: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمى ثم نفاه أخبر عنهم لعدم جريهم على موجب العلم كذا قاله السكاكي وغيره.
وقد يقال: لم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد لأن المثبت أولا نفس العلم والمنفي إجراء العمل بمقتضاه. ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين.
قال: ونظيره في النفي والإثبات قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
قلت: المنفي أولا التأثير والمثبت ثانيا نفس الفعل.
ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والمعنى: إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلغ كقولك لطالب العلم: إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا أي في حكم من لم يعلم.
ومنه نفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده كقولهم فلان لا يرجى خيره ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه.
ومنه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون من الصفة وهي وقوعه على خلاف الحق.

وكذلك قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} إنها وصف لهذا الدعاء وأنه لا يكون إلا عن غير برهان.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر.
وقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}، لأن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا فصار نفى الثمن القليل نفيا لكل ثمن.
وقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فإن ظاهره نفي الإلحاف في المسألة والحقيقة نفي المسألة البتة وعليه أكثر المفسرين بدليل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}، ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ضرورة أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
ومثله قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة بل نفيه مطلقا وإنما قيده بذلك لوجوه:.
أحدها: أنه تنكيل بالكفار لأن أحدا لا يشفع إلا بإذنه وإذا شفع يشفع لكن الشفاعة مختصة بالمؤمنين فكان نفى الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لإضدادهم كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع لقد حدثت صديقا نافعا وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره لأن له صديقا ولم ينفع.
الثاني: أن الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد بل يدل لأغراض من تحسينه أو تقبيحه نحو له مال يتمتع به وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا}{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الثالث: قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة كحديث الخليل مع والده يوم القيامة وإنما دل على التلازم دليل الشرع.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي من خوف الذل فنفي الولي لانتفاء خوف الذل فإن اتخاذ الولي فرع عن خوف الذل وسبب عنه.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، نفى الغلبة والمراد نفي اصل النوم والسنة عن ذاته ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا أما وقوعا فبقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وأما جوازا فبقوله: {الْقَيُّومُ} وقد جمعهما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام "
وقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} أي بما لا وجود له لأنه لو وجد لعلمه بوجود الوجوب تعلق علم الله بكل معلوم.
وقوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} ، على قول من نفى القبول لانتفاء سببه وهو التوبة لا يوجد توبة فيوجد قبول.
وعكسه: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}، فإنه نفى لوجدان العهد لانتفاء سببه وهو الوفاء بالعهد.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، أي من حجة أي لا حجة عليها فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة.

ونظيره من السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدجال أعور والله ليس بأعور "، أي بذي جوارح كوامل بتخيل جوارح له نواقص.
ونظيره قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} ليس المراد أن كلمات الله تنفذ بعد نفاذ البحر بل لا تنفذ أبدا لا قبل نفاذ البحر، ولا بعده وحاصل الكلام لنفذ البحر ولا تنفذ كلمات ربي.
ووقع في شعر جرير قوله:
فيالك يوما خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله
قال الأصمعي: أنشدته كذلك لخلف الأحمر فقال: أصلحه:
فيالك يوما خيره دون شره ...
فإنه لا خير لخير بعده شر وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب، قال الأصمعي: فقلت: والله لا ارويه أبدا إلا كما أوصيتني.

نقل ابن رشيق هذه الحكاية في العمدة وصوبها.
قال ابن المنير: ووقع لي أن الأصمعي وخلف الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب جرير وحده لأنه لم يرد إلا [فيالك يوم خير لا شر فيه] وأطلق[ قبل ]للنفي كما قلناها، في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وقوله: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، فإن ظاهره نفي هذه الجوارح والحقيقة توجب نفي الآية عمن يكون له فضلا عمن لا يكون له.
وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فالمراد لا ذاك ولا علمك به أي كلاهما غير ثابت.
وقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}، أي شركاء لا ثبوت لها أصلا ولا أنزل الله بإشراكها حجة وإنزال الحجة كلاهما منتف.
وقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ}، أي ما لاثبوت له ولا علم الله متعلقا به نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}.

أصله لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدس.
وقوله: {ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}، معلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك.
ونظيره: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}، وأكل الربا منهى عنه قليلا وكثيرا لكنها نزلت على سبب وهو فعلهم ذلك ولأنه مقام تشنيع عليهم وهو بالكثير أليق.
وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} الآية، المعنى آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها إلا أنهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية ولهذا أنه لما رد بقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} بعد إثباته إيمانهم لأنه ضروري لا اختياري أوجب ألا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعي فيها الحصر والتقييد كقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فإنه لم يقدم المفعول في [ آمنا ] حيث لم يرد ذلك المعنى فركب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان.
وقوله: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، فقيل من هذا الباب، فهي صفة لازمة وقيل التكبر قد يكون بحق وهو التنزه عن الفواحش والدنايا والتباعد من فعلها.
وأما قوله: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} تأكيدا وإن أريد به الطلب كان قيدا.

قاعدة.
اعلم أن نفي العام يدل على نفي الخاص وثبوته لا يدل على ثبوته وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام ولا يدل نفيه على نفيه ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.
فالأول: كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: [بضوئهم] بعد قوله: [ أضاءت ] لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير ولذلك قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} ففي الضوء دلالة على الزيادة فهو أخص من النور وعدمه لا يوجب عدم الضوء لاستلزام عدم العام عدم الخاص فهو أبلغ من الأول والغرض إزالة النور عنهم أصلا ألا ترى ذكره بعده .{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}.
وهاهنا دقيقة وهي أنه قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل:[ أذهب نورهم ] لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته بخلاف الذهاب إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ومقتضى منعه من الرجوع.
ومنه قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} ولم يقل:[ ضلال ] كما قالوا:.

{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ} لأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس البتة.
وقال الزمخشري: لأن الضلالة أخص من الضلال فكان أبلغ في نفي الضلال عنه، فكأنه قال: ليس به شيء من الضلال كما لو قيل: [لك] لك تمرة فقلت: ما لي تمرة.
ونازعه ابن المنير وقال: تعليله نفيها أبلغ [من نفي الضلال] لأنها أخص [منه] وهذا غير مستقيم فإن نفي الأعم أخص من نفي الأخص ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فلا يستلزمه لأن الأعم لا يستلزم الأخص فإذا قلت هذا ليس بإنسان لم يلزم سلب الحيوانية عنه وإذا قلت هذا ليس بحيوان لم يكن إنسانا والحق أن يقال الضلالة أدنى من الضلال وأقل لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة8 منه والضلال يصلح للقليل والكثير ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
والثاني: كقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، ولم يقل [طولها] لأن العرض أخص إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس. وأيضا إذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة أخرى تدل عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرها لأن ذكرها كالتكرار وهو ممل وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة على الأخرى حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها.

وقد يخل بذلك مقصود آخر كما في قوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} لأجل السجع وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه كان الأولى الاقتصار على الدال على الآخر فإن ذكرت فالأولى تأخير الدال.
وقد يخل بذلك لمقصود آخر، كما في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.
وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} وعلى ذلك القياس يكفي [لهما أف] أو يقول [ولا تنهرهما] [فلا تقل لهما أف] وإنما عدل عن ذلك للإهتمام بالنهي عن التأفيف والعناية بالنهي حتى كأنه قال: نهى عنه مرتين: مرة بالمفهوم وأخرى بالمنطوق.
وكذلك قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فإن النوم غشية ثقيلة تقع علىالقلب تمنعه معرفة الأشياء والسنة مما يتقدمه من النعاس فلم يكتف بقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} دون ذكر النوم لئلا يتوهم أن السنة إنما لم تأخذه لضعفها ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته فجمع بينهما لنفي التوهمين أو السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب تلخيصه وهو منزه عن جميع المفترات ثم أكد نفي السنة والنوم بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} لأنه خلقهما بما فيهما والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ومن يكن له ما فيهما فمحال نومه ومشاركته إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما وأيضا فإنه يلزم من نفي النسة نفي النوم أنه لم يقل لا ينام وإنما قال: {لا تَأْخُذُهُ}.

يعنى لا تغلبه فكأنه يقول لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ومنه سمى الأسير مأخوذا وأخيذا وزيدت [لا] في قوله: {وَلا نَوْمٌ} لنفيهما عنه بكل حال ولولاها لاحتمل أن يقال: لا تأخذه سنة ولا نوم في حال واحدة وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام فيقولون: فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يعكسون هذا لفساد المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته فلم يكن لذكره معنى ولا يوصف بالعالم بعد الوصف بالعلام.
وقد اختلف الأدباء في الوصف بالفاضل والكامل أيهما أبلغ على ثلاثة أقوال:.
ثالثهما أنهما سواء قال الأقليشي: والحق أنك مهما نظرت إلى شخص فوجدته مع شرف العقل والنفس كريم الأخلاق والسجايا معتدل الأفعال وصفته بالكمال وإن وجدته وصل إلى هذه الرتب بالكسب والمجاهدة وإماطة الرذائل وصفته بالفضل وهذا يقتضي أنهما متضادان فلا يوصف الشخص الواحد بهما ألا بتجوز.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إنما قدم الغيب مع أن علم المغيبات أشرف من المشاهدات والتمدح به أعظم وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح وأجاب بأن المشاهدات له أكثر من الغائب عنا والعلم يشرف بكثرة متعلقاته فكان تأخير الشهادة أولى.
وقول الشيخ: إن المشاهدات له أكثر فيه نظر بل في غيبه ما لايحصى: {وَيَخْلُقُ

مَا لا تَعْلَمُونَ} ، وإنما الجواب أن الانتقال للأمدح ترق فالمقصود هنا بيان أن الغيب والشهادة في علمه سواء فنزل الترقي في اللفظ منزلة ترق في المعنى لإفادة استوائهما في علمه تعالى. ويوضحه قوله تعالى: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} فصرح بالاستواء.
هذا كله في الصفات وأما الموصوفات فعلى العكس من ذلك فإنك تبدأ بالأفضل فتقول: قام الأمير ونائبه وكاتبه قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} الآية. فقدم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال وقدم البغال على الحمير لذلك أيضا.
فإن قلت: قاعدة الصفات منقوضة بالقاعدة الأخرى وهي أنهم يقدمون الأهم فالأهم في كلامهم كما نص عليه سيبويه وغيره.
وقال الشاعر:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
قلت: المراد بقوله:" فقدم الأهم فالأهم "فيما إذا كانا شيئين متغايرين مقصودين وأحدهما أهم من الاخر فإنه يقدم وأما تأخر الأمدح في الصفات فذلك فيما إذا كانتا صفتين لشيء واحد فلو أخرنا الأمدح لكان تقديم الأول نوعا من العبث.
هذا كله في صفات المدح فإن كانت للذم فقد قالوا ينبغي الابتداء بالأشد ذما كقوله تعالى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}قال ابن النفيس: في كتاب.

"طريق الفصاحة": وهو عندي مشكل ولم يذكر توجيهه.
وقال حازم في "منهاجه": يبدأ في الحسن بما ظهور الحسن فيه أوضح وما النفس بتقديمه أعنى ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح والنفس بالالتفات إليه أعنى ويتنقل في الشيء إلى ما يليه من المزية في ذلك ويكون بمنزلة المصور الذين يصور أولا ما حل من رسوم تخطيط الشيء ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق.
فائدة:.
نفي الاستطاعة قد يراد به نفي الامتناع أو عدم إمكان وقوع الفعل مع إمكانه نحو هل تستطيع أن تكلمني ؟ بمعنى هل تفعل ذلك وأنت تعلم أنه قادر على الفعل ؟ وقد حمل قوله تعالى حكاية عن الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على المعنى الأول أي هل يجيبنا إليه ؟ أو هل يفعل ربك ؟ وقد علموا أن الله قادر على الإنزال وأن عيسى قادر على السؤال وإنما استفهموا هل هنا صارف أو مانع ؟.
وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة كقوله تعالى: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.

فائدة:.
قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} قالوا: المجاز يصح نفيه بخلاف الحقيقة لا يقال للأسد: ليس بشجاع.
وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتب عليه وهو وصوله إلى الكفار قالوا رد عليه السلب هنا مجاز لا حقيقة والتقدير: وما رميت خلقا إذ رميت كسبا أو ما رميت أنتهاء إذ رميت ابتداء وما رميت مجازا إذ رميت حقيقة.

إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة لضرب من المسامحة وحسم العناد.
كقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وهو يعلم أنه على لهدى وأنهم على الضلال لكنه أخرج الكلام مخرج الشك تقاضيا ومسامحة ولا شك عنده ولا ارتياب.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}.
ونحوه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}. أورده على طريق الاستفهام والمعنى هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين لكم من المشاهد ولاح منكم في المخايل: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تهالكا على الدنيا ؟.
وإنما أورد الكلام في الآية على طريق سوق غير المعلوم سياق غيره ليؤديهم التأمل في التوقع عمن يتصف بذلك إلى ما يجب أن يكون مسببا عنه من أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم فيلزمهم به على ألطف وجه إبقاء عليهم من أن يفاجئهم به وتأليفا لقلوبهم ولذلك التفت عن الخطاب إلى الغيبة تفاديا عن مواجهتهم بذلك.
وقد يخرج الواجب في صورة الممكن كقوله تعالى :{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}.

و{عسى ربكم أن يرحمكم}.
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }.
وقد يخرج الإطلاق في صورة التقييد كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}.
ومنه قوله تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} فالمعنى لا يكون أبدا من حيث علقه بمشيئة الله لما كان معلوما أنه يشاؤه إذ يستحيل ذلك على الأنبياء وكل أمر قد علق بما لايكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه.
وقال قطرب: في الكلام تقديم وتأخير والاستثناء من الكفار لا من شعيب والمعنى: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملتهم. ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} على كل حال.
وقيل: الهاء عائدة إلى القرية لا إلى الله.

الإعراض عن صريح الحكم.
كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، أعرض عن ذكر مقدار الجزاء والثواب وذكر ما هو معلوم مشترك بين جميع أعمال البشر تفخيما لمقدار الجزاء لما فيه من إبهام المقدار وتنزيلا له منزلة ما هو غير محتاج إلى بيانه على حد [فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله] أعرض عن ذكر الجزاء إلى إعادة الشرط تنبيها على عظم ما ينال وتفخيما لبيان ما أتى به من العمل فصار السكوت عن مرتبة الثواب أبلغ من ذكرها.
وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وهذه الآية تتضمن الرجوع والبقاء والجمع ألا تراه كيف رجع بعد ذكره المبتدأ الذي هو الذين عن ذكر خبره إلى الشروع في كلام آخر فبنى مبتدأ على مبتدأ وجمع والمعنى قوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ} من خبر المبتدأ الأول وتقديره: إنا لانضيع أجرهم لأنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.

الهدم.
وهو أن يأتي الغير بكلام يتضمن معنى فتأتي بضده فإنك قد هدمت ما بناه المتكلم الأول، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} هدمه بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} وبقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وبقوله: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}، تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم.
ومنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} هدمه بقوله: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}.
منه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ } هدمه بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي في دعواهم الشهادة.

التوسع.
منه الاستدلال بالنظر في الملكوت، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وذلك بعد ذكر النطفة وتقلبها في مراتب الوجود وتطورات الخلقة.
وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ومنه التوسع في ترادف الصفات، كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، فإنه لو أريد اختصاره لكان :{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} مظلم.
ومنه التوسع في الذم،كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ}.

التشبيه.
اتفق الأدباء على شرفه في أنواع البلاغة وأنه إذا جاء في أعقاب المعاني أفادها كمالا وكساها حلة وجمالا قال المبرد في "الكامل": هو جار في كلام العرب حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد. وقد صنف فيه أبو القاسم ابن البنداري البغدادي كتاب "الجمان في تشبهيات القرآن".
مباحث التشبيه.
وفيه مباحث:.
الأول: في تعريفه.
وهو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقيل: أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
وقيل: الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد كالطيب في المسك والضياء في الشمس والنور في القمر. وهو حكم إضافي لا يرد إلا بين الشيئين بخلاف الاستعارة.

الثاني: في الغرض منه.
وهو تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانا.
وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار فإنك إذا قلت: زيد أسد كان الغرض بيان حال زيد وأنه متصف بقوة البطش والشجاعة وغير ذلك إلا أنا لم نجد شيئا يدل عليه سوى جعلنا إياه شبيها بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به فصار هذا أبين وأبلغ من قولنا زيد شهم شجاع قوى البطش ونحوه.
الثالث: في أنه حقيقة أو مجاز.
والمحققون على أنه حقيقة قال الزنجاني في "المعيار": التشبيه ليس بمجاز لأنه معنى من المعاني وله ألفاظ تدل عليه وضعا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه وإنما هو توطئة لمن سلك سبيل الاستعارة والتمثيل لأنه كالأصل لهما وهما كالفرع له.
والذي يقع منه في حيز المجاز عند البيانيين هو الذي يجيء على حد الاستعارة.
وتوسط الشيخ عز الدين فقال: إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذفه فمجاز بناء على أن الحذف من باب المجاز.

الرابع: في أدواته.
وهي أسماء وأفعال وحروف.
فالأسماء: مثل وشبه ونحوهما قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى} {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}.
والأفعال: كقوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}.
والحروف إما بسيطة كالكاف، نحو: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} وإما مركبة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}.
الخامس: في أقسامه.
وهو ينقسم باعتبارات:.
الأول: أنه إما أن يشبه بحرف أولا.
وتشبيه الحرف ضربان:.
أحدهما: يدخل عليه حرف التشبيه فقط، كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ}.

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}.
{خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.
{وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}.
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
وثانيها: أن يضاف إلى حرف التشبيه حرف مؤكد ليكون ذلك علما على قوة التشبيه وتأكيده وكقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}.
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}.
{تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.
فإن قيل كيف استرسل أهل الجنة وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ولا شك أنه ليس به واحترزت بلقيس فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} ولم تقل: هو هو ؟.
قيل: أهل الجنة وثقوا بأن الغرض مفهوم وأن أحدا لا يعتقد في الحاضر أنه عين المستهلك الماضي وأما بلقيس فالتبس عليها الأمر وظنت أنه يشبهه،.

لأنها بَنَتْ على العادة وهو أن السرير لا ينتقل من إقليم إلى آخر في طرفة عين.
وأما التشبيه بغير حرف، فيقصد به المبالغة تنزيلا للثاني منزلة الأول تجوزا، كقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
وقوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً}.
وقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}.
وكذلك: {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي كأنها في بياضها من فضة فهو على التشبيه لا على أن القوارير من فضة بدليل قوله: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ}، فقوله:[ بيضاء ] مثل قوله:[ من فضة ].
تنبيهان:.
الأول: هذا القسم يشبه الاستعارة في بعض المواضع والفرق بينهما -كما قاله حازم وغيره - أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه.
وقال الرماني في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي تبصره لأنه لا يجوز تقدير حرف التشبيه فيها.

وقد اختلف البيانيون في نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} إنه تشبيه بليغ أو استعارة ؟ والمحققون -كما قاله الزمخشري - على الأول قال: لأن المستعار له مذكور - وهم المنافقون - أي مذكور في تقدير الآية والاستعارة لا يذكر فيها المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه بحيث يصلح لأن يراد به المنقول عنه و[ المنقول] إليه لولا لا قرينة ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عنه صفحا.
وقال السكاكي: لأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر وتناسى التشبيه وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة فلا يجوز أن يكون استعارة.
الثاني: قد يترك التشبيه لفظا ويراد معنى إذ لم يرد معنى ولم يكن منويا كان استعارة.
مثاله قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، فهذا تشبيه لا استعارة لذكر الطرفين الخيط الأسود وهو ما يمتد معه من غسق الليل شبيها بخيط أسود وابيض وبينا بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والفجر - وإن كان بيانا للخيط الأبيض - لكن لما كان أحدهما بيانا للآخر لدلالته عليه اكتفى به عنه ولولا البيان كان من باب الاستعارة كما أن قولك رايت أسدا استعارة فإذا زدت من فلان، صار تشبيها وأما أنه لم زيد [من الفجر] حتى صار تشبيها ؟ وهلا اقتصر به.

على الاستعارة التي هي أبلغ فلأن شرط الاستعارة أن يدل عليه الحال ولو لم يذكر [من الفجر] لم يعلم أن الخيطين مستعاران من [بدا الفجر] فصار تشبيها.
التقسيم الثاني.
ينقسم باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما:.
إما حسيان، كقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
أو عقليان، كقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
وإما تشبيه المعقول بالمحسوس، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}، وقوله: { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق إنما هو القيام بما فيها.
أما عكسه فمنعه الإمام، لأن العقل مستفاد من الحس ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما وإذا كان ان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وهو غير جائز.

وأجازة غيره كقوله:
وكأن النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهن ابتداع
وينقسم باعتبار آخر إلى خمسة أقسام:.
الأول: قد يشبه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع اعتمادا على معرفة النقيض والضد فإن إدراكهما ابلغ من إدراك الحاسة كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}، فشبه بما لا نشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا.
الثاني: عكسه كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} أخرج ما لا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس - وهو السراب - والمعنى الجامع بطلان التوهم بين شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: إخرج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت به، نحو: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، والجامع بينهما الانتفاع بالصورة. وكذا قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} والجامع البهجة والزينة ثم الهلاك وفيه العبرة.
الرابع: إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها كقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} الجامع العظم وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة.

الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها كقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} والجامع فيهما العظم والفائدة البيان عن القدرة على تسخير الأجسام العظام في أعظم ما يكون من الماء.
وعلى هذه الأوجه تجري تشبيهات القرآن.
التقسيم الثالث.
ينقسم إلى مفرد ومركب:.
والمركب: أن ينزع من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله تعالى :{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وذلك هو حمل الأسفار التي هي أوعية العلم وخزائن ثمرة العقول ثم لا يحسن ما فيها ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه ويتعبه.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}.
وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} قال بعضهم: شبه الدنيا بالماء ووجه الشبه أمران: أحدهما: أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به فكذلك الدنيا. وثانيهما: أن الماء إذا أطبقت كفك عليه لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا وليس المراد تشبيهها بالماء وحده بل المراد تشبيهه بهجةالدنيا في قلة البقاء والدوام بأنيق النبات الذي يصير بعد تلك البهجة والغضاضة والطراوة إلى ما ذكر.

ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فإنه سبحانه أراد تشبيه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن ثم مثله بمصباح ثم لم يقنع بكل مصباح بل بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة بوضعه في مشكاة وهي الطاقة غير النافذة وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للتبصر وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة فيه الكوكب الدري في صفاتها وذهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا لأنه من زيت شجر في أوسط الزجاج لا شرقية ولا غربية فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل تصيبها أعدل إصابة.
وهذا مثل ضربه الله للمؤمن ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ}، والثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} شبه في الأول ما يعلمه من لا يقدر الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها بقيعة ثم يخيب أمله بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيجيئه فلا يجده ماء ويجد زبانية الله عنده فيأخذونه فيلقونه إلى جهنم.
البحث السادس.
ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه.
الأولى: قد تشبه أشياء باشياء ثم تارة يصرح بذكر المشبهات كقوله تعالى:.

{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيء} وتارة لا يصرح به بل يجيء مطويا على سنن الاستعارة كقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}،{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} الآية.
قال الزمخشري: والذي عليه علماء البيان أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة لا المفردة بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى [معزولا بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزه ذاك] فتشبهها بنظائرها كما ذكرنا، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء تضامت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} الآية.
ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة، قال الزمخشري: وأبلغه الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر قال وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.
الثانية: أعلى مراتب التشبيه في الأبلغية ترك وجه الشبه وأداتة نحو زيد أسد أما ترك وجهه وحده فكقوله زيد كالأسد وأما ترك أداته وحدها فكقوله: زيد الأسد شدة.
وفي كلام صاحب "المفتاح" إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداتة قال: لعموم وجه الشبه.

وخالفه صاحب "ضوء المصباح" لأنه إذا عم واحتمل التعدد ولم تبق دلالته على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة ذم لا مدح وهو غير لازم في ترك الأداة إلا أن يقال يلزم مثله من تركها لأن قرينة ترك الأداة تصرف إرادة المدح دون الذم.
وذكرهما كقولك: زيد كالأسد شدة.
الثالثة: قد تدخل الاداة على شيء وليس هو عين المشبه ولكنه ملتبس به واعتمد على فهم المخاطب كما قال تعالى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } الآية. المراد: كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا.
ومما دل على السياق قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} وفيه زيادة وهو تشبيه الخارق بالمعتاد.
الرابعة: إذا كانت فائدته إنما هي تقريب الشبه في فهم السامع وإيضاحه له فحقه أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى مثل قياس النحوي ولا سيما إذا كان الدنو جدا أو العلو جدا وعليه بنى المعري قوله:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك ... وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى
وقول آخر:
كالبحر والكاف أني ضفت زائدة ... فيه فلا تظنها كاف تشبيه

وأما قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فيمكن أن يكون المشبه به أقوى لكونه في الذهن أوضح إذ الإحاطة به أتم.
وأما قوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} فهو من تشبيه الغريب بالأغرب لأن خلق آدم من خلق عيسى ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس وفيه دليل على جواز القياس وهو رد فرع إلى أصل لشبه ما لأن عيسى رد إلى آدم لشبه بينهما والمعنى أن آدم خلق من تراب ولم يكن له أب ولا أم فكذلك خلق عيسى من غير أب.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} شبههم بالخشب لأنه لا روح فيها وبالمسندة لأنه لا انتفاع بالخشب في حال تسنيده.
الخامسة: الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به وهو الكامل كقولك: ليس الفضة كالذهب وليس العبد كالحر وقد تدخل على المشبه لأسباب:.
منها وضوح الحال، كقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} فإن الأصل وليس الأنثى كالذكر وإنما عدل عن الأصل لأن معنى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الذي طلبت {كَالأُنْثَى} التي وهبت لها لأن الأنثى أفضل منه وقيل: لمراعاة الفواصل لأن قبله: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}.
ووهم ابن الزملكاني في "البرهان" حيث زعم أن هذا من التشبيه المقلوب وليس كذلك لما ذكرنا من المعنى.

وقيل: لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات يقتضى المبالغة في التشبيه كقولهم: القمر كوجه زيد والبحر ككفيه كان جعل الأصل فرعا والفرح أصلا في كماله الذي يقتضى نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة وذلك هو المقصود هنا لأن المشابهة واقعة بين الذكر والآنثى في أعم الأوصاف وأغلبها ولهذا يقاد أحدهما بالآخر.
ومنها قصد المبالغة، فيقلب التشبيه ويجعل المشبه هو الأصل ويسمى تشبيه العكس لاشتماله على جعل المشبه مشبها به والمشبه به مشبها، كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} كان الأصل أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع لكن عدلوا عن ذلك وتجرءوا إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز وأنه الخليق بالحل.
ويحتمل أن يكون المراد إلزام الإسلام فيحرم البيع قياسا على الربا لاشتماله على الفضل طردا لأصلهم وهو في المعنى نقض على علة التحريم ويؤيده قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وفيه إشارة إلى أن الواجب اتباع أحكام الله واقتفاؤها من غير تعرض لإجرائها على قانون واحد وأن الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى وهو اعلم بمصالح عباده فيسلم له عنان الانقياد وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام الجدلي وجاء الجواب بفك الملازمة وأن الحكمة فرقت بينهما وفيه إبطال القياس في مقابلة النص.
ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} فإن الظاهر العكس لأن.

الخطاب لعبدة الأوثان وسموها آلهة تشبهيا بالله سبحانه وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق سبحانه فرعا فجاء الإشكال على وفق ذلك.
والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق خوطبوا بأشد الإلزامين وهو تنقيص المقدس لا تقديس الناقص.
قال السكاكي: وعندي أن المراد بـ[من لا يخلق] الحي القادر من الخلق تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى. وجعل منه قوله تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} بدل [هواه إلهه] فإنه جعل المفعول الأول ثانيا والثاني أولا للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلاهه.
ومنه قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}.
وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، فإن بعضهم أورد أن أصل التشبيه يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: [ أفتجعل المجرمين كالمسلمين والفجار كالمتقين ] فلم خولفت القاعدة !.
ويقال: فيه وجهان:.
أحدهما: أن الكفار كانوا يقولون: نحن نسود في الآخرة كما نسود في الدنيا ويكونون أتباعا لنا فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى وغيرهم أدنى.
الثاني: لما قيل قبل الآية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ.

ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يظنون أن الأمر يهمل وأن لا حشر ولا نشر أم لم يظنوا ذلك ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين والمتقين كالفجار.
السادسة: أن التشبيه في الذم يشبه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى والأعلى ظاهر عليه فيشبه به في السلب ومنه قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}، أي في النزول لا في العلو.
ومنه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي في سوء الحال وإذا كان في المدح يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: تراب كالمسك وحصى كالياقوت وفي الذم مسك كالتراب وياقوت كالزجاج.
السابعة: قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك، لأنه بسبب المحذوف كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ}.
فإن التقدير: ومثل واعظ الذين كفروا فالمشبه الواعظ والمقصود تشبيه حال الواعظ منهم بالناعق للأغنام وهي لا تعقل معنى دعائه وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي ويمد صوته إليها وفيه وجوه:.
أحدها: أن المعنى مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق فأضاف المثل إلى الناعق وهو في المعنى للمنعوق به على القلب.
ثانيها: ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثل مثلك الذي ينعق أي مثلهم في الإعراض.

ومثلنا في الدعاء والإرشاد كمثل الناعق بالغنم فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}.
وثالثها: أن المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم الاصنام وهي لا تعقل ولا تسمع كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا فالنداء والدعاء منتصبان بـ[ينعق] و[لا] توكيد للكلام ومعناها الإلغاء.
رابعها: أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها كمثال الراعي الذي ينعق بغنمه ويناديها فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه فيشبه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب.
وهذا قريب من الذي قبله ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ويجب صرفه إلى غير الغنم وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة وإن لم يفهمهما والأصنام - من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة - يجب أن يكون داعيها وناديها أسوأ حالا من منادى الغنم ذكر ذلك الشريف المرتضى في كتاب "غرر الفوائد".
ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ..} الآية، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح قيل فيه إضمار أي مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
قال ثعلب: فيه تقديم وتأخير، أي كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صر فأهلكته.

وأما قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، فإن التقدير: كما يحب المؤمنون الله قال: وحذف الفاعل لأنه غير ملتبس.
واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل.
وأجيب بأنه تقدير معنى لكن محافظة على اللفظ فلا يقدر الفاعل إذ الفاعل في باب المصدر فضلة فلذلك جعله كذلك في التقدير.

الاستعارة.
هي من أنواع البلاغة وهي كثيرة في القرآن ومنهم من أنكره بناء على إنكار المجاز في القرآن والاستعارة مجاز وقد سبق تقديره. ومنع القاضي عبد الوهاب المالكي إطلاق لفظ الاستعارة فيه لأن فيها إيهاما للحاجة وهكذا كما منع بعضهم لفظ القرآن مخلوق وهو لا ينكر وقوع المجاز والاستعارة فيه إنما توقف على إذن الشرع.
ولا شك أن المجوزين للإطلاق شرطوا عدم الإبهام وقد يمنعون الإبهام المذكور لأنه في الاصطلاح اسم لأعلى مراتب الفصاحة.
وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا امتنعنا ويكون هذا من قبيل أن الله تعالى عالم والعلم هو العقل ثم لا نصفه به لعدم التوقيف. انتهى.
والمشهور تجويز الإطلاق.
مباحث الاستعارة.
ثم فيها مباحث:.
الأول: وهي "استفعال"، من العارية، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة.

في التخييل والتشبيه مع الإيجاز نحو لقيت أسدا وتعنى به الشجاع.
وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إل شيء لم يعرف بها وحكمه ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي أو بحصول المبالغة أو للمجموع.
فمثال إظهار الخفي، قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}، فإن حقيقته أنه في أصل الكتاب فاستعير لفظ [الأم] للأصل لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليا، قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} لأن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة فاستعير للولد أولا جانب ثم للجانب جناح وتقدير الاستعارة القريبة:[ واخفض لهما جانب الذل ] أي اخفض جانبك ذلا.
وحكمة الاستعارة في هذاجعل ما ليس بمرئي مرئيا لأجل حسن البيان ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقى الولد من الذل لهما والاستكانة مركبا احتيج من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى فاستعير الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجناح لأن من ميل جانبه إلى جهة السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه المراد خفض يلصق الجنب بالإبط ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر وأما قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فيقال: إنه أرسل إليه قارورة وقال: ابعث إلى فيها شيئا من ماء الملام فأرسل.

أبو تمام: أن ابعث لي ريشة من جناح الذل أبعث إليك من ماء الملام.
وهذا لا يصح له تعلق به والفرق بين التشبيهين ظاهر لأنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام فإن الجناح للذل مناسب فإن الطائر إذا وهى وتعب بسط جناحه وألقى نفسه إلى الأرض. وللإنسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان يطأطىء من رأسه وخفض من بين يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار شبها مناسبا وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه فلذلك استهجن منه على أنه قد يقال إن الاستعارة التخييلية فيه تابعة للاستعارة بالكناية فإن تشبيه الملام بظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته ثم استعار الملام له كمائه ثم يخرج منه شيء يشبه بالماء فالاستعارة في اسم الماء.
الثاني: في أنها قسم من أقسام المجاز لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وقال الإمام فخر الدين: ليس بمجاز لعدم النقل. وفي الحقيقة هي تشبيه محذوف الأداة لفظا وتقديرا ولهذا حدها بعضهم بادعاء معنى الحقيقة في الشيء مبالغة في التشبيه. كقولهم: انشقت عصاهم إذا تفرقوا وذلك للعصا لا للقوم ويقولون: كشفت الحرب عن ساق.
ويفترقان في أن التشبيه إذا ذكرت معه الأداة فلا خفاء أنه تشبيه وإن حذفت فهذا يلتبس بالاستعارة فإذا ذكرت المشبه كقولك: زيد الأسد فهذا تشبيه بليغ كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، إن لم يذكر المشبه به فهو استعارة كقوله:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم

فهذه استعارة نقلت لها وصف الشجاع إلى عبارة صالحة للأسد لولا قرينة السلاح لشككت هل أراد الرجل الشجاع أو الأسد الضاري ؟.
الثالث: لا بد فيها من ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، وهو اللفظ، ومستعار له وهو المعنى، ففي قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} المستعار الاشتعال، المستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب.
وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالنسبة إلى ما هو أظهر. وأصل الكلام أن يقال: واشتعل شيب الرأس وأنما قلب للمبالغة لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم. ولا يخفى أنه أبلغ من قولك كثر الشيب في الرأس وإن كان ذلك حقيقة المعنى والحق أن المعنى يعار أولا ثم بواسطته يعار اللفظ ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان الشبه مقررا بينهما ظاهرا وإلا فلا بد من التصريح بالشبه فلو قلت: رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قوله: " مثل المؤمن كمثل النخلة " أو " الخامة " لكنت كالملغز.
ومن أحسن الاستعارة قوله تعالى :{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وحقيقته [بدأ انتشاره] و[تنفس] أبلغ فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا بينه وبين إخراج النفس مشاركة شديدة.

وقوله: {الليل نسلخ منه النهار} ، لأن انسلاخ الشيء عن الشيء أن يبرأ منه ويزول عنه حالا فحالا كذلك انفصال الليل عن النهار والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان.
وقوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}.
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} ، ويقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار.
وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}.
{أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}، أي في الخلق الجديد.
{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}.
{خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}.
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}.
{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}.
{أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، والمراد حفظهم وما يحصل لهم.
وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ}، أي أتمها كما أمرت.
{إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}، أي عصمك منهم، رواه شعبة عن أبي وجاء عن الحسن.
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}.
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}.
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}.
{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، فالدمغ والقذف مستعار.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ}، يريد لا إحساس بها من غير صمم.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} ، فإنه أبلغ من بلغ وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع ابلغ من تأثير التبليغ فقد لا يؤثر التبليغ والصدع يؤثر جزما.

الرابع: تنقسم إلى مرشحة.
وهي أحسنها - وهي أن تنظر إلى جانب المستعار وتراعيه، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ، فإن المستعار منه الذي هو الشراء هو المراعي هنا وهو الذي رشح لفظتي الربح والتجارة للاستعارة لما بينهما من الملاءمة.
وإلى تجريدية، وهي أن تنظر إلى جانب المستعار له، ثم تأتي بما يناسبه ويلائمه، كقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}، فالمستعار اللباس، والمستعار له الجوع فمجرد الاستعارة بذكر لفظ الأداة المناسبة للمستعار له وهو الجوع لا المستعار وهو اللباس ولو أراد ترشيحها لقال: وكساها لباس الجوع وفي هذه الآية مراعاة المستعار له الذي هو المعنى وهو الجوع والخوف لأن ألمهما يذاق ولا يلبس.
وقد تجيء ملاحظة المستعار الذي هو اللفظ، كقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} إذا حملنا الحطب على النميمة فاعتبر اللفظ فقال: [حمالة] ولم يقل [راوية] فيلاحظ المعنى.
وأما الاستعارة بالكناية فهي ألا يصرح بذكر المستعار، بل تذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه، كقوله: شجاع يفترس أقرانه وعالم يغترف منه الناس تنبيها على أن الشجاع أسد والعالم بحر.
ومنه المجاز العقلي كله عند السكاكي.

ومن أقسامها - وهو دقيق - أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومي إليه بذكر شيء من توابعه وروادفه تنبيها عليه فيقول شجاع يفترس أقرانه فنبهت بالافتراس على أنك قد استعرت له الأسد.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، فنبه بالنقض الذي هو من توابع الحبل وروادفه على أنه قد استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة بين المتعاهدين.
ومنها قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}، لأن حقيقته [عملنا] لكن [قدمنا] أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفره لأنه من أجل إمهالهم السابق عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمر به وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.
وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، لأن حقيقة [طغى] علا والاستعارة أبلغ لأن [طغى] علا قاهرا.
وكذلك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، لأن حقيقة [عاتية] شديدة والعتو أبلغ لأنه شدة فيها تمرد.
وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، الآية وحقيقته: لا تمنع ما تملك كل المنع والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليدين إلى العنق وحال الغلول أظهر.

وقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، قيل: أخرجت ما فيها من الكنوز.
وقيل: يحيى به الموتى وأنها أخرجت موتاها فسمى الموتى ثقلا تشبيها بالحمل الذين يكون في البطن لأن الحمل يسمى ثقلا قال تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}.
ومنها جعل الشيء للشيء وليس له من طريق الأدعاء والاحاطة به نافعة في آيات الصفات كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}.
وقوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.
ويسمى التخييل: قال الزمخشري: ولا تجد بابا في علم البيان أدق ولا أعون في تعاطي المشبهات منه وأما قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} قال الفراء: فيه ثلاثة أوجه:.
أحدها: أنه جعل طلعها رءوس الشياطين في القبح.
والثاني: أن العرب تسمى بعض الحيات شيطانا وهو ذو القرن.
الثالث: أنه شوك قبيح المنظر يسمى رؤس الشياطين.
فعلى الأول يكون تخييلا وعلى الثاني يكون تشبيها مختصا.
تقسيم آخر.
الاستعارة فرع التشبيه فأنواعها كأنواعه خمسة:.

الأول: استعارة حسي لحسى بوجه لحسي كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} فإن المستعار منه هو النار والمستعار له هو الشيب والوجه هو الانبساط فالطرفان حسيان والوجه ايضا حسي وهو استعارة بالكناية لأنه ذكر التشبيه وذكر المشبه وذكر المشبه به مع لازم من لوازم المشبه به وهو الاشتعال.
وقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، أصل الموج حركة المياه فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
الثاني: حسي لحسي بوجه عقلي كقوله تعالى :{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فالمستعار له الريح والمستعار منه المرأة وهما حسيان والوجه المنع من ظهور النتيجة والأثر وهو عقلي وهو ايضا استعارة بالكناية.
قال في الإيضاح: وفيه نظر لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ولهذا جعل صفة للريح لا اسما والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحبل والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر [والجامع لهما ما ذكر].
وهو مندفع بالعناية لأن المراد من قوله المستعار منه المرأة التي عبر عنها بالعقيم ذكرها السكاكي بلفظ ما صدق عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ، المستعار له ظلمة النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ عند جلدته والجامع عقلي وهو ترتب أحدهما على الآخر.

وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}، أصل الحصيد النبات والجامع الهلاك وهو أمر عقلي.
الثالث: معقول لمعقول، كقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا}، فالرقاد مستعار للموت وهما أمران معقولان والوجه عدم ظهور الأفعال وهو عقلي والاستعارة تصريحية لكون المشبه به مذكورا.
وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} المستعار السكوت، والمستعار له الغضب، والمستعار منه الساكت، وهذه ألطف الاستعارات لأنها استعارة معقول لمعقول لمشاركته في أمر معقول.
الرابع: محسوس لمعقول، كقوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أصل التماس في الأجسام فاستعير لمقاساة الشدة وكون المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا وكونها تصريحية ظاهر والوجه اللحوق وهو عقلي.
وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} قالقذف والدمغ مستعاران.
وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}.

وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وكل خوض ذكره الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء.
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} استعارة لبيانه عما أوحى إليه كظهور ماء في الزجاجة عند انصداعها.
وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} ، البنيان مستعار وأصله للحيطان.
وقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} العوج مستعار.
وقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وكل ما في القرآن من الظلمات والنور مستعار.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} الوادي مستعار وكذلك الهيمان وهو على غاية الإيضاح.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}.
الخامس: استعارة معقول لمحسوس: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} المستعار منه التكبر والمستعار له الماء والجامع الاستعلاء المفرط.
وقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} العتو هاهنا مستعار.

وقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} فلفظ الغيظ مستعار.
وقوله: { وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فهو أفصح من مضيئة.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}.
ومنها الاستعارة بلفظين، كقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} يعني تلك الأواني ليس من الزجاج ولا من الفضة بل في صفاء القارورة وبياض الفضة وقد سبق عن الفارسي جعله من التشبيه.
ومثله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، ينبى عن الدوام والسوط ينبي عن الإيلام فيكون المراد والله أعلم تعذيبهم عذابا دائما مؤلما.

التورية.
وتسمى الإيهام والتخييل والمغالطة والتوجيه، وهي أن يتكلم المتكلم بلفظ مشترك بين معنيين: قريب وبعيد ويريد المعنى البعيد يوهم السامع أنه أراد القريب مثاله قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، أراد بالنجم النبات الذي لا ساق له والسامع يتوهم أنه أراد الكوكب لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.
وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} والمراد المعرفة.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أراد بها في نعمة وكرامة والسامع يتوهم أنه أراد من النعومة.
وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أراد بالأيد القوة الخارجة.
وقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} ، أي مقرطون تجعل في آذانهم القرطة والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة والسامع يتوهم أنه من الخلود.
وقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي علمهم منازلهم فيها أو يوهم إرادة العرف الذي هو الطيب.
وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}.
وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ} فذكر [رضوان] مع [الجنات] مما يوهم إرادة خازن الجنات.

وكان الأنصار يقولون: {رَاعِنَا} أي أرعنا سمعنا وأنظر إلينا والكفار يقولونها [فاعل] من الرعونة. وقال أبو جعفر: هي بالعبرانية فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون فنهي المسلمون عنها.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} فقوله: [الولي] هو من أسماء الله ومعناه الولي لعباده بالرحمة والمغفرة وقوله: [الحميد] يحتمل أن يكون من [حامد] لعباده المطيعين أو [محمود] في السراء والضراء وعلى هذا فالضمير راجع إلى الله سبحانه. ويحتمل أن يكون الولي من أسماء المطر وهو مطر الربيع والحميد بمعنى المحمود وعلى هذا فالضمير عائد على الغيث.
وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ، فإن لفظة [ربك] رشحت لفظة [ربه] لأن يكون تورية إذ يحتمل أنه أراد بها الإله سبحانه والملك فلو اقتصر على قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} ولم تدل لفظة ربه إلا على الإله فلما تقدمت لفظة [ربك] احتمل المعنيين.
تنبيه:.
[في الفرق بين التورية والاستخدام ].
كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام والفراق بينهما أن التورية استعمال المعنيين في اللفظ وإهمال الآخر وفي الاستخدام استعمالهما معا بقرينتين.

وحاصله أن المشترك إن استعمل في مفهومين معا فهو والاستخدام وإن أريد أحدهما مع لمح الآخر باطنا فهو التورية.
ومثال الاستخدام قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فإن لفظة [كتاب] يراد بها الأمد المحتوم والمكتوب وقد توسطت بين لفظتين فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد واستخدمت [يمحو] المفهوم الآخر وهو المكتوب.
وقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} فإن الصلاة تحتمل إرادة نفس الصلاة، وتحتمل إرادة موضعها فقوله {حَتَّى تَعْلَمُوا} استخدمت إرادة نفس الصلاة، وقوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}، استخدمت إرادة موضعها.

التجريد.
وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر كأنه مباين له فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما اعتقدت ذلك كقولهم لئن لقيت زيدا لتلقين معه الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا وهو عينه هو الأسد والبحر لا أن هناك شيئا منفصلا عنه كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}، فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات وهو عينه ونفسه تلك الآيات.
وكقوله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وإنما هذا ناب عن قوله: وَاعْلَم أَنِّي عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} ، ليس المعنى أن الجنة فيها دار خلد وغير دار خلد بل كلها دار خلد فكأنك لما قلت: في الجنة دار الخلد اعتقدت أن الجنة منطوية على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد فجردت منها هذا الواحد كقوله:
وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل
وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}، على أحد.

التأويلات في الآية عن ابن مسعود: " هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة " قال ابن عطية في تفسيره هذه الآية: إن لفظة الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا إنما هو عبارة عن تغيير الحال كما تقول في صبي جيد البنية يخرج من هذا رجل قوي.
وقد يحتمل قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي الحيوان كله ميتة ثم يحييه قال وهو معنى التجريد.
وذكر الزمخشري أن عمرو بن عبيد قرأ في قوله تعالى: {فكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} بالرفع بمعنى حصلت منها [سماء] وردة قال وهو من التجريد.و.
قرأ على وابن عباس في سورة مريم: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، قال ابن جنى: هذا هو التجريد وذلك أنه يريد وهب لي من لدنك وليا يرثني منه وارث من آل يعقوب وهو الوارث نفسه فكأنه جرد منه وارثا.

التجنيس.
وهو إما بأن تتساوى حروف الكلمتين، كقوله تعالى :{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} وفي ذلك رد على من قال: ليس منه في القرآن غير الآية الأولى.
وأما بزيادة في إحدى الكلمتين، كقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}.
وإما لاحق بأن يختلف أحد الحرفين كقوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
{بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}.
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}.
وإما في الخط وهو أن تشتبها في الخط لا اللفظ كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.

وقوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.
وأما في السمع لقرب أحد المخرجين من الآخر، كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
تنبيهات:.
الأول: نازع ابن أبي الحديد في الآية الأولى وقال: عندي أنه ليس بتجنيس أصلا وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا بل تكونا حقيقتين وإن زمان القيامة - وإن طال - لكنه عند الله تعالى في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر ولا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظة [الساعة] على أحد الموضعين حقيقة وعلى الآخر مجازا وذلك يخرج الكلام من التجنيس كما لو قلت: ركبت حمارا ولقيت حمارا وأردت بالثاني البليد. وأيضا لا يجوز أن يكون المراد بالساعة الساعة الأولى خاصة وزمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس.
الثاني: يقرب منه الاقتضاب وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}.
وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقوله: {وْحٌ وَرَيْحَانٌ}.

وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}.
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}.
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}.
{ا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}.
{تَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}.
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}.
{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}.
الثالث: اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ولهذا تركوه عند قوة المعنى بتركه ولذلك مثالان:.
أحدهما: قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} فذكر الرازي في تفسيره أن الكاتب الملقب بالرشيدي قال: لو قيل: [ أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين ] [أوهم أنه أحسن لأنه كان] تحصل به رعاية معنى التجنيس أيضا مع كونه موازنا لـ[تذرون].
وأجاب الرازي: بأن فصاحة القرآن ليس لأجل رعاية هذه التكلفات بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ.
وقال بعضهم: مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ فلو كان [أتدعون].

[وتدعون] كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارىء فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه وحينئذ فينخرم اللفظ إذا قرأ وتدعون الثانية بسكون الدال لا سيما وخط المصحف الإمام لا ضبط [فيه] ولا نقط.
قال: ومما صحف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} بالسين المهملة.
وقوله: {عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} بالباء الموحدة.
وقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} بالعين المهملة.
وقرأ ابن عباس" مَنْ فرعون " على الاستفهام.
قلت: وأجاب الجويني عن هذا بما يمكن أن يتخلص منه: أن [يذر] أخص من [يدع] وذلك لأن الأول بمعنى ترك الشيء اعتناء بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ومن ذلك الدعة بمعنى الراحة وأما تذر فمعناها الترك مطلقا والترك مع الإعراض والرفض الكلي ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول فأريد هنا تبشيع حالهم في الأعراض عن ربهم وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض.
قلت: ويؤيده قول الراغب: يقال فلا يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به.
والوزرة قطعة من اللحم [وتسميتها بذلك] لقلة الاعتداد به نحو قولهم [فيم لا يعتد به] هو: لحم على وضم قال تعالى: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} {ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}.

وإنما قال: {يَذَرُونَ} ولم يقل: يتركون، ويخلفون لذلك. انتهى.
وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه أجاب عن هذا السؤال بأن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان وهذا مقام تهويل والقصد فيه المعنى فلم يكن لمراعاة اللفظة فائدة.
وفيه نظر، فإنه ورد في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}.
المثال الثاني: قوله تعالى :{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} قال : معناه: وما أنت مصدق لنا فيقال: ما الحكمة في العدول عن الجناس وهلا قيل:[ وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين ] فإنه يؤدي معنى الأول مع زيادة رعاية التجنيس اللفظي ؟.
والجواب أن في [مؤمن لنا] من المعنى ما ليس في [مصدق] وذلك أنك إذا قلت: مصدق لي، فمعناه: قال لي: صدقت وأما [مؤمن] فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن ومقصودهم التصديق وزيادة وهو طلب الأمن فلهذا عدل إليه.
فتأمل هذا اللطائف الغريبة والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز !.
فائدة.
قال الخفاجي: إذا دخل التجنيس نفي عد طباقا كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، لأن [الذين لايعلمون] هم الجاهلون قال: وفي هذا يختلط التجينس بالطباق.

الطباق.
هو أن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل كالبياض والسواد والليل والنهار وهو قسمان: لفظي ومعنوي، كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} طابق بين الضحك والبكاء والقليل والكثير.
ومثله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}.
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
وقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ..} الآية.
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وما يستوي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
ثم إذا شرط فيهما شرط وجب أن يشترط في ضديهما ضد ذلك الشرط كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى..} الآية، لما جعل التيسير.

مشتركا بين الآعطاء والتقى والتصديق وجعل ضده وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك الأمور وهي المنع والاستغناء والتكذيب.
ومنه: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قابل بين العلو والدنو.
وقوله: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ}.
وقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، فذكر الليل والنهار وهما ضدان ثم قابلهما بضدين وهما الحركة والسكون على الترتيب ثم عبر عن الحركة بلفظ [الإرداف] فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدة على المبالغة وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ [ابتغاء الفضل] لكون الحركة تكون للمصلحة دون المفسدة وهي تسير إلى الإعانة بالقوة لكون الحركة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس وإضافة الظرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المأرب.
ومن الطباق المعنوي قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} معناه ربنا يعلم إنا لصادقون.
وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، قال أبو علي في [الحجة]: لما كان البناء رفعا للمبنى قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء ومن ثم وقع البناء على ما فيه ارتفاع في نصيبه إن لم يكن مدرا.

ومنه نوع يسمى الطباق الخفي كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} لأن الغرق من صفات الماء فكأنه جمع بين الماء في النار والنار قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن.
قلت: ومنه قوله تعالى: {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} فكأنه جمع بين الأخضر والأحمر وهذا أيضا فيه تدبيج بديعي.
ومنه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لأن معنى القصاص القتل فصار القتل سبب الحياة.
قال ابن المعتز: وهذا من أملح الطباق وأخفاه.
وقوله تعالى في الزخرف: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} لأن ظل لا تستعمل إلا نهارا فإذا لمح مع ذكر السواد كأنه طباق يذكر البياض مع السواد.
وقوله: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.

المقابلة.
[مباحث المقابلة].
وفيها مباحث:.
الأول: في حقيقتها.
وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ويخالفه في بعضها وهي من باب [المفاعلة] كالمقابلة والمضاربة وهي قريبة من الطباق والفرق بينهما من وجهين:.
الأول: أن الطباق لايكون إلا بين الضدين غالبا والمقابلة تكون لأكثر من ذلك غالبا.
والثاني: لا يكون الطباق إلا بالأضداد والمقابلة بالأضداد وغيرها ولهذا جعل ابن الآثير الطباق أحد أنواع المقابلة.
الثاني: في أنواعها.
وهي ثلاثة: نظيري، ونقيضي، وخلافي. والخلافي أتمها في التشكيك وألزمها بالتأويل والنقيضي ثانيها والنظيري ثالثها.
وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعي: أن القرآن كله وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات حيث اتحدت من حيث تعددت واتصلت من حيث انفصلت وأنها قد ترد على شكل المربع تارة وشكل المسدس أخرى، وعلى شكل.

المثلث، إلى غير ذلك من التشكيلات العجيبة والترتيبات البديعة ثم أورد أمثل من ذلك.
مثال مقابلة النظيرين مقابلة السنة والنوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.
وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}، وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا ثم السنة والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما يقابلان النقيض الذي هو اليقظة.
ومثال مقابلة الخلافين مقابلة الشر بالرشد في قوله تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، فقابل الشر بالرشد وهما خلافيان وضد الرشد الغي وضد الشر الخير والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا وألغى الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا حصل من هذا الشكل أربعة الفاظ نطقان وضمنان فكان بهما رباعيان.
وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره علىوجوه فقد يرد وبعضه مفسر مثل ما ذكرناه وقد يرد وكله مفسر، كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فقابل {صَدَّقَ} بـ [كَذَّبَ] و{صَلَّى} الذي هو أقبل بـ {َتَوَلَّى}.
قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً}، اللغو في الحثيثة المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة واللغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته والتأثيم منشأ التكبر ومبدأ درجاته فلا نكير إلا بعد منكر ولا اعتقاد إنكار إلا بعد اعتقاد تأثيم ومنشأ اللغو في أول طرف المكروهات وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد وسفك الدماء بالتقديس.

فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد والتقديس ينفي سفك الدماء والتسبيح شريعة للإصلاح والتقديس شريعة حقن الدماء وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح فإن التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس وهذا شكل مربع من أرضى وهو الإفساد وسفك الدماء وسمائي وهو التسبيح والتقديس والأرضي ذو فصلين والسمائي ذو فصلين ووقع النفس من الطرفين المتوسطين فالطرفان الإفساد في الطرف الأول والتقديس في الطرف الآخر والوسطان آخر الأرض وأول السماء فالأول متشرف على الآتي والاخر ملفت إلى الماضي.
وكم في كتاب الله من كل موجز ... يدور على المعنى وعنه يماصع
لقد جمع الإسم المحامد كلها ... مقاسيمها مجموعة والمشايع
وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى عظيم يوصل إلى أمور غير متجاسر عليها كما في آية الكرسي وغيرها.
وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع:.
أحدها : أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
والثانية: أن يأتي بجميع الثواني مرتبة من أولها، كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}.
وكذلك: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

الثالث: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مرتبة من آخرها، ويسمى رد العجز على الصدر، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
الرابع: أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة، ويسمى اللف، كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فنسبة قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} كنسبة قوله: {يَقُولَ الرَّسُولُ} إلى {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} لأن القولين المتباينين يصدران عن متباينين.
وكما قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} فنسبة قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} كنسبة قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} فجمع المقدمين التاليين بالالتفات.
وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان:.
مقابل في اللفظ دون المعنى، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً}.

ومقابل في المعنى دون اللفظ، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ لكان التقدير: وإن اهتديت فإنما اهتديت لها.
وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى أن النفس كل ما هو عليها لها، فهو أعنى أن كل ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها لأنها أمارة بالسوء وكل ما هو مما ينفعها فبهداية ربهاوتوفيقه إياها وهذا حكم لكل مكلف وإنا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسند إلى نفسه لأنه إذا دخل تحته مع علو محله كان غيره أولى به.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإنه لم يدع التقابل في قوله: {لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} لأن القياس يقتضى أن يكون [والنهار لتبصروا فيه]، وإنما هو مراعي من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لأن معنى [مبصرا] تبصرون فيه طرق التقلب في الحاجات.
واعلم أن في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمل وهو يتصل غالبا بالفواصل، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إلى قوله: {لا يَشْعُرُونَ}.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} إلى قوله: {لا يَعْلَمُونَ}.
فانظر فاصلة الثانية {يَعْلَمُونَ} والتي قبلها {يَشْعُرُونَ} لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين: يجتمعون ومطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكسب الناظر.

المعرفة والعلم وإنما النفاق وما فيه من الفتنة والفساد أمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس فلذلك قال فيه [يعلمون].
وأيضا فإنه لما ذكر السفهفي الآية الآخرى - وهو جهل - كان ذكر العلم طباقا وعلى هذا تجيء فواصل القرآن وقد سبق في بابه.
ومن المقابلة قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} ، فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ثم قوبل بشيء واحد وهو الوعد فأوهم الإخلال بالثاني وليس كذلك وإنما لما كان الفضل مقابلا للفقر والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء لأن الفحشاء توجب العقوبة والمغفرة تقابل العقوبة استغنى بذكر المقابل عن ذكر مقابله لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر.

تقسيم.
من مقابلة اثنين باثنين: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}.
ومن مقابلة أربعة بأربعة: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية.
ومن مقابلة خمس بخمس قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، للدلالة على الحقير والكبير، وهو من الطباق الخفي الثاني :{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الثالث [يضل] و[يهدي] به، والرابع {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الخامس [يقطعون] و[أن يوصل].
ومن مقابلة ست بست: قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ.

وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}، قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان بإزاء النساء في الدنيا وختم بالحرث وهما طرفان متشابهان وفيهما الشهوة والمعاش الدنياوي وأخر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخروي وختم بالرضوان.
فائدة.
قد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر وإذا تؤمل كان من أكمل المقابلات ولذلك أمثلة:.
منها قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} فقابل الجوع بالعري والظمأ بالضحى والواقف مع الظاهر ربما يحيل أن الجوع يقابل بالظمأ والعري بالضحى.
والمدقق يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة لأن الجوع ألم الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية جميع نفى الآفات ظاهرا وباطنا وقابل الخلو بالخلو والاحتراق بالاحتراق.
وهاهنا موضع الحكاية المشهورة بين المتنبي وسيف الدولة لما أنشده:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}، فإنه يتبادر فيه سؤال وهو أنه لم لا قيل مثل الفريقين كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتكون المقابلة في لفظ الأعمى وضده بالبصير وفي لفظ الأصم وضده السميع.
والجواب أنه يقال: لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع وبضد ذلك لما ذكر انفتاح البصر أعقبه بانفتاح السمع فما تضمنته الآية الكريمة هو الأنسب في المقابلة والأتم في الإعجاز.

رد العجز على الصدر وعكسه.
{خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}.
العكس.
وهو أن يقدم في الكلام جزء ثم يؤخر، كقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقدره الزمخشري أي لا حل بين المؤمن والمشرك والآية صرحت بنفي الحل من الجهتين فقد يستدل بها من قال إن الكفار مخاطبون بالفروع.
ومثله قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين.

الجام الخصم بالحجة.
وهو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه. والعجب من ابن المعتز في بديعه حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن وهو من أساليبه.
ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ثم قال النحاة: إن الثاني امتنع لأجل امتناع الأول وخالفهم ابن الحاجب وقال: الممتنع الأول لأجل الثاني فالتعدد منتف لأجل امتناع الفساد.
وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقوله حكاية عن الخليل: {وحاجه قومه} إلى قوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، المعنى أن الأهون أدخل في الإمكان من غيره وقد أمكن هو فالإعادة أدخل في الإمكان من بدء الخلق.
وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} الآية، وهذه حجة عقلية تقديرها أنه لو كان خالقان لاستبد كل منهما بخلقه فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر ويؤدي إلى تناهى.

مقدوراتهما وذلك يبطل الإلهية فوجب أن يكون الإله واحدا ثم زاد في الحجاج فقال: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، أي ولغلب بعضهم بعضا في المراد ولو أراد أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصح ارتفاع مرادهما لأن رفع النقيضين محال ولا وقوعهما للتضاد فنفى وقوع أحدها دون الآخر وهو المغلوب وهذه تسمى دلالة التمانع وهي كثيرة في القرآن كقوله تعالى: {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}.
وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم}.
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} فبين أنا لم نخلق المنى لتعذره علينا فوجب أن يكون الخالق غيرنا.
ومنه نوع منطقي وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين وذلك من أول سورة الحج إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، فنطق على خمس نتائج من عشر مقدمات فالمقدمات من أول السورة: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} والنتائج من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}.
وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقول أخبر الله أن زلزلة الساعة شيء عظيم وخبره هو الحق ومن أخبر عن الغيب بالحق فهو حق بأنه هو الحق وأنه يأتي بالساعة.

على تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى ليدركوا ذلك ومن يأتي بالساعة يحيى الموتى فهو يحيي الموتى وأخبر أنه يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس لشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فإنه علىكل شيء قدير وأخبر أن الساعة يجازي فيها من يجادل في الله بغير علم ولا بد من مجازاته ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور والله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من القبور.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} مقدمتان ونتيجة لأن اتباع الهوى يوجب الضلال والضلال يوجب سوء العذاب، فأنتج أن اتباع الهوى يوجب سوء العذاب.
وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي القمر أفل وربي فليس بآفل فالقمر ليس بربي أثبته بقياس اقتراني جلى من الشكل الثاني واحتج بالتعبير على الحدوث والحدوث على المحدث.

التقسيم.
وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرق أو لا مفترقة ولا مجتمعة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق فإن هذه القسمة صحيحة عقلا لكن بعضها يستحيل وجوده وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الآقسام الثلاثة إما ظالم نفسه وإما سابق مبادر إلى الخيرات وإما مقتصد فيها وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.
ومثله قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات.
كذلك قوله تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها.
وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} إلى قوله: { مَا يَشَاءُ}، وهو في القرآن كثير وخصوصا في سورة براءة.
ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً}، وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهما

وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، فاستوفت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة.
وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} فلم يترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات.
ومثله آية يونس: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً}.
لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة وذلك أن المراد بالذكر في الأولى الصلاة فيجب فيها تقديم الاضطجاع وإذا زال بعض الضر قعد المضجع وإذا زال كل الضر قام القاعد فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة.
فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة فإنها تحصل في الكلام حسن اتساق وائتلاف الألفاظ مع المعاني وقد عدل عنها إلى [أو] التي سقط معها ذلك.
قلت: يأتي التضرع على أقسام فإن منه ما يتضرع المضرور عند وروده ومنه ما يقعده ومنه ما يأتي صاحبه قائم لا يبلغ به شيئا والدعاء عنده أولى من التضرع فإن الصبر والجزع عند الصدمة الأولى فوجب العدول عن الواو لتوخي الصدق في الخبر والكلام بالائتلاف ويحصل النسق والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد وبالثاني عن أشخاص فغلب الكثرة فوجب الإتيان بـ[أو] وابتدى بالشخص الذي تضرع لأن خبره أشد فهو أشد تضرعا فوجب تقديم ذكره ثم القاعد ثم القائم فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها.

وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً}، قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث أو بهبة الذكور أو يجمعهما له أو لا يهب شيئا. وقد جاءت الأقسام في هذه الاية لينتقل منها إلى أعلى منها وهي هبة الذكور فيه ثم انتقل إلى أعلى منها وهي وهبتهما جميعا وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة وأفرد معنى الحرمان بالتأخير، وقال فيه [يجعل] فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأنتم أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}، فذكر امتداد وإنمائه بلفظ الزرع ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.
وقيل: إنما بدأ سبحانه بالأناث لوجوه غير ما سبق.
أحدها: جبرا لهن لأجل استثقال الأبوين لمكانهن.
الثاني: أن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء لا ما يشاء الأبوان فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا.
الثالث: أنه قدم ذكر ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن أي هذا النوع الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر.
الرابع: قدمهن لضعفهن وعند العجز والضعف تكون العناية أتم.
وقيل: لينقل من الغم إلى الفرج.
وتأمل كيف عرف سبحانه الذكور بعد تنكير فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص المتأخر بالتعريف، فإن التعريف تنويه.

وهذا أحسن مما ذكره الواحدي أنه عرف الذكور لأجله الفاصلة.
ولما ذكر الصنفين معا قدم الذكور فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد.
بقى سؤال آخر، وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو والثالث بـ[ أو ]، ولعله لأن هبة كل من الإناث والذكور قد لا يقترن بها فكأنه وهب لهذا الصنف وحده أو مع غيره فلذلك تعينت [ أو ]. فتأمل لطائف القرآن وبدائعه!.
ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له، لأنه ليس واحدا من المذكورين، ولا حجة فيه، لأنه مقام امتنان، والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم. أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر، والخنثى لا يخرج عن أحدهما.

التعديد.
هي إيقاع الألفاظ المبددة على سياق واحد، وأكثر ما يؤخذ في الصفات ومقتضاها ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها، ويجريها مجرى الوصف في الصدق على ما صدق، ولذلك يقل عطف بعض صفات الله على بعض في التنزيل وذلك كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ}.
وقوله :{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ}.
وإنما عطف قوله :{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} ، لأنها أسماء متضادة المعاني في موضوعها، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة، لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك عطف [الناهون] على [الآمرون]، [وأبكارا] على [ثيبات] من قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}.
وقوله: {أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} ، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد بخلاف ما قبله.
وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْل}، إنما عطف.

فيه بعضا ولم يعطف بعضا، لأن [غافرا] و[قابلا] يشعران بحدوث المغفرة والقبول، وهما من صفات الأفعال وفعله في غيره لا في نفسه، فدخل العطف للمغايرة لتنزلهما منزلة الجملتين، تنبيها على أنه سبحانه يفعل هذا ويفعل هذا. واما شديد العقاب فصفة مشبهة، وهي تشعر بالدوام والاستمرار، فتدل على القوة، ويشبه ذلك صفات الذات. وقوله: {ذِي الطَّوْلِ}، المراد به ذاته، فترك العطف لاتحاد المعنى.
وقد جاء قليلا في غير الصفات، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...} الآية، قال الزمخشري: العطف الأول كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}، في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما، وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: أن الجامعين والجامعات لهذه الصفات أعد لهم مغفرة. انتهى.
وقال بعضهم: الصفات المتعاطفة إن علم أن موصوفها واحد من كل وجه، كقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، فإن الموصوف [ الله ] وإما في النوع كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}، فإن الموصوف الأزواج، وقوله: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدمة. وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ. فإن دل دليل على أنه من عطف الصفات اتبع كهذه الآية، فإن هذه الاعداد لمن جمع الطاعات العشر، لا لمن انفرد بواحدة منها، إذ الإسلام والإيمان كل منهما شرطه في الآخر، وكلاهما شرط في حصول الأجر على البواقي، ومن كان مسلما مؤمنا فله أجره، ولكن ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية.

الكريمة، وقرن به إعداد المغفرة زائدا على المغفرة، فلخصوص هذه الآية جعل الزمخشري ذلك من عطف الصفات، والموصوف واحد، فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير، فإن ظاهر العطف التغاير. ولا يقال: الأصل عدم التقدير، لأن الظاهر يقدم على رعاية ذلك الأصل.
ومثاله قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} الآية، ولو كان من عطف الصفات لم يستحق الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان، ولذلك إذا وقف على الفقهاء والنحاة والفقراء استحق من فيه إحدى الصفات.
تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الثالث من كتاب البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشي ويليه الجزء الرابع وأوله: مقابلة الجمع بالجمع، وهو أحد أساليب القرآن المندرجة تحت النوع السادس والأربعين.

المجلد الرابع
تابع النوع السادس والأربعون
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقابلة الجمع بالجمع
تارة يقتضي مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا كقوله تعالى {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} فإن الصلاة والزكاة في معنى الجمع فيقتضي اللفظ ضرورة أن كل واحد مأمور بجميع الصلوات وبالاستباق إلى كل خير كما يقال لبس القوم ثيابهم وركبوا دوابهم
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي لكل واحدة منهن
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} لأنه لا يجوز أن يتذكر جميع المخاطبين بهذا القول في مدة وعمر واحد
وقوله: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي كل واحدة من هذا الشرر كالقصر والقصر البيت من أدم كان يضرب على الماء إذا نزلوا به ولا يجوز أن يكون الشرر كله كقصر واحد لأنه مناف للوعيد فإن المعنى تعظيم الشرر أي كل واحد من هذا الشرر كالقصر ويؤكده قوله بعده{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}فشبه بالجماعة أي فكل واحدة من هذا الشرر كالجمل فجماعته إذ الجمالات الصفر كذلك الأول كل شررة منه كالقصر قاله ابن جني وقوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}

وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته
وكذلك قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجه فقط
وكذا قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ }وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} إنما معناه اتبع كل واحد ذريته وليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي كل واحدة ترضع ولدها وكقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإن مقابلة الجمع أفادت المكنة لكل واحد من المسلمين قتل من وجد من المشركين
وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} وأما قوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فذكر المرافق بلفظ الجمع والكعبين بلفظ التثنية

لأن مقابلة الجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد ولكل يد مرفق فصحت المقابلة ولو قيل إلى الكعاب فهم منه أن الواجب فإن لكل رجل كعبا واحدا فذكر الكعبين بلفظ التثنية ليتناول الكعبين من كل رجل
فإن قيل: فعلى هذا يلزم ألا يجب إلا غسل يد واحدة ورجل واحدة؟
قلنا: صدنا عنه فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإجماع وتارة يقتضي مقابلة ثبوت الجمع لكل واحد من آحاد المحكوم عليه كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
وجعل منه الشيخ عز الدين {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}
وتارة يحتمل الأمرين فيفتقر ذلك إلى دليل يعين أحدهما
أما مقابلة الجمع بالمفرد فالغالب أنه لا يقتضي تعميم المفرد وقد يقتضيه بحسب عموم الجمع المقابل له كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
المعنى كل واحد لكل يوم طعام مسكين وقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إنما هو على كل واحد منهم ذلك

قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا ومفردا والحكم في ذلك
فمنه أنه حيث ورد ذكر الأرض في القرآن فإنها مفردة كقوله تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وحكمته أنها بمنزلة السفل والتحت ولكن وصف بها هذا المكان المحسوس فجرت مجرى امرأة زور وضيف فلا معنى لجمعهما كما لا يجمع الفوق والتحت والعلو والسفل فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو فجاز أن تثنى إذا ضممت إليها جزءا آخر ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوقه من سبع أرضين فجمعها لما اعتمد الكلام على ذات الأرض وأثبتها على التفصيل والتعيين لآحادها دون الوصف بكونها تحت أو سفل في مقابلة علو وأما جمع السموات فإن المقصود بها ذاتها دون معنى الوصف فلهذا جمعت جمع سلامة لأن العدد قليل وجمع القليل أولى به بخلاف الأرض فإن المقصود بها معنى التحت والسفل دون الذات والعدد
وحيث أريد بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على التعدد كقوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}
وأيضا فإن الأرض لا نسبة إليها إلى السموات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس
وأيضا فالأرض هي دار الدنيا التي بالنسبة إلى الآخرة كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم فما يعلق بها هو مثال الدنيا والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها

وأما السموات فليست من الدنيا على أحد القولين فإذا أريد الوصف الشامل للسموات وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض بدليل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معينة
وكذا قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بخلاف قوله في سبأ {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} فإن قبلها ذكر الله سبحانه سعة علمه وأن له ما في السموات وما في الأرض فاقتضى السياق أن يذكر سعة علمه وتعلقه بمعلومات ملكه وهو السموات كلها والأرض
ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس
وقال: السهيلي لأن المخاطبين بالإفراد مقرون بأن الرزق ينزل من السحاب وهو سماء ولهذا قال في آخر الآية {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} وهم لا يقرون بما نزل من فوق ذلك من الرحمة والرحمن وغيرها ولهذا قال في آية سبأ {قُلِ اللَّهُ} أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا القول ليعلم بحقيقته وكذا قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}

فإنها جاءت مجموعة لتعلق الظرف بما في اسم الله تبارك وتعالى من معنى الإلهية فالمعنى هو الإله المعبود في كل واحدة من السموات فذكر الجمع هنا أحسن ولما خفي هذا المعنى على بعض المجسمة قال بالوقف على قوله {فِي السَّمَاوَاتِ} ثم يبتدئ بقوله {وَفِي الأَرْضِ}
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أراد لهذين الجنسين أي رب كل ما علا وسفل وجاءت مجموعة في قوله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في جميع السور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم
ونظير هذا جمعها في قوله {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ}
وقوله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} أي تسبح بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها ولهذا صرح بالعدد بقوله {السَّبْعُ}
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فـ "الرزق" المطر وما توعدون الجنة وكلاهما في هذه الجهة لأنها في كل واحدة واحدة من السموات فكان لفظ الإفراد أليق
وجاءت مجموعة في قوله {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السموات أتى بها مجموعة

ولم يجئ في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} وبين قوله في سورة سبأ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}؟
قيل: السياق في كل منهما مرشد إلى الفرق فإن الآيات التي في يونس سيقت للاحتجاج عليهم بما أقروا به من كونه تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم بأن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم إذ فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف تعبدون معه غيره ولهذا قال بعده {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي هم يقرون به ولا يجحدونه والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى ينتهي إليهم فأفردت لفظة السماء هنا لذلك
وأما الآية التي في سبأ فإنه لم ينتظم لها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماء ولهذا أمر رسوله بأن يجيب وأن يذكر عنهم أنهم هم المجيبون فقال {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ولم يقل {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات ومنها ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث ذكرت في سياق الرحمة جاءت

مجموعة كقوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً}
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}
وحيث ذكرت في سياق العذاب أتت مفردة كقوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح}
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}
ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" والمعنى فيه أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والماهيات والمنافع وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات وكانت في الرحمة رياحا وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض ولا دافع ولهذا وصفها الله بالعقيم فقال {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي تعقم ما مرت به وقد اطردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة لحكمة فمنها قوله سبحانه في سورة يونس {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا

كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} فذكر ريح الرحمة بلفظ الإفراد لوجهين:
أحدهما: لفظي وهو المقابلة فإنه ذكر ما يقابلها ريح العذاب وهي لا تكون إلا مفردة ورب شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا نحو {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}
الثاني: معنوي وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد فإن اختلفت عليها الرياح وتصادمت كان سبب الهلاك والغرق فالمطلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى فوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون عاصفة بل هي ريح يفرح بطيبها
ومنها قوله تعالى {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} وهذا أورده ابن المنير في كتابه على الزمخشري قال الريح رحمة ونعمة وسكونها شدة على أصحاب السفن
قال: الشيخ علم الدين العراقي وكذا جاء في القراءات السبع {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الريح} {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الريح} والمراد به الذي ينشر السحاب

ومن ذلك جمع الظلمات والنور {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
ولذلك جمع سبيل الباطل وأفرد سبيل الحق كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
والجواب في ذلك كله أن طريق الحق واحد وأما الباطل فطرقه متشعبة متعددة ولما كانت الظلم بمنزلة طريق الباطل والنور بمنزلة طريق الجنة بل هما هما أفرد النور وجمع الظلمات ولهذا وحد الولي فقال{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} لأنه الواحد الأحد وجمع أولياء الكفار لتعددهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دين الحق
ومن ذلك أفرد اليمين والشمال في قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وجمعها في قوله {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ولا سؤال فيه إنما السؤال في جمع أحدهما وإفراد الآخر كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ} قال الفراء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلمة وإذا جمع ذهب إلى كلها والحكمة في تخصيص اليمين بالإفراد ما سبق فإنه لما كانت اليمين جهة الخير والصلاح وأهلها هم الناجون أفردت ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}

وفيه وجوه أخر:
أحدهما: أن اليمين مقصود به الجمع أيضا فإن الألف واللام فيه للجنس فقام العموم مقام الجمع قاله ابن عطية الثاني: أن اليمين فعيل،وهو مخصوص بالمبالغة فسدت مبالغته جمعه كما سد مسد الشبه قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} قاله ابن بابشاذ
الثالث: أن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول ثم يبدو كذلك ظلا واحدا من جهة اليمين ثم يأخذ في النقصان وإذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئا فشيئا والثاني فيه غير الأول فكلما زاد فيه شيئا فهو غير ما كان قبله فصار كل جزء منه ظلا فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال قاله الرماني وغيره
قال: ابن بابشاذ: وإنما يصح هذا إذا كانا متوجهين نحو القبلة
الرابع: إن اليمين يجمع على أيمن وأيمان فهو من أبنية جمع القلة غالبا والشمال يجمع على شمائل وهو جمع كثرة والموطن موطن تكثير ومبالغة فعدل عن جمع اليمين إلى الألف واللام الدالة على قصد التكثير قاله السهيلي
وأما إفرادها في قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} فلأن المراد أهل هذه الجهة ومصيرهم إلى جهة واحدة هي جهة أهل الشمال مستقر أهل النار فإنها من جهة أهل الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة وإما إفرادهما في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فإن لكل عبد قعيدا واحدا عن يمينه وآخر شماله يحصيان عليه الخير والشر فلا معنى للجمع بينهما وهذا بخلاف قوله تعالى ذاكرا عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ

وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} فإن الجمع هناك يقابله كثير مما يريد إغوائهم فجمع لمقابلة الجملة بالجملة المقتضي لتوزيع الأفراد على الأفراد
ومنها: حيث وقع في القرآن ذكر الجنة فإنها تجيء تارة مجموعة وتارة غير مجموعة والنار لم تقع إلا مفردة وفي ذلك وجهان:
أحدهما: لما كانت الجنات مختلفة الأنواع حسن جمعها وإفرادها ولما كانت النار واحدة أفردت باعتبار الجنس ونظيره قوله تعالى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} ولم يقل وكؤوس لما سنذكره
الثاني : أنه لما كانت النار تعذيبا والجنة رحمة ناسب جمع الرحمة وإفراد العذاب نظير جمع الريح في الرحمة وإفرادها في العذاب
وأيضا فالنار دار حبس والغاضب يجمع جماعة من المحبوسين في موضع واحد أنكد لعيشهم والكريم لا يترك ضيفه ولاسيما إذا كان للدوام إلا في دار مفردة مهيأة له وحده فالنار لكل مذنب ولكل مطيع الجنة فجمع الجنان ولم يجمع النار
ومنها: جمع الآيات في موضع وإفرادها في آخر فحيث جمعت فلجمع الدلائل وحيث وحدت فلوحدانية المدلول عليه لما يخرج عن ذلك ولهذا قال في الحجر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ثم قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فلما ذكر صفة المؤمنين بالوحدانية وحد الآية وليس لها نظير إلا في العنكبوت وهو قوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}

ومنها مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة بالجمع وأخرى بالتثنية وأخرى بالإفراد لاختصاص كل مقام بما يقتضيه
فالأول: كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}
والثاني: كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}
والثالث: قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } فحيث جمع كان المراد نفي المشرق والمغرب وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وارتفاعها فإنها تبتدئ صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها وارتفاعها وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا ومقابلهما مغربا
وقيل: هو إخبار عن الحركات الفلكية متحركة بحركات متداركة لا تنضبط لخطة ولا تدخل تحت قياس لأن معنى الحركة انتقال الشيء من مكان إلى آخر وهذه صفة الأفلاك قال تعالى {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ بالإفراد والتثنية والجمع وقد أجرى الله العادة إن القمر يطلع في كل ليلة من مطلع غير الذي طلع فيه بالأمس وكذلك الغروب فهي من أول فصل الصيف في تلك المطالع والمغارب إلى أن تنتهي إلى مطلع الاعتدال ومغربه عند أول فصل الخريف ثم تأخذ جنوبا في كل يوم في مطلع ومغرب إلى إن تنتهي إلى آخر مثلها الذي يقدر الله لها عند أول فصل الشتاء ثم ترجع كذلك إلى إن تنتهي إلى مطلع الاعتدال الربيعي ومغربه وهكذا أبدا فحيث أفرد الله له لفظ المشرق والمغرب أراد به الجهة نفسها التي تشتمل الواحدة على تلك المطالع جميعها والأخرى على تلك المغارب من غير نظر إلى تعددها وحيث جيء بلفظ الجمع المراد به

كل فرد منها بالنسبة إلى تعدد تلك المطالع والمغارب وهي في كل جهة مائة وثمانون يوما وحيث كان بلفظ التثنية فالمراد بأحدهما الجهة التي تأخذ منها الشمس من مطلع الاعتدال إلى آخر المطالع والمغارب الجنوبية وبهذا الاعتبار مشرقان ومغربان
وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع منه فأبدى فيه بعض المتأخرين معاني لطيفة فقال:
أما ما ورد مثنى في سورة الرحمن فلأن سياق السورة سياق المزدوجين:
الثاني: فإنه سبحانه أولا ذكر نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعليم ثم ذكر سراجي العالم ومظهر نوره وهما الشمس والقمر ثم ذكر نوعي النبات فإن منه ما هو على ساق ومنه ما انبسط على وجه الأرض وهما النجم والشجر ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض ثم أخبر أنه رفع هذه ووضع هذه ووسط بينهما ذكر الميزان ثم ذكر العدل والظلم في الميزان فأمر بالعدل ونهى عن الظلم ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما الجنوب ثم ذكر نوعي المكلفين وهما نوع إلا لإنسان والجان ثم ذكر نوعي المشرق والمغرب ثم ذكر بعد ذلك البحر من الملح والعذب فلهذا حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة
وإنما افردا في سورة المزمل لما تقدم من ذكر الليل والنهار فإنه سبحانه أمر نبيه بقيام الليل ثم أخبر أنه له في النهار سبحا طويلا فلما تقدم ذكر الليل والنهار تممه بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار فكان ورودهما منفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع لأن ظهور الليل والنهار فيهما واحد وإنما جمعا في سورة المعارج في قوله {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ

إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} لأنه لما كان هذا القسم سعة مشارق ربوبيته وإحاطة قدرته والمقسم عليه إذهاب هؤلاء والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنها انتقال الشمس التي في أحد آياته العظيمة ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب فمن فعل هذا كيف يعجزه إن يبدل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم
وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهود وقد جعله الله بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى حال ومن برد إلى حر وصيف وشتاء وغير ذلك بسبب اختلاف مشارق الأرض ومغاربها فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على تبديل من هو خير وأكد هذا المعنى بقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظ الجمع
وأما جمعهما في سورة الصافات في قوله {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة وهي السموات والأرض وما بينهما وكان الأحسن مجيئها مجموعة لتنتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد
ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال ذلك فإن المشارق مظهر الأنوار وأسباب لانتشار الحيوان وحياته وتصرفه في معاشه وانبساطه فهو إنشاء شهود فقدمه بين يدي..... على مبدأ البعث فكان الاقتصار على ذكر المشارق

ها هنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب فتأمل هذه المعاني الكاملة والآيات الفاضلة التي ترقص القلوب لها طربا وتسيل الأفهام منها رهبا !
وحيث ورد البار مجموعا في صفة الآدميين قيل أبرار كقوله {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} وقال في صفة الملائكة {بَرَرَةٍ} قال الراغب فخص الملائكة بها من حيث أنه أبلغ من أبرار جمع بر وأبرار جمع بار وبر أبلغ من بار كما إن عدلا أبلغ من عادل
وهذا بناء على رواية في تفضيل الملائكة على البشر
ومنها إن الأخ يطلق على أخي النسب وأخي الصداقة والدين ويفترقان في الجمع فيقال في النسب إخوة وفي الصداقة إخوان كما قيل {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وقال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} قال جماعة من أهل اللغة منهم ابن فارس وحكاه أبو حاتم عن أهل البصرة ثم رده بأنه يقال للأصدقاء والنسب إخوة وإخوان قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} لم يعن النسب وقال {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} وهذا في النسب ونظيره قوله {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهذا هو الصواب واشتقاق اللفظين من تآخيت

الشيء فسمى الأخوان أخوين لأن كل واحد منهما يتأخى ما تأخاه الآخر أي يقصده
قال ابن السكيت: ويقال أخوة بضم الهمزة
ومنها إفراد العم والخال
ومنها إفراد السمع وجمع البصر كقوله تعالى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} لأن السمع غلب عليه المصدرية فأفرد بخلاف البصر فإنه اشتهر في الجارحة وإذا أردت المصدر قلت أبصر إبصارا ولهذا لما استعمل الحاسة جمعه بقوله {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقال {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}
وقيل: في الكلام حذف مضاف أي على حواس سمعهم
وقيل: لأن متعلق السمع الأصوات وهي حقيقة واحدة ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة فأشار في كل منهما إلى متعلقه
ويحتمل أن يكون البصر الذي هو نور العين معنى يتعدد بتعدد المقلتين ولا كذلك السمع فإنه معنى واحد ولهذا إذا غطيت إحدى العينين ينتقل نورها إلى الأخرى بخلاف السمع فإنه ينقص بنقصان أحدهما
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أجرى الرعد والبرق على أصلهما مصدرين فافردهما دون الظلمات يقال: رعدت السماء رعدا

وبرقت برقا والحق إن الرعد والبرق مصدران فأفردهما أو هما مسببان عن سبب لا يختلف بخلاف الظلمة فإن أسبابها متعددة
ومنها حيث ذكر الكأس في القرآن كان مفردا ولم يجمع في قوله تعالى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ} ولم يقل وكؤوس لأن الكأس إناء فيه شراب فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس بل قدح والقدح إذا جعل فيه الشراب فالاعتبار للشراب لا لإنائه لأن المقصود هو المشروب والظرف اتخذ للآلة ولولا الشراب والحاجة إلى شربه لما اتخذا والقدح مصنوع والشراب جنس فلو قال كؤوس لكان اعتبر حال القدح والقدح تبع ولما لم يجمع اعتبر حال الشراب وهو أصل واعتبار الأصل أولى فانظر كيف اختار الأحسن من الألفاظ
وكثير من الفصحاء قالوا: دارت الكؤوس ومال الرؤوس فدعاهم السجع إلى اختيار غير الأحسن فلم يدخل كلامهم في حد الفصاحة والذي يدل على ما ذكرنا إن الله تعالى لما ذكر الكأس واعتبر الأصل قال {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} فذكر الشراب
وحيث ذكر المصنوع ولم يكن في اللفظ دلالة على الشراب جمع فقال {وِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ }ثم ذكر ما يتخذ منه فقال {مِنْ فِضَّةٍ}
ومنها إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله تعالى {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وحكمته كثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق قال الزمخشري:

ألا ترى إن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده بشفاعته رحمة له وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق فأعز من بيض الأنوق وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له
ويجوز أن يريد بالصديق الجمع
وقال السهيلي: في الروض الأنف إذا قلت عبيد ونخيل فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس قال الله تعالى :{وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد ولذلك قال حين ذكر التمر من النخيل {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة واختيار الكلام !
وأما في مذهب اللغة فلم يفرقوا هذا التفريق ولا نبهوا على هذا المعنى الدقيق
ومنها اختلاف الجمعين في قوله تعالى: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} فأما وجه التفرقة بين الجمع في الموضعين وكذلك قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}

فخالف بين الجمعين في الأبناء وفي سورة الأحزاب {وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ}
ومنه قوله تعالى: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وفي موضع آخر {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ} فالمعدود واحد
وقد اختلف تفسيره فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة والثاني بجمع القلة
وقد قيلفي توجيهه: إن آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة فناسب صيغة جمع الكثرة وآية يوسف لحظ فيها وهو قليل فأتى بجمع القلة ليصدق اللفظ المعنى
تنبيه
جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولى العلم وإن وجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه كقوله {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ،وعلى هذا فأشرف الجمعين جمع السلامة وما يجمع جمع التكسير من مذكر غير العاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثه بالتاء كما يفعل بالخبر تقول: حقوق معقودة وأعمال محسوبة قال تعالى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}
وقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً}
وقد يجمع بالألف والتاء في غير المفرد وإن لم يكثر إلا أنه فصيح ومنه {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

قاعدة نحوية
نون ضمير الجمع في جمع العلاقات سواء القلة كالهندات أو الكثرة كالهنود فتقول الهندات يقمن والهنود يقمن قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ }: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} هذا هو الأكثر.
وقد جاء في القران بالإفراد قال تعالى: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ولم يقل مطهرات
وأما جمع غير العاقل ففيه تفصيل
إن كان للكثرة أتيت بضميره مفردا فقلت الجذوع انكسرت وان كان القلة أتيت جمعا وقد اجتمعا في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} إلى أن قال {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فالضمير في منها يعود إلى الاثني عشر وهو جمع كثرة ولم يقل منهن ثم قال سبحانه {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فهذا عائد إلى الأربعة وهو جمع قله
فإن قيل: فما السر في هذا حيث كان يؤتى مع الكثرة بضمير المفرد ومع القلة بضمير الجمع وهلا عكس قلنا ذكر الفراء له سرا لطيفا فقال لما كان المميز مع جمع الكثرة واحدا وحد الضمير لأنه من أحد عشر يصير مميزه واحدا وهو أندرهم وأما جمع القلة فمميزه جمع لأنك تقول ثلاثة دراهم أربعة دراهم وهكذا إلى العشر تمييزه جمع فلهذا أعاد الضمير باعتبار المميز جمعا وإفرادا ومن هذا قوله سبحانه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} فأتى بجمع القلة ولم يقل بحور لتناسب نظم الكلام وهذا هو الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلة

وأما قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فأضاف الثلاثة إلى القروء وهو جمع كثرة ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع قلة قال الحريري المعنى لتتربص كل واحده منهن ثلاثة أقراء فلما أسند إلى جماعتهن والواجب على كل فرد منهن ثلاثة أتى بلفظ قروء لتدل على الكثرة المرادة والمعنى الملموح
قاعدة في الضمائر
وقد صنف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القران مجلدين وفيه مباحث:
الأول: للعدول إلى الضمائر أسباب:
منها وهو أصل وصفها للاختصار ولهذا قام قوله تعالى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} مقام خمسة وعشرين لو أتى بها مظهرة
وكذا قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} نقل ابن عطية عن مكي أنه ليس في كتاب آية اشتملت على ضمائر أكثر منها وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا وقد قيل في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ما بين ضمير وظاهر ومنها الفخامة بشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته كقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يعني القرآن وقوله {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} ومنه ضمير الشأن

ومنها: التحقير كقوله تعالى {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يعني الشيطان وقوله {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}
الثاني: الأصل أن يقدم ما يدل عليه الضمير،بدليل الأكثرية وعدم التكليف ومن ثم ورد قوله تعالى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وتقدم المفعول الثاني في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ} فأخر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه
وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام
أحدها: وهو الأصل أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة نحو {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}
{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}
وقوله {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ}
الثاني: أن يعود على مذكور في سياق الكلام مؤخر في اللفظ مقدم في النية كقوله تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً}

وقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
وقوله {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ }
الثالث: أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن كقوله تعالى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإنه عائد على العدل المفهوم من اعدلوا
وقوله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فالضمير يرجع للأكل لدلالة تأكلوا
وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} إلى قوله {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي المقسوم لدلالة القسمة عليه ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون لأنه مذكور وإن كان بعيدا
الرابع: أن يدل عليه بالالتزام كإضمار النفس في قوله تعالى {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم والتراقي عليها
وقوله {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني الشمس
وقيل: بل سبق ما يدل عليها وهو العشي لأن العشي ما بين زوال الشمس وغروبها والمعنى إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب
وقيل: فاعل توارت ضمير الصافنات ذكره ابن مالك وابن العربي في الفتوحات ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها وسنذكره في الثامن

وكذا قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قيل الضمير لمكان الإغارة بدلالة والعاديات عليه فهذه الأفعال إنما تكون لمكان
وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أضمر القرآن لأن الإنزال يدل عليه وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فـ" عفي" يستلزم عافيا إذ أغنى ذلك عن ذكره وأعيد الهاء من {إِلَيْهِ} عليه
الخامس: إن يدل عليه السياق فيضمر ثقة بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} وقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وجعل ابن مالك الضمير للدنيا وقال وإن لم يقدم لها ذكر لكن تقدم ذكر بعضها والبعض يدل على الكل وقوله تعالى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} يعني القرآن أو المسجد الحرام وقوله قال {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الضمير يعود على الميت وإن لم يتقدم له ذكر إلا أنه لما قال يوصيكم الله في أولادكم علم إن ثم ميتا يعود الضمير عليه وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ثم قال {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي من الموروث وهذا وجه آخر غير ما سبق

وقوله {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا} ولم يقل اتخذه ردا للضمير إلى شيئا لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله بل كان إذا سمع بعض آيات الله استهزأ بجميعها وقيل شيئا بمعنى الآية لأن بعض الآيات آية وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال وأغنى ذكر الأغلال عن ذكرها
ومثله قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي من عمر غير المعمر فأعيد الضمير على غير المعمر لأن ذكر المعمر يدل عليه لتقابلهما فكان يصاحبه الاستحضار الذهني
وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم له كقوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} بعد قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
وقوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فإنه عائد على المطلقات مع أن هذا خاص بالرجعى وهل يقتضي ذلك تخصيص الأول فيه خلاف أصولي وقوله {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فإن الفضة بعض المذكور فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع حتى كأنه قال {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} أصناف ما يكنز
وقد يعود على اللفظ الأول دون معناه كقوله تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وقد سبق فيه وجه آخر

وقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} على أحد الأقوال
ومما يتخرج عليه {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ويستراح من إلزام تخصيص الأول
وقد يعود على المعنى كقوله في آية الكلالة {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من كانتا قال الأخفش إنما يثنى لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع فثنى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى كما يعود الضمير جمعا في من حملا على معناها
وقال الفارسي: إنما جازت من حيث كان يفيد العدد مجردا من الصغير والكبير السادس ألا يعود على مذكور ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه بالتفسير بجملة أو مفرد فالمفرد في نعم وبئس والجملة ضمير الشأن والقصة نحو هو زيد منطلق وكقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي الشأن الله أحد وقوله {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}
وقوله {أَنَا اللَّهُ}
وقوله {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} وقد يكون مؤنثا إذا كان عائده مؤنثا كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وأما قوله تعالى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} فذكر

الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة لأنها في حكم الفضلة إذا المعنى من يأت ربه مجرما يجز جهنم
تنبيه: والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب قال تعالى {هَذَا هُوَ الْحَقَّ} {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً} ويكون له محل من الإعراب وضمير الشأن يكون إلا غائبا ويكون مرفوع المحل ومنصوبه قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}
البحث الثالث: قد يعود على لفظ شيء والمراد به الجنس من ذلك الشيء كقوله تعالى {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} فإن الضمير في به يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا لأن قوله هذا الذي رزقنا من قبل مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين قال الزمخشري ونظيره {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي بجنس الفقير والغني لدلالة قوله {غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} على الجنسين ولو رجع إلى المتكلم به لوحده
البحث الرابع: قد يذكر شيئان ويعاد الضمير على أحدهما ثم الغالب كونه للثاني كقوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فأعاد الضمير للصلاة لأنها أقرب

وقوله {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} والأصل: قدرهما لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين قربه من الضمير وكونه هو الذي يعلم به الشهور ويكون به حسابها
وقوله {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أعاد الضمير على الفضة لقربها
ويجوز أن يكون إلى المكنوز وهو يشملها.
وقوله {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أراد يرضوهما فخص الرسول بالعائد لأنه هو داعي العباد إلى الله وحجته عليهم والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه وذكر الله تعالى في الآية تعظيما والمعنى تام بذكر الرسول وحده كما قال تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فذكر الله تعظيما والمعنى تام بذكر رسوله
ومثله قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}
وجعل منه ابن الأنباري: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أعاد الضمير للإثم لقربه ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها بتأويل ومن يكسب إثما ثم يرم به.
وقال الأنباري: ولم يؤثر الأول بالعائد في القرآن كله إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} معناه إليهما فخص التجارة بالعائد لأنها كانت سبب الانفضاض عنه وهو يخطب قال فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد وتارة الأول فتقول إن عبدك وجاريتك عاقلة وإن عبدك وجاريتك عاقل

قلت: ليس من هذا قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا}وقوله {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} لأن الإخبار عن أحدهما لوجود لفظه أو هي لإثبات أحد المذكورين فمن جعله نظير هذا فلم يصب إلا إن يدعى أن أو بمعنى الواو
وفي هاتين الآيتين لطيفة وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة وإن كانت أبعد ومؤنثة لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله من اللهو بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو ولأنها أكثر نفعا من اللهو أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكر
الخامس: قد يذكر شيئان ويعود الضمير جمعا لأن الاثنين جمع في المعنى كقوله تعالى { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} يعني حكم سليمان وداود وقوله {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} فأوقع أولئك وهو جمع على عائشة وصفوان بن المعطل
البحث السادس: قد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} قالوا: وإنما يخرج من أحدهما وقوله {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما نسيه الفتى

السابع: قد يجيء الضمير متصلا بشيء وهو لغيره كقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} يعنى آدم ثم قال {ثم جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فهذا لولده لأن آدم لم يخلق من نطفة
ومنه قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قيل نزلت في ابن حذافة حين قال: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبي؟: قال: حذافة " فكان نسبه فساءه ذلك فنزلت {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وقيل نزلت في الحج حين قالوا أفي كل مرة ثم قال وإن تسألوا عنها يريد إن تسألوا عن أشياء أخر من دينكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي طلبها والسؤال عنها طلب فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة بل لأشياء أخر مفهومة من قوله {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير عائدا على أشياء مذكورة لتعدى إليها بـ "عن" لا بنفسه ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به وقوله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يتبادر إلى الذهن أن الضمير في قوله هو عائد لإبراهيم لأنه أقرب المذكورين وهو مشكل لا يستقيم لأن الضمير في قوله {وَفِي هَذَا} راجع للقرآن وهو لم يكن في زمن إبراهيم ولا هو قاله والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه يعني {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يعني في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم وفي هذا الكتاب الذي أنزل عليكم وهو القرآن والمعنى جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وهو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا الكتاب لتكونوا أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة وقوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} منصوب بتقدير اتبعوا لأن هذا

لناصب نصبه قوله {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} لأن الجهاد من ملة إبراهيم وفي سورة يس موضعان توهم فيهما كثير من الناس:
أحدهما: قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} فقد يتوهم أن الضمير في هم راجع إلى الليل والنهار بناء على أن أقل الجمع اثنان وهو فاسد لوجهين أحدهما أن النهار ليس مظلما والثاني أن كون أقل الجمع اثنان مذهب مرجوح إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات و{مُظْلِمُونَ} داخلو الظلام كقولك مصبحون وممسون إذا دخلوا في هذه الأشياء والثاني: قوله تعالى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} يظن بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض وهو فاسد لوجهين أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات والأرض حتى يدل على إنكارهم إعادتهما بابتدائهما وإنما أنكروا إعادة أنفسهم فكان الضمير راجعا إليهم ليتحقق حصول الجواب لهم والرد عليهم الثاني لتبين المراد في قوله {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فإن قيل إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم فلا دلالة فيه عليهم قلنا المراد بمثلهم هم كما في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقولهم مثلى لا يفعل كذا أي أنا وبدليل الآية الأخرى وقوله {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قد يتوهم عوده على الله وليس كذلك

وإلا لنصب العمل كما تقول قام زيد وعمرا يضربه وإنما الفاعل في يرفعه عائد إلى العمل والهاء للكلم قال الفارسي في التذكرة المنصوب في يرفعه عائد للكلم لأن الكلم جمع كلمة قال كلم كالشجر في أنه قد وصف بالمفرد في قوله {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} وكذلك وصف الكلم بالطيب ولو كان الضمير المنصوب في {يَرْفَعُهُ} عائدا إلى العمل لكان منصوبا في هذا الوجه وما جاء التنزيل عليه من نحو {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} والضمير المرفوع في {يَرْفَعُهُ} عائد إلى العمل فلذلك ارتفع العمل ولم يحمل على قوله {يصعد} ويضمر له فعل ناصب كما أضمرت لقوله {وَالظَّالِمِينَ} والمعنى يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ومعنى يرفع العمل أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه ويثاب عليه وليس كالعمل السيء الذي يقع معه الإحباط فلا يرفع إلى الله سبحانه
الثامن: إذا اجتمع ضمائر فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف ولهذا لما جوز بعضهم في قوله تعالى {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} الخ أن الضمير في {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ل لتابوت وما بعده وما قبله لموسى عابه الزمخشري وجعله تنافرا ومخرجا للقرآن عن إعجازه فقال والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظر
فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل

قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى ولا مزيد على حسنه
وقال في قوله {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} الضمائر لله عز وجل والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ومن فرق الضمائر فقد أبعد أي فقد قيل إنها للرسول إلا الأخير لكن قد يقتضي المعنى التخالف كما في قوله تعالى {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} الهاء والميم في فيهم لأصحاب الكهف والهاء والميم في منهم لليهود قاله ثعلب والمبرد
وقوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} بعد قوله {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}
وقوله {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ}
وقوله {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل قريش أكثر مما عمرتها قريش وقوله {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية فيها اثنا عشر ضميرا،خمسة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله والثالث ضمير في {الْغَارِ} لأنه يتعلق باستقرار محذوف

فيحتمل ضميرا والرابع: {صَاحِبُهُ} والخامس: {لا تَحْزَنْ} والسادس: {مَعَنَا} والسابع في {عَلَيْهِ} على قول الأكثر فيما نقله السهيلي لأن السكينة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شيء إذا كان خروجه بأمر الله
وأما قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} فالسكينة نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين لأنه خاف على المسلمين ولم يخف على نفسه فنزلت عليه السكينة من أجلهم لا من أجله
وأما قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل الضميران عائدان على يوسف قال للناجي ذكر الملك بأمري
ورجح ابن السيد هذا لقوله تعالى {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة} أي بعد حين
وفي قراءة ابن عامر بعد "أمَة" بالتخفيف أي نسيان وإلا لم يكن ليذكر تذكر الفتى بعد النسيان والذكر على هذا يحتمل وجهين أن يكون بمعنى التذكير ويكون مصدر ذكرته ذكرا فالتقدير فأنساه الشيطان ذكره عند ربه فأضاف الذكر إلى الرب وهو في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف وجاز ذلك لملاءمته بينهما وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر كقوله تعالى {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} كما عاد الضمير على الاثني عشر ثم قال {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} لما أعاد على أربعة وهو جمع قلة
وجوز بعضهم عوده على الاثني عشر أيضا بل هو الصواب لأنه لا يجوز أن ينهى عن الظلم في الأربعة ويبيح الظلم في الثمانية بل ترك الظلم في الكل واجب

قلت: لكن يجوز التنصيص على أفضلية الحرم فإن الظلم قبيح مطلقا وفيهن أقبح فالظاهر الأول
التاسع: قد يسد مسد الضمير أمور:
منها الإشارة كما في قوله تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
ومنها الألف واللام كقوله تعالى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
وقوله {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} أي رسلك
وقوله {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أصل الكلام أجره وصبره ولما كان المحسنون جنسا ومن يتق ويصبر واحد تحته أغنى عمومه من عود الضمير إليه
وقول الكوفيين: الألف واللام عوض من الضمير.
قال: ابن مالك وعليه يحمل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} وزعم الزمخشري أن الأبواب بدل من المستكن في مفتحة
وهذا تكلف فوجب أن تكون الأبواب مرتفعة بمفتحة المذكور أو بمثله مقدرا وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب فلا حاجة إلى إبدال أيضا

ومنها الاسم الظاهر بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر وقد سبق الكلام عليه في أبواب التأكيد
العاشر: الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور ولنا أصل آخر وهو أنه إذا جاء مضاف ومضاف إليه وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف لأنه المحدث عنه دون المضاف إليه نحو لقيت غلام زيد فأكرمته فالضمير للغلام ومنه قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}
وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي الأصل الأول فقالا إن الضمير في قوله {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} يعود على الخنزير دون لحمه لقربه وقواه بعض المتأخرين لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه ليس بأصل مطرد فقد يعود إلى المضاف إليه كقوله تعالى {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
وكذا الصفة فإنها كما في قوله تعالى {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}
وللجمهور أن يقولوا: وكذا عوده للأقرب ليس بمطرد فقد يخرج عن الأصل لدليل وإذا تعارض الأصلان تساقطا ونظر في الترجيح من خارج بل قد يقال عوده إلى ما فيه العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي أن الضمير يعود إلى الخنزير لأن اللحم موجود فيه
وأما قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}فأخبر خاضعين عن المضاف إليه ولو أخبر عن المضاف لقال خاضعة
وأما قوله تعالى {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} فقد عاد

الضمير في قول المحققين للمضاف إليه وهو موسى والظن بفرعون وكأنه لما رأى نفسه قد غلط في الإقرار بالإلهية من قوله {إِلَهِ مُوسَى} استدرك ذلك بقوله هذا
الحادي عشر: إذا عطف بـ "أو" وجب إفراد الضمير نحو إن جاء زيد أو عمرو فأكرمه لأن "أو" لأحد الشيئين فأما قوله تعالى {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فقيل إن "أو" بمعنى الواو وقيل بل المعنى إن يكن الخصمان فعاد الضمير على المعنى
وقيل: للتنويع لا للعطف وعكس هذا إذا عطف بالواو وجب تثنية الضمير فأما قوله تعالى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فقد سبق الكلام عليه
فائدة
قوله {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي ضحى يومها فدل بالجزء على الكل
قال الشيخ عز الدين: وإنما أضاف الضحى إلى نهار العشية لأنه لو أطلقها من غير إضافة لم يحسن الترديد بـ "أو" لأن عشية كل نهار من الظهر إلى الغروب وهو نصف النهار وضحاها مقدار ربعه مثلا وهو مقدار نصف العشية فلما أضافه إلى نهارها علم تقاربهما فحسن الترديد لإفادته الترديد بين اللبث الطويل والقصير ولو أطلقه لجاز أن يتوهم عشية نهار قصير وضحى يوم طويل فتساوى ذلك الضحى بالعشية فلا يحسن الترديد بينهما

فإن قيل"كيف يجمع بين قوله {لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وهو الجزء اليسير من الزمان وبين الضحى والعشية؟وكيف حسن الترديد؟
فالجواب: أن هذا الحساب يختلف باختلاف الناس فمنهم من يعتقده طويلا ومنهم من يحسبه قصيرا قال تعالى {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} ثم قال {إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما}
وقد يكون بحسب شدة الأمر وخفته ولبثتم يحتمل أن يكون في الدنيا ويحتمل أن يكون في البرزخ والأول أظهر
فائدة
وقد يتجوز بحذف الضمير للعلم به كقوله {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي بعثه وهو كثير
ومنه قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله {يَتَرَبَّصْنَ} إذا جعلناه الخبر فالأصل يتربصن أزواجهن فوضع الضمير موضع الأزواج لتقدم ذكرهن فأغنى عن الضمير
فائدة
المضمر لا يكون إلا بعد الظاهر لفظا أو مرتبة أو لفظا ومرتبة ولا يكون قبل الظاهر لفظا ومرتبة إلا في أبواب ضمير الشأن والقصة كما سبق وباب نعم وبئس كقوله تعالى {فَنِعِمَّا هِيَ} و{سَاءَ مَثَلاً} والضمير في ربه رجلا وباب الإعمال إذا أعملت

الثاني والأول يطلب عمدة فمذهب سيبويه أنك تضمر في الأول فتقول ضربوني وضربت الزيدين
فائدة
الضمير لا يعود إلا على مشاهد محسوس فأما قوله تعالى {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فضمير له عائد على الأمر وهو إذ ذاك غير موجود فتأويله أنه لما كان سابقا في علم الله كونه كان بمنزلة المشاهد الموجود فصح عود الضمير إليه
وقيل: بل يرجع للقضاء لدلالة قضى عليه واللام للتعليل بمعنى من أجل كقوله تعالى {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي من أجل حبه
قاعدة
فيما يتعلق بالسؤال والجواب
الأصل في الجواب إن يكون مطابقا للسؤال إذا كان السؤال متوجها وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم
وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال وأغفله المتكلم
وقد يجيء أنقص لضرورة الحال

مثال: ما عدل عنه قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فعدل عن الجواب لما قالوا ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ فأجيبوا بما أجيبوا به لينتهوا على أن الأهم ما تركوا السؤال عنه
وكقوله تعالى {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} سألوا عما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف تنزيلا لسؤالهم منزلة سؤال غيره لينبه على ما ذكرنا ولأنه قد تضمن قوله {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} بيان ما ينفقونه وهو خير ثم زيدوا على الجواب بيان المصرف
ونظيره {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فيكون طابق وزاد نعم روي عن ابن عباس أنه قال جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير له مال عظيم فقال ماذا أنفق من أموالنا؟وأين نضعها؟فنزلت فعلى هذا ليست الآية مما نحن فيه لأن السائل لم يتعلق بغير ما يطلب بل أجيب ببعض ما سأل عنه
وقال ابن القشيري: السؤال الأول كان سؤالا عن النفقة إلى من تصرف ودل عليه الجواب والجواب يخرج على وفق السؤال وأما هذا السؤال الثاني فعن قدر الإنفاق ودل عليه الجواب أيضا
ومن ذلك أجوبة موسى عليه السلام لفرعون حيث قال فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لأن "ما" سؤال عن الماهية أو عن الجنس ولما كان هذا السؤال خطأ لأن المسئول عنه ليس ترى ماهيته فتبين ولا جنس له

فيذكر عدل الكليم عن مقصود السائل إلى الجواب بما يعرف الصواب عند كيفية الخطاب ولا يستحق الجريان معه فأجابه بالوصف المنبه عن الظن المؤدي لمعرفته لكنه لما لم يطابق السؤال عنه فرعون لجهله واعتقد الجواب خطأ {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} فأجابه الكليم بجواب يعم الجميع ويتضمن الإبطال لعين ما يعتقدونه من ربوبية فرعون لهم بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} فأجاب بالأغلظ وهو ذكر الربوبية لكل ما هو من عالمهم نصا ولما لم يرهم موسى عليه السلام تفطنوا غلظ عليهم في الثالثة،بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فكأنه شك في حصول عقلهم
فإن قيل: قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} ولم يقل عن قتال في الشهر الحرام لأنهم لم يسألوا إلا من أجل القتال فيه فكان ذكره أولى!
وقيل: لم يقع السؤال إلا بعد القتال فكان الاهتمام بالسؤال عن هذا الشهر هل أبيح فيه القتال وأعاده بلفظ الظاهر ولم يقل هو كبير ليعلم حكم قتال وقع في الشهر الحرام
وقد يعدل عن الجواب إذا كان السائل قصده التعنت كقوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فذكر صاحب الإيضاح في خلق الإنسان إن اليهود إنما سألوا تعجيزا وتغليظا إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر يقال له الروح وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى فقصد اليهود إن يسألوه فبأي يسمى أجابهم قالوا ليس هو فجاءهم الجواب مجملا فكان هذا الإجمال كيدا يرسل به كيدهم

وقيل: إنما سألوا عن الروح: هل هي محدثة مخلوقة أم ليست كذلك؟فأجابهم بأنها من أمر الله وهو جواب صحيح لأنه لا فرق بين أن يقول في الجواب ذلك أو يقول من أمر ربي لأنه أنما أراد أنها من فعله وخلقه
وقيل: أنهم سألوه عن الروح الذي هو في القرآن فقد سمى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب وحينئذ فوقع الجواب موقعه لأنه قال لهم الروح الذي هو القرآن من أمر ربي ومما أنزله الله على نبيه يجعله دلالة وعلما على صدقه وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم
وحكاه الشريف المرتضى في الغرر عن الحسن البصري قال ويقويه قوله بعد هذه الآية {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} فكأنه قال تعالى إن القرآن من أمر ربي ولو شاء لرفعه
ومثال الزيادة في الجواب قوله تعالى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} فإنه عليه السلام فهم إن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله في العصا فينبغي أن ينبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين وكذا قوله {وَمَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها والاستمرار على مواظبتها ليزداد غيظ السائل
وقوله تعالى {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} بعد قوله {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً} الآية ولولا قصد بسط الكلام ليشاكل ما تقدم لقال: "ينجيكم الله"

ومثال النقصان منه قوله تعالى ذاكرا عن مشركي مكة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا أو بدله بأن تجعل مكان آية العذاب آية الرحمة وليس فيه ذكر آلهتنا فأمره الله أن يجيبهم على التبديل وطوى الجواب عن الاختراع قال الزمخشري لأن التبديل في إمكان البشر بخلاف الاختراع فإنه ليس في المقدور فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال وذكر غيره إن التبديل قريب من الاختراع فلهذا اقتصر على جواب واحد لهما وخطر لي أنه لما كان التبديل أسهل من الاختراع وقد نفى إمكان التبديل كان الاختراع غير مقدور عليه من طريق أولى
فائدة
قيل أصل الجواب أن يعاد في نفس سؤال السائل ليكون وفق السائل قال الله تعالى {أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} وأنا في جوابه عليه السلام هو أنت في سؤالهم
قال {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} فهذا أصله ثم إنهم أتوا عوض ذلك محذوف الجواب اختصارا وتركا للتكرار
وقد يحذف السؤال ثقة بفهم السامع بتقديره كقوله تعالى {قُلْ هَلْ مِنْ

شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فإنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد فتعين أن يكون {قُلِ اللَّهُ} جواب سؤال كأنهم سألوا لما سمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فأجابهم الله عز وجل {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فترك ذكر السؤال
ونظيره قوله تعالى {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}
قاعدة
الأصل: في الجواب أن يكون مشاكلا للسؤال فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون الجواب كذلك ويجيء ذلك في الجواب المقدر أيضا إلا أن ابن مالك قال في قولك من قرأ فتقول زيد فإنه من باب حذف الفعل على جعل الجواب جملة فعلية قال وإنما قدرته كذلك لا مبتدأ مع احتماله جريا على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا تمامها قال تعالى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا}
ومثله {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فلما أتى بالجملة الفعلية مع فوات مشاكلة السؤال علم أن تقدير الفعل أولا أولى انتهى
ومما رجح به أيضا تقدير الفعل أنه حيث صرح بالجزء الأخير صرح بالفعل

والتشاكل ليس واجبا بل اللائق كون زيد فاعلا أي قرأ زيد أو خبرا أي القارئ زيد لا مبتدأ لأنه مجهول
بقي أن يقال في الأولى: التصريح بالفعل أو حذفه؟وهل يختلف المعنى في ذلك؟
والجواب: قال ابن يعيش التصريح بالفعل أجود وليس كما زعم بل الأكثر الحذف وأما قوله تعالى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} فكان الشيخ شهاب الدين بن المرحل رحمه الله يجعله من باب {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا لنكتة
وفيه نظر وأما المعنى فلا شك أنه يختلف فإنه إذا قيل من جاء فقلت جاء زيد احتمل إن يكون جوابا وأن يكون كلاما مبتدأ ولو قلت زيد كان نصا في أنه جواب وفي العموم الذي دلت عليه من وكأنك قلت الذي جاء زيد فيفيد الحصر وهاتان الفائدتان إنما حصلتا من الحذف
ومنه قوله تعالى {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إذ التقدير الملك لله الواحد فحذف المبتدأ من الجواب إذ المعنى لا ملك إلا لله
ومن الحذف قوله تعالى {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}{لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
ومن الإثبات قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}

ولعله للتنصيص على الإحياء الذي أنكروه { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وقوله {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} لأن ظاهر أمرهم أنهم كانوا معطلة ودهرية فأريد التنصيص على اعترافهم بأنها مخلوقة
وقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} لأنها استغربت حصول النبأ الذي أسرته
وقال ابن الزملكاني في البرهان أطلق النحويون القول بأن زيدا فاعل إذا قلت: زيد في جواب من قام على تقدير قام زيد والذي يوجبه جماعة علم البيان أنه مبتدأ لوجهين:
أولهما: أنه مطابق للجملة التي هي جواب الجملة المسئول بها في الاسمية كما وقع التطابق في قوله تعالى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} في الجملة الفعلية وإنما لم يقطع التطابق في قوله تعالى{ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} لأنهم لو طبقوا لكانوا مقرين بالإنزال وهم من الإذعان به على تفاوت الثاني: أن اللبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل فوجب أن يقدم الفاعل في المعنى لأنه متعلق بغرض السائل وأما الفعل فمعلوم عنده ولا حاجة إلى السؤال عنه فحرى أن يقع في الأخرى التي هي محل التكملات والفضلات
وكذلك: أزيد قام أم عمرو؟فالوجه في جوابه أن تقول: زيد قام أو عمرو قام وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام في جواب:

{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل ومع ذلك صدر الجواب بالفعل مع أنهم لم يستفهموا عن كسر الأصنام بل كان عن الشخص الكاسر لها
والجواب أن ما بعد بل ليس بجواب للهمزة فإن بل لا يصلح أن يصدر بها الكلام ولأن جواب الهمزة بنعم أو بلى فالوجه أن يجعل إخبارا مستأنفا والجواب المحقق مقدر دل عليه سياق الكلام ولو صرح به لقال ما فعلته بل فعله كبيرهم وإنما اخترنا تقدير الجملة الفعلية على الجملة المعطوفة عليها في ذلك
فإن قلت: يلزم على ما ذكرت أن يكون الخلف واقعا في الجملتين المعطوف عليها المقدرة والمعطوفة الملفوظ بها بعد بل
قلت: وإنه لازم على أن يكون التقدير ما أنا فعلته بل فعله كبيرهم هذا مع زيادته بالخلف عما أفادته الجملة الأولى من التعريض إذا منطوقها نفي الفعل عن إبراهيم عليه السلام ومفهومها إثبات حصول التكسير من غيره
فإن قلت: ولابد من ذكر ما يكون مخلصا عن الخلف على كل حال
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن في التعريض مخلصا عن الكذب ولم يكن قصده عليه السلام أن ينسب الفعل الصادر منه إلى الصنم حقيقة بل قصده إثبات الفعل لنفسه على طريق التعريض ليحصل غرضه من التبكيت وهو في ذلك مثبت معترف لنفسه بالفعل وليس هذا من الكذب في شيء
والثاني: إنه غضب من تلك الأصنام غيرة لله تعالى ولما كانوا لأكبرها أشد تعظيما كان منه أشد غضبا فحمله ذلك على تكسيرها وذلك كله حامل للقوم على الأنفة

أن يعبدوه فضلا عن أن يخصوه بزيادة التعظيم ومنبه لهم على أن المتكسرة متمكن فيها الضعف والعجز منادى عليها بالفناء منسلخة عن ربقة الدفع فضلا عن إيصال الضرر والنفع وما هذا سبيله حقيق أن ينظر إليه بعين التحقير لا التوقير والفعل ينسب إلى الحامل عليه كما ينسب إلى الفاعل والمفعول والمصدر والزمان والمكان والسبب إذ للفعل بهذه الأمور تعلقات وملابسات يصح الإسناد إليها على وجه الاستعارة.
الثالث: أنه لما رأى عليه السلام منهم بادرة تعظيم الأكبر لكونه أكمل من باقي الأصنام وعلم أن ما هذا شأنه يصان أن يشترك معه من دونه في التبجيل والتكبير حمله ذلك على تكسيرها منبها لهم على أن الله أغير وعلى تمحيق الأكبر اقدر وحري أن يخص بالعبادة فلما كان الكبير هو الحامل على تكسير الصغير صحت النسبة إليه على ما سلف ولما تبين لهم الحق رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم انتم الظالمون إذ وضعتم العبادة بغير موضعها
وذكر الشيخ عبد القاهر أن السؤال إذا كان ملفوظا به فالأكثر ترك الفعل في الجواب والاقتصار على الاسم وحده وإن كان مضمرا فوجب التصريح بالفعل لضعف الدلالة عليه فتعين أن يلفظ به
وهو مشكل بقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} فيمن قرأها بفتح الباء كأنه قيل من يسبحه فقيل يسبحه رجال ونظيره ضرب زيد وعمرو على بناء ضرب للمفعول نعم الأولى ذكر الفعل لما ذكر وعليه يخرج كل ما ورد في القران من لفظ قال مفصولا غير منطوق به نحو {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ

سَلامٌ} كأنه قيل: فما قال لهم؟ {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} ولذلك قالوا لا تخف
وعلى هذه السياقة تخرج قصة موسى عليه السلام في قوله {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
وعلى هذا كل كلام جاء فيه لفظة قال هذا المجيء غير أنه يكون في بعض المواضع أوضح كقوله تعالى {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ} فإنه لا يخفى أنه جواب لقوله {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}
ومثله {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} إلى قوله {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً}
فائدة
في أن أقل الأمم سؤالا أمة محمد عليه السلام
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوه عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا
قال الإمام: ثمانية منها في البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} {يَسْأَلونَكَ عَنِ

الأَهِلَّةِ} والباقي ستة فيها والتاسعة {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} في المائدة
والعاشرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}
الحادي عشر في بني إسرائيل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ}
الثاني عشر في الكهف: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}
الثالث عشر في طه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}
الرابع عشر في النازعات: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}
ولهذه المسألة ترتيب: اثنان منها في شرح المبدأ كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فإنه سؤال عن الذات وقوله {عَنِ الأَهِلَّةِ} سؤال عن الصفة
واثنان في الآخر في شرح المعاد وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}
ونظير هذا أنه ورد في القران سورتان أولهما {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} في النصف

الأول وهو السورة الرابعة وهي سورة النساء والثانية في النصف الثاني وهي سورة الحج ثم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الذي في الأول يشتمل على شرح المبدأ والذي في الثاني يشتمل على شرح حال
فإن قيل: كيف جاء {يَسْأَلونَكَ} ثلاث مرات بغير واو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ثم جاء ثلاث مرات بالواو { وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}؟
قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقا عن الحوادث والآخر وقع في وقت واحد فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك
فإن قيل: كيف جاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وعادة السؤال يجيء جوابه في القران بـ "قل" نحو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ونظائره؟
قيل: حذفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء مستغن عن الواسطة وهو دليل على أنه أشرف المقامات فإن الله سبحانه لم يجعل بينه وبين الداعي واسطة وفي غير حالة الدعاء تجيء الواسطة

الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب دون ما في نفس الأمر
كقوله سبحانه وتعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وقعت إضافة الشريك إلى الله سبحانه على ما كانوا يقولون لأن القديم سبحانه أثبته
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}
وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
وقوله: {لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أي بزعمك واعتقادك
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}
وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}
وقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي أنكم لو علمتم قساوة قلوبكم لقلتم إنها كالحجارة أو أنها فوقها في القسوة ولو علمتم سرعة الساعة لعلمتم أنه في سرعة الوقوع كلمح البصر أو هو أقرب عندكم
وأرسلناه إلى قوم هم من الكثرة بحيث لو رأيتموهم لشككتم وقلتم مائة ألف أو يزيدون عليها

وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} ونحوه مما كان عند المتكلم لأنه لا يكون خلافة فإنه كان على طمع ألا يكون منهم تكذيب
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي بالنسبة إلى ما يعتاده المخلوقون في إن الإعادة عندهم أهون من البداءة لأنه أهون بالنسبة إليه سبحانه فيكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء
وحكى الإمام الرازي في مناقب الشافعي قال معنى الآية في العبرة عندكم لأنه لما قال للعدم" كن" فخرج تاما كاملا بعينيه وأذنيه وسمعه وبصره ومفاصله فهذا في العبرة أشد من إن يقول لشيء قد كان عد إلى ما كنت عليه فالمراد من الآية وهو أهون عليه بحسب عبرتكم لا أن شيئا يكون على الله أهون من شيء آخر
وقيل: الضمير في {عَلَيْهِ} يعود للخلق لأنه يصاح بهم صيحة فيقومون وهو أهون من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء
وقوله {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي يأيها العالم الكامل وإنما قالوا هذه تعظيما وتوقيرا منهم له لأن السحر عندهم كان عظيما وصنعة ممدوحة
وقيل: معناه يأيها الذي غلبنا بسحره كقول العرب خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة ويحتمل أنهم أرادوا تعييب موسى عليه السلام بالسحر ولم ينافسهم في مخاطبتهم به رجاء أن يؤمنوا
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} جيء بـ" إن" التي للشك وهو واجب دون إذ التي للوجوب سوقا للكلام على حسب حسبانهم أن

معارضته فيها للتهكم كما يقوله الواثق بغلبته على من يعاديه إن غلبتك وهو يعلم أنه غالبه تهكما به
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} والمراد بـ" من لا يخلق" الأصنام وكان أصله كما لا يخلق لأن" ما" لمن لا يعقل بخلاف "من" لكن خاطبهم على معتقدهم لأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولى العلم كقوله للأصنام {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} الآية أجرى عليهم ضمير أولى العقل كذا قيل
ويرد عليه أنه إذا كان معتقدهم خطأ وضلالة فالحكم يقتضي ألا ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه إلا إن يقال الغرض من الخطاب الإيهام ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم فقال: كما لا يخلق لاعتقدوا أن المراد به غير الأصنام من الجماد
وكذا ما ورد من الخطاب بعسى ولعل فإنها على بابها في الترجي والتوقع ولكنه راجع إلى المخاطبين قال الخليل وسيبويه في قوله تعالى {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} اذهبا إلى رجائكما وطمعكما لعله يتذكر عندكما فأما الله تعالى فهو عالم بعاقبة أمره وما يؤول إليه لأنه يعلم الشيء قبل أن يكون وهذا أحسن من قول الفراء إنها تعليلة أي يتذكر لما فيه من إخراج اللفظ عن موضوعه
ومنه التعجب الواقع في كلام الله نحو فما أصبرهم على النار أي هم أهل أن يتعجب منهم ومن طول تمكنهم في النار

ونحوه {قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}و{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ومنه قوله تعالى في نعيم أهل الجنة وشقاء أهل النار {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} مع أنهما لا يزولان لكن التقييد بالسماء والأرض جرت عادة العرب إذا قصدوا الدوام أن يعلقوا بهما فجاء الخطاب على ذلك
تنبيه
في التهكم يقرب من هذا التهكم وهو إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال كقوله تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} مع العلم بأنه لا يحفظ من أمره الله شيء

التأدب في الخطاب بإضافة الخير إلى الله
وأن الكل بيده كقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل غير الذين غضبت عليهم
وقوله {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ولم يقل والشر وإن كانا جميعا بيده لكن الخير يضاف إلى الله تعالى إرادة محبة ورضا والشر لا يضاف إليه إلا إلى مفعولاته لأنه لا يضاف إلى صفاته ولا أفعاله بل كلها كمال لا نقص فيه وهذا معنى قوله والشر ليس إليك وهو أولى من تفسير من فسره لا يتقرب به إليك
وتأمل قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فأضافه إلى نفسه حيث صرفه ولما ذكر السجن أضافه إليهم فقال {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} وإن كان سبحانه هو الذي سبب السجن له وأضاف ما منه الرحمة إليه وما منه الشدة إليهم
ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ولم يقل أمرضني
وتأمل جواب الخضر عليه السلام عما فعله حيث قال في إعابة السفينة {فَأَرَدْتُ} وقال في الغلام {فَأَرَدْنَا} وفي إقامة الجدار { فَأَرَادَ رَبُّكَ}

قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في كتاب فك الأزرار عن عنق الأسرار لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدبا مع الربوبية فقال فأردت ولما كان قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود والمذموم استتبع نفسه مع الحق فقال في الإخبار بنون الاستتباع ليكون المحمود من الفعل وهو راحة أبويه المؤمنين من كفره عائدا على الحق سبحانه والمذموم ظاهرا وهو قتل الغلام بغير حق عائدا عليه وفي إقامة الجدار كان خيرا محضا فنسبه للحق فقال {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ثم بين إن الجميع من حيث العلم التوحيدي من الحق بقوله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}
وقال ابن عطية: إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب وتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله وأسند المرض إلى نفسه إذ هو معنى نقص ومعابة وليس من جنس النعم المتقدمة
وهذا النوع مطرد في فصاحة القرآن كثيرا ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} !وتقديم فعل الله في قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} وإنما قال: الخضر في الثانية {فَأَرَدْنَا} لأنه قد أراده الله وأصحابه الصالحون وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين وتمنى التبديل لهما وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل غيب من الغيوب فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى
ومثله قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ

أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله وأضافوا إرادة الرشد إليه
وقريب من هذا قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام في خطابه لما اجتمع أبوه وإخوته {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } ولم يقل من الجب مع أن الخروج منه أعظم من الخروج من السجن
وإنما آثر ذكر السجن لوجهين ذكرهما ابن عطية
أحدهما: إن في ذكر الجب تجديد فعل إخوته وتقريعهم بذلك وتجديد تلك الغوائل
والثاني: أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك والنعمة هنا أوضح انتهى
وأيضا ولأن بين الحالين بونا من ثلاثة أوجه قصر المدة في الجب وطولها في السجن وأن الجب كان في حال صغره ولا يعقل فيها المصيبة ولا تؤثر في النفس كتأثيرها في حال الكبر والثالث إن أمر الجب كان بغيا وظلما لأجل الحسد وأمر السجن كان لعقوبة أمر ديني هو منزه عنه وكان أمكن في نفسه والله أعلم بمراده
ومثله قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وقال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فحذف الفاعل عند ذكر الرفث وهو الجماع وصرح به عند إحلال العقد
وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فحذف الفاعل عند ذكر هذه الأمور

وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ونظائر ذلك كثيرة في القرآن
وقال السهيلي في كتاب الإعلام في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} ،والمكان المشار إليه واحد قال ووجه الفرق بين الخطابين أن الأيمن إما مشتق من اليمن وهو البركة أو مشارك له في المادة فلما حكاه عن موسى في سياق الإثبات أتى بلفظه ولما خاطب محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سياق النفي عدل إلى لفظ الغربي لئلا يخاطبه فيسلب عنه فيه لفظا مشتقا من اليمن أو مشاركا في المادة رفقا بهم في الخطاب وإكراما لهما هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح
وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب
وقال: أيضا في الكتاب المذكور في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً.......} الآية أضافه هنا إلى النون وهو الحوت،وقال في سورة القلم {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وسماه هنا ذا النون والمعنى واحد ولكن بين اللفظين تفاوت كبير في حسن الإشارة إلى الحالين وتنزيل الكلام في الموضوعين فإنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال ذا النون ولم يقل صاحب الحوت ولفظ النون أشرف لوجود هذا الاسم في حروف الهجاء في أوائل السور نحو {نْ وَالْقَلَمِ} وقد قيل إن هذا قسم بالنون والقلم وإن لم يكن قسما فقد عظمه بعطف المقسم به عليه وهو القلم وهذا

الاشتراك يشرف هذا الاسم وليس في الاسم وليس في اللفظ الآخر وهو الحوت ما يشرفه
فالتفت إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرت إليه في هذا فإن التدبر لإعجاز القرآن واجب مفترض
وقال الشيخ أبو محمد المرجاني في قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} خاطبه بمقدمة الصدق مواجهة ولم يقدم الكذب لأنه متى أمكن حمل الخبر على الصدق لا يعدل عنه ومتى كان يحتمل ويحتمل قدم الصدق ثم لم يواجهه بالكذب بل أدمجه في جملة الكذابين أدبا في الخطاب
ومثله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
وكذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}
وهذان المثالان من باب إرخاء العنان للخصم ليدخل في المقصود بألطف موعود
قاعدة
في ذكر الرحمة والعذاب في القرآن من أساليب القرآن حيث ذكر الرحمة والعذاب أن يبدأ بذكر الرحمة كقوله

تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وعلى هذا جاء قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية عن الله تعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي"
وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيبا وزجرا
منها: قوله في سورة المائدة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأنها وردت في ذكر قطاع الطريق والمحاربين والسراق فكان المناسب تقديم ذكر العذاب لهذا ختم آية السرقة بـ "عزيز حكيم" وفيه الحكاية المشهورة وختمها بالقدرة مبالغة في الترهيب لأن من توعده قادر على إنفاذ الوعيد كما قاله الفقهاء في الإكراه على الكلام ونحوه ومنها قوله في سورة العنكبوت {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} لأنها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه
ومثلها {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

قُلْ سِيرُوا} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وبعدها {بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
ومنها في آخر الأنعام قوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن سورة الأنعام كلها مناظرة للكفار ووعيد لهم خصوصا وفي آخرها قبل هذه الآيات بيسير: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية وهو تهديد ووعيد إلى قوله {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} الآية وهو تقريع للكفار وإفساد لدينهم إلى قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} ،فكان المناسب تقديم ذكر العقاب ترهيبا للكفار وزجرا لهم عن الكفر والتفرق وزجرا للخلائق عن الجور في الأحكام
ونحو ذلك في أواخر الأعراف {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لأنها في سياق ذكر معصية أصحاب السبت وتعذيبه إياهم فتقديم العذاب مناسب
والفرق بين هذه الآية وآية الأنعام حيث أتى هنا باللام فقال {لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} دون هناك أن اللام تفيد التوكيد فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب لأن العقاب المذكور هنا عقاب عاجل وهو عقاب بني إسرائيل بالذل والنقمة وأداء الجزية بعد المسخ لأنه في سياق قوله {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ،فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل وهو مناسب بخلاف العقاب المذكور في سورة الأنعام فإنه أجل بدليل قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ

فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فاكتفى فيه بتأكيد إن ولما اختصت آية الأعراف بزيادة العذاب عاجلا اختصت بزيادة التأكيد لفظا بـ "إن" وجميع ما في القرآن على هذا اللفظ يناسبه التقديم والتأخير وعليه دليلان أحدهما تفصيلي وهو الاستقراء فانظر أي آية شئت تجد فيها مناسبا لذلك والثاني إجمالي وهو أن القران كلام أحكم الحكماء فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة فوجب اعتباره كذلك وهذان دليلان عامان في مضمون هذه الفائدة وغيرها
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} ولم يقل: ذو عقوبة شديدة لأنه إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله في الاجتراء على معصيته وذلك أبلغ في التهديد معناه لا تغتروا بسعة رحمة الله فإنه مع ذلك لا يرد عذابه
ومثله قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} وقد سبقت
فائدة في الفرق بين الخطاب بالاسم والفعل
وأن الفعل يدل على التجدد والحدوث والاسم على الاستقرار والثبوت ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر
فمنه قوله تعالى {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} لو قيل يبسط لم يؤد

الغرض لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط وأنه يتجدد له شيء بعد شيء فـ "باسط" أشعر بثبوت الصفة
وقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} لو قيل رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع مع أن العامل الذي يفيده ماض كقولك جاء زيد يضرب وفي التنزيل {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} إذ المراد أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجيء وأنهم آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول إلى صريح الفعل والمصدر
ومن هذا يعرف لم قيل {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} ولم يقل المنفقين في غير موضع وقيل كثيرا المؤمنون والمتقون لأن حقيقة النفقة أمر فعلي شأنه الانقطاع والتجدد بخلاف الإيمان فإن له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها وإن غفل عنها كذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والضلال والعمى والبصر فمعناها أو معنى وصف الجارحة كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر وآثار تتجدد وتنقطع فجاءت بالاستعمالين إلا أن لكل محل ما يليق به فحيث يراد تجدد حقائقها أو آثارها فالأفعال وحيث يراد ثبوت الاتصاف بها فالأسماء وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين لأنه للشأن والصفة هذا مع أن لها في القلوب أصولا وله ببعض معانيها التصاق قوي هذا التركيب إذ القلب فيه جهاد الخواطر الرديئة والأخلاق الدنيئة وعقد على فعل المهاجرة كما فيه عقد على الوفاء بالعهد وحيث يستمر المعاهد عليه إلى غير ذلك

وانظر هنا إلى لطيفة وهو أن ما كان من شأنه إلا يفعل إلا مجازاة وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به لم يأت إلا في تراكيب الأفعال كقوله تعالى { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وقال {وأن الله لهاد الذين آمنوا ولكل قوم هاد}
وأما قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فإن الإهلاك نوع اقتدار بين مع أن جنسه مقتضي به على الكل عالين وسافلين لا كالضلال الذي جرى مجرى العصيان
ومنه قوله تعالى {تذكروا فإذا هم مبصرون}لأن البصر صفة لازمة للمتقي وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ولو قيل يبصرون لأنبا عن تجدد واكتساب فعل لا عود صفة
وقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أتى بالماضي في خلق لأن خلقه مفروغ منه وأتى بالفاء دون الواو لأنه كالجواب إذ من صور المني قادر على أن يصيره ذا هدى وهو للحصر لأنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم تهديهم ثم قال {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} فأتى بالمضارع لبيان تجدد الإطعام والسقيا وجاءت الواو دون الفاء لأنهم كانوا لا يفرقون بين المطعم والساقي ويعلمون أنهما من مكان واحد وإن كانوا يعلمون أنه من إله وأتى به هو لرفع ذلك ودخلت الفاء في {فَهُوَ يَشْفِينِ} لأنه جواب ولم يقل إذا مرضت فهو يشفين إذ يفوت ما هو موضوع لإفادة

التعقيب،ويذهب الضمير المعطى معنى الحصر ولم يكونوا منكرين الموت من الله وإنما أنكروا البعث فدخلت ثم لتراخي ما بين الإماتة والإحياء
وقوله تعالى: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} لأن الفعل الماضي يحتمل هذا الحكم دائما ووقتا دون وقت فلما قال {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أي سكوتكم عنهم أبدا ودعاؤكم إياهم واحد لأن {صَامِتُونَ} فيه مراعاة للفواصل فهو أفصح وللتمكين من تطريفه بحرف المد واللين وهو للطبع أنسب من صمتهم وصلا ووقفا
وفيه وجه آخر،وهو أن أحد القسمين موازن للآخر فيدل على أن المعنى أنتم داعون لهم دائما أم أنتم صامتون
فإن قيل: لم لا يعكس؟
قلنا: لأن الموصوف الحاضر والمستقبل لا الماضي لأن قبله {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} والكلام بآخره فالحكم به قد يرجح
وقوله تعالى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} ،ولم يقل: أم لعبت لأن العاقل لا يمكن أن يلعب بمثل ما جاء به ظاهرا وإنما يكون ذلك أحد رجلين إما محق وإما مستمر على لهو الصبا وغي الشباب فيكون اللعب من شأنه حتى يصدر عنه مثل ذلك ولو قال أم لعبت لم يعط هذا
وقوله تعالى حاكيا عن المنافقين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يريدون أحدثنا الإيمان وأعرضنا عن الكفر ليروح ذلك خلافا منهم كما أخبر تعالى عنهم في قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}

وجاءت الاسمية في الرد عليهم بقوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} لأنه أبلغ من نفي الفعل إذ يقتضي إخراج أنفسهم وذواتهم عن أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين وينطوي تحته على سبيل القطع نفي بما أثبتوا لأنفسهم من الدعوى الكاذبة على طريقة {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} مبالغة في تكذيبهم ولذلك أجيبوا بالباء وكلامهم في هذا كما قيل خلي من المعنى ولكن مفرقع
وإذا قيل: أنا مؤمن أبلغ من آمن ونفي الأبلغ لا يستلزم نفي ما دونه وما حقيقة إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين لم يرجع في البيان إلا على عي أو ترويج ولكن ذم الله تعالى طائفة تقول آمنا وهي حالة القول ليست بمؤمنة بيانا لأن هذا القول إنما صدر عنها ادعاء بحضور الإيمان حالة القول والانتظام بذلك في سلك المتصفين بهذه الصفة وهم ليسوا كذلك فإذا ذمهم الله شمل الذم أن يكونوا آمنوا يوما ثم تخلوا وأن يكونوا ما آمنوا قط من طريق الأولى والتعميم فقط وأعلم به أن ذلك حكم من ادعى هذا الدعوى على هذه الحال وبين أن هذا القول إنما قصدوا به التمويه بقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولو قال وما آمنوا لم يفد إلا نفيه عنهم في الماضي ولم يفد ذمهم إن كانوا آمنوا ثم ارتدوا وهذا أفاد نفيه في الحال وذمهم بكل حال ولأن ما فيه مؤمنين أحسن من آمنوا لوجود التمكين بالمد والوقف عقبه على حرف له موقف وأما قوله تعالى {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} دون يخرجون فقيل ما سبق وقيل استوى هنا يخرجون وخارجين في إفادة المعنى واختير الاسم لخفته وأصالته

وكذلك قوله تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يخبرون عن أنفسهم بالثبات على الإيمان بهم
ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال الإمام فخر الدين الرازي لأن الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت لما كان أشد أتى بالمضارع ليدل على التجدد كما في قوله تعالى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
تنبيه
مضمر الفعل كمظهره في إفادة الحدوث ومن هذه القاعدة قالوا إن سلام الخليل عليه السلام أبلغ من سلام الملائكة حيث قال{قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ}فإن نصب سلاما إنما يكون على إرادة الفعل أي سلمنا سلاما وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم إذ الفعل تأخر عن وجود الفاعل بخلاف سلام إبراهيم فإنه مرتفع بالابتداء فاقتضى الثبوت على الإطلاق وهو أولى بما يعرض له الثبوت فكأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به اقتداء بقوله تعالى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
وذكروا فيه أوجها أخرى تليق بقاعدة الفلاسفة في تفضيل الملائكة على البشر وهو أن السلام دعاء بالسلامة من كل نقص وكمال البشر تدريجي فناسب الفعل وكمال الملائكة مقارن لوجودها على الدوام فكان أحق بالاسم الدال على الثبوت
قيل: وهو غلط لأن الفعل المنشأ هو تسليمهم أما السلام المدعو به فليس في موضوعه تعرض لتدرج وسلامة أيضا منشأ فعل ولا يتعرض للتدريج غير أن سلامه لم يدل بوضعه

اللغوي وقوع إنشائه ثم لو كان هذا المعنى معتبرا لشرع السلام بيننا بالنصب دون الرفع
تنبيه
هذا الذي ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت والفعل على التجدد والحدوث هو المشهور عند البيانيين وأنكر أبو المطرف بن عميرة في كتاب التمويهات على كتاب التبيان لابن الزملكاني قال هذا الرأي غريب ولا مستند له نعلمه إلا أن يكون قد سمع أن في مقوله أن يفعل وأن ينفعل هذا المعنى من التجدد فظن أنه الفعل القسيم للأسماء فغلط ثم قوله الاسم يثبت المعنى للشيء عجيب وأكثر الأسماء دلالتها على معانيها فقط وإنما ذاك في الأسماء المشتقة ثم كيف يفعل بقوله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} وقوله في هذه السورة بعينها {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} وقال ابن المنير طريقة العرب تدبيج الكلام وتلوينه ومجيء الفعلية تارة والاسمية أخرى من غير تكلف لما ذكروه وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلص اعتمادا على أن المقصود الحاصل بدون التأكيد كقوله تعالى {رَبَّنَا آمَنَّا} ولا شيء بعد {آمَنَ الرَّسُولُ} وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين فقال {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}

قاعدة في قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ونحوها
جاء في التنزيل في موضع {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وفي موضع {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}
والأول: جاء في تسعة مواضع أحدها في الرحمن {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
والثاني : في أربع مواضع أولها في يونس {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}
وجاء قوله تعالى: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في أحد عشر موضعا أولها في البقرة {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
وجاء قوله {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} في ثمانية وعشرين موضعا أولها في آية الكرسي
قال بعضهم وتأملت هذه المواضع فوجدت أنه حيث قصد التنصيص على الإفراد ذكر الموصول والظرف ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس من نفي الشركاء الذين اتخذوهم في الأرض وإلى المقصود في آية الكرسي في إحاطة الملك

وحيث قصد أمر آخر لم يذكر الموصول إلا مرة واحدة إشارة إلى قصد الجنس وللاهتمام بما هو المقصود في تلك الآية ألا ترى إلى سورة الرحمن المقصود منها علو قدرة الله وعلمه وشأنه وكونه سئولا ولم يقصد إفراد السائلين
فتأمل هذا الموضع
قاعدة في قوله تعالى :{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ونحوها
قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن كقوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} إلى غير ذلك
والمفسرون على أن هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ فهو خبر وإذا كان خبر أفتوهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدى إلى التناقض لأنه يقال لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد أظلم ممن افترى عل الله كذبا ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها
واختلف المفسرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق:
أحدها: تخصيص كل واحد في هذه المواضع بمعنى صلته فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله

كذبا وكذلك باقيها وإذا تخصص بالصلات زال عنه التناقض
الثاني: إن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقتهم وهذا يئول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية
الثالث: وادعى الشيخ أبو حيان الصواب ونفى الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق فلو قلت ما في الدار رجل ظريف لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر لأنهم يتساوون في الأظلمية وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى وممن كذب ونحوها ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمر وخالد لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر بل نفي أن يكون أحدهم أفقه منهم
لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأنا نقول هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار فهم متساوون في الأظلمية وإن اختلفت طرق الأظلمية فهي كلها صائرة إلى الكفر وهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من

اتصف به وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة فتقول الكافر أظلم من المؤمن ونقول لا أحد أظلم من الكافر ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره انتهى
وقال بعض مشايخنا: لم يدع القائل نفي الظالمية فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها وإنما دعواه أن ومن أظلم ممن منع مثلا والغرض أن الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا الوصف وإذا كان كذلك حصل التعارض ولابد من الجمع بينهما وطريقه التخصيص فيتعين القول به
وقول الشيخ: إن المعنى لا أحد أظلم ممن منع وممن ذكر صحيح ولكن لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص لأن الأفراد المنفي عنها الأظلمية في آية وأثبتت لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى وهكذا بالنسبة إلى بقية الآيات الوارد فيها ذلك وكلام الشيخ يقتضي أن ذلك استفيد لا بطريق التخصيص بل بطريق أن الآيات المتضمنة لهذا الحكم في آية واحدة وإذا تقرر ذلك علمت أن كل آية خصت بأخرى ولا حاجة إلى القول بالتخصيص بالصلات ولا بالسبق
الرابع: طريقة بعض المتأخرين فقال متى قدرنا لا أحد أظلم لزم أحد الأمرين إما استواء الكل في الظلم وأن المقصود نفي الأظلمية من غير المذكور لا إثبات الأظلمية له وهو خلاف المتبادر إلى الذهن وإما أن كل واحد أظلم في ذلك النوع وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة أو نفيها من غيره
وهنا معنى ثالث وهو أمكن في المعنى وسالم عن الاعتراض وهو الوقوف مع مدلول

اللفظ من الاستفهام والمقصود به أن هذا الأمر عظيم فظيع قصدنا بالاستفهام عنه تخييل أنه لا شيء فوقه لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره فكأنه مضطر إلى أن يقول لا أحد أظلم وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به التهويل فيقال أي شيء أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته ولو قيل للمتكلم بذلك أنت قلت إنه أعظم الأشياء لأبى ذلك فليفهم هذا المعنى فإن الكلام ينتظم معه والمعنى عليه
قاعدة
في الجحد بين الكلامين
قوله تعالى :{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} قال صاحب الياقوتة قال ثعلب والمبرد جميعا العرب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين كان الكلام إخبارا فمعناه إنما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ومثله ما سمعت منك ولا أقبل منك مالا وإذا كان في أول الكلام جحد كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيا نحو ما زيد بخارج فإذا جمعت بين جحدين في أول الكلام كان أحدهما زائدا كقوله ما ما قمت يريد ما قمت ومثله ما إن قمت وعليه قوله تعالى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} في أحد الأقوال

قاعدة في ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه
ولهذا وزعت بحسب المقامات فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر فعلى المفسر مراعاة الاستعمالات والقطع بعدم الترادف ما أمكن فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد
فمن ذلك الخوف والخشية لا يكاد اللغوي يفرق بينهما ولا شك أن الخشية أعلى من الخوف وهي أشد الخوف فإنها مأخوذة من قولهم شجرة خشية إذا كانت يابسة وذلك فوات بالكلية والخوف من قولهم ناقة خوفاء إذا كان بها داء وذلك نقص وليس بفوات ومن ثمة خصت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}
وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا ويدل على ذلك أن الخاء والشين والياء في تقاليبها تدل على العظمة قالوا شيخ للسيد الكبير والخيش لما عظم من الكتان والخاء والواو والفاء في تقاليبها تدل على الضعف وانظر إلى الخوف لما فيه من ضعف القوة وقال تعالى {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فإن الخوف من الله لعظمته يخشاه كل أحد كيف كانت حالة وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما بالحساب وحاسب نفسه قبل أن يحاسب

وقال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال لموسى {لا تَخَفْ} أي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه من فرعون
فإن قيل: ورد: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} ؟
قيل: الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف فيصح أن يقول يخشى ربه لعظمته ويخاف ربه أي لضعفه بالنسبة إلى الله تعالى
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى لما ذكر الملائكة وهم أقوياء ذكر صفتهم بين يديه فقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فبين أنهم عند الله ضعفاء ولما ذكر المؤمنين من الناس وهم ضعفاء لا حاجة إلى بيان ضعفهم ذكر ما يدل على عظمة الله تعالى فقال {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ولما ذكر ضعف الملائكة بالنسبة إلى قوة الله تعالى قال {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} والمراد فوقية بالعظمة
ومن ذلك الشح والبخل والشح هو البخل الشديد وفرق العسكري بين البخل والضن بأن الضن أصله إن يكون بالعواري والبخل بالهيئات ولهذا يقال هو ضنين بعلمه ولا يقال: هو بخيل لأن العلم أشبه بالعارية منه بالهيئة لأن الواهب إذا وهب شيئا خرج عن ملكه بخلاف العارية ولهذا قال تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ولم يقل بـ "بخيل"

ومن ذلك الغبطة والمنافسة كلاهما محمود قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حسد إلا في اثنتين" وأراد الغبطة وهي تمني مثل ماله من غير أن يغتم لنيل غيره فإن انضم إلى ذلك الجد والتشمير إلى مثله أو خير منه فهو منافسة
وقريب منها الحسد والحقد فالحسد تمني زوال النعمة من مستحقها وربما كان مع سعي في إزالتها كذا ذكر الغزالي هذا القيد أعنى الاستحقاق وهو يقتضي أن تمنى زوالها عمن لا يستحقها لا يكون حسدا
ومن ذلك السبيل والطريق وقد كثر استعمال السبيل في القرآن حتى إنه وقع في الربع الأول منه في بضع وخمسين موضعا أولها قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقع ذكر الطريق مرادا به الخير إلا مقترنا بوصف أو بإضافة مما يخلصه لذلك كقوله تعالى {إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}
ومن ذلك جاء وأتى يستويان في الماضي ويأتي أخف من يجيء وكذا في الأمر جيئوا بمثله أثقل من فأتوا بمثله ولم يذكر الله إلا يأتي ويأتون وفي الأمر فأت فأتنا فأتوا لأن إسكان الهمزة ثقيل لتحريك حروف المد واللين تقول جيء أثقل من ائت
وأما في الماضي ففيه لطيفة وهي أن جاء يقال في الجواهر والأعيان وأتى في المعاني والأزمان وفي مقابلتها ذهب ومضى يقال ذهب في الأعيان ومضى في الأزمان ولهذا يقال حكم فلان ماض ولا يقال ذاهب لأن الحكم ليس من الأعيان

وقال {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل مضى لأنه يضرب له المثل بالمعاني المفتقرة إلى الحال ويضرب له المثل بالأعيان القائمة بأنفسها فذكر الله جاء في موضع الأعيان في الماضي وأتى في موضع المعاني والأزمان
وانظر قوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} لأن الصواع عين {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} لأنه عين وقال {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} لأنها عين
وأما قوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} فلان الأجل كالمشاهد ولهذا يقال حضرته الوفاة وحضره الموت وقال تعالى {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي العذاب لأنه مرئي يشاهدونه وقال {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} حيث لم يكن الحق مرئيا
فإن قيل: فقد قال تعالى {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} وقال {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} فجعل الأمر آتيا وجائيا
قلنا: هذا يؤيد ما ذكرناه فإنه لما قال {جَاءَ} وهم ممن يرى الأشياء قال {جَاءَ} أي عيانا ولما كان الزرع لا يبصر ولا يرى قال {جَاءَ} ويؤيد هذا أن جاء يعدى بالهمزة ويقال أجاءه قال تعالى {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} ولم يرد أتاه بمعنى ائت من الإتيان لأن المعنى لا استقلال له حتى يأتي بنفسه ومن ذلك الخطف والتخطف لا يفرق الأديب بينهما والله تعالى فرق

بينهما فتقول: {خَطِفَ} بالكسر لما تكرر ويكون من شأن الخاطف الخطف وخطف بالفتح حيث يقع الخطف من غير من يكون من شأنه الخطف بكلفة وهو أبعد من خطف بالفتح فإنه يكون لمن اتفق له على تكلف ولم يكن متوقعا منه ويدل عليه أن فعل بالكسر لا يتكرر كعلم وسمع وفعل لا يشترط فيه ذلك كقتل وضرب قال تعالى {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فإن شغل الشيطان ذلك وقال {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لأن من شانه ذلك
وقال: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} فإن الناس لا تخطف الناس إلا على تكلف
وقال {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}
وقال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لأن البرق يخاف منه خطف البصر إذا قوي
ومن ذلك مد وأمد قال الراغب أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ}{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} والمد في المكروه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً}
ومن ذلك سقى وأسقى وقد سبق ومن ذلك عمل وفعل والفرق بينهما

إن العمل اخص من الفعل كل عمل فعل ولا ينعكس،ولهذا جعل النجاة الفعل في مقابلة الاسم لأنه أعم والعمل من الفعل ما كان مع امتداد لأنه فعل وباب فعل لما تكرر
وقد اعتبره الله تعالى فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} حيث كان فعلهم بزمان
وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين فينقلون المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}،{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} فإن خلق الأنعام والثمار والزروع بامتداد،وقال {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وتبين لكم كيف فعلنا بهم فإنها إهلاكات وقعت من غير بطء
وقال: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} حيث كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة
وقال {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} بمعنى سارعوا كما قال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع
ومن ذلك القعود والجلوس إن القعود لا يكون معه لبثة والجلوس

لا يعتبر فيه ذلك ولهذا تقول قواعد البيت ولا تقول جوالسه لأن مقصودك ما فيه ثبات والقاف والعين والدال كيف تقلبت دلت على اللبث والقعدة بقاء على حاله والدقعاء للتراب الكثير الذي يبقى في مسيل الماء وله لبث طويل وأما الجيم واللام والسين فهي للحركة منه السجل للكتاب يطوى له ولا يثبت عنده ولهذا قالوا في قعد يقعد بضم الوسط وقالوا جلس يجلس بكسره فاختاروا الثقيل لما هو أثبت
إذا ثبت هذا فنقول قال الله تعالى {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} فان الثبات هو المقصود وقال: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي لا زوال لكم ولا حركة عليكم بعد هذا وقال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} ولم يقل مجلس إذ لا زوال عنه
وقال: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} إشارة إلى أنه يجلس فيه زمانا يسيرا ليس بمقعد فإذا طلب منكم التفسح فافسحوا لأنه لا كلفة فيه لقصره ولهذا لا يقال قعيد الملوك وإنما يقال جليسهم لأن مجالسه الملوك يستحب فيها التخفيف والقعيدة للمرأة لأنها تلبث في مكانها
ومن ذلك التمام والكمال وقد اجتمعا في قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والعطف يقتضي المغايرة فقيل الإتمام لإزالة نقصان الأصل والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ولهذا كان قوله تعالى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أحسن من تامة فإن التمام من العدد قد علم وإنما بقي احتمال نقص في صفاتها

وقيل تم يشعر بحصول نقص قبله وكمل لا يشعر بذلك ومن هذا قولهم رجل كامل إذا جمع خصال الخير ورجل تام إذا كان غير ناقص الطول وقال العسكري الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف ولهذا يقولون القافية تمام البيت ولا يقولون كماله ويقولون البيت بكماله
ومن ذلك الضياء والنور
فائدة
عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء
قال: الجويني لا يكاد اللغويون يفرقون بين الإعطاء والإتيان وظهر لي بينهما فرق انبنى عليه بلاغة في كتاب الله وهو أن الإتيان أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله لأن الإعطاء له مطاوع يقال: أعطاني فعطوت ولا يقال في الإتيان أتاني فأتيت وإنما يقال: أتاني فأخذت والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له لأنك تقول قطعته فانقطع فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفا على قبول المحل لولاه لما ثبت المفعول ولهذا يصح قطعته فما انقطع ولا يصح فيما لا مطاوع له ذلك فلا يجوز أن يقال: ضربته فانضرب أو ما انضرب ولا قتلته فانقتل أو ما انقتل لأن هذه الأفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء

قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدت ذلك مراعى قال الله تعالى في الملك {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} لأن الملك شيء عظيم لا يعطيه إلا من له قوة ولأن الملك في الملك أثبت من الملك في المالك فإن الملك لا يخرج الملك من يده وأما المالك فيخرجه بالبيع والهبة
وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت
وقال: {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} لعظم القرآن وشأنه
وقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته يردون على الحوض ورود النازل على الماء ويرتحلون إلى منازل العز والأنهار الجارية في الجنان والحوض للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام الكريم فقال فيه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لأنه يترك ذلك عن قرب وينتقل إلى ما هو أعظم منه
وقال: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} لأن من الأشياء ماله وجود في زمان واحد بلفظ الإعطاء وقال {لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} لأنه تعالى بعد ما يرضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزيده وينتقل به من كل الرضا إلى أعظم ما كان يرجو منه لا بل حال أمته كذلك فقوله: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} فيه بشارة
وقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} لأنها موقوفة على قبول منا وهم

لا يؤتون إيتاء عن طيب قلب وإنما هو عن كره إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة لا يكون كإعطاء الجزية
فانظر إلى هذه اللطيفة الموقفة على سر من أسرار الكتاب
قاعدة في التعريف والتنكير
اعلم أن لكل واحد منهما مقاما لا يليق بالآخر
فأما التعريف فله أسباب:
الأول: الإشارة إلى معهود خارجي كقوله تعالى: {بكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} ،على قراءة الأعمش فإنه أشير بالسحرة إلى ساحر مذكور وقوله {كمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} وأغرب ابن الخشاب فجعلها للجنس فقال: لأن من عصى رسولا فقد عصى سائر الرسل
ومنهم من لا يشترط تقدم ذكره وجعل منه قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} لأنهم كانوا يعتقدون أن الناس الذين آمنوا سفهاء

وقوله {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} أي الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبت لها،وإنما جعل هذا للخارجي لمعنى الذكر في قولها: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}ومعنى الأنثى في قولها {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}
الثاني: لمعهود ذهني أي في ذهن مخاطبك كقوله تعالى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وإما حضوري نحو {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنها نزلت يوم عرفة
الثالث: الجنس وهي فيه على أقسام أحدها: أن يقصد المبالغة في الخبر فيقصر جنس المعني على المخبر عنه نحو زيد الرجل أي الكامل في الرجولية وجعل سيبويه صفات الله تعالى كلها من ذلك
وثانيها: أن يقصره على وجه الحقيقة لا المبالغة ويسمى تعريف الماهية نحو {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} وقوله {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا مبتدأ كل حي هذا الجنس الذي هو الماء
وقال بعضهم: المراد بالحقيقة ثبوت الحقيقة الكلية الموجودة في الخارج لا الشاملة لأفراد الجنس نحو الرجل خير من المرأة لا يريدون امرأة بعينها وإنما المراد هذا الجنس خير من ذلك الجنس من حيث هو وإن كان يتفق في بعض أفراد النساء من هو خير من بعض أفراد الرجال بسبب عوارض
وهذا معنى قول ابن بابشاذ: إن تعريف العهد لما ثبت في الأعيان وتعريف الجنس لما ثبت في الأذهان لأن التفضيل في الجنس راجع إلى الصورتين الكليتين في الذهن

إذ لا معنى للتفضيل في الصورة الذهنية وإنما أضاف إلى الذهن لأن تلك الحقيقة التي ذكرناها وإن كانت موجودة في الخارج لاشتمال الأفراد الخارجية عليها ولكنها كلها مطابقة للصورة الذهنية التي لتلك الحقيقة ولهذا تسمى الكلية الطبيعية
الرابع: أن يقصد بها الحقيقة باعتبار كلية ذلك المعنى وتعرف بأنها التي إذا نزعت حسن أن يخلفها كل وتفيد معناها الذي وضعت له حقيقة ويلزم من ذلك الدلالة على شمول الأفراد وهي الاستغراقية ويظهر أثره في صحة الاستثناء منه مع كونه بلفظ الفرد نحو {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} وفي صحة وصفه بالجمع نحو {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا}
قال صاحب ضوء المصباح: سواء أكان الشمول باعتبار الجنس كالرجل والمرأة أو باعتبار النوع كالسارق والسارقة ويفرق بينهما بأن ما دخلت عليه من أجل فعله فيزول عنه الاسم بزوال الفعل فهي للنوع وما دخلت عليه من وصفه فلا يزول عنه الاسم أبدا هذا كله إذا دخلت على مفرد نحو {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} خلافا للإمام فخر الدين ومن تبعه في قولهم إن المفرد المحلي بالألف واللام لا يعم ولنا الاستثناء في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وليس في قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} دلالة على العموم كما زعم صاحب الكشاف
فإن قلت: فإذا لم يكن السارق عاما فبماذا تقطع يد كل سارق من لدن سرق رداء صفوان إلى انقضاء العالم

قيل: لأن المراد منه الجنس أي نفس الحقيقة والمعنى أن المتصف بصفة السرقة تقطع يده وهو صادق على كل سارق لأن الحقيقة كما توجد مع الواحد توجد مع المتعدد أيضا فإن دخلت على جمع فاختلف العلماء هل سلبته معنى الجمع ويصير للجنس ويحمل على أقله وهو الواحد لئلا يجتمع على الكلمة عمومان أو معنى الجمع باق معها؟
مذهب الحنفية الأول وقضية مذهبنا الثاني ولهذا اشترطوا ثلاثة من كل صنف في الزكاة إلا العاملين ويلزم الحنفية ألا يصح منه الاستثناء ولا يخصصه وقد قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} وقال {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وقد حققته في باب العموم من بحر الأصول
ثم الأكثر في نعتها وغيرها موافقة اللفظ كقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وقوله: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}
وتجيء موافقة معنى لا لفظا على قلة كقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
وأما التنكير فله أسباب:

الأول: إرادة الوحدة نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}
الثاني: إرادة النوع كقوله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي نوع من الذكر
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ،وهي التعامي عن آيات الله الظاهرة لكل مبصر ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لأنهم لم يحرصوا على أصل الحياة حتى تعرف بل على الازدياد من نوع وإن كان الزائد أقل شيء ينطلق عليه اسم الحياة
الثالث: التعظيم كقوله تعالى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي بحرب وأي حرب
وكقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي لا يوقف على حقيقته
وجعل منه السكاكي قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} والظاهر من قول الزمخشري خلافه وهذا لم يصرح بأن العذاب لا حق به بل قال: {يَمَسَّكَ} وذكر الخوف وذكر اسم الرحمن ولم يقل المنتقم وذلك يدل على أنه لم يرد التعظيم
وقوله: { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}
فإن قلت: لِم لَم ينكر الأنهار في قوله {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ؟

قلت: لا غرض في عظم الأنهار وسعتها بخلاف الجنات
ومنه {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}
وإنما لم ينكر سلام عيسى في قوله {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} فإنه
في قصة دعائه الرمز إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى والسلام: اسم من أسمائه مشتق من السلامة وكل اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم نحو يا غفور يا رحيم
الرابع: التكثير نحو إن له لإبلاً وجعل منه الزمخشري قوله تعالى {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} أي أجرا وافرا جزيلا ليقابل المأجور عنه من الغلبة على مثل موسى عليه السلام فإنه لا يقابل الغلبة عليه بأجر إلا وهو عديم النظير في الكثرة
وقد أفاد التكثير والتعظيم معا قوله تعالى {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} أي رسل عظام ذوو عدد كثير وذلك لأنه وقع عوضا عن قوله فلا تحزن وتصبر وهو يدل على عظم الأمر وتكاثر العدد
الخامس: التحقير كقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قالالزمخشري: أي من شيء حقير مهين ثم بينه بقوله {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}
وكقوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً} أي لا يعبأ به وإلا لاتبعوه لأن ذلك دينهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} السادس: التقليل كقوله تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي رضوان

قليل من بحار رضوان الله الذي لا يتناهى أكبر من الجنات لأن رضا المولى رأس كل سعادة
وقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} إذ المعنى أنه يحصل فيه أصل الشفاء في جملة صور ويجوز أن يكون للتعظيم
وعد صاحب الكشاف منه {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي بعض الليل
وفيه نظر لأن التقليل عبارة عن تقليل الجنس إلى فرد من أفراده لا ببعض فرد إلى جزء من أجزائه
تنبيه
هذه الأمور إنما تعلم من القرائن والسياق كما فهم التعظيم في قوله تعالى {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} من قوله: بعده {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} وكما فهم التحقير من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} من قوله بعده {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}
قاعدة فيما إذا ذكر الاسم مرتين
إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال لأنه إما أن يكونا معرفتين أو نكرتين أو الثاني معرفة والأول نكره أو عكسه

فالأول: أن يكونا معرفتين والثاني فيه هو الأول غالبا حملا له على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة كـ "العسر" في قوله {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولذلك ورد لن يغلب عسر يسرين قال التنوخي إنما كان مع العسر واحدا لأن اللام طبيعة لا ثاني لها بمعنى أن الجنس هي والكلي لا يوصف بوحدة ولا تعدد
وقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}
وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
وقوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ}
وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}
وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ}
وهذه القاعدة ليست مطردة وهي منقوضة بآيات كثيرة كقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فإنهما معرفتان وهما غيران فإن الأول هو العمل والثاني الثواب

وقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي القاتلة والمقتولة
وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}
وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}
وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ}
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}
فالملك الذي يؤتيه الله للعبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه فقد اختلفا وهما معرفتان لكن يصدق أنه إياه باعتبار الاشتراك في الاسم كما صرح بنحوه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فقد أعاد الضمير في المنفصل المستغرق باعتبار أصل الفضل
ونظيرها قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}
وقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ}
فالأول عام والثاني خاص
وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}

{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}
وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}
فالأول نصب على القسم والثاني نصب بـ "أقول"
وهذا بخلاف قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
وأما قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فالأولى معرفة بالضمير والثانية عامة والأولى خاصة فالأول داخل في الثاني
وكذا قوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}
وقوله: {أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}
وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}
وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ،ثم قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ،فهما وإن اختلفا يكون الأول خاصا والثاني عاما متفقان بالجنس
وكذلك: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}
ولذلك استبدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10